إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

غزوة المريسيع «بني المصطلق»
ثم كانت غزوة المريسيع، ويقال: غزوة بني المصطلق وهم بنو جذيمة بن كعب ابن خزاعة، فجذيمة هو المصطلق. والمريسيع ماء لخزاعة بينه وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد [ (1) ] . وكانت في سنة ست من الهجرة، وقيل:
سنة خمس. خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقال ابن هشام: استعمل أبا ذر، ويقال: نميلة بن عبد اللَّه الليثي، [ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه] [ (2) ] ، وقيل:
إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة.

سببها
وسببها أن الحارث بن أبي ضرار بن حبيب [بن الحارث بن عائد [ (3) ]] بن مالك بن جذيمة [بن سعد] [ (3) ] بن كعب بن خزاعة سيد بني المصطلق، جمع لحرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قومه ومن العرب [جمعا] [ (4) ] كبيرا، فتهيّئوا [ (5) ] ليسيروا إليه، وكانوا ينزلون ناحية الفرع، فبلغ خبرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبعث بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عدي بن سهم ابن مازن بن الحارث بن سلامان بن سلّم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأسلمي- يعلم علم ذلك، فأتاه بخبرهم. فندب الناس وأخبرهم خبر عدوّهم، فأسرعوا الخروج، وقادوا ثلاثين فرسا منها: عشرة للمهاجرين، وعشرون للأنصار، ولرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسان هما: لزاز والظّرب. وخرج كثير من المنافقين ليصيبوا من عرض الدنيا ولقرب السفر عليهم.
__________
[ (1) ] يرد: جمع يريد، والبريد، فرسخان أو اثنا عشر ميلا (ترتيب القاموس) ج 1 ص 244. والميل أربعة آلاف ذراع، والفرسخ: ثلاثة أميال (تقويم البلدان) ص 15.
[ (2) ] ما بين القوسين مكرر في (خ) .
[ (3) ] زيادة من النسب.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] في (خ) «فتيانوا» .

(1/203)


إسلام رجل من عبد القيس
فلقي صلّى اللَّه عليه وسلّم في طريقه رجلا في طريقه من عبد القيس فأسلم، وسأل: أي الأعمال أحب إلى اللَّه؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الصلاة في أول وقتها.
فكان بعد ذلك لا يؤخر الصلاة إلى الوقت الآخر.
فأصاب عينا من المشركين فضرب عنقه بعد أن عرض عليه الإسلام فأبي.

الانتهاء إلى المريسيع ولقاء العدو
وانتهى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المريسيع [وهو ماء لخزاعة من ناحية قديد إلى الساحل] وقد بلغ القوم مسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقتله عينهم، فتفرق عن الحارث من كان قد اجتمع إليه من أفناء [ (1) ] العرب، وضرب له صلّى اللَّه عليه وسلّم قبة من أدم، وكان معه من نسائه عائشة وأم سلمة رضي اللَّه عنهما. فصف أصحابه وقد تهيأ الحارث للحرب، ونادى عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه في الناس: قولوا لا إله إلا اللَّه تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم. فأبوا ورموا بالنبل، فرمى المسلمون ساعة بالنبل ثم حملوا على المشركين حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، وسبيت النساء والذرية، وغنمت الإبل والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدوّ [ (2) ] ، فقتله خطأ.

شعار المسلمين
وكان شعارهم: يا منصور أمت أمت. وقيل: بل أغار عليهم صلّى اللَّه عليه وسلّم وهم غارّون ونعمهم تسقي على الماء. والحديث الأول أثبت.
وكان من خبر الرجل الّذي قتل: أنه خرج هشام بن صبابة في طلب العدو، فرجع في ريح شديدة فوجد رجلا [من رهط عبادة بن الصامت يقال له أوس] فقلته وهو يظنه مشركا، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تخرج ديته، [ويقال: قتله رجل من بني عمرو بن عوف] فقدم أخوه مقيس بن صبابة من مكة مسلما فيما يظهر يطلب دية أخيه، فأمر له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالدّية فقبضها، ثم عدا على قاتل أخيه
__________
[ (1) ] أخلاط من قبائل مختلفة.
[ (2) ] في (خ) «العدد» .

(1/204)


فقتله، ثم ارتدّ ولحق بقريش وقال شعرا، فأهدر صلّى اللَّه عليه وسلّم دمه، حتى قتله نميلة [ابن عبد اللَّه الليثي] [ (1) ] يوم الفتح.

الأسرى والغنائم
وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأسرى فكتّفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بما وجد في رحالهم من متاع وسلاح فجمع، وسيقت النّعم والشاء، واستعمل عليها شقران: مولاه. واستعمل على المقسم- مقسم الخمس وسهمان المسلمين- محمية ابن جزء [ (2) ] بن عبد يغوث بن عويج بن عمرو بن زبيد الأصغر الزبيدي، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس من جميع المغنم فكان يليه محمية بن جزء [ (2) ] ، وكان يجمع إليه الأخماس. وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفيء بمعزل عن الصدقة، [وأهل الصدقة] [ (3) ] بمعزل عن الفيء. فكان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء وأخرج من الصدقة ووجب عليه الجهاد، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئا، وخلى بينه وبين أن يكتسب لنفسه.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يمنع سائلا:
فأتاه رجلان يسألانه من الخمس فقال [ (4) ] :
إن شئتما أعطيتكما منه، ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.

