تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس

(ذكر دولة بنى العباس وخلافة السفاح)
* أبى العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب أمير المؤمنين القرشى العباسى وأمه رابطة بنت عبد الله الحارثية ومولده بالاجمة من ناحية البلقاء سنة ثمان ومائة ونشأ بها* صفته* كان أبيض طوالا أقنى جعد الشعر حسن اللحية بويع بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاوّل سنة اثنتين وثلاثين ومائة بعد موت أبيه محمد وكان أبوه بويع بالخلافة كذا فى سيرة مغلطاى ولم يتم أمره وكان السفاح هذا أصغر من أخيه أبى جعفر المنصور* روى عن سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يخرج رجل من أهل بيتى عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن يقال له السفاح فيكون اعطاؤه المال حثيا رواه العطاردى عن أبى معاوية عن الاعمش أخرجه أحمد فى مسنده* وعن عقبة بن عامر الجهنى قال رأيت رسول الله آخذا بيد العباس ثم قال يا عباس انه لا تكون نبوّة الا وكانت بعدها خلافة وسيلى من ولدك فى آخر الزمان سبعة عشر منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم الجموح ومنهم العاقب ومنهم الراهن من ولدك وويل لا متى منه كيف يهلكها ويذهب بأمرها* وعن ابن عباس قال أقبل العباس يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبى بكر يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض وسيلبس ولده من بعده السواد ويتملك منهم اثنا عشر رجلا يعنى ملكا وينازع فيه أخرجهما ابن حبان والملا فى سيرته وكان قد قام بدعوة السفاح أبو مسلم الخراسانى وهو الذى مهد له البلاد وقطع جادرة بنى أمية قال الهيثم بن عدى وهشام بن الكلبى عاش السفاح ثلاثا وثلاثين سنة وقال الذهبى مات بالانبار وله اثنان وثلاثون سنة ومات يوم الاحد لاثنتى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وزاد غيرهما فقال بالجدرى فى ذى الحجة وقال خليفة توفى سنة خمس وثلاثين وهو ابن ثمان وعشرين وقال غيره وهو ابن سبع وعشرين سنة والاوّل أشهر وأصح* قال الذهبى ومدّة خلافته خمس سنين الا ثلاثة أشهر وفى سيرة مغلطاى كانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويوما وأوصى بالخلافة بعده لاخيه المنصور*

(ذكر خلافة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس)
* أمير المؤمنين القرشى الهاشمى ثانى خلفاء بنى العباس أمه سلامة البربرية ومولده فى سنة خمس وتسعين وهو أسنّ من أخيه السفاح كما تقدّم وكان المنصور فى صغره يلقب بمدرك التراب وبالطويل أيضا ثم لقب فى خلافته بأبى الدوانيق لبخله وكان بخيلا ولمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات سمى بالدوانيقى وكان مع هذا ربما يعطى العطاء العظيم* صفته* كان أسمر نحيفا طويلا مهابا خفيف العارضين معرّق الوجه رحب للحية يخضب بالسواد كأنّ عينيه لسانان ناطقان تخالطه أبهة الملوك بزىّ النساك تقلبه القلوب وتتبعه العيون وكان أفحل بنى العباس هيبة وشجاعة وحزما ورأيا وجبرونا وجماعا للمال تاركا للهو والطرب كامل العقل جيد المشاركة فى العلم والادب فقيه النفس وكان يرجع الى عدل وديانة وله حظ من صلاة وتدين وكان فصيحا بليغا خليقا للامارة الا أنه قتل خلقا كثيرا حتى استقام ملكه بويع بالخلافة بعد أخيه السفاح أتته البيعة وهو

(2/324)


بمكة بعهد السفاح لانه كان حج فى تلك السنة ومكث فى الخلافة احدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا كذا فى سيرة مغلطاى وفيها حج أبو مسلم الخراسانى ووقع منه فى حق المنصور أمور نقمها عليه وقتله لما ولى الخلافة* والمنصور هذا هو الذى بنى بغداد وقتل أبا مسلم الخراسانى واسمه عبد الرحمن وضرب أبا حنيفة على أن يلى القضاء فامتنع ومات فى حبسه كذا فى سيرة مغلطاى وهو والد جميع الخلفاء العباسية* ولما بلغ نائب الشام عم السفاح وهو عبد الله بن على موت السفاح زعم انّ السفاح عهد اليه فى حياته بالخلافة بعده وأنه على ذلك حارب مروان حتى هزمه واستأصله وأقام بذلك شهودا ودعا الى نفسه فبايعه جيشه وعسكر بدابق فجهز المنصور لحربه صاحب الدولة أبا مسلم الخراسانى فكان المصاف بنصيبين وكانت وقعة هائلة فانكسر الشاميون وهرب عبد الله الى البصرة ونائبها أخوه فاختفى عنده وحاز أبو مسلم خزائنه وكانت عظيمة لانه استولى على ذخائر بنى أمية ونعمتهم فبعث المنصور يقول لابى مسلم احتفظ بمالى فعظم ذلك عليه وعزم على خلع المنصور وسار بجيشه يريد خراسان ليقيم بها خليفة علويا فراسله المنصور يستعطفه ويعتذر اليه فما زال بتحيله عليه حتى انخدع ووقع فى مخالبه وجاء الى خدمته فبالغ المنصور فى تعظيمه وكان اذا ركب الى الخدمة يركب فى ثلاثة آلاف فكلمه ابن عم الخليفة فى أن يختصر هذا الموكب فما زالوا به حتى كان يركب فى مائة فارس فدخل يوما الى المنصور وقد أعدّ له عشرين بالسلاح فى مجلس وقال اذا رأيتمونى أصفق بيدى فدونكم عدوّ الله فدخل والحجاب يمنعون امراءه من الدخول حتى بقى وحده فأخذ المنصور يعنفه ويتنمر له ويعدّد ذنوبه بعد أن قال له أرنى سيفك هذا فأخذه ونظر فيه ووضعه تحت طراحته فبقى أبو مسلم يعتذر ويقول ما قتلت من سمى مولانا أمير المؤمنين الا فى اقامة دولتكم ثم صفق المنصور بيده فخرج العشرون فذل أبو مسلم وقال يا أمير المؤمنين استبقنى لعدوّك فقال وهل أعدى لى منك فقطعوه فى الحال ولف فى بساط وألقوا رأسه الى أصحابه خارج القصر ونثروا لهم ذهبا عظيما فاشتغلوا بذلك يقال انّ أبا مسلم كان جبارا مهيبا سفاكا للدماء أباد أمما لا يحصون حتى قيل انه قتل ستمائة ألف محاربة وصبرا وعاش سبعا وثلاثين سنة*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة أبى جعفر المنصور
وفى سنة احدى وأربعين ومائة مات موسى بن عقبة صاحب المغازى بالمدينة وكان فقيها مفتيا من التابعين وفيها أمر المنصور بعمارة جدار الحجر فعملوه بالرخام وكان قبل ذلك مبنيا بحجارة بادية ليس عليها رخام كذا فى شفاء الغرام* وفى سنة اثنتين وأربعين ومائة مات شيخ الكوفة خالد بن مهران الحذاء الحافظ وعم الخليفة سليمان بن على العباسى أمير البصرة عن ستين سنة وفى سنة ثلاث وأربعين ومائة مات حميد الطويل وسليمان التيمى صاحب أنس بن مالك وكانا من الائمة الكبار وقد مكث سليمان التيمى أربعين سنة يصوم يوما ويفطر يوما ويصلى الصبح بوضوء العشاء وفى سنة خمس وأربعين ومائة أمر المنصور ببناء مدينة بغداد*

سبب بناء بغداد
روى ان المنصور خرج يوما الى الصيد وسار الى أن وصل الى الدجلة وأرض بغداد ولم يكن حينئذ هناك بلد ولا عمارة سوى دير لراهب ومزرعة فطلب المنصور الراهب واستخبره عن اسمه وعن اسم الارض فقال اسمى باغ وهذه الارض اسمها داد وقرأت فى كتاب اقليد سيات والملاحم ان لا بدّ أن يعمر ههنا مدينة مذكورة الى آخر الزمان فاشتراها منه وبنى فيها مدينة وسميت بغداد باسم الراهب والارض فرسمها أولا بالرماد وأسس أسوارها وبنيت مستديرة وفى وسطها قصر السلطنة وفرغ بناؤها فى أربع سنين* وفى سنة ثمان وأربعين ومائة توفى سيد بنى هاشم جعفر بن محمد الصادق أبو عبد الله العلوى المدنى وله ثمان وستون سنة* وفى سنة تسع وأربعين ومائة مات بالبصرة كهمس بن الحسين من صغار التابعين* وفى سنة خمسين ومائة مات امام أهل الحجاز أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكى صاحب عطاء وهو أوّل من صنف

(2/325)


التصانيف فى العلم بمكة كما أن سعيد بن أبى عروبة أوّل من صنف بالبصرة فى هذا العصر*

ترجمة الامام الأعظم أبى حنيفة النعمان
وفى رجب سنة خمسين ومائة توفى فقيه العراق الامام الاعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زنوطا بن ماه الكوفى مولى بنى تيم الله بن ثعلبة أحد الائمة الاربعة المشهورين ولد بالكوفة سنة ثمانين ونشأ بها* قال أبو بكر ابن أحمد بن ثابت المؤرّخ يقال انّ أباه ثابتا هو الذى أهدى الفالوذج لعلى بن أبى طالب يوم النيروز وقيل كان يوم المهرجان وكان أبو حنيفة يقول أنا فى بركة دعوة صدرت من علىّ بن أبى طالب* وعن ابن حيرون عن الضمرى قال كان أبو حنيفة حسن السمت والوجه والثوب والفعل والمواساة لكل من طاف به* صفته* انه كان ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير وكان من أحسن الناس منطقا روى انّ ولادته كانت فى عصر الصحابة وتفقه فى زمن التابعين* وفى الكشف شرح المنار انه ولد فى زمن الصحابة ولقى ستة منهم انس بن مالك وعبد الله بن الحارث بن جزء وعبد الله بن أنيس وعبد الله ابن أبى أوفى وواثلة بن الاسقع ومعقل بن يسار وفى جابر بن عبد الله اختلاف ونشأ فى زمن التابعين وفى تذنيب الرافعى يقال انه أدرك أنس بن مالك حين نزل الكوفة وسمع عطاء بن أبى رباح والزهرى وقتادة* وفى تاريخ اليافعى رأى انسا وروى عن عطاء بن أبى رباح وتفقه على حماد بن أبى سليمان وفى تاريخ اليافعى وكان قد أدرك أربعة من الصحابة أنس بن مالك بالبصرة وعبد الله بن أبى أوفى بالكوفة وسهل بن سعد الساعدى بالمدينة وأبا الطفيل عامر بن واثلة بمكة* وذكر الخطيب فى تاريخ بغداد انه رأى أنس بن مالك وأخذ الفقه من حماد بن أبى سليمان وسمع عطاء بن أبى رباح وأبا اسحاق السبيعى ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصوّاف ومحمد بن المنكدر ونافع مولى عبد الله بن عمر وهشام بن عروة وسماك بن حرب وفيه قال أبو حنيفة دخلت على أبى جعفر أمير المؤمنين فقال لى يا أبا حنيفة عمن أخذت العلم قال قلت عن حماد عن ابراهيم عن عمر بن الخطاب وعن على بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس قال بخ بخ استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة الطيبين الطاهرين المباركين رضى الله عنهم أجمعين* وفيه أيضا قيل دخل أبو حنيفة يوما على المنصور وهو أبو جعفر وعنده عيسى بن موسى قال المنصور انّ هذا لعالم الدنيا اليوم فقال له يا نعمان عمن أخذت العلم قال عن أصحاب عمر عن عمرو عن أصحاب على عن على وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله وما كان فى وقت ابن عباس على وجه الارض أعلم منه قال لقد استوثقت* روى عن أبى حنيفة ابن المبارك ووكيع بن الجرّاح والقاضى أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى وغيرهم* وحكى عن الشافعىّ انه قال الناس كلهم عيال على ثلاثة على مقاتل بن سليمان فى التفسير وعلى زهير بن أبى سليمان فى الشعر وعلى أبى حنيفة فى الكلام* وفى رواية عن الشافعىّ انه قال الناس فى الفقه عيال أبى حنيفة* وروى حرملة بن ابى يحيى عن الشافعىّ انه قال الناس عيال هؤلاء الخمسة من أراد أن يتبحر فى الفقه فهو عيال أبى حنيفة ومن أراد أن يتبحر فى التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان ومن أراد أن يتبحر فى النحو فهو عيال على الكسائى ومن أراد أن يتبحر فى الشعر فهو عيال على زهير بن أبى سلمى ومن أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن اسحاق وكذا فى حياة الحيوان* وفى ربيع الابرار يقال انّ أربعة لم يسبقوا ولم يلحقوا أبو حنيفة فى الفقه والخليل فى نحوه والجاحظ فى تأليفه وأبو تمام فى شعره وفى تذنيب الرافعى عرض المنصور أخو السفاح عليه القضاء فامتنع عن الدخول فيه فألج عليه وضربه ثلاثين سوطا ثم اعتذر وأمر له بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها* وفى تاريخ اليافعى نقله أبو جعفر المنصور من الكوفة الى بغداد وأراد أن يوليه القضاء فأبى فخلف عليه ليفعلن فحلف أبو حنيفة لا يفعلنّ فقال الربيع بن يونس الحاجب لابى حنيفة ألا ترى أن أمير المؤمنين يحلف فقال أبو حنيفة

(2/326)


