إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع القسم الثاني:
التحقيقات المتعلقة بالنكاح
وفيه مسائل:
الأولى: أبيح لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يجمع أكثر من أربع
نسوة
وهو ثابت بالإجماع ولأنه لما كان يفضله على العبد يستبيح من النسوة أكثر ما
يستبيحه العبد وجب أن يكون النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يستبيح من النساء
أكثر ما تستبيحه الأمة وقد قيل له في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أن المراد بالناس النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم وأنهم حسدوه على نكاح تسع نسوة وقالوا: هلا شغلته
النبوة عن النساء فأكذبهم اللَّه تعالى وقال: كان لسليمان الملك العظيم ولم
يشغله عن النبوة وكان له ألف حرة ومملوكة وكان له تسع وتسعون زوجه وحكاه
الإمام أبو نصر عبد الرحيم القشيري في كتاب (التيسير في التفسير) واعترض
هذا بأنه لو كان الحكمة في ذلك ما ذكر من التفضيل للزم أن يفضل سليمان على
نبينا وليس الأمر كذلك وقد اتفقوا على إباحة تسع نسوة له صلى اللَّه عليه
وسلّم. واختلف أصحابنا في جواز الزيادة على ذلك، فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له الزيادة، لأن الأصل استواؤه صلى اللَّه عليه وسلّم
وأمته في الأحكام لكن ثبت له جواز الزيادة إلى تسع، فقصر عليه، وأصحهما،
وبه قطع الماوردي، والجواز لأنه مأمون الجور، ولظاهر قوله تعالى إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [ (1) ] .
وقد قيل: إنه كان عنده عند التخيير عشر نسوة، العاشرة بنت الضحاك التي
اختارت نفسها، وذكر الواقدي كما تقدم: أن ريحانة زوجة مدخول بها، محجوبة.
فعلى هذا قد اجتمع عنده صلى اللَّه عليه وسلّم عشر زوجات، وادعى من قال
بانحصار الحل في التسع، أن قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ
بَعْدُ [ (2) ] ناسخ لحل الزيادة، فحرم عليه أن يتزوج عليهنّ، لكونهن
اخترنه، وحرم عليهنّ أن يتزوجن بغيره.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] الأحزاب: 52.
(10/192)
ودليل الجواز: ما في البخاري [ (1) ] ، عن
معاذ بن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن أنس، كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم يطوف على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن إحدى
عشرة. قلت لأنس: هل كان يطيق ذلك؟ قال:
كنا نتحدث أنه كان أعطى قوة ثلاثين، وفي رواية: أربعين.
ثم رواه البخاري [ (2) ] من حديث سعيد، عن قتادة: وعنده تسع، وروى الحافظ
ضياء الدين في (الأحاديث المختارة) من حديث أنس: تزوج صلى اللَّه عليه
وسلّم خمس
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد، ومن
دار على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (268) .
[ (2) ] قال الحافظ في (الفتح) : وقد جمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين
بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم في قوله: «إن الأولى كانت في أول قدومه
المدينة حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع
عنده إحدى عشرة امرأة» وموضع الوهم منه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لما قدم
المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج
أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب
بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في
السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور.
واختلف في ريحانة وكانت من سبى بنى قريظة فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن
يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت
قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن
عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة.
فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت
يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد.
لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهنّ لفظ
«نسائه تغليبا. وقد سرد الدمياطيّ في (السيرة) التي جمعها- من اطلع عليه من
أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم
يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي (المختارة) من وجه آخر عن أنس» تزوج خمس
عشرة: دخل منهم بإحدى عشرة ومات عن
(10/193)
عشر امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع
عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. وقاله قتادة أيضا، وذكره ابن الصباغ في
(الشامل) وقال: قال أبو عبيدة: تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
ثماني عشرة امرأة، واتخذ من الإماء ثلاثا.
وزعم القضاعي في كتاب (عيون المعارف) أن إباحة ما فوق الأربع مما خص به
نبيا صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء قبله، وكأنه خفي عليه ما نقل عن
سليمان وداود عليهما السلام في ذلك من الزيادة.
وقد اختلف أصحابنا أيضا في انحصار طلاقه صلى اللَّه عليه وسلّم في الثلاث
على وجهين كالوجهين في عدد زوجاته، لكن صحح البغوي الحصر فيهما كغيره،
وصححه في (أصل الروضة) [ (1) ] ، وذكره الرافعي الطريقة الأولى، ثم قال:
ورأى أصحاب التتمة الانحصار، ولم يزد على ذلك في شرحه.
الثاني: القطع بانحصاره فيه، بخلاف عدد الزوجات، لأن المأخوذ عليه من أسباب
التحريم أغلظ، أعله الماوردي، وهو جازم بعدم انحصار النسوة، ويحال لوجهين
في انحصار طلاقه عليه السلام، ومنه خرجت هذه الطريقة.
__________
[ () ] تسع» وسرد أسماءهن أيضا أبو الفتح اليعمري ثم مغلطاى فزدن على العدد
الّذي ذكره الدمياطيّ، وأنكر ابن القيم ذلك. والحق ان الكثرة المذكورة
محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص العدة. واللَّه أعلم.
قوله: (أو كان) بفتح الواو هو مقول قتادة والهمزة للاستفهام ومميز ثلاثين
محذوف أي ثلاثين رجلا، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبى موسى عن معاذ
بن هشام «أربعين» بدل ثلاثين، وهي شاذة من هذا الوجه لكن في مراسيل طاوس
مثل ذلك وزاد «في الجامع» وفي (صفة الجنة) لأبى نعيم من طريق مجاهد مثله
وزاد «من رجال أهل الجنة» ، ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رفعه «أعطيت قوة
أربعين في البطش والجماع» وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن
أرقم رفعه «إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوة مائة في الأكل والشرب والجماع
والشهوة» فعلى هذا يكون حساب قوة نبيا أربعة آلاف.
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 353، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم، في النكاح وغيره.
(10/194)
قال: وعلى الحصر إذا طلق واحدة ثلاثا، هل
تحل له من غير أن تتكح زوجا غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، لما خص من تحريم نسائه على غيره.
والثاني: لا تحل له أبدا، لما عليه من التغليظ في أسباب التحريم.
والفرق بين عدد الزوجات، وعدد الطلاق: ان الخلاف في الزوجات هل يزيد على
التسع أو لا؟ ولم تشاركه الأمة في شيء من ذلك.
والخلاف في الطلاق واضح، ويمكن أن يقال في مدرك عدم الانحصار في الثلاث: أن
الطلاق في أول الإسلام كان غير منحصر في ثلاث، كما أخرجه مالك والشافعيّ
عنه، عن هشام، عن أبيه مرسلا، ووصله البيهقي والحاكم، من طريق يعلى بن
شبيب، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قال: كان
الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وأن طلقها مائة أو أكثر [و] إذا أراد
أرجعها قبل أن تتقضى عدتها، حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أطلقك فتبينى
منى، وأردك إلى، قالت: وكيف ذاك؟
قال: أطلقك، وكلما همت عدتك أن تتقضى، ارتجعتك، ثم أطلقك، وأفعل هكذا، فشكت
المرأة إلى عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فذكرت ذلك عائشة للنّبيّ
صلى اللَّه عليه وسلّم، فسكت فلم يقل شيئا، حتى نزل القرآن: الطَّلاقُ
مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [ (1) ] . قال
الحاكم: صحيح الإسناد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 229.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 307، كتاب التفسير، حديث رقم (3106) ، قال الحاكم:
هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة، وناظرنى
شيخنا أبو الحافظ، وذكر أن البخاري روى عنه في (الصحيح) فقلت: هذا يعقوب بن
محمد الزهري، وهو ثبت على ما قال.
قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) بعد قول الحاكم: ما تكلم أحد في ابن كاسب
بحجة، قال: قد ضعفه غير واحد.
وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 333، كتاب الخلع والطلاق، باب ما
جاء في إمضاء الطلاق لثلاث، وإن كن مجموعات.
(10/195)
فإن كانت العبرة بخصوص السبب، وهو قصد
المضارة، فالأنبياء عليهم السلام [منزهون عن] ذلك، فيتجه عدم الانحصار.
وإن نظرنا إلى عموم اللفظ، فيتجه الانحصار، واللَّه تبارك وتعالى أعلا
وأعلم.
الثانية: في انعقاد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بلفظ الهبة
فيه وجهان: أحدهما: لا ينعقد كغيره، وأصحهما يصح، وهو ما قطع به الإمام
الغزالي، لقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها
لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ (1) ] وعلى هذا لا يجب المهر بالعقد ولا
بالدخول كما هو مقتضى الهبة.
وهل يشترط لفظ النكاح من جهته صلى اللَّه عليه وسلّم؟ أو يكفى لفظ الإيهاب؟
فيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما في حق المرأة، وأصحهما في (أصل الروضة) [ (2) ] ،
والرافعي يشترط، قال الرافعي: أنه الأرجح عند الشيخ أبى حامد، لظاهر قوله
تعالى: أَنْ يَسْتَنْكِحَها فاعتبر في جانبه صلى اللَّه عليه وسلّم النكاح.
وفي (الحاوي) للماوردى: أباحه اللَّه تعالى أن يملك نكاح الحرة بلفظ الهبة
من غير بذل يذكر مع العقد، ولا يجب من بعد، فيكون مخصوصا به من بين أمته من
وجهين:
أحدهما: أن يملك الحرة بلفظ الهبة، ولا يجوز ذلك لغيره من أمته.
والثاني: ان يسقط عنه المهر ابتداء مع العقد، وانتهاء فيما بعد، وغيره من
أمته يلزمه المهر فيما بعد.... إلى آخر كلامه، ورجح الرافعي والنووي اشتراط
لفظ النكاح من جهة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، واستدلا بقوله تعالى:
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 353، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه
في النكاح غيره.
(10/196)
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [ (1) ]
وفيه نظر. لأن اللَّه تعالى لما اشترط إرادة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
نكاحها، فلو قال: أردت، كان كافيا، ولفظ الرافعي: هل يشترط لفظ النكاح من
جهته وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط من جهة الواهبة.
والثاني: نعم، لظاهر قوله: أَنْ يَسْتَنْكِحَها، وهذا أرجح، عند الشيخ أبى
حامد.
ووقع في (الجواهر) للقمولى: أن فيها وجهين، أرجحهما عند الشيخ ابى حامد أنه
يكفى لفظ الإيهاب، وهذا مغاير لنقل الرافعي، والجمع بينهما: أن الشيخ أبى
حامد نقل أن الصحيح ما عزاه إليه الرافعي، ثم بحث، فرجح ما عزاه إليه
القمولي، ومن تأمل كلامه ظهر له ذلك.
قال الأصحاب: وينعقد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بمعنى الهبة، حتى لا يجب
مهرا ابتداء أو انتهاء.
وفي وجه غريب أنه يجب المهر، والّذي خص به انعقاد نكاحه بلفظ الهبة دون
معناها.
وقال الماوردي مرة بسقوط المهر، ومرة قال: اختلف أصحابنا في من لم يسم لها
مهرا في العقد، هل يلزمه مهر المثل؟ على وجهين: وجه المنع، أن المقصود منه
التوصل إلى ثواب اللَّه تعالى.
قال: واختلف العلماء هل كانت عنده صلى اللَّه عليه وسلّم امرأة موهوبة أم
لا؟ من أجل اختلاف القراء في فتح إن وكسرها من قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فعلى الثاني: تكون شرطا مستقبلا، وعلى الأول: تكون
خبرا عن ماض.
قال أبو حيان في (التفسير) [ (2) ] : قرأ الجمهور وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً
بالنصب إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها بكسر الهمزة، أي أحللناها لك إِنْ وَهَبَتْ،
إِنْ أَرادَ فهما شرطان.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] (البحر المحيط) : 8/ 492- 493.
(10/197)
والثاني: في معنى الحال، كأنه شرط في
الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن
إرادته صلى اللَّه عليه وسلّم هي قبول الهبة، وبه تتم، وإذا اجتمع شرطان،
فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة
على الترتيب.
وقرأ أبو حيوة: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف،
أي أحللناها لك.
وقرأ أبى والحسن وغيرهما: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم
امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب
نفسها، دون واحدة بعينها.
وقرأ زيد بن على: إذ وهبت بالذال. وإذ ظرف، فهو في امرأة بعينها أيضا.
وقرأ الجمهور: خالصة بالنصب. وهو مصدر مؤكد، يعنى خلوصا، ويجيء المصدر فاعل
وفاعلة.
وقرئ خالِصَةً لَكَ بالرفع، وقال: الظاهر أن قوله: خالِصَةً لَكَ من صفة
الواهبة، فقراءة النصب على الحال، والرفع خبر مبتدإ محذوف، أي هي خالصة لك،
أي هبة النساء أنفسهن مختص بك وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره.
وفي (الحاوي) : للماوردى: واختلف في الواهبة، فقيل: أنها أم شريك بنت جابر
بن ضباب قاله عروة: وقيل: خولة بنت حكيم. قالت عائشة، وقيل: غزية، قاله ابن
عباس، وقيل: زينب بنت خزيمة أم المساكين. قاله الشعبي.
وزاد أبو حيان مع ابن عباس قتادة، وقال: في الأولى هو قول على بن الحسين،
والضحاك، ومقاتل، وزاد مع الشعبي عروة، وزاد مع عائشة عروة أيضا.
فتلخص في الواهبات من الزوجات ثنتان: هما ميمونة وزينب ومن غير الزوجات: أم
شريك. واختلف في اسم أم شريك، فقيل: عامرية اسمها
(10/198)
غزية أو غزيلة، وقيل: غفارية، وقول
الماوردي في نسبتها يدل على أنها عامرية، فقال: قيل: إنها أم شريك بنت عوف
بن عمرو بن جابر بن صباب.
وقيل: هي بنت وردان بن عوف بن عمرو بن عامر، وقد قيل أيضا:
هي ليلى بنت الخطيم، وقيل: فاطمة بنت شريح [ (1) ] .
__________
[ (1) ] فاطمة بنت شريح: هي أم شريك القرشية العامرية، من بنى عامر بن
لؤيّ، نسبها ابن الكلبي، فقال: بنت دودان بن عوف بن عمرو بن خالد بن ضباب
بن حجير بن معيص بن عامر. وقال غيره: عمرو بن عامر بن رواحة بن حجير. وقال
ابن سعد: اسمها غزية بنت جابر بن حكيم، كان محمد بن عمر يقول: هي من بنى
معيص بن عامر بن لؤيّ. وكان غيره يقول: هي دوسية من الأزد، ثم أسند عن
الواقدي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كانت أم شريك
من بنى عامر بن لؤيّ معيصية وهبت نفسها للنّبيّ فلم يقبلها فلم تتزوج حتى
ماتت.
وقال أبو عمر: كانت عند أبى العكر بن سمى بن الحارث الأزدي ثم الدوسيّ،
فولدت له شريكا، وقيل: إن اسمها غزيلة، بالتصغير، ويقال غزية بتشديد الياء
بدل اللام، وقيل بفتح أولها وقال ابن مندة: فاختلف في اسمها فقيل غزيلة.
وقال أبو عمر: من زعم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نكحها قال: كان
ذلك بمكة. وهو عجيب، فإن قصة الواهبة نفسها إنما كانت بالمدينة، وقد جاء من
طرق كثيرة أنها كانت وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرج أبو نعيم، من طريق محمد بن مروان السدي- أحد المتروكين، وأبو موسى،
من طريق إبراهيم بن يونس، عن زياد، عن بعض أصحابه، عن ابن الكلبي، عن أبى
صالح، عن ابن عباس، قال: ووقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، وهي إحدى
نساء قريش ثم إحدى بنى عامر بن لؤيّ، وكانت تحت أبى العكر الدوسيّ، فأسلمت،
ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها
لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك
إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتى شيء موطأ ولا غيره، ثم تركونى
ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني. قالت: فما أتت على ثلاث حتى ما في الأرض شيء
أسمعه، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا تزلوا وثقونى في الشمس واستظلوا وحبسوا
عنى الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا أنا بأثر شيء على
(10/199)
__________
[ () ] بد منه، ثم رفع، ثم عاد فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا
ثم نزع منى، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، ثم رفع
فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي. فلما استيقظوا
فإذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت، فأخذت سقاءنا
فشربت منه. فقلت: لا، واللَّه ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا:
لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها،
وأسلموا بعد ذلك.