قسمة الغنائم
وفرّق السبي فصار في أيدي الرجال، وقسم المتاع والنعم والشاء، وعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت رثة المتاع فيمن يزيد، وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهما، وللراجل سهما، وكانت الإبل ألفي بعير وخمسة آلاف شاة، وكان السّبي مائتي أهل بيت.

خبر جويرية بنت الحارث وزواج رسول اللَّه بها، وبركتها على أهلها
وصارت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن شماس
__________
[ (1) ] زيادة البيان.
[ (2) ] في (خ) «جز» .
[ (3) ] في (خ) «بمعزل عن الصدقة بمعزل عن الفيء» .
[ (4) ] في (خ) «وقال» .

(1/205)


أو ابن له، فكاتبها على تسع أواق من ذهب،
فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الماء إذ دخلت عليه تسأله في كتابتها وقالت: يا رسول اللَّه، إني امرأة مسلمة وتشهدت وانتسبت، وأخبرته بما جرى لها واستعانته في كتابتها، فقال: أو خير من ذلك، أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك! قالت: نعم. فطلبها من ثابت فقال: هي لك يا رسول اللَّه.
فأدى ما عليها وأعتقها وتزوجها، وخرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا: أصهار النبي! فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي. وكانت جويرية رضي اللَّه عنها عظيمة البركة على قومها.

فداء أسرى بني المصطلق
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق، ويقال: جعل صداقها عتق أربعين من قومها، وقيل: كان السبي: منهم من منّ عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من افتدى، وذلك بعد ما صار السبي في أيدي الرجال، فافتديت المرأة والذرية بست فرائض، وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأة من بني المصطلق إلا رجعت إلى قومها، قال الواقدي: وهذا الثبت. وقيل: إن الحارث افتدى ابنته جويرية من ثابت بن قيس بما افتدى به امرأة من السبي ثم خطبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبيها فأنكحها: وكان اسمها برّة، فسماها [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم جويرية [ (2) ] . قال الواقدي: وأثبت هذا عندنا حديث عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قضى عنها كتابتها وأعتقها وتزوجها.

خبر العزل
وسئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذه الغزوة عن العزل فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا؟ ما من نسمة كائنة يوم القيامة إلا وهي كائنة.
فقال رجل من اليهود لأبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه، وقد خرج بجارية يبيعها في السوق: لعلك تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة [ (3) ] ؟ فقال: كلا، إني كنت أعزل عنها. فقال: تلك الموءودة الصغري!
فلما أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك قال: كذبت يهود.
__________
[ (1) ] في (خ) «فسما» .
[ (2) ] في (خ) «جويرة» .
[ (3) ] السخلة: وليدة الغنم، والمراد هنا كناية عن الحمل.

(1/206)


خبر جهجاه وسنان على الماء
وبينا المسلمون على ماء المريسيع إذ أقبل سنان بن وبر الجهنيّ- وقيل: هو سنان بن تيم اللَّه، وهو من جهينة بن سود بن أسلم- حليف الأنصار- ومعه فتيان من بني سالم يستقون. [وعلى] [ (1) ] الماء جمع من المهاجرين والأنصار. فأدلى دلوه، وأدلى جهجاه بن مسعود بن سعد بن حرام الغفاريّ- أجير عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه- دلوه.

تنازعهما واختلاف المهاجرين والأنصار
فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه وتنازعا، فضرب جهجاه سنانا فسال الدم، فنادى: يا للخزرج! وثارت الرجال، فهرب جهجاه وجعل ينادى في العسكر:
يا لقريش! يا لكنانة! فأقبلت قريش وأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى كادت تكون فتنة عظيمة، فقام رجال في الصلح فترك سنان حقه.

تحريض عبد اللَّه بن أبيّ وما كان من مقالته في ذلك
وكان عبد اللَّه بن أبيّ جالسا في عشرة من المنافقين فغضب وقال: واللَّه ما رأيت كاليوم مذلة! واللَّه إن كنت لكارها لوجهي هذا، ولكن قد غلبوني. قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا، واللَّه ما صرنا وجلابيب [ (2) ] قريش هذه إلا كما قال القائل: «سمّن كلبك يأكلك» ، واللَّه لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير [ (3) ] ، واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، ونزلوا منازلكم، وآسيتموهم [ (4) ] في أموالكم حتى استغنوا. أما واللَّه لو أمسكتم [عنهم ما] [ (5) ] بأيديكم لتحولوا [ (6) ] إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] كان يحلو للمنافقين تسمية المهاجرين بجلابيب قريش كناية عن فقرهم.
[ (3) ] في (خ) «لا يكون ذلك متى غير» ، يريد لا يكون متى لهذا العدوان دفع أو تغيير أو قصاص.
[ (4) ] من المساواة.
[ (5) ] زيادة للبيان.
[ (6) ] في (خ) «لعلوا» .

(1/207)


أنفسكم- أغراضا [ (1) ] للمنايا فقتلتم دونهم [ (1) ] ، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا.