أمير المؤمنين أقدر منى على كفارة يمينه فأمر به الى السجن فلم يقبل القضاء فضربه مائة سوط وحبس الى ان مات فى السجن وقيل انّ المنصور سقاه سما فمات شهيدا رحمه الله* سمه لقيامه مع ابراهيم بن عبد الله ابن حسن كذا فى تاريخ اليافعى وكذا روى عن بشر بن الوليد* قال الخطيب أيضا فى بعض الروايات انّ المنصور لما بنى مدينته ونزل بها ونزل المهدى فى الجانب الشرقى وبنى مسجد الرصافة أرسل الى أبى حنيفة فجىء به فعرض عليه قضاء الرصافة فأبى فقال له ان لم تفعل ضربتك بالسياط فقال أو تفعل قال نعم فقعد فى القضاء يومين فلم يأته أحد فلما كان فى اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر فقال الصفار لى على هذا درهمان وأربعة دوانق ثمن ثور صفر قال أبو حنيفة اتق الله وانظر فيما يقول الصفار قال ليس علىّ شئ فقال أبو حنيفة للصفار ما تقول قال استحلفه لى فقال أبو حنيفة قل والذى لا اله الا هو فجعل يقول فلما رآه أبو حنيفة مقدما على اليمين قطع عليه وأخرج من صرّة فى كمه درهمين ثقيلين وقال للصفار هذا عوض مالك عليه فلما كان بعد اليومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات رحمه الله* وكان يزيد بن هبيرة الفزارى أمير العراقين أراده للقضاء بالكوفة فى أيام مروان بن محمد آخر ملوك بنى أمية فأبى عليه أبو حنيفة فضربه مائة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة أسواط وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلى سبيله* وفى ربيع الابرار أراد عمر بن هبيرة أبا حنيفة على القضاء فأبى فحلف ليضربنه بالسياط على رأسه وليسجننه وفعل حتى انتفخ وجه أبى حنيفة ورأسه من الضرب فقال الضرب فى الدنيا بالسياط أهون علىّ من مقامع الحديد فى الاخرة* وعن أبى عون ضرب أبو حنيفة مرّتين على القضاء ضربه ابن هبيرة وضربه أبو جعفر وأحضر بين يديه فدعا له بسويق وأكرهه على شربه فشربه ثم قال فقال الى اين فقال الى حيث بعثتنى فمضى به الى السجن فمات فيه وكان الامام أحمد بن حنبل اذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبى حنيفة وذلك بعد أن ضرب الامام أحمد على ترك القول بخلق القرآن* وفى الكشاف وكان أبو حنيفة يفتى سرّا بوجوب نصرة زيد بن على وحمل المال اليه والخروج على اللص المتغلب المتسمى بالامام والخليفة كالدوانيقى وأشباهه وقالت له امرأة أشرت الى ابنى بالخروج مع ابراهيم ومحمدا بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل فقال ليتنى مكان ابنك وكان يقول فى المنصور وأشياعه لو أرادوا بناء مسجد وأرادونى على عدّ آجرّه لما فعلت* وذكر الخطيب فى تاريخه أيضا انّ أبا حنيفة رأى فى المنام انه نبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث من سأل محمد ابن سيرين قال ابن سيرين صاحب هذه الرؤيا يثور علما لم يسبقه اليه أحد* وعن صالح بن محمد ابن يوسف بن رزين عن أبى حنيفة أنه قال رأيت فى المنام كأنى نبشت قبر النبىّ صلى الله عليه وسلم فأخرجت عظاما فاحتضنتها قال فهالتنى هذه الرؤيا فدخلت على ابن سيرين وقصصتها عليه فقال ان صدقت رؤياك لتحيين سنة محمد صلى الله عليه وسلم* وعن يوسف بن الصباغ قال قال لى رجل رأيت كأن أبا حنيفة نبش قبر النبىّ عليه السلام فسألت عن ذلك ابن سيرين ولم أخبره من الرجل الذى رأيته قال هذا رجل يحيى سنة محمد صلى الله عليه وسلم* قال الامام الشافعى قيل لما لك هل رأيت أبا حنيفة قال نعم رأيت رجلا لو كلمك فى هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته* وفى ربيع الابرار كان الثورى اذا سئل عن مسألة دقيقة قال لا يحسن أن يتكلم فيها الا رجل قد حسدناه يعنى أبا حنيفة* قال على بن عاصم لو وزن عقل أبى حنيفة بعقل أهل الارض لرجح به قال يزيد بن هارون ما رأيت أورع ولا أعقل من أبى حنيفة مكث عشرين سنة يصلى الصبح بوضوء العشاء* وقال جعفر بن عبد الرحمن كان أبو حنيفة يحيى الليل بقراءة القرآن فى ركعة ثلاثين سنة* وفى ربيع الابرار ختم القرآن فى ركعة واحدة أربعة من الائمة عثمان بن عفان وتميم الدارى وسعيد بن

(2/327)


جبير وأبو حنيفة* وروى عن أسد بن عمرو أنه قال صلى أبو حنيفة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة وكان يسمع بكاؤه فى الليل حتى ترحمه جيرانه* وفى حياة الحيوان كان أبو حنيفة اماما فى القياس وصلى صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة وكان عامّة ليله يقرأ القرآن فى ركعة واحدة وكان يبكى فى الليل حتى ترحمه جيرانه وختم القرآن فى الموضع الذى توفى فيه سبعة آلاف مرة ولم يفطر منذ ثلاثين سنة* وقال على بن يزيد الصدائى رأيت أبا حنيفة ختم القرآن فى شهر رمضان ستين ختمة بالليل لو ستين ختمة بالنهار* وروى عن أبى حنيفة أنه قال دخلت البصرة فظننت أن لا أسأل عن شئ الا أجبت عنه فسألونى عن أشياء لم يكن عندى فيها جواب فجعلت على نفسى أن لا أفارق حمادا فصحبته عشرين سنة قال وما صليت صلاة الا واستغفرت لحماد مع والدىّ ولكل من قرأت عليه وكان أبو حنيفة يقول ما جاءنا أو يقول أتانا عن الله ورسوله قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا أو أتانا عن الصحابة اخترنا أحسنه ولم نخرج عن أقاويلهم وما جاءنا أو أتانا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال وأما غير ذلك فلا نسمع التشنيع كذا فى ربيع الابرار غير قوله وأما غير ذلك فلا نسمع التشنيع وفى نوابغ الكلم وتد الله الارض بالاعلام المنيفة* كما وتد الحنيفية* بعلوم أبى حنيفة* الائمة الجلة الحنفية* أزمة الملة الحنيفية* الناس حنفى وأحنفى* والدين والعلم حنيفى وحنفى كذا فى ربيع الابرار وحتيف هو ابن السجف بن سعد التابعى وكان شجاعا باسلا والحنتف الجراد المنتف المنقى للطبخ والحسّوف؟؟؟ الذى ينتف لحيته من هيجان المرار به والا حنف بن قيس من كبار التابعين والسيوف الحنيفية تنسب اليه لانه أوّل من أمر باتخاذها والقياس أحنفى كذا فى القاموس وكان أبو حنيفة يقول قولنا هذا رأى وهو أحسن ما قدمنا عليه فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب* وفى الملل والنحل للشهرستانى وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى* ومن أصحابه محمد بن الحسن وأبو يوسف يعقوب وزفر بن هذيل والحسن بن زياد اللؤلؤى وأبو مطيع البلخى وبشر المريسى* ومن تورّعه عما دخله الشبهة ما رواه حفص بن عبد الرحمن وكان شريك أبى حنيفة فى التجارة وكان أبو حنيفة يتجر عليه ويبعث اليه بمتاع ويقول له فى ثوب كذا وكذا عيب فبين اذا بعته فباع حفص المتاع ولم يبين ونسى فلما علم أبو حنيفة تصدّق بثمن الثياب كلها* ومن ورعه انّ شاة سرقت فى عهده فلم يأكل لحم الشاة مدّة تعيش الشاة فيها وكان يتمثل بهذين البيتين دائما
عطاء ذى العرش خير من عطائكم ... وفضله واسع يرجى وينتظر
أنتم يكدّر ما تعطون منكم ... والله يعطى فلا منّ ولا كدر
وروى انّ امرأة دخلت فى مسجد أبى حنيفة وهو جالس بين أصحابه فأخرجت تفاحة أحد جانبيها أحمر والاخر أصفر فوضعتها بين يديه ولم تتكلم فأخذها أبو حنيفة وشقها نصفين فقامت المرأة وخرجت ولم يعرف أصحابه مرادها فسألوه عن ذلك فقال انها ترى تارة أحمر مثل احد جانبى التفاحة وتارة أصفر مثل الجانب الاخر سألت أيكون حيضا أو طهرا فشققت التفاحة وأريتها باطنها وأردت بذلك أن لا تطهرين حتى ترين البياض مثل باطنها فقامت وخرجت* وفى المبسوط أن اعرابيا دخل على أبى حنيفة وهو جالس بين أصحابه فقال له أفى الصلاة واو أو واوان فقال واوان فقال بارك الله فيك كما بارك فى لا ولا فلم يعلم أحد سؤال السائل ولا جواب أبى حنيفة فسألوه عن ذلك فقال سألنى فى التشهد واو أو واوان فقلت واوان فدعا لى بالبركة كما بارك فى الشجرة الزيتونة لا شرقية ولا غربية وقال أحمد بن كامل وعبد الباقى بن قانع توفى أبو حنيفة ببغداد سنة خمسين ومائة وكان ابن سبعين* وقال النووى فى تهذيب الاسماء واللغات توفى فى سنة احدى وقيل ثلاث وخمسين ومائة كذا فى حياة

(2/328)


الحيوان وهى السنة التى ولد فيها الامام الشافعى رحمه الله وقيل مات فى يوم ولادته لكن قال البيهقى لم يثبت اليوم* وفى ربيع الابرار نعى الى شعبة فقال بعد الاسترجاع قد طفئ من أهل الكوفة أضوأ نور أهل العلم أما انهم لا يرون مثله أبدا ويقال انّ مسعرا لما بلغه وفاة أبى حنيفة قال مات أفقه المسلمين وصلى عليه قاضى القضاة الحسن بن عمارة فى جمع عظيم* وعن عبد الحميد بن عبد الرحمن قال رأيت فى المنام كأنّ نجما سقط من السماء فقيل أبو حنيفة ثم سقط آخر فقيل مسعر ثم سقط آخر فقيل سفيان فمات أبو حنيفة قبل مسعر ثم مسعر قبل سفيان ثم سفيان* وعن خلف بن سالم عن صدقة المقابرى وكان صدقة مجاب الدعوة يقال لما دفن أبو حنيفة فى مقابر الخيزران سمعت صوتا من الليل ثلاث ليال يقول
ذهب الفقه فلا فقه لكم ... واتقوا الله وكونوا حنفا
مات نعمان فمن هذا الذى ... محى الليل اذا ما سجفا
وقال الذهبى قبره مشهد كبير وعليه قبة عالية ببغداد رحمه الله رحمة واسعة وفى سنة احدى وخمسين قدم المهدى ولد الخليفة من الرىّ فرأى بغداد فأعجبته وبنى بازائها الرصافة فى الجانب الشرقى وجعل له أبوه حاشية وحشما وخيلا فى زى الخلفاء وبايعه الناس بولاية العهد وأن يكون له الامر بعد أبيه وأن يكون العهد بعد المهدى لعيسى الذى كان ولى عهد المسلمين* وفيها مات شيخ البصرة وعالمها وزاهدها عبد الله بن عون* قال ابن مهدى ما كان بالعراق أعلم بالسنة منه* وقال هشام بن حسان تلميذ الحسن البصرى لم تر عيناى مثل ابن عون* وفيها مات محمد بن اسحاق بن يسار المدنى صاحب السير الذى يقول فيه شعبة كان ابن اسحاق أمير المؤمنين فى الحديث* وفى سنة أربع وخمسين ومائة توفى مقرى البصرة أبو عمرو بن العلاء المازنى أحد السبعة عن أربع وثمانين سنة والحكم بن أبان العدنى صاحب طاوس وكان اذا هدأت العيون وقف فى البحر الى ركبتيه يذكر الله تعالى الى الفجر ومسعر بن كدام الهلالى عالم الكوفة وحافظها قال شعبة كنا نسميه المصحف لاتقانه وفى سنة ست وخمسين ومائة مات شيخ البصرة وعالمها شعبة بن أبى عروبة العدوى صاحب التصانيف ومقرئ الكوفة حمزة بن حبيب الزيات وكان رأسا فى القرآن والفرائض والورع* وفى سنة سبع وخمسين ومائة مات الحسين بن واقد قاضى مرو وعالمها وأبو عمر والاوزاعى فقيه الشأم وكان رأسا فى العلم والعمل أجاب فى سبعين ألف مسئلة* قال أبو مسهر كان الاوزاعى يحيى الليل صلاة وقرآنا وبكاء* وفى سنة ثمان وخمسين ومائة صادر المنصور خالد بن برمك وأخذ منه ثلاثة آلاف ألف ثم رضى عنه واستنابه على الموصل ومات زفر بن الهذيل الفقيه صاحب أبى حنيفة مات كهلا وكان من الاذكياء أولى العبادة والعلم*

وفاة المنصور
وعن الهيثم بن عمران قال انّ المنصور مات بالبطن بمكة* وقال خليفة والهيثم وغيرهما عاش أربعا وستين سنة* قال الصولى دفن ما بين الحجون وبئر ميمون فى ذى الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة* وفى حياة الحيوان مات ببئر ميمون على اميال من مكة وهو محرم بالحج وكذا فى سيرة مغلطاى وهو ابن ثلاث وستين سنة وكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر* قال الذهبى وسار المنصور للحج فأدركه الموت وهو محرم بظاهر مكة وله ثلاث وستون سنة وتخلف بعده ابنه المهدى*

(ذكر خلافة المهدى أبى عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور محمد بن على بن عبد الله الهاشمى العباسى)
* الثالث من خلفاء بنى العباس وأمّه أمّ موسى بنت منصور الحميرى ومولده بأقدح فى سنة سبع وعشرين ومائة* وقال الخطى ولد سنة ست وعشرين ومائة فى جمادى الاخرة بويع بالخلافة بعد موت أبيه المنصور بعهد منه اليه وكان المهدى جوادا ممدحا

(2/329)


مليح الشكل محببا الى الرعية شجاعا خصاما للزنادقة يتتبعهم ويقتلهم فى كل بلد وبنى جامع الرصافة وكسا الكعبة القباطى والخز والديباج وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أسفلها الى أعلاها ولما شب ولاه أبوه على طبرستان وما يليها وعلى الرىّ وتأدّب المهدى وجالس العلماء وتميز وقيل انّ أباه المنصور غرم أموالا عظيمة وتحيل حتى استنزل ولى العهد أخاه عيسى بن موسى عن المنصب وولاه للمهدى هذا* قال الذهبى بايعه الناس بالعهد الذى عهد اليه أبوه المنصور فلما كان بعد أشهر الحّ على ولىّ عهده من بعده عيسى بن موسى بكل ممكن ليخلع نفسه عن العهد لموسى الهادى بن المهدى فأجاب خوفا على نفسه وأعطاه المهدى عشرة آلاف ألف واقطاعات جليلة وأبرم ذلك فى أوّل سنة ستين ومائة*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة المهدى
وفى سنة تسع وخمسين ومائة مات مالك بن معول البجلى أحد الائمة قال له رجل اتق الله فألصق خده بالارض فمات* وفى سنة ستين ومائة افتتح المسلمون مدينة كبيرة بالهند وكانت دولة المهدى مباركة محمودة ففرّق فى هذا العام أموالا لا تحصى وأمر بانشاء رواقات المسجد الحرام وحمل اليها الا عمدة الرخام فى البحر وفرق فى أهل الحرمين ما لم يسمع بمثله أبدا فقيل بلغ ثلاثين ألف ألف درهم وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألفا وحج بالناس وحمل معه الثلج الى مكة وهذا أيضا لم يسمع بمثله وفى جمادى الاخرة من العام مات محدّث الاسلام شعبة بن الحجاج العتكى الواسطى شيخ أهل البصرة وله ثمانون سنة* قال الشافعى لولا شعبة لما عرف الحديث بالعراق* وقال آخر رأيت شعبة يصلى حتى تورّم قدماه رحمه الله*