وأقبلت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ووهبت نفسها له بغير مهر، فقبلها
ودخل عليها، فلما رأى عليها كبرة طلقها.
وأخرج أبو موسى أيضا من وجه آخر عن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس- شبيهة
بالقصة التي في الخبر المرسل، وحاصله أنه اختلف على الكلبي في سياق القصة،
ويتحصل منها- إن كان ذلك محفوظا- أن قصة الدلو وقعت لأم شريك ثلاث مرات،
قال ابن الأثير: استدل أبو نعيم بهذه القصة على أن العامرية هي الدوسية.
قلت: فعلى هذا يلزم منه أن تكون نسبتها إلى بنى عامر، من طريق المجاز، مع
أنه يحتمل العكس بأن تكون قريشية عامرية، فتزوجت في دوس فنسبت إليهم.
وأخرج الحميدي في مسندة، من رواية مجالد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس- أن
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لها: اعتدى عند أم شريك بنت أبى العكر،
وهذا يخالف ما تقدم أنها زوج أبى العكر، ويمكن الجمع بأن تكون كنية والدها
وزوجها اتفقتا أو تصحفت بنت بالموحدة والنون من بيت بالموحدة والتحتانية،
وبيت الرجل يطلق على زوجته، فتنفق الروايتان.
وجاء عن أم شريك ثلاثة أحاديث مسندة، ولم تنسب في بعضها، ونسب في بعضها مع
اختلاف في الرواية في النسبة الأولى،
أخرجه مسلم في الفتن، والترمذي في المناقب، من رواية الزبير، عن جابر، عن
أم شريك، قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يتفرق الناس من
الدجال قالت أم شريك: يا رسول اللَّه، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل.
وأخرج ابن ماجة من حديث أبى أمامة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في ذكر
الدجال، قال: ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج
إليه، ويدعى ذلك اليوم يوم الحلام.
قالت أم شريك بنت أبى العكر: يا رسول اللَّه، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم
يومئذ قليل،
ذكره في حديث طويل.
(10/200)
وفي الصحيحين [ (1) ] من حديث عائشة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنها، كانت خولة [بنت حكيم] [ (2) ] من اللاتي وهبن
أنفسهن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقالت
__________
[ () ] وهذا يوافق ما
أخرجه الحميدي، وغيره، من طريق مجالد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس- أن
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لها اعتدى عند أم شريك بنت أبى العكر،
وعلى هذا- إن كان محفوظا- فهي الأنصارية المتقدمة، فكأن نسبتها كذلك مجازية
أيضا.
الثاني: أخرجه الشيخان من رواية سعيد بن المسيب، عن أم شريك- أن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم أمرها بقتل الأوزاغ، ولم ينسب في هذه الرواية إلا في
رواية لأبى عوانة عن سماك.
والثالث: أخرجه النسائي، من رواية هشام بن عروة، عن أم شريك- أنها كانت ممن
وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، ورجاله ثقات ولم ينسبها. وقد
أخرجه ابن سعد، عن عبيد اللَّه بن موسى، عن سنان عن فراس عن الشعبي، قال:
المرأة التي عدل عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أم شريك
الأنصارية. وهذا مرسل. رجاله ثقات.
ومن طريق شريك القاضي وشعبة، قال شريك عن جابر الجعفي، عن الحكم، عن على بن
الحسين- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج أم شريك الدوسية، لفظ شريك.
وقال شعبة في روايته: إن المرأة التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه
وسلّم وسلم أم شريك امرأة من الأزد.
وأخرج ابن سعد من طريق عكرمة، ومن طريق عبد الواحد بن أبى عون في هذه
الآية: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ. قال:
هي أم شريك، وفي مسندهما الواقدي ولم ينسبها.
والّذي يظهر في الجمع أن أم شريك واحدة، اختلف في نسبتها أنصارية، أو
عامرية من قريش، أو أزدية من دوس، واجتماع هذه النسب الثلاث ممكن، كأن يقول
قرشية تزوجت في دوس فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار فنسبت إليهم، أو لم
تتزوج بل هي نسبت أنصارية بالمعنى الأعم.
لها ترجمة في (الإصابة) : 8/ 238- 241، ترجمة رقم (12099) ، (الاستيعاب) :
4/ 1943، (طبقات ابن سعد) : 8/ 110.
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 204، كتاب النكاح، باب (30) هل للمرأة أن تهب
نفسها لأحد؟ حديث رقم (5113) ، رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن
هشام، عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، يزيد بعضهم على بعض.
(10/201)
__________
[ () ] وأخرجه البخاري أيضا في كتاب التفسير، باب (7) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ
عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ، حديث رقم (4788) ، عن عائشة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل اللَّه تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ
ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قلت: ما أرى ربك إلا
يسارع في هواك.
قال الحافظ في (الفتح) وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب
نزول آية التخيير، وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن
وقوله: وهبن أنفسهن هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة.
وعند ابن أبى حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه
وسلّم هي خولة بنت حكيم، ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه
النسائي من طريق عروة. وعند أبى عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة
بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له ومنهن زينب بنت
خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح، ومن
طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه
وسلّم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده
ضعيف.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي ما أرى اللَّه إلا موجدا لما تريد
بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار. وقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي
تؤخرن بغير قسم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد
والحسن وقتادة وأبى رزين وغيرهم، وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنّبيّ صلى
اللَّه عليه وسلّم، فدخل ببعضهن وأرجا بعضهن لم ينكحهن، وهذا شاذ، والمحفوظ
أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم.
وقيل: المراد بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشاءُ أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له: لا تطلقنا واقسم لنا ما شئت،
فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن
اللاتي أرجاهن.
فحاصل ما نقل في تأويل تُرْجِي أقوال: أحدها: تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من
شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من
شئت.
(10/202)
__________
[ () ] وحديث الباب يؤيد هذا والّذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة.
وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن، بمعنى أنه لم
يعتزل، وهو قول الزهري: «ما أعلم أنه أرجا أحدا من نسائه» أخرجه ابن أبى
حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. (فتح
الباري) : 8/ 673- 675.
(باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد) أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول
صورتين:
إحداهما: مجرد الهبة من غير ذكر مهر، والثانية: العقد بلفظ الهبة. فالصورة
الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن
قالوا: يجب مهر المثل، وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر
لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ فعدوا ذلك من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم وأنه يتزوج بلفظ
الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل، وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد
أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة.
والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح
أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث، وذهب الأكثر
إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز
بصرائحه وبكناياته مع القصد.
قوله: (حدثنا هشام) هو ابن عروة عن أبيه (قال: كانت خولة) هذا مرسل، لأن
عروة لم يدرك زمن القصة، لكن السياق يشعر بأنه حمله عن عائشة. وقد ذكر
المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا.
قوله: (بنت حكيم) أي ابن أمية بن الأوقص السلمية، وكانت زوج عثمان بن
مظعون، وهي من السابقات إلى الإسلام، وأمها من بنى أمية.
قوله: (فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها) وفي رواية محمد بن بشر
الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللائي وهبن أنفسهن.
قوله: فلما نزلك: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ في رواية عبدة بن سليمان: فأنزل
اللَّه ترجى وهذا أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب، قال القرطبي: حملت
عائشة على هذا التقبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت ان
اللَّه أباح لنبيه ذلك وان جميع النساء لو ملكن لرقهن لكان قليلا.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) في رواية محمد بن بشر «إني لأرى ربك
يسارع لك في هواك «أي في رضاك، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال
والغقيرة، وهو من نوع قولها: ما أحمدكما ولا أحمد إلا اللَّه، وإلا فإضافة
الهوى إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا تحمل على ظاهره، لأنه لا ينطق عن
الهوى ولا يفعل بالهوى، لو قالت: إلى مرضاتك لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر
لأجلها إطلاق مثل ذلك. (فتح الباري) : 9/ 204- 205.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
(10/203)
عائشة: أما تستحي المرأة تهب نفسها للرجل؟
فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ
قالت: يا رسول اللَّه! ما أرى ربك إلا يسارع في هواك! وهذا يدل على أن معنى
قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من الواهبات،
فلا تقبل هبتها، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي بقبول هبتها. وقد قيل
خلاف ذلك.
وعند القاضي أبى عبد اللَّه محمد بن سلامة القضاعي، أنه صلى اللَّه عليه
وسلّم إنما خص بإباحة الموهوبة له خاصة، وهو أن يتزوجها بلفظ الهبة، وإباحة
النكاح بغير مهر، ولا يستقر عليه إلا بالدخول، وإن هذا مما خص به دون
الأنبياء من قبله، ودون أمته، تشريفا له، وتعظيما لشأنه صلى اللَّه عليه
وسلّم.
الثالثة: إذا رغب صلى اللَّه عليه وسلّم في نكاح امرأة
فإن كانت خليه فعليها الإجابة على الصحيح ويحرم على غيره، وخطبتها وإن كانت
ذات زوج وجب على زوجها طلاقها لينكحها على الصحيح لقوله تعالى: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ [ (1) ] كذلك استدل بها. الماوردي، واستدل الغزالي في (الوسيط)
، لوجوب التطليق بقصة زيد، وهي مشهورة.
خرج البخاري [ (2) ] في كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، من حديث
حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] الأنفال: 24.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 497، كتاب التوحيد، باب (22) ، وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، حديث رقم (7420) ، قوله:
(قال أنس لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما
(10/204)
__________
[ () ] شيئا لكتم هذه) ظاهره أنه موصول بالسند المذكور، لكن أخرجه الترمذي
والنسائي وابن خزيمة والإسماعيلي عنه نزلت: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا
اللَّهُ مُبْدِيهِ في شأن زينب بنت جحش
وكان زيد يشكو وهمّ بطلاقها يستأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال له
«أمسك عليك زوجك واتّق اللَّه»
وهذا القدر هو المذكور في آخر الحديث هنا بلفظ «وعن ثابت وتخفى في نفسك»
إلخ، ويستفاد منه أنه موصول بالسند المذكور وليس بمعلق، وأما قوله «لو كان
كاتما» إلخ، فلم أره في غير هذا الموضع موصولا عن أنس، وذكر ابن التين عن
الداوديّ أنه نسب قوله «لو كان كاتما لكتم قصة زينب» إلى عائشة، قال وعن
غيرها» لكتم عبس وتولى» ، قلت: قد ذكرت في تفسير سورة الأحزاب حديث عائشة
قالت «لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي»
الحديث، وأنه أخرجه مسلم والترمذي ثم وجدته في مسند الفردوس من وجه آخر عن
عائشة من لفظه صلى اللَّه عليه وسلّم «لو كنت كاتما شيئا من الوحي» الحديث،
واقتصر عياض في الشفاء على نسبتها إلى عائشة والحسن البصري وأغفل حديث أنس
هذا وهو عند البخاري.
قوله: (قال فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- إلى
قولها- وزوجني اللَّه عز وجل من فوق سبع سماوات) أخرجه الإسماعيلي من طريق
حازم بن الفضل عن حماد بهذا السند بلفظ «نزلت في زينب جحش فَلَمَّا قَضى
زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها» وكانت تفخر على نساء النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم وكانت تقول إن اللَّه أنكحن في السماء» وزاد الإسماعيلي
من طريق الفريايى وأبى قتيبة عن عيسى «أنتن أنكحكن آباؤكن» وهذا الإطلاق
محمول على البعض، وإلا فالمحقق أن التي زوجها أبوها منهن عائشة وحفصة فقط،
وفي سودة وزينب بنت خزيمة وجويرية احتمال، وأما أم سلمة وأم حبيبة وصفية
وميمونة فلم يزوج واحدة منهن أبوها، ووقع عند ابن سعد من وجه آخر عن أنس
بلفظ «قالت زينب يا رسول اللَّه إني لست كأحد من نسائك، ليست منهم امرأة
إلا زوجها أبوها أو أخوها أو أهلها غيري» وسنده ضعيف ومن وجه آخر موصول عن
أم سلمة «قالت زينب ما أنا كأحد من نساء النبي إنهن زوجن بالمهور زوجهن
الأولياء، وأنا زوجني اللَّه ورسوله صلى اللَّه عليه وسلّم وأنزل اللَّه في
الكتاب» . وفي مرسل الشعبي» قالت زينب يا رسول اللَّه أنا أعظم نسائك عليك
حقا، أنا خيرهن منكحا وأكرمهن سفيرا وأقربهن رحما فزوجنيك الرحمن من فوق
عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك وليس لك من نسائك قريبة
غيري» أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في (كتاب الحجة والتبيان) له.
(10/205)
وتعالى عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو،
فجعل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك.
قال أنس: لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه،
قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، تقول: زوجكم
أهاليكن وزوجي اللَّه تعالى من فوق سبع سماوات، وعن ثابت وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ نزلت في شأن زينب وزيد
بن حارثة.
__________
[ () ] قوله: (من فوق سبع سماوات) في رواية عيسى بن طهمان عن أنس المذكورة
عقب هذا «وكانت تقول إن اللَّه عز وجل أنكحنى في السماء» وسنده هذه أخر
الثلاثيات التي ذكرت في البخاري، وتقدم لعيسى بن طهمان حديث آخر تكلم فيه
ابن حبان بكلام لم يقبلوه منه، وقوله فيه هذه الرواية «وأطعم عليها يومئذ
خبزا ولحما» يعنى في وليمتها، وقد تقدم بيانه واضحا في تفسير سورة الأحزاب.
قال الكرماني قوله: «في السماء» ظاهره غير مراد، إذ اللَّه منزه عن الحلول
في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى
علو الذات والصفات، وبنحو هذا أجاب غيره عن الألفاظ الدارجة من الفوقية
ونحوها، قال الراغب: «فوق» يستعمل في المكان والزمان والجسم والعدد
والمنزلة والقهر.
فالأول: باعتبار العلو ويقابله تحت نحو قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ.
والثاني: باعتبار الصعود والانحدار، نحو إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ.
والثالث: في العدد نحو فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ.
والرابع: في الكبر والصغر، كقوله بَعُوضَةً فَما فَوْقَها.
والخامس: يقع تارة باعتبار الفضيلة الدنيوية، نحو وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، أو الأخروية نحو وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ.
والسادس: نحو قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ انتهى ملخصا.
(10/206)
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث داود بن أبى
هند، عن الشعبي، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: لو كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب:
37] يعنى: بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: بالعتق فأعتقته أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا
قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فإن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم لما تزوجها، قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل اللَّه تعالى: ما
كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ
وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له: زيد ابن محمد، فأنزل
اللَّه تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ
لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فلان
مولى فلان، وفلان أخو فلان هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يعنى: أعدل عند
اللَّه.
وعن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: لو كان النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ. وهذا الحديث لم يرد بطوله [ (2) ]
.
__________
[ (1) ] رواه الترمذي في التفسير، باب ومن سورة الأحزاب، حديث رقم (3205)
وقال: هذا حديث غريب.
قال ابن الأثير: في سنده داود بن الزبرقان الرقاشيّ البصري تزيل بغداد، وهو
متروك، وكذبه الأزدي كما قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» وقول عائشة في
أول الحديث: لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي
لكتم هذه الآية، هذا القدر ثابت. وقال الحافظ في (الفتح) :
وأظن الزائد بعده مدرجا في الخبر، فإن الراويّ له عن داود- يعنى بن أبى
هند- لم يكن بالحافظ- يريد به داود بن الزبرقان.
[ (2) ] أخرجه الترمذي برقم (3206) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه مسلم في
الإيمان، باب معنى قول اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى حديث
رقم (177) .
(10/207)
خرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، في
قوله: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ
عَلَيْهِ، قال: أنعم اللَّه عليه بالإسلام، وأنعم النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم بالعتق، أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ،
قال قتادة: جاء زيد بن حارثة للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن زينب
اشتد عليّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك،
قال: والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم يحب أن يطلقها، ويخشى قالة الناس: أن
أمره بطلاقها. فأنزل اللَّه تعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ
مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً.
