الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الثالث فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ
قَدْ ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أصحاب الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ.. مِمَّنْ قَالَ قَوْلًا يُؤَدِّيهِ مَسَاقُهُ إِلَى كُفْرٍ هُوَ إِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ لَا يَقُولُ بِمَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُهُ إِلَيْهِ. وَعَلَى اخْتِلَافِهِمُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي ذَلِكَ.
فَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّبَ التَّكْفِيرَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاهُ وَلَمْ يَرَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ سَوَادِ الْمُؤْمِنِينَ «1» ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَقَالُوا هُمْ فُسَّاقٌ عُصَاةٌ ضْلَّالٌ، ونورّثهم من المسلمين وتحكم لهم بأحكامهم.
__________
(1) وفي نسخة (المسلمين) .

(2/593)


وَلِهَذَا قَالَ سُحْنُونٌ «1» : «لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُمْ» . قَالَ- وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِ مَالِكٍ «2» ، الْمُغَيَّرَةِ «3» ، وَابْنِ «4» كِنَانَةَ وَأَشْهَبَ «5» قَالَ: لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَذَنْبُهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ.
وَاضْطَرَبَ آخرون في ذلك ووقفوا عن الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ أَوْ ضِدِّهِ. وَاخْتِلَافُ قَوْلَيْ مَالِكٍ «2» فِي ذَلِكَ وَتَوَقُّفُهُ عَنْ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ مِنْهُ.
وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ «6» إِمَامُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالْحَقِّ وَقَالَ إنها من المعوصات «7» ، إذ القوم لم يصرحوا باسم الكفر، وَإِنَّمَا قَالُوا قَوُلًا يُؤَدِّي إِلَيْهِ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى نَحْوِ اضْطِرَابِ قَوْلِ إِمَامِهِ «8» مَالِكِ «2» بْنِ أَنَسٍ.
حَتَّى قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ إِنَّهُمْ عَلَى رَأْيِ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ لا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «3» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(3) المعيزة: من أصحاب مالك وقد تقدمت ترجمته في ج 2 ص «583» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «572» رقم «3» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «154» رقم «2» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (385) رقم (1) .
(7) المعوصات: بضم الميم وكسر الواو المخففة وصاد مهملة والعويص ما لا يفهم من الشعر وغيره وبصعب استخراجه والمقصود هنا المشكلات الصعبة لقوة الاراء المتعارضة فيها.
(8) وهذا دليل أن أبا بكر الباقلاني مالكي المذهب.

(2/594)


تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا الصَّلَاةُ عَلَى مَيِّتِهِمْ، وَيُخْتَلَفُ فِي مُوَارَثَتِهِمْ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ.
وَقَالَ أَيْضًا: «نُوَرِّثُ مَيِّتَهُمْ وَرَثَتَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نُوَرِّثُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. وَأَكْثَرُ مَيْلِهِ إِلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ.
وَكَذَلِكَ اضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُ شَيْخِهِ أَبِي «1» الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرُ قَوْلِهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ.. وَأَنَّ الْكُفْرَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْجَهْلُ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى.
وَقَالَ مَرَّةً: «مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ، أَوِ الْمَسِيحُ أَوْ بَعْضُ مَنْ يَلْقَاهُ فِي الطُّرُقِ فَلَيْسَ بِعَارِفٍ بِهِ وَهُوَ كَافِرٌ» .
وَلِمِثْلِ هَذَا ذَهَبَ أَبُو «2» الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَجْوِبَتِهِ لِأَبِي «3» مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْحَقِّ وَكَانَ سَأَلَهُ عن المسألة فاعتذر لَهُ بِأَنَّ الْغَلَطَ فِيهَا يَصْعُبُ..
لِأَنَّ إِدْخَالَ كافر في الملة وإخراج مُسْلِمٍ عَنْهَا عَظِيمٌ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: «الَّذِي «4» يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنَ التَّكْفِيرِ فِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ اسْتِبَاحَةَ دِمَاءِ الْمُصَلِّينَ «5» الموحدين خطر..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «381» رقم «7» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «475» رقم «3» .
(3) أبو محمد عبد الحق: قال الحلبي: ليس هو عبد الحق الحافظ الاشبيلي صاحب كتاب الاحكام وغيره لانه من أهل المائة الخامسة وامام الحرمين من أهل الرابعة. وقال التلمساني: هو عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي توفي سنة ست وتسعين واربعمائة.
(4) الذي: اسم موصول مبتدأ خبره الاحتراز، أي القول الذي يجب أن يقال هو الاحتراز من التكفير في أهل التأويل.
(5) وفي نسخة: (المسلمين) .