ظهور عطاء المقنع الساحر
وفى سنة احدى وستين ومائة كان ظهور عطاء المقنع الساحر الذى ادّعى النبوّة* قال الذهبى ادّعى الربوبية بناحية مرو واستغوى الخلق وأرى الناس قمرا آخر فى السماء يراه المسافرون من مسيرة شهرين وكان يرى الناس أعاجيب كثيرة من أنواع السحر وكان يقول بالتناسخ وانّ الحق تحوّل فى صورة آدم فسجدت له الملائكة ثم تحوّل الى صورة نوح ثم تحوّل الى صورة صاحب الدولة أبى مسلم الخراسانى ثم الى صورته تعالى الله عن ذلك فعبده خلق وقاتلوا دونه مع قبح صورته ولكنته وعوره ودمامته وكان قد اتخذ على وجهه وجها من ذهب يستتر به فقيل له المقنع فأرسل اليه المهدى جيشا عليهم شعبة الخرشى فالحّ عليه بالقتال وقتل خلق كثير وقتلوه وقيل انه لما أحس بالغلبة وعلم بأخذه قتل نفسه فافتتح المسلمون حصنه فقطعوا رأسه وبعثوا به فقدم الرأس على المهدى وهو بحلب* وفى شعبان سنة احدى وستين ومائة توفى سيد أهل زمانه فى العلم والعمل سفيان بن شعبة الثورى وله ست وستون سنة بالبصرة* قال ابن المبارك كتبت الحديث عن ألف ومائة ما فيهم أفضل من الثورى* وقال ابن معين وغيره الثورى أمير المؤمنين فى الحديث* وقال الثورى ما حفظت شيئا فنسيته وفى سنة احدى وستين ومائة جدّد المهدى عمارة الحجر وجداره ورخمها برخام حسن كذا فى شفاء الغرام نقلا عن الازرقى* وفى سنة اثنتين وستين أو احدى وستين ومائة مات سيد الزهاد ابراهيم بن أدهم البلخى بالشأم وكان أبوه أميرا ومات بعده أو قبله زاهد الكوفة داود بن نصير الطائى وكان اماما فى العلم والعمل* وفى سنة ثلاث وستين ومائة مات عالم خراسان ابراهيم بن طهمان وبكير بن معروف المفسر قاضى نيسابور* وفى سنة ثمان وستين ومائة مات أمير المدينة أبو محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب والد السيدة نفيسة وله خمس وثمانون سنة ومات الامير ولى عهد السفاح عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم وقد ذكرنا انّ المهدى خلعه وكان من كبار الابطال* وفى سنة تسع وستين ومائة لثمان بقين من المحرّم منها توفى أمير المؤمنين المهدى بالله أبو عبد الله محمد بن المنصور ساق خلف صيد فدخل خربة فدق ظهره باب الحربة فى قوّة سوق الفرس فتلف لوقته وقيل مات صريعا عن دابته فى الصيد كذا فى سيرة مغلطاى

(2/330)


وقيل بل سمته جاريته وقيل كان الطعام سمته لضرّتها فدخل المهدى فمدّيده فما جسرت أن تقول هو مسموم* وفى سيرة مغلطاى أرادت بعض حظاياه أن تنفرد به دون صاحبتها فجعلت لها سما فى حلوى فأكل هو منه من حيث لا يشعر فمات وكان قبل ذلك بعشر ليال رأى رحلا يهدم قصره فى المنام وعاش ثلاثا وأربعين سنة وملك احدى عشرة سنة وشهرا ونصف شهر* قال الذهبى خلافته عشر سنين وشهرا وتولى بعده ولده موسى*

(ذكر خلافة موسى الهادى بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور الهاشمى القرشى العباسى الرابع من خلفاء بنى العباس أبى محمد أمير المؤمنين)
* مولده بالرى سنة سبع وأربعين ومائة وأمّه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الرشيد أيضا* صفته* كان طويلا جسيما أبيض لشفته العليا تقلص وكان أبوه قد وكل به خادما فى الصبا كلما رآه مفتوح الفم يقول له يا موسى أطبق فيفيق على نفسه ويضم شفتيه بويع بالخلافة بعد موت أبيه وكان بجرجان فأخذ له البيعة أخوه هارون الرشيد* قال الذهبى كانت الخلافة معقودة له وكان ولى عهد أبيه فلما مات المهدى تسلمها موسى الهادى وكان فصيحا أديبا قادرا على الكلام تعلوه هيبة وله سطوة وشهامة على انه كان يتناول المسكر ويحب اللهو والطرب وكان ذا ظلم وجبروت وكان يركب حمارا فارها ولا يقيم أبهة الخلافة ولم تطل مدّته فى الخلافة ومات لقرحة أصابته فى جوفه وقيل سمته أمّه الخيزران لما أجمع على قتل أخيه الرشيد وقيل انها سمته بسبب آخر وهو انها كانت حاكمة مستبدة بالامور الكبار وكانت المواكب تغدو الى بابها فزجرهم الهادى عن ذلك وكلمها بكلام فج وقال ان وقف ببابك أمير لاضربن عنقه أمالك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو سبحة فقامت من عنده وهى لا تعقل شيئا من الغضب فقيل انه بعث اليها بطعام مسموم فأطعمت منه كلبا فانتثر لحمه فعمدت الى قتله لما وعك بان غمرت وجهه ببساط جلسوا عليه وعلى جوانبه وكان قصده هلاك الرشيد ليؤول العهد لولد له صغير عمره عشر سنين وقيل انه مات بعيسى باد فى نصف شهر ربيع الاخر سنة سبعين ومائة* وفى سيرة مغلطاى توفى ليلة الجمعة سادس عشر ربيع الاوّل سنة سبعين ومائة وفى هذه الليلة ولد المأمون وكانت خلافته سنة واحدة وثلاثة أشهر وعاش ستا وعشرين سنة وخلف سبع بنين وتولى الخلافة بعده أخوه هرون الرشيد*

(ذكر خلافة هرون الرشيد بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور الهاشمى العباسى الخامس من خلفاء بنى العباس)
* أمير المؤمنين أبى جعفر أمّه الخيزران أمّ أخيه الهادى ومولده بالرّى لما كان أبوه أميرا عليها وعلى خراسان فى سنة ثمان وأربعين ومائة استخلف بعهد من أبيه بعد موت أخيه الهادى فى سنة سبعين ومائة وكان أبوهما عقد لهما بولاية العهد معا* صفته* كان الرشيد أبيض جميلا مليح الشكل طويلا عبل الجسم قد وخطه الشيب قبل موته وكان فصيحا له نظر ومعرفة جيدة بالعلوم بلغنا انه منذ استخلف كان يصلى كل يوم وليلة مائة ركعة لم يتركها الا لعلة قاله نفطويه فى تاريخه ويتصدّق من خالص ماله بألف درهم وكان يقتفى آثار جدّه المنصور الا فى الحرص وكان يجب العلم وأهله ويعظم الاسلام ويبكى على نفسه واسرافه وذنوبه سيما اذا وعظ وكان يأتى بنفسه الى الفضيل بن عياض ويسمع وعظه وكان أبوه أغزاه أرض الروم وهو ابن خمس عشرة سنة وهو أجل الخلفاء وأعظم ملوك بنى العباس وكان كثير الحج قيل انه كان يحج سنة ويغزو سنة وفيه يقول بعض شعرائه
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
وفى سيرة مغلطاى وقد كان حج تسع حجج وغزا ثمان غزوات* قال الجاحظ اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه أبو يوسف وشاعره مروان بن أبى حفصة ونديمه العباس بن محمد بن

(2/331)


عمة أبيه وحاجبه الفضل بن الربيع ومغنيه ابراهيم الموصلى وزوجته زبيدة* وقال غيره فتحت فى أيام الرشيد فتوحات كثيرة وهو الذى فتح عمورية وهى مدينة الكفار أعظم من القسطنطينية وأحرقها وسبى أهلها*

ترجمة الامام مالك وذكر من مات من المشاهير فى خلافة هارون الرشيد
وفى سنة ست وسبعين ومائة توفى حماد بن الامام الاعظم أبى حنيفة كان على مذهب أبيه وكان من أهل الصلاح وكان ابنه اسمعيل قاضى البصرة فعزل عنها كذا فى تاريخ اليافعى* وفى سنة تسع وسبعين ومائة فى ربيع الاوّل مات امام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر الاصبحى نسبة الى بطن من حمير يقال له ذو أصبح* وأنس بن مالك هذا غير أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الانصارى الخزرجى وأنس أبو الامام مالك تابعى* وفى التذنيب ولد سنة ثلاث أو احدى أو أربع أو خمس أو سبع وتسعين وتوفى سنة تسع وسبعين ومائة وله ست وثمانون سنة سمع نافعا والزهرى وغير واحد من التابعين وصنف الموطأ* وعن الشافعىّ أنه قال ما بعد كتاب الله كتاب هو أكثر صوابا من موطأ مالك* قال العلماء قول الشافعىّ هذا كان قبل تصنيف البخارى ومسلم كتابيهما والا كتاباهما أصح الكتب المصنفة وأكثرها صوابا* وقال الشافعىّ اذا وجدت لمالك حديثا فشدّيدك به فانه حجة وحمل حديث أبى هريرة انّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال يضرب الناس أكباد الابل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة على مالك* وقال الشافعىّ اذا ذكر العلماء فمالك النجم وكان مالك طوالا جسيما عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية قيل تبلغ لحيته صدره وقيل كان أشقر أزرق العينين يلبس الثياب العدنية الرفيعة* وقال أشهب اذا اعتم جعل منها تحت ذقنه ويسدل طرفها بين كتفيه وقيل كان يكره حلق الشارب ويعيبه ويراه من المثلة ولا يغير شيبه كذا فى تاريخ اليافعى* وفى رمضان هذه السنة مات عالم البصرة الحافظ أبو اسمعيل حماد بن زيد الازدى عن ثمانين سنة* وفى سنة ثمانين ومائة كانت الزلزلة العظمى التى سقط منها رأس منارة الاسكندرية وفيها مات فقيه مكة مسلم بن خالد الزنجى شيخ الشافعىّ عن ثمانين سنة وامام النحو سيبويه واسمه عمرو بن عثمان البصرى وله دون أربعين سنة* وفى سنة احدى وثمانين ومائة مات عالم خراسان عبد الله بن المبارك المروزى الحافظ الزاهد الغازى المجاهد أحد الاعلام وله ثلاث وستون سنة قال ابن مهدى كان أعلم من الثورى* وفى الصفوة عبد الله بن المبارك أبا عبد الرحمن كان أبوه عبدا تركيا لرجل من التجار من بنى حنظلة وكانت أمّه تركية خوارزمية ولد سنة ثمان عشرة ومائة وقيل تسع عشرة* وفى سنة اثنتين وثمانين ومائة وثب بطارقة الروم على طاغيتهم الاكبر قسطنطين فأكحلوه وملكوا عليهم أمّه قيل اسمها هيلانه* وفى ربيع الاخر من هذه السنة توفى أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم الكوفى قاضى القضاة وهو أوّل من دعى بذلك تفقه على الامام أبى حنيفة وكان ورده فى اليوم مائتى ركعة* وفى سنة ثلاث وثمانين ومائة مات شيخ بغداد وعالمها هشيم بن بشير الحافظ وكان عنده عشرون ألف حديث ومكث يصلى الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة وفيها مات موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوى من سادة أهل البيت* وفى سنة خمس وثمانين ومائة مات الامير عبد الصمد بن على العباسى عم المنصور وقد عمل نيابة دمشق وعاش ثمانين سنة وفيها قتل الرشيد وزيره جعفر بن يحيى البرمكى* وفى سيرة مغلطاى قتل البرامكة سنة سبع وثمانين ومائة ونهب ديارهم* وفى سنة سبع وثمانين ومائة خلعت الروم قسطنطين من الملك وملكوا يقفور الذى كان ناظر ديوانهم فقيل انه من آل جفنة الغسانى وفيها مات شيخ الحجاز زاهد العصر أبو على الفضيل بن عياض التميمى المروزى بمكة وقد قارب الثمانين* وفى سنة تسع وثمانين ومائة سار الرشيد حتى نزل الرّى وكان فى صحبته امامان عظيمان أبو الحسن على بن حمزة الكسائى النحوى أحد

(2/332)


القراء السبعة وقاضى القضاة محمد بن الحسن الشيبانى صاحب أبى حنيفة فماتا بالرّى* وفى تاريخ اليافعى فى سنة تسع وثمانين ومائة توفى قاضى القضاة فقيه العصر محمد بن الحسن الكوفى منشأ الشيبانى مولى قدم أبوه من الشام الى العراق فأقام بواسط فولد محمد ونشأ بالكوفة* قال الشافعىّ لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته وقال أيضا ما رأيت رجلا يسأل عن مسئلة فيها تطيرا لا تبينت فى وجهه الكراهة الا محمد بن الحسن وقال أيضا ما رأيت سمينا أفقه من محمد بن الحسن وقال غيره لقى جماعة من أعلام الائمة وحضر مجلس أبى حنيفة سنين ثم تفقه على أبى يوسف صاحب أبى حنيفة وصنف الكتب الكثيرة النادرة منها الجامع الكبير والجامع الصغير* وفى سنة احدى وتسعين ومائة مات فى السجن يحيى بن خالد البرمكى وابنه الفضل* وفى سنة ثلاث وتسعين ومائة سار هارون الرشيد الى خراسان ليكشف أحوالها فقدم طوس وهو عليل ومات بها وله خمس وأربعون سنة كذا قاله الذهبى* وقال الجمالى يوسف بن المقرى لما كانت سنة ثلاث وتسعين ومائة خرج الرشيد الى الغزو فأدركته المنية بطوس من أعمال خراسان ليلة السبت ثالث جمادى الاخرة وقيل للنصف من جمادى الاولى وصلى عليه ابنه صالح ودفن بطوس وأخطأ عليه طبيبه المسمى جبريل فى دبلة كانت به وله خمس وأربعون سنة وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وخمسة عشر أو ستة عشر يوما*

(ذكر خلافة الامين محمد بن الرشيد هارون بن المهدى بن محمد بن المنصور الهاشمى القرشى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أبى عبد الله وقيل أبى موسى وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتى وأمّه زبيدة بنت جعفر المنصور الهاشمية العباسية وهو ثالث خليفة تخلف أبواه هاشميان فالاوّل على بن أبى طالب والثانى ابنه الحسن والثالث محمد هذا* صفته* كان الامين من أحسن الشباب صورة وكان أبيض طوالا جميلا بديع الحسن ذا قوّة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة وفصاحة وأدب وفضيلة وبلاغة وكان ولى عهد أبيه الرشيد فولى الخلافة بعد موت أبيه* وفى دول الاسلام تسلم الخلافة لانه كان ولى عهد أبيه الرشيد وجاء من طوس خاتم الخلافة والبردة والقضيب واستناب أخاه المأمون على ممالك خراسان وفى أيامه فتحت أهواز كذا فى سيرة مغلطاى*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة الامين
وفيها مات عالم البصرة اسمعيل بن على وحافظ البصرة محمد بن جعفر غندر ومقرئ الكوفة أبو بكر عياش الاسدى وله سبع وتسعون سنة* وفى سنة أربع وتسعين ومائة وقعت أوّل الفتنة بين الاخوين الامين والمأمون عزم الامين على خلع المأمون من ولاية العهد ليقدّم ولده وهو صبى عمره خمس سنين فأخذ يبذل الاموال للامراء ليتم له ذلك فنصحه العقلاء فلم يصغ اليهم حتى آل الامر الى ان بعث أخوه الجيوش لحربه ومحاصرته ثم قتل وفيها مات زاهد خراسان شقيق البلخى استشهد فى غزوة الهند* وفى سنة خمس وتسعين ومائة تيقن المأمون ان أخاه الامين خلعه فغضب وخلع هو الامين وبايعه جيش خراسان بالخلافة وتسمى بأمير المؤمنين فجهز الامين لحربه ابن ماهان وجهز المأمون طاهر بن الحسن وكبس طاهر عساكر الامين وقتل ابن ماهان وانهزم جيوشه وشرع ملك الامين فى سفال ودولته فى اضمحلال ثم ندم على خلع أخيه وطمع فيه أمراؤه ولقد أنفق فيهم أموالا لا تحصى ولم يفد ثم جهز جيشا فالتقاهم طاهر بهمدان فهزمهم مرّتين وقتل قائد جيش الامين* وفى سنة ست وتسعين ومائة مات شاعر زمانه أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمى* وفى سنة سبع وتسعين ومائة حوصر الامين ببغداد نازله طاهر وهرثمة بن أعين وزهير فى جيوشهم وقاتلت الرعية مع الامين فبالغوا وكان محبا اليهم فدام الحصار سنة فجرت عجائب وأهوال وفيها توفى مقرى الوقت ورش واسمه عثمان بن سعيد وحافظ العراق وكيع بن الجرّاح الروّاسى أحد الاعلام وله سبع وستون سنة* قال أحمد ما رأيت