قال قتادة: طلقها زيد زَوَّجْناكَها.
قال معمر: وأخبرنى من سمع الحسن يقول: ما نزلت على النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم آية أشد منها، قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ،
لو كان كاتما شيئا من الوحي كتمها.
قال: وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فتقول: أما
أنتن فزوجكن آباؤكن، وأما أنا فزوجني رب العرش [ (1) ] .
وذكر الحاكم في (مستدركه) ، عن محمد بن عمر الواقدي قال:
حدثني عمر بن عثمان الحجى، عن أبيه قال: قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
المدينة، وكانت زينب بنت جحش ممن هاجر مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم- وكانت امرأة جميلة، فخطبها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على
زيد بن حارثة، فقالت: يا رسول اللَّه لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم قريش، قال:
فإنّي قد رضيته لك، فتزوجها زيد بن حارثة.
قال الواقدي: فحدثني عبد اللَّه بن عامر الأسلمي، عن محمد بن يحى قال: جاء
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما
يقال له:
زيد بن محمد، فربما فقده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الساعة فيقول:
أين زيد. فجاء منزله يطلبه فلم يجده فتقوم إليه زينب فقول له: هنا يا رسول
اللَّه.
فولى يهمهم بشيء لا يكاد يفهم عنه، إلا سبحان اللَّه العظيم، سبحان مصرف
القلوب.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 452، كتاب التفسير، حديث رقم (3563) وقال الحافظ
الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
(10/208)
فجاء زيد إلى منزله: فأخبرته امرأته أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى منزله، فقال زيد: ألا قلت له يدخل؟
قالت: قد عرضت قولك عليه وأبى. قال:
فسمعتيه يقول شيئا؟ قالت سمعته حين ولى يكلم بكلام لا أفهمه، وسمعته يقول:
سبحان اللَّه العظيم، سبحان مصرف القلوب.
قال: فخرج زيد حتى أتى رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، بلغني أنك جئت
منزلي، فهلا دخلت؟ بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه، لعل زينب أعجبتك!
أفأفارقها؟ فيقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أمسك عليك زوجك، فما
استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك، ويأتى رسول اللَّه فيخبره، فيقول: أمسك
عليك زوجك، فيقول: يا رسول اللَّه! أفأفارقها؟ فيقول رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم: احبس عليك زوجك.
ففارقها زيد، واعتزلها، وحلت. قالت: فبينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم جالس يتحدث مع عائشة، إذ أخذت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
غمية، ثم سرى عنه، وهو يتبسم وهو يقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن اللَّه
عز وجل زوجنيها من السماء، وتلا: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ القصة كلها.
قالت عائشة: فأخذت ما قرب وما بعد، لما كان بلغني من جمالها، وأخرى هي أعظم
الأمور وأشرفها، ما صنع اللَّه لها، وزوجها اللَّه عز وجل من السماء، وقالت
عائشة: هي تفخر علينا بهذا.
قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تشتد،
فحدثتها بذلك، فأعطتها أوضاحا لها.
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في (تفسيره) ، عن ابن وهب قال: قال ابن
زيد: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد زوج زينب ابنة جحش ابنة عمته، زيد
بن حارثة، فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوما يريده، وعلى الباب
ستر من شعر، فرفعت الريح الستر، فانكشف وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها
في قلبه، فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر.
قال: فجاء فقال: يا رسول اللَّه! إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال:
مالك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه. ما رابني منها شيء،
ولا رأيت إلا خيرا.
(10/209)
فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم: أمسك عليك زوجك واتّق اللَّه، فذلك قول اللَّه تعالى ذكره: وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا
اللَّهُ مُبْدِيهِ، تخفى في نفسك إن فارقها تزوجتها.
وله من طريق سفيان بن عيينة، عن على بن زيد بن جدعان، عن على بن الحسين،
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: كان اللَّه تعالى أعلم نبيه صلى
اللَّه عليه وسلّم أن زينب ستكون من أزواجه، فلما جاء زيد يشكوها، قال صلى
اللَّه عليه وسلّم: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك قال اللَّه تعالى:
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
وليس في قصة زيد هذه ما يدل على وجوب الطلاق على المتزوج، ومن تأمل ذلك
تبين له ما ذكرت، واللَّه تعالى أعلم.
ولم يذكر هذه الخصوصية ابن القاصّ، ولا الشيخ أبو حامد، ولا البيهقي، ويمكن
أن يستدل لوجوب إجابة المرأة، أنها لو خالفت أمره صلى اللَّه عليه وسلّم
كانت عاصية، وقطع في (التنبيه) بتحريم خطبة من رغب صلى اللَّه عليه وسلّم
في نكاحها.
ويرد عليه ما أخرجه الحاكم [ (1) ] وغيره، من حديث إسرائيل عن السدي، عن
أبى صالح، عن أم هانئ. قالت: خطبنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فاعتذرت إليه، فعذرني، وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ. قالت:
فلم أكن أحل له، لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وقال الغزالي: ولعل الشرفية- يعنى في تحرير من رغب فيها على زوجها من جانب
الزوج- امتحان إيمانه بتكليفه النزول عن أهله، فإن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، ووالده،
والناس أجمعين. وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون
اللَّه ورسوله أحب إليه
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 456، كتاب التفسير، حديث رقم (3574) ، وقال هذا
حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
(10/210)
مما سواهما. خرجه مسلم [ (1) ]
يحققه قول اللَّه تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 374- 375، كتاب الإيمان، باب (16) وجوب
محبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد
والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، حديث رقم
(69) ، (70) .
قال الإمام النووي:
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله
والناس أجمعين» وفي الرواية الأخرى من ولده ووالده والناس أجمعين.
قال الامام أبو سليمان الخطابي: لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار
لأن حب الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه. قال فمعناه لا تصدق في حبي حتى
تفنى في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك. هذا كلام
الخطابي.
وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة اللَّه عليهم: المحبة ثلاثة
أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد،
ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى اللَّه عليه وسلّم أصناف
المحبة في محبته.
قال ابن بطال رحمه اللَّه، ومعنى الحديث أن من استكمل الايمان على أن حق
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لأن
به صلى اللَّه عليه وسلّم استنقذنا من النار وهدينا من الضلال.
قال القاضي عياض رحمه اللَّه ومن محبته صلى اللَّه عليه وسلّم نصرة سنته
والذب عن شريعته وتمنى حضور حياته فيبذل ماله ونفسه دونه قال وإذا تبين ما
ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم الا بذلك، ولا يصح الإيمان الا بتحقيق
إعلاء قدر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن
ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن. هذا كلام القاضي رحمه
اللَّه. واللَّه أعلم.
وأما إسناد هذا الحديث فقال مسلم رحمه اللَّه (وحدثنا شيبان بن أبى شيبة
حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز، عن أنس. قال مسلم (وحدثنا محمد بن مثنى
وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس)
وهذا أن الاسنادين رواتهما يضربون كلهم وشيبان بن أبى شيبة هذا هو شيبان بن
فروخ الّذي روى عنه مسلم في مواضع كثيرة. واللَّه أعلم بالصواب.
[ (2) ] الأحزاب: 6.
(10/211)
قال: ومن جانبه صلى اللَّه عليه وسلّم
ابتلاؤه بالبيئة البشرية، ومنعه من خائنة العين، ومن الإضمار الّذي يخالف
الإظهار، ولا شيء أدعى إلى غض البصر، وحفظه من لمحاته الاتفاقية من هذا
التكلف.
وقد تعقب هذا الكلام بأن ابتلاءه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس هو من إيجاب
الطلاق على الزوج، إنما هو من وقوع هذه النظرة الاتفاقية. قوله: ومنعه من
خائنة الأعين، فقد شرح خائنة العين، وليس في اللمحة الواقعة شيء من خائنة
الأعين، قوله: من لمحاته الاتفاقية، كلام لا دليل عليه من الآية، في هذه
القصة، ولا من الأحاديث.
قال الغزالي: وهذا مما يورده الفقهاء في صنف التخفيف، وعندي أن ذلك في غاية
التشديد، إذ لو كلف بذلك آحاد الناس، لما فتحوا أعينهم في الشوارع
والطرقات، خوفا من ذلك، وذلك قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: لو
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يخفى آية، لأخفى هذه الآية.
واعترض عليه ابو عمرو بن الصلاح فقال: لم يوفق في مخالفته للأصحاب في ذلك.
قال: واصل ما ذكره أنه لم يكتف في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم بالنهى
والتحريم، زاجرا عن مسارقة النظر، وحاملا له على غض البصر عن نساء غيره،
حتى شدد عليه بتكليف لو كلف به غيره لما فتحوا أعينهم في الطرقات، وهذا غير
لائق بمنزلته الرفيعة. وزعم أن هذا الحكم في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم في
غاية التشديد، واللَّه تعالى يقول في ذلك: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ
حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [ (1) ] .
وأما قول عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فذاك لأمر أجود، هو إظهار ما
دار بينه وبين مولاه، وعتابه عليه. وأجيب عنه بأن الغزالي رحمه اللَّه
تعالى، لم يقل أن النهى في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس كافيا في
الانتهاء، وإنما جعل ذلك كفا، وحافظا عن وقوع النظر الاتفاقي، الّذي لا
يتعلق به نهى، فإذا علم أنه إذا وقع ذلك، وقعت منه المرأة موقعا، وجب على
زوجها مفارقتها، احتاج إلى زيادة التحفظ في ذلك.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 38.
(10/212)
والّذي كلف أخفى ما في النفس، مع إبداء
اللَّه تعالى ما به، فإن كثيرا من المباحات الشرعية يستحى الإنسان من
فعلها، ويمتنع منها. قوله تعالى:
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ، فيه رفع الإثم، لا نفى الحياء من
الشيء.
ويمكن أن يقال: لا تنافى بين ما ذكره الغزالي، وبين ما ذكره الفقهاء، لأن
الفقهاء ذكروه في التخفيف، لكون المرأة تحل له بتزويج اللَّه تعالى، بخلاف
غيره، فإنه يحتاج إلى خطبة، ومهر، وغير ذلك.
وأما الّذي ذكره هو، فهو غض البصر، وحفظه عن لمحاته الاتفاقية، وقد تقدم
أنه لا دليل له عليه، وإن ادعى أنه يستفاد من قوله تعالى: وَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ منع.
والحق في المسألة: ما روى عن على بن الحسين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما،
أن اللَّه تعالى كان أوحى إلى نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم أن زيدا سيطلق
زينب، ويتزوجها، فلما استشاره زيد في طلاقها قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ فهذا هو الّذي أخفاه [ (1) ] .
وقال غيره: وخشي قول الناس أن يتزوج زوجة ولده، ومن تأمل أحاديث القصة تبين
له هذا الّذي قلته. فإن قيل: ما الجواب عما خرجه البخاري من حديث ابن
عيينة، سمع ابن المنكدر، سمعت عروة بن الزبير عن عائشة، وخرجه مسلم، وأبو
داود من حديث سفيان عن ابن المنكدر، عن عروة، عن عائشة،
وخرجه مسلم من حديث سفيان، وهو ابن عيينة عن ابن المنكدر، سمع عروة بن
الزبير يقول: حدثتني عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن رجلا استأذن
على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة- أو
بئس رجل العشيرة- فلما دخل عليه، ألان له القول!! قالت عائشة: فقلت يا
__________
[ (1) ] قال ابن الأثير: والحاصل أن الّذي كان يخفيه النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم هو إخبار اللَّه إياه أنها ستصير زوجته، والّذي كان يحمله على إخفاء
ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد اللَّه تعالى إبطال ما كان
عليه أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو
تزوج امرأة الّذي يدعى ابنا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين، ليكون أدعى
لقبولهم.
(جامع الأصول) : 2/ 310 [هامش] .
(10/213)
رسول اللَّه! قلت له الّذي قلت، ثم ألنت له
القول؟ قال: يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند اللَّه يوم القيامة، من ودعه
أو تركه الناس اتقاء فحشه. اللفظ لمسلم [ (1) ] . ذكره في كتاب البر
والصلة.
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 10/ 646، كتاب الأدب، باب (82) المداراة مع الناس، ويذكر عن
أبى الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم، حديث رقم
(6131) ، (مسلم بشرح النووي) : 16/ 380- 381، كتاب البر والصلة والآداب،
باب (22) مداراة من يتقى فحشه، حديث رقم (73) ، (74) ، (سنن أبى داود) : 5/
144- 145، كتاب الأدب، باب
(6) في حسن العشرة، حديث رقم (4791) ، (4792) ، (موطأ مالك) : 650، ما جاء
في حسن الحلق، حديث رقم (1630) .
قوله: (باب المداراة مع الناس) هو بغير همز، وأصله الهمز لأنه من المدافعة،
والمراد به الدفع برفق. وأشار المصنف بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه
واقتصر على غير ما يؤدى معناه، فما ورد فيه صريحا
لجابر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «مداراة الناس صدقة» أخرجه ابن
عدي والطبراني في (الأوسط) ،
وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس
به، وأخرجه ابن أبى عاصم في «آداب الحكماء» بسند أحسن منه،
وحديث أبى هريرة» رأس العقل بعد الإيمان باللَّه مداراة الناس» أخرجه
البزار بسند ضعيف.
قوله: (ويذكر عن أبى الدرداء: إنا لنكشر «بالكاف الساكنة وكسر المعجمة.
قوله: «في وجوه أقوام وإن قلوبنا لنلعنهم»
كذا للأكثر بالعين المهملة واللام الساكنة والنون، وللكشميهنى بالقاف
الساكنة قبل اللام المكسورة ثم تحتانية ساكنة من القلى بكسر القاف مقصور
وهو البغض، وبهذه الرواية جزم ابن التين، ومثله في تفسير المزمل من
(الكشاف) .
وهذا الأثر وصله ابن أبى الدنيا وإبراهيم الحربي في «غريب الحديث»
والدينَوَريّ في (المجالسة) من طريق أبى الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبى
الدرداء فذكر مثله وزاد:
«ونضحك عليهم» وذكره بلفظ اللعن ولم يذكر الدينَوَريّ في إسناده جبير بن
نفير، ورويناه في (فوائد أبى بكر بن المقري) من طريق كامل أبى العلاء عن
أبى صالح عن أبى الدرداء قال:
«إنا لنكشر أقواما» فذكر مثله وهو منقطع، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) من
طريق خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء فذكر اللفظ المعلق سواء، وهو منقطع
أيضا والكشر بالشين
(10/214)
__________
[ () ] المعجمة وفتح أوله ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك، والاسم
الكشرة كالعشرة قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح
للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة.
وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلظ، لأن المداراة مندوب إليها
والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الّذي يظهر على الشيء
ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه
من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرّفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في
النهى عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه
بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. ثم ذكر حديثين
تقدما: أحدهما:
حديث عائشة «استأذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رجل فقال: ائذنوا له
فبئس ابن العشيرة»
وقد تقدم بيان موضع شرحه في «باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد» والنكتة في
إيراده هنا التلميح إلى ما وقع في بعض الطرق بلفظ المداراة وهو عند الحارث
بن أبى أسامة من حديث صفوان بن عسال نحو
حديث عائشة وفيه: «وقال:
إنه منافق أسس داريه عن نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره» .
والثاني: حديث المسور بن مخرمة «قدمت على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
أقبية» وفيه قصة أبيه مخرمة ووقع في هذه الطريق «وكان في خلقه شيء» وقد رمز
البخاري بإيراده عقب لحديث الّذي قبله بأنه المبهم فيه كل أشرت إلى ذلك
قبل،
ووقع في رواية مسروق عن عائشة «مر رجل برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال: بئس عبد اللَّه وأخو العشيرة، ثم دخل عليه فرأيته أقبل عليه بوجهه
كان له عنده منزلة. أخرجه النسائي،
وشرح ابن بطال الحديث على ان المذكور كان منافقا، وأن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم كان مأمورا بالحكم بما ظهر، لا بما يعلمه في نفس الأمر وأطال في
تقرير ذلك ولم يقل أحد في المبهم في حديث عائشة أنه كان منافقا لا مخرمة بن
نوفل ولا عيينة بن حصن، وإنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خلقه من
الشدة فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفا وكان مع ذلك
اهوج فكان مطاعا في قومه كما تقدم واللَّه أعلم. وقوله في هذه الرواية:
«فلما جاءه قال خبأت هذا لك» وفي رواية الكشميهني» قد خبأت» وقوله: «قال
أيوب» هو موصول بالسند المذكور، قوله: «بثوبه وأنه يريه إياه» والمعنى أشار
أيوب بثوبه ليرى الحاضرين كيفية ما فعل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عند
كلامه مع مخرمة، ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل، قوله: «رواه حماد بن زيد
عن أيوب» تقدم موصولا في «باب فرض الخمس» وصورته مرسل أيضا.
