الشفا بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني

الباب الثاني : في لزوم محبته صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها) الآية، فكفى بهذا حصا وتنبيها ودلالة
وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضا وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم من ضل ولم يهده الله، حدثنا أبو على الغساني الحافظ فيما أجازنيه وهو مما قرأته على غير واحد قال حدثنا سراج بن عبد الله القاضى حدثنا أبو محمد الأصيلي حدثنا المروزى حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يعقوب ابن ابراهيم حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) وعن أبى هريرة رضى الله عنه نحوه وعن أنس عنه صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب
__________
(قوله وعظم) بكسر العين وفتح الظاء المعجمة.

(2/18)


المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم لأنت أحب إلى من كل شئ إلا نفسي التى بين جنبى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) فقال عمر والذى أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلى من نفسي التى بين جنبى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (الآن يا عمر) قال سهل من لم ير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال ويرى نفسه في ملكه صلى الله عليه وسلم لا يذوق حلاوة سنته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من نفسه) الحديث.
فصل في ثواب محبته صلى الله عليه وسلم
حدثنا أبو محمد بن عتاب بقراءتي عليه حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد حدثنا أبو الحسن على بن خلف حدثنا أبو زيد المروزى حدثنا محمد ابن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبدان حدثنا أبى حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبى الجعد عن أنس رضى الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال متى الساعة يا رسول الله ؟ قال:
__________
(قوله أن رجلا) في الدارقطني من حديث ابن مسعود أن هذا السائل هو الأعرابي الذى بال في المسجد، وفى جزء أبى الحميم أنه عمير بن قتادة وفى المعلم الذهبي إنه عمر بن الخطاب.
(*)

(2/19)


ما أعددت لها ؟) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله قال: (أنت مع من أحببت) وعن صفوان ابن قدامة هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فقلت: يا رسول الله ناولنى يدك أبايعك فناولني يده فقلت: يا رسول الله إنى أحبك قال (المرء مع من أحب) وروى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن مسعود وأبو موسى وأنس وعن أبى ذر بمعناه وعن على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين فقال (من أحبنى وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معى في درجتي يوم القيامة) وروى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لأنت أحب إلى من أهلى ومالى وإنى لأذكرك فما أصبر حتى أجئ فأنظر إليك وإنى ذكرت موتى وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبين وإن دخلتها
لا أراك فأنزل الله تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) فدعا به فقرأها عليه * وفى حديث آخر كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطرف فقال (ما بالك ؟) قال بأبى أنت وأمى أتمتع من النظر إليك فإذا كان يوم القيامة رفعك الله
__________
(قوله وروى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأنت أحب إلى من أهلى) قال البغوي في تفسيره: إن الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن النقاش أنها نزلت في عبد الله بن زيد بن عبد ربه.
(*)

(2/20)


بتفضيله فأنزل الله الآية * وفى حديث أنس رضى الله عنه (من أحبنى كان معى في الجنة)
فصل فيما روى عن السلف والأئمة (من محبتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وشوقهم له)
حدثنا القاضى الشهيد حدثنا العذري حدثنا الرازي حدثنا الجلودى حدثنا ابن سفيان حدثنا مسلم حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أشد أمتى لى حبا ناس يكونون بعدى يوم أحدهم لو رأني بأهله وماله) ومثله عن أبى ذر، وتقدم حديث عمر رضى الله عنه وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم لأنت أحب إلى من نفسي وما تقدم عن الصحابة في مثله، وعن عمرو بن العاص رضى الله عنه ما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عبدة بنت خالد بن معدان قالت ما كان خالد يأوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم ويقول هم أصلى وفصلي واليهم يحن قلبى طال شوقي إليهم فعجل رب قبضي إليك حتى يغلبه النوم، وروى عن أبى بكر رضى الله عنه
__________
(قوله هم أصلى وفصلي) في الصحاح قال الكسائي قولهم لا أصل له ولا فصل: الأصل الحسب والفصل اللسان انتهى، وقال ثعلب قولهم لا أصل له ولا فصل: الأصل الوالد والفصل الولد.
(*)

