السيرة
النبوية لابن كثير بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة فِي أَوَّلِهَا كَانَتْ غَزْوَةُ نَجْدٍ
وَيُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ السَّوِيقِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ
بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا
يُرِيدُ غَطَفَانَ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ (1) .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ، أَوْ قَرِيبًا
مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ جَمْعًا من غطفان من بنى ثَعْلَبَة ابْن مُحَارِبٍ
تَجَمَّعُوا بِذِي أَمَرَّ يُرِيدُونَ حَرْبَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ
الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْخَمِيسَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ، فَغَابَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ مَعَهُ
أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رَجُلًا.
وَهَرَبَتْ مِنْهُ الْأَعْرَابُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ حَتَّى بَلَغَ
مَاءً يُقَالُ لَهُ ذُو أَمَرَّ فَعَسْكَرَ بِهِ، وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ
كَثِيرٌ فَابْتَلَّتْ ثِيَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ وَنَشَرَ ثِيَابَهُ
لِتَجِفَّ، وَذَلِكَ بِمَرْأَى من الْمُشْركين، واشتغل الْمُشْركُونَ فِي
شئونهم.
__________
(1) ذُو أَمر: مَوضِع من ديار غطفان.
وَقَالَ ابْن سعد: بِنَاحِيَة النخيل.
(*)
(3/3)
فَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ رَجُلًا شُجَاعًا
مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ دُعْثُورُ بْنُ
الْحَارِثِ فَقَالُوا: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ قَتْلِ مُحَمَّدٍ.
فَذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَمَعَهُ سَيْفٌ صَقِيلٌ، حَتَّى قَامَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ
مَشْهُورًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي الْيَوْمَ؟
قَالَ: اللَّهُ.
وَدَفَعَ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ.
فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: لَا أَحَدَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا
أُكَثِّرُ عَلَيْكَ جَمْعًا أَبَدًا.
فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ.
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: وَيلك، مَالك؟ فَقَالَ:
نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي فَوَقَعْتُ لِظَهْرِي
فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَشَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،
وَاللَّهِ لَا أُكَثِّرُ عَلَيْهِ جَمْعًا.
وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ: وَنزل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا
إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم (1) " الْآيَة.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ قِصَّةٌ
تُشْبِهُ هَذِهِ، فَلَعَلَّهُمَا قِصَّتَانِ.
قُلْتُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ مَحْفُوظَةً فَهِيَ غَيْرُهَا قَطْعًا،
لِأَنَّ ذَلِك الرجل اسْمه غورث ابْن الْحَارِثِ أَيْضًا لَمْ يُسْلِمْ
بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَلا يقاتله.
وَالله أعلم.
غَزْوَة الْفَرْع مِنْ بُحْرَانَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ رَبِيعًا الْأَوَّلَ كُلَّهُ أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ
ثمَّ غَدا (2)
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة 11.
(2) ابْن هِشَام: ثمَّ غزا.
(*)
(3/4)
يُرِيدُ قُرَيْشًا، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ بُحْرَانَ (1) ، وَهُوَ مَعْدِنٌ
بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحيَة الْفَرْع (2) .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَنِ الْمَدِينَةِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خَبَرُ يهود بنى قينقاع مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ زَعَمَ
الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ النِّصْفَ مِنْ
شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
" (3) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بَنِي
قَيْنُقَاعَ.
قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَهُمْ فِي سُوقِهِمْ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ
يَهُودَ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ
النِّقْمَةِ وَأَسْلِمُوا، فَإِنَّكُمْ قَدْ
عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ
وَعَهْدِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ.
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَرَى أَنَّا قَوْمُكَ؟ ! لَا
يَغُرُّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ
فَأَصَبْت مِنْهُم فرْصَة، أما وَاللَّهِ لَئِنْ حَارَبْنَاكَ
لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَحَدثني مولى لزيد بن ثَابت، عَن سعيد بن جُبَير،
وَعَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا نزلت هَؤُلَاءِ الْآيَات
إِلَّا فِيهَا: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ
إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فئتين التقتا " يعْنى أَصْحَاب بدر
__________
(1) بحران: بِضَم الْبَاء وَفتحهَا وهى أول قَرْيَة مارت اسماعيل وَأمه
التَّمْر بِمَكَّة.
(2) الْفَرْع: بِضَم الْفَاء وَالرَّاء وفى الْمَوَاهِب بفتحهما.
(3) سُورَة الْحَشْر 15.
(*)
(3/5)
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ: " فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لعبرة
لاولى الابصار (1) ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
أَنَّ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا الْعَهْدَ
وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بِدْرٍ وَأُحُدٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَر بْنِ الْمِسْوَرِ
بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ [مِنْ (2) ] أَمْرِ بَنِي
قَيْنُقَاعَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبٍ لَهَا
فَبَاعَتْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَجَلَسَتْ إِلَى صَائِغٍ هُنَاكَ
مِنْهُمْ فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا فَأَبَتْ،
فَعَمَدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهْرِهَا،
فَلَمَّا قَامَتِ انْكَشَفَتْ سَوْأَتُهَا فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ
فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ
يَهُودِيًّا، فَشَدَّتِ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ،
فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ
فَأُغْضِبَ (2) الْمُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
بَنِي قَيْنُقَاعَ.
* * *
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بن سَلُولَ حِينَ أَمْكَنَهُ
اللَّهُ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ.
وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ.
قَالَ: فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَحْسِنْ فِي موالى فَأَعْرَضَ عَنْهُ.
قَالَ: فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ الْفُضُولِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله
__________
(1) سُورَة آل عمرَان 13.
(2) من ابْن هِشَام.
(3) ابْن هِشَام: فَغَضب.
(*)
(3/6)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْنِي.
وَغَضِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
رَأَوْا لِوَجْهِهِ ظُلَلًا ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي.
قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مَوِالِيَّ،
أَرْبَعمِائَة حاسر وثلثمائة دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ
وَالْأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ! إِنِّي وَاللَّهِ
امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هُمْ لَكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم فِي مُحَاصَرَتِهِ إِيَّاهُمْ أَبَا لُبَابَةَ بَشِيرَ بْنَ
عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَتْ مُحَاصَرَتُهُ إِيَّاهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو
قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ
بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى
عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَانَ مِنْ بَنِي عَوْفٍ لَهُ من حلفهم مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَوَلَّى
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ
الْكفَّار وولايتهم.
قَالَ: وَفِيه وفى عبد الله بن أَبى نزلت الْآيَات مِنَ الْمَائِدَةِ: "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " الْآيَاتِ حَتَّى قَوْلِهِ: " فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ
تُصِيبَنَا دَائِرَة " يعْنى عبد الله ابْن أُبَيٍّ إِلَى قَوْلِهِ "
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ
اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ " يَعْنِي عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ.
(3/7)
سَرِيَّة زيد بن حَارِثَة إِلَى عِيرِ
قُرَيْشٍ (1) صُحْبَةَ أَبِي سُفْيَانَ أَيْضًا، وَقِيلَ صُحْبَةَ
صَفْوَانَ قَالَ يُونُسُ بْنُ (2) بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
وَكَانَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثهَا أَن قُريْشًا خَافُوا
طريقهم الَّتِى كانو يَسْلُكُونَ إِلَى الشَّامِ حِينَ كَانَ مِنْ وَقْعَةِ
بَدْرٍ مَا كَانَ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ
تُجَّارٌ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَمَعَهُ فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ
عُظْمُ تِجَارَتِهِمْ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ
يُقَالُ لَهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، يَعْنِي الْعِجْلِيَّ حَلِيفَ بَنِي
سَهْمٍ، لِيَدُلَّهُمْ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زيد بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ
القردة (3) ، فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا وَأَعْجَزَهُ
الرِّجَالُ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَقَالَ فِي ذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّامِ قَدْ
حَالَ دُونَهَا * جِلَادٌ كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ (4)
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْو رَبهم * وأنصاره حَقًا وأيدي الملائك
إِذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لَهَا لَيْسَ الطَّرِيقُ هُنَالِكِ
(5) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ القصيدة فِي أَبْيَات لحسان، وَقد
أَجَابَهُ فِيهَا أَبُو سُفْيَان ابْن الْحَارِث.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ خُرُوجُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي هَذِهِ
السَّرِيَّةِ مُسْتَهَلُّ جُمَادَى الْأُولَى
عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ
رَئِيسَ هَذِه العير صَفْوَان بن أُميَّة.
__________
(1) ابْن هِشَام: إِلَى القردة.
(2) الاصل: عَن بكير.
وَهُوَ تَحْرِيف.
(3) القردة: مَاء من مياه نجد.
(4) الفلجات جمع فلجة، وهى النَّهر الصَّغِير.
وَقَالَ السُّهيْلي: الفلجات جمع فلج وَهُوَ الْعين الْجَارِيَة.
قَالَ: والمخاض: واحدتها خلفة من غير لَفظهَا، وهى الْحَامِل، وَقد قيل فِي
الْوَاحِد: ماخض.
والاوارك: الَّتِى رعت الاراك واشتكت من أكله.
(5) الْغَوْر: مَا انخفض من الارض.
وعالج: مَوضِع كثير الرمل.
(*)
(3/8)
وَكَانَ سَبَبُ بَعْثِهِ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَمَعَهُ
خَبَرُ هَذِهِ الْعِيرِ وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَاجْتَمَعَ
بِكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَعَهُمْ سليط
بن النُّعْمَان من أَسْلَمَ، فَشَرِبُوا، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، فَتَحَدَّثَ بِقَضِيَّةِ الْعِيرِ نُعَيْمُ بْنُ
مَسْعُودٍ وَخُرُوجِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِيهَا وَمَا مَعَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَخَرَجَ سَلِيطٌ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَعْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ مِنْ وَقْتِهِ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ فَلَقُوهُمْ فَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ وَأَعْجَزَهُمُ الرِّجَالُ،
وَإِنَّمَا أَسَرُوا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ، وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ
فَخَمَّسَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَ
خُمْسُهَا عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَسَّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا عَلَى
السَّرِيَّةِ.
وَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ الدَّلِيلُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَأَسْلَمَ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي رَبِيعٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أُمَّ كُلْثُومٍ
بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُدْخِلَتْ
عَلَيْهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا.
مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الاشرف الْيَهُودِيّ وَكَانَ من بنى طئ، ثُمَّ أَحَدَ
بَنِي نَبْهَانَ وَلَكِنَّ أُمَّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَبْلَ جَلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ،
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ قِصَّةِ بَنِي
النَّضِيرِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، لِمَا سَيَأْتِي،
فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ إِنَّمَا كَانَ أَمْرُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ
أُحُدٍ، وَفِي مُحَاصَرَتِهِمْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
بِطَرِيقِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " قَتْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ "
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٍو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ
وَرَسُولَهُ.
فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُحِبُّ
أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا.
قَالَ: قل.
(3/9)
فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً وَإِنَّهُ قَدْ
عَنَّانَا (1) وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسَتَسْلِفُكَ.
قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ.
قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَن ندعه حَتَّى نَنْظُر
إِلَى أَي شئ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا (2) .
قَالَ: نعم أرهنوني.
قلت: أَي شئ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ.
فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ!
قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ.
قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ:
رَهْنٌ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ! هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ
نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ.
قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلَاحَ (3) .
فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ لَيْلًا، فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو
نَائِلَةَ (4) وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى
الْحِصْنِ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ
تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو (5) : قَالَتْ:
أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ.
قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلِمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو
نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ
لَأَجَابَ! قَالَ: وَيَدْخُلُ مُحَمَّد بن مسلمة مَعَه رجلَيْنِ، فَقَالَ:
إِذا مَا جَاءَ فإبى مائل (6) بِشَعْرِهِ فَأَشُمُّهُ، فَإِذَا
رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ.
وَقَالَ: مَرَّةً، ثُمَّ أُشِمُّكُمْ (7) .
فَنَزَلَ إِلَيْهِم متوشحا وَهُوَ ينفح مِنْهُ رِيحُ الطَّيِّبِ فَقَالَ
(8) : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا، أَيْ أَطْيَبَ.
وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَ (9) : عِنْدِي أعطر نسَاء الْعَرَب
وأجمل الْعَرَب.
__________
(1) عنانا: أتعبنا.
(2) زَاد فِي بعض رِوَايَات البُخَارِيّ: وسْقا أَو وسقين.
(3) اللامه فِي اللُّغَة: الدرْع.
وَإِطْلَاق السِّلَاح عَلَيْهَا من إِطْلَاق اسْم الْكل على الْبَعْض.
وقصدوا من ذَلِك أَلا يُنكر عَلَيْهِم السِّلَاح حِين يأتونه بِهِ.
(4) هُوَ سلكان بن سَلامَة.
(5) غير عَمْرو: أَي رِوَايَة أُخْرَى غير رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار.
(6) وتروى: قَائِل بِشعرِهِ.
أَي آخذ.
(7) أشمكم: أمكنكم من الشم.
(8) أَي مُحَمَّد بن مسلمة.
(9) أَي كَعْب.
(*)
(3/10)
قَالَ عَمْرٌو: فَقَالَ: أَتَأْذَنُ لِي
أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَشَمَّهُ ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي؟ قَالَ:
نَعَمْ.
فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: دُونَكُمْ.
فَقَتَلُوهُ.
ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرُوهُ.
* * * وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بن
الاشرف، وَكَانَ رجلا من طئ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ وَأُمُّهُ مِنْ
بَنِي النَّضِيرِ، أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ عَنْ مَقْتَلِ أَهِلِ
بَدْرٍ حِينَ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا.
فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ،
فَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بن أَبى ودَاعَة بن ضبيرة السَّهْمِيِّ،
وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ منَاف، فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَجَعَلَ
يُحَرِّضُ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ وَيَنْدُبُ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي أَوَّلُهَا: طَحَنَتْ رَحَى
بَدْرٌ لِمَهْلِكِ أَهْلِهِ * وَلِمَثَلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلُّ وَتَدْمَعُ
وَذَكَرَ جَوَابَهَا مِنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَمِنْ غَيْرِهِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَعَلَ يُشَبِّبُ بِنِسَاءِ
الْمُسْلِمِينَ وَيَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَ كَعْبُ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدَ
بَنِي النَّضِيرِ أَوْ فِيهِمْ، قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجَاءِ وَركب إِلَى قُرَيْش فاستغراهم، وَقَالَ
لَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ بِمَكَّةَ: أُنَاشِدُكَ أَدِينُنَا أَحَبُّ
إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ وَأَيُّنَا أَهْدَى فِي
رَأْيِكَ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ؟ إِنَّا نُطْعِمُ الْجَزُورَ
الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ وَنُطْعِمُ مَا هَبَّتِ
الشَّمَالُ.
(3/11)
فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ:
أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلًا! قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ
يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا " وَمَا بعْدهَا.