إبلاغ زيد بن أرقم رسول اللَّه مقالة عبد اللَّه بن أبيّ
وكان زيد بن أرقم حاضرا- وهو غلام لم يبلغ أو قد بلغ- فحدّث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك، وعنده نفر من المهاجرين والأنصار، فتغير وجهه ثم قال:
يا غلام، لعلك غضبت عليه؟ قال: لا واللَّه، لقد سمعت منه. قال: لعله أخطأ سمعك! قال: لا يا نبي اللَّه. قال: فلعله شبه عليك؟ قال: لا واللَّه لقد سمعت منه يا رسول اللَّه.
وشاع في العسكر ما قاله ابن أبيّ، حتى ما كان للناس حديث إلا هو. وأنّب جماعة من الأنصار زيد بن أرقم، فقال- في جملة كلام-: وإني لأرجو أن ينزل اللَّه على نبيه، حتى تعلموا أني كاذب أم غيري. وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! مر عباد بن بشر فليأتك برأسه. فكره ذلك
وقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
وبلغ الخبر ابن أبيّ، فحلف باللَّه ما قال من ذلك شيئا، ثم مشى [ (2) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحلف باللَّه ما قال.

رحيل رسول اللَّه بعد مقالة المنافقين
وأسرع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك السير، ورحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها.
فأقبل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه حتى جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في فيء شجرة عنده غليم أسيود يغمز ظهره [ (3) ] فقال: يا رسول اللَّه! كأنك تشتكي ظهرك! فقال: تقحّمت بي الناقة [ (4) ] الليلة. فقال عمر: يا رسول اللَّه، ائذن لي أن أضرب عنق ابن أبيّ في مقالته. فقال: لا يتحدث الناس أن محمدا قتل أصحابه.

طلوع رسول اللَّه على العسكر ومقالة سعد بن عبادة
ويقال: لم يشعر أهل العسكر إلا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد طلع على راحلته وكانوا في حر شديد، وكان لا يروح حتى يبرد، إلا أنه لما جاءه ابن أبيّ رحل في تلك
__________
[ (1) ] في (خ) «أعراضا» ، «دونه» .
[ (2) ] في (خ) «مشى مشى» مكررة.
[ (3) ] الغمز باليد: النخس، وبالعين والجفن والحاجب: الإشارة، وبالرجل: السعي بالشر، والغمازة:
الجارية الحسنة الغمز للأعضاء (ترتيب القاموس) ج 3 ص 417.
[ (4) ] تقحمت الدابة براكبها: شردت به، وربما طوّحت به في وهده (المعجم الوسيط) ج 2 ص 717.

(1/208)


الساعة، فكان أوّل من لقيه سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه، ويقال: أسيد بن حضير. فقال: خرجت يا رسول اللَّه في ساعة ما كنت تروح فيها! قال:
أو لم يبلغك ما قال صاحبكم ابن أبيّ، زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذلّ؟
قال: فأنت يا رسول اللَّه تخرجه إن شئت، فهو الأذل وأنت الأعز، يا رسول اللَّه! ارفق به، فو اللَّه لقد جاء اللَّه بك وإن قومه لينظمون له الخرز، ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي ليتوجوه، فما يرى إلا قد سلبته ملكه.

تصديق اللَّه خبر زيد بن أرقم
وبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسير من يومه ذلك- وزيد بن أرقم يعارضه براحلته يريد وجهه،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستحث راحلته فهو مغذّ في المسير- إذ نزل عليه الوحي فسرّي [ (1) ] عنه، فأخذ بأذن زيد بن أرقم حتى ارتفع عن مقعده عن راحلته وهو يقول: وفت [ (2) ] أذنك يا غلام وصدّق اللَّه حديثك!
ونزل في ابن أبيّ:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [ (3) ] وكان عبادة بن الصامت قبل ذلك قال لابن أبيّ:
ايت رسول اللَّه يستغفر لك، فلوى رأسه معرضا، فقال له عبادة: واللَّه لينزلنّ في ليّ رأسك قرآن يصلّى به. ومرّ عبادة بن الصامت بابن أبيّ- عشية راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المريسيع، وقد نزل فيه القرآن- فلم يسلّم عليه، ثم مرّ أوس بن خوليّ فلم يسلّم عليه، فقال: إن هذا الأمر قد تمالأتما عليه. فرجعا إليه فأنّباه [ (4) ] وبكّتاه بما صنع، وبما نزل القرآن إكذابا لحديثه. فقال: لا أعود أبدا.

حديث عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي عن أبيه وخبره
وجاء ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبيّ فقال: يا رسول اللَّه، إن كنت تريد أن تقتل [ (5) ] أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فو اللَّه لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم
__________
[ (1) ] سرّى عنه: كشف عنه.
[ (2) ] وفت أذنه: ظهر صدقه في أخباره عما سمع، وأوفى اللَّه بأذنه: أظهر صدقه في إخباره عما سمعت أذنه (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1047.
[ (3) ] سورة المنافقون كلها.
[ (4) ] في (خ) «فأنبأه» .
[ (5) ] في (خ) «يقتل» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 421.

(1/209)


من مجلسك هذا. واللَّه لقد علمت الخزرج ما كان فيها [ (1) ] رجل أبرّ بوالده [ (1) ] مني، وإني لأخشى- يا رسول اللَّه- أن تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن انظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل، ومنّك أعظم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أردت قتله، وما أمرت به، ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا.
فقال: يا رسول اللَّه! إن أبي كانت هذه البحيرة قد استقوا [ (2) ] عليه ليتوجوه، فجاء اللَّه بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به [ (3) ] يذكرونه أمورا قد غلب اللَّه عليها. وقال عبد اللَّه في ذلك شعرا.