(10/215)
وخرجه من طريق عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر
عن ابن المنكدر في هذا الإسناد مثل معناه، غير أنه قال: بئس أخو القوم وابن
العشيرة.
هذا، وقد اتفقوا على الشك في قوله:
«من ودعه أو تركه الناس»
وقال فيه البخاري: بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة، وقال: ألان له الكلام
وقال: إن شر الناس من تركه أو ودعه، لم يذكر منزلة عند اللَّه يوم القيامة،
وترجم عليه: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.
وذكره أبو داود في الأدب، في باب حسن العشرة. وخرجه البخاري أيضا في باب
المداراة مع الناس، من حديث سفيان عن ابن المنكدر، وحدثه عروة بن الزبير،
أن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أخبرته أنه استاذن على النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم رجل فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة- أو بئس أخو
العشيرة- فلما دخل ألان له في الكلام، فقلت: يا رسول اللَّه! قد قلت ما
قلت، ثم ألنت له في الكلام؟ فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند اللَّه
من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
وخرجه في باب لم يكن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فاحشا، من طريق روح بن
القاسم، عن محمد بن المنكدر، وعن عروة عن عائشة أن رجلا استأذن على النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة،
فلما جلس تطلق النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في وجهه وانبسط إليه، فلما
انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول اللَّه! حين رأيت الرجل قلت له: كذا
وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال يا عائشة، متى عهدتني فحاشا؟ إن
شر الناس عند اللَّه منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه.
وخرجه أبو داود في باب حسن العشرة، من حديث حماد، عن محمد ابن عمرو عن أبى
سلمة، عن عائشة، أن رجلا استأذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال له
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسط عليه، فقال:
يا عائشة، إن اللَّه لا يحب الفاحش المتفحش.
قيل: الّذي منع منه صلى اللَّه عليه وسلّم هو أن يظهر بلفظه لمن يخاطبه
شيئا، وهو يريد خلافه، وأما لين الكلام لهذا الرجل فإنه صلى اللَّه عليه
وسلّم فعله حقيقة من أجل شره،
(10/216)
ونبه بما قاله في غيبته على صفته ليحذر
منها أمته، أو ليعامل من هو بحاله مثل ما عامله به صلى اللَّه عليه وسلّم،
وهذا من قبيل الدفع بالتي هي أحسن.
وبهذا أيضا يجاب عن
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم لأبى بصير: مسعر حرب لو وجد أعوانا [ (1) ]
ويجاب أيضا عما
خرجه أبو داود في باب من ليست له غيبة، من حديث الجريريّ، عن أبى عبد
اللَّه الجشمي، قال: حدثنا جندب قال: جاء أعرابى فأناخ راحلته، ثم عقلها،
ثم دخل المسجد، فصلى خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما سلم رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى:
اللَّهمّ ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا، فقال النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا إلى ما قال؟ قالوا: بلى [
(2) ] .
ويؤيده ما خرجه قاسم بن أصبغ، من طريق بقية، قال: حدثنا الربيع ابن بدر، عن
أبان، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له [ (3) ] ، قول البخاري في باب
المداراة مع الناس،
ويذكر عن أبى الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتعلنهم [ (4) ]
.
***
__________
[ (1) ] راجع خبره في (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 9/ 12.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 5/ 197، كتاب الأدب، باب (42) من ليس له غيبة،
حديث رقم (4885) ، وأخرج الترمذي نحوا منه من حديث أبى هريرة وليس فيه
الفصل الأخير، في الوضوء، حديث رقم (147) ، باب البول يصيب الأرض، والنسائي
في الطهارة، حديث رقم (56) باب ترك التوقيت في الماء، وفي السهو، حديث رقم
(1217) ، باب الكلام في الصلاة، وابن ماجة في الطهارة، حديث رقم (529) باب
بول الصبى الّذي لم يطعم، ومسلم في الطهارة، حديث رقم (284) ، والحاكم في
(المستدرك) : 4/ 248، وأحمد في (المسند) : 4/ 312.
[ (3) ] (الأحاديث الضعيفة) للألبانى: حديث رقم (585) .
[ (4) ] سبق تخريجه.
(10/217)
الرابعة: في انعقاد نكاحه صلى اللَّه عليه
وسلّم بلا ولى ولا شهود
وفيه وجهان:
أحدهما: لا ينعقد بعموم
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل،
وأصحهما يباح له ذلك، ودليله ما
خرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة قال:
حدثنا ثابت عن أنس قال: كنت رديف أبى طلحة يوم خيبر، وقدمي تمس قدم النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم قال: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد اخرجوا مواشيهم،
وخرجوا بفئوسهم ومكاتلهم، فقالوا محمدا والخميس، وقال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين
قال وهزمهم اللَّه عز وجل ووقعت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها
وتهيئها، قال واحسبها كذا قال، وتعتد في بيتها، وهي صفية بنت حيي، قال فجعل
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وليمتها التمر والأقط والسمن قال:
فحصبت الأرض أفاحيص، وجيء بالأنطاع فوضعت بها، وجاء بالأقط والثمن، فشبع
الناس، قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد، قالوا: إن
حجبها فهي امرأته، وأن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها
فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنها قد تزوجها ... الحديث.
وأخرج البخاري والنسائي نحو هذه القصة من حديث إسماعيل بن جعفر، عن حميد عن
أنس، قال: أقام النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بين خيبر والمدينة ثلاثا، يبنى
على بصفية بنت حيي، فدعوت المسلمين الى وليمة، فما كان فيها من خبز ولا
لحم، أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والثمن، وكانت وليمته، فقال
المسلمون: أحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه؟.
فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت
يمينه، فلما ارتحل وطأها خلفه الحجاب بينها وبين الناس.
ذكره البخاري في باب بناء العروس في السفر، وفي باب اتخاذ السراري، ومن
أعتق جارية ثم تزوجها، وذكره النسائي في باب البناء في السفر.
(10/218)
ووجه الدلالة من هذا الحديث أنه صلى اللَّه
عليه وسلّم لو عقد على صفية بولي وشهود لعلم ذلك الصحابة، لا سيما عند من
يشترط الإعلان في النكاح، فلما لم يكن عنده من العلم بحالها أن ضرب الحجاب
عليها، دلّ ذلك دلالة واضحة على أنه صلى اللَّه عليه وسلّم بنى عليها من
غير أن يعقد له عليها ولى، ولا حضر شهود بينهما بذلك، فإن اعتبار الولي في
عقد النكاح إنما هو للمحافظة على الكفاء ولا مرية في أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم فوق الأكفاء كلهم، وهكذا اعتبار الشهود في النكاح إنما
هو خشية الجحود، وقد نزه اللَّه تعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم عن نسبة
ذلك إليه.
فلو فرضنا جحود المرأة، لم يرجع إلى قولها، بل قال العراقي في (شرح المهذب)
: تكون كافرة بتكذيبه صلى اللَّه عليه وسلّم.
واستدل أيضا بقصة زينب في تزويجه صلى اللَّه عليه وسلّم بها، لكن هذا
الخلاف في غير زينب، فإن زينب نصوا على أن اللَّه تعالى زوجها نبيه صلى
اللَّه عليه وسلّم من فوق سبعة أرقعة، وقد نبه عليه النووي في (شرح مسلم) ،
في باب زواج زينب بنت جحش رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
وذكر القضاعي هذه الخصوصية في ما خصّ به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون
الأنبياء قبله. وقال الشيخ أبو حامد [الغزالي] : الخلاف في المسألة مبنية
على أن النكاح الآن محكوم عليه هنا إنما هو نفى ماهية النكاح عند انتفاء
ذلك فتنتفي تلك الماهية أيضا في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم عمل بهذا
الحديث، ولم يأت لفظ عام للأشخاص حتى نقول قد دخل فيهم فلا وجه له يكن في
هذا الحديث ولقويت له حجة المنع، لكن قصة صفية دليل واضح فتأمله.
***
(10/219)
الخامسة: هل كان يباح له صلى اللَّه عليه
وسلّم التزويج في الإحرام
أشبه وحجمه النووي في أصل الروضة. وثانيها لا يباح كغيرة ودليل الجواز حديث
ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم، رواه عن ابن عباس عن عكرمة وسعيد بن جبير
وجابر بن زيد أبو الشعثاء ومجاهد وعطاء بن رباح.
خرج البخاري من طريق مالك بن إسماعيل بن عتبة أنبأنا عمر وجابر ابن زيد أن
ابن عباس أخبره أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج وهو محرم فحدثت به
الزهري فقال أخبرنى يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو حلال وله من حديث عمرو بن
دينار وعن جابر بن زيد أبى الشعثاء عن ابن عباس قال: تزوج رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم ميمونة وهو محرم.
وخرج في كتاب الحج والنسائي من حديث الأوزاعي، حدثني عطاء بن رباح عن ابن
عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نكح ميمونة وهو محرم وترجم عليه
البخاري باب ترويج المحرم.
وخرج البخاري في عمرة القضاء من حديث عكرمة عن ابن عباس ان النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم.
وخرج ابن ماجة من طريق ابن إسحاق عن أبى نجيح وأبان بن صالح عن عطاء ومجاهد
عن ابن عباس: تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة في عمرة القضاء.
وللطبراني في (الأوسط) من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن عكرمة عن ابن عباس
أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهما محرمان وقال: لم يروه عن
جميل إلا حماد، وتفرد به الحسن وبلال ورواه ابن شاهين من طريق سعيد عن
قتادة عن كرمة عن ابن عباس.
وكذلك ورواه البيهقي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم.
وخرج الدار قطنى والعقيلي والطحاوي في (المشكل) من طريق أبى صالح عن أبى
هريرة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وفي إسناده خالد بن عبد
الرحمن قال العقيلي: ليس بذاك وقال الرافعي: ونكاح ميمونة في أكثر الروايات
جرى وهو حلال وقال ابن عبد البر: لا أعلم من الصحابة روى أن
(10/220)
الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة
وهو محرم إلا ابن عباس وتعقب عليه بحديث أبى هريرة المذكور وبحديث عائشة
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وله في طرق، الأول أخرجه البزار والطحاوي
وابن حبان من طريق أبى عوانه [بسنده] عن مسروق عن عائشة وهذا إسناد صحيح.
الثاني أخرجه النسائي والبيهقي من طريق عمر بن على الفلاس عن أبى عاصم عن
عثمان بن الأسود عن بن أبى مليكة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم. قال عمرو:
قلت لأبى عاصم: أنت أمليت علينا هذا، ليس فيه عائشة، قال: دع عائشة حتى
انظر.
قال عمرو الفلاس: فقمت انظر، أحق ما تقول؟ قال أبو عاصم:
فنظرت فيه، فوجدته مرسلا.
وقال ابن أبى شيبة [ (1) ] : أخبرنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن عطاء،
قال: تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة وهو محرم.
وروى ابن سعد [ (2) ] من طريق الشعبي ومجاهد مثله، والظاهر أن هؤلاء أخذوه
عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
ويدل على ذلك ما رواه النسائي [ (3) ] من طريق يحيى عن ابن جريج، عن عطاء
عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم نكح ميمونة وهو محرم.
وقد روت ميمونة، وأبو رافع، وجابر، وصفية بنت شيبة، وابن عباس، أن النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها حلالا.
__________
[ (1) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 3/ 148، كتاب الحج، باب (39) في المحرم
يزوج، حديث رقم (12956) .
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 8/ 132.
[ (3) ] (سنن النسائي) : 5/ 210، كتاب المناسك، باب (90) الرخصة في نكاح
المحرم، حديث رقم (2837) ، ولفظه: «تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
ميمونة وهو محرم» ، وحديث رقم (2839) ، ولفظه: «أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم تزوج ميمونة وهما محرمان» .
(10/221)
أخرج مسلم [ (1) ] من حديث يحيى بن آدم
قال: حدثنا جرير بن حازم، حدثنا أبو فزارة، عن يزيد بن الأصم، حدثتني
ميمونة بنت الحارث، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوجها وهو حلال.
قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
وخرجه أبو داود من حديث حماد، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمونة بنت مهران، عن
يزيد بن الأصم، عن أخت ميمونة، عن ميمونة، قالت:
تزوجني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن حلال بسرف. ذكره في كتاب
الحج، وخرجه الترمذي [ (2) ] وابن ماجة [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 207، كتاب النكاح، باب (5) تحريم نكاح
المحرم وكراهة خطبته، حديث رقم (47) و (48) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 202- 203، كتاب الحج، باب (24) ما جاء في
الرخصة في تزويج المحرم، حديث رقم (844) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
صحيح. وأبو الشعثاء اسمه جابر بن زيد.
واختلفوا في تزويج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة لأن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم تزوجها في طريق مكة. فقال:
بعضهم: تزوجها حلالا، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال،
بسرف ففي طريق مكة. وماتت ميمونة بسرف، حيث بنى بها رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم. ودفنت بسرف.
[ (3) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 632، كتاب النكاح، باب (45) المحرم يتزوج،
حديث رقم (1965) .
(10/222)
السادسة: هل كان يجب عليه صلى اللَّه عليه
وسلّم أن يقسم بين نسائه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهنّ؟
على وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه. وقال أبو سعيد الاصطخرى، والماوردي، وطائفه، وصححه
الغزالي في (الخلاصة) ، وعليه القسم في الوجهين.
والثاني: أنه يجب، وصححه الشيخ أبو حامد، والعراقيون، وتابعهم البغوي، وهو
في ظاهر نصه في (الأم) .
ومأخذ الخلاف في هذه المسائل وأخواتها، أن الزوجات في حقه صلى اللَّه عليه
وسلّم كالسرارى في حق غيره، أو كالزوجات، وفيه وجهان: فإن جعلناهن كالسرارى
لم يشترط الولي ولا الشهود، وانعقد نكاحه في الإحرام، وبلفظ الهبة، ولم
ينحصر عدد منكوحاته ولا طلاقه، ولا يجب عليه القسم، وإن جعلناهن كالزوجات
انعكس الحكم.
واحتج من لم ير القسم واجبا، وإنما كان يتطوع به، لأن في وجوبه عليه صلى
اللَّه عليه وسلّم شغلا عن لوازم الرسالة، ولقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ
تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [ (1) ] ... الآية، أي
تبعد من تشاء فلا تقسم لها، وتقرب من تشاء وتقسم لها.
ولما خرجه مسلم [ (2) ] من حديث شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يطوف على
نسائه في غسل واحد.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 51.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 224، كتاب الحيض، باب (6) جواز نوم الجنب،
واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام، أو
يجامع، حديث رقم (28) ، قال الإمام النووي: وأما طوافه صلى اللَّه عليه
وسلّم على نسائه بغسل واحد فيحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يتوضأ
بينهما أو يكون المراد بيان جواز ترك الوضوء
وقد جاء في (سنن أبى داود) أنه صلى اللَّه عليه وسلّم طاف على نسائه ذات
ليلة يغتسل عند هذه وعند هذه! فقيل يا رسول اللَّه: ألا تجعله غسلا واحدا
(10/223)
وخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث سفيان عن
معمر، عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم بمثله، وقال: حديث أنس حديث
__________
[ () ] فقال: هذا أذكى وأطيب وأطهر.
قال أبو داود والحديث الأول أصح. قلت: وعلى تقدير صحته يكون هذا في وقت
وذاك في وقت واللَّه أعلم.
