الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ
فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبٌّ أَوْ نقص مِنْ
تَعْرِيضٍ أَوْ نَصٍّ
وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ
(2/472)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْحُكْمُ
الشَّرْعِيُّ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْ تَنَقَّصَهُ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ سَبَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَابَهُ أَوْ أَلْحَقَ
بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ، أَوْ دِينِهِ أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ
خِصَالِهِ أَوْ عَرَّضَ بِهِ أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ
السَّبِّ لَهُ أَوِ الْإِزْرَاءِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ،
أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ وَالْعَيْبِ لَهُ فَهُوَ سَابٌّ لَهُ.
وَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ السَّابِّ يُقْتَلُ كَمَا نُبَيِّنُهُ. وَلَا
نَسْتَثْنِي فَصْلًا مِنْ فُصُولِ هَذَا الْبَابِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ،
وَلَا نَمْتَرِي «1» فِيهِ تَصْرِيحًا كَانَ أَوْ تَلْوِيحًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً
لَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ
الذَّمِّ، أَوْ عَبَثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنَ
الْكَلَامِ، وَهَجْرٍ «2» ومنكر من القول وزور. أو
__________
(1) نمتري: نشك ونتردد
(2) هجر: بضم الهاء وفتحها وهو الفحش والقبح.
(2/473)
عَيَّرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنَ
الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَصَهُ «1» بِبَعْضِ
الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ،
وَهَذَا كُلُّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ
لَدُنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم إلى هلم «2» جرا
قال أَبُو بَكْرِ «3» بْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ عَوَامُّ «4» أَهْلِ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُقْتُلُ.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: «مَالِكُ «5» بْنُ أَنَسٍ، وَاللَّيْثُ «6»
وَأَحْمَدُ «7» وَإِسْحَاقُ «8» وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ» «9» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ «10» : «وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي
بَكْرٍ «11» الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه ولا تقبل توبته عند هؤلاء» .
__________
(1) غمصه: بغين معجمة وميم وصاد مهملة أي نقص من قدره صلّى الله عليه وسلم
(2) وفي نسخة (وهلم جرا) وهو من الجر بمعنى السحب والمعنى استمر الاجماع
واتصل من عصرهم الى الان وكذا الى ما بعده من الزمان وانتصب حرا على المصدر
او الحال او التمييز.
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «143» رقم «3» .
(4) عوام: وهو جمع عامة بمعنى جماعة كثيرة.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «102» رقم «5» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «165» رقم «1» .
(8) اسحق بن راهوية بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي أبو يعقوب عالم خراسان
في عصره من سكان (مرو) قاعدة خراسان أحد كبار الحفاظ طاف في البلاد لجمع
الحديث وأخذ عنه الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم
استوطن بنيسابور ومات بها (238) هـ.
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «155» رقم «8» .
(10) المصنف وترجمته في المقدمة.
(11) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «156» رقم «6» .
(2/474)
وَبِمِثْلِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ «1»
وَأَصْحَابُهُ «2» وَالثَّوْرِيُّ «3» وَأَهْلُ الْكُوفَةِ
وَالْأَوْزَاعِيُّ «4» فِي الْمُسْلِمِينَ «5» لَكِنَّهُمْ قَالُوا هِيَ
ردة «6» .
وروى مِثْلَهُ الْوَلِيدُ «7» بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ «8»
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ «9» مِثْلَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
فِيمَنْ تنقصه صلّى الله عليه وسلم أو برىء مِنْهُ أَوْ كَذَّبَهُ.
وَقَالَ سُحْنُونٌ «10» فِيمَنْ سَبَّهُ: «ذَلِكَ رِدَّةٌ كَالزَّنْدَقَةِ
وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اسْتِتَابَتِهِ وَتَكْفِيرِهِ، وَهَلْ
قَتْلُهُ حَدٌّ أَوْ كُفْرٌ. كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِبَاحَةِ دَمِهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ
الْأَمْصَارِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَتْلِهِ وتكفيره.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «499» رقم «6» .
(2) أي محمد، وأبو يوسف، وزفر.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «186» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «111» رقم «6» .
(5) وفي نسخة (في المسلم) .
(6) ونقل هذا عن عمر.
(7) الوليد بن مسلم: أبو العباس الدمشقي مولى بني أمية عالم أهل الشام. ولد
سنة عشر ومائة وتوفي سنة خمس او أربع وتسعين ومائه.
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «2» .