(2/595)


وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ «1» أَلْفِ كَافِرٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي سَفْكِ مِحْجَمَةٍ «2» مِنْ دَمٍ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : «فَإِذَا قَالُوهَا- يَعْنِي الشَّهَادَةَ «4» - عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ..»
فَالْعِصْمَةُ مَقْطُوعٌ بِهَا مَعَ الشَّهَادَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ وَيُسْتَبَاحُ خِلَافُهَا إِلَّا بِقَاطِعٍ وَلَا قَاطِعَ مِنْ شَرْعٍ وَلَا قِيَاسٍ عَلَيْهِ.. وَأَلْفَاظُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ مُعَرَّضَةٌ لِلتَّأْوِيلِ.. فَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي التَّصْرِيحِ بِكُفْرِ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: «لَا سَهْمَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ» وَتَسْمِيَتُهُ الرَّافِضَةَ بِالشِّرْكِ، وَإِطْلَاقُ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِمْ.. وَكَذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يَقُولُ بِالتَّكْفِيرِ.
وقد يجيب الاخر بأنه قد ورد مثل هذه الألفاظ في الحديث في غير الكفرة على طريق التغليظ «5» .. وَكُفْرٌ «6» دُونَ كُفْرٍ، وَإِشْرَاكٌ دُونَ إِشْرَاكٍ.
وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ فِي الرِّيَاءِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَالزَّوْجِ، والزّور
__________
(1) ترك: فتل
(2) محجمة: بكسر الميم اسم الالة التي يؤخذ فيها دم الحجامة.
(3) في حديث صحيح رواه البخاري وغيره (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) .
(4) مع متعلقاتها من بقية الاركان
(5) أي المبالغة والتشديد في الزجر تخويفا لهم كقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة «من أنى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» .
(6) أي كفر خفي دون كفر جلي.

(2/596)


وَغَيْرِ مَعْصِيَةٍ «1» .. وَإِذَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَلَا يُقْطَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ.
وَقَوْلُهُ «2» فِي الْخَوَارِجِ: «هُمْ مِنْ شَرِّ الْبَرِيَّةِ..» وَهَذِهِ صِفَةُ الْكُفَّارِ «3» وَقَالَ: «شَرُّ قَبِيلٍ «4» تَحْتَ أَدِيمِ «5» السَّمَاءِ، طُوبَى «6» لِمَنْ قَتَلَهُمْ «7» أَوْ قَتَلُوهُ..»
وَقَالَ «8» : «فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ قَتْلَ عَادٍ «9» .» وَظَاهِرُ هَذَا الْكُفْرُ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَشْبِيهِهِمْ بِعَادٍ فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى تَكْفِيرَهُمْ.
فَيَقُولُ لَهُ الْآخَرُ، إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ لِخُرُوجِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَغْيِهِمْ عَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِهِ مِنَ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ «يَقْتُلُونَ أهل الإسلام» .
فقتلهم ههنا حَدٌّ لَا كُفْرٌ.. وَذِكْرُ عَادٍ تَشْبِيهٌ لِلْقَتْلِ وَحِلِّهِ لَا لِلْمَقْتُولِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حُكِمَ بقتله يحكم بكفره، ويعارضه بقول خالد «10»
__________
(1) أي وفي غير معصية أي متفق عليها أي جاء في حق معاص كثيرة وصفها في الحديث بأنها كفر وشرك مع علم كل أحد بأن فاعلها لا يكفر فدل هذا على أن المراد تغليظ زجره لا أنه كفر حقيقة.
(2) من حديث في الصحيحين وغيرهما ورواه أحمد عن عائشة بلفظ (الخوارج شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي) وفي مسلم: «هم أبغض الخلق» .
(3) لقوله تعالى في القرآن سورة البينة (ان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين..) الى قوله (اولئك هم شر البرية) .
(4) قبيل: الجماعة والقبيلة.
(5) الأديم: الجلد والنطع منه وهو تشبيه للسماء بجلد ممدود أي تحت السماء وهو يستعار للارض أيضا.
(6) طوبى: كلمة مدح وقد يراد بها التبشير بالجنة.
(7) وقد قتلهم سيدنا علي كرم الله وجهه يوم النهروان.
(8) في حديث رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري
(9) وفي رواية (ثمود)
(10) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «657» رقم «9» .