سير رسول اللَّه
ولما خرجوا من المريسيع قبل الزوال لم ينخ [ (4) ] أحد إلا لحاجة أو لصلاة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستحث راحلته بالسوط في تراقيها [ (5) ] حتى أصبحوا، ومدّوا يومهم حتى انتصف النهار، ثم راحوا مردين [ (6) ] ، فنزل من الغد ماء يقال له:
بقعاء.

الريح التي أنذرت بموت كهف المنافقين رفاعة بن التابوت
فأخذتهم ريح شديدة- اشتدت إلى أن زالت الشمس ثم سكنت آخر النهار- حتى أشفقوا منها، وسألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها، وخافوا أن يكون عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدث.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس عليكم بأس منها، فما بالمدينة من نقب [ (7) ] إلا عليه ملك يحرسه، وما كان ليدخلها
__________
[ (1) ] في (خ) «ما كان فيها ما كان رجل» ، «بوالدي» .
[ (2) ] البحيرة: تصغير بحرة وهي الأرض والبلدة، استقوا: أجمعوا أمرهم.
[ (3) ] أطافوا به: أحاطوا به.
[ (4) ] في (خ) «ينح» .
[ (5) ] في (خ) «مراقيها» والتراقي جمع ترقوه، وهو عظم يصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين، وفي التنزيل كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ 26، 27/ القيامة.
[ (6) ] رد الفرس: رديا، ورديانا: رجم الأرض بحوافره، في سيره وعدوه (المعجم الوسيط) ج 1 ص 340.
[ (7) ] النقب: الطريق إلى الجبل (ترتيب القاموس) ج 4 ص 421.

(1/210)


عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة: فلذلك عصفت الريح.
وكان موته للمنافقين غيظا شديدا، وهو رفاعة بن زيد بن التابوت [ (1) ] [أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين] [ (2) ] ، مات ذلك اليوم. وكانت هذه الريح أيضا بالمدينة حين دفن عدو اللَّه فسكنت.

جزع المنافقين لموته
وقال عبادة بن الصامت يومئذ لابن أبيّ: أبا حباب! مات خليلك. قال:
أي أخلائي؟ قال: من موته فتح للإسلام وأهله! رفاعة بن زيد [ (1) ] بن التابوت، قال: يا ويلاه! كان واللَّه وكان وكان، وجعل يذكر. فقال له عبادة: اعتصمت واللَّه بالذّنب الأبتر! قال: من خبّرك يا أبا الوليد بموته؟ قال: رسول اللَّه أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة، فأسقط في يديه وانصرف كئيبا حزينا. فلما دخلوا المدينة وجدوا عدو اللَّه مات في تلك الساعة.

خبر ناقة رسول اللَّه التي فقدت، ومقالة المنافق
وفقدت ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- القصواء- من بين الإبل وهي سارحة، فتطلبها المسلمون في كل وجه، فقال زيد بن اللصيت [القينقاعي] [ (3) ] وكان منافقا: أفلا يخبره اللَّه بمكان ناقته! فأنكر القوم ذلك عليه، وأسمعوه كل مكروه، وهموا به،
فهرب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متعوذا به وقد جاءه الوحي بما قال، فقال- والمنافق يسمع-: إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللَّه وقال:
ألا يخبره اللَّه بمكانها؟ فلعمري أن محمدا ليخبر بأعظم من شأن الناقة! ولا يعلم الغيب إلا اللَّه، وإن اللَّه قد أخبرني بمكانها، وأنها في هذا الشعب: مقابلكم، قد تعلق زمامها بشجرة، فاعمدوا عمدها. فذهبوا فأتوا بها من حيث قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] في (خ) «زيد بن رفاعة بن النابوت» وهي رواية الواقدي ج 2 ص 423، وفي (الطبري) ج 2 ص 607 «رفاعة بن زيد بن النابوت» ، وفي (عيون الأثر) ج 2 ص 94 «رفاعة بن زيد بن التابوت» .
[ (2) ] زيادة من المراجع السابقة.
[ (3) ] زيادة من نسبه، وفي (خ) اللصيب.

(1/211)


حماية النقيع لخيل المسلمين
ولما مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنقيع [ (1) ] رأى سعة وكلأ وغدرا [ (2) ] كثيرة، فأمر حاطب بن أبي بلتعة أن يحفر به بئرا، وأمر بالنقيع أن يحمى، واستعمل عليه بلال ابن الحارث المزني، قال: وكم أحمي منه يا رسول اللَّه؟ قال: أقم رجلا صيتا- إذا طلع الفجر- على هذا الجبل فحيث انتهى صوته، فاحمه لخيل المسلمين وإبلهم التي يغزون عليها. قال: يا رسول اللَّه، أفرأيت ما كان من سوائم [ (3) ] المسلمين؟ فقال:
لا يدخلها. قال: أرأيت المرأة والرجل الضعيف يكون له الماشية اليسيرة وهو يضعف عن التحول؟ قال: دعه يرعى.
وسبّق صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ بين الخيل والإبل، فسبقت القصواء الإبل وعليها بلال، وسبق فرسه الظرب وعليه أبو أسيد الساعديّ.