واختلف العلماء في حكمة هذا الوضوء فقال أصحابنا لأنه يخفف الحدث فإنه يرفع
الحديث عن أعضاء الوضوء. وقال أبو عبد اللَّه المازري رضى اللَّه عنه اختلف
في تعليله فقيل:
ليبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه وقيل: بل لعله أن ينشط إلى
الغسل إذا نال الماء أعضاءه. قال المازري: ويجرى هذا الخلاف في وضوء الحائض
قبل أن تنام فمن علل بالمبيت على طهارة استحبه لها. هذا كلام المازري.
وأما أصحابنا فإنّهم متفقون على أنه لا يستحب الوضوء للحائض والنفساء لأن
الوضوء لا يأثر في حدثهم فإن كانت الحائض قد انقطعت حيضتها صارت كالجنب
واللَّه أعلم.
وأما طواف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على نسائه فهو محمول على أنه كان
برضاهن أو برضى صاحبة النوبة إن كانت نوبة واحدة فهذا التأويل يحتاج إليه
من يقول كان القسم واجبا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الدوام
كما يجب علينا.
وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى تأويل فإن له أن يفعل ما يشاء وهذا الخلاف
في وجوب القسم هو وجهان لأصحابنا واللَّه أعلم.
وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما
يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة وهذا بإجماع المسلمين وقد اختلف
أصحابنا في الموجب لغسل الجنابة، هل هو حصول الجنابة بالتقاء الختانين أو
إنزال المنى أم هو القيام إلى الصلاة أم هو حصول الجنابة مع القيام إلى
الصلاة؟ في ثلاثة أوجه لأصحابنا ومن قال: يجب بالجنابة قال:
هو وجوب موسع، وكذا اختلفوا في موجب الوضوء هل هو الحدث أم القيام إلى
الصلاة أم المجموع؟ وكذا اختلفوا في الموجب لغسل الحيض هل هو خروج الدم أم
انقطاعه؟ واللَّه أعلم.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 1/ 259، أبواب الطهارة، باب (106) ما جاء في الرجل
يطوف على نسائه بغسل واحد، حديث رقم (140) ، قال أبو عيسى: حديث أنس حديث
حسن صحيح، ثم قال في هامشه: الحديث نسبه المجد بن تيمية في المنتقى للجماعة
إلا البخاري، وتعقبه الشوكانى في (نيل الأوطار) ، فقال: الحديث أخرجه
البخاري أيضا من حديث قتادة عن
(10/224)
حسن صحيح، [أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
كان يطوف على نسائه بغسل واحد وهو قول غير واحد من أهل العلم، منهم الحسن
البصري: أن لا بأس أن يعود قبل أن يتوضأ] [ (1) ] ، وقد روى محمد بن يوسف
هذا عن سفيان فقال: عن أبى عروة، عن أبى الخطاب عن أنس، وأبو عروة وهو:
معمر بن راشد، وأبو الخطاب:
قتادة بن دعامة. [قال أبو عيسى: ورواه بعضهم عن محمد بن يوسف عن سفيان عن
ابن أبى عروة، عن أبى الخطاب، وهو خطأ، والصحيح: عن أبى عروة] .
وخرجه أبو داود [ (2) ] من حديث إسماعيل، قال: أنبأنا حميد الطويل، عن أنس
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم طاف على
نسائه في غسل واحد قال أبو داود: هكذا رواه هشام بن زيد، عن أنس ومعمر، عن
قتادة.
وخرج البخاري [ (3) ] والنسائي [ (4) ] من حديث عبد الأعلى بن حماد، قال:
حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، أن أنس بن مالك حدثهم أن
__________
[ () ] أنس بلفظ: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يدور على نسائه في
الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن أحدى عشر، قال: قلت لأنس بن مالك:
أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى قوة ثلاثين.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 148- 149، كتاب الطهارة، باب (85) في الجنب
يعود، حديث رقم (218) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد،
حديث رقم (268) ، وذكره في كتاب النكاح باب (4) كثرة النساء، حديث رقم
(5068) .
[ (4) ] (سنن النسائي) : 6/ 361، كتاب النكاح، باب (1) ، ذكر أمر رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وأزواجه وما أباح اللَّه عز وجل
لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم وحظره على خلقه زيادة في كراماته وتنبيها
لفضيلته، حديث رقم (3198) ، أخرجه النسائي أيضا في عشرة النساء من (الكبرى)
، باب طواف الرجل في الليلة الواحدة، حديث رقم (148) ، وذكره في كتاب عشرة
النساء من (المجتبى) ، باب (1) حب النساء، حديث رقم (3949) .
(10/225)
نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يطوف
على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة.
ذكره البخاري في كتاب الغسل، وفي كتاب النكاح. وذكره النسائي في أول كتاب
النكاح، وفي كتاب العشرة.
وللبخاريّ [ (1) ] من حديث هشام عن قتادة، قال: أنبأنا أنس بن مالك قال:
كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من
الليل والنهار، وهن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد. ومن
دار على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (268) وقد جمع ابن حبان في (صحيحه)
بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم في قوله: «إن الأولى كانت
في أول قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر
حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة» وموضع الوهم منه أنه صلى اللَّه عليه
وسلّم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة
بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة
والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية
وأم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد
الهجرة على المشهور.
واختلف في ريحانة وكانت من سبى بنى قريظة فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن
يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت
قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن
عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة.
فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت
يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد.
لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهنّ لفظ
«نسائه تغليبا. وقد سرد الدمياطيّ- في (السيرة) التي جمعها- من اطلع عليه
من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم
يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي (المختارة) من وجه آخر عن أنس «تزوج خمس
عشرة: دخل منهم بإحدى عشرة ومات عن تسع» وسرد أسماءهن أيضا أبو الفتح
اليعمري ثم مغلطاى فزدن على العدد الّذي ذكره الدمياطيّ، وأنكر ابن القيم
ذلك.
(10/226)
إحدى عشرة، قلت لأنس: وكان يطيقه؟ قال: كنا
نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين. وقال سعيد: عن قتادة، أن أنس حدثهم: تسع نسوة.
ذكره في باب إذا جامع ثم عاود. ومن دار على نسائه في غسل واحد.
وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: إن اللَّه تعالى خصّ نبيه صلى اللَّه عليه
وسلّم بأشياء في النكاح، منها أنه أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حقّ
يدخل فيها على جميع أزواجه، فيحصل ما يريد منهن، وفي كتاب مسلم أن تلك
الساعة بعد العصر، فلو اشتغل كانت بعد المغرب أو غيره، فلذلك كان النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم يدور على نسائه في الليل والنهار، وهذا كله بناء على
وجوب القسم عليه.
والّذي يظهر من أحاديث الوجوب، منها ما خرجه مسلم [ (1) ] من حديث سليمان
بن المغيرة قال: «كان للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم تسع نسوة، فكان إذا
قسم بينهن لا ينهى إلى المرأة الأولى [إلا] في تسع فكن يجتمعن كل ليله في
بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليها، فقالت:
هذه زينب، فكف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يده، فتقاولتا حتى استحثتا،
وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على ذلك، فسمع
أصواتهما، فقال: اخرج يا رسول اللَّه إلى الصلاة، واحث في أفواههنّ التراب،
فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقالت عائشة: الآن
__________
[ () ] والحق ان الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء،
وبمقتضى ذلك تنقص العدة. واللَّه أعلم.
قوله: (أو كان) بفتح الواو هو مقول قتادة والهمزة للاستفهام ومميز ثلاثين
محذوف أي ثلاثين رجلا، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبى موسى عن معاذ
بن هشام «أربعين» بدل ثلاثين، وهي شاذة من هذا الوجه لكن في مراسيل طاوس
مثل ذلك، وزاد «في الجماع» وفي (صفة الجنة) لأبى نعيم من طريق مجاهد مثله
وزاد «من رجال أهل الجنة» ، ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رفعه «أعطيت قوة
أربعين في البطش والجماع» وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن
أرقم رفعه «إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوة مائة في الأكل والشرب والجماع
والشهوة» فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا أربعة آلاف.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 299، كتاب الرضاع، باب (13) القسمة بين
الزوجات، حديث رقم (1462) .
(10/227)
يقضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بى ويفعل، فلما قضى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولا شديدا وقال: أتصنعين هذا؟.
وفيها ما أخرجه البخاري [ (1) ] من طريق زهير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
وخرجه مسلم [ (2) ] من حديث جرير عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: يا رسول اللَّه قد جعلت يومى منك لعائشة
فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم
سودة.
[ومنها ما خرجه البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ]] [ (5) ] من حديث ابن جريح،
أخبرنى عطاء قال حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة زوج النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم بسرف
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 390، كتاب النكاح، باب (99) المرأة تهب يومها من
زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك، حديث رقم (5212) ، قال العلماء: إذا وهبت
يومها لضرتها قسم الزوج لها يوم ضرتها، فإن كان تاليا ليومها، وإلا لم
يقدمه عن رتبته في القسم إلا برضا من بقي.
وقالوا: إذا وهبت المرأة يومها لضرتها، فإن قبل الزوج لم يكن للموهوبة أن
تتمتع، وإن لم يقبل لم يكره على ذلك، وإذا وهبت يومها لزوجها ولم تتعرض
للضرة، فهل له أن يخص واحدة إن كان عنده أكثر من اثنتين، أو يوزعه بين من
بقي؟.
وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت، لكن فيما يستقبل، لا
فيما مضى، وأطلق ابن بطال أنه لم يكن لسودة الرجوع في يومها الّذي وهبته
لعائشة. (فتح الباري) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 302، كتاب الرضاع، باب (14) جواز هبتها
نوبتها لضرتها، حديث رقم (47) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 139، كتاب النكاح، باب (4) كثرة النساء، حديث
رقم (5067) ، ويستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في
حياته، وفيه حديث كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا، أخرجه أبو داود، وابن
ماجة، وصححه ابن حبان. (فتح الباري) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 304، كتاب الرضاع، باب (14) جواز هبتها
نوبتها لضرتها، حديث رقم (51) . قال الإمام النووي: وأما قول عطاء: التي لم
يقسم لها صفية، فقال
(10/228)
فقال ابن عباس: هذه زوج النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وأرفقوا فإنه كان عند
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تسع نسوة فكان يقسم لثمان ولا يقسم
لواحدة. قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب، وقال البخاري:
فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها.
ومنها ما خرجه مسلم [ (1) ] ، أبو داود [ (2) ] من حديث سفيان، عن محمد ابن
أبى بكر عن عبد الملك بن أبى بكر بن عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم حين
__________
[ () ] العلماء: هو وهم من ابن جريح الراويّ عن عطاء، وإنما الصواب: فقال
الزهري: هي ميمونة، وقيل: أم شريك، وقيل: زينب بنت خزيمة.
[ (5) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 296، كتاب الرضاع، باب (12) قدر ما
تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، حديث رقم (42) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 2/ 594- 595، كتاب النكاح، باب (35) ، حديث رقم
(2122) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم:
الثلاث تخصص للثيب لا يحتسب بها عليها، ويستأنف القسم فيما يستقبل، وكذلك
السبع للبكر، وإلى هذا ذهب مالك والشافعيّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه،
وقد روى ذلك عن الشعبي.
وقال أصحاب الرأى: البكر والثيب في القسم سواء، وهو قول الحكم وحماد.
وقال الأوزاعي: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثا، وإذا تزوج الثيب على
البكر يمكث يومين.
قال الشيخ: السبع في البكر والثلاث في الثيب حق العقد خصوصا لا يحاسبان على
ذلك ولكن يكون لهما عفوا بلا قصاص.
وقوله «إن شئت سبعت لك، سبعت لنسائي» ليس فيه دليل على سقوط حقها الواجب
لها إذا لم يسبع لها وهو الثلاث التي هي بمعنى التسويغ لها، ولو كان ذلك
بمعنى التبدئة ثم يحاسب عليها لم يكن للتخيير معنى، لأن الإنسان لا يخير
بين جميع الحق وبين بعضه فدل على أنه بمعنى التخصيص.
قال الشيخ: ويشبه أن يكون هذا من المعروف الّذي أمر اللَّه تعالى به في
قوله وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] وذلك أن البكر لما فيها
من الخفر والحياء تحتاج إلى
(10/229)
تزوج أم سلمة وأصبحت عنده قال لها: ليس بك
على أهلك هوان إن شئت سبعت وأن شئت ثلثت ثم درت، قالت: ثلث.
وخرجه مسلم [ (1) ] أيضا من حديث عبد الملك بن أبى بكر عن أبى بكر ابن عبد
الرحمن أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين تزوج أم سلمة، أقام عندها
ثلاثة، وقال: إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت
لنسائي.
وله من حديث سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حميد، عن عبد الملك بن أبى
بكر عن أبى بكر بن عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين
تزوج أم سلمة فدخل عليها فأراد أن يخرج أخذت بثوبه، فقال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم أن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث. [ (2) ]
ومنها ما
أخرجه البخاري [ (3) ] من حديث هشام بن عروة، أخبرنى أبى عن عائشة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يسأل
في مرضه الّذي مات فيه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة: فأذن له
أزواجه يكون حيث شاء، فكان حتى مات عندها. قالت: عائشة: فمات في اليوم
__________
[ () ] فصل إمهال وصبر وحسن تأن ورفق ليتوصل الزوج إلى الارب منها، والثيب
قد جربت الأزواج وارتاضت بصحبة الرجال فالحاجة إلى ذلك في أمرها أقل، إلا
انها تخص بالثلاث تكرمة لها وتأسيا للألفة فيما بينه وبينها واللَّه أعلم.
(خطابي) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 296، كتاب الرضاع، باب (12) قدر ما
تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، حديث رقم (41) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 297، كتاب الرضاع، باب (12) قدر ما
تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، الحديث الّذي يلي
رقم (42) بدون رقم.
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 395، كتاب النكاح، باب (105) إذا استأذن الرجل
نساءه أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له، حديث رقم (5217) ، والغرض من هذا
الحديث أن القسم لهن يسقط بإذنهن في ذلك، فكأنهن وهبن أيامهن تلك للتي هو
في بيتها. (فتح الباري) .
(10/230)
الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي، فقبضه
اللَّه وإن رأسه لبين نحري وسحري [ (1) ] ، وخالط ريقي ريقه.
وخرجه مسلم [ (2) ] ، ولفظه: عن عائشة قالت: إن كان رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم ليتفقد يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة،
قالت: فلما كان يومى قبضه اللَّه بين سحري ونحري.
وفيها ما أخرجه البخاري [ (3) ] من حديث الزهري، عن عروة عن عائشة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا
أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل
امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة
زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تبتغي بذلك رضا رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم.
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث ابن أبى ملكية، عن القاسم، عن
عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان
إذا أراد سفرا
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «وسحري الحديث» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 216، كتاب فضائل الصحابة، باب (13) فضل
عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (84) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 5/ 272، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب
(15) هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن
سفيهة. فإذا كانت سفيهة لم يجز، قال اللَّه تعالى: وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النساء: 5] ، حديث رقم (2593) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 9/ 387، كتاب النكاح، باب (98) القرعة بين النساء
إذا أراد سفرا، حديث رقم (5211) ، قال الحافظ: مفهومه اختصاص القرعة بحالة
السفر، وليس على عمومها بل لتعين القرعة من يسافر بها، وتجرى القرعة أيضا
فيما إذا أراد أن يقسم بين زوجاته فلا يبدأ بأيهن نساء بل يقرع بينهن فيبدأ
بالتي تخرج لها القرعة، إلا أن يرضين بشيء فيجوز بلا قرعة، وقوله: (أقرع
بين نسائه) زاد ابن سعد من وجه آخر، عن القاسم، عن عائشة «فكان إذا خرج سهم
غيري عرف فيه الكراهية» ، واستدل به على مشروعيته القرعة في القسمة بين
الشركاء وغير ذلك كما تقدم في أواخر الشهادات، والمشهور عن الحنفية
والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من
باب الخطر والقمار، وحكى
(10/231)
أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة
وحفصة، وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا كان بالليل سار مع عائشة
يتحدث معها، فقالت حفصة: إلا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين
وانظر، فقالت: بلى، فركبت، فجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى جمل عائشة
وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت
رجليها بين الإذخر، وتقول: رب سلط عليّ عقربا أو حية تلدغني، ولا أستطيع أن
أقول له شيئا.