(2/597)


فِي الْحَدِيثِ «1» : «دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ «2» يَا رَسُولَ اللَّهِ» فَقَالَ:
«لَعَلَّهُ يُصَلِّي» ..
فَإِنِ احْتَجُّوا
بِقَوْلِهِ صلّى الله عليه وسلم «3» : «يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ «4» .»
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ «5» ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ «6» السَّهْمُ عَلَى «7» فُوقِهِ «8» »
وَبِقَوْلِهِ «9» : «سَبَقَ الْفَرْثَ «10» وَالدَّمَ..» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ.
أَجَابَهُ الْآخَرُونَ: إِنَّ مَعْنَى «لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلَا تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُهُمْ وَلَا تعمل به جوارحهم.
__________
(1) الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي لله عنه في حق رجل أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بأنه سيصدر عنه شيء من أمر الخوارج.
(2) والرجل هو ذو الخويصرة.
(3) في الحديث الذي رواه البخاري في حق الخوارج.
(4) يفسره رواية مسلم (لا يجاوز ايمانهم حلا قيمهم) . فهم مؤمنون باللسان دون القلب.
(5) الرمية: على وزن فعيله بمعنى مفعوله أي ما يرمى من صيد ونحوه. والظاهر أن المراد به القوس أو الوتر وما يرمى به ويفسره ما يعده.
(6) وفي بعض النسخ: (حتى لا يعود) خطأ فاحش.
(7) وفي نسخة (الى) .
(8) فوقه: الفوق هو موضع السهم من الوتر.
(9) في حديث رواه الشيخان.
(10) الفرث: ما في الكرش. يقال فرث كبده أي فتتها وأفرث فلان أصحابه أي أوقعهم في بلية جارية مجرى الفرث يعني أنه لا تعلق لهم بالاسلام ايماء لسرعة خروجهم منه كما أن السم النافذ من حيوان رمي به يخرج قبل ما في باطنه من الفرث والدم فانه يخرج بعده.

(2/598)


وَعَارَضُوهُمْ بِقَوْلِهِ «وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ «1» » وَهَذَا يَقْتَضِي التشكك في حاله.
وإن احتجوا بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ «2» الْخُدْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ..» وَلَمْ يَقُلْ «مِنْ هَذِهِ» وَتَحْرِيرُ أَبِي سَعِيدٍ الرِّوَايَةَ وَإِتْقَانُهُ اللَّفْظَ.
أَجَابَهُمُ الْآخَرُونَ: بِأَنَّ الْعِبَارَةَ «بِفِي» لَا تَقْتَضِي تَصْرِيحًا بِكَوْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأُمَّةِ، بِخِلَافِ لَفْظَةِ «مِنَ» الَّتِي هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ.. مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ «3» وَعَلِيٍّ «4» ، وَأَبِي «5» أُمَامَةَ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الحديث: «يخرج من أمتي» و «سيكون من أمتي» وحروف المعاني مشتركة فلا تقويل عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ بِ «فِي» وَلَا عَلَى إِدْخَالِهِمْ فِيهَا بِ «مِنْ» .
لَكِنَّ أَبَا سَعِيدٍ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَادَ مَا شَاءَ فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ.. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ، وَتَحْقِيقِهِمْ لِلْمَعَانِي،
__________
(1) أي في السهم هل فيه أثر علق به شيء من الفرث والدم أم لا.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «63» رقم «1» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «285» رقم «1» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «54» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «262» رقم (4) .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (63) رقم «1» .