بدء حديث الإفك
وكان حديث الإفك [ (4) ] ، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل منزلا ليس معه ماء، وسقط عقد عائشة رضي اللَّه عنها من عنقها، فأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس حتى أصبحوا، وضجر [ (5) ] الناس وقالوا: حبستنا عائشة. فضاق بذلك أبو بكر رضي اللَّه عنه وعاتب عائشة عتابا شديدا.

نزول آية التيمم
ونزلت آية التيمم
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كان من قبلكم لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم، وجعلت لي الأرض طهورا حيثما أدركتني الصلاة.
ونزلت آية التيمم عند طلوع الفجر، فمسح المسلمون أيديهم بالأرض، ثم مسحوا أيديهم إلى
__________
[ (1) ] النقيع: من أودية الحجاز يدفع سيله إلى المدينة يسلكه العرب إلى مكة منه، وه نقيع الخضمات (معجم البلدان) ج 5 ص 301.
[ (2) ] غدر: جمع غدير، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل (المعجم الوسيط) ج 2 ص 645.
[ (3) ] السوائم: جمع سائمة، وهي الإبل الراعية.
[ (4) ] الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل هو البهتان وهو الأمر الّذي لا تشعر به حتى يفاجأك، وأصله الكذب بكونه إفكا لأن المعروف من حال عائشة خلاف ذلك (التفسير الكبير للفخر الرازيّ) ج 23 ص 172.
[ (5) ] في (خ) «ضحى» .

(1/212)


المناكب ظهرا وبطنا. وكانوا يجمعون مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الصلاتين في سفره.

مسابقة رسول اللَّه عائشة
ثم صاروا ونزلوا حوضا دمثا [ (1) ] طيبا ذا أراك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عائشة! هل لك في السباق؟ قالت: نعم! فتحزّمت ثيابها، وفعل ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم استبقا، فسبق صلّى اللَّه عليه وسلّم عائشة رضي اللَّه عنها، فقال: هذه بتلك السبقة التي كنت سبقتني. وكان جاء إلى منزل أبي بكر رضي اللَّه عنه، ومع عائشة شيء فقال: هلميه! فأبت وسعت، وسعى في أثرها، فسبقته.
خرّج أبو داود من حديث هشام بن عروة عن أبيه، وعن أبي سلمة عن عائشة أنها كانت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة [ (2) ] . وخرجه أبو حبان به ولفظه: سابقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسبقته فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسبقني، فقال: هذه بتلك. وكانت هذه الغزوة قبل أن يضرب الحجاب.

تخلف عائشة ومجيء صفوان وحديث الإفك
وكان يرحل بعير عائشة رضي اللَّه عنها أبو مويهبة [ (3) ] ورجل آخر، وكانت تقعد في هودج [ (4) ] ، فحمل الهودج وهو يظنها فيه- لخفة النساء يومئذ من قلة أكلهن- وساروا وقد ذهبت عائشة لحاجتها وتجاوزت العسكر، وفي عنقها عقد من جزع ظفار [ (5) ] فانسل من عنقها ولا تدري به، فرجعت تلتمسه حتى وجدته، ثم عادت وليس في العسكر أحد، فاضطجعت ونامت، فجاء صفوان بن المعطل ابن ربيضة [ (6) ] بن خزاعيّ بن محارب بن مرّة بن فالج [ (6) ] بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة
__________
[ (1) ] دمث المكان وغيره: سهل ولان (ترتيب القاموس) ج 2 ص 209.
[ (2) ] سنن أبي داود ج 3 ص 65 الحديث رقم 2578.
[ (3) ] في (خ) «مويهية» وفي (الواقدي) ج 2 ص 427 «موهبة» وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] الهودج: مركب للنساء، (ترتيب القاموس) ج 4 ص 543.
[ (5) ] ظفار: مدينة باليمن قرب صنعاء وهي التي ينسب إليها الجذع الظفاري (أي الخرز) (معجم البلدان) ج 4 ص 60 وفي (خ) «أظفار» .
[ (6) ] في (خ) «فاتح» ، في (ط) «ربيضة» . ونسبه في (الاستيعاب) ج 5 ص 142 ترجمة رقم 1223:

(1/213)


ابن سليم السلمي ثم الذّكواني أبو عمرو- وكان في السّاقة [ (1) ]- فاسترجع لما رآها، فاستيقظت وخمرت [ (2) ] وجهها بملحفتها. فلم يكلمها، وأناخ بعيره وولى عنها حتى ركبت، وقاد بها حتى أتى العسكر. فقال أصحاب الإفك- وكبيرهم عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول- ما قالوا، حتى بلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتغير لعائشة وهي لا تشعر، حتى أعلمتها أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ابن قصي، وكانت أمها خالة أبي بكر رضي اللَّه عنه. فأتت أبويها لتستيقن الخبر، فوجدت عندهما العلم بما قاله أهل الإفك. فبكت ليلتها حتى أصبحت.