ومنها ما
خرجه أبو داود [ (1) ] والترمذي [ (2) ] والنسائي [ (3) ] ، وقاسم بن أصبغ،
من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عبد اللَّه بن زيد،
__________
[ () ] عن الحنفية إجازتها، وقد قالوا به في مسألة الباب. واحتج من منع من
المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة
للتي لا يقع بها السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء
أقوم ببيت الرجل من الأخرى، وقال القرطبي:
ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء وتختص مشروعية القرعة بما اتفقت
أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح، وفيه مراعاة للمذهب
مع الأمن من رد الحديث أصلا لحملة على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 218- 219، كتاب فضائل الصحابة، باب (13)
في فضل عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (88) ، قال الإمام
النووي: وهذا الإقراع عندنا واجب في حق غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
وأما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ففي وجوب القسم في حقه خلاف فمن قال
بوجوب القسم يجعل إقراعه واجبا ومن لم يوجبه يقول: إقراعه صلى اللَّه عليه
وسلّم من حسن عشرته ومكارم أخلاقه.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 2/ 601، كتاب النكاح، باب (39) في القسم بين
النساء، حديث رقم (2134) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 446، كتاب النكاح، باب (41) ما جاء في التسوية
بين الضرائر، حديث رقم (1140) ، قال أبو عيسى: حديث عائشة هكذا رواه غير
واحد عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن
عائشة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقسم. ورواه حماد بن زيد وغير
واحد عن أيوب عن أبى قلابة مرسلا، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان
يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة.
(10/232)
عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها،
قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم فيعدل ويقول: اللَّهمّ
هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
قال أبو داود: يعنى القلب.
ومنها ما
أخرجه مسلم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن وهب، قال ابن جريج، عن عبد
اللَّه بن كثير بن المطلب أنه سمع محمد بن قيس يقول سمعت عائشة
__________
[ () ] (3) (سنن النسائي) : 7/ 75، كتاب النساء، باب (3) ميل الرجل إلى بعض
نسائه دون بعض، حديث رقم (3953) ، قال الإمام السندي: قوله: «فلا تلمني
فيما لا أملك وتملك» أي المحبة بالقلب فإن قلت: لمثله لا يؤاخذ ولا يلام
غيره صلى اللَّه عليه وسلّم فضلا عن أن يلام هو إذ لا تكليف بمثله فما معنى
هذا الدعاء قلت لعله مبنى على جواز التكليف بمثله وإن رفع التكليف تفضل منه
تعالى فينبغي للإنسان أن يتضرع في حضرته تعالى ليديم هذا الإحسان أو
المقصود إظهار إفتقار العبوديّة وفي مثله لا التفات إلى مثل هذه الأبحاث
واللَّه تعالى أعلم.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 45- 48، كتاب الجنائز، باب (35) ما يقال
عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث رقم (103) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (السلام عليكم دار قوم المؤمنين)
دار منصوب على النداء أي يا أهل دار فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه
وقيل منصوب على الاختصاص، قال صاحب (المطالع) ويجوز جره على البدل من
الضمير في عليكم، قال الخطابي: وفيه أن اسم الدار يقع على المقابر قال: وهو
صحيح فان الدار في اللغة يقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير المأهول.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (اللَّهمّ أغفر لأهل بقيع الغرقد)
البقيع هنا بالباء بلا خلاف وهو مدفن أهل المدينة سمى بقيع الغرقد لغرقد
كان فيه وهو ما عظم من العوسج وفيه إطلاق لفظ الأهل على ساكن المكان من حي
وميت.
وفيه جواز ترخيم الاسم إذا لم يكن فيه إيذاء المرخم، وحشيا بفتح الحاء
المهملة وإسكان الشين المعجمة مقصور معناه وقد وقع عليك الحشا وهو الربو
والتهيج الّذي يعرض للمسرع في مشيه والمحتد في كلام من ارتفاع النفس
وتواتره يقال امرأة حشياء وحشية ورجل حشيان وحشش قيل أصله من أصاب الربو
حشاه وقوله رابية أي مرتفعة البطن.
(10/233)
تحدث فقالت: ألا أحدثكم عن النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم وسلم وعنى قلنا بلى وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ
له قال: حدثنا حجاج بن محمد حدثنا ابن جريج أخبرنى عبد اللَّه رجل من قريش
عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما: ألا أحدثكم عنى وعن أمى
قال: فظننا أنه يريد أمه التي ولدته. قال:
قالت عائشة: ألا أحدثكم عنى وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قلنا
بلى قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيها
عندي انقلب فوضع ردائه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على
فراشه فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ ردائه رويدا، وابتعد
رويدا، وفتح الباب، فخرج ثم أجأثه رويدا فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت
إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه
ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت،
فسبقته فليس لا أن اضطجعت فدخل فقال مالك: يا عائش حشيا رابية، قالت:
قلت لا شيء: قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير؟ قالت: قلت يا
__________
[ () ] قولها: (قلت كيف أقول يا رسول اللَّه؟ قال: قولي: السلام على أهل
الديار من المؤمنين المسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منكم ومنا
والمستأخرين وإنا إن شاء اللَّه تعالى بكم للاحقون)
فيه استحباب هذا القول لزائر القبور وفيه ترجيح لقول من قال في قوله سلام
عليكم دار قوم مؤمنين أن معناه أهل دار قوم مؤمنين وفيه أن المسلم والمؤمن
قد يكونان بمعنى واحد وعطف أحدهم على الآخر لاختلاف اللفظ وهو بمعنى قوله
تعالى فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا
فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم
في هذا الحديث غير المؤمن لأن المؤمن إن كان منافقا لا يجوز السلام عليه
والترحم وفيه دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور وفيها خلاف للعلماء وهي
ثلاثة أوجه لأصحابنا:
أحدها: تحريمها عليهنّ لحديث لعن اللَّه زوارات القبور.
والثاني: يكره والثالث: يباح ويستدل له بهذا الحديث وبحديث كنت نهيتكم عن
زيارة القبور فزوروها ويجاب عن هذا بأن نهيتكم ضمير ذكور فلا يدخل فيه
النساء على المذهب الصحيح المختار في الأصول، واللَّه أعلم.
(10/234)
رسول اللَّه بأبي أنت وأمى فأخبرته قال:
فأنت السواد الّذي رأيت أمامى قلت:
نعم فلهدنى في صدري لهده أوجعتني ثم قال أظننت أن يحيف اللَّه عليك ورسوله؟
قالت: مهما يكتم الناس يعلمه اللَّه، نعم قال: فإن جبريل عليه السلام أتانى
حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك، وقد
وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشى فقال إن ربك
يأمرك أن تأتى أهل البقيع فتستغفر لهم قالت: قلت:
كيف أقول لهم يا رسول اللَّه؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من
المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء
اللَّه بكم للاحقون.
وأخرجه النسائي [ (1) ] أيضا من طريق حجاج الأعور، عن ابن جريج، قال:
أخبرنى عبد اللَّه بن أبى مليكة، أنه سمع محمد بن قيس بن مخرمة يقول:
سمعت عائشة
تحدث قلت: ألا أحدثكم عنى وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قلنا:
بلى الحديث بطوله.
هذا الحديث لعائشة، أظننت أن يحيف اللَّه عليك ورسوله، واضح في الدلالة
وضوحا أكثر من غيره. وأما الآية، فقد اختلف في تأويل قوله تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقال قوم:
عنى بقوله:
تُرْجِي: تؤخر، وبقوله: تُؤْوِي: تضم. فعن ابن عباس: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ يقول: تؤخر. وعن مجاهد: تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء
وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ تردها إليك.
وعن قتادة قال: فجعله من ذلك في حل أن يدع من يشاء منهن ويأتى من يشاء بغير
قسم. وكان نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم.
وعن ابن زيد قال: لما أشفقن أن يطلقهن قلن: يا نبي اللَّه: اجعل لنا من
مالك ونفسك ما شئت، فكان ممن أرجأ منهن سودة بنت زمعة، وجويرية،
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 4/ 396- 398، كتاب الجنائز باب (103) ، الأمر
بالاستغفار للمؤمنين، حديث رقم (2036) ، وأخرجه النسائي أيضا في كتاب
النساء، باب (4) الغيرة، حديث رقم (3973) .
(10/235)
وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان ممن أوى
إليه عائشة، وأم سلمة، وحفصة، وزينب.
وعن الضحاك: فما شاء صنع في القسمة بين النساء، أحل اللَّه ذلك.
وعن أبى رزين: وكان ممن أوى، عن عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان قسمه
من ماله ونفسه سواء.
وكان ممن أرجأ: سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن
ما شاء، وكان إذا أراد أن يفارقهن فقلن: اقسم لنا من نفسك ما شئت، ودعنا
على حالنا.
وقال آخرون: معنى ذلك تطلق، وتخلى سبيل من شئت من نسائك، وتمسك منهن من شئت
فلا تطلق.
فعن ابن عباس أيضا، قوله: ترجى من تشاء منهن أمهات المؤمنين وتؤوي إليك من
تشاء، يعنى نساء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. ويعنى بالإرجاء، يقول: من
شئت خليت سبيله منهن، ويعنى بالإيواء: من اجتبيت أمسك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تترك نكاح من شئت، وتنكح من شئت من نساء أمتك.
قال قتادة، عن الحسن: وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم
يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوجها أو يتركها. قال الطبري: وقيل: إن ذلك إنما
جعله اللَّه تعالى لنبيه، حين غار بعضهن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم،
وطلبت بعضهن من النفقة زيادة على الّذي كان يعطيها، فأمره اللَّه تعالى أن
يخيرهن بين الدنيا والآخرة، ويخلى سبيل من اختارت الحياة الدنيا وزينتها،
ويمسك من [اختارت] اللَّه ورسوله، فلما اخترن اللَّه ورسوله، قيل لهن:
أقررن الآن على الرضا باللَّه وبرسوله، قسم لكنّ رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم أو لم يقسم، أو قسم لبعضكن، ولم يقسم لبعضكن، وفضل بعضكن على
بعضكن في النفقة، أو لم يفضل، سوى بينكن أو لم يسو، فإن الأمر في ذلك إلى
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس لكن في ذلك شيء.
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيما ذكر، مع ما جعل اللَّه تعالى
له من ذلك، يسوى بينهن في القسم، إلا امرأة منهن أراد طلاقها، فرضيت بترك
القسم لها.
(10/236)
قال: وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل
التأويل: فذكر عن منصور، عن أبى رزين، قال: لما أراد النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم أن يطلق أزواجه، قلن له: افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت، فأمره
اللَّه تعالى، فأوى أربعا وأرجأ خمسا.
وذكر حديث هشام بن عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أنها قالت:
أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل، حتى أنزل اللَّه تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [ (1) ] ،
فقالت: إن ربك ليسارع في هواك.
وذكر من طريق ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [ (2) ] قال: كان أزواجه تغايرن
على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فهجرهن شهرا، ثم نزل التخيير من اللَّه
تعالى فيهن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ
مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً* يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها
رِزْقاً كَرِيماً* يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي
قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ
وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً [ (3) ] .
فخيرهن أن يخلى سبيلهن ويسرحهن، وبين إن يقمن أن أردن اللَّه ورسوله، على
أنهن أمهات المؤمنين، لا ينكحن أبدا، وعلى أنه يؤوى إليه من يشاء منهن ممن
وهبت نفسها له، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها، ويرجى من يشاء، حتى يكون هو
يرفع رأسه إليها، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل، فلا
__________
[ (1) ] الأحزاب: 51.
[ (2) ] الأحزاب: 51.
[ (3) ] الأحزاب: 28- 33.
(10/237)
جناح عليه، ذلك أدنى أن تقر أعينهن، ولا
يحزن، ويرضين، إذا علمن أنه من قضائي عليهنّ إيثار بعضهن على بعض، ذلك أدنى
أن يرضين.
قال: ومن ابتغيت ممن عزلت من ابتغى أصابه، ومن عزله لم يصبه فخيرهن بين أن
يرضين بهذا أو يفارقهن، فاخترن اللَّه ورسوله، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت،
وكان على ذلك صلى اللَّه عليه وسلّم، وقد شرط اللَّه هذا الشرط، ما زال
يعدل بينهن حتى لقي اللَّه تعالى.
واختار الطبري أن اللَّه تعالى جعل لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يرجئ من
النساء اللاتي أحللن له من يشاء، ويؤوى منهن من يشاء، وأن الإرجاء والإيواء
غير مقصور على من هن في نسائه يوم نزلت هذه الآية دون غيرهن ممن يستحدث
إيواءها، وأرجاءها منهن.
وأن معنى الكلام: تؤخر من يشاء ممن وهبت نفسها لك، وأحلت لك نكاحها، فلا
تقبلها، ولا تنكحها، وممن هي في حيالك، فلا تقربها، وتضم إليك من تشاء ممن
وهبت نفسها لك، أو أردت من النساء اللاتي أحللن لك نكاحهن، فتقبلها أو
تنكحها، وهي ممن في حيالك، فتجامعها إذا شئت، وتتركها إذا شئت بغير قسم.
وقال ابن القشيري في (تفسيره) : إن القسم كان واجبا ثم نسخ بهذه الآية،
وتفسير الماوردي في الآية قولين:
أحدهما: عن مجاهد، أن معناها، تعزل ما شئت من أزواجك، فلا تأتيها، وتأتى من
شئت.
والثاني: تؤخر من شئت من أزواجك، وتضم إليك من تشاء منهن، وهو قول قتادة،
ونقله البخاري عن بن عباس. قال: الماوردي: واختلفوا، هل أرجأ رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية من نسائه أحدا أم لا؟ فالذي عليه
(10/238)
الأكثرون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم
يرجئ، وأنه صلى اللَّه عليه وسلّم مات عن تسع، وكان يقسم لثمان منهن، لأن
سودة وهبت يومها لعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. [ (1) ]
السابعة: في وجوب نفقات زوجاته صلى اللَّه عليه وسلّم
فيه الوجهان السابقان في المهر والأصح الوجوب كما ذكره النووي في (الروضة)
[ (2) ] وعبارة الرافعي وجهان بناء على الخلاف في المهر. قال: في
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي في (الروضة) في كتاب النكاح، باب في خصائص رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره: وأما في النكاح، فأوجب
اللَّه سبحانه وتعالى على نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم تخيير نسائه بين
مفارقته واختياره.
وحكى الحناطى وجها أن هذا تخيير كان مستحبا، والصحيح الأول. ولما خيرهن،
اخترنه والدار الآخرة، فحرم اللَّه تعالى عليه التزويج عليهنّ والتبدل بهن
مكافأة لهن على حسن صنيعهن، فقال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ
بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ثم نسخ ذلك لتكون المنة
لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لترك التزويج عليهنّ، بقوله تعالى:
إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...
الآية. وهل حرم عليه صلى اللَّه عليه وسلّم طلاقهن بعد ما اختارهن؟ فيه
أوجه. أصحها: لا، والثاني: نعم. والثالث: يحرم عقب اختيارهن، ولا يحرم إذا
انفصل ولو فرض أن واحدة منهن أختارت الدنيا، فهل كان يحصل الفراق بنفس
الاختيار؟ وجهان.
أصحهما: لا. وهل كان جوابهن مشروطا بالفور؟ وجهان. أصحهما: لا. فإن قلنا
بالفور، فهل كان يمتد بامتداد المجلس، أم المعتبر ما يعد جوابا في العرف؟
وجهان. وهل كان قولها:
اخترت نفسي، صريحا في الفراق؟ فيه وجهان.
[ (2) ] قال الإمام النووي: القسم الثاني: المتعلق بالنكاح، فمنه الزيادة
على أربع نسوة، والأصح أنه لم يكن منحصرا في تسع، وقطع بعضهم بهذا، وينحصر
طلاقه في ثلاث، وينعقد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بلفظ الهبة على الأصح
فيهما وإذا انعقد بلفظ الهبة، لم يجب مهر بالعقد ولا بالدخول، ويشترط لفظ
النكاح من جهته صلى اللَّه عليه وسلّم على الأصح، قال الأصحاب: وينعقد
نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بمعنى الهبة، حتى لا يجب المهر ابتداء ولا
انتهاء، وفي (المجرد) للحناطى وغيره وجه غريب: أنه يجب المهر.