(2/599)


وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَتَحْرِيرِهِمْ لَهَا، وَتَوَقِّيهِمْ فِي الرِّوَايَةِ «1» .
- هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفِرَقِ فِيهَا مَقَالَاتٌ كَثِيرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ سَخِيفَةٌ.
أَقْرَبُهَا قَوْلُ جَهْمٍ «2» ، وَمُحَمَّدِ بْنِ «3» شَبِيبٍ: «إِنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ الْجَهْلُ بِهِ. لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ» «4» .
وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ «5» : «إِنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لِلَّهِ بِخَلْقِهِ وَتَجْوِيرًا «6» لَهُ فِي فِعْلِهِ، وَتَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.. وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: «إِنْ كَانَ مِمَّنْ عَرَّفَ الْأَصْلَ وَبَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَ فِيمَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَفَاسِقٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفِ الأصل فهو مخطىء غير كافر» .
__________
(1) ورواية «من» و «في» كلاهما في الصحيحين.
(2) جهم بن صفوان من المعتزلة.
(3) محمد بن شبيب: وهو من المعتزلة أيضا. وقيل مرجيء قدري.
(4) وهو قول غير صحيح ان حمل على ظاهره. لانه يقتضي أن من عرف الله ووحده وأنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أو أنكر شريعته وكتابه المنزل عليه لا يكفر، فان اراد الجهل بالله وما يستلزمه لم يكن مخالفا لغيره.
(5) أبو الهذيل: بن أحمد بن العلاف شيخ المعتزلة. أخذ عن عثمان بن خالد الطويل وعن واصل بن عطاء رئيس المعتزلة، وهو القائل بفناء مقدورات الله تعالى، وان الجنة والنار يفنيان لانهما حادثان، وما ليس له آخر قديم عنده، كما أن ما ليس له أول قديم أيضا، توفي سنة ست وعشرين ومائتين، وقد أربى على المئة، وهو بصري.
(6) تجويرا: تفعيلا من الجور بجيم وراء مهملة ضد العدل وأصله الميل عن الاستقامة وضمير له لله أي تشبه الله الى الجور في تأويله.

(2/600)


وَذَهَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ «1» بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ إِلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كَانَ عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ، وَفَارَقَ فِي ذَلِكَ فِرَقَ الْأُمَّةِ.. إِذْ أَجْمَعُوا- سِوَاهُ- عَلَى أَنَّ الْحَقَّ في أصول الدين في واحد والمخطىء فِيهِ آثِمٌ عَاصٍ فَاسِقٌ.. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْفِيرِهِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ «2» الْبَاقِلَّانِيُّ مثل قول عبيد «1» الله عن داوود «3» الأصبهاني.
قال: وَحَكَى قَوْمٌ عَنْهُمَا «4» أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ ملتنا، أو من غيرهم.
__________
(1) عبيد الله بن الحسن العنبري: منسوب لبني العنبر قوم من تميم، ويقال لهم في غير النسب بلعنبر. وهو عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن مالك بن الخشخاش. ومالك والخشخاش صحابيان، وللخشخاش رواية دون مالك، وعبد الله فقيه بصري تولى القضاء في البصرة بعد سوار بن عبد الله، وكان عالما ثقة، روى عنه غير واحد، واخرج له مسلم، توفي سنة ثمان وستين ومائه، وكان يرى جواز التقليد في العقائد والعقليات وخالف في ذلك العلماء.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» .
(3) داود الاصبهاني: بن علي بن خلف أبو سليمان الاصفهاني البغدادي وطنا صاحب مذهب الظاهرية ولد سنة مائتين، أو اثنين ومائتين، وتوفي سنة سبعين. وكان اماما جليلا زاهدا ورعا قلد الشافعي رضي الله عنه أولا ثم صار صاحب مذهب مستقل وكان صدرا في عصره حتى رجح على بعض المجتهدين. واختلفوا في أنه هل يعتد بخلافه أم لا على أقوال في الاصول. ومن أجل اتباعه ابن حزم.
(4) أي عن داود والعنبري.