(2/21)


أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم والذى بعثك بالحق لإسلام أبى طالب كان أقر لعيني من إسلامه - يعنى أباه أبا قحافة - وذلك أن إسلام أبى طالب كان أقر لعينك ونحوه عن عمر بن الخطاب قال للعباس رضى الله عنه أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن إسحاق أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا خيرا هو بحمد الله كما تحبين قالت أرنيه حتى أنظر إليه فلما رأته قالت كل مصيبة بعدك جلل، وسئل على بن أبى طالب رضى الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمإ، وعن زيد بن أسلم خرج عمر رضى الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحا في بيت وإذا عجوز تنقش صوفا وتقول: على محمد صلاة الأبرار * صلى عليه الطيبون الأخيار
__________
(قوله يعنى أباه أبا قحافة) هو والد أبى بكر الصديق واسمه عثمان بن عامر أسلم يوم الفتح
وتوفى سنة أربع عشرة بعد وفاة أبى بكر رضى الله عنه وخصه من تركة أبى بكر رضى الله عنه السدس فرده في أولاده وليس لنا والد خليفة تأخرت وفاته عن أبيه الخليفة وورث منه إلا أبو قحافة رضى الله عنه، وفى الصحابة آخر يسمى قحافة وهو ابن عفيف المزني (قوله جلل) بفتح الجيم واللام الأولى أي هين وضعة ويطلق الجلل أيضا ويراد به العظيم فهو من الأضداد (قوله على الظلماء) بالهمزة مع القصر والمد.
(*)

(2/22)


قد كنت قواما بكا بالأسحار * يا ليت شعرى والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيبي الدار تعنى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس عمر رضى الله عنه يبكى وفى الحكاية طول * وروى أن عبد الله بن عمر خدرت رجله فقيل له اذكر أحب الناس إليك يزل عنك فصاح يا محمداه فانتشرت، ولما احتضر بلال رضى الله عنه نادت امرأته: واحزناه فقال واضرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه * ويروى أن امرأة قالت لعائشة رضى الله عنها اكشفي لى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفته لها فبكت حتى ماتت، ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة وإنى جالس في أهلى، فقال أبو سفيان ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا * وعن ابن عباس كانت المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج
__________
(قوله تنفش) بضم الفاء (قوله خدرت) بالخاء المعجمة والدال المهملة المكسورة (قوله ابن الدثنة) بدال مهملة مفتوحة فمثلثة مكسورة وقد تسكن فنون، قال ابن دريد
هو من قولهم دثن الطائر إذ طار حول وكره ولم يسقط عليه (قوله أنشدك الله) أي أسألك بالله، ذكر أبو الفتح اليعمرى في سيرته عن ابن اسحاق كما قال المصنف، وذكر ابن عقبة أن الذى قيل له أتحب هو حبيب بن عدى حين رفع على الخشمة.
(*)

(2/23)


ولا رغبة بأرض عن أرض وما خرجت إلا حبا لله ورسوله، ووقف ابن عمر على ابن الزبير رضى الله عنهما بعد قتله فاستغفر له وقال كنت والله ما علمت صواما قواما تحب الله ورسوله.
فصل في علامة محبته صلى الله عليه وسلم
أعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه وأولها: الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وشاهد هذا قوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله) وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته قال الله تعالى (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وإسخاط العباد في رضى الله تعالى * حدثنا القاضى أبو على الحافظ حدثنا أبو الحسين الصيرفى وأبو الفضل بن خيرون قالا حدثنا أبو يعلى البغدادي حدثنا أبو على السنجى حدثنا محمد ابن محبوب حدثنا أبو عيسى حدثنا مسلم بن حاتم حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب قال أنس بن
__________
(قوله ومنشطه ومكرهه) بفتح أولهما وثالثهما مصدران.
(*)

(2/24)