استشارة رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّه أصحابه في فراق عائشة
واستشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا وأسامة في فراق عائشة. فقال أسامة: هذا الباطل والكذب، ولا نعلم إلا خيرا.
وقال عليّ: لم يضيق اللَّه عليك، والنساء كثير، وقد أحلّ اللَّه لك وأطاب، فطلقها وأنكح غيرها.
وخلا صلّى اللَّه عليه وسلّم ببريرة وسألها فقالت: هي أطيب من طيب الذهب، واللَّه ما أعلم عليها إلا خيرا، واللَّه يا رسول اللَّه لئن كانت على غير ذلك ليخبرنك اللَّه بذلك، ألا إنها جارية ترقد عن العجين حتى تأتي الشاة فتأكل عجينها. وسأل زينب بنت جحش فقالت: حاشى سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، واللَّه ما أكلمها، وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. وسأل أم أيمن فقالت: حاشى سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها قط إلا خيرا.

خطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمر الإفك واختلاف الأوس والخزرج
ثم صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي؟
ويقولون لرجل، واللَّه ما علمت على ذلك الرجل إلا خيرا، وما كان يدخل بيتا من بيوتي إلا معي، ويقولون عليه غير الحق!
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك
__________
[ () ] «صفوان بن المعطل بن ربيعة بن خزاعيّ بن محارب بن مرّة بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم السّلمى ثم الذكوانيّ، يكنى أبا عمرو» .
[ (1) ] الساقة: مؤخرة الجيش (المعجم الوسيط) ج 1 ص 464.
[ (2) ] خمّرت: غطت.

(1/214)


منه يا رسول اللَّه، إن يك من الأوس آتيك برأسه، وإن يك من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك يمضي لك. فقام سعد بن عبادة- وقد غضب منه- فقال: كذبت لعمر اللَّه، لا تقتله ولا تقدر [ (1) ] على قتله. فقال أسيد بن حضير: كذبت، واللَّه ليقتلنه وأنفك راغم. وكادت تكون فتنة، فأشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده إلى الأوس والخزرج أن اسكتوا، ونزل عن المنبر، فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا.

دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة وحديثهما
ودخل على عائشة- وقد مكث شهرا قبل ذلك لا يوحى إليه في شأنها- فتشهد ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة يبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بشيء مما يقول الناس فاستغفري اللَّه عز وجل، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى اللَّه تاب اللَّه عليه.
فقالت لأبيها: أجب عني رسول اللَّه. قال: واللَّه ما أدري ما أقول وما أجيب به عنك! فقالت لأمها: أجيبي عني. فقالت: واللَّه ما أدري ما أجيب به. فقالت: إني واللَّه قد علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به! فلئن قلت لكم إني بريئة [ (2) ] لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم اللَّه أني منه بريئة لتصدقنني، وإني واللَّه ما أجد لي مثلا إلا أبا يوسف إذ يقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [ (3) ] ، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر، واللَّه ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا نعبد [ (4) ] اللَّه، فيقال لنا في الإسلام! وأقبل عليها مغضبا فبكت.

نزول القرآن ببراءة عائشة
فغشي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان يغشاه وسجى [ (5) ] بثوبه، وجمعت وسادة من أدم تحت رأسه، ثم كشف عن وجهه وهو يضحك ويمسح جبينه وقال: يا عائشة، إن اللَّه قد أنزل براءتك. فأنزل اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي
__________
[ (1) ] في (خ) «يقتله ولا يقدر» .
[ (2) ] في (خ) «برية» .
[ (3) ] آية 18/ يوسف.
[ (4) ] في (خ) «لا يعبد» .
[ (5) ] سجى: غطى.

(1/215)


تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [ (1) ] فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الناس مسرورا، فصعد المنبر وتلا على الناس ما نزل عليه في براءة عائشة رضي اللَّه عنها. ويقال: كان نزول براءة عائشة رضي اللَّه عنها بعد قدومهم المدينة بسبع وثلاثين ليلة.

أصحاب الإفك
وكان الذين خاضوا في الإفك مع ابن أبيّ: مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. فضربهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحد. قال الواقدي: وقيل: لم يضربهم [ (2) ] ، وهو أثبت.

إصلاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الأوس والخزرج
ومكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أياما، ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر حتى دخل على سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثوا ساعة، وقرب لهم سعد بن عبادة طعاما فأصابوا منه وانصرفوا. فمكث أياما، ثم أخذ بيد سعد بن عبادة ونفر معه، فانطلق به حتى دخل منزل سعد بن معاذ، فتحدثوا ساعة، وقرب لهم سعد بن معاذ طعاما، فأصابوا [منه] [ (3) ] ، ثم خرجوا، فذهب من أنفسهم ما كانا تقاولا من ذلك القول.
__________
[ (1) ] آية 11/ النور وفي (خ) إلى قوله: «عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» .
[ (2) ] «قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحاب الإفك، على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة، ولم يتعبده اللَّه أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم» .
«قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن اللَّه عز وجل يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي على صدق قولهم فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً.
«والقول الثاني: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حد أهل الإفك: عبد اللَّه بن أبي ومسطح بن أثاثه، وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:
لقد ذاق حسان الّذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزيه ... كما خاض في إفك من القول يفصح
«قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الّذي حدّ حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد عبد اللَّه بن أبيّ» راجع (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) ص 4592.
[ (3) ] زيادة للسياق.