(2/333)


أوعى للعلم ولا أحفظ له من وكيع* وقال يحيى بن اكتم صحبت وكيعا فكان يصوم الدهر ويختم كل ليلة وفى يوم السبت الخامس والعشرين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ظفر طاهر بن الحسين بالامين فقتله بظاهر بغداد صبرا وشال رأسه على رمح وطيف به وكانت خلافته أربع سنين وأياما* وفى سيرة مغلطاى أربع سنين وستة أشهر وعشرة أيام وفى دول الاسلام عاش سبعا وعشرين سنة وكانت دولته ثلاثة أعوام وأياما وخلع فى رجب سنة ست وتسعين ومائة ومن حسب له الى موته فخلافته خمس سنين الاشهر او كان مبذرا للاموال لعابا لا يصلح لامرة المؤمنين سامحه الله وتولى الخلافة بعده أخوه المأمون*

(ذكر خلافة المأمون عبد الله بن الرشيد هارون بن المهدى محمد أبى جعفر المنصور)
* أمير المؤمنين أبى العباس الهاشمى العباسى أمه أم ولد تسمى مراجل ماتت أيام نفاسها به ولد سنة سبعين ومائة عند ما استخلف أبوه* صفته* قال ابن أبى الدنيا كان أبيض ربعة حسن الوجه يعلوه صفرة وقد وخطه الشيب أعين طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين على خدّه خال* وقال الجاحظ كان أبيض فيه صفرة وكان ساقاه دون جسده صفراوين كأنما طليتا بزعفران وكان بويع بالخلافة بمرو وكان أمره نافذا فى افريقية الى أقصى خراسان وما وراء النهر والسند كذا فى سيرة مغلطاى وكان سمع الحديث فى صغره وبرع فى الفقه والعربية من النحو واللغة وأيام الناس والادب ولما كبر عنى بالفلسفة وعلوم الاوائل حتى مهر فيهما فجرّه ذلك الى القول بخلق القرآن وامتحان العلماء ولولا ذلك لكان أعظم بنى العباس لما اشتمل عليه من الحزم والعزم والعقل والعلم والحلم والشجاعة والسودد والسماحة* قال أبو معشر كان أمّارا بالعدل محمود السيرة يعدّ من كبار العلماء* وفى حياة الحيوان وفى أيامه ظهر القول بخلق القرآن وقيل انّ القول بخلق القرآن ظهر فى أيام الرشيد وكان الناس فيه بين أخذ وترك الى زمن المأمون فحمل الناس على القول بخلق القرآن وكل من لم يقل بخلقه عاقبه أشدّ عقوبة* وكان الامام أحمد بن حنبل امام أهل السنة من الممتنعين من القول بخلق القرآن فحمل الى المأمون مقيدا فمات المأمون قبل وصوله وكان اعتبار المأمون فى المناظرة والمقالات بأبى الهذيل البصرى المعتزلى الذى يقال له العلاف وعن الرشيد قال انى لأعرف فى عبد الله حزم المنصور ونسك المهدى وعزة الهادى ولو أشاء أن أنسبه الى الرابع يعنى نفسه لنسبته وقد قدّمت محمدا عليه وانى لأعلم انه منقاد الى هواه مبذر لما حوته يداه يشارك فى رأيه الاماء والنساء ولولا أم جعفر يعنى زبيدة وميل بنى هاشم اليه لقدّمت عبد الله عليه يعنى فى ولاية العهد بالخلافة اجتمعت الامة على عبد الله الا ما عرف من حال صاحب الاندلس فانه والامراء قبله وبعده غير متقيدين بطاعة العباسيين لبعد الديار*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة المأمون
وفيها فى رجب توفى شيخ الحجاز أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالى أحد الاعلام وله احدى وتسعون سنة* قال أحمد بن حنبل ما رأيت أحدا أعلم بالسنن من سفيان وفيها فى جمادى الاخرة مات حافظ البصرة أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدى اللؤلؤى وله ثلاث وستون سنة قال ابن المدينى أحلف أنى ما رأيت أعلم منه* وقال أحمد هو أفقه من القطان وأثبت من وكيع وفى صفر مات حافظ العراق يحيى بن سعيد القطان أحد الاعلام الذى يقول فيه أحمد ما رأيت بعينى مثل يحيى بن القطان عاش ثمانية وسبعين سنة وقال بندار ما أظنّ انه عصى الله قط* وفى سنة تسع وتسعين ومائة مات شيخ الحنفية أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخى صاحب أبى حنيفة وله أربع وثمانون سنة* وفى سنة مائتين مات محدث المدينة أبو ضمرة أنس بن عياض الليثى وزاهد الوقت معروف الكرخى ببغداد* وفى سنة احدى ومائتين جعل المأمون ولى عهده من بعده على بن موسى الرضا العلوى وأمر الدولة برمى السواد ولبس الخضرة وهو بعد بخراسان فأرسل الى العراق بلبس الخضرة* وفى سيرة مغلطاى

(2/334)


بايع المأمون موسى بن الكاظم بالعهد بعده ولبس الخضرة فخرج عليه عمه ابراهيم بن مهدى المعروف بابن شكلة انتهى فشق هذا على أقاربه وقامت قيامتهم بادخاله فى الخلافة الرضا فخلعوا المأمون وبايعوا عمه وهو المنصور بن المهدى فضعف عن الامر وقال بل أنا خليفة المأمون فأهملوه وأقاموا أخاه ابراهيم بن المهدى وكان أسود فبايعوه وجرت لذلك حروب يطول شرحها وفيها مات حافظ الكوفة أبو أسامة حماد بن أسامة وله احدى وثمانون سنة* وفى سنة ثلاث ومائتين مات على بن موسى الرضا ولى عهد المأمون وهو من الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم ووجوب طاعتهم وفيها مات حسين بن على الجعفى الكوفى أحد الائمة الاعلام*

ترجمة الامام الشافعى محمد بن ادريس
وفى سنة أربع ومائتين فى رجب مات فقيه الوقت الامام أبو عبد الله محمد بن ادريس الشافعى المطلبى أحد الائمة الاربعة الاعلام ويقال له الشافعى نسبة الى شافع بن السائب بن عبيد أحد أجداده اذ هو محمد بن ادريس بن عباس بن عثمان بن شافع ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف يجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عبد مناف وهو ثالث أجداد النبىّ عليه السلام وتاسع أجداد الشافعى وكونه مطلبيا من جهة أبيه وهو أيضا هاشمى من جهة أمهات أجداده وأزدىّ من جهة أمه* نقل عن الحاكم أبى عبد الله وأبى بكر البيهقى والخطيب صاحب تاريخ بغداد انهم ذكروا أنّ الشافعى ولده هاشم بن عبد مناف جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وذلك لانّ أم السائب هى الشفا بنت الارقم بن هاشم بن عبد مناف وأم الشفاهى خليدة بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة وكسر اللام وسكون المثناة التحتية بينها وبين الدال ابنة أسد بن هاشم بن عبد مناف وأم عبد يزيد هى الشفا بنت هاشم بن عبد مناف فولدت له عبد يزيد فالشافعى ابن عم رسول الله وابن عمته وكان حاذقا فى الرمى يصيب تسعة من عشرة مولده سنة خمسين ومائة وقد قيل انه ولد فى اليوم الذى توفى فيه الامام أبو حنيفة وقال الذهبى لم يثبت اليوم* قال اليافعى بين الحنفية والشافعية مقاولة على سبيل المزاح* الحنفية يقولون كان امامكم مخفيا حتى ذهب امامنا والشافعية يقولون لما ظهر امامنا هرب امامكم وكان مولده فى بلاد غزة وقيل بعسقلان وقيل باليمن والاوّل أصح وحمل الى مكة وهو ابن سنتين ونشأ بالحجاز وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وحفظ موطأ مالك وهو ابن عشر سنين* وعن مسلم بن خالد الزنجى أنه قال للشافعى أفت فقد آن لك أن تفتى وهو يومئذ ابن خمس عشرة سنة وقدم بغداد وأقام بها مدّة وصنف بها كتبه القديمة ووقع بينه وبين محمد بن الحسن مناظرات كثيرة ثم رجع الى مكة ثم عاد الى بغداد فأقام بها شهرا ثم خرج الى مصر وصنف بها كتبه الجديدة ولم يزل بها الى أن توفى يوم الجمعة فى آخر يوم من رجب ودفن بعد العصر فى يومه بالقرافة الصغرى وقبره بها يزار وعليه ضربت قبة عظيمة كذا فى تاريخ اليافعى* وفى التذنيب وجملة عمره أربع وخمسون سنة ومناقبه كثيرة فلتطلب من الكتب وفيها مات قاضى الكوفة وصاحب أبى حنيفة أبو على الحسن بن زياد اللؤلؤى الفقيه وفيها مات حافظ الوقت أبو داود سليمان بن داود الطيالسى بالبصرة* وفى سنة خمس ومائتين مات محمد بن عبيد الطنافسى الكوفى الحافظ ومقرئ الوقت يعقوب بن اسحاق الحضرمى البصرى* وفى سنة ست ومائتين مات شيخ واسط يزيد بن هارون الحافظ أحد الائمة الاعلام ولما حدّث ببغداد كان يحضر مجلسه خلائق وربما بلغوا سبعين ألفا وعاش تسعين سنة* وفى سنة سبع ومائتين مات طاهر بن الحسين الخزاعى مقدّم جيوش المأمون وكان آخر شئ قد قطع دعوة المأمون وعزم على الخروج بخراسان فمات بغتة وفيها مات قاضى بغداد محمد بن عمر الواقدى المدنى صاحب المغازى وشيخ العربية يحيى بن زياد الفراء صاحب الكسائى* وفى سنة ثمان ومائتين مات عالم البصرة سعيد بن عامر الضبعى ومحدّث بغداد عبد الله بن

(2/335)


بكر السهمى والفضل بن الربيع بن يونس صاحب الرشيد وهو الذى قام بخلافة الامين ثم اختفى مدّة* وفى سنة عشر ومائتين مات أبو عمر والشيبانى اسحاق بن بزار الكوفى اللغوى صاحب التصانيف والعلامة أبو عبيدة معمر المثنى التيمى البصرى صاحب المصنفات الادبية* وفى سنة احدى عشرة ومائتين أظهر المأمون التشيع وأمر أن يقال خير الخلق بعد النبىّ صلى الله عليه وسلم علىّ رضى الله عنه وأمر بالنداء ان برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير* وفى سنة ست عشرة ومائتين توفى الاصمعى واسمه عبد الملك بن قريب الباهلى البصرى العلامة اللغوى وله ثمان وثمانون سنة وعاش المأمون ثمانيا وأربعين سنة وكانت وفاته فى ثانى عشر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وكانت خلافته احدى وعشرين سنة الا ستة أشهر* وفى سيرة مغلطاى اثنتين وعشرين سنة* وفى دول الاسلام نيفا وأربعين سنة وتوفى بالبد نرون من طرسوس ليلة الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين كذا فى سيرة مغلطاى وتخلف بعده أخوه المعتصم بن الرشيد هارون*

(ذكر خلافة المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور)
* أمير المؤمنين أبى اسحاق الهاشمى العباسى وأمه أم ولد اسمها ماردة* صفته* كان أبيض اللون أصهب اللحية طويلها ربع القامة مشرب اللون ذا شجاعة وقوّة وهمة عالية الا انه كان عاريا عن العلم أميا* روى الصولى عن محمد بن سعد عن ابراهيم بن محمد الهاشمى قال كان مع المعتصم غلام فى الكتاب يتعلم معه فمات الغلام فقال الرشيد يا محمد مات غلامك قال نعم يا سيدى استراح قال وانّ الكتاب ليبلغ مثل هذا دعوه لا تعلموه قال فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة* ومع هذا حكى أبو الفضل الرياشى قال كتب ملك الروم الى المعتصم يهدّده فأمر بجوابه فكتبوه ولما قرئ عليه الجواب لم يرضه المعتصم وقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وسمعت خطابك والجواب مترى لا ما تسمع وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار بويع بالخلافة بعد أخيه المأمون بعهد منه اليه لما احتضر فى رابع شهر من شهر رجب سنة ثمانى عشرة ومائتين وكان أبوه قد أخرجه من الخلافة وعهد الى الامين والمأمون والمؤتمن فساق الله اليه الخلافة وجعل الخلفاء الى اليوم من ولده ولم يكن من نسل أولئك خليفة كذا فى سيرة مغلطاى وكان المعتصم يلقب بالثمانى فانه ثامن خلفاء بنى العباس وملك ثمان سنين وثمانية أشهر وزاد بعضهم وثمانية أيام وافتتح ثمان حصون وقيل انه ولد فى شعبان وهو الثامن من شهور السنة وكان نقش خاتمه الحمد لله وهى ثمانى حروف وبويع بالخلافة سنة ثمانى عشرة ومولده سنة ثمانين ومائة وقهر ثمانية أعداء ووقف ببابه ثمان ملوك وخلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار ومن الدراهم مثلها وخلف من الجمال والبغال ثمانية آلاف ومن الجوارى مثلها وبنى ثمانى حصون* وفى سيرة مغلطاى كان مكملا من اثنتى عشرة جهة وفى أيامه أمطرت أهل تيماء بردا كل بردة وزن رطل وقتلت خلقا كثيرا وسمع قائلا يقول ارحم عبادك ارحم عبادك ورأوا أثر قدم طوله ذراع ونصف فى عرض شبرين غير الاصابع وبين كل خطوة وخطوة ستة أذرع فتبعوه فجعلوا يسمعونه ولا يرون شخصه* وفى سنة عشرين ومائة أمر المعتصم بانشاء مدينة سميت سرّ من رأى وهى سامرا وفيها مات قارئ المدينة ونحويها قالون واسمه عيسى بن منيا والشريف محمد الجواد ولد على بن موسى الرضا وله خمس وعشرون سنة وكان زوج بنت المأمون وكان يصله منه فى السنة خمسون ألف دينار* وفى سنة احدى وعشرين ومائتين مات محدّث مرو عبدان واسمه عبد الله بن عثمان المروزى والامام الربانى عبد الله بن مسلم العقبى بمكة فى المحرم وكان مجاب الدعوة ثقة من الابدال* وفى سنة أربع وعشرين ومائتين توفى الامير ابراهيم ابن المهدى العباسى وكان لسواده وسمنه يقال له التنين وكان فصيحا شاعرا بديع الغناء ولى نيابة دمشق

(2/336)


لاخيه هرون الرشيد وبويع بالخلافة ببغداد ثم اضمحل دسته واختفى سبع سنين* وفى سنة سبع وعشرين ومائتين مات زاهد الوقت بشر بن الحارث الحافى ببغداد وله خمس وسبعون سنة وكانت وفاة المعتصم بسرّ من رأى فى يوم الخميس تاسع عشر ربيع الاوّل كما تقدّم ذكره ومات وعمره سبع وأربعون سنة وسبعة أشهر وتخلف بعده ابنه هارون*