مالك رضى الله عنه قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا بنى إن قدرت أن تصبح وتمسى ليس في قلبك غش لأحد فافعل) ثم قال لى (يا بنى وذلك من سنتى، ومن أحيا سنتى فقد أحبنى ومن أحبى كان معى في الجنة) فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم للذى حده في الخمر فلعنه بعضهم وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) ومن علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم كثرة ذكره له فمن أحب شيئا أكثر ذكره ومنها كثرة شوقه إلى لقائه فكل حبيب يحب لقاء حبيبه وفى حديث الأشعريين عند قدومهم المدينة أنهم كانوا يرتجزون (غدا نلق الأحبة * محمدا وصحبه) وتقدم قول بلال ومثله قال عمار قبل قتله وما ذكرناه من قصة خالد بن معدان * ومن علاماته مع كثرة
__________
(قوله الذى حده في الخمر) في صحيح البخاري هو عبد الله الملقب بحمار وقال الحافظ الدمياطي في حواشيه على البخاري: هذا وهم واسمه نعيمان تصغير نعمان شهد العقبة مع السبعين وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد وأتى به في شرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلده أربعا أو خمسا فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يجلد فقال عليه السلام لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، وكان صاحب مزاح انتهى (قوله قال عمار قبل قتله) الذى قتل عمارا هو أبو العادية يسار بالمثناة التحتية المفتوحة والسين المهملة ابن سبع، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام وسمع منه (لا ترجعوا بعدى كفارا) الحديث.
وكان إذا استأذن على معاوية يقول: قاتل عمار بالباب.
(*)

(2/25)


ذكره تعظيمه له وتوقيره عند ذكره وإظهار الخشوع والانكسار مع سماع اسمه، قال إسحاق التجيبى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا وكذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له وشوقا إليه، ومنهم من يفعله تهيبا وتوقيرا * ومنها محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن هو بسببه من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار وعداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم فمن أحب شيئا أحب من يحب وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين (اللهم إنى أحبهما فأحبهما) وفى رواية في الحسن (اللهم إنى أحبه فأحب من يحبه) وقال (من أحبهما فقد أحبنى ومن أحبنى فقد أحب الله ومن أبغضهما فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله) وقال (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدى فمن أحبهم فيحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذانى ومن آذانى فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) وقال في فاطمة رضى الله عنها (أنها بضعة من يغضبني ما أغضيها) وقال لعائشة في أسامة بن زيد (أحيه فإنى أحبه)، وقال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم) وفى حديث ابن عمر (من أحب العرب فبحبي
__________
(قوله اسحاق التجيبى) تجيب بضم أوله عند المحدثين وكثير من الأدباء وبفتحه عنه الباقين، والتاء عند هؤلاء أصلية، اسم لقبيلة من كنده (قوله غرضا) بفتح العين المعجمة والراء أي هدفا يرمى عليه (قوله يوشك) أي يقرب ويسرع.
(*)

(2/26)


أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم فبالحقيقة من أحب شيئا أحب كل
شئ يحبه) وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالى القصعة فما زلت أحب الدباء من يومئذ، وهذا الحسن بن على وعبد الله ابن عباس وابن جعفر أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم طعاما مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ويصبغ بالصفرة إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل نحو ذلك * ومنها بغض من أبغض الله ورسوله ومعاداة من عاداه ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه واستثقاله كل أمر يخالف شريعته قال الله تعالى (لا نجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته وقال له عبد الله بن عبد الله بن أبى: لو شئت لأتيتك برأسه
__________
(قوله الدباء) بالمد وحكى المصنف فيه القصر أيضا جمع دباة وهو الفرع (قوله من حوالى) بفتح اللام (قوله أتوا سلمى وسألوها) قال المزى في الأطراف كانت سلمى مولاة للنبى صلى الله عليه وسلم ويقال مولاة لصفية وهى زوج أبى رافع وداية فاطمة الزهراء أو قابلة إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وغاسلة فاطمة الزهراء مع أسماء بنت عميس (قوله السبتية) السبت بكسر السين المهملة جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال، سميت بذلك لأن شهرها قد سبت عنها أي أزيل وحلق، وقيل لأنها أسبتت بالدباغ أي لانت وقال ابن قرقول عن الدراوردى منسوبة إلى موضع يقال له سوق السبت.
(*)