قَالَ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يُعْلِنُ
بِالْعَدَاوَةِ وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْحَرْبِ، وَلَمْ يَخْرُجْ
مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَجْمَعَ أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يشبب بِأم الْفضل بن
الْحَارِث وبغيرها من نسَاء الْمُسلمين.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن المغيث ابْن أَبى بردة: من
لِابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخُو بَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ: أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا
أَقْتُلُهُ.
قَالَ: فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ: فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لَا
يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا مَا يُعَلِّقُ نَفْسَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ فَقَالَ
لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ الطَّعَامَ
وَالشَّرَابَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتُ لَكَ قَوْلًا لَا
أَدْرِي هَلْ أَفِي لَكَ بِهِ أَمْ لَا.
قَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْجَهْدُ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّه لَا بُد لنا أَنْ نَقُولَ.
قَالَ: فَقُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَسِلْكَانُ
بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ، وَكَانَ أَخَا كَعْبِ بْنِ الاشرف من الرضَاعَة، وَعبد؟ بْنُ
بِشْرِ بْنِ
(3/12)
وَقْشٍ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ،
وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ.
قَالَ: فَقَدَّمُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَعْبٍ
سِلْكَانَ بْنَ سَلَامَةَ أَبَا نَائِلَةَ، فَجَاءَهُ فَتحدث مَعَه سَاعَة
فتناشدا شِعْرًا، وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشِّعْرَ، ثُمَّ قَالَ:
وَيحك يَابْنَ الْأَشْرَفِ! إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ
ذِكْرَهَا لَكَ فَاكْتُمْ عَنِّي.
قَالَ: أَفْعَلُ.
قَالَ: كَانَ قدوم هَذَا الرجل علينا بلَاء، عَادَتْنَا الْعَرَبُ
وَرَمَتْنَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَقَطَعَتْ عَنَّا السَّبِيل، حَتَّى
ضَاعَ الْعِيَالُ وَجَهِدَتِ الْأَنْفُسُ وَأَصْبَحْنَا قَدْ جَهِدْنَا
وَجَهِدَ عِيَالُنَا.
فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا ابْنُ الاشرف! أما وَالله لقد كنت أخْبرك يَابْنَ
سَلامَة أَن الامر يصير إِلَى مَا أَقُولُ.
فَقَالَ لَهُ سِلْكَانُ: إِنِّي قد أرذت أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا
وَنَرْهَنَكَ وَنُوَثِّقَ لَكَ وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: تَرْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ؟ قَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ
تَفْضَحَنَا، إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ
أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ
وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحلقَة مَا فِيهِ وَفَاء.
وَأَرَادَ سلكان أَلا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا جَاءُوا بِهَا.
فَقَالَ: إِنَّ فِي الْحَلْقَةِ لَوَفَاءٌ.
قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ،
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ ثُمَّ يَنْطَلِقُوا
فَيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ثُمَّ وَجَّهَهُمْ
وَقَالَ: " انْطَلِقُوا عَلَى
(3/13)
اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ "
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
بَيْتِهِ وَهُوَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى انْتَهَوْا
إِلَى حِصْنِهِ.
فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ وَكَانَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَوَثَبَ
فِي مِلْحَفَتِهِ، فَأَخَذْتِ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَتِهَا وَقَالَتْ:
أَنْتَ امْرُؤٌ مُحَارَبٌ، وَإِنَّ أَصْحَابَ الْحَرْبِ لَا يَنْزِلُونَ
فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، قَالَ: إِنَّهُ أَبُو نَائِلَةَ لَوْ وَجَدَنِي
نَائِمًا مَا أَيْقَظَنِي.
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي صَوْتِهِ الشَّرَّ.
قَالَ: يَقُولُ لَهَا كَعْبٌ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ!
فَنَزَلَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ
قَالُوا: هَلْ لَكَ يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ أَنْ نَتَمَاشَى إِلَى شِعْبِ
الْعَجُوزِ فَنَتَحَدَّثُ بِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ قَالَ: إِنْ
شِئْتُم.
فَخَرجُوا فَمَشَوْا سَاعَةً.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَائِلَةَ شَامَ يَدَهُ فِي فَوْدِ رَأْسِهِ، ثُمَّ
شَمَّ يَدَهُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبًا أَعْطرَ قَطُّ.
ثُمَّ مَشَى سَاعَةً ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ، ثُمَّ
مَشَى سَاعَةً ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا فَأَخَذَ بِفَوْدَيْ رَأْسِهِ ثُمَّ
قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ اللَّهِ! فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ
فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا (1) فِي سَيْفِي
فَأَخَذْتُهُ وَقَدْ صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا
حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، قَالَ: فَوَضَعَتْهُ فِي
ثُنَّتِهِ (2) ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ (3) ،
فَوَقْعَ عَدُوُّ اللَّهِ.
وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ بِجُرْحٍ فِي رجله أَو فِي رَأسه
أَصَابَهُ بعض سُيُوفنَا.
قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى سَلَكْنَا عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ
ثُمَّ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ عَلَى بُعَاثٍ، حَتَّى أَسْنَدْنَا فِي
حَرَّةِ الْعُرَيْضِ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْنَا صَاحِبُنَا الْحَارِثُ
بْنُ أَوْسٍ وَنَزْفَهُ الدَّمُ، فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً ثُمَّ أَتَانَا
يَتْبَعُ آثَارَنَا فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَجِئْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ اللَّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَأَخْبَرْنَاهُ
بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ وَتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
__________
(1) المغول: فصل طَوِيل.
(2) الثنة: مَا بَين السُّرَّة والعانة.
(3) الاكتفا: غَايَته.
(*)
(3/14)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جُرْحِ
صَاحِبِنَا، وَرَجَعْنَا إِلَى أهلنا فأصبحنا وَقد خَافت يهود بوقعتنا
بِعَدُوِّ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ عَلَى
نَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعْمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِرَأْسِ
كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
فَغُودِرَ مِنْهُمْ كَعْبٌ صَرِيعًا * فَذَلَّتْ بَعْدَ مَصْرَعِهِ
النَّضِيرُ عَلَى الْكَفَّيْنِ ثُمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ * بِأَيْدِينَا
مُشَهَّرَةٌ ذُكُورُ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ إِذْ دَسَّ لَيْلًا * إِلَى كَعْبٍ
أَخَا كَعْبٍ يَسِيرُ فَمَا كره فَأَنْزَلَهُ بِمَكْرٍ * وَمَحْمُودٌ أَخُو
ثِقَةٍ جَسُورُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ فِي يَوْمِ بَنِي النَّضِيرِ سَتَأْتِي.
قُلْتُ: كَانَ قَتْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ عَلَى يَدَيِ الْأَوْسِ
بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، ثُمَّ إِنَّ الْخَزْرَجَ قَتَلُوا أَبَا رَافِعِ
بْنَ أَبِي الْحَقِيقَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ شِعْرَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: لِلَّهِ
دَرُّ عِصَابَةٍ لَاقَيْتُهُمْ * يَا ابْنَ الْحَقِيقِ وَأَنْتَ يَا ابْنَ
الْأَشْرَفِ يسرون بالبيض الْخفاف إِلَيْكُم * مرحا كأسد فِي عَرِينٍ
مُغْرِفِ
حَتَّى أَتَوْكُمْ فِي مَحَلِّ بِلَادِكُمْ * فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نَبِيِّهِمْ * مُسْتَصْغِرِينَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُجْحِفِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ ظَفَرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ
فَاقْتُلُوهُ ".
فَوَثْبَ عِنْدَ ذَلِكَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَوْسِيُّ عَلَى
ابْنِ سُنَيْنَةَ، رَجُلٍ مِنْ تجار يهود
(3/15)
كَانَ يُلَابِسُهُمْ وَيُبَايِعُهُمْ،
فَقَتَلَهُ، وَكَانَ أَخُوهُ حُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ أَسَنَّ مِنْهُ
وَلَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيِّصَةُ يَضْرِبُهُ
وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَقَتَلْتَهُ؟ ! أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ
شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ! قَالَ مُحَيِّصَةُ: فَقُلْتُ وَاللَّهِ
لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بقتلك لضَرَبْت عُنُقك!
قَالَ: فو الله إِن كَانَ لاول إِسْلَام حويصة وَقَالَ: وَالله لَوْ
أَمَرَكَ مُحَمَّدٌ بِقَتْلِي لَتَقْتُلُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ
لَوْ أَمَرَنِي بِضَرْبِ عُنُقِكَ لَضَرَبْتُهَا! قَالَ: فو الله إِنَّ
دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ! فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مَوْلًى لِبَنِي
حَارِثَةَ عَنِ ابْنَةِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهَا.
وَقَالَ فِي ذَلِكَ مُحَيِّصَةُ: يَلُومُ ابْنُ أُمٍّ (1) لَوْ أُمِرْتُ
بِقَتْلِهِ * لَطَبَّقْتُ ذِفْرَاهُ بِأَبْيَضَ قَارب (2) حُسَامٍ كَلَوْنِ
الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ * مَتَى مَا أُصَوِّبْهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ
وَمَا سَرَّنِي أَنِّي قَتَلْتُكَ طَائِعًا * وَأَنَّ لَنَا مَا بَيْنَ
بُصْرَى وَمَأْرِبِ وَحَكَى ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ
أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ، أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بعد مقتل بنى
قُرَيْظَة، فَإِن الْمَقْتُولَ كَانَ كَعْبُ بْنُ يَهُوذَا، فَلَمَّا
قَتَلَهُ مُحَيِّصَةُ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لَهُ أَخُوهُ حُوَيِّصَةُ مَا
قَالَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ
مُحَيِّصَةُ بِمَا تَقَدَّمَ، فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ يَوْمَئِذٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبُخَارِيُّ قَبْلَهُ خَبَرَ بَنِي
النَّضِيرِ قُبَلَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَالصَّوَابُ إِيرَادُهَا بَعْدَ
ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ
أَئِمَّةِ الْمَغَازِي.
وَبُرْهَانُهُ: أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ لَيَالِيَ حِصَارِ بَنِي
النَّضِيرِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنه اصطبح
__________
(1) ابْن هِشَام: ابْن أُمِّي.
(2) الذفرى: عظم ناتئ خلف الاذن وفى ابْن هِشَام: قاضب.
وَهُوَ الْقَاطِع.
(*)
(3/16)
الْخَمْرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ
أُحُدٍ شَهِيدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ
حَلَالًا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ
مِنْ أَنَّ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ آخَرُ: خَبَرُ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ وَقْعَةِ
بَدْرٍ.
كَمَا تقدم.
وَكَذَلِكَ قتل كَعْب ابْن الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ عَلَى يَدَيِ
الْأَوْسِ.
وَخَبَرُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَكَذَلِكَ مَقْتَلُ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ تَاجِرِ أَهْلِ
الْحِجَازِ على يدى الْخَزْرَج.
وَخَبَرُ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ وقصة
الخَنْدَق.
كَمَا سَيَأْتِي.
(3/17)
غَزْوَة أحد فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ "
فَائِدَةٌ " ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي تَسْمِيَةِ أُحُدٍ.
قَالَ: سُمِّيَ أُحُدٌ أُحَدًا لِتَوَحُّدِهِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ
الْجِبَالِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: " أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ " قِيلَ:
مَعْنَاهُ أَهْلُهُ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُ بِقُرْبِ أَهْلِهِ إِذَا رَجَعَ مِنْ
سَفَرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ.
وَقِيلَ: على ظَاهره كَقَوْلِه: " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ ".
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ: " أُحُدٌ يُحِبُّنَا
وَنُحِبُّهُ، وَهُوَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ،
وَعَيْرٌ يُبْغِضُنَا وَنُبْغِضُهُ.
وَهُوَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ ".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ مُقَوِّيًا لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَقد ثَبت أَنه
عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ".
وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ صُنْعِ السُّهَيْلِيِّ.
فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُرَاد بِهِ النَّاس، وَلَا يُسمى
الْجَبَل امْرَءًا.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ.
قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ وَمَالِكٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَوْمَ السَّبْتِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَهِيَ
عَلَى الْمَشْهُورِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: "
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ
وَلِيُّهُمَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن
(3/18)
يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ.
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مسومين "
الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ الله ليطلعكم على الْغَيْب (1) ".
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفَاصِيلِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كتاب
التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا مُلَخَّصَ الْوَقْعَةِ مِمَّا سَاقَهُ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
* * *
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ أُحُدٍ، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ
الزُّهْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا،
كُلُّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ،
وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلُّهُمْ فِيمَا سُقْتُ.
قَالُوا - أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ -: لَمَّا أُصِيبَ يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ
كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ،
وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَان بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَة بن أَبى جهل وَصَفوَان ابْن أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ
مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ
يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَان وَمن كَانَت لَهُ فِي تِلْكَ
الْعِيرُ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،
إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا
بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا ندرك مِنْهُ ثارا.
فَفَعَلُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَفِيهِمْ كَمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِن الَّذين
__________
(1) سُورَة آل عمرَان 121 - 179 (*)
(3/19)
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم
يحشرون (1) ".
قَالُوا: فاجتمعت قُرَيْشٌ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ
الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ
وَأَهْلِ تِهَامَةَ.
وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ قَدْ
مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم
بدر، وَكَانَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، وَكَانَ فِي الْأُسَارَى،
فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ
امْرُؤٌ شَاعِرٌ فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ وَاخْرُجْ مَعَنَا.
فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلَيَّ فَلَا أُرِيدُ أَنْ
أُظَاهِرَ عَلَيْهِ.
قَالَ: بَلَى، فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ إِنْ رَجَعْتَ أَن
أغنيك، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي
يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ
عُسْرٍ وَيُسْرٍ.
فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ فِي تِهَامَةَ وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ
وَيَقُولُ: أَيَا (2) بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرُّزَّامْ (3) * أَنْتُمْ
حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ لَا يَعْدُونِي نَصْرُكُمْ بَعْدَ الْعَامْ *
لَا تُسَلِمُونِي لَا يَحِلُّ إِسْلَامْ قَالَ: وَخرج نَافِع بْنُ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ وَهَبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ
كِنَانَةَ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ: يَا مَالِ (4) مَالِ الْحَسَبِ
الْمُقَدَّمِ * أَنْشُدُ ذَا الْقُرْبَى وَذَا التَّذَمُّمِ مَنْ كَانَ ذَا
رَحْمٍ وَمَنْ لَمْ يَرْحُمِ * الْحِلْفَ وَسْطَ الْبَلَدِ الْمُحَرَّمِ
عِنْدَ حَطِيمِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمِ قَالَ: وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ
مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ حَبَشِيًّا يُقَالُ لَهُ وَحْشِيٌّ يَقْذِفُ
بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ
__________
(1) سُورَة الانفال 36.
(2) ابْن هِشَام: إيها.