(ذكر خلافة الواثق بالله هارون بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أبو جعفر وأمّه أمّ ولد رومية تسمى قراطيس ومولده لعشر بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة بويع بالخلافة لما مات أبوه بعهد منه* قال الخطيب كان أحمد بن داود قد استولى على الواثق وحمله على تشديد المحنة ودعا الناس الى القول بخلق القرآن* قال الذهبى قيل انّ الواثق رجع عن ذلك قبل موته وترك المحنة بخلق القرآن لما أحضروا اليه رجلا مقيدا فقال أخبرونى عن هذا الرأى الذى دعوتم الامّة اليه أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع الناس اليه أم هو شئ ما علمه فقال أحمد بن أبى داود بل علمه قال فكيف وسعه صلى الله عليه وسلم ان يترك الناس ولم يدعهم اليه وأنتم لا يسعكم قال فبهتوا فاستضحك الواثق وقام قابضا على فمه ودخل بيتا وتمدّد وهو يقول وسع نبى الله أن يسكت ولا يسعنا فأمر بفك أقياد الشيخ وأن يعطى ثلثمائة دينار وأن يردّ الى بلده وهذا الذى قاله هذا الشيخ الزام وبحث لازم للمعتزلة وكان الواثق وافر الادب فصيحا قيل انّ جارية من جواريه غنته بشعر العرجى
أظلوم انّ مصابكم رجلا ... ردّ السلام تحية ظلم
فمن الحاضرين من صوّب نصب رجلا ومنهم من قال صوابه الرفع فقالت هكذا لقننى المازنى فطلب المازنى فلما حضر قال ممن الرجل قال من بنى مازن قال أى الموازن أمازن بنى تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة قال مازن ربيعة قال المازنى فكلمنى حينئذ بلغة قومى فقال با اسمك لانهم يقلبون الميم باء والباء ميما فكرهت ان أواجهه بمكر فقلت بكر يا أمير المؤمنين ففطن لها وأعجبته وقال ما تقول فى هذا البيت قلت الوجه النصب لانّ مصابكم مصدر بمعنى اصابتكم فأخذ البريدى يعارضنى فقلت هو بمنزلة ان ضربك زيدا ظلم فالرجل مفعول مصابكم والدليل عليه انّ الكلام معلق الى أن يقول ظلم فيتم فأعجب الواثق فأعطانى ألف دينار* وفى سنة تسع وعشرين ومائتين مات شيخ القراء خلف بن هشام البزاز ببغداد والعلامة نعيم بن حماد الخزاعى الحافظ صاحب التصانيف*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة الواثق بالله
وفى سنة احدى وثلاثين ومائتين مات فقيه وقته الامام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطى صاحب الشافعى مسجونا لكونه أبى أن يقول القرآن مخلوق وهو أعلم أصحاب الشافعى وأعبدهم* وفيها مات شاعر العصر تمام الطائى حبيب بن أوس بالموصل كهلا* وفيها مات الخليفة الواثق بالله وكان قد أسرف فى التمتع بالنساء بحيث انه أكل لذلك لحم الاسد فولد له أمراضا تلف منها قيل لما احتضر جعل يردّد هذين البيتين
الموت فيه جميع الخلق تشترك ... لا سوقة منهم تبقى ولا ملك
ما ضرّ أهل قليل فى تفاقرهم ... وليس يغنى عن الاملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خدّه بالتراب وذل وأناب وافتقر الى الرحيم التوّاب وجعل يقول يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه وكانت وفاته بمدينة سرّ من رأى فى يوم الاربعاء لست بقين من ذى الحجة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين عن بضع وثلاثين سنة متحرّقا فى تنور بدعائه على نفسه حين امتحن أحمد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين كذا فى سيرة مغلطاى وكانت دولته خمس سنين وتسعة أشهر وستة أيام وتخلف بعده أخوه جعفر المتوكل*

(ذكر خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أبى الفضل أمه أم ولد تركية تسمى

(2/337)


شجاع ومولده فى سنة خمس ومائتين وقيل سبع* صفته* كان المتوكل أسمر اللون مليح العينين نحيف الجسم خفيف العارضين الى القصر أقرب وكان له جمة الى شحمة أذنيه كعمه وأبيه بويع بالخلافة بعد موت أخيه الواثق فى ذى الحجة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ولما استخلف أظهر السنة وتكلم بها فى مجلسه وكتب الى الافاق برفع المحنة واظهار السنة ونصر أهلها وأمر بنشر الاثار النبوية* قال على بن الجهم وكان المتوكل فيه الخصال الحسنة الا أنه كان ناصبيا يكره عليا وكان ابراهيم بن محمد التيمى قاضى البصرة يقول الخلفاء ثلاثة أبو بكر الصدّيق يوم الردّة وعمر بن عبد العزيز فى ردّ مظالم بنى أمية والمتوكل فى محو البدع يعنى القول بخلق القرآن ويقال انّ المتوكل سلم عليه بالخلافة ثمانية كل واحد منهم أبوه خليفة منصور بن المهدى عم أبيه والعباس بن الهادى عم أبيه وأبو أحمد بن الرشيد عمه وعبد الله بن الامين بن عمه وموسى بن المأمون ابن عمه أيضا وأحمد بن المعتصم أخوه ومحمد بن الواثق بن أخيه وابنه المنتصر محمد بن المتوكل وهذا شئ لم يقع لخليفة قبله* قال الزبير كنت حاضرا بيعته فبايع لاولاده بالعهد محمد المنتصر والمعتز والمؤيد ولم يدخل فى العهد أحمد المعتمد ولا أبا أحمد الموفق فصار الامر الى ولد الموفق الى اليوم كذا فى سيرة مغلطاى* وفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين كانت الزلزلة العظيمة بدمشق فدامت ثلاث ساعات وسقطت الجدران وهرب الخلق الى المصلى يجأرون الى الله ومات خلق تحت الهدم وامتدّت الزلزلة الى أنطاكية فقيل هلك بها عشرون ألفا تحت الردم وزلزلت الموصل فيقال هلك بها خمسون ألف آدمى*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة المتوكل على الله
وفى سنة أربع وثلاثين ومائتين مات الحافظ العالم البحر الزخار على بن عبد الله بن المدينى السعدى أبو الحسن الذى يقول فيه البخارى رحمه الله ما استصغرت نفسى قدّام أحد سواه وقال فيه شيخه عبد الرحمن بن مهدى على بن المدينى أعلم الناس بالحديث مات فى ذى القعدة وله ثلاث وسبعون سنة* وفى سنة خمس وثلاثين ومائتين ألزم المتوكل نصارى بلاده بلبس العسلى وخصوابه* وفى سيرة مغلطاى وأمر أهل الذمّة بلبس العسلى والزنانير وركوب السروج بالركب الخشب وأن لا يعتموا وغير زىّ نسائهم بالازر العسلية وان دخلن الحمام كان معهنّ جلاجل وأمر بهدم بيعتهم المحدثة وأن يجعل على أبوابهم صور شياطين خشب وأن لا يستعان بهم فى شئ من الدواوين* وفيها مات ابراهيم الموصلى النديم الاخبارى صاحب الموسيقا وفيها مات شيخ المعتزلة أبو الهذيل العلاف* وفى سنة سبع وثلاثين ومائتين مات زاهد وقته حاتم الاصم وكان يقال له لقمان هذه الامّة* وفى سنة ثمان وثلاثين ومائتين توفى عالم خراسان اسحاق بن راهويه الحنظلى صاحب التصانيف عن سبع وسبعين سنة* قال أحمد ابن حنبل لا أعلم له بالعراق نظيرا وما عبر الجسر مثله* وقال محمد بن أسلم ما أعلم أحدا كان أخشى لله من اسحاق* وقال أبو زرعة مارىء أحد أحفظ من اسحاق ومات ببغداد بشر بن الوليد الكندى القاضى الفقيه صاحب أبى يوسف وله سبع وتسعون سنة ومات بنيسابور الحسين بن منصور الحافظ وقد دعى الى قضاء نيسابور فاختفى ودعا الله فمات فى اليوم الثالث وفيها مات الامير عبد الرحمن بن الحكم الاموى صاحب الاندلس وكانت دولته اثنتين وثلاثين سنة وكان محمود الامرة* وفى سنة احدى وأربعين ومائتين مات ببغداد شيخ الامّة وعالم زمانه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانى المروزى ثم البغدادى الحافظ الامام فى يوم الجمعة غدوة ثانى عشر ربيع الاوّل وله سبع وسبعون سنة وكان مولده سنة أربع وستين ومائة وضريحه يزار ببغداد وكان شيخا أسمر مديد القامة يخضب بالحناء* وفى سنة ثلاث وأربعين ومائة توفى شيخ مصر حرملة بن يحيى التجيبى الحافظ الفقيه مصنف المختصر والمبسوط وهناد بن السرى الكوفى الحافظ القدوة* وفى سنة خمس وأربعين ومائتين مات مقرئ العراق أبو عمرو الدورى حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان ببغداد وشاعر عصره دعبل بن على الخزاعى

(2/338)


الرافضى* وفى سنة سبع وأربعين ومائتين مات أبو عثمان المازنى النحوى صاحب التصريف وأمير المؤمنين المتوكل على الله جعفر بن المعتصم وكان المتوكل بايع بولاية العهد ولده المنتصر محمدا ثم انه أراد ان يعزله ويولى ولده المعتز لمحبته لامّه قبيحة فسأل المتوكل ولده المنتصر أن ينزل عن العهد لاخيه المعتز فأبى المنتصر فغضب المتوكل عليه وصار يحضره المجالس العامّة ويحط منزلته ويهدّده ويشتمه ويتوعده ثم اتفق انّ الترك انحرفوا على المتوكل لكونه صادر وصيف التركى وبغا فاتفق الاتراك حينئذ مع المنتصر على قتل أبيه المتوكل ودخلوا عليه وهو فى مجلس أنسه وعنده وزيره الفتح بن خاقان بعد أن مضى من الليل ثلاث ساعات* وفى دول الاسلام نصف الليل وهجم باعز ومعه عشرة وقصد السرير فصاح الفتح ويلكم مولاكم وتهارب الغلمان والندماء على وجوههم وبقى الفتح وحده والمتوكل قد غرق فى السكر والنوم وبقى الفتح يمانعهم عنه فضرب باعز المتوكل بالسيف على عاتقه فقدّه الى خاصرته فصاح المتوكل ثم بعج الفتح آخر بالسيف فأخرجه من ظهره وهو صابر ثم طرح الفتح نفسه على المتوكل فماتا ولفا فى بساط وكان قتل المتوكل فى ليلة الاربعاء ثالث أو رابع شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين فى القصر الجعفرى الذى بناه المتوكل ودفن به ووزيره الفتح وكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أو ثمانية أيام ومات وعمره احدى وأربعون سنة وتخلف بعده ابنه المنتصر ولم تطل دولته ولا متع بالملك*

(ذكر خلافة المنتصر بالله محمد بن المتوكل جعفر ابن المعتصم محمد بن الرشيد هرون بن المهدى محمد بن أبى جعفر وقيل أبى عبد الله)
* وأمّه أمّ ولد رومية اسمها حبشه* صفته* كان أعين أقنى أسمر مليح الوجه ربعة كبير البطن مهيبا منصفا فى الرعية مالت اليه القلوب مع شدّة هيبتهم بويع بالخلافة بعد قتل أبيه* قال الذهبى تسلم الخلافة صبيحة قتل والده المتوكل فلم تطل دولته ولم يمتع بالخلافة وهو أوّل من عدا على أبيه من بنى العباس كما ان يزيد بن الوليد الاموى أوّل من عدا على أبيه كذا قاله ابن دحية وشيرويه بن كسرى عدا على أبيه وقد جرت عادة الله أن من عدا على أبيه لا يبلغه سؤلا ولا يمتعه بدنياه الا قليلا فلم يقم المنتصر بعد أبيه الا ستة أشهر كذا فى سيرة مغلطاى وقيل انه كان يقول يابغا أين أبى من قتل ابى ويسب الاتراك ويقول هؤلاء قتلة الخلفاء وعلى هذا لا يكون المنتصر تواطأ على قتل أبيه انتهى* ولما سمع بغا الصغير ذلك من المنتصر قال للذين قتلوا المتوكل ما لكم عند هذا رزق فهموا به وعجزوا عنه لانه كان مهابا شجاعا فطنا متحرّزا فتحيل عند ذلك الاتراك الى أن دسوا الى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند مرضه فأشار بفصده ففصد بمبضع أو قال بريشة مسمومة فمات فيقال ان ابن طيفور المذكور نسى ومرض فأمر غلامه ففصده بتلك الريشة فمات أيضا* وقال بعضهم بل حصل للمنتصر مرض فى أنثيبه أو معدته فمات بعد ثلاث ليال وقيل مات بالخوانيق أى الذبحة وقيل سم فى كمثراة بابرة لانه كان يسيئ على العيال ويبخل فسمه بعضم وكان المنتصر يتهم بقتل أبيه* يحكى انه نام يوما ثم انتبه وهو يبكى فجاءته أمه فقالت يا بنى لا أبكى الله لك عينا فقال اذهبى عنى ذهبت عنى الدنيا والاخرة رأيت الساعة أبى فى النوم وهو يقول ويحك يا محمد قتلتنى لاجل الخلافة والله لامتعت بها الا أياما يسيرة ثم مصيرك الى النار فلم يعش بعد ذلك الا أياما قليلة* وذكر على بن يحيى المنجم انّ المنتصر جلس مجلس اللهو فرأى فى بعض البسط دائرة فيها رأس عليه تاج وحوله كتابة فارسية فطلب المنتصر من يقرأ ذلك فأحضر رجل فنظر فيها ثم قطب فقال له المنتصر ما هذه قال لا معنى لها فالح عليه فقال فيها انا شيرويه بن كسرى ابن هرمز قتلت أبى فلم أمتع بالملك الا ستة أشهر فتغير لذلك وجه المنتصر وقام من مجلسه وحاصل الامر ان المنتصر لم يمتع بالخلافة ومات بعد ستة أشهر أو دونها فانه تخلف فى شوّال ومات فى شهر ربيع الاخر

(2/339)


وكان مدّة عمره ستا وعشرين سنة وتخلف بعده عمه المستعين بالله*

(ذكر خلافة المستعين بالله أحمد ابن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتى وأمّه أمّ ولد رومية تسمى مخارق ومولده فى سنة احدى وعشرين ومائتين* صفته* كان مربوع القامة أحمر الوجه خفيف العارضين بمقدّم رأسه طول وكان حسن الوجه والجسم بوجهه أثر جدرى وكان يلثغ فى السين تاء وكان كريما مسرفا مبذرا للخزائن يفرق الجواهر والثياب والنفائس لكائن من كان سامحه الله بويع بالخلافة فى شهر ربيع الاخر سنة ثمان وأربعين ومائتين بعد موت المنتصر وتمّ أمره فى الخلافة وبقى فيها ثلاث سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما كذا فى سيرة مغلطاى* وفى سنة تسع وأربعين ومائتين مات محدث بغداد المحدث بن الصباح البزار أحد الاعلام وفى سنة تسع وأربعين ومائتين مات البزى مقرئ مكة وهو أبو الحسن أحمد بن محمد وله ثمانون سنة وحافظ البصرة نصر بن على الجهضمى وكان قد طلب للقضاء فقال حتى استخير الله تعالى فرجع ثم صلى ركعتين وقال اللهمّ ان كان لى عندك خير فتوفنى ثم نام فنبهوه فاذا هو ميت واستمرّ الخليفة المستعين بالله فى الخلافة الى أوّل سنة احدى وخمسين ومائتين* وفى سيرة مغلطاى خرج فى أيامه اسمعيل بن يوسف فأحرق الكعبة ونهبها* قال الذهبى فى سنة اثنتين وخمسين ومائتين كانت فتنة المستعين الخليفة بايعوه وكان الامراء الاتراك قد استولوا على الامور وبقى المستعين مقهورا معهم فانتقل من دار الخلافة بسامرا الى بغداد مغاضبا فبعثوا يعتذرون اليه ويسألونه الرجوع فامتنع فعمدوا الى الحبس فأخرجوا المعتز بالله وحلفوا له وبايعوه بالخلافة وأخرجوا أيضا من الحبس المؤيد بن المتوكل ولى العهد ثم جهز المعتز أخاه المذكور أبا أحمد فى عسكر لقتال المستعين ومحاصرته فتهيأ المستعين ونائبه ببغداد وهو ابن طاهر للقتال وبنوا السور ووقع الحصار ونصبت المجانيق ودام القتال شهرا وكثرت القتلى وأكل أهل بغداد الميتة وتمت عدّة وقعات بين الفريقين وقتل نحو ألفين من البغاددة ثم قوى أمر المعتز وتخلى ابن طاهر نائب بغداد عن المستعين لشدّة البلاء وكاتب المعتز وسعوا فى الصلح فخلع المستعين نفسه من الخلافة على شروط مقهورا فى أوّل سنة اثنتين وخمسين ومائتين ثم نقلوه الى واسط واعتقل بها تسعة أشهر ثم أحضروه الى قادسية سامرا وهو سر من رأى ونكثوا الايمان وقتلوه بها صبرا فى ثالث شوّال يوم الاربعاء من سنة اثنتين وخمسين ومائتين ليومين بقيا من شهر رمضان بعد خلعه بنحو من تسعة أشهر وله احدى وثلاثون سنة وكان الذى قتله سعيد بن صالح الحاجب بعثه اليه المعتز فلما رآه المستعين تيقن التلف وقال ذهبت والله نفسى ولما قرب منه سعيد المذكور أخذ يتبعه بسوطه ثم أتكاه وقعد على صدره وقطع رأسه وهذا أوّل خليفة قتل صبرا مواجهة من بنى العباس*