(2/601)


وَقَالَ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ الْجَاحِظُ «1» ، وَثُمَامَةُ «2» ، فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَامَّةِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْبُلْهِ. وَمُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ.. إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الاستدلال «3»
وقد نحا «4» الغزالي «5» قريبا من هذا المنحى في كتاب التفرقة «6»
__________
(1) الجاحظ: عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الكناني الليثي البصري العالم المشهور، صاحب التصانيف الجليلة وجامع العلوم الغريبة وهو معتزلي صاحب مذهب في أصول الدين من أجل تصانيفه كتاب البيان والتبيين وكتاب الحيوان.. لقب بالجاحظ لجحوظ عينيه.. وأصابه في آخر عمره داآن الفالج والنقرس. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة بالبصرة.
(2) ثمامة: بن أشرس بن معن النميري، كان- كما قال الذهبي- من كبار المعتزلة ورؤوس الضلالة وله نوادر وملح، واتصل بالرشيد والمأمون، ومن مذهبه أن المقلدين من أهل الكتاب وعباد الاصنام لا يدخلون النار، وانهم يصيرون ترابا، وان الاطفال كذلك يصيرون، وهو أحد الاقوال العشرة في أطفال المشركين.
(3) وهو قول باطل، لانهم مكلفون عقلا لا سيما من نشأ بدار الاسلام، وعلى كل حال فهم متمكنون من النظر ومعرفة الادلة والتفكر في خلق السماوات والارض. وقد قرع أسماعهم ما تواتر من ارسال الله رسله، وما ظهر من المعجزات الباهرة الظاهرة ظهور الشمس لمن له عينان فأي عذر لهم يدحض حجة الله عليهم؟.
(4) نحا: ذهب واتجه.
(5) الغزالي: الامام العلامة الزاهد العابد أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي صاحب المؤلفات الجليلة الذي كان على كاهله ففه الشافعي. ولد بطوس سنة خمسين واربعمائة واشتغل بها ثم جال في البلاد لاخذ العلم، ودخل بغداد فصار مدرسا بالنظامية، وأقام بدمشق بجامعها بالمنارة الغربية عشر سنين بعد ما أخذ العلم عن امام الحرمين وأخذ عن الشيخ نصر المقدسي بزوايته المعروفة بالغزالية ثم انتقل لمصر والاسكندرية ثم رجع الى بغداد وعقد بها مجلس وعظ، وتوفي يوم الاثين رابع عشر من جمادي الاخرة سنة خمس وخمسمائة عن خمس وخمسين سنة ودفن بطوس.
(6) التفرقة: كتاب أصول له.. وما ذكره المصنف عن الغزالي مردود- كما قال ابن حجر. «وما نسبه المصنف رحمه الله تعالى للغزالي صرح الغزالي في كتابه الاقتصاد بما؟؟؟» .

(2/602)


وَقَائِلُ هَذَا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلَّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ شَكَّ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو «1» بكر.. لأن التوقيف «2» والإجماع اتفقا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمَنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ وَالتَّوْقِيفَ، أَوْ شَكَّ فِيهِ. وَالتَّكْذِيبُ أَوِ الشَّكُّ فِيهِ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ كافر.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» .
(2) أي بالسماع من الله ورسوله.

(2/603)