(2/27)


يعنى أباه.
ومنها أن يحب القرآن الذى أتى به صلى الله عليه وسلم وهدى به واهتدى وتخلق به حتى قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن
وحبه للقرآن تلاوته والعمل به وتفهمه ويحب سنته ويقف عند حدودها، قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة وعلامة حب السنة حب الآخرة وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا أن لا يدخر منها إلا زادا وبلغة إلى الآخرة، وقال ابن مسعود لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله.
ومن علامات حبه للنبى صلى الله عليه وسلم شفقته على أمته ونصحه لهم وسعيه في مصالحهم ورفع المضار عنهم، كما كان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما.
ومن علامة تمام محبته زهد مدعيها في الدنيا وإيثاره الفقر واتصافه به وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبى سعيد الخدرى: (إن الفقر إلى من يحبنى منكم أسرع من السيل من أعلى لوادى أو الجبل إلى أسفله) وفى حديث عبد الله بن مغفل قال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنى أحبك فقال (أنظر ما تقول) قال والله إنى أحبك - ثلاث مرات - قال (إن كنت تحبنى فأعد للفقر تجفافا) ثم ذكر نحو حديث أبى سعيد بمعناه.
__________
(قوله وبلغة) بضم الموحدة ما يتبلغ به من العيش (قوله ابن مغفل) بضم الميم وفتح الغين المعجمة والفاء المشددة (قوله تجفافا) بكسر المثناة الفوقية بعدها جيم = = ساكنة شئ من سلاح يترك على الفرس يقيه الأذى وقد يلبسه الإنسان أيضا، وجمعه تجافيف ويروى جلباب وهو الإزار، قال القتيبى معناه أن يرفض الدنيا ويزهد فيها ويصبر على الفقر والتقلل فكنى بالتجفاف والجلباب عن الصبر لأنه يستر الفقير كما يستران البدن.
(*)

(2/28)


فصل في معنى المحبة للنبى صلى الله عليه وسلم وحقيقتها
اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنها اختلاف أحوال فقال سفيان المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه التفت إلى قوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) الآية، وقال بعضهم محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب، وقال بعضهم المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم المحبة مواطأة القلب لمراد الرب يحب ما أحب ويكره ما كره، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة الذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف

(2/29)


المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدى إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واخترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم
جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة.
أما جمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن فقد قررنا منها قبل فيما مر من الكتاب مالا يحتاج إلى زيادة.
وأما إحسانه وإنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم به من النار وأنه بالمؤمنين رؤف رحيم ورحمة للعالمين ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأى إحسان أجل قدرا وأعظم خطرا من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأى إفضال أعم منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ؟ إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة ووسيلتهم إلى ربهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمد فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقة شرعا
__________
(قوله واخترام النفوس) بالخاء المعجمة.

(2/30)


بما قدمناه من صحيح الآثار وعادة وجبلة بما ذكرناه آنفا لإفاضته الإحسان وعمومه الإجمال، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفا أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذى بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل، وقد قال على رضى الله عنه في صفته صلى الله عليه وسلم من رآه
بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه وذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لا يصرف بصره عنه محبة فيه.
فصل في وجوب مناصفته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) قال أهل التفسير إذا نصحوا لله ورسوله إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية.
حدثنا الفقيه أبو الوليد بقراءتي عليه حدثنا حسين بن محمد حدثنا يوسف بن عبد الله حدثنا ابن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر
__________
(قوله لما يشاد) بضم المثناة التحتية وتخفيف الشين المعجمة وفى آخره دال مهملة مخففة، في الصحاح أشاد بذكره أي يرفع من قدره (قوله شيمته) بكسر الشين المعجمة أي خلقته.
(*)

(2/31)