(خلافة المعتز بالله محمد بن المتوكل على الله جعفر ابن المعتصم محمد بن الرشيد هرون بن المهدى محمد بن ابى جعفر المنصور)
* أمير المؤمنين أبى عبد الله وقيل اسمه الزبير الهاشمى العباسى البغدادى أمه أم ولد تسمى قبيحة لجمال صورتها قيل هذا من أسماء الاضداد وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين بويع بالخلافة عند خلع المستعين بالله عمه نفسه فى أول سنة اثنتين وخمسين ومائتين وهو ابن تسع عشرة سنة ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه وكان شابا جميلا مليح الوجه حسن الجسم بديع الحسن ولما تم أمر المعتز فى الخلافة واستهل شهر رجب خلع المعتز أخاه المؤيد ابراهيم من ولاية العهد وكتب بذلك الى الافاق وفيها مات محمد بن بشار بندار البصرى الحافظ وأبو موسى محمد بن المثنى العنزى الحافظ* وفى سنة ثلاث وخمسين ومائتين مات زاهد الوقت سرىّ بن المغلس السقطى العارف صاحب معروف الكرخى ونائب بغداد محمد بن

(2/340)


عبد الله بن طاهر الخزاعى وكبير الامراء وصيف التركى وكان قد استولى على الخليفة وتمكن ثم قتلوه وأخذوا له أموالا عظيمة وبعده قتل فى سنة أربع بغا الصغير وكان قد تمرّد وطغى وبغى وراح وصيف فتفرّد هو بالامور وكان المعتز يقول لا أستلذ بحياة ما بقى بغا وفيها مات بسامرا على الملقب بين الشيعة بالهادى وهو أحد الاثنى عشر المعصومين عند الرافضة وهو ابن الجواد محمد بن الرضا على بن الكاظم موسى بن جعفر الصادق وعاش أربعين سنة* وفى سنة خمس وخمسين ومائتين مات عالم سمرقند أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى الحافظ صاحب السند وشيخ الطائفة الكرامية المجسمة محمد بن كرام السجستانى الزاهد مات ببيت المقدس وكان المعتز فى ضيق وحجر فى خلافته مع الاتراك واتفق جماعة منهم أتوه وقالوا يا أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف التركى ونستريح منه وكان المعتز يخاف من صالح المذكور فطلب من أمه مالا لينفقه فيهم فأبت عليه وشحت وكانت فى سعة من المال ولم يكن بقى فى بيوت الاموال شئ فاجتمع الاتراك حينئذ واتفقوا على خلعه من الخلافة ووافقهم صالح بن وصيف ومحمد بن بغا فلبسوا السلاح وجاؤا الى دار الخلافة فبعثوا الى المعتز أن اخرج الينا فبعث يقول قد شربت دواء وأنا ضعيف فهجم عليه جماعة فجرّوه برجليه وضربوه بالدبابيس وأقاموه فى الشمس فى يوم صائف فبقى يرفع قدما ويضع اخرى ويلطمون وجهه ويقولون اخلع نفسك ثم أحضروا القاضى ابن أبى الشوارب والشهود وخلعوه ثم أحضروا من بغداد الى سامرا وهى يومئذ دار الخلافة محمد بن الواثق وكان المعتز قد أبعده الى بغداد فسلم اليه المعتز الخلافة وبايعه ولقبوه المهتدى بالله ثم أخذوا المعتز بعد خمس ليال من خلعه وأدخلوه الحمام فلما تغسل عطش وطلب ماء فمنعوه حتى شارف الهلاك ثم أخرجوه فسقوه ماء ثلج فشربه وسقط ميتا وابنه عبد الله مات فى صهريج ماء من شدّة البرد كذا فى سيرة مغلطاى وكان موته فى شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وفى سيرة مغلطاى مات فى سر من رآى لثلاث خلون من شعبان وقيل من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وله أربع وعشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون سنة وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وأربعة عشر يوما* وفى سيرة مغلطاى وكانت خلافته ثلاث سنين وستة أشهر واحدى وعشرين يوما وبعد قتله أمسك صالح بن وصيف وكان رئيس الامراء أمه قبيحة وصادروها فوجدوا عندها ألف ألف دينار عينا ونصف أردب لؤلؤ وويبة ياقوت أحمر وأشياء كثير غير ذلك* قال الذهبى أخذ صالح منها ثلاثة آلاف دينار فحمل جميع ذلك لصالح بن وصيف فقال ابن وصيف قاتل الله قبيحة عرضت ابنها للقتل وعندها هذه الاموال العظيمة ثم أخرجت قبيحة المذكورة على أقبح وجه الى مكة فأقامت بها الى أن ماتت*

(ذكر خلافة المهتدى بالله محمد بن الواثق هارون بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين الصالح الدين أبى اسحاق وقيل أبى عبد الله وأمه أم ولد رومية تسمى قرب ولد فى خلافة جدّه سنة بضع عشرة ومائتين* صفته* كان أسمر رقيقا مليح الوجه دينا صالحا ورعا عابدا عاقلا قويا فى أمر الله شجاعا خليقا للامارة لكنه لم يجد ناصرا ولا معينا على الحق والخير ولو وجد ناصر الكان أحيا سنة عمر بن عبد العزيز وقيل كان يسرد الصوم ويقنع بعض الليالى بخبز وخل وزيت* قال الخطيب لم يزل صائما منذولى الى أن قتل* وقال أبو العباس هاشم بن القاسم كنت بحضرة المهتدى عشية رمضان فوثبت لانصرف قال اجلس ثم أحضر بعد الصلاة طبقا فيه أرغفة من الخبز وبعض ملح وخل وزيت وقال كل فقلت يا أمير المؤمنين قد أسبغ الله نعمه عليك قال صدقت ولكنى فكرت فى أنه كان فى بنى أمية عمر بن عبد العزيز ففاق على بنى هاشم فأخذت نفسى على ما رأيت بويع بالخلافة بعد ابن عمه المعتز

(2/341)


بالله فى التاسع والعشرين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وله بضع وثلاثون سنة* قال الذهبى لما خلعوا المعتز أحضروا محمد بن الواثق بالله فبايعوه ولقب بالمهدى بالله وكان صالح بن وصيف رئيس الامراء ولما طلب المهتدى لم يقبل بيعة أحد حتى أتوا بالمعتز فلما رأى المهتدى قام له وسلم عليه بالخلافة وجلس بين يديه وجىء بالشهود فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة فاعترف بذلك ومدّيده وبايع المهتدى فارتفع حينئذ المهدى الى صدر المجلس وقال لا يجتمع سيفان فى غمد وهذا من كلام أبى ذؤيب
تريدين كيما تجمعينى وخالدا ... وهل يجمع السيفان ويحك فى غمد
وكان المهتدى قد اطرح الملاهى وسدّ باب اللهو والغناء وحسم الامراء عن الظلم وكان شديد الاشراف على أمر الدواوين يجلس بنفسه ويجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب* قال الذهبى لما دخلت سنة ست وخمسين ومائتين عبى موسى بن بغا عسكره بأكمل زينة وزحف على سامرا مجمعا على الفتك بصالح وصاحت العامّة يا فرعون جاءك موسى ثم هجم موسى بمن معه على المهتدى بالله وأركبوه فرسا وانتهبوا القصر وأدخلوا المهتدى دارا وهو يقول ويحك يا موسى ما بك فيقول وتربة أبيك لا ينالك سوء فحلفوه أن لا يمالئ صالحا وطلبوا صالحا ليناظروه على سوء فعاله فاختفى فردّوا المهتدى الى قصره ثم ظفروا بصالح وقتلوه*

وفاة حافظ العصر البخارى
وفى ليلة عيد الفطر من هذه السنة مات شيخ الاسلام وحافظ العصر محمد بن اسماعيل البخارى وله اثنتان وستون سنة وكان مولده يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة وقبره فى قرية مشهورة عندهم بخرتنك قرب على آباد من توابع سمرقند* وفى الكشف شرح المنار فى ان المحدث غير الفقيه يغلط كثيرا فقد روى عن محمد ابن اسماعيل صاحب الصحيح أنه استفتى فى صبيين شربا من لبن شاة فأفتى بثبوت الحرمة بينهما فأخرج به من بخارا اذ الاختية تتبع الامية والبهيمة لا تصلح أما للادمى وفيها مات قاضى مكة الزبير ابن بكار الاسدى أحد الاعلام وفيها قتل المهتدى بالله يقال ان الامراء والاتراك خرجوا عليه واتفقوا على خلعه فلبس سلاحه فى اناس قلائل من حاشيته وشهر سيفه عليهم وخرج وحاربهم أشدّ المحاربة ثم أحاطوا به وأسروه وخلعوه وقتلوه شهيدا فى شهر رجب سنة ست وخمسين ومائتين فكانت خلافته سنة الا خمسة عشر يوما* وفى سيرة مغلطاى كانت خلافته أحد عشر شهرا وتسعة عشر يوما وقتل بالسكين بسر من رآى لاربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين انتهى وعاش ثمانيا وثلاثين سنة*

(ذكر خلافة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى بن المنصور)
* أمير المؤمنين أبى العباس الهاشمى العباسى وأمه أم ولد رومية اسمها فتيان ولد سنة تسع وعشرين ومائتين بسر من رآى* صفته* كان أسمر ربعة رقيقا مدوّر الوجه مليح العينين صغير اللحية أسرع اليه الشيب بويع بالخلافة بعد قتل ابن عمه المهتدى* قال الذهبى خلعوا المهتدى بالله قبل قتله وبايعوا المعتمد هذا وتم أمره فى الخلافة وطالت أيامه وكان منهمكا فى اللذات فجعل أخاه الموفق طلحة ولى عهده على الامور وانهمك هو فى اللذات فاستولى أخوه المذكور جميع تعلقات الخلافة وقوى أمره وصار اليه العقد والحل وانقهر معه المعتمد وصار كالمحجور عليه معه وكان الموفق يتولى محاربة الافرنج هو وولده أحمد المعتضد والمعتمد هذا غارق فى السكر وكان يعربد فى سكره على الندماء وكان أخوه الموفق محسا للرعية والجند وعنده سباسة ومعرفة بالامور والتدبير وكان الموفق يلقب بالناصر لدين الله ولو أرادوا الوثوب على الامر لحصل له ذلك لانه هو صاحب الجيش والعساكر وما لاخيه المعتمد هذا سوى اسم الخلافة لا غير ولم يزل الموفق على ما هو عليه من الامر والنهى الى ان مرض ومات فى سنة ثمان وسبعين ومائتين فى حياة أخيه المعتمد وكان الموفق قد حبس ولده فى حياته فلما احتضر

(2/342)


الموفق أخرج ولده المعتمد أحمد من الحبس وجعله عرضة فى ولاية العهد وكان المعتضد على عمه المعتمد أشدّ من أبيه الموفق* وفى سنة ثمان وخمسين ومائتين مات واعظ عصره يحيى بن معاذ الرازى الزاهد* وفى سنة ستين ومائتين مات الحسن بن على الجواد بن الرضا العلوى أحد الائمة الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم وهو والد منتظرهم محمد بن الحسن* وفى سنة احدى وستين ومائتين مات حافظ خراسان أحمد بن سليمان الرهاوى ومقرئ وقته أبو شعيب صالح بن زياد السوسى والعارف الكبير أبو يزيد البسطامى وحافظ خراسان مسلم بن الحجاج القشيرى صاحب الصحيح مات بنيسابور وهو ابن خمس وخمسين سنة* وفى سنة أربع وستين ومائتين مات كبير الامراء موسى بن بغا وكان بطلا شجاعا وافر الحشمة وحافظ زمانه أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازى أحد الاعلام فى آخر السنة* قال أبو حاتم لم يخلف بعده مثله* وفى سنة خمس وستين ومائتين مات صالح ابن أحمد بن حنبل الشيبانى قاضى أصبهان* وفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين مات الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزوينى صاحب السنن والتفسير والحافظ حنبل بن اسحاق بن عم الامام أحمد ومات فى صفر صاحب الاندلس محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الاموى وكانت أيامه خمسا وثلاثين سنة وكان فقيها فصيحا بليغا كثير الجهاد* قال ابن الجوزى هو صاحب وقعة وادى سليط التى لم يسمع بمثلها يقال قتل فيها من الكفرة ثلثمائة ألف* وفى سنة ست وسبعين ومائتين مات العلامة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى صاحب التصانيف فى رجب ببغداد فجاءة وله ثلاث وستون سنة وحافظ البصرة أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشى فى شوّال ببغداد حدّث من حفظه بستين ألفا وكان ورده فى اليوم والليلة أربعمائة ركعة ومحدّث الاندلس قاسم بن محمد بن القاسم الاموى القرطبى الفقيه قال تقى بن مخلد هو أعلم من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم* وقال ابن لبابة ما رأيت أفقه منه* وفى سنة سبع وسبعين ومائتين مات حافظ زمانه أبو حاتم محمد بن ادريس الحنظلى الرازى فى شعبان وهو فى عشر التسعين وكان جاريا فى مضمار أبى زرعة والبخارى وفيها مات الحافظ أبو داود صاحب السنن مات بالبصرة* وفى سنة ثمان وسبعين ومائتين كان مبدأ ظهور القرامطة بسواد الكوفة وهم زنادقة مارقون من الدين* وفيها مات الموفق أبو أحمد طلحة بن المتوكل بن المعتصم ولى عهد أخيه الخليفة المعتمد على الله فى صفر وله تسع وأربعون سنة وكان ملكا جبارا مطاعا بطلا شجاعا كبير الشأن حارب الفرنج حتى أبادهم وحارب يعقوب الصفار فهزمه وكان اليه جميع أمر الجيش وكان محببا الى الناس اعتراه نقرس فبرّح به وأصاب رجله داء الفيل وكان يقول فى ديوانى مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا منى واشتدّ ألمه حتى مات* وفى سنة تسع وسبعين ومائتين تمكن المعتضد وخضعت لهيبته الامراء حتى ألزم عمه أمير المؤمنين ان يقدّمه فى العهد على ابنه المفوّض ففعل ذلك مكرها وفيها منع المعتضد الناس من بيع كتب الفلسفة وتهدد على ذلك ومنع المنجمين والقصاص من الجلوس وفيها مات الامام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الاسلمى الترمذى مصنف الجامع فى رجب بترمذ والحافظ أبو بكر أحمد بن أبى خيثمة أحد الاعلام صاحب التاريخ الكبير وتوفى أمير المؤمنين المعتمد على الله ولم تطل أيامه بعد أخيه الموفق مات المعتمد فجاءة وهو سكران وقيل سم فى لحم وقيل رمى فى رصاص مذاب وقيل وقع فى حفرة ببغداد فى تاسع شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة* وفى سيرة مغلطاى سنة اثنتين وعشرين واحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما ليس له فيها الا مجرّد الاسم فقط والامر كله لاخيه الموفق طلحة ثم بعده لابنه المعتضد أحمد الخليفة الاتى ذكره*