(3) الرزام: جمع رازم، وَهُوَ الذى يثبت فِي الْحَرْب لَا يبرح.
(5) يَا مَال: يُرِيد يَا مَالك فَحذف آخِره للترخيم.
(*)
(3/20)
الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا،
فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ
عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ.
* * * قَالَ: فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَحَدِيدِهَا وَجَدِّهَا
وَأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ تَابَعَهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ
تِهَامَةَ، وَخَرَجُوا مَعَهم بالظعن (1) التمَاس الحفيظة وَألا يَفِرُّوا.
وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ،
وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ بِزَوْجَتِهِ ابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ
حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَخَرَجَ عَمُّهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ بِزَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِبَرْزَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّةِ، وَخرج عَمْرو ابْن الْعَاصِ بربطة
بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهِيَ أَمُّ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو.
وَذَكَرَ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ خَرَجَ بِامْرَأَتِهِ.
قَالَ: وَكَانَ وَحْشِيُّ كُلَّمَا مَرَّ بِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ أَوْ
مَرَّتْ بِهِ تَقُولُ: وَيْهًا أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ.
يَعْنِي تُحَرِّضُهُ عَلَى قَتْلِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ: فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ
السَّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والمسلمون قَالَ لَهُم: " قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا، رَأَيْتُ
بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ
أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ.
فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ أَبِي
كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ
__________
(1) الظعن: جمع ظَعِينَة وهى الْمَرْأَة مَا دَامَت فِي هودج.
(*)
(3/21)
بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَيْتُ فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ،
فَذَهَبَ وَهْلِي (1) إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا
هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ.
وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ
صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ،
ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا
جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَرَأَيْتُ فِيهَا أَيْضًا بَقَرًا، وَاللَّهُ خَيْرٌ (2) ، فَإِذَا هُمُ
النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ
اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي أَتَانَا بَعْدَ
يَوْمِ بَدْرٍ ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: تعقل رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ
بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ
أُحُدٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
جَاءَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ رَأْيُهُ أَنْ يُقِيمَ
بِالْمَدِينَةِ فَيُقَاتِلُهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ نَاس لم يَكُونُوا
شهدُوا بَدْرًا: نخرج يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ نُقَاتِلُهُمْ
بِأُحُدٍ.
وَرَجَوْا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا أَصَابَ أَهْلَ بَدْرٍ.
فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
لَبِسَ أَدَاتَهُ، ثُمَّ نَدِمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ،
فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ.
فَقَالَ لَهُمْ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ مَا
لَبِسَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ.
قَالَ: وَكَانَ قَالَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الْأَدَاةَ:
إِنِّي رَأَيْتُ أَنى فِي درع حَصِينَة،
__________
(1) وهلى: أول ظنى.
(2) قَالَ القسطلانى: وَالله خير: رفع مُبْتَدأ أَو خبر، وَفِيه حذف
تَقْدِيره: وصنع الله خير.
(*)
(3/22)
فَأَوَّلتهَا الْمَدِينَة، وأنى مردف
كَبْشًا وأولته كَبْشَ الْكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ سَيْفَيِ ذَا
الْفَقَارِ فل، فَأَوَّلْته فَلَا فِيكُم، وَرَأَيْت بقرًا يذبح، فبقر (1)
، وَالله خير.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى
النَّائِمُ كَأَنِّيَ مُرْدِفٌ كَبْشًا، وَكَأن ضبة سَيْفِي انْكَسَرَتْ،
فَأَوَّلْتُ أَنِّي أَقْتُلُ كَبْشَ الْقَوْمِ، وأولت كسر ضبة سَيْفِي
قَتْلَ رَجُلٍ مِنْ عِتْرَتَيْ.
فَقُتِلَ حَمْزَةُ، وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلْحَةَ، وَكَانَ صَاحِبَ اللِّوَاءِ.
* * * وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ فَاسْتَجْلَبُوا
مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ،
وَسَارَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي جَمْعِ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ فِي
شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى
نَزَلُوا بِبَطن الْوَادي الذى قبلى أُحُدٍ، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ
مِنَ السَّابِقَةِ، وَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ لِيُبْلُوَا مَا
أَبْلَى إِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكُونَ بِأَصْلِ أُحُدٍ فَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَمَّ يَشْهَدُوا بَدْرًا بِقُدُومِ الْعَدُوِّ
عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ سَاقَ اللَّهُ عَلَيْنَا أُمْنِيَّتَنَا.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ رُؤْيَا فَأَصْبَحَ، فَجَاءَهُ نَفَرٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: " رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي مَنَامِي بَقَرًا
تُذْبَحُ، وَاللَّهُ خَيْرٌ، وَرَأَيْتُ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ انقصم من
عِنْد ضبته، أَوْ قَالَ: بِهِ فُلُولٌ، فَكَرِهْتُهُ، وَهُمَا
مُصِيبَتَانِ، وَرَأَيْتُ أَنِّيَ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَأَنِّيَ مُرْدِفٌ
كَبْشًا ".
فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرُؤْيَاهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا
__________
(1) يُرِيد بالبقر هُنَا: مصدر بقره يبقره بقرًا، أَي شقّ بَطْنه.
(*)
(3/23)
أَوَّلْتَ رُؤْيَاكَ؟ قَالَ: " أَوَّلْتُ
الْبَقْرَ الَّذِي رَأَيْتُ بقرًا فِينَا وَفِي الْقَوْمِ، وَكَرِهْتُ مَا
رَأَيْتُ بِسَيْفِي ".
وَيَقُولُ رِجَالٌ: كَانَ الَّذِي رَأَى بِسَيْفِهِ: الَّذِي أَصَابَ
وَجْهَهُ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ أَصَابَ وَجْهَهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَصَمُوا
رَبَاعِيَتَهُ وَخَرَقُوا شَفَتَهُ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي رَمَاهُ
عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ، وَكَانَ الْبَقْرُ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ.
وَقَالَ: أَوَّلْتُ الْكَبْشَ أَنَّهُ كَبْشُ كَتِيبَةِ الْعَدُوِّ
يَقْتُلُهُ اللَّهُ، وَأَوَّلْتُ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةَ،
فَامْكُثُوا وَاجْعَلُوا الذَّرَارِيَّ فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلَ
عَلَيْنَا الْقَوْمُ فِي الْأَزِقَّةِ قَاتَلْنَاهُمْ وَرُمُوا مِنْ فَوْقِ
الْبُيُوتِ.
وَكَانُوا قَدْ سَكُّوا أَزِقَّةَ الْمَدِينَةِ بِالْبُنْيَانِ حَتَّى
[صَارَتْ] كَالْحِصْنِ.
فَقَالَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا: كُنَّا نَتَمَنَّى هَذَا
الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللَّهَ، فَقَدْ سَاقَهُ الله
إِلَيْنَا وَقرب الْمسير.
وَقَالَ رجل مِنَ الْأَنْصَارِ: مَتَى نُقَاتِلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِذَا لَمْ نُقَاتِلْهُمْ عِنْدَ شِعَبِنَا؟ وَقَالَ رِجَالٌ: مَاذَا
نمْنَع إِذا لم نمْنَع الْحَرْب بروع؟ وَقَالَ رِجَالٌ قَوْلًا صَدَقُوا
بِهِ وَمَضَوْا عَلَيْهِ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
قَالَ: وَالَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب لنجادلهم.
وَقَالَ نعيم بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَا تَحْرِمْنَا الْجَنَّةَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَأَدْخُلَنَّهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ؟
قَالَ: بِأَنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا أَفِرُّ يَوْمَ
الزَّحْفِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
صَدَقْتَ.
وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ.
وَأَبَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْخُرُوجَ إِلَى الْعَدُوِّ، وَلَمْ
يَتَنَاهَوْا إِلَى قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَأْيِهِ، وَلَوْ رَضُوا بِالَّذِي أَمَرَهُمْ كَانَ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ غَلَبَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ.
(3/24)
وَعَامَّةُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ
بِالْخُرُوجِ رِجَالٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، قَدْ عَلِمُوا الَّذِي
سَبَقَ لِأَصْحَابِ بِدْرٍ مِنَ الْفَضِيلَةِ.
فَلَّمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْجُمُعَةَ وَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ
وَالْجِهَادِ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصِلَاتِهِ، فَدَعَا
بِلَأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ قَالُوا: أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَمْكُثَ
بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَمَا يُرِيدُ وَيَأْتِيهِ
الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْكُثْ كَمَا أَمَرْتَنَا.
فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا أَخَذَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ
وَأَذَّنَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ،
وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ
إِلَّا الْخُرُوجَ، فَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ
الْبَأْسِ إِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ وانظروا مَاذَا أَمركُم الله بِهِ
فافعلوا.
قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ، فَسَلَكُوا عَلَى الْبَدَائِعِ وَهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ،
وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَمَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِأُحِدٍ.
وَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ فِي
ثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سَبْعِمِائَةٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي،
أَنَّهُمْ بَقُوا فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ.
قَالَ: وَالْمَشْهُورُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ بَقُوا فِي
أَرْبَعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ.
كَذَلِكَ رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ أَصْبَغَ، عَنِ ابْنِ
وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقِيلَ عَنْهُ بِهَذَا
الْإِسْنَادِ سَبْعُمِائَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَةُ
(3/25)
فرس، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ عُثْمَان بن
طَلْحَة.
قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسٌ وَاحِدَةٌ.
ثمَّ ذكر الْوَاقِعَة كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
* * * وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَصَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ قَالَ
لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ
حَيْثُ نَزَلُوا فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بَشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ هُمْ
دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا.
وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ مَعَ رَأَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلا يَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ.
فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ
بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ
بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا لَا
يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَخْرُجْ
إِلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ قَطُّ إِلَّا
أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ.
فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ
مِنْ بنى النجار يُقَال لَهُ مَالك ابْن عَمْرٍو، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ
خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَ يَكُنْ لَنَا
ذَلِكَ.
فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ شِئْتَ
فَاقْعُدْ.
فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا
حَتَّى يُقَاتِلَ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلْفٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّوْطِ بَيْنَ
الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
(3/26)
أُبَيٍّ بِثُلْثِ النَّاسِ، وَقَالَ:
أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، مَا ندرى علام نقْتل أَنْفُسنَا هَا هُنَا
أَيُّهَا النَّاسُ.
فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ
وَالرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
السُّلَمِيُّ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ
أُذَكِّرُكُمُ الله أَلا تخذلوا قومكم ونبيكم عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ
عَدُوِّهِمْ.
قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تقاتلون مَا أَسْلَمْنَاكُمْ،
وَلَكِّنَّا لَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ.
فَلَمَّا اسْتَعْصُوا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إِلَّا الِانْصِرَافَ قَالَ:
أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
قُلْتُ: وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا.
قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ، يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أعلم بِمَا يكتمون (1) ".
يَعْنِي أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا
لَاتَّبَعْنَاكُمْ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الْقِتَالِ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا
خَفَاءَ وَلَا شَكَّ فِيهِ.
وهم الَّذين أنزل الله فيهم: " فمالكم فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا (2) " الْآيَة.
وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: نُقَاتِلُهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُقَاتِلُهُمْ.
كَمَا ثَبَتَ وَبُيِّنَ فِي الصَّحِيحِ.
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ الْأَنْصَارَ اسْتَأْذَنُوا حِينَئِذٍ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِعَانَةِ
بِحُلَفَائِهِمْ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لنا
فيهم.
__________
(1) سُورَة آل عمرَان 167.
(2) سُورَة النِّسَاء 88.
(*)
(3/27)
وَذكر عُرْوَة بن مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ هَمَّتَا أَنْ تَفْشَلَا، فَثَبَّتَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: " إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلَا وَالله وليهما وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ ".
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ
وَاللَّهُ يَقُولُ: " وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا (1) " كَمَا ثَبت فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَلَكَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَذَبَّ
فَرَسٌ بِذَنَبِهِ فَأَصَابَ كُلَّابَ (2) سَيْفٍ فَاسْتَلَّهُ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ السَّيْفِ:
شِمْ سَيْفَكَ.
أَيْ أَغْمِدْهُ، فَإِنِّي أُرَى السُّيُوفَ
سُتُسَلُّ الْيَوْمَ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ:
مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ - أَيْ مِنْ
قَرِيبٍ - مِنْ طَرِيقٍ لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو
خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ.
فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى
سَلَكَ بِهِ فِي مَال لمربع ابْن قَيْظِيٍّ، وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا
ضَرِيرَ الْبَصَرِ، فَلَّمَا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُ:
إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ فِي
حَائِطِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً من
التُّرَاب فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا
أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ.
فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْتُلُوهُ، فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى
الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ.
وَقَدْ
__________
(1) اية 122 سُورَة آل عمرَان - أَي لما حصل لَهُم من الشّرف بثناء الله
تَعَالَى وإنزاله فيهم آيَة ناطقة بِصِحَّة الْولَايَة.
(2) الْكلاب: ذؤابة السَّيْف.
(*)
(3/28)
بَدَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو
بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَبْلَ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ.
وَمَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ
الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ، فِي عدوة الْوَادي وفى الْجَبَلِ، وَجَعَلَ
ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لَا يقاتلن أحد حَتَّى آمره
بِالْقِتَالِ.
وَقَدْ سَرَّحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ (1) فِي زروع كَانَت
بالصمغة من قناة كَانَت لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ
حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْقِتَالِ: أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِيَ قَيْلَةَ وَلَمَّا نُضَارِبْ؟ !
وَتَعَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ
يَوْمَئِذٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ،
وَهُوَ مُعَلَّمٌ يَوْمَئِذَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ
رَجُلًا، فَقَالَ: انْضَحِ الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَا
مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ
لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ.
وَسَيَأْتِي شَاهِدُ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ.
يَعْنِي لَبِسَ دِرْعًا فَوْقَ دِرْعٍ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ
بْنِ عُمَيْرٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَمَاعَةً مِنَ الْغِلْمَانِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ
حُضُورِ الْحَرْبِ لِصِغَرِهِمْ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فِلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ
عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَق وَأَبا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي.
وَكَذَلِكَ رَدَّ يَوْمَئِذٍ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ
وَالْبَرَاءَ بن عَازِب، وَأسيد بن
__________
(1) الظّهْر: الابل.
والكراع: الْخَيل.
(*)
(3/29)
ظُهَيْرٍ، وَعَرَابَةَ بْنَ أَوْسِ بْنِ
قَيْظِيٍّ.
ذكره ابْن قُتَيْبَة وَأوردهُ السُّهيْلي، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ
الشَّمَّاخُ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ * تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ
بِالْيَمِينِ وَمِنْهُمْ ابْن سعيد بن خَيْثَمَة.
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا، وَأَجَازَهُمْ كُلَّهُمْ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ.