(10) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «3» .
(2/475)
وَأَشَارَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ «1»
وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ «2» عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ إِلَى
الْخِلَافِ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْتَخِفِّ بِهِ وَالْمَعْرُوفُ مَا
قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ «3» بْنُ سُحْنُونٍ: «أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ شَاتِمَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَنَقِّصَ «4» لَهُ
كَافِرٌ، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ
الْقَتْلُ.. وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَعَذَابِهِ كَفَرَ «5» » .
وَاحْتَجَّ إِبْرَاهِيمُ «6» بْنُ حُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ الْفَقِيهُ فِي
مِثْلِ «7» هَذَا بِقَتْلِ خالد «8» بن الوليد مالك «9» بن نويرة بقوله
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَاحِبُكُمْ «10» »
__________
(1) أي من كان على مذهب داود الظاهري الذي يرى وجوب الاخذ بظاهر النص
والحديث من غير تأويل.
(2) ابو محمد علي بن أحمد الفارسي: هو الامام العالم العلامة المتبحر
الحافظ المعروف بابن حزم بن غالب ويتصل نسبه بأبي سفيان بن حرب رضي الله
عنه، فهو فارسي أموي الاصل، قرطبي ظاهري، كتابه في مذهب داود المسمى
(المحلى) كبير. ولد بقرطبة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.. وقيل: لسان ابن
حزم وسيف الحجاج شقيقان.. لانه كان كثير الطعن في الفقهاء وغيرهم.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «609» رقم «10» .
(4) لو عطف بالواو كان أحسن.
(5) وهذا فيه خلاف.
(6) ابراهيم بن خالد الفقيه البغدادي روى عن ابن عينية وأبي معاوية ووكيع
والشافعي وصحبه ووى عنه أبو داود وابن ماجة ومسلم خارج الصحيح قال النسائي
ثقة مأمون مات سنة (240) .
(7) وفي نسخة (على مثل هذا) .
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «637» رقم «9» .
(9) مالك بن نويرة: وهو التميمي اليربوعي كان فارسا شاعرا مطاعا في قومه.
قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم وأسلم واستعمله عليه الصلاة والسلام على
صدقات قومه بني يربوع. ونويرة تصغير نار أو نورة وقتله خالد بن الوليد في
حروب الردة لانكاره الزكاة.
(10) ولكن عمل خالد هذا لا دليل فيه لمثل هذا الامر.. لان عمله أثار بعض
الصحابة ويحتاج الى تأويل.
(2/476)
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ «1»
الْخَطَّابِيُّ: «لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ فِي
وُجُوبِ قَتْلِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا» .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ «2» عَنْ مَالِكٍ «3» فِي كِتَابِ ابْنِ
سُحْنُونٍ «4» وَالْمَبْسُوطِ وَالْعُتْبِيَّةِ وَحَكَاهُ ابن مُطَرِّفٌ
«5» عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ «6» : «مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ وَلَمْ
يُسْتَتَبْ» .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ «7» : «مَنْ سَبَّهُ أَوْ
شَتَمَهُ، أَوْ عَابَهُ أَوْ تَنَقَّصَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَحُكْمُهُ
عِنْدَ الْأُمَّةِ الْقَتْلُ كَالزِّنْدِيقِ وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تعالى
توقيره وبره» .
وفي المبسوطة «8» عَنْ عُثْمَانَ «9» بْنِ كِنَانَةَ: «مَنْ شَتَمَ
النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم من
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «64» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم (7) .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «609» رقم «10» .
(5) عبد الله بن مطرف: وهو ابن أخت الامام مالك كما قدمناه. أبو حزه البصري
روى عن أبي برزة الاسلمي وعنه حميد بن هلال مات قبل مطرف ومات مطرف سنة 78
هـ.
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «1» .
(7) العتبية: اسم كتاب منسوب لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة الاموي
القرطبي الفقيه أحد أعلام أئمة الاندلس.
(8) وفي نسخة: (المبسوط) .
(9) عثمان بن كنانة: هو ابو عمر اسم رجل من أئمة المالكية له كتاب اسمه
المبسوطة لم يشتهر توفي سنة ست وثمانين ومائة بعد مالك بسنتين.
(2/477)
الْمُسْلِمِينَ، قُتِلَ أَوْ صُلِبَ حَيًّا
وَلَمْ يُسْتَتَبْ، وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي صَلْبِهِ حَيًّا أَوْ
قَتْلِهِ» .
وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْمُصْعَبِ «1» وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ «2»
سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ: «مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَتَمَهُ أَوْ عَابَهُ أَوْ تَنَقَّصَهُ قُتِلَ
مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا وَلَا يُسْتَتَابُ» «3» .
وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ «4» : (أَخْبَرَنَا أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنَّهُ
قَالَ: «مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ وَلَمْ
يُسْتَتَبْ» ) .
وَقَالَ أَصْبَغ «5» : «يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَسَرَّ ذَلِكَ أَوْ
أَظْهَرَهُ وَلَا يُسْتَتَابُ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ «6» بْنُ الْحَكَمِ: «مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ وَلَمْ
يُسْتَتَبْ» . وَحَكَى الطَّبَرِيُّ «7» مِثْلَهُ عَنْ أَشْهَبَ «8» عَنْ
مالك «9» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «99» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «100» رقم «3» .
(3) لا يستتاب بالنسبة للمسلم أما الكافر اذا تاب وتوبته اسلام فتقبل لان
الاسلام يجب ما قبله.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «142» رقم «2» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «5» .
(6) عبد الله بن عبد الحكم: بن أعين الفقيه المصري ثقة يروي عن مالك والليث
وغيرهما. توفي سنة اربع عشر ومائتين.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «2» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (154) رقم (2) .
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (341) رقم (7) .
(2/478)
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ «1» عَنْ مَالِكٍ:
«مَنْ قَالَ إِنَّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيُرْوَى زِرَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسخ أراد به
عَيْبَهُ قُتِلَ» .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: «أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ
دَعَا عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَيْلِ «2» أَوْ بِشَيْءٍ
مِنَ الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ» .
وَأَفْتَى أَبُو الْحَسَنِ «3» الْقَابِسِيُّ: (فِيمَنْ قَالَ فِي
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمَّالُ «4» يَتِيمُ
أَبِي طَالِبٍ» بِالْقَتْلِ) .
وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ «5» بْنُ أَبِي زَيْدٍ: (بِقَتْلِ رَجُلٍ سَمِعَ
قَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةِ
فَقَالَ لَهُمْ:
«تُرِيدُونَ تَعْرِفُونَ صِفَتَهُ؟. هِيَ فِي صِفَةِ هَذَا الْمَارِّ فِي
خَلْقِهِ وَلِحْيَتِهِ» .
قَالَ: «وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَقَدْ كَذَبَ لَعَنَهُ اللَّهُ،
وَلَيْسَ يَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ سَلِيمِ الإيمان» ) .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (332) رقم (1) .
(2) اي قال له ويلا له. والويل الهلاك والبلاء والمصيبة.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (76) رقم (2) .
(4) لانه كان من سنته صلّى الله عليه وسلم انه اذا اشترى شيئا من السوق
حمله بنفسه واذا اراد احدهم حمله عنه قال: (رب المتاع اولى بحمله) .
(5) ابو محمد بن أبي زيد: عبد الله القيرواني المالكي الذي انتهت اليه
رياسة مذهب مالك بالمغرب، ورحل اليه من الاقطار، وكثر الاخذون عنه، وقال
المصنف رحمه الله في حقه انه حاز رياسة الدين والدنيا حتى سمي مالك الاصغر
توفي في نصف شعبان سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
(2/479)
وَقَالَ أَحْمَدُ «1» بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ صَاحِبُ سُحْنُونٍ «2» مَنْ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَسْوَدَ، يُقْتَلُ» .
وَقَالَ فِي رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: «لَا وَحَقِّ رَسُولِ «3» اللَّهِ» ..
فَقَالَ: «فعل الله برسول الله كذا» - وَذَكَرَ كَلَامًا قَبِيحًا- فَقِيلَ
لَهُ:
«مَا تَقُولُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ» ؟. فَقَالَ أَشَدَّ مِنْ كَلَامِهِ
الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ «: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ
الْعَقْرَبَ» «4» فَقَالَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ لِلَّذِي سَأَلَهُ «5» :
«اشْهَدْ عَلَيْهِ وَأَنَا شَرِيكُكَ» - يُرِيدُ فِي قَتْلِهِ وَثَوَابِ
ذَلِكَ-
قَالَ حَبِيبُ «6» بْنُ الرَّبِيعِ لِأَنَّ ادِّعَاءَ التَّأْوِيلِ فِي
لَفْظٍ صُرَاحٍ لَا يُقْبَلُ «7» لِأَنَّهُ امْتِهَانٌ وَهُوَ غَيْرُ
مُعَزِّرٍ «8» لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
مُوَقِّرٍ لَهُ. فَوَجَبَ إِبَاحَةُ دَمِهِ.
وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ «9» بن عتّاب في عشّار «10» قال لرجل:
__________
(1) أحمد بن أبي سليمان: من علماء المالكية المعروفين عندهم.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (153) رقم (3) .
(3) وهو ليس يمينا شرعيا وانما جاء على عرف التخاطب.
(4) وفي نسخة (الصعق) وهي الصاعقة.. وهما مرسلان من الله ومسلطان على الخلق
حسب المفهوم اللغوي.
(5) سأله مستفتيا.
(6) حبيب بن الربيع: ابن يحيى بن حبيب الفروي.
(7) كما لو قال: أنت طالق ثم ادعى انه يقصد انها محلولة غير مربوطة فلا
يلتفت لمثله.
(8) معزر: موقر ومعظم.
(9) ابو عبد الله بن عتاب: من فقهاء المالكية.
(10) العشار: هو الذي يأخذ المكس وهي الضريبة.
(2/480)
أَدِّ وَاشْكُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» ، وَقَالَ إِنْ سَأَلْتُ أَوْ جَهِلْتُ
فَقَدْ جَهِلَ وَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
بِالْقَتْلِ.
وَأَفْتَى فُقَهَاءُ الْأَنْدَلُسِ بِقَتْلِ ابْنِ حَاتِمٍ «2»
الْمُتَفَقِّهِ الطُّلَيْطِلِيِّ وَصَلْبِهِ بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ
مِنَ اسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ أَثْنَاءَ مُنَاظَرَتِهِ بِالْيَتِيمِ «3»
وَخَتَنِ حيذرة «4» ، وَزَعْمِهِ أَنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا،
وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ أَكَلَهَا.. إِلَى أَشْبَاهٍ لِهَذَا.
وَأَفْتَى فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ «5» وَأَصْحَابُ سُحْنُونٍ «6»
بِقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ «7»
__________
(1) لان المتضرر قال له: اشكوك الى النبي صلّى الله عليه وسلم.
(2) ابن حاتم: لم يوقف على ترجمته كما قال الخفاجي.
(3) قالها على وجه الاستخفاف، اما اذا لم تكن على هذا الوجه جاز كقول
البوصيرى رحمه الله:
كفاك بالعلم فى الامي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
واليتيم من الادمي ولد صغير لا أب له، ومن الحيوان ما لا أله، ومن الطير ما
لا أله ولا أب.. وقيل لبعضهم: لم كان صلّى الله عليه وسلم يتيما؟ فقال:
لئلا يكون لمخلوق عليه منة.. وحكمة أخرى وهي ان من شأن اليتيم الذل وقلة
الادب. بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم نشأ يتيما ومع ذلك كان مكملا
بالادب وعزيزا وكما قال أدبني ربي فأحسن تأديبي. ولذا كانت تربيته ربانية
لا بشرية.
(4) ختن حيدرة.. قال الطليطلي انه ختن حيدرة اي أبو زوجته يعني عليا زوج
فاطمة، فصير بهذا استخفافا به، والختن كل قريب لامرأة رجل كأب وأخ. والعامة
تطلقه على زوج البنت وحيدرة معناه الاسد، وهو هنا اسم رجل أندلسي. وهو لقب
علي رضي الله عنه، وكانت أمه سمته أسدا في غيبة ابيه لما ولد. باسم أبيها
لانها فاطمة بنت أسد، فلما قدم أبوه من السفر سماه عليا. ولذا كان يقول رضي
الله عنه أنا الذي سمتني أمي حيدرة.
(5) القيروان: مدينة في تونس وهي معرب كاربان بمعنى القافلة العظيمة.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «188» رقم «1»
(7) ابراهيم الغزاري: نسبة لغزارة قبيلة مشهورة.
(2/481)
الغزاري، وَكَانَ شَاعِرًا مُتَفَنِّنًا
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي
أَبِي الْعَبَّاسِ «1» بْنِ طَالِبٍ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَرُفِعَتْ عَلَيْهِ
أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ
وَأَنْبِيَائِهِ وَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَحْضَرَ لَهُ الْقَاضِي يَحْيَى «2» بْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَطُعِنَ بِالسِّكِّينِ
وَصُلِبَ مُنَكَّسًا، ثُمَّ أُنْزِلَ وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ «3»
وَحَكَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَتْ خَشَبَتُهُ
وَزَالَتْ عَنْهَا الْأَيْدِي اسْتَدَارَتْ وَحَوَّلَتْهُ عَنِ
الْقِبْلَةِ، فَكَانَ آيَةً لِلْجَمِيعِ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَجَاءَ كَلْبٌ
فَوَلَغَ «4» فِي دَمِهِ.