(ذكر خلافة المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن ولى العهد الموفق بالله طلحة بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هرون الهاشمى العباسى)

(2/343)


* أمير المؤمنين مولده فى سنة اثنتين وأربعين ومائتين فى ذى القعدة فى أيام جدّه* صفته* كان أسمر نحيفا معتدل الخلق وكان يقدر على الاسد وحده وتغير مزاجه لافراط الجماع وكان المعتضد هذا آخر من ولى الخلافة ببغداد من بنى العباس وكان شجاعا مقدامامها باذا سطوة وحزم ورأى وجبروت ومن جاء بعده فهم كلا شئ بالنسبة الى المعتضد وكان الموفق قد خاف من ولده المعتضد فلما اشتدّ مرض الموفق عمد غلمان المعتضد اليه وأخرجوه من الحبس بلا اذن الموفق ولا الخليفة فلما رآه والده الموفق أيقن بالموت ثم قال له يا ولدى لهذا اليوم خبأتك وفوّض اليه الامور وأوصاه بعمه المعتمد وكان ذلك قبل موت الموفق بثلاثة أيام ولما تخلف المعتضد أحبه الناس لحسن تدبيره وشدّة بأسه بويع بالخلافة بعد موت عمه المعتمد بامرة المؤمنين* وفى سنة ثمان وثمانين ومائتين مات الفقيه أبو العباس أحمد بن محمد البرنى القاضى الحافظ صاحب المسند وكان من عباد الحنفية وقاضى مصر أبو جعفر أحمد بن ابى عمران الحنفى صاحب ابن سماعة وقد قارب الثمانين وحافظ سجستان الامام عثمان بن سعيد الدارمى صاحب التصانيف عن ثمانين سنة* وفى سنة احدى وثمانين ومائتين توفى الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبى الدنيا صاحب التصانيف عن نيف وثمانين سنة وحافظ دمشق أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو البصرى وله تصانيف* وفى سنة اثنتين وثمانين ومائتين اصطلح خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر والمعتضد بعد خطوب وحروب بينهما فتزوّج المعتضد بابنة خمارويه قطر الندا على صداق أربعين ألف دينار فبعثها أبوها وجهزها بألف ألف دينار وأعطت الدلال مائة ألف درهم ومات فى ذى القعدة متولى مصر والشام أبو الجيش خمارويه أحمد بن طولون حمو الخليفة فتك به غلمانه لانه راودهم وكان شهما صارما مهيبا وعاش اثنتين وثلاثين سنة ودولته اثنتى عشرة سنة* وفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين توفى السيد العارف سهل بن عبد الله التسترى الزاهد عن نحو ثمانين سنة* وفى سنة أربع وثمانين ومائتين قال ابن جرير فيها عزم المعتضد على سب معاوية على المنابر فخوّفه الوزير عبد الله من اضطراب العامّة فلم يلتفت اليه وتهدد العامّة وألزمهم بترك الاجتماع وشدّد عليهم وأنشأ كتابا ليقرأ على المنبر فيه مثالبه ومعائبه وقال ان تحرّكت العامّة وضعت فيهم السيف قيل فما تصنع بالعلوية الذين هم قد خرجوا عليك فى كل ناحية اذا سمع الغوغاء هذا من مناقب أهل البيت مالوا اليهم فأمسك المعتضد عن ذلك* وفيها مات البحترى شاعر وقته أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائى وله بضع وسبعون سنة وفى سنة خمس وثمانين ومائتين مات ببغداد أبو العباس المبرّد امام النحو* وفى سنة ست وثمانين ومائتين ظهر بالبحرين القرامطة وعليهم أبو سعيد الجبائى وقويت شوكته وأفسد وقصد البصرة فحصنها المعتضد وكان أبو سعيد كيالا بالبصرة وجبان من قرى الاهواز* وقال لصولى كان يرفو أعدال الدقيق فخرج الى البحرين وانضم اليه بقايا الزنج والحرامية حتى تفاقم أمره وهزم جيوش المعتضد مرّات ثم انه ذبح فى الحماء وقام بعده ابنه أبو طاهر* وفيها مات شيخ الصوفية أبو سعيد الخراز أحد الاولياء* وفى سنة تسع وثمانين ومائة ماتت قطر الندا بنت صاحب مصر زوجة المعتضد واستمرّ المعتضد فى الخلافة الى ان مات يوم الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الاخر سنة تسع وثمانين ومائتين وفى سيرة مغلطاى توفى ببغداد ليلة الثلاثاء لست بقين من ربيع الاخر وقيل لثمان بقين منه سنة ثمان وثمانين ومائتين وقيل تسع ودفن فى الحجرة الرخام وكان المعتضد يسمى السفاح الثانى لانه جدّد ملك بنى العباس* ومن عجيب ما ذكر عنه المسعودى ان صح قال شكوا فى موت المعتضد فتقدّم الطبيب فجس نبضه ففتح عينيه ورفس الطبيب برجله فدحاه أذرعا ومات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته

(2/344)


وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر ونصف* وفى سيرة مغلطاى وكانت مدّة خلافته عشر سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام وقيل تسع سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوما وعاش أربعين سنة*

(ذكر خلافة المكتفى بالله على بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة بن جعفر)
* المتوكل بن المعتصم محمد بن الرشيد هرون الهاشمى العباسى أمير المؤمنين أبو محمد أمّه أمّ ولد تسمى خاضع ولد سنة أربع وستين ومائتين* صفته* كان يضرب المثل بحسنه فى زمانه كان معتدل القامة درىّ اللون أسود الشعر حسن اللحية جميل الصورة بويع بالخلافة بعد أبيه المعتضد فى جمادى الاولى سنة تسع وثمانين ومائتين وأخذ له أبوه البيعة فى مرض موته وأباد القرامطة وفتح انطاكية* وفى أيام المكتفى سنة تسعين ومائتين كان بمصر غلاء عظيم حتى أكل الناس الميتة ولم يبق من العالم الا القليل وفيها حاصرت القرامطة دمشق فقتل طاغيتهم صاحب الشام ابن ركرويه وكان ركرويه يكذب ويزعم أنه علوى فقام بالامر بعده أخوه الحسين فجهز المكتفى عشرة آلاف مع أبى الاعز لقتالهم فلما قاربوا حلب بيتهم القرامطة فهرب أبو الاعز فى ألف فارس فدخل حلب وقتل أكثر جيشه ووصل المكتفى بالله الى الرقة وبعث الجيوش يمدّ أبا الاعز وقدمت عساكر مصر مع بدر الحمامى فهزموا القرامطة وقتل منهم خلق كثير* وفيها مات محدّث بغداد عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيبانى الحافظ وله سبع وسبعون سنة* وفى سنة احدى وتسعين ومائتين مات مقرئ أهل مكة قنبل واسمه محمد بن عبد الرحمن المخزومى وفيها مات محدث الرى على بن الحسين بن الجنيد الرازى الحافظ* وفى سنة اثنتين وتسعين ومائتين مات حافظ وقته أبو بكر أحمد بن عمرو البصرى البزار صاحب المسند الكبير برملة وقاضى القضاة أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز الحنفى ببغداد وكان من قضاة العدل فكان عند الموت يبكى ويقول يا رب من القضاء الى القبر* وأما القرامطة فعظم بهم البلاء فالتزم أهل دمشق لهم بأمور عظيمة فترحلوا ثم افتتحوا حمص وساروا الى حماة والمعرّة يقتلونهم ويسبون وقتلوا أكثر أهل بعلبك ثم استباحوا سلمية فالتقاهم جيش الخليفة بقرب حمص فكسروهم وأسروا خلائق وذلت القرامطة لعنهم الله ثم انهزم رئيسهم مع ابن عمه وآخر فوقعوا بهم فحملوهم الى المكتفى فقتلوهم وأحرقوا ولم تطل أيام المكتفى ومات ببغداد شابا ليلة الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وكانت خلافته ستة أعوام وستة أشهر وأربعة وعشرين يوما واستخلف بعده أخوه المقتدر بتفويض المكتفى اليه فى مرضه بعد أن سأل عنه المكتفى وصح عنده انه احتلم والله أعلم*

(ذكر خلافة المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن ولى العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر ابن المعتصم محمد بن الرشيد الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين وهو السادس فخلع مرّتين كما سيأتى أمّه أمّ ولد اسمها شعب بويع بالخلافة بعد موت أخيه المكتفى وهو غير بالغ وعمره أربع عشرة سنة قال الذهبى وعمره ثلاث عشرة سنة وأربعون يوما ولم يل أمر الامّة صبىّ قبله وضعف دست الخلافة فى أيامه ولما استخلف المقتدر فى هذه المرّة الاولى لم يتم أمره لصغر سنه وتغلب عليه الجند واتفق جماعة من الاعيان على خلعه من الخلافة وتولية عبد الله بن المعتز وكلموا ابن المعتز فى ذلك فأجابهم بشرط أن لا يكون فيها دم فانه كان عالما فاضلا دينا أديبا شاعرا فأجابوه لذلك وكان رأسهم محمد بن داود بن الجرّاح وأبو المثنى أحمد بن يعقوب القاضى والحسين بن حمدان واتفقوا على قتل المقتدر ووزيره العباس وفاتك فلما كان العشرون من شهر ربيع الاوّل سنة ست وتسعين ومائتين ركب الحسين بن حمدان والقوّاد فشدّ ابن حمدان على الوزير فقتله فأنكر عليه فاتك فقتله ثم شدّ على المقتدر وكان يلعب بالصوالجة فسمع الضجة فدخل وأغلقت الابواب فعاد ابن حمدان ونزل وأحضر عبد الله بن المعتز وحضر القواد والقضاة والاعيان وبايعه

(2/345)


حسبما يأتى ذكره وخلع المقتدر من الخلافة وهو مقيم بالحريم داخل دار الخلافة وكانت خلافة المقتدر فى هذه المرّة الاولى دون السنة* وفى سيرة مغلطاى ولى أربعة أشهر ثم عزل ثم أعيد كما سيأتى*

(ذكر خلافة عبد الله بن المعتز الشاعر بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد)
* الهاشمى العباسى أمير المؤمنين أبو العباس الاديب مولده فى شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين بويع بالخلافة بعد خلع المقتدر ولقب بالغالب بالله وفى سيرة مغلطاى لقب بالمنتصف بالله وقيل بالراضى واستوزر محمد بن داود بن الجرّاح ويمن الخادم حاجبه فغضب سوسن الخادم وعاد الى دار المقتدر وطاعته وتم أمر عبد الله بن المعتز فى ذلك اليوم وأنفذت الكتب بخلافته الى الاقطار فى العشرين من شهر ربيع الاوّل سنة ست وتسعين ومائتين ولما تخلف ابن المعتز بعث الى المقتدر يأمره بالانصراف الى دار محمد بن طاهر لكى ينتقل ابن المعتز الى دار الخلافة فأجاب المقتدر وقد بقى عنده أناس قلائل وباتوا تلك الليلة وأصبح الحسين بن حمدان باكرا الى دار الخلافة وقاتل أعوان المقتدر فقاتلوه ودفعوه عنها ثم خرجوا بالسلاح وقصدوا مكان ابن المعتز فلما رآهم من حول ابن المعتز أوقع الله فى قلوبهم الرعب فانهزموا بغير حرب فركب ابن المعتز فرسا ومعه وزيره ابن داود وحاجبه يمن وقد شهر سيفه فلم يتبعه أحد فلما رأى أمره فى ادبار نزل عن دابته ودخل دار ابن الجصاص واختفى الوزير وغيره ونهبت دورهم وخرج المقتدر واستفحل أمره وأمسك جماعة ابن المعتز ومن قام بنصرته وحبسهم ثم قتل غالبهم وقتل ابن الجرّاح الذى وزر لابن المعتز ذلك اليوم وكان اديبا فاضلا علامة له تصانيف واستقام أمر المقتدر وأعيد للخلافة ثم قبض على ابن المعتز وابن الجصاص وحبس ابن المعتز أياما ثم أخرج ميتا فى شهر ربيع الاخر سنة ست وتسعين ومائتين وكان الذى تولى هلاكه مؤنس الخادم وكانت خلافته يوما واحدا وقيل نصف يوم* وفى سيرة مغلطاى مكث فى الخلافة يوما وليلة فقتل وبعضهم لم يذكره مع الخلفاء وسماه الامير لا امير المؤمنين ومذهب بعضهم انه أمير المؤمنين ولو لم يل الخلافة فانه كان خليقا للخلافة وأهلالها*

(ذكر خلافة المقتدر بالله أبو الفضل جعفر فى المرّة الثانية)
* أعيد الى الخلافة فى صبيحة يوم خلعه ولم ينتقل المقتدر من دار الخلافة ولم يغير لقبه واستمرّ فى الخلافة وظفر بأعدائه واحدا بعد واحد واستوزر أبا الحسين بن محمد بن الفرات فسار ابن الفرات فى الناس أحسن سيرة وكشف المظالم وفوّض اليه المقتدر جميع الامور لصغر سنه واشتغل باللعب مع الندماء والمغنين وعاشر النساء وغلب أمر الخدم والحرم على دولته وأتلف الخزائن* وفى الكامل فى سنة ثلثمائة كثرت الامراض والعلل ببغداد وفيها كلبت الكلاب والذئاب بالبادية فأهلكت خلقا كثيرا وفيها انقضت الكواكب انقضاضا كثيرا الى جهة المشرق وفى هذا الوقت مات الملعون أحمد بن يحيى الراوندى الزنديق وقد صنف فى الازراء على النبوّات والردّ على القرآن* وفى سيرة مغلطاى لما صفا الامر للمقتدر قتل الحلاج الزنديق المدّعى للربوبية وقوى أمر القرامطة فقلع الحجر الاسود وتحرّكت الديلم وقوى أمر بنى القداح بالمغرب وانتسبوا الى محمد ابن اسمعيل بن جعفر فقتلهم أبو القاسم المهدى وقيل انه كان من أبناء اليهود* قال الذهبى فى سنة احدى وثلثمائة شهر الحلاج على جمل ثم علقوه ونودى هذا من دعاة القرامطة فاعرفوه ثم سجن وظهر أنه ادعى الالهية وصرح بالحلول* وفى المواقف لقبوا بالقرامطة لانّ أوّلهم الذى دعا الناس الى مذهبهم رجل يقال له حمدان قرمطه وهى احدى قرى واسط لقبوا بسبعة ألقاب بالقرامطة لما مرّ وبالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره فانهم قالوا للقرآن ظاهر وباطن والمراد منه باطنه لا ظاهره المعلوم من اللغة ونسبة الباطن الى الظاهر كنسبة اللب الى القشر وبالحرمية لاباحتهم الحرمات والمحارم وبالسبعية لانهم زعموا انّ النطقاء بالشرائع أى الرسل سبعة آدم ونوح وابراهيم