وَكَانَ قَدْ رَدَّ يَوْمَئِذٍ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَرَافِعَ بْنَ
خَدِيجٍ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ رَافِعًا رَامٍ فَأَجَازَهُ.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا
فَأَجَازَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ، وَهْمُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ
وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ
الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ
أَبِي جَهِلِ بْنِ هِشَامٍ.
* * * وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ
فَأَمْسَكُهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ
بْنُ خَرَشَةَ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ.
قَالَ: أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّهِ.
فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَعَفَّانُ، قَالَا
حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ ابْن سَلمَة، أخبرنَا ثَابت، عَن النَّبِي،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ سَيْفًا
يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذَ هَذَا السَّيْف؟ فَأخذ قَوْمٌ
فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟
فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكٌ: أَنَا آخُذُهُ
بِحَقِّهِ.
فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَفَّان بِهِ.
(3/30)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو
دُجَانَةَ رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَكَانَ لَهُ
عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ يُعْلَمُ بِهَا عِنْدَ الْحَرْبِ يَعْتَصِبُ بِهَا،
فَيعلم أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ.
قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ فَاعْتَصَبَ
بِهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي
سَلَمَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ
يُبَغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ! * * * قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِ اللِّوَاءِ
مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُحَرِّضُهُمْ
عَلَى الْقِتَالِ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَدْ وُلِّيتُمْ لِوَاءَنَا
يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى
النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، إِذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ
تَكْفُونَا لِوَاءَنَا وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ
فَنَكْفِيكُمُوهُ.
فَهَمُّوا بِهِ وَتَوَاعَدُوهُ وَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ إِلَيْكَ
لِوَاءَنَا! سَتَعْلَمُ غَدًا إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ.
وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ.
قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ،
قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّاتِي مَعَهَا،
وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ بِهَا خَلْفَ الرِّجَالِ وَيُحَرِّضْنَ
عَلَى الْقِتَالِ، فَقَالَتْ هِنْدُ فِيمَا تَقُولُ: وَيْهًا بَنِي عَبْدِ
الدَّارْ * وَيْهًا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارْ
وَتَقُولُ أَيْضًا: إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ * وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ * فِرَاقَ غير وامق
(3/31)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ عَبْدَ عَمْرِو
بن صَيْفِي ابْن مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ،
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُبَاعِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الْأَوْسِ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ قَوْمَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ
عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ.
فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ أَبُو عَامر فِي
الاحابيش وَعبد ان أَهْلِ مَكَّةَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنَا
أَبُو عَامِرٍ.
قَالُوا: فَلَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ.
وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاهِبَ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ.
فَلَمَّا سَمِعَ رَدَّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي
شَرٌّ! ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قتالا شَدِيدا ثمَّ
أرضخهم بِالْحِجَارَةِ.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَأقبل النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ،
وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: وَجَدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ
فَمَنَعَنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ
صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْت إِلَيْهِ وَسَأَلته
إِيَّاهُ قَبْلَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ وَتَرَكَنِي، وَاللَّهِ
لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ.
فَاتَّبَعْتُهُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ فَعَصَبَ بِهَا
رَأْسَهُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ
الْمَوْتِ: وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ لَهُ إِذَا تَعَصَّبَ.
فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي * وَنَحْنُ
بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ أَنْ لَا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ
* أَضْرِبْ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَقَالَ الْأُمَوِيُّ:
حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، إِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ وَهُوَ يُقَاتِلُ بِهِ، فَقَالَ:
لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ تُقَاتِلْ فِي الْكَيُّولِ؟ قَالَ: لَا.
فَأَعْطَاهُ سَيْفًا فَجَعَلَ يرتجز وَيَقُول:
(3/32)
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي * أَنْ
لَا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ وَهَذَا حَدِيثٌ يُرْوَى عَنْ
شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ إِسْرَائِيلُ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
هِنْدِ بِنْتِ خَالِدٍ أَوْ غَيْرِهِ يَرْفَعُهُ.
الْكَيُّولُ: يَعْنِي مُؤَخَّرَ الصُّفُوفِ.
سَمِعْتُهُ مِنْ عِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا
الْحَرْفَ إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
قَالَ ابْن هِشَام: فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ.
وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ جَرِيحًا إِلَّا ذَفَفَ
عَلَيْهِ فَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ، فَدَعَوْتُ
اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا،
فَالْتَقَيَا، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا
دُجَانَةَ فَاتَّقَاهُ بِدَرَقَتِهِ فَعَضَّتْ بِسَيْفِهِ، وَضَرَبَهُ
أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ.
ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ السَّيْفَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ هِنْدِ
بِنْتِ عُتْبَةَ، ثُمَّ عَدَلَ السَّيْفَ عَنْهَا فَقُلْتُ: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ أَبُو دُجَانَةَ: رَأَيْتُ إنْسَانا يحمس
النَّاس حمسا شَدِيدًا، فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَّمَا حَمَلْتُ عَلَيْهِ
السَّيْفَ وَلْوَلَ فَاذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَهُ طَلَبَهُ مِنْهُ عُمَرُ فَأَعْرَضَ
عَنْهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ الزُّبَيْرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَوَجَدَا
فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَضَهُ الثَّالِثَةَ فَطَلَبَهُ
أَبُو دُجَانَةَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَأَعْطَى السَّيْفَ حَقَّهُ.
قَالَ: فَزَعَمُوا أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ فِيمَن خرج
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَثْلَ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلَى
الْمُسلمين قُمْت فتجاورت، فَإِذا رجل من الْمُشْركين جمع اللامة يجوز (3 -
السِّيرَة - 3)
(3/33)
الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَقُولُ:
اسْتَوْسِقُوا كَمَا اسْتَوْسَقَتْ جَزَرُ الْغَنَمِ (1) .
قَالَ: وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَظِرُهُ وَعَلَيْهِ
لَأْمَتُهُ، فَمَضَيْتُ حَتَّى كُنْتُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قُمْتُ
أَقْدُرُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ بِبَصَرِي، فَإِذَا الْكَافِر أفضلهما
عدَّة وهيأة.
قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا، فَضَرَبَ
الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ
فَبَلَغَتْ وَرِكَهُ وَتَفَرَّقَ فِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ كَشَفَ الْمُسْلِمُ
عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا كَعْبُ؟ أَنَا أَبُو دُجَانَةَ!
مَقْتَلُ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى قَتَلَ أَرْطَاةَ بْنَ عَبْدِ
شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ،
وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ اللِّوَاءَ.
وَكَذَلِكَ قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ حَامِلُ
اللِّوَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ عَلَى أَهْلِ اللِّوَاءِ حَقًّا * أَنْ
يَخْضِبُوا الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ
فَقَتْلَهُ (2) .
ثُمَّ مَرَّ بِهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ، وَكَانَ
يُكَنَّى بِأَبِي نِيَارٍ، فَقَالَ حَمْزَةُ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ
مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ.
وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنْمَارٍ مُوَلَّاةَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَتْ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ، فَلَمَّا الْتَقَيَا
ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ.
فَقَالَ وَحْشِيٌّ غُلَامُ جُبَيْرِ بْنِ مطعم: وَالله إنى لانظر لِحَمْزَة
يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ مَا يُلِيقُ (3) شَيْئًا يَمُرُّ بِهِ، مِثْلَ
الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاع، فَقَالَ
حَمْزَة: هَلُمَّ يَابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ.
فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَكَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ، وَهَزَزْتُ حَرْبَتِي
حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِي
ثُنَّتِهِ (4) حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَين رجلَيْهِ، فَأقبل
__________
(1) استوسقوا: اجْتَمعُوا والجزر: مَا يذبح من الشَّاء واحدتها جزرة.
(2) لَيْسَ فِي ابْن هِشَام.
(3) مَا يَلِيق: مَا يبْقى.
(4) الثنة: بَين السُّرَّة والعانة.
(*)
(3/34)
نَحْوِي فَغُلِبَ، فَوَقَعَ وَأَمْهَلْتُهُ
حَتَّى إِذَا مَاتَ جِئْتُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ تَنَحَّيْتُ إِلَى
الْعَسْكَرِ وَلم يكن لى بشئ حَاجَة غَيره.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفضل بن
عَيَّاش بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضمرى، قَالَ: خرجت أَنا
وَعبيد الله ابْن عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَحَدُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عبد
منَاف فِي زمَان مُعَاوِيَة، فأدر بِنَا مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا مَرَرْنَا
بِحِمْصَ وَكَانَ وَحْشِيُّ مَوْلَى جُبَيْرٍ قَدْ سَكَنَهَا وَأَقَامَ
بِهَا، فَلَمَّا قَدِمْنَاهَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ: هَلْ
لَكَ فِي أَنْ نَأْتِيَ وَحْشِيًّا فَنَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ
كَيْفَ قَتَلَهُ؟ قَالَ قُلْتُ لَهُ: إِنْ شِئْتَ.
فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْهُ بِحِمْصَ، فَقَالَ لَنَا رَجُلٌ وَنَحْنُ
نَسْأَلُ عَنْهُ: إِنَّكُمَا سَتَجِدَانِهِ بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَهُوَ
رَجُلٌ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، فَإِنْ تَجِدَاهُ صَاحِيًا
تَجِدَا رَجُلًا عَرَبِيًّا وَتَجِدَا عِنْدَهُ بَعْضَ مَا تُرِيدَانِ
وَتُصِيبَا عِنْدَهُ مَا شِئْتُمَا مِنْ حَدِيثٍ تَسْأَلَانِهِ عَنْهُ،
وَإِنْ تجداه وَبِه بعض مَا بِهِ فَانْصَرِفَا عَنْهُ وَدَعَاهُ.
قَالَ: فَخَرَجْنَا نَمْشِي حَتَّى جِئْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ بِفَنَاءِ
دَارِهِ عَلَى طِنْفِسَةٍ لَهُ، وَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ مِثْلُ الْبُغَاثِ،
وَإِذَا هُوَ صَاحٍ لَا بَأْسَ بِهِ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ
سَلَّمْنَا عَلَيْهِ.
فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ ابْنٌ
لِعُدَيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ نَاوَلْتُكَ أُمَّكَ
السَّعْدِيَّةَ الَّتِي أَرْضَعَتْكَ بِذِي طَوًى، فَإِنِّي نَاوَلْتُكَهَا
وَهِيَ عَلَى بَعِيرِهَا فَأَخَذَتْكَ بِعُرْضَيْكَ فَلَمَعَتْ لِي
قَدَمَاكَ حَتَّى رَفَعْتُكَ إِلَيْهَا، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ
وَقَفْتَ عَلَيَّ فَعَرَفْتُهُمَا! قَالَ: فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا:
جئْنَاك لتحدثنا عَن قتل حَمْزَةَ، كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟
(3/35)
فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمَا
كَمَا حَدَّثْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ.
كُنْتُ غُلَامًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَكَانَ عَمُّهُ طُعَيْمَةُ
بْنُ عَدِيٍّ قَدْ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا سَارَتْ قُرَيْشٌ إِلَى
أُحُدٍ قَالَ لِي جُبَيْرٌ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ عَمَّ مُحَمَّدٍ
بِعَمِّي فَأَنْتَ عَتِيقٌ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَبَشِيًّا أَقْذِفُ
بِالْحَرْبَةِ قَذْفَ الْحَبَشَة قل مَا أُخْطِئُ بِهَا شَيْئًا، فَلَمَّا
الْتَقَى النَّاسُ خَرَجْتُ أَنْظُرُ حَمْزَةَ وَأَتَبَصَّرُهُ، حَتَّى
رَأَيْتُهُ فِي عَرْضِ النَّاسِ كَأَنَّهُ الْجَمَلُ الْأَوْرَقُ يَهُدُّ
النَّاسَ بِسَيْفِهِ هدا مَا يقوم لَهُ شئ، فوَاللَّه إنى لَا تهَيَّأ لَهُ
أُرِيدُهُ وَأَسْتَتِرُ مِنْهُ بِشَجَرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ لِيَدْنُوَ
مِنِّي، إِذْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى،
فَلَمَّا رَآهُ حَمْزَةُ قَالَ: هَلُمَّ إِلَى يَابْنَ مُقَطِّعَةِ
الْبُظُورِ.
قَالَ: فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً كَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ، قَالَ:
وَهَزَزْتُ حَرْبَتِي حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ
فَوَقَعَتْ فِي ثُنَّتِهِ، حَتَّى خَرَجَتْ
مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَذَهَبَ لِيَنُوءَ نَحْوِي فَغُلِبَ،
وَتَرَكْتُهُ وَإِيَّاهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ
حَرْبَتِي ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْعَسْكَرِ وَقَعَدْتُ فِيهِ، وَلَمْ
يَكُنْ لِي بِغَيْرِهِ حَاجَةٌ، إِنَّمَا قَتَلْتُهُ لَأُعْتَقَ.
فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ عُتِقْتُ، ثُمَّ أَقَمْتُ، حَتَّى إِذَا
افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
هَرَبْتُ إِلَى الطَّائِفِ، فَمَكثت بِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ وَفْدُ
الطَّائِفِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيُسَلِمُوا تَعَيَّتْ عَلَيَّ الْمَذَاهِبُ، فَقُلْتُ: أَلْحَقُ
بِالشَّامِ أَوْ بِالْيَمَنِ أَوْ بِبَعْضِ الْبِلَادِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي
لَفِي ذَلِكَ مِنْ هَمِّي إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ: وَيْحَكَ! إِنَّه وَالله
لَا يَقْتُلُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ دَخَلَ فِي دِينِهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ
الْحَقِّ.
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ خَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَرُعْهُ
إِلَّا بِي قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ أَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحق، فَلَمَّا
رأني قَالَ لى: أوحشي أَنْت؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: اقْعُدْ فَحَدِّثْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟
(3/36)
قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ كَمَا
حَدَّثْتُكُمَا، فَلَّمَا فَرَغْتُ مِنْ حَدِيثِي قَالَ: وَيْحَكَ غَيِّبْ
عَنِّي وَجْهَكَ فَلَا أرينك! قَالَ: فَكنت أتنكب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ لِئَلَّا يرانى، حَتَّى قَبضه
الله عزوجل.
فَلَمَّا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ صَاحِبِ
الْيَمَامَةِ خَرَجْتُ مَعَهُمْ وَأَخَذْتُ حَرْبَتِي الَّتِي قَتَلْتُ
بهَا حَمْزَة، فَلَمَّا التقى النَّاس رَأَيْت مُسَيْلِمَةَ قَائِمًا
وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، وَمَا أَعْرِفُهُ، فَتَهَيَّأْتُ لَهُ وَتَهَيَّأَ
لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، كِلَانَا
يُرِيدُهُ، فَهَزَزْتُ حَرْبَتِي حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعَتُهَا
عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِيهِ، وَشَدَّ عَلَيْهِ الْأَنْصَارِيُّ بِالسَّيْفِ،
فَرَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ، فَإِنْ كُنْتُ قَتَلْتُهُ فَقَدْ
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَتَلْتُ شَرَّ النَّاسِ!