لتمار حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبى صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الدارى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال (لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) قال أئمتنا: النصيحة لله ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) قال أئمتنا: النصيحة لله ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم واجبة قال الإمام أبو سليمان البستى: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها، ومعناها في اللغة الإخلاص من قولهم نصحت العسل إذا خلصته من شمعه وقال أبو بكر
ابن أبى إسحاق الخفاف: النصح فعل الشئ الذى فيه الصلاح والملاءمة، مأخوذ من النصاح وهو الخيط الذى يخاط به الثو، وقال أبو إسحاق الزجاج نحوه، فنصيحة الله تعالى صحة الاعتقاد له بالوحدانية ووصفه بما هو أهله وتنزيهه عما لا يجوز عليه والرغبة في محابه والبعد من مساخطه والإخلاص في عبادته والنصحية لكتابه: الأيمان به والعمل
__________
(قوله تميم الدارى) ويقال الديرى، فالأول نسبة إلى جده الدار والثانى نسبة إلى دير كان يتعبد فيه قبل الإسلام، أسلم سنة تسع من الهجرة وكان نصرانيا قبل ذلك (قوله إن الدين النصيحة) ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث ونسبه إلى أبى داود وقد أخرجه أبو داود في الأدب ولفظه (الدين النصيحة) من غير تكرار وكذلك لفظ مسلم ولفظ النسائي (إن الدين النصيحة) من غير تكرار أيضا (قوله قال الإمام أبو سليمان البستى) هو الخطابى (قوله والملاءمة) بضم الميم وتخفيف اللام بعدها ألف وهمزة: هي الموافقة بين الأشياء (قوله من النصاح) بكسر النون وتخفيف الصاد والحاء المهملتين (*)

(2/32)


بما فيه وتحسين تلاوته والتخسع عنده وتعظم له وتفهمه والتفقه فيه والذب عنه من تأويل الغالين وطعن الملحدين، والصحيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه قاله أبو سليمان، وقال أبو بكر: وموازرته ونصرته وحمايته حيا وميتا، وإحياء سنته بالطلب والذب عنها ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجملية، وقال أبو إبراهيم إسحاق التجيبى: نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم التصديق بما جاء به والاعتصام بسنته ونشرها والحض عليها والدعوة إلى الله وإلى كتابه وإلى رسوله وإليها إلى العمل بها، وقال أحمد بن محمد
من مفروضات القلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر الآجرى وغيره النصح له يقتضى نصحين نصحا في حياته ونصحا بعد مماته ففى حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه ومعاداة من عاداه والسمع والطاعة له وبذل النفوس وأموال دونه كما قال الله تعالى (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية، وقال (وينصرون الله ورسوله) الآية، وأما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال وشدة المحبة له والمثابرة على تعلم سنته والنفقة في شريعته ومحبة آل بيته وأصحابه ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها وبغضه والتحذير منه والشفقة على أمته والبحث عن تعرف أخلاقه وسيره وآدابه والصبر على ذلك: فعلى ما ذكره تكون النصيحة إحدى ثمرات المحبة وعلامة من علاماتها كما قدمناه، وحكى (قوله التجيبى) بضم المثناة الفوقانية وفتحها وكسر الجيم (3 - 2) (*)

(2/33)


الإمام أبو القاسم القشيرى أن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان ومشاهير الثوار المعروف بالصفار رؤى في النوم فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال غفر لى، فقيل بماذا ؟ قال صعدت ذروة جبل يوما فأشرفت على جنودي فأعجبتى كثرتهم فتمنيت أنى حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعنته ونصرته فشكر الله لى ذلك وغفر لى * وما النصح لأئمة المسلمين فطاعتهم في الحق ومعونتهم فيه وأمرهم به وتذكيرهم إياه على أحسن وجه وتنبيههم على ما غفلوا عنه وكتم عنهم من أمور المسلمين وترك الخروج عليهم وتضريب الناس وإفساد قلوبهم عليهم والصح لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم ومعونتهم في أمر دينهم
ودنياهم بالقول والفعل وتنبيه غافلهم وتبصير جاهلهم ورفد محتاجهم وستر عوراتهم ودفع المضار عنهم وجل المنافع إليهم