(روضة الطالبين) : 5/ 353.
(10/239)
(المهمات) : وهذا البناء يشعر بترجيح عدم
الوجوب وأنه الراجح في المهر واعترض على من بنى هذا على هذا بأن الخلاف في
إيجاب المهر إنما هو في الواهبة، والمذهب أنه لا يحب كما تقدم.
وأما غير الواهبة فقد صدقهن كما وقع في القرآن الكريم قال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي
آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يعنى اللاتي تزوجهن بصداق وقال مجاهد: آتَيْتَ
أُجُورَهُنَّ قال: صدقاتهن. وقال ابن زيد: كان كل امرأة أتاها مهرا فقد
أحلها اللَّه له ومما يدل على توهين الوجه الصائر إلى عدم الوجوب
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقه.
فإذا كان يحب أن ينفق مما ترك بعد وفاته فكيف في حياته؟.
***
(10/240)
الثامنة: كان له صلى اللَّه عليه وسلّم
تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها وتزويجها من نفسه وتولى
الطرفين بغير إذن وليها إذا جعله اللَّه تعالى أولى بالمؤمنين من أنفسهم
قال الحناطى: ويحتمل أن يقال: كان لا يجوز إلا بإذنها ويؤيد قول الحناطى
أنه صلى اللَّه عليه وسلّم استأذن جويرية وطلب رضاها بنكاحه وأجيب عنه بأنه
فعل ذلك تطبيبا لقلبها كقوله: والبكر تستأمر، ووقع في مطلب ابن الرفعة إن
الرافعي حكى عن الحناطى أنه قال: يحتمل أن يقال: كان لا يجوز إلا بإذن
وليها قال: ولم أر لذلك ذكرا في (الروضة) بل ذكر الخلاف المذكور في توليه
الطرفين وإنما فيها حكايته في إذنها كما حكاه الرافعي فتنبه لذلك.
التاسعة: أن المرأة تحل له صلى اللَّه عليه وسلّم بتزويج اللَّه تعالى
قال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [ (1) ]
يقول تعالى:
فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته وهي الوطر، زوجناك زينب بعد ما طلقها
زيد وبانت منه. وقيل: معنى زوجناكها أحللنا لك نكاحها، وكانت زينب تفخر على
صواحباتها بذلك تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني اللَّه. من فوق سبع سماوات.
كما خرجه البخاري من حديث أنس وقال محمد بن عبد اللَّه بن جحش تفاخرت عائشة
وزينب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فقالت زينب: أنا الّذي نزل تزويجي
وقال جرير عن مغيرة عن الشعبي كانت زينب تقول للنّبيّ صلى اللَّه عليه
وسلّم إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهنّ: أن جدي وجدك واحد،
وأنى أنكحنيك اللَّه من السماء، وأن السفير لجبريل.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 37.
(10/241)
ومنع ذلك بعض أصحابنا وقال إنه صلى اللَّه
عليه وسلّم أنشأ عقدا على زينب، ومعنى زوجناكها أبحنا لك نكاحها. وعد
القضاعي هذه الخصيصة مما خص بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء
من قبله.
العاشرة: كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم نكاح المعتدّة
على وجه حكاه البغوي والرافعي، ولفظ البغوي وقيل كانت تحل له نكاح المعتدة،
وذكر في (التعليقة) ما ليس في (التهذيب) فقال: وإذا رغب في ذات زوج فإنه
يحرم على زوجها إمساكها وتحل له بتزويج اللَّه على الأصح وكذا كانت تحل له
بلا عدة على معنى أنه لا يجب عليها أيضا العدة.
وقال أبو خلف عوض بن أحمد الروياني في كتاب (المعتبر في تقليل المختصر)
للجوينى بعد قول أبى محمد: وإذا رغب في نكاح امرأة منكوحه كان على زوجها
طلاقها ثم كان له أن ينكحها من غير عدة، قال: وقوله: من غير عدة لم يوجد
إلا في هذا الكتاب أو ما بنى عليه، وقال النووي في (الروضة) : القطع بالمنع
[ (1) ] .
قال ابن الصلاح: وقال الغزالي: في (الخلاصة) : وهو غلط منكر، وددت محوه منه
وتبع فيه صاحب (مختصر الجويني) ومنشؤه من تصحيف كلام أتى به المزني رحمه
اللَّه.
***
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي في (الروضة) : وكان له صلى اللَّه عليه وسلّم
تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها، لا إذن وليها. قال الحناطى: ويحتمل أنه
إنما كان يحل بإذنها، وكان يحل له نكاح المعتدة على أحد الوجهين.
قلت: هذا الوجه حكاه البغوي، وهو غلط، لم يذكره جمهور الأصحاب، وغلطوا من
ذكره. بل الصواب القطع بامتناع نكاح المعتدة من غيره. واللَّه تعالى أعلم.
(روضة الطالبين) : 5/ 354، كتاب النكاح. باب في خصائص رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
(10/242)
الحادية عشرة: هل كان يحل له صلى اللَّه
عليه وسلّم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؟
فيه وجهان في الرافعي عن ابن القطان بناء على أن المخاطب هل يدخل في
الخطاب؟.
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث مالك عن أبى الزناد عن الأعرج
عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم: لا تجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها،
وله طرق عندهما، فالمعنى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 199، كتاب النكاح، باب (28) لا تنكح المرأة على
عمتها، حديث رقم (5109) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 201، كتاب النكاح، باب (4) تحريم الجمع
بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث رقم (33) . قال الإمام النووي
في رواية: لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا بنت الأخت على الخال.
هذا دليل لمذاهب العلماء كافة، أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها
وبين خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقة، وهي أخت الأب وأخت الأم، أو
مجازية، وهي أخت أبى الأب، وأبى الجد، وإن علا، أو أخت أم الأم، وأم الجدة
من جهة الأم والأب وإن علت.
فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجمع بينهما، وقالت طائفة من الخوارج والشيعة:
يجوز.
وقال العلماء كافة: هو حرام كالنكاح لعموم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وقولهم: إنما هو مختص بالنكاح لا يقبل، بل جميع
المذكورات في الآية محرمات بالنكاح وبملك اليمين جميعا، ومما يدل عليه قوله
تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
فإن معناه إن ملك اليمين يحل وطؤها بملك اليمين، لا نكاحها. فإن عقد النكاح
عليها لا يجوز لسيدها، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) مختصرا.
ثم قال في (الروضة) : وهل كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم الجمع بين
امرأة وعمتها أو خالتها؟
وجهان بناء على أن المخاطب هل يدخل في الخطاب؟ ولم يكن يحل الجمع بينها
وبين أختها، وأمها، وبنتها على المذهب. حكى الحناطى فيه وجهين. (روضة
الطالبين) : 5/ 355، كتاب النكاح،؟ باب في خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم في النكاح وغيره.
(10/243)
لا ينكح أحد، وهذا من الكلام في الخصائص
بالاجتهاد دونه باطل، ولم يقع ذلك من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ولم
يذكره ابن القاص ولا القفال ولا غيرهما، وإنما نسبه الرافعي إلى خط بعض
الناس فقال: رأيت بخط بعض المصنفين عن أبى الحسن القطان في أنه هل كان يجوز
له الجمع بين المرأة وخالتها وعمتها إلى آخره.
الثانية عشرة: هل كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم الجمع بين الأختين؟
فالقرآن والأحاديث الصحيحة صريحة بتحريم ذلك، قال تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وهذا الخطاب يدخل فيه نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم.
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث شعيب عن
الزهري قال: أخبرنى عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبى سلمة أخبرته أن أم
حبيبة
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 198- 199، كتاب النكاح، باب (27) وأن تجمعوا بين
الأختين إلا ما قد سلف، حديث رقم (5107) ، قال الحافظ في (الفتح) : والجمع
بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانت شقيقتين، أم من أب، أم من
أم، وسواء النسب والرضاع، واختلف فيما إذا كانتا بملك اليمين، فأجازه بعض
السلف، وهو رواية عن أحمد والجمهور، وفقهاء الأمصار على المنع، ونظيره
الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وحكاه الثوري عن الشيعة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 278، كتاب الرضاع، باب (4) تحريم الربيبة
وأخت المرأة، حديث رقم (15) . قال الإمام النووي: معناه أنها حرام عليه
بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخى، فلو فقد أحد السببين حرمت بالآخر.
والربيبة ابنة الزوجة مشتقة من الرب، وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمورها،
ويصلح أحوالها. ووقع في بعض كتب الفقه أنها مشتقة من التربية، وهذا غلط
فاحش، فإن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية ولام الكلمة، وهو
الحرف الأخير مختلف، فإن آخر رب باء موحدة، وفي آخر ربى ياء مثناة من تحت،
واللَّه تعالى أعلم.
(10/244)
قالت: يا رسول اللَّه أنكح أختى بنت أبى
سفيان، قال: وتحبين؟ قلت: نعم لست لك بمخلية. وأحب من شاركني في خير أختى،
فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إن ذلك لا يحل لي. قلت: يا رسول اللَّه.
فو اللَّه إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبى سلمة. قال: بنت أم
سلمة؟ فقلت: نعم، قال: فو اللَّه لو لم تكن في حجري حلت لي، إنها لابنة أخى
من الرضاعة، أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة. فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن.
وما ذكر الخباطى مغاير للقرآن وصحيح الحديث، هو خلاف الواقع أيضا.
***
__________
[ () ] (3) (سنن النسائي) : 6/ 404، كتاب النكاح، باب (46) تحريم الجمع بين
الأختين، حديث رقم (3287) .
(10/245)
الثالثة عشرة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم
أعتق صفية وتزوج بها بأن جعل عتقها صداقها
خرج البخاري [ (1) ] في باب من جعل عتق الأمة صداقها من طريق حماد عن ثابت
وشعيب بن الحبحاب عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
وخرج في باب الوليمة ولو بشاة من طريق مسدد عن عبد الوارث عن شعيب عن أنس
أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها
وأولم عليها بحيس [ (2) ] .
وخرجه في غزوة خيبر من حديث شعبة عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن
مالك يقول سبى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم صفية فأعتقها فتزوجها فقال ثابت
لأنس: ما أصدقها؟ قال أصدقها نفسها فأعتقها [ (3) ] .
وخرجه مسلم [ (4) ] من طريق حماد بن زيد بن ثابت ومن طريق أبى عوانه عن أبى
عثمان عن أنس ومن طريق معاذ بن هشام قال حدثني أبى عن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 160، كتاب النكاح، باب (14) ، من جعل عتق الأمة
صداقها، حديث رقم (5086) ، قال الحافظ في (الفتح) : وقد أخذ بظاهره من
القدماء سعيد بن المسيب، وإبراهيم، وطاووس، والزهري، ومن فقهاء الأمصار
الثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها
صداقها، صح العقد، والعتق، والمهر على ظاهر الحديث. وأجاب الباقون على ظاهر
الحديث بأجوبة، أقربها إلى لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت
له عليها قيمتها وكانت معلومة، فتزوجها بها.
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (69) الوليمة ولو بشاة، حديث رقم (5169) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 7/ 596، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث
رقم (4195) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 233، كتاب النكاح، باب (14) فضيلة إعتاقه
أمته ثم يتزوجها، حديث رقم (85) .
(10/246)
شعيب بن الحبحاب عن أنس ومن طريق سفيان ومن
طريق معاذ بن هشام قال حدثني أبى عن شعيب بن الحبحاب عن أنس كلهم عن النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وفي حديث معاذ عن
أبيه تزوج صفية وأصدقها عتقها.
وأخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث أبى عوانة وقال: حديث حسن صحيح والعمل على
هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وغيرهم، وهو
قول الشافعيّ وأحمد وإسحاق، وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتى
يجعل لها مهرا سوى العتق قال: والقول الأول أصح.
__________
[ () ] قال الإمام النووي: أنه يستحب أن يعتق الأمة ويتزوجها كما قال في
الحديث الّذي بعده له أجران وقوله: أصدقها نفسها اختلف في معناه فالصحيح
الّذي اختاره المحققون أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط ثم تزوجها برضاها
بلا صداق وهذا من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه يجوز نكاحه بلا مهر لا
في الحال ولا فيما بعد بخلاف غيره وقال بعض أصحابنا معناه أنه شرط عليها أن
يعتقها ويتزوجها فقبلت فلزمها الوفاء به وقال بعض أصحابنا أعتقها وتزوجها
على قيمتها وكانت مجهولة ولا يجوز هذا ولا الّذي قبله لغيره صلى اللَّه
عليه وسلّم بل هما من الخصائص كما قال أصحاب القول الأول واختلف العلماء
فيمن أعتق أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها فقال الجمهور: لا
يلزمها أن تتزوج به ولا يصح هذا الشرط وممن قاله مالك والشافعيّ وأبو حنيفة
ومحمد بن الحسن وزفر وقال الشافعيّ: فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت
ولا يلزمها أن تتزوجه بل له عليها قيمتها لأنه لم يرضى بعتقها مجانا فإن
رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه فله عليها القيمة ولها عليه المهر المسمى
من قليل أو كثير وأن تزوجها على قيمتها فإن كانت القيمة معلومة له ولها صح
الصداق ولا تبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة ففيه
وجهان لأصحابنا أحدهما يصح الصداق كما لو كانت معلومة بأن هذا العقد فيه
ضرب من المسامحة والتخفيف وأصحهما وبه قال جمهور أصحابنا لا يصح الصداق بل
يصح النكاح ويجب لها مهر المثل وقال سعيد بن المسيب والحسن والنخعي والزهري
والثوري والأوزاعي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يجوز أن يعتقها على أن تتزوج به
ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ هذا الحديث
وتأوله الآخرون بما سبق.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 3/ 423- 424، كتاب النكاح، باب، (23) ما جاء في
الرجل يعتق الأمة ثم يتزوجها، حديث رقم (1115) .
(10/247)
وذكر البخاري في أول كتاب النكاح في باب
اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها، حديث أيما رجل كانت عنده وليدة
فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران.
الحديث، ثم قال: وقال أبو بكر عن أبى حصين عن أبى بردة عن أبيه عن النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم أعتقها ثم أصدقها هكذا ذكره البخاري تعليقا.
وقد وصله البيهقي من هذا الطريق بلفظ: وإذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها بمهر
جديد كان له أجران.
وذلك يدل على تحديد العقد بصداق غير عتق الأمة من رواية يحيى بن عبد الحميد
الحماني، وهو ضعيف جدا عن أبى بكر بن عياش، وهو حديث مشهور من رواية الثقات
وليس فيه بمهر جديد أصلا، اختلف أصحابنا في معنى أعتقها وجعل عتقها صداقها،
فقيل: أعتقها بشرط أن ينكحها فلزمها الوفاء بخلاف غيره، وهذا يقتضي إنشاء
عقد بعد ذلك، وهذا وجه ضعيف لأنه لم ينقل في رواية من الروايات فقيل: جعل
نفس العتق صداقها وجاز له ذلك بخلاف غيره.
وهذا أورده الماوردي وهو الموافق لغالب الأحاديث، واختاره الغزالي ويشكل
على هذا ما حكاه أبو عيسى الترمذي عن الشافعيّ أنه جوز ذلك لآحاد الناس،
وهو وجه مشهور، وقيل أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا فيما
بعد وهذا يقتضي أن يكون بلا مهر، وسبقه إليه ابن الصلاح قال في (مشكله) :
أنه أصح وأقرب إلى الحديث وحكى عن أبى إسحاق. قال في (مشكله) وقطع به
البيهقي فقال: أعتقها مطلقا.