قُلْتُ: الْأَنْصَارِيُّ هُوَ أَبُو دُجَانَة سماك بن خَرشَة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي الرِّدَّةِ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ
بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ.
وَقَالَ سَيْفُ بن عَمْرو: هُوَ عَدِيُّ بْنُ سَهْلٍ.
وَهُوَ الْقَائِلُ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي وَوَحْشِيَّهُمْ * قَتَلْتُ
مُسَيْلِمَةَ الْمُفْتَتَنْ وَيَسْأَلُنِي النَّاسُ عَنْ قَتْلِهِ *
فَقُلْتُ: ضَرَبْتُ وَهَذَا طَعَنْ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ وَحْشِيًّا هُوَ
الَّذِي بَدَرَهُ بِالضَّرْبَةِ وَذَفَّفَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ، لِمَا
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ صَارِخًا
يَوْمَ الْيَمَامَةِ يَقُولُ: قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ.
* * * وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ قِصَّةَ مَقْتَلِ حَمْزَةَ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلمَة
__________
(1) بالاصل غير منقوطة.
وَمَا أثْبته عَن الرَّوْض الانف 2 / 132.
(*)
(3/37)
الْمَاجِشُونَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْفَضْلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بن
أُميَّة الضمرى، قَالَ: خرجت مَعَ عبد اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
الْخِيَارِ.
فَذَكَرَ الْقِصَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذَكَرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ كَانَ مُعْتَجِرًا عِمَامَةً
لَا يَرَى مِنْهُ وَحْشِيٌّ إِلَّا عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَذَكَرَ مِنْ
مَعْرِفَتِهِ لَهُ مَا تَقَدَّمَ.
وَهَذِهِ قِيَافَةٌ عَظِيمَةٌ، كَمَا عَرَفَ مُجَزِّزٌ الْمُدْلِجِيُّ
أَقْدَامَ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ مَعَ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمَا.
وَقَالَ فِي سِيَاقَتِهِ: فَلَمَّا أَنَّ صُفَّ النَّاسُ لِلْقِتَالِ
خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ
بْنُ عبد الْمطلب فَقَالَ لَهُ: يَا سِبَاع يَابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ
مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ، أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ ! ثُمَّ شَدَّ
عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ! قَالَ: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ
تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي
فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ، حَتَّى
خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِ وِرْكَيْهِ، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخرج مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قُلْتُ: لَأَخْرُجُ
إِلَى مُسَيْلِمَةَ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ
أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فأضعها بَين
ثدييه حَتَّى خرجت من [بَين] (1) كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ
رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ: فَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: فَقَالَتْ
جَارِيَة على ظهر الْبَيْت: واأمير المؤمناه (2) ! قَتَلَهُ الْعَبْدُ
الْأَسْوَدُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي أَنَّ وَحْشِيًّا لَمْ يَزَلْ يُحَدُّ
فِي الْخَمْرِ حَتَّى خُلِعَ مِنَ الدِّيوَانِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخطاب يَقُول: قد قلت أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ قَاتِلَ
حَمْزَةَ!
__________
(1) من صَحِيح البُخَارِيّ.
(3) البُخَارِيّ: واأمير الْمُؤمنِينَ.
(*)
(3/38)
قُلْتُ: وَتُوُفِّيَ وَحْشِيُّ بْنُ
حَرْبٍ، أَبُو دَسْمَةَ، وَيُقَالُ أَبُو حَرْبٍ، بِحِمْصَ، وَكَانَ
أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ الْمَدْلُوكَةَ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ.
وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللِّيثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّ
أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ
إِلَى قُرَيْشٍ: فَقَالَ قَتَلْتُ مُحَمَّدًا.
قُلْتُ: وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ مُصْعَبًا هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّوَاءَ عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ اللِّوَاءُ
أَوَّلًا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءَ الْمُشْركين مَعَ عَبْدِ
الدَّارِ قَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ، أَخذ اللِّوَاء من
على بن أَبى طَالب فَدَفَعَهُ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَلَمَّا
قُتِلَ مُصْعَبٌ أَعْطَى اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ
الْمَازِنِيُّ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ يَوْمَ أُحُدٍ جَلَسَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ رَايَةِ
الْأَنْصَارِ، وَأرْسل إِلَى على: أَن قدم الرَّايَة.
فَقدم عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْقُصَمِ.
فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ
الْمُشْرِكِينَ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ
حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَبَرَزَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَهُ
عَلِيٌّ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَلَمْ يُجْهِزْ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَفَلَا أَجْهَزْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ:
إِنَّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ فَعَطَفَتْنِي عَلَيْهِ الرَّحِمُ
وَعَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَتَلَهُ.
(3/39)
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ صِفِّينَ مَعَ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَأَةَ لما حمل
عَلَيْهِ ليَقْتُلهُ أبدى لَهُ عَوْرَتِهِ فَرَجَعَ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِين حمل عَلَيْهِ على فِي بَعْضِ
أَيَّامِ صِفِّينَ أَبْدَى عَنْ عَوْرَتِهِ فَرَجَعَ عَلِيٌّ أَيْضًا.
فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَارِثُ بْنُ النَّضْرِ: أَفِي (1) كُلِّ يَوْمٍ
فَارِسٌ غَيْرُ مُنْتَهٍ * وَعَوْرَتُهُ وَسْطَ الْعَجَاجَةِ بَادِيَهْ
يَكُفُّ لَهَا عَنْهُ عَلَيٌّ سِنَانَهُ * وَيَضْحَكُ مِنْهَا فِي
الْخَلَاءِ مُعَاوِيَهْ! وَذَكَرَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ
طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيَّ حَامِلَ لِوَاءِ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ دَعَا إِلَى الْبِرَازِ فَأَحْجَمَ عَنْهُ
النَّاسُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَوَثَبَ حَتَّى
صَارَ مَعَهُ عَلَى جَمَلِهِ، ثُمَّ اقْتَحَمَ بِهِ الْأَرْضَ فَأَلْقَاهُ
عَنْهُ وَذَبَحَهُ بِسَيْفِهِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ
نَبِيٍّ حِوَارِيًّا وَحِوَارِيِّ الزُّبَيْرُ " وَقَالَ: لَوْ لَمْ
يَبْرُزْ إِلَيْهِ لَبَرَزْتُ أَنَا إِلَيْهِ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ
إِحْجَامِ النَّاسِ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَتَلَ أَبَا سَعْدِ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَقَاتَلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ فَقَتَلَ نَافِع بن
أَبى طَلْحَة وأخاه الحلاس، كِلَاهُمَا يُشْعِرُهُ سَهْمًا فَيَأْتِي
أُمَّهُ سُلَافَةَ فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَتَقُولُ: يَا
بُنَيَّ مَنْ أَصَابَك؟ فَيَقُول: سَمِعت رجلا حِين رماني يَقُولُ: خُذْهَا
وَأَنَا ابْنُ أَبَى الْأَقْلَحِ.
فَنَذَرَتْ إِنْ أَمْكَنَهَا اللَّهُ مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تَشْرَبَ
فِيهِ الْخَمْرَ.
وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ عَاهَدَ الله لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا وَلَا
يَمَسَّهُ.
وَلِهَذَا حماه الله مِنْهُ يَوْمَ الرَّجِيعِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْتَقَى حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ،
وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَيُقَالُ عَبْدُ عَمْرِو بْنُ صَيْفِيٍّ، وَكَانَ
يُقَالُ لِأَبِي عَامِرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاهِبُ، لِكَثْرَةِ
عِبَادَتِهِ، فَسَماهُ رَسُول الله
__________
(1) الاصل: أَتَى.
وَهُوَ تَحْرِيف.
وَمَا أثْبته عَن الرَّوْض الانف 2 / 133.
(*)
(3/40)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْفَاسِقُ، لَمَّا خَالَفَ الْحق وَأَهله وهرب مِنَ الْمَدِينَةِ هَرَبًا
مِنَ الْإِسْلَامِ وَمُخَالَفَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَحَنْظَلَةُ الَّذِي يُعْرَفُ بِحَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، لِأَنَّهُ
غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ.
كَمَا سَيَأْتِي.
هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا عَلَاهُ حَنْظَلَةُ
رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَوْسِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ
شَعُوبٍ، فَضَرَبَهُ شَدَّادٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ لُتُغَسِّلُهُ
الْمَلَائِكَةُ، فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟ ".
فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أَبى بن سَلُولَ وَكَانَتْ
عَرُوسًا عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَاتِفَةَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِك غَسَّلَتْهُ
الْمَلَائِكَةُ!
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَن أَبَاهُ ضرب بِرجلِهِ فِي صَدره،
فَقَالَ: ذَنْبَانِ أَصَبْتَهُمَا، وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ مَصْرَعِكَ
هَذَا، وَلَقَدْ وَاللَّهِ كُنْتَ وُصُولًا لِلرَّحِمِ بَرًّا
بِالْوَالِدِ.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَقَالَ ابْن شعوب فِي ذَلِك: لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي
وَنَفْسِي * بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَقَالَ ابْن شعوب:
وَلَوْلَا دفاعي يَابْنَ حَرْبٍ وَمَشْهَدِي * لَأُلْفِيتَ يَوْمَ
النَّعْفِ (1) غَيْرَ مُجِيبِ وَلَوْلَا مكرى الْمهْر بالنعف فرفرت (2) *
عَلَيْهِ ضِبَاعٌ (3) أَوْ ضِرَاءُ كَلِيبِ (4) وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُمَيْتٌ: طِمِرَّةٌ (5) * وَلَمْ أحمل النعماء
لِابْنِ شعوب
__________
(1) النعف: مَا انحدر من حزونة الْجَبَل (2) فرفرت: أسرعت وطاشت.
وفى ابْن هِشَام: قرقرت.
بِالْقَافِ.
(3) ابْن هِشَام: ضباع عَلَيْهِ (4) الضراء: الضارية من الْكلاب.
(5) الطمرة: الْفرس السريعة الجرى.
(*)
(3/41)
وَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ
مِنْهُمُ * لَدُنْ غدْوَة حَتَّى دنت لغروب أقاتلهم وأدعى يالغالب *
وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنِ صَلِيبِ فَبَكِّي وَلَا تَرْعَيْ مَقَالَةَ
عَاذِلٍ * وَلَا تَسْأَمِي مِنْ عَبْرَةٍ وَنَحِيبِ أَبَاكِ وَإِخْوَانًا
لَهُ قَدْ تَتَابَعُوا * وَحُقَّ لَهُمْ مِنْ عَبْرَةٍ بِنَصِيبِ وَسَلِي
الَّذِي قَدْ كَانَ فِي النَّفْسِ إِنَّنِي * قَتَلْتُ مِنَ النَّجَّارِ
كُلَّ نَجِيبِ وَمِنْ هَاشِمٍ قَرْمًا (1) كَرِيمًا وَمُصْعَبًا * وَكَانَ
لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرَ هَيُوبِ فَلَوْ أَنَّنِي لَمْ أَشْفِ نَفْسِي
مِنْهُمُ * لَكَانَتْ شَجًى فِي الْقَلْبِ ذَاتَ نُدُوبِ فَآبُوا وَقَدْ
أَوْدَى الْجَلَابِيبُ مِنْهُمُ * بهم خدب من معبط وَكَئِيبِ (2)
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ * كِفَاءً وَلَا فِي خُطَّةٍ
بِضَرِيبِ فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: ذَكَرْتَ الْقُرُومَ
الصِّيدَ مِنْ آلِ هَاشِمٍ * وَلَسْتَ لِزُورٍ قُلْتَهُ بِمُصِيبِ
أَتَعْجَبُ أَنْ أَقْصَدْتَ حَمْزَةَ مِنْهُمُ * نَجِيبًا وَقَدْ
سَمَّيْتَهُ بِنَجِيبِ أَلَمْ يَقْتُلُوا عَمَرًا وَعُتْبَةَ وَابْنَهُ *
وَشَيْبَةَ وَالْحَجَّاجَ وَابْنَ حَبِيبِ غَدَاةَ دَعَا الْعَاصِي
عَلِيًّا فَرَاعَهُ * بِضَرْبَةِ عضب بله بخضيب فَصْلٌ قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصره على الْمُسلمين، وَصدقهمْ وعده،
فحشوهم بِالسُّيُوفِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ عَنِ الْعَسْكَرِ، وَكَانَتِ
الْهَزِيمَةُ لَا شَكَّ فِيهَا.
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ
(3) هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ،
__________
(1) القرم: السَّيِّد.
(2) الخدب: الهوج.
والمعبط.
الذى يسيل دَمه.
(3) الخدم: السُّوق.
(*)
(3/42)
مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا
كَثِيرٌ، إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ عَلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا
الْقَوْمَ عَنْهُ وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ
خَلْفِنَا، وصرخ وصارخ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ.
فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ الْقَوْمُ عَلَيْنَا، بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا
أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، حَتَّى مَا يدنو مِنْهُ أحد مِنْهُم.
فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ اللِّوَاءَ لَمْ يَزَلْ
صَرِيعًا حَتَّى أَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ
فَرَفْعَتْهُ لِقُرَيْشٍ فَلَاثُوا بِهِ، وَكَانَ اللِّوَاءُ مَعَ صَوَاب،
غُلَامٍ لِبَنِي أَبِي طَلْحَةَ حَبَشِيٍّ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ أَخَذَهُ
مِنْهُمْ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى قُطِعَتْ يَدَاهُ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيْهِ،
فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِصَدْرِهِ وَعُنُقِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ أَعْزَرْتُ.
يَعْنِي: اللَّهُمَّ هَلْ أَعْذَرْتُ.
فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ: فَخَرْتُمْ بِاللِّوَاءِ وَشر
فَخر * لِوَاء حِين رد إِلَى صَوَاب جَعَلْتُمْ فَخْرَكُمْ فِيهِ لِعَبْدٍ
* وَأَلْأَمِ مَنْ يَطَا عَفْرَ التُّرَابِ ظَنَنْتُمْ وَالسَّفِيهُ لَهُ
ظُنُونٌ * وَمَا إِنْ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصَّوَابِ بِأَنَّ جِلَادَنَا
يَوْمَ الْتَقَيْنَا * بِمَكَّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ أَقَرَّ
الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ * وَمَا إِنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَابِ
وَقَالَ حَسَّانٌ أَيْضًا فِي رَفْعِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَلْقَمَةَ
اللِّوَاءَ لَهُمْ: إِذَا عَضَلٌ سِيقَتْ إِلَيْنَا كَأَنَّهَا * جَدَايَةُ
شِرْكٍ مُعْلَمَاتِ الْحَوَاجِبِ (1) أَقَمْنَا لَهُمْ طَعْنًا مُبِيرًا
مُنَكِّلًا * وَحُزْنَاهُمُ بِالضَّرْبِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ فَلَوْلَا
لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا * يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ
الْجَلَائِبِ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ
وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ، وَكَانَ يَوْم بلَاء
__________
(1) الجداية: الغزال.