(1/216)


مقالة عبد اللَّه بن أبيّ في جعيل بن سراقة
وكان عبد اللَّه بن أبي بن سلول [وسلول أمه، وإنما هو أبيّ بن مالك بن الحارث ابن عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عمرو بن الخزرج] لما قال- وذكر جعيل ابن سراقة الغفاريّ. ويقال: الضمريّ، وجهجاه بن مسعود، ويقال: ابن سعيد ابن حرام بن غفار الغفاريّ، وكانا من فقراء المهاجرين- قال: ومثل هذين يكثّرا على قومي، وقد أنزلنا محمدا في ذروة كنانة وعزها؟ واللَّه لقد كان جعيل يرضى أن يسكت فلا يتكلم، فصار اليوم يتكلم!.

مقالته في صفوان
ثم كان من كلامه- في صفوان بن المعطل بن ربيعة بن الخزاعي بن محارب ابن مرة بن فالج [ (1) ] بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة [ (1) ] بن سليم السلميّ- ما كان، ورميه بالإفك. قال حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري رضي اللَّه عنه:
أمسى الجلابيب قد عزّوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد [ (2) ]
وفي أبيات أخر.

خبر صفوان بن المعطل في ضرب حسان بن ثابت
فجاء صفوان بن المعطل- بعد ما قدموا المدينة- إلى جعيل بن سراقة فقال:
انطلق بنا نضرب حسان، فو اللَّه ما أراد غيرك وغيري، ولنحن أقرب إلى رسول اللَّه منه، فأبي جعيل أن يذهب إلا بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وخرج صفوان مصلتا بالسيف، حتى ضرب حسان بن ثابت في نادي قومه. فوثب الأنصار فأوثقوه رباطا، وولي ذلك منه ثابت بن قيس بن شماس [بن زهير] [ (3) ] بن مالك بن
__________
[ (1) ] في (خ) «فألح» ، «بهنة» ، وسبق تصويب نسبه من الاستيعاب تحت رقم 1223.
[ (2) ] وفي (ديوان حسان) ص 160: «أمسى الخلابيس قد عزّوا وقد كثروا» .
[ (3) ] زيادة من نسبه.

(1/217)


امرئ القيس بن مالك الأغر الأنصاري- فمرّ به عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان ابن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري [ (1) ] فخلّى عنه.
وجاء به وبحسان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال حسان: يا رسول اللَّه شهر علي السيف في نادي قومي، ثم ضربني لأن أموت ولا أراني إلا ميتا من جراحاتي!
فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] لصفوان: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقال:
يا رسول اللَّه، آذاني وهجاني وسفه عليّ [ (2) ] وحسدني على الإسلام! فقال لحسان:
أسفهت على قوم أسلموا؟.

حبس صفوان وما كان من أمر سعد في إطلاقه
ثم قال: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به. فخرجوا بصفوان، وبلغ ذلك سعد بن عبادة، فأقبل على قومه من الخزرج فقال: عمدتم إلى رجل من قوم رسول اللَّه تؤذونه، وتهجونه بالشعر، وتشتمونه، فغضب لما قيل له، ثم أسرتموه أقبح الأسر ورسول اللَّه بين أظهركم؟ قالوا: فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرنا بحبسه وقال: إن مات صاحبكم فاقتلوه. قال سعد: واللَّه إن أحب الأمرين إلى رسول اللَّه العفو، ولكن رسول اللَّه قد قضى لكم بالحق، وإن رسول اللَّه ليحب أن يترك صفوان، واللَّه لا أبرح حتى يطلق. فقال حسان: ما كان لي من حق فهو لك. وأتى قومه، فغضب قيس بن سعد [بن عبادة] [ (3) ] وقال: عجبا لكم! ما رأيت كاليوم! إن حسان قد ترك حقه وتأبون أنتم؟ ما ظننت أحدا من الخزرج يردّ أبا ثابت في أمر يهواه: فاستحيا القوم وأطلقوا صفوان من الوثاق، فذهب به سعد إلى بيته فكساه حلة، ثم خرج به إلى المسجد ليصلي فيه،
فرآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه! قال: من كساه؟ قالوا: سعد ابن عبادة. قال: كساه اللَّه من ثياب الجنة.

عفو حسان عن حقه قبل صفوان
ثم
كلّم حسان حتى أقبل في قومه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا رسول اللَّه،
__________
[ (1) ] في (خ) «كرر الناسخ من قوله «فمر به عمارة ... » إلى قوله «بن النجار الأنصاري» ، و (خ) بعده «وجاء به وثابت» وفي (الواقدي) «ثم جاء به وبثابت» ج 2 ص 436.
[ (2) ] من السفاهة.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.

(1/218)


كل حق لي قبل صفوان بن معطل فهو لك. قال: أحسنت وقبلت ذلك.
وأعطى حسان أرضا براحا [ (1) ] وهي بيرحا، وسيرين أخت مارية. وأعطاه سعد بن عبادة حائطا كان يجدّ [ (2) ] مالا كثيرا، عوضا بما عفا من حقه.
ويروى أن حسان- لما حبس صفوان- أرسل إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا حسان أحسن فيما أصابك.
فقال: هو لك يا رسول اللَّه! فأعطاه بيرحا [ (3) ] وسيرين [ (4) ] عوضا.