قال ابن الصلاح: فيكون معنى قوله: وجعل عتقها صداقها أنه لم يجعل لها شيئا
غير العتق فحل كل الصداق وإن لم يكن صداقا وهو من قبيل قولهم الجوع زاد من
لا زاد له وقيل أعتقها على شرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها فتزوجها به
وهي مجهولة وليس لغيره أن يتزوج بصداق مجهول، حكاه الغزالي في (وسيطه) ،
ولنا وجه في صحته: إصداق قيمة الأمة المعتقة المجهولة إذا أعتقها عليه
بالنسبة إلينا وهو يرد على قول الغزالي في (وسيطه) ففيه خاصيه بالاتفاق إلا
أن يكون القائل بالصحة في حق غيره صلى اللَّه عليه وسلّم غير القائل
(10/248)
بالاتفاق هنا. وقيل: بل أمهرها صلى اللَّه
عليه وسلّم جارية كما رواه البيهقي بإسناد غريب ولا يصح.
الرابعة عشرة: كان من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم الخلوة بالأجنبية
فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم، ويملك إربه عن زوجته، فكيف عن غيرها،
ممن هو المنزه عنه؟ فإنه المبرأ عن كل فعل قبيح، وقول رفث.
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن
أبى طلحة. عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه سمعه يقول:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 12، كتاب الجهاد والسير، باب (3) الدعاء بالجهاد
والشهادة للرجال والنساء، وقال: اللَّهمّ ارزقني شهادة في بلد رسولك، حديث
رقم (2782) ، (2789) ، وأخرجه في باب (8) فضل من يصرع في سبيل اللَّه فمات
فهو منهم، وقول اللَّه عز وجل:
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100]
، حديث رقم (2799) ، (2800) ، وفي باب (63) غزو المرأة في البحر، حديث رقم
(2877) ، (2878) ، وذكره في باب (75) ركوب البحر، حديث رقم (2894) ، (2895)
، (المرجع السابق) : 11/ 83، كتاب الاستئذان، باب (41) من زار قوما فقال
عندهم، حديث رقم (6282) ، (6283) قوله: (وكانت تحت عباده بن الصامت) هذا
ظاهره انها كانت حينئذ زوج عباده والسبج: قال الأصمعي: ثيح كل شيء وسطه،
قال أبو على في (اماليه) : قيل ظهره، وقيل معظمه، وقيل هو له وإن ثبتت قصة
أم عبد اللَّه بنت ملحان، فالقول فيها القول في أم حرام انصاف إلى العلة
المنكورة كون أنس خادم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وقد جرت العادة بمخالطة
المخدوم وخادمة وأهل خادمه ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم، ثم قال
الدمياطيّ: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك
كان مع ولد أم خادم أو زوج أو تابع. قلت: وهو احتمال قوى، ولكنه لا يرفع
الإشكال من أصله لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر وأحسن
الأجوبة دعوى الخصوصية ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على
ذلك واضح. واللَّه أعلم.
(10/249)
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا
ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان [ (1) ] فتطعمه- وكانت تحت عبادة
بن الصامت- فدخل يوما فأطعمته، فنام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم،
__________
[ () ] (2) (مسلم بشرح النووي) : 13/ 61، كتاب الإمارة، باب (49) فضل الغزو
في البحر، حديث رقم (160) ، قال الإمام النووي: وفيه معجزات للنّبيّ صلى
اللَّه عليه وسلّم منها إخباره ببقاء أمته بعده وأنه تكون لهم شوكة وقوة
وعدد وأنهم يغزون وأنهم يركبون البحر وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان
وأنها تكون معهم وقد وجد بحمد اللَّه تعالى كل ذلك وفيه فضيلة لتلك الجيوش
وأنهم غزاة في سبيل اللَّه واختلف العلماء متى جرت الغزوة التي توفيت فيها
أم حرام في البحر وقد ذكر في هذه الرواية في مسلم أنها ركبت البحر في زمان
معاوية فصرعت عن دابتها فهلكت قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار: أن
ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وأن فيها ركبت
أم حرام وزوجها إلى قيرس فصرعت عن دايتها هناك فتوفيت ودفنت هناك وعلى هذا
يكون قوله في زمان معاوية معناه في زمان غزوة في البحر لا في أيام خلافته.
وفي هذا الحديث جواز ركوب البحر للرجال والنساء كذا قاله الجمهور، وكره
مالك ركوبه للنساء لأنه لا يمكن غالبا التستر فيه ولا غض البصر عن
المتصرفين فيه ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيهما صغر من
السفيان مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال، قال القاضي رحمه اللَّه
تعالى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما
منع ركوبه وقيل إنما منعه العمران للتجارة وطلب الدنيا لا للطاعات. وقد روى
عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم النهى عن ركوب البحر إلا لحاج
أو معتمر أو غاز. وضعف أبو داود هذا الحديث وقال رواته مجهولون واستدل بعض
العلماء بهذا الحديث على أن القتال في سبيل اللَّه تعالى والموت فيه سواء
في الأجر لأن أم حرام ماتت ولم تقتل ولا دلالة فيه لذلك لأنه صلى اللَّه
عليه وسلّم لم يقل أنهم شهداء إنما يغزون في سبيل اللَّه ولكن قد ذكر مسلم
في الحديث الّذي بعد هذا بقليل حديث زهير بن حرب من رواية أبى هريرة من قتل
في سبيل اللَّه فهو شهيد ومن مات في سبيل اللَّه فهو شهيد وهو موافق لمعنى
قول اللَّه تعالى:
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
[ (1) ] هي أم حرام بنت ملحان، خاله أنس بن مالك.
(10/250)
ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا
رسول اللَّه؟ فقال: ناس من أمتى عرضوا على غزاة في سبيل اللَّه، يركبون ثيح
هذا البحر ملوكا على الأسرة- أو مثل الملوك على الأسرة. فقلت: ادع اللَّه
أن يجعلني منهم، قال:
__________
[ () ] تقدم نسبها مع أخيها حرام بن ملحان في الحاء المهملة من الرجال،
ويقال إنها الرميصاء، بالراء أو بالغين المعجمة، كذا أخرجه أبو نعيم، ولا
يصح، بل الصحيح أن ذلك وصف أم سليم. ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند
النسائي.
وقال أبو عمر في أم حرام: لا أقف لها على اسم صحيح، وثبت ذلك في صحيح
البخاري وغيره من طريق الموطأ لمالك عن إسحاق بن أبى طلحة، عن أنس- أن
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان إذا ذهب إلى قباء دخل على أم حرام بنت
ملحان فتطعمه، فدخل عليها فأطعمته وجلست تفلى رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك
... الحديث في شهداء البحر، وفي آخره، قال: فركبت أم حرام البحر في زمن
معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فماتت.
وفي بعض طرقه في البخاري، عن أنس، عن أم حرام بنت ملحان، وكانت خالته- أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في بيتها ثم استيقظ وهو يضحك، وقال:
عرض على أناس من أمتى يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة. قالت:
فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يجعلني منهم، ثم نام فاستيقظ وهو
يضحكك، فقال: يا رسول اللَّه، ما يضحكك؟ فقال:
عرض عليّ ناس من أمتى يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة. قلت: يا
رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين.
قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فأخرجها معه، فلما جاز البحر قال ابن
الأثير: وكانت تلك الغزوة غزوة قبرس، فدفنت فيها، وكان أمير ذلك الجيش
معاوية بن أبى سفيان في خلافة عثمان ومعه أبو ذر وأبو الدرداء وغيرهما من
الصحابة، وذلك في سنة سبع وعشرين. قال أبو عمر: كان معاوية غزا تلك الغزوة
بنفسه ومعه امرأته فاختة بنت قرظة، من بنى نوفل بن عبد مناف.
قلت هي كنود بنت قرظة، فلعل فاختة كانت تلقب كنود وهي أختها. تزوج معاوية
واحدة بعد أخرى، وجزم بذلك بعض أهل الأخبار، قال: وصالحهم معاوية تلك السنة
ورجع.
وروى عن أم حرام أيضا زوجها عبادة بن الصمت، وعمير بن الأسود وعطاء بن
يسار، ويعلى بن شداد بن أوس ترجمتها في: (الإصابة) : 8/ 189- 190 ترجمة رقم
(11967) ، (الاستيعاب) : 4/ 1931
(10/251)
أنت من الأولين.
فركبت البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت.
ولمسلم [ (1) ] من حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن حبان، عن
أنس بن مالك، عن أم حرام وهي خالة أنس قالت: أتانا النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم يوما فقال: عندنا فاستيقظ وهو يضحك فقلت ما يضحكك يا رسول اللَّه
بأبي أنت وأمى، قال: أريت قوما من أمتى يركبون ظهر البحر كالملوك على
الأسرة فقلت ادع اللَّه أن يجعلني منهم قال فإنك منهم. قالت: ثم نام
فاستيقظ أيضا وهو يضحكك فسألته فقال مثل مقالته. فقلت: ادع اللَّه أن
يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين:
قال فتزوجها عبادة بن الصامت بعد فغزا في البحر فحملها معه فلما أن جاءت
قربت لها بغلة فركبتها فصرعتها فاندقت عنقها.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 63، كتاب الإمامة، باب (49) فضل الغزو في
البحر حديث رقم (161) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 14، كتاب الجهاد باب (10) فضل غزو البحر،
حديث رقم (2490) .
والترمذي في (السنن) : 4/ 152، كتاب فضائل الجهاد، باب (15) ما جاء في غزو
البحر، حديث رقم (1645) .
والنسائي في (السنن) : 6/ 347- 348، كتاب الجهاد، باب (40) فضل الجهاد في
البحر، حديث رقم (3171) .
وابن ماجة في (السنن) : 2/ 927، كتاب الجهاد، باب (10) فضل غزو البحر، حديث
رقم (2776) .
والإمام مالك في (الموطأ) : باب الترغيب في الجهاد، حديث رقم (1002) .
والإمام أحمد في (المسند) : 7/ 503، حديث رقم (26492) ، من حديث حذافة بنت
وهب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
والدارميّ في (السنن) : 2/ 210، باب في فضل غزاة البحر.
(10/252)
ولمسلم [ (1) ] من حديث همام، عن إسحاق بن
عبد اللَّه، عن أنس قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا يدخل على أحد
من النساء إلا على أزواجه، وإلا أم سليم، فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في
ذلك، فقال: إني أرحمها، قتل أخوها معى.
وقال ابن عبد البر: وأم حرام هذه خالة أنس بن مالك، أخت أم سليم بنت ملحان،
أم أنس. قال: وأظنها أرضعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، إذ أم سليم
جعلت أم حرام خالة له من الرضاعة، فلذلك كانت تفلى رأسه، وينام عندها،
وكذلك كان ينام عند أم سليم، وتنال منه ما يجوز لذي المحرم أن يناله من
محارمه.
ولا يشك مسلم أن أم حرام كانت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
المحرم، فلذلك كان منها ما ذكر منها بما ذكرنا في هذا الحديث.
وقد أخبرنا غير واحد من شيوخنا، عن أبى محمد عبد اللَّه بن محمد ابن على،
أن محمد بن [يونس] أخبره، عن يحى بن إبراهيم بن مزين قال:
إنما استجاز رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن تفلى أم حرام رأسه،
لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالته لآل أم عبد المطلب من هاشم، كانت من
بنى النجار.
وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لنا ابن وهب: أم حرام إحدى خالات النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، فلهذا كان يقيل عندها، وينام في حجرها وتفلى
رأسه.
قال أبو عمر بن عبد البر: أي ذلك كان، فأم حرام محرم من رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم.
قال مؤلفه ويؤيده ما ذهب إليه ابو عمر أنه وقع في صحيح البخاري من حديث
هشام عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، حدثني أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلّم بعث خاله أخا لأم سليم في سبعين راكبا.... الحديث.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 243، كتاب فضائل الصحابة، باب (19) من
فضائل أم سليم، وأم أنس بن مالك، وبلال، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم،
حديث رقم (104) .
(10/253)
وهذا هو حرام بن ملحان، واسم ملحان مالك بن
خالد بن زيد بن حرام ابن جندب بن عامر بن غانم بن مالك بن النجار، فانظر
كيف قال فيه أنس انه قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم؟ وانه أخ أم سليم وما
هي إلا خؤولة الرضاعة فتأمله.
قال ابن عبد البر: والدليل على ذلك، فذكر ما خرجه النسائي من حديث غشيم عن
أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ألا لا
يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم.
وروى عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم قال لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما.
وروى ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم قال: لا يخلون رجلا بامرأة إلا تكون منه ذات محرم.
روى عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يدخلن رجل على مغيبه إلا ومعه رجلا
أو رجلان.
ومن طليق النسائي حديث الليث عن صويب بن أبى حبيب، عن أبى حيصر عن عقبة بن
عامر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟
قال: الحمو الموت.
قال ابن عبد البر: وهذه آثار ثابتة للنهى عن ذلك، ومحال أن يأتى رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ما ينهى عنه.
وقال النووي: في باب فضل الغزو في البحر من (شرح مسلم) :
اتفق العلماء على أنها- يعنى أم حرام- كانت محرما له صلى اللَّه عليه
وسلّم، واختلفوا في كيفية ذلك فقال ابن عبد البر وغيره: وكانت إحدى خالته
صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، وقال أخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده
لأن عبد المطلب كانت أمه من بنى النجار وقد اعترض على النووي بعض من
أدركناه، فقال: وما ذكره من الاتفاق على أنها كانت محرما له فيه نظر، ومن
أحاط علما بنسب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ونسب أم حرام علم أنها لا
محرمية بينهما.
قال من ذكرناه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم، ويقال: كان من خصائصه
الخلوة بالأجنبية وقد ادعاه بعض شيوخنا.
(10/254)
قال مؤلفه رحمه اللَّه: لم يرد النووي رحمه
اللَّه بأن أم حرام كانت محرما لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من جهة
النسب، فأنه من أعلم الناس بنسبيهما، وإنما أراد المحرمية الرضاعة التي
حكاها ابن عبد البر وذهب إليها بلا شك.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت
آمنه بنت وهب أم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة وقال ابن
العربيّ:
ويحتمل ان تكون ذلك قبل الحجاب، ورد بأنه كان بعد حجة الوداع.
وقال الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطيّ ذهل من يزعم ان أم حرام إحدى
خالات النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة أو من النسب، لأن أمهاته من
النسب واللاتي أرضعته معلومات ليس فيهن أحدى من الأنصار البتة، سوى أم عبد
المطلب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن عباس بن عامر بن غنم ابن
النجار، وأم حرام بنت ملحان بن مالك بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن
غنم بن عدي بن النجار، فلا تجتمع أم حرام وهي سلمى إلا في عامر ابن غنم،
جدهما الأعلى، وهذه خؤولة لا تثبت بها محرمية، لأنها خؤولة مجازيه، وهي
كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم لسعد بن أبى وقاص: هذا أخا لي لكونه من بنى
زهرة، وهم أقارب أمه وليس سعدا أخا لآمنة.
وإذا تقرر هذا
فقد ثبت في الصحيح انه صلى اللَّه عليه وسلّم كان لا يدخل على أحد من
النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم فقيل له، فقال: إلى أرحمها قتل
أخوها معى
يعنى حرام بن ملحان، فكان قتل ببئر معونة، قال على أنه ليس في الحديث ما
يدل على الخلوة من أم حرام ولعل ذلك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع،
وهذا احتمال قوى إلا أنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية
الرأس، وكذلك النوم في الحجر.
وأحسن الأجوبة: دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن
الدليل على ذلك واضح، والحمد للَّه وحده.
***
(10/255)
الخامسة عشرة: هل تزوج رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم بعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها وهي بنت ست سنين أو
سبع سنين كان من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ أو يجوز لأمته نكاح الصغيرة
إذا زوجها أبوها؟
قال ابن شبرمة فيما نقله عنه أبو محمد بن حزم: لا يجوز نكاح الأب ابنته
صغيرة حتى تبلغ وتأذن ورأى أمر عائشة خصوصية للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم
كالموهوبة، ونكاح أكثر من أربع، ورد هذا بأن قول ابن شبرمة: بأن ادعاء
الخصوصية يفتقر إلى دليل، وقد عدم في هذه المسألة.
وحكى ابن المنذر الإجماع على أن ذلك يجوز لكل أحد،
وقد خطب عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أم كلثوم إلى على رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: إنها تصغر عن ذلك ثم زوجه،
وقال الشافعيّ: زوج ابن الزبير ابنته صفية، وزوج غير واحد من الصحابة.
***
(10/256)
|