وشرك: مَوضِع.
(*)
(3/43)
وَتَمْحِيصٍ، أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ
أَكْرَمَ بِالشَّهَادَةِ، حَتَّى خَلَصَ الْعَدُوُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُثَّ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ
لِشِقِّهِ، فَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ وَكُلِمَتْ
شَفَتُهُ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ.
فَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ وَيَقُولُ: كَيْفَ
يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى
اللَّهِ.
فَأنْزل الله: " لَيْسَ لَك من الامر شئ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ".
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْحُسَيْن،
حَدثنَا أَحْمد بن الْفضل، حَدَّثَنَا
أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ أَتَى ابْنُ قَمِئَةَ الْحَارِثِيُّ
فَرَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ
فَكَسَرَ أَنْفَهُ وَرَبَاعِيَتَهُ وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ فَأَثْقَلَهُ،
وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَدَخَلَ بَعْضُهُمُ الْمَدِينَةَ
وَانْطَلَقَ طَائِفَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّخْرَةِ، وَجَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ:
إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ.
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَجَعَلُوا يَسِيرُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ إِلَّا طَلْحَةُ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ،
فَحَمَاهُ طَلْحَةُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فِي يَدِهِ فَيَبُسَتْ يَدُهُ،
وَأَقْبَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَقَدْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلْ أَنَا
أَقْتُلُهُ.
فَقَالَ: يَا كَذَّابُ أَيْنَ تَفِرُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ
فَجُرِحَ جَرْحًا خَفِيفًا فَوَقَعَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ
فَاحْتَمَلُوهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ بِكَ جِرَاحَةٌ فَمَا يُجْزِعُكَ؟
قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ! لَو كَانَت تَجْتَمِع ربيعَة
وَمُضر لقتلهم.
فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ
ذَلِكَ الْجُرْحِ.
وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعَضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ: لَيْتَ
لَنَا رَسُولًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَيَأْخُذُ لَنَا
أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، يَا قَوْمُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ
فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ.
(3/44)
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا قَوْمُ
إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ،
فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ
هَؤُلَاءِ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ.
ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ! وَانْطَلَقَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ حَتَّى
انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَضَعَ رَجُلٌ
سَهْما فِي قوسه يَرْمِيَهُ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ.
فَفَرِحُوا بِذَلِكَ حِينَ وَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَمْتَنِعُ بِهِ،
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَفِيهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحُزْنُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ
وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابهم الَّذين قتلوا.
فَقَالَ الله عزوجل فِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ
فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ " الْآيَة.
فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا
إِلَيْهِ نَسُوا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَهَمَّهُمْ أَبُو
سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، اللَّهُمَّ إِنْ تُقْتَلْ هَذِهِ
الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ ".
ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى
أَنْزَلُوهُمْ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: اعْلُ هُبْلَ، حَنْظَلَةُ
بِحَنْظَلَةَ، وَيَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ.
وَذكر تَمام الْقِصَّة.
وَهَذَا غَرِيب جدا وَفِيه نَكَارَةٌ.
* * * قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَزَعَمَ رُبَيْحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ عُتْبَةَ
بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى وَجَرَحَ شِفَتَهُ
السُّفْلَى، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ شَجَّهُ فِي
جَبْهَتِهِ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ
فَدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ، وَوَقَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله
(3/45)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ
الْحُفَرِ الَّتِي عَملهَا أَبُو عَامر ليَقَع فِيهَا الْمُسلمُونَ
فَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا، وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ
أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الدَّمَ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ فَقَالَ: مَنْ مَسَّ دَمه دمى لم
تمسسه النَّارُ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَعَ لِشِقِّهِ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَمَرَّ بِهِ
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَأَجْلَسَهُ وَمَسَحَ الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ، فَأَفَاقَ وَهُوَ يَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا
هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ.
فَأَنْزَلُ اللَّهُ: " لَيْسَ لَك من الامر شئ " الْآيَةَ.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا فِي
فَصْلٍ وَحْدَهُ.
قُلْتُ: كَانَ أَوَّلُ النَّهَارِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ،
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ،
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا
تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يدعوكم فِي أخراكم فأثابكم غما بغم "
الْآيَة.
* * * قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ،
أَخْبَرَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا نَصَرَ اللَّهُ
فِي مَوْطِنٍ كَمَا نَصَرَ يَوْمَ أُحُدٍ.
قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ.
فَقَالَ: بينى وَبَين من أنكر ذَلِك كِتَابُ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ
يَقُولُ فِي يَوْمِ أحد: " وَلَقَد صدقكُم الله وعده إِذا تحسونهم
بِإِذْنِهِ " يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْحَسُّ الْقَتْلُ " حَتَّى إِذَا
فشلتم " إِلَى قَوْلِهِ " وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فضل
(3/46)
على الْمُؤمنِينَ " وَإِنَّمَا عَنَى
بِهَذَا الرُّمَاةَ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ قَالَ: احْمُوا ظُهُورَنَا،
فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا
نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا.
فَلَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحُوا
عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ أَكَبَّ الرُّمَاةُ جَمِيعًا، فَدَخَلُوا فِي
الْعَسْكَرِ يَنْهَبُونَ، وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ
أَصَابِعِ يَدَيْهِ، وَالْتَبَسُوا.
فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا
دَخَلَتِ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
فَالْتَبَسُوا وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ
كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ أَوَّلُ
النَّهَارِ، حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ
أَوْ تِسْعَةٌ، وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً نَحْوَ الْجَبَلِ وَلَمْ
يَبْلُغُوا حَيْثُ يَقُولُ النَّاسُ الْغَارَ، إِنَّمَا كَانَت تَحْتَ
الْمِهْرَاسِ.
وَصَاحَ الشَّيْطَانُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَنَّهُ
حَقٌّ، فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ حَقٌّ حَتَّى طَلَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ
نعرفه بتكفيه إِذَا مَشَى.
قَالَ: فَفَرِحْنَا كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا.
قَالَ: فَرَقِيَ نَحْوَنَا وَهُوَ يَقُولُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى
قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ.
وَيَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ
يَعْلُونَا.
حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا.
فَمَكَثَ سَاعَةً فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصِيحُ فِي أَسْفَل الْجَبَل:
اعْل هُبل، اعْلُ هُبْلُ، مَرَّتَيْنِ، يَعْنِي آلِهَتَهُ، أَيْنَ ابْنُ
أَبِي كَبْشَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ؟
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَلَا أُجِيبُهُ؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ: اعْلُ هُبل قَالَ: الله أَعلَى وَأجل.
قَالَ أَبُو سُفْيَان: يَابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ أَنْعَمَتْ عَيْنُهَا (1)
، فَعَادِ عَنْهَا، أَوْ فعال عَنْهَا.
__________
(1) يُرِيد الْحَرْب.
وفعال: أَمر، أَي عَال عَنْهَا وأقصر عَن لومها.
(*)
(3/47)
فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ
أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ عُمَرُ:
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَبُو
بكر، وهأنذا عُمَرُ.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، الْأَيَّامُ
دُوَلٌ، وَإِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ.
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ
وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ.
قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَزْعُمُونَ ذَلِكَ، لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ
وَخَسِرْنَا! ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَوْفَ
تَجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ مثلَة، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ
سَرَاتِنَا.
قَالَ: ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: أَمَا
إِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نَكْرَهْهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِل من حَدِيث سُلَيْمَان
ابْن دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ بِهِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ مِنْ مُرْسَلَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَهُ
شَوَاهِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ سَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَقِيَنَا
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا
عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا
فَلَا تُعَيِّنُونَا.
فَلَمَّا لَقينَا هَرَبُوا، حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي
الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ،
فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا تَبْرَحُوا.
فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ (1) .
فَأُصِيبُ سَبْعُونَ قَتِيلًا، وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي
الْقَوْم مُحَمَّد؟ فَقَالَ: لَا تجيبوه.
__________
(1) صرفت وُجُوههم: تحيروا فَلم يدروا أَيْن يذهبون.
(*)
(3/48)
فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ؟ فَقَالَ (1) : لَا تُجِيبُوهُ.
فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ
قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا.
فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ،
أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُحْزِنُكَ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوهُ.
قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوهُ.
قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى
لَكُمْ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ،
وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي.
وَهَذَا مِنْ إِفْرَادِ الْبُخَارِيِّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدثنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ،
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: جَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ
يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
جُبَيْرٍ، قَالَ: وَوَضَعَهُمْ مَوْضِعًا وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمُونَا
تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ،
وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَى الْعَدُوِّ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا
تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ.
قَالَ: فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ
يَشْتَدِدْنَ عَلَى الْجَبَلِ وَقد بَدَت أسواقهن وَخَلَاخِلُهُنَّ
رَافِعَاتٍ ثِيَابِهِنَّ.
فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَيْ
قَوْمُ الْغَنِيمَةَ، ظَهْرَ أَصْحَابُكُمْ، فَمَا تَنْظُرُونَ؟ قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْسَيْتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: إِنَّا وَاللَّهِ
لنأتين النَّاس فلنصيبن من الْغَنِيمَة.
__________
(1) الْقَائِل هُوَ رَسُول الله صلوَات الله عَلَيْهِ.
(4 السِّيرَة 3) (*)
(3/49)
فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ
فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي
أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ
رَجُلًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بِدْرٍ أَرْبَعِينَ
وَمِائَةً: سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ
مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثًا، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ.
ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ
ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، أَفِي
الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا وَقَدْ كُفَيْتُمُوهُمْ.
فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ
اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ
لَكَ مَا يَسُوءُكَ.
فَقَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ
سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي.
ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: اعْلُ هُبَلُ اعْلُ هُبَلُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا
تُجِيبُونَهُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نَقُولُ؟ قَالَ:
قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ.
قَالَ: إِنَّ الْعُزَّى لَنَا وَلَا عُزَّى لَكُمْ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُجِيبُونَهُ؟ قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا
مَوْلَى لَكُمْ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ،
مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَتُهُ لَهُ مُطَوَّلَةً مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
* * * وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ،
(3/50)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَهِقُوا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَبْعَة من الانصار وَرجل من قُرَيْش، قَالَ:
يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
فَلَمَّا رَهِقُوهُ أَيْضًا قَالَ: مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ
رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا
أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَارَةَ
بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: انْهَزَمَ
النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ وَبَقِيَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ
وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَصْعَدُ فِي الْجَبَلِ،
فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ
لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: كَمَا أَنْتَ يَا طَلْحَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ:
فَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَاتَلَ عَنْهُ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، ثُمَّ قُتِلَ الْأَنْصَارِيُّ
فَلَحِقُوهُ، فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ مِثْلَ
قَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَ قَوْلِهِ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَأَنَا يَا رَسُولَ الله، فقاتل
وَأَصْحَابُهُ يَصْعَدُونَ، ثُمَّ قُتِلَ فَلَحِقُوهُ.
فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَيَقُولُ طَلْحَةُ:
أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَيَحْبِسُهُ، فَيَسْتَأْذِنُهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِلْقِتَالِ
فَيَأْذَنُ لَهُ فَيُقَاتِلُ مِثْلَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ.
حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا طَلْحَةُ، فَغَشُوهُمَا فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ
طَلْحَةُ: أَنَا.
فَقَاتَلَ مِثْلَ قِتَالِ جَمِيعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَأُصِيبَتْ أنامله
فَقَالَ: حس، فَقَالَ: لَو قلت: بِسم اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلَائِكَةُ
وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حَتَّى تَلِجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ.
ثُمَّ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
أَصْحَابه وهم مجتمعون.
وروى البُخَارِيّ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ،
عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
(3/51)
أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ
طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وفى الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ أَبِي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ: لم
يبْقى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ
تِلْكَ الايام الَّتِى يُقَاتل فِيهِنَّ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ عَنْ
حَدِيثِهِمَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
عَن هَاشم بن هَاشم السعدى، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ:
سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ:
ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
مَرْوَانَ بِهِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ
أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ
يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ
بَعْضِ آلِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ رَمَى يَوْمَ
أُحُدٍ دُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُنَاوِلُنِي النَّبْلَ وَيَقُولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي
وَأُمِّي! حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لَيْسَ لَهُ نَصْلٌ
فَأَرْمِي بِهِ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَن سعد ابْن أَبى وَقاص قَالَ: رَأَيْتُ يَوْمَ
أُحُدٍ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ
يَسَارِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ أَشَدَّ
الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ.
يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ،
أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يرْمى بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَلفه يترس بِهِ، وَكَانَ
(3/52)
رَامِيًا، وَكَانَ إِذَا رَمَى رَفَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَخْصَهُ يَنْظُرُ
أَيْنَ يَقَعُ سَهْمُهُ، وَيَرْفَعُ أَبُو طَلْحَةَ صَدْرَهُ وَيَقُولُ:
هَكَذَا، بأبى أَنْت وأمى يارسول اللَّهِ لَا يُصِيبُكَ سَهْمٌ، نَحْرِي
دُونَ نَحْرِكَ.
وَكَانَ أَبُو طَلْحَة يسور نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنِّي جَلْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَوَجِّهْنِي فِي حَوَائِجِكَ وَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ (1) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (2) ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا
كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ (3)
لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ كَسَرَ
يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ
الجعبة مِنَ النَّبْلِ فَيَقُولُ (4) : انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ.
قَالَ: وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ
إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: بِأَبِي أَنْتَ وأمى لَا تشرف
يصيبك سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ
وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ (5)
الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ،
ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي
أَفْوَاهِ الْقَوْمِ.
وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ
وَإِمَّا ثَلَاثًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْع، حَدثنَا سعيد، عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ:
كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي
مِنْ يدى مرَارًا، يسْقط وَآخذه وَيسْقط وَآخذه.
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ،
وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى " ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ،
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحق
__________
(1) هُوَ عبد الله بن عَمْرو العقدى.
(2) هُوَ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب.
(3) مجوب: مترس عَلَيْهِ يحميه.
والحجفة: ترس من جلد.
(4) الْقَائِل هُوَ النَّبِي صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ (5) خدم
سوقهما: خلاخيلهما.
قَالَ القسطلانى: وَذَلِكَ مَحْمُول على نظر الْفجأَة.
وتنقزان: تثبان وتفرغان الْقرب.
(*)
(3/53)
ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: هَلْ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ من شئ، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
يُخْفُونَ فِي أنفسهم مَالا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لَنَا
مِنَ الامر شئ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى
مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ
مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ (1) أَخْبَرَنَا أَبُو
حَمْزَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ
الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقعُود؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ قَالَ: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالُوا: ابْنُ عمر.
فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنى سَائِلك عَن شئ أَتُحَدِّثُنِي؟ قَالَ: أَنْشُدُكَ
بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ: أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
فَرَّ يَوْمَ أُحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَتَعْلَمُهُ تَغِّيبَ عَنْ بِدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ:
نَعَمْ.
قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ
يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَكَبَّرَ (2) .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ لاخبرك وَلَا بَين لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي
عَنْهُ.
أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ: فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ،
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةٌ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ.
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ
أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ
مَكَانَهُ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ
مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ.
فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ.
فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ.
__________
(1) عَبْدَانِ: لقب عبد الله بن عُثْمَان المروزى.
(2) كبر: مستحسنا لما أَجَابَهُ ابْن عمر، لمطابقته لما يَعْتَقِدهُ فِي
عُثْمَان رضى الله عَنهُ.
(*)
(3/54)
اذْهَبْ بِهَذَا (1) الْآنَ مَعَكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضا فِي مَوضِع آخر، وَالتِّرْمِذِيّ من
حدث أَبِي عِوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ
بِهِ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ
انْهَزَمُوا عَنْهُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمُنَقَّى دُونَ
الْأَعْوَصِ، وَفَرَّ عُثْمَانُ بن عَفَّان وَسعد بن عُثْمَان رجل مِنَ
الْأَنْصَارِ حَتَّى بَلَغُوا الْجَلَعْبَ، جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الْأَعْوَصِ، فَأَقَامُوا ثَلَاثًا ثُمَّ
رَجَعُوا، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً.
* * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُحُدًا وَقَعَ فِيهَا أَشْيَاءُ مِمَّا وَقَعَ
فِي بَدْرٍ، مِنْهَا: حُصُولُ النُّعَاسِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ،
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بِنَصْرِ اللَّهِ
وَتَأْيِيدِهِ وَتَمَامِ تَوَكُّلِهَا عَلَى خَالِقِهَا وَبَارِئِهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ:
" إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة مِنْهُ " الْآيَة وَقَالَ
هَاهُنَا: " ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغم أَمَنَة نعاسا
يغشى طَائِفَة مِنْكُم " يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلَ كَمَا قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: النُّعَاسُ فِي الْحَرْبِ مِنَ
الْإِيمَانِ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ النِّفَاقِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: " وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ " الْآيَة.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَنْصَرَ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا اسْتَنْصَرَ يَوْمَ بِدْرٍ بِقَوْلِهِ: "
إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ ".
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ وَعَفَّانُ
قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ
أُحُدٍ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ فِي الارض ".
__________
(1) يُرِيد: اذْهَبْ بِهَذِهِ الاجوبة الَّتِى أَجَبْتُك بهَا.
(*)
(3/55)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ
الشَّاعِرِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ: " أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: فِي
الْجَنَّةِ، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ
".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ بِهِ.
وَهَذَا شَبِيهٌ بِقِصَّةِ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ
فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
(3/56)
فَصْلٌ فِيمَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبَّحَهُمُ
اللَّهُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: مَا أَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِرَاحِ يَوْمَ أُحُدٍ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بن نصر، حَدثنَا عبد الرَّزَّاق، عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ
فَعَلُوًا بِنَبِيِّهِ - يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ - اشْتَدَّ غَضَبُ
اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ
بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا
ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ على قوم دموا وَجه رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ
وَهُوَ يَقُولُ: " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا
رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى الله " فَأنْزل الله: " لَيْسَ لَك من
الامر شئ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
بِهِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ،
عَنْ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسرت رباعيته وشج فِي وَجهه حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى
وَجْهِهِ فَقَالَ: " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ
وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "
لَيْسَ لَكَ من الامر شئ ".
(3/57)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ
سَهْلَ بْنَ
سَعْدٍ وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ جُرْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ
جُرْحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ
يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَا دُووِيَ، قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُهُ وَعَلَيٌّ
يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ
لَا يُزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ
فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ، وَكُسِرَتْ
رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَجُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى
رَأْسِهِ.
* * * وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا
ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ أَبُو بكر إِذْ ذكر يَوْم أحد
قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ! ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ:
كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أحد، فَرَأَيْت رجلا يُقَاتل فِي سَبِيل
الله دونه، وَأرَاهُ قَالَ: حمية، قَالَ: فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ، حَيْثُ
فَاتَنِي مَا فَاتَنِي، فَقُلْتُ: يَكُونُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي أَحَبَّ
إِلَى، وبيني وَبَين الْمُشْركين رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَنَا أَقْرَبُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَهُوَ
يَخْطِفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لَا أَخْطِفُهُ، فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ الْجِرَاحِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ،
وَقَدْ دَخَلَ فِي وجنته حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيْكُمَا
صَاحَبَكُمَا " يُرِيدُ طَلْحَةَ.
وَقَدْ نَزَفَ، فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ.
قَالَ: وَذَهَبَتْ لِأَنْزِعَ ذَاكَ مِنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أقسم عَلَيْك
بحقى لما تَرَكتنِي، فتركته فكره تنَاولهَا بِيَدِهِ فَيُؤْذَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فأزم عَلَيْهَا بِفِيهِ،
فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ مَعَ
الْحَلْقَةِ، وَذَهَبْتُ لِأَصْنَعَ مَا صَنَعَ فَقَالَ: أَقْسَمْتُ
عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي.
قَالَ: فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَوَقَعَتْ
ثَنِيَّتُهُ الْأُخْرَى مَعَ الْحَلْقَةِ،
(3/58)
فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ هَتْمًا!
فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِفَارِ فَإِذَا
بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ،
وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.
* * * وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَة، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ
نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلَى النَّبْلِ تَأْتِي مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَهَا
كُلُّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عبد الله بن شهَاب
الزُّهْرِيّ يَوْمئِذٍ يَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ لَا نَجَوْتُ
إِنْ نَجَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
جَنْبِهِ مَا مَعَه أحد، فجاوزه، فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ
أُمَيَّةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّهُ
مِنَّا مَمْنُوعٌ، خَرَجْنَا أَرْبَعَةٌ فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا
عَلَى قَتْلِهِ فَلم نخلص إِلَيْهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: ثَبت عِنْدِي أَنَّ الَّذِي رَمَى فِي وَجْنَتَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ قَمِئَةَ،
وَالَّذِي رَمَى فِي شَفَتِهِ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوُ هَذَا، وَأَنَّ
الرَبَاعِيَةَ الَّتِي كُسِرَتْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام هِيَ الْيُمْنَى
السُّفْلَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَمَّنْ
حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: مَا حَرَصْتُ عَلَى
قَتْلِ أَحَدٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا علمت لسيئ الْخُلُقِ مُبَغَّضًا فِي قَوْمِهِ،
وَلَقَدْ كَفَانِي فِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِهِ
".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُثْمَان الحروري، عَن مقسم،
(3/59)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا على عتبَة بن أَبى وَقاص حِينَ كَسَرَ
رَبَاعِيَتَهُ وَدَمَّى
وَجْهَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ لَا يحول عَلَيْهِ الْحَوْلَ حَتَّى
يَمُوتَ كَافِرًا ".
فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْحسن، حَدَّثَنى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بن حَرْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاوَى وَجْهَهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِعَظْمٍ بَالٍ.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَأَيْتُهُ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْمَغَازِي
لِلْأُمَوِيِّ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ.
* * * وَلَمَّا نَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَمِئَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَالَ، رَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ:
قَتَلْتُ مُحَمَّدًا.
وَصَرَخَ الشَّيْطَانُ أَزَبُّ الْعَقَبَةِ يَوْمَئِذٍ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ:
أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ.
فَحَصَلَ بَهْتَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ ذَلِكَ، وَصَمَّمُوا عَلَى الْقِتَالِ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ
حَتَّى يَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ
سَيَأْتِي ذِكْرُهُ.
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى التَّسْلِيَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى
تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلًا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا، وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا، وسنجزي الشَّاكِرِينَ.
وكأى مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
(3/60)
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ.
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ
وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمين " (1) .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ خَطَبَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ
قَامَهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ
حَيٌّ لَا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ على أعقابكم " الْآيَةَ.
قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَا مِنَ
النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي
دَمِهِ.
فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ، أَشْعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ،
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ فَقَاتِلُوا عَنْ
دِينِكُمْ! فَنَزَلَ: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ " الْآيَةَ.
وَلَعَلَّ هَذَا الْأَنْصَارِيَّ هُوَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ
أَنَسٍ، أَنَّ عَمَّهُ غَابَ عَنْ قِتَالِ بِدْرٍ، فَقَالَ غِبْتُ عَنْ
أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
للْمُشْرِكين، لَئِن الله أشهدني قِتَالًا لِلْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ مَا
أَصْنَعُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أعْتَذر إِلَيْك عَمَّا صنع
__________
(1) سُورَة آل عمرَان.
(*)
(3/61)
هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَصْحَابَهُ،
وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ،
ثُمَّ تَقَدَّمَ
فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ دُونَ أُحُدٍ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا
مَعَكَ.
قَالَ سَعْدٌ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَصْنَعُ مَا صَنَعَ.
فَوُجِدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ، مِنْ بَين ضَرْبَة بِسيف وطعنة
بِرُمْح ورمية بِسَهْم.
قَالَ: فَكُنَّا نَقُولُ: فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ: " فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَن
إِسْحَاق بن رَاهْوَيْهِ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
قُلْتُ: بَلْ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، وَحَدَّثَنَا هَاشِمٌ، قَالَا:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ
أَنَسٌ: عَمِّي.
قَالَ هَاشِمٌ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ.
سُمِّيتُ بِهِ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بِدْرٍ.
قَالَ: فَشَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم غبت عَنهُ، وَلَئِن أَرَانِي
اللَّهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ.
قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا.
فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ:
يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ
أُحُدٍ.
قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ
وَثَمَانُونَ مِنْ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.
قَالَ: فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا
عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ.
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بدلُوا تبديلا ".
قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابه.
(3/62)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
حَاتِمٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ.
وَزَادَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَخُو بَنِي جُمَحَ قَدْ حَلَفَ وَهُوَ بِمَكَّةَ
لِيَقْتُلْنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا بَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَلْفَتُهُ قَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَ أُبَيٌّ فِي الْحَدِيدِ مُقَنَّعًا
وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ.
فَحَمَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ
قَتْلَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ
الدَّارِ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنَفْسِهِ، فَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ
فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ والبيضة فطعنه فِيهَا بالحربة
فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ
دَمٌ.
فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ فَاحْتَمَلُوهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ
فَقَالُوا لَهُ: مَا أَجْزَعَكَ! إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ.
فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَا أَقْتُلُ أُبَيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ
كَانَ هَذَا الَّذِي بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ.
فَمَاتَ إِلَى النَّارِ، فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ! وَقَدْ رَوَاهُ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَسْنَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ، أدْركهُ أَبى ابْن خَلَفٍ وَهُوَ
يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ.
فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْطِفُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعوه.
(3/63)
فَلَمَّا دنا مِنْهُ: تَنَاوَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ
بْنِ الصِّمَّةِ،
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَلَمَّا أَخَذَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتفض انْتِفَاضَةً
تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشَّعْرِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِذَا
انْتَفَضَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ
فَرَسِهِ مِرَارًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ عَنْ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، عَن عَاصِم بن عمر ابْن قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ.
نَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَاتَ أُبَيُّ بْنُ
خَلَفٍ بِبَطْنِ رَابِغٍ، فَإِنِّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بعد هوى من
اللَّيْل إِذا أَنا بِنَار تأججت، فهبتها وَإِذا بِرَجُل يخرج مِنْهَا
بسلسلة يجذبها يُهَيِّجُهُ الْعَطَشُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: لَا
تَسْقِهِ، فَإِنَّهُ قَتِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، هَذَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اشْتَدَّ
غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ طَرِيقِ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " اشْتَدَّ غَضَبُ
اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ رَسُولُ لله بِيَدِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ،
عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: لِمَّا قُتِلَ أَبِي
جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنَنِي وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَبْكِهِ أَوْ مَا تَبْكِيهِ، مَا
زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ ".
(3/64)
هَكَذَا ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ هَاهُنَا
مُعَلَّقًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ فِي الْجَنَائِزِ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ
غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَن سعد ابْن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ
بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ
خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رجلاء،
وَإِنْ غُطِّي رِجْلَاهُ بَدَا رَأَسُهُ، وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ
حَمْزَةُ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا
بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا.
وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا.
ثُمَّ جَعَلَ يبكى حَتَّى برد الطَّعَامَ.
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ
الْأَرَتِّ، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ،
فَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا،
كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ
يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً (1) ، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ
خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ،
فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطُّوا
بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلِهِ الْإِذْخِرَ.
وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا (2) .
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ،
عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْركُونَ،
فَصَرَخَ إِبْلِيس لعنة الله
__________
(1) النمرة: بردة من صوف.
(2) يهدبها: يجتنيها.
(5 - السِّيرَة - 3) (*)
(3/65)
عَلَيْهِ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ (1)
أُخْرَاكُمْ.
فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَبَصُرَ
حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ
اللَّهِ أَبِي أَبِي! قَالَ: قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى
قَتَلُوهُ.
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ.
قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ فِي حُذَيْفَةَ بَقِيَّةُ خير (2)
حَتَّى لقى الله عزوجل.
قُلْتُ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمَانَ وَثَابِتَ بْنَ وَقْشٍ
كَانَا فِي الْآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ لِكِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا،
فَقَالَا: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ آجالنا إلاظمء (3) حِمَارٍ.
فَنَزَلَا لِيَحْضُرَا الْحَرْبَ فَجَاءَ طَرِيقُهُمَا نَاحِيَةَ
الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا ثَابِتٌ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا
الْيَمَانُ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً.
وَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَةِ أَبِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يُعَاتِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ، لِظُهُورِ الْعذر فِي ذَلِك.
* * * فصل قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ
بْنِ النُّعْمَانِ حَتَّى سَقَطَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ
عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ
النُّعْمَانِ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَالَتْ عَلَى
خَدِّهِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَانَهَا، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا، وَكَانَتْ لَا
تَرْمِدُ إِذَا رَمَدَتِ الْأُخْرَى.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَخِيهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: أُصِيبَتْ
عَيْنَايَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَتَا عَلَى وَجْنَتِي، فَأَتَيْتُ بِهِمَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعادهما مكانهما وبصق
فيهمَا فعادتا تبرقان.
__________
(1) يُرِيد الْمُسلمين، أَي احترزوا من الَّذين وراءكم متأخرين عَنْكُم،
ليقْتل بعض الْمُسلمين بَعْضًا.
(2) وَقيل: بَقِيَّة حزن.
القسطلانى 6 / 300 (3) الظمء: مَا بَين الشربتين والوردين، وَالْمرَاد: مَا
بقى إِلَّا يسير، لانه لَيْسَ شئ أقصر ظمأ مِنْهُ.