خبر عبد اللَّه بن رواحة، وطروق أهله ليلا حتى رابه ما رابه
وكان جابر بن عبد اللَّه رفيق عبد اللَّه بن رواحة في غزوة المريسيع، فأقبلا حتى انتهيا إلى وادي العقيق في وسط الليل، والناس معرّسون، فتقدم ابن رواحة إلى المدينة فطرق أهله، فإذا مع امرأته إنسان طويل. فظن أنه رجل، وندم على تقدّمه، واقتحم البيت رافعا سيفه يريد أن يضربهما، ثم فكر وادكر، فغمز امرأته برجله فاستيقظت وصاحت، فقال: أنا عبد اللَّه، فمن هذا؟ قالت: هي رحيلة [ (5) ] سمعنا بقدومكم [ (6) ] فدعوتها تمشّطني فباتت عندي. فبات وأصبح. فخرج يلقى [ (7) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو سائر بين أبي بكر الصديق، وبشير بن سعد بن ثعلبة ابن خلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري رضي اللَّه عنهما،
فالتفت صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بشير فقال: يا أبا النعمان، إن وجه عبد اللَّه ليخبرك أنه كره طروق أهله. فلما انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خبرك
__________
[ (1) ] في (خ) «أرض أبرحا» .
[ (2) ] جد النخل: قطع ثمره (المعجم الوسيط) ج 1 ص 109.
[ (3) ] في (خ) «براحا» .
[ (4) ] أخت مارية القبطية أم إبراهيم ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي (المغازي) ج 2 ص 438 وما بعدها.
وحدثني سعيد بن أبي زيد الأنصاري قال: حدثني من سمع أبا عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة الأسدي يخبر أنه سمع حمزة بن عبد اللَّه بن عمر أنه سمع عائشة رضي اللَّه عنها تقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: حسان حجاز بين المؤمنين والمنافقين، لا يحبه منافق ولا يبغضه مؤمن
. وقال حسان يمدح عائشة رضي اللَّه عنها:
حصان رزان لا تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد جاء عنى قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
والغرثى: الجائعة، والغوافل: جمع غافلة والمعنى أنها كافة عن أعراض الناس. (ديوان حسان بن ثابت) ص 228 باختلاف يسير.
[ (5) ] اسم امرأة كانت معها.
[ (6) ] في (خ) «نقدمكم» .
[ (7) ] في (خ) «تلقى» .

(1/219)


يا ابن رواحة!.

النهي عن طروق النساء ليلا
فأخبره،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تطرقوا النساء ليلا. فكان ذلك أول ما نهى عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وكان قدومه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المريسيع إلى المدينة لهلال رمضان، فغاب شهرا إلا ليلتين.

الخلاف في تاريخ غزوة بني المصطلق
تنبيه: قد اختلف في غزوة المريسيع. فذهب الواقديّ- كما تقدم- إلى أنها كانت في شعبان سنة خمس، وقال ابن إسحاق: في شعبان من السنة السادسة، وصححه جماعة. وفيه إشكال، فإنه وقع في الصحيحين وغيرهما أن المقاول لسعد ابن عبادة سعد بن معاذ، كما تقدم عند خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسبب أهل الإفك.
ولا يختلف أحد في أن سعد بن معاذ مات إثر قريظة، وقد كان عقب الخندق، وهي في سنة خمس على الصحيح، ثم حديث الإفك لا يشك أحد من علماء الآثار أنه في غزوة بني المصطلق هذه، وهي غزوة المريسيع، وقد اختلف الناس في الجواب عن هذا. فقال موسى بن عقبة- فيما حكاه البخاري عنه [ (1) ]- إن غزوة المريسيع كانت في سنة أربع، وهذا خلاف الجمهور. ثم في الحديث ما ينفي ما قال، لأنها قالت: «وذلك بعد ما نزل الحجاب» . ولا خلاف أن الحجاب نزل صبيحة دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بزينب بنت جحش، وقد سأل صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب عن شأن عائشة في ذلك فقالت: «أحمي سمعي وبصري» قالت عائشة: «وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» . وقد ذكر علماء الأخبار أن تزويجه صلّى اللَّه عليه وسلّم بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس، فبطل ما قال موسى بن عقبة، ولم ينحل الإشكال. وقال ابن إسحاق: إن المريسيع كانت في سنة ست، وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه [بن عتبة] [ (2) ] ، عن عائشة، فذكر الحديث- قال: فقام أسيد بن الحضير فقال: «أنا أعذرك منه» ،
__________
[ (1) ] صحيح البخاري ج 3 ص 37.
[ (2) ] زيادة للبيان من (ابن هشام) ج 3 ص 187.

(1/220)


ولم يذكر سعد بن معاذ.
قال الحافظ أبو محمد علي بن [ (1) ] أحمد بن سعيد بن حزم: وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل اللَّه تعالى في ذلك من براءة عائشة رضي اللَّه عنها ما أنزل. وقد روينا من طرق صحاح أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة. وهذا عندنا وهم [ (2) ] ، لأن سعد ابن معاذ مات إثر فتح بني قريظة بلا شك، وفتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة- بعد سنة وثمانية أشهر من موته، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة. وذكر ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، وغيره: أن المقاول لسعد بن عبادة إنما كان أسيد بن الحضير، وهذا هو الصحيح، والوهم لم يعر [ (3) ] منه أحد من بني آدم.
واللَّه أعلم.