فَقَالَ يَحْيَى «2» بْنُ عُمَرَ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ حَدِيثًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يلغ الكلب في دم مسلم «5» .
قال الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ «6» بْنُ الْمُرَابِطِ: مَنْ قَالَ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي أبو العباس قاض مالكي ولي قضاء
القيروان مرتين وأنكر على ابراهيم بن الاغلب بعض سيرته فعزل وسجن ومات في
السجن سنة 276 هجرية وله تاليف كثيرة.
(2) يحيى بن عمر: قاضي القيروان وعالمها.
(3) وهذا مما أجازه السبكي في كتابه (السيف المسلول على من سب الرسول)
(4) ولغ: الكلب أي لعق بلسانه.
(5) الحديث لا يعرفه الحفاظ فالظاهر أنه لا أصل له لانه لم ينقله الثقات،
ونقل عن ابن حجر أيضا انه قال: لا أصل له.. ونقل المصنف له عن القاضي
المذكور لعدم وقوفه عليه في كلام غيره.
(6) أبو عبد الله بن المرابط: هو ابو مصعب، ويقال المصعب بن محمد بن خلف
ابن سعيد بن وهب، توفي بعد ثمانين وأربع مائة، وهو من أجل أئمة المالكية
بالمغرب.
(2/482)
هُزِمَ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ «1»
وَإِلَّا قُتِلَ لِأَنَّهُ تَنَقُّصٌ، إِذْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ
فِي خَاصَّتِهِ إِذْ هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَقِينٍ مِنْ
عِصْمَتِهِ.
وَقَالَ حَبِيبُ «2» بْنُ رَبِيعٍ الْقَرَوِيُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ «3»
وَأَصْحَابِهِ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا فِيهِ نَقْصٌ قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ «4» .
وَقَالَ ابْنُ «5» عَتَّابٍ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُوجِبَانِ أَنَّ مَنْ
قَصَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَذًى أَوْ نَقْصٍ
مُعَرِّضًا أَوْ مُصَرِّحًا وَإِنْ قَلَّ فَقَتْلُهُ وَاجِبٌ «6»
- فَهَذَا الْبَابُ كُلُّهُ مِمَّا عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ سَبًّا أَوْ
تَنَقُّصًا يَجِبُ قَتْلُ قَائِلِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ
مُتَقَدِّمُهُمْ وَلَا مُتَأَخِّرُهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ
قَتْلِهِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
وَكَذَلِكَ أَقُولُ حُكْمُ مَنْ غَمَصَهُ أَوْ عَيَّرَهُ بِرِعَايَةِ
الْغَنَمِ أَوِ السَّهْوِ أَوِ النِّسْيَانِ أَوِ السِّحْرِ أَوْ مَا
أَصَابَهُ مِنْ جرح «7» أو هزيمة لبعض
__________
(1) وهذا مخالف لمذهبه لانه عندهم يقتل ولا يستتاب، فاما يكون ابن المرابط
خالف مذهبه في هذا أو يقول ان مما ظنه كثير من الناس فان تاب اندرأ عنه
الحد لما فيه من الشبهة، وانه لا تنقيص فيه مع كثرة العدو وقوته.
(2) حبيب بن ربيع القروي: من أئمة مذهب مالك كما تقدم.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (341) رقم (7) .
(4) هذا تعقيب على ابن المرابط
(5) ابن عتاب: من المالكية أيضا.
(6) على كل حاكم رفع أمره اليه.
(7) وفي بعض النسخ (حرج) .
(2/483)
جُيُوشِهِ، أَوْ أَذًى مِنْ عَدُوِّهِ،
أَوْ شِدَّةٍ مِنْ زَمَنِهِ، أَوْ بِالْمَيْلِ إِلَى نِسَائِهِ، فَحُكْمُ
هَذَا كُلِّهِ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ نَقْصَهُ الْقَتْلُ، وَقَدْ مَضَى مِنْ
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ويأتي ما يدل عليه.
(2/484)
|