(*)
(3/66)
وَالْمَشْهُور الاول، أَنه أُصِيبَت
عَيْنُهُ الْوَاحِدَةُ، وَلِهَذَا لَمَّا وَفَدَ وَلَدُهُ عَلَى عُمَرَ
بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ مُرْتَجِلًا:
أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ * فَرُدَّتْ بِكَفِّ
الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِّ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لِأَوَّلِ
أَمْرِهَا * فيا حسنها عينا وَيَا حَسَنَ مَا خَدِّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
عبد الْعَزِيز عِنْد ذَلِك:.
تِلْكَ المكارم لاقعبان مِنْ لَبَنٍ * شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ
أَبْوَالَا! ثُمَّ وَصَلَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
* * * فَصْلٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَاتَلَتْ أُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ
(1) بِنْتُ كَعْبٍ الْمَازِنِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ
بِنْتَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ
عُمَارَةَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا خَالَةُ أَخْبِرِينِي خَبَرَكِ.
فَقَالَتْ: خَرَجْتُ أَوَّلَ النَّهَارِ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ
وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ، وَالدَّوْلَةُ
وَالرِّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَّمَا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْتُ
أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَأَرْمِي عَنِ
الْقَوْسِ، حَتَّى خَلَصَتِ الْجِرَاحُ إِلَيَّ.
قَالَتْ: فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ،
فَقُلْتُ لَهَا: مَنْ أَصَابَكِ بِهَذَا؟ قَالَتْ: ابْنُ قَمِئَةَ
أَقْمَأَهُ اللَّهُ، لَمَّا وَلَّى النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلُ يَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ
لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا.
فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأُنَاسٌ مِمَّنْ ثَبت
__________
(1) نسيبة، بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين الْمُهْملَة، كَمَا ضَبطهَا فِي
الاكمال والتبصير والاصابة وَغَيرهم، وصبطها بِالتَّصْغِيرِ وهم، إِنَّمَا
هَذَا فِي نسيبة أم عَطِيَّة، فنقله فِي أم عمَارَة غلط.
انْظُر شرح الْمَوَاهِب 2 / 41.
(*)
(3/67)
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضَّرْبَةَ، وَلَقَدْ ضَرَبْتُهُ
عَلَى ذَلِكَ ضَرَبَاتٍ،
وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعَانِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَترَّسَ أَبُو دُجَانَةَ دُونَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، يَقَعُ النَّبْلُ فِي
ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ حَتَّى كَثُرَ فِيهِ النَّبْلُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى عَنْ
قَوْسِهِ، حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ
النُّعْمَانِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ رَافِعٍ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ: انْتَهَى
أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فِي رِجَالٍ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ:
فَمَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ! قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى
مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ اسْتقْبل فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبِهِ سُمِّيَ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ.
فَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَقَدْ
وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، فَمَا
عَرَفَهُ إِلَّا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِبَنَانِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُصِيبَ فُوهُ يَوْمَئِذٍ فَهَتِمَ، وَجُرِحَ
عِشْرِينَ جِرَاحَةً أَوْ أَكْثَرَ، أَصَابَهُ بَعْضُهَا فِي رِجْلِهِ
فَعَرَجَ.
* * * فَصْلٌ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَوْلِ
النَّاسِ قُتِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا
ذَكَرَ لِي الزُّهْرِيُّ، كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
(3/68)
قَالَ: رَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تُزْهِرَانِ
مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ أَنْصِتْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَضُوا بِهِ، وَنَهَضَ مَعَهُمْ
نَحْوُ الشِّعْبِ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ
وَرَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُسْنِدَ (1) رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بن
خلف، فَذكر قَتله عَلَيْهِ السَّلَام أُبَيًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَمَا حَدَّثَنِي
صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْفٍ يَلْقَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا
مُحَمَّدُ إِنَّ عِنْدِي العوذ، فَرَسًا، أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا
مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ.
فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنَا
أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَّمَا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا
غَيْرَ كَبِيرٍ فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، فَقَالَ: قَتَلَنِي وَاللَّهِ
مُحَمَّدٌ.
فَقَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ! وَاللَّهِ إِنَّ بِكَ بَأْسٌ.
قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ: أَنَا أَقْتُلُكَ.
فَوَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي! فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ
بِسَرِفٍ (2) ، وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ: لَقَدْ
وَرِثَ الضَّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ * أُبَيٌّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرَّسُولُ
أَتَيْتَ إِلَيْهِ تَحْمِلُ رِمَّ عَظْمٍ * وَتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ
جَهُولُ وَقَدْ قَتَلَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنْكُمْ * أُمَيَّةَ إِذْ
يَغُوث: يَا عقيل
__________
(1) أسْند: صعد.
أَي اسْتندَ إِلَى جَانب من الْجَبَل.
(2) سرف: مَوضِع على سِتَّة أَمْيَال من مَكَّة.
(*)
(3/69)
وَتَبَّ ابْنَا رَبِيعَةَ إِذْ أَطَاعَا *
أَبَا جَهْلٍ لِأُمِّهِمَا الْهَبُولُ وَأَفْلَتَ حَارِثٌ لَمَّا شُغِلْنَا
* بِأَسْرِ الْقَوْمِ، أُسْرَتُهُ فَلِيلُ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي
أُبَيًّا * فَقَدْ (1) أُلْقِيتَ فِي سُحُقِ السَّعِيرِ تَمَنَّى
بِالضَّلَالَةِ مِنْ بَعِيدٍ * وَتُقْسِمُ إِنْ قَدَرْتَ مَعَ النُّذُورِ
تَمَنِّيكَ الْأَمَانِي مِنْ بَعِيدٍ * وَقَوْلُ الْكُفْرِ يَرْجِعُ فِي
غُرُورِ فَقَدْ لَاقَتْكَ طَعْنَةُ ذِي حِفَاظٍ * كَرِيمِ الْبَيْتِ لَيْسَ
بِذِي فُجُورِ لَهُ فَضْلٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ طُرًّا * إِذَا نَابَتْ
مُلِمَّاتُ الْأُمُورِ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْتَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ
خَرَجَ على ابْن أَبِي طَالِبٍ حَتَّى مَلَأَ دَرَقَتَهُ مَاءً مِنَ
الْمِهْرَاسِ (2) ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا فَعَافَهُ
وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ وَصَبَّ عَلَى
رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى
وَجْهَ نَبِيَّهُ ".
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِمَا
فِيهِ الْكِفَايَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ مَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ
عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا.
فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ مِنَ الْجَبَلِ، ونهض
__________
(1) ابْن هِشَام: لقد.
(2) الدرقة: الحجفة، وهى ترس من جلد، والمهراس: مَاء بِأحد.
(*)
(3/70)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى صَخْرَةٍ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْلُوَهَا وَقَدْ كَانَ
بَدَّنَ (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرَ
بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ
تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا.
فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ، بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: " أَوْجَبَ طَلْحَةُ (2) " حِينَ صَنَعَ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذَ مَا
صَنَعَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ عُمَرُ مولى عفرَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظَّهْرَ يَوْمَ أُحُدٍ
قَاعِدًا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ
خَلْفَهُ قُعُودًا.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَة قَالَ: كَانَ فِينَا رجل أ؟ ؟ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ يُقَالُ لَهُ
قُزْمَانُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: إِذا ذكر: " إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ".
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد قَاتل قتالا شَدِيدا، فَقتل هُوَ وَحْدَهُ
ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَا بَأْس،
فأثبنته الْجِرَاحَةُ، فَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ.
قَالَ: فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُ: وَاللَّهِ
لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ فَأَبْشِرْ.
قَالَ: بِمَاذَا أُبْشِرُ! فَوَاللَّهِ إِنْ قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ
أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ! قَالَ: فَلَمَّا
اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَتَلَ
بِهِ نَفْسَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ قِصَّةِ هَذَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْبَر فَقَالَ لرجل
__________
(1) بدن: ثقل من السن.
(2) يعْنى: أحدث شَيْئا يسْتَوْجب بِهِ الْجنَّة.
(*)
(3/71)
مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: " هَذَا
مِنْ أَهْلِ النَّارِ ".
فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِلَى النَّارِ
".
فَكَادَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ
قِيلَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ بِهِ جِرَاحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَمَّا
كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ
فَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ
".
ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: " أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةُ، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا
الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ! ".
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ
مُخَيْرِيقُ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيَوْنَ فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللَّهِ لَقَدْ
عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ.
قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ.
قَالَ: لَا سَبْتَ لَكُمْ.
فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي
لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ.
ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
بَلَغَنَا: " مُخَيْرِيقُ خَيْرُ يَهُودَ ".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْوَالَ مُخَيْرِيقَ، وَكَانَتْ سَبْعَ حَوَائِطَ، أَوْقَافًا
بِالْمَدِينَةِ لله.
(3/72)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ:
وَكَانَتْ أَوَّلَ وَقْفٍ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ
الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ.
فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ:
أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ.
قَالَ الْحُصَيْنُ: فَقلت لمحمود بن أَسد: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ
الْأُصَيْرِمِ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَدَا لَهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَخَذَ
سَيْفَهُ فَغَدَا حَتَّى دَخَلَ فِي عَرْضِ النَّاسِ، فَقَاتَلَ حَتَّى
أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا رِجَالٌ مِنْ بَنِي عبد الاشهل يَلْتَمِسُونَ
قَتْلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ إِذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ
إِنَّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ مَا جَاءَ بِهِ؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ
لِمُنْكِرٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ.
فَسَأَلُوهُ فَقَالُوا: [مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو] (1) أَحَدَبٌ عَلَى
قَوْمِكَ أَمْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: بَلْ رَغْبَةٌ فِي
الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ
أَخَذْتُ سَيْفِي وَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي.
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي
سَلَمَةَ، قَالُوا: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَجُلًا أَعْرَجَ
شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ مِثْلُ الْأُسْدِ
يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ وَقَالُوا:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ.
فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ
بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَن يحبسونى عَن هَذَا
__________
(1) من ابْن هِشَام.
(*)
(3/73)
الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَكَ فِيهِ،
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَن أَطَأ بعرجتي هَذِه الْجَنَّةِ! فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا أَنْتَ
فَقَدَ عَذَرَكَ اللَّهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْكَ " وَقَالَ لِبَنِيهِ: "
مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ
الشَّهَادَةَ ".
فَخَرَجَ مَعَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - كَمَا
حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ - وَالنِّسْوَةُ اللَّائِي مَعَهَا
يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم، يجد عَن الْآذَانَ وَالْأُنُوفَ، حَتَّى اتَّخَذَتْ هِنْدُ
مِنْ آذَانِ الرِّجَالِ وَأُنُوفِهِمْ خَدَمًا (1) وَقَلَائِدَ، وَأَعْطَتْ
خَدَمَهَا وَقَلَائِدَهَا وقرطها وَحْشِيًّا.
وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ
تُسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عقبَة أَن الذى بقر عَن كَبِدَ حَمْزَةَ وَحْشِيٌّ،
فَحَمَلَهَا إِلَى هِنْدٍ فَلَاكَتْهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ فَصَرَخَتْ
بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ: نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ *
وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ (2) مَا كَانَ لِي عَنْ
عُتْبَةَ مِنْ صَبْرِ * وَلَا أخى وَعَمه وَبكر شَفَيْتُ نَفْسِي
وَقَضَيْتُ نَذْرِي * شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي فَشُكْرُ
وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي * حَتَّى تَرِمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي قَالَ:
فَأَجَابَتْهَا هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ
فَقَالَتْ: خَزِيتِ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرِ * يَا بِنْتَ وَقَّاعٍ
عَظِيم الْكفْر صبحك الله غَدَاة الْفجْر * م الهاشميين الطوَال الزهر
__________
(1) الخدم: الخلاخيل.
(2) السّعر بِضَمَّتَيْنِ: الشدَّة وَالْقَرْمُ.
(*)
(3/74)
بِكُلِّ قَطَّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي *
حَمْزَةُ لَيْثِي وَعَلَيٌّ صَقْرِي إِذْ رَامَ شَيْبٌ وَأَبُوكِ غَدْرِي *
فَخَضَّبَا مِنْهُ ضَوَاحِيَ النَّحْرِ وَنَذْرُكِ السُّوءُ فَشَرُّ نَذْرِ
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ الْحُلَيْس بن زيان أَخُو بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ - مَرَّ
بِأَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ بِزُجِّ الرُّمْحِ وَيَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ! فَقَالَ
الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يَصْنَعُ
بِابْنِ عَمِّهِ مَا تَرَوْنَ لَحْمًا! فَقَالَ: وَيْحَكَ اكْتُمْهَا
عَنِّي فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ حِينَ أَرَادَ
الِانْصِرَافَ أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
أَنْعَمَتْ (1) [فَعَالِ] (2) إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، يَوْمٌ بِيَوْم
بدر، اعْل هُبل أَي ظهر دِينَكَ (3) .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: "
قُمْ يَا عُمَرُ فَأَجِبْهُ فَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، لَا
سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ ".
فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا عُمَرَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ:
ائْتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ.
فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُمَرُ،
أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ عُمُرُ: اللَّهُمَّ لَا، وَإِنَّهُ
لِيُسْمَعُ كَلَامَكَ الْآنَ.
قَالَ: أَنْتَ عِنْدِي أَصْدَقُ مِنَ ابْنِ قمئة وَأبر.
__________
(1) أَنْعَمت: بِفَتْح التَّاء: خطاب لنَفسِهِ.
وبسكونها يُرِيد: الْحَرْب أَو الْوَاقِعَة أَو الازلام: " أجابت بنعم "
(2) من ابْن هِشَام.
وفعال: اسْم للْفِعْل الْحسن.
وَقَالَ السُّهيْلي: فعال: أَمر، أَي عَال عَنْهَا وأقصر عَن لومها، تَقول
الْعَرَب: اعْل عَنى وعال، بِمَعْنى ارْتَفع عَنى وَدعنِي.
(3) ابْن هِشَام: أَي: أظهر دينك.
(*)
(3/75)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ نَادَى أَبُو
سُفْيَانَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ مَثْلٌ (1) وَاللَّهِ مَا
رَضِيتُ وَمَا سَخِطْتُ، وَمَا نَهَيْتُ وَلَا أَمَرْتُ.
قَالَ: وَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ نَادَى: إِن مَوْعدكُمْ بدر
الْعَام الْمقبل.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ: قُلْ: نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: اخْرُجْ فِي
آثَارِ الْقَوْم وَانْظُر مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ، فَإِنْ
كَانُوا قَدْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطُوا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ
يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَهُمْ
يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ
فِيهَا ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ،
فَجَنَّبُوا الْخَيْلَ وامتطوا الابل ووجهوا إِلَى مَكَّة.
*
__________
(1) الْمثل: كالمثلة، التنكيل بالقتلى.
(*)
(3/76)
|