(2/346)


وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدى سابع النطقاء وبالبابكية اذ تبع طائفة منهم بابك بن عبد الكريم الحرمى فى الخروج بأذربيجان وبالمحمرة للبسهم الحمرة فى أيام بابك وبالاسماعيلية لاثباتهم الامامة لاسمعيل بن جعفر الصادق وهو أكبر أبنائه* وفى الملل والنحل لمحمد بن عبد الكريم الشهرستانى لهم ألقاب كثيرة على لسان كل قوم فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية وبخراسان التعليمية والملحدة وهم يقولون نحن اسماعيلية لانا نميز عن فرق الشيعة بهذا الاسم وبهذا الشخص* وفى هذه السنة قتل أبو سعيد الجبانى رأس القرامطة قتله مملوك له صقلبى راوده فى الحمام ثم خرج فاستدعى قائدا من أصحاب الجبانى فقال السيد يطلبك فلما دخل قتله وخرج فطلب آخر فقتله حتى قتل أربعة من رؤسائهم واستدعى الخامس فلما دخل فطن لذلك فأمسك بيد الخادم وصاح الناس وصاح النساء فقتلوه* وفى سنة ثلاث وثلثمائة توفى حافظ زمانه أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائى أحد الاعلام ومصنف السنن فى صفر وله ثمان وثمانون سنة وكان يقوم الليل ويصوم يوما ويفطر يوما وفيها مات أبو على محمد بن عبد الله الجبائى البصرى شيخ المعتزلة* وفى سنة سبع وثلثمائة مات محدّث الموصل أبو يعلى محمد بن على بن المثنى الموصلى الحافظ صاحب المسند وله سبع وتسعون سنة وفيها انقض كوكب واشتدّ ضوءه وعظم وتفرّق ثلاث فرق وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد ولم يكن فى السماء غيم والله تعالى أعلم كذا فى الكامل* وفى سنة تسع وثلثمائة قتل حسين بن منصور الحلاج ببغداد بأمر المفتين وحكم الحاكم على الزندقة والحلول وكان قد سافر الى الهند وتعلم السحر كذا فى دول الاسلام*

ترجمة حسين بن منصور الحلاج
وفى الكامل فى هذه السنة قتل الحسين بن منصور الحلاج الصوفى فى ذى القعدة وأحرق بالنار وكان ابتداء حاله انه كان يظهر الزهد والتصوّف ويظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء فى الصيف وفاكهة الصيف فى الشتاء ويمدّيده الى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم على كل درهم مكتوب قل هو الله أحد ويسميها دراهم القدرة ويخبر الناس بما أكلوا وبما صنعوا فى بيوتهم ويتكلم بما فى ضمائرهم فافتتن به خلق كثير اعتقدوا فيه الحلول وبالجملة فانّ الناس اختلفوا فيه اختلافهم فى المسيح عليه السلام فمن قائل انه حل فيه جزء الهىّ ويدعى فيه الربوبية ومن قائل انه ولى الله تعالى وانّ الذى يظهر منه من جملة كرامات الصالحين ومن قائل انه مشعبذ وممجرق وساحر وكذاب ومتكهن والجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة فى غير أوانها وكان قد قدم من خراسان الى العراق وسار الى مكة فأقام بها فى الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفا وكان يصوم الدهر فاذا جاء العشاء أحضر له القوم كوزماء وقرصا فيشربه ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه فيأكلها ويترك الباقى فيأخذونه ولا يأكل شيئا آخر الى الغد آخر النهار* وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربى فأخذ أصحابه الى زيارة الحلاج فلم يجدوه فى الحجر وقيل قد صعد الى جبل أبى قبيس فصعد اليه فرآه قائما على صخرة حافيا مكشوف الرأس والعرق يجرى منه الى الارض فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه وقال هذا يتصبر ويتقوّى على قضاء الله تعالى وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقوّته وعاد الحسين الى بغداد وأما سبب قتله فانه نقل عنه عند عوده الى بغداد الى الوزير حامد بن العباس وزير المقتدر أنه أحيى جماعة وأنه يحيى الموتى وانّ الجنّ يخدمونه ويحضرون عنده ما يشتهى وأنه قدّموه على جماعة من حواشى الخليفة المقتدر بالله وأن نصر الحاجب قد مال اليه فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلم اليه الحلاج وأصحابه فدفع عنه نصر الحاجب فألح الوزير فأمر المقتدر بتسليمه اليه فأخذه وأخذ معه جماعة من أصحابه فيهم انسان يعرف بالشمرىّ قيل انهم يعتقدون انه اله فقرّرهم حامد

(2/347)


فاعترفوا بأنه قد صح عندهم أنه اله وأنه يحيى الموتى وقابلوا الحلاج على ذلك فأنكر وقال أعوذ بالله أن أدّعى الربوبية والنبوّة وانما أنا رجل أعبد الله عز وجل فأحضر حامد القاضى أبا عمرو والقاضى أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود واستفتاهم فقالوا لا نفتى فى أمره بشئ الا أن يصح عندنا ما يوجب قتله ولا يجوز قبول قول من يدّعى عليه ما ادّعاه الا ببينة أو اقرار وكان يخرج الحلاج الى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة وطال الامر على ذلك وحامد الوزير مجدّ فى أمره وجرى له قصص يطول شرحها وفى آخرها انّ الوزير رأى له كتابا حكى فيه انّ الانسان اذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد من داره بيتا لا يلحقه شئ من النجاسات ولا يدخله أحد فاذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة ثم يجمع ثلاثين يتيما ويصنع أجود طعام يمكنه ويطعمهم فى ذلك البيت ويخدمهم بنفسه فاذا فرغوا كساهم وأعطى كل واحد منهم تسعة دراهم فاذا فعل ذلك كان كمن حج فلما قرئ هذا الكتاب على الوزير قال القاضى أبو عمرو للحلاج من أين لك هذا قال من كتاب الاخلاص للحسن البصرى قال له كذبت يا حلاج الدم سمعناه بمكة وليس فيه هذا فكتب القاضى ومن حضر المجلس باباحة دمه فأرسل الوزير الفتاوى الى الخليفة فاستأذن فى قتله وسلمه الوزير الى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوّه ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قتل وأحرق بالنار فلما صار رمادا ألقى فى الدجلة ونصب الرأس ببغداد وأرسل الى خراسان لانه كان له بها أصحاب وأقبل بعض أصحابه يقولون انه لم يقتل وانما ألقى شبهه على دابة وانه يجىء بعد أربعين يوما وبعضهم يقول لقيته بطريق النهروان وأنه قال له لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذين يظنون أنى ضربت وقتلت* وفى حياة الحيوان نقلا عن تاريخ ابن خلكان رسم المقتدر بتسليمه الى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة فتسلمه بعد العشاء خوفا من العامّة أن تنزعه من يده ثم أخرجه يوم الثلاثاء لست بقين من ذى القعدة سنة سبع وثلثمائة عند باب الطاق واجتمع خلق كثير فأمر به فضربه الجلاد ألف سوط فما استعفى ولا تأوّه ثم قطع أطرافه الاربعة وهو ساكن لا يضطرب ثم حز رأسه وأحرقت جثته وألقى رماده فى دجلة ونصب الرأس ببغداد ثم حمل وطيف به فى النواحى والبلاد وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما واتفق أن زاد دجلة تلك السنة زيادة وافرة فادّعى أصحابه انّ ذلك بسبب القاء رماده فيها وادّعى بعض أصحابه انه لم يقتل وانما ألقى شبهه عند قتله على عدوّله* وذكر الشيخ الامام عز الدين بن عبد السلام المقدسى فى مفاتيح الكنوز انه لما أتى به ليصلب ورأى الخشب والمسامير ضحك ضحكا كثيرا ثم نظر فى الجماعة فرأى الشبلى فقال له يا أبا بكر أما معك سجادة قال بلى قال افرشها لى ففرشها فتقدّم وصلى ركعتين فقرأ فى الاولى بفاتحة الكتاب ومن بعدها ولنبلونكم بشئ من الخوف الاية ثم قرأ فى الثانية بفاتحة الكتاب ومن بعدها كل نفس ذائقة الموت ثم ذكر كلاما كثيرا ثم تقدّم أبو الحارث السياف ولطمه لطمة هشم وجهه وأنفه فصاح الشبلى ومزق ثيابه وأغشى على أبى الحسن الواسطى وعلى جماعة من المشايخ وكان الحلاج يقول اعلموا ان الله قد أباح لكم دمى فاقتلونى ليس للمسلمين اليوم أهم من قتلى وقد اضطرب الناس فى أمره اضطرابا متباينا فمنهم من يعظمه ومنهم من يكفره* وقد ذكر الامام قطب الوجود حجة الاسلام فى كتاب مشكاة الانوار فصلا طويلا فى أمره واعتذر عن اطلاقاته كقوله أنا الحق وما فى الجبة الا الله وحملها كلها على محامل حسنة وقال هذا من فرط المحبة وشدّة الخوف والوجل وهو كقول القائل أنا من أهوى ومن أهوى أنا* نحن روحان حللنا بدنا* وحسبك هذا مدحة وتزكية وكان ابن شريح اذا سئل عنه يقول هذا رجل قد خفى علىّ حاله وما أقول فيه شيئا وهذا شبيه بكلام عمر بن

(2/348)


عبد العزيز وقد سئل عن على ومعاوية قال دماؤهم قد طهر الله منها سيوفنا أفلا يطهر من الخوض فيها ألسنتنا وهكذا ينبغى لمن يخاف الله تعالى أن لا يكفر أحدا من أهل القبلة بكلام يصدر منه يحتمل التأويل على الحق والباطل فان الآخراج من الاسلام عظيم ولا يسارع به الا الجاهل* ويحكى عن شيخ العارفين قطب الزمان عبد القادر الكيلانى قدّس الله روحه أنه قال عثر الحلاج ولم يكن له من يأخذ بيده ولو أدركت زمانه لاخذت بيده وهذا وما سبق عن الامام الغزالى فى أمره كاف لمن له أدنى فهم وبصيرة وسمى الحلاج لانه جلس يوما على حانوت حلاج فاستقضاه حاجة فقال له الحلاج أنا مشتغل بالحلج فقال له اقض حاجتى حتى أحلج عنك فمضى الحلاج فى حاجته فلما عاد وجد قطنه كله محلوجا وكان لا يحلجه عشرة رجال فى أيام متعدّدة فمن ثمة قيل له الحلاج وقيل انه كان يتكلم على الاسرار ويخبر عنها فسمى حلاج الاسرار وكان من أهل البيضاء بلدة بفارس واسمه الحسين بن منصور* وفيها توفى شيخ الصوفية أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الزاهد البغدادى* وفى سنة عشر وثلثمائة مات عالم العصر أبو حفص محمد بن جرير الطبرى صاحب التفسير والتاريخ والفقهيات مات فى شوّال وله ست وثمانون سنة وفيها فى جمادى الاخرة انقض كوكب فى المشرق فى برج السنبلة طوله نحو ذراعين ذكره فى الكامل* وفى سنة احدى عشرة وثلثمائة مات أبو اسحاق الزجاج نحو العراق وحافظ ما وراء النهر أبو حفص عمر بن محمد بن يحيى صاحب الصحيح وشيخ الطب محمد بن زكريا الرازى صاحب الكتب* وفى سنة اثنتى عشرة وثلثمائة افتتح المسلمون فرغانة من مدائن الترك وفى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة انقض كوكب كبير وقت المغرب له صوت مثل صوت الرعد الشديد وضوء عظيم أضاءت له الدنيا* وفى سنة أربع عشرة وثلثمائة توجه أبو طاهر القرمطى نحو مكة فبلغ خبره الى أهلها فنقلوا أموالهم وحرمهم الى الطائف وغيره خوفا منه كذا فى الكامل* وفى سنة ست عشرة وثلثمائة مات ببغداد شيخها الحافظ ذو التصانيف أبو بكر بن صاحب السنن أبى داود السجستانى وله ست وثمانون سنة وكان ذا زهد ونسك وصلى عليه نحو ثلثمائة ألف نفس وقد حدّث من حفظه بأصبهان بثلاثين ألف حديث باسانيدها ومات باسفرائن حافظها الكبير أبو عوانة يعقوب بن اسحاق الاسفرائنى صاحب المسند واستمرّ المقتدر فى الخلافة الى سنة سبع عشرة وثلثمائة ثم خلع ثانيا بأخيه القاهر بالله أبى منصور محمد*

(خلافة القاهر بالله أبى منصور محمد بن المعتضد)
* أحمد بن ولىّ العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر العباسى الهاشمى أمير المؤمنين وأمه أم ولد مغربية تسمى فنون* صفته* كان أسمر ربعة أصهب الشعر طويل الانف بويع بالخلافة بعد أن قبض على أخيه المقتدر جعفر وعلى أمه وخالته وأخرجوا الى دار يونس وكان القاهر هذا محبوسا فوصل فى الثلث الاخير من ليلة الخامس عشر من المحرّم سنة سبع عشرة وثلثمائة وبايعه يونس والامراء ولقبوه بالقاهر بالله ثم أشهد المقتدر على نفسه بالخلع فى يوم السبت وجلس القاهر فى يوم الاحد وكتب الوزير عنه الى الاقطار وعمل الموكب يوم الاثنين فامتلات دهاليز الدار بالعسكر يطلبون رزق البيعة ورزق سنة أيضا فارتفعت أصوات الرجالة ثم هجموا على الحاجب نازل وهو بدار الخلافة فقتلوه وصاحوا يا مقتدر يا منصور فتهارب من فى دار الخلافة ثم أخرج المقتدر وحضر الى دار الخلافة وجلس مجلسه فأتوا بأخيه محمد القاهر هذا وجلس بين يديه فاستدناه المقتدر وقبل جبينه وقال له يا أخى والله أنت لا ذنب لك والقاهر يبكى ويقول ألله ألله يا أمير المؤمنين فى نفسى فقال المقتدر والله لا جرى عليك منى سوء أبدا فطب نفسا وأقام القاهر عند أخيه المتقدر مبجلا محترما الى أن أعيد الى الخلافة بعد موت أخيه المقتدر*

(خلافة المقتدر بالله جعفر أعيد الى الخلافة ثالث مرّة)
*

(2/349)


حسبما تقدّم ذكره ولما أعيد الى الخلافة كتب بذلك الى سائر البلاد وتم أمره ثم بذل الخزائن والاموال فى الجند وباع ضياعا وغيرها حتى تمم عطاءهم

قلع الحجر الاسود من الكعبة ونقله الى هجر
ثم فى سنة سبع عشرة وثلثمائة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمى فوصلوا الى مكة سالمين فوافاهم فى يوم التروية الملعون عدوّ الله أبو طاهر القرمطى فقتل الحجيج فى المسجد الحرام قتلا ذريعا وهم محرمون وفى أزقة مكة وفى داخل البيت وحوله وقتل ابن محارب أمير مكة وعرّى البيت وقلع باب الكعبة واقتلع الحجر الاسود وأخذه الى هجر وطرح القتلى فى بئر زمزم ودفن الباقى فى المسجد الحرام وحيث قتلوا بغير كفن ولا غسل ولا صلى على أحد منهم كذا فى الكامل* يقال دخل القرمطى مكة بأناس قلائل نحو سبعمائة فلم يطق أحد ردّه خذلانا من الله تعالى فقتلوا حول البيت ألفا وسبعمائة وصعد اللعين على عتبة الكعبة ونادى
أنا بالله وبالله أنا ... أخلق الخلق وأفنيهم أنا
ويقال ان القتلى بمكة وبظاهرها فى هذه الكائنة أكثر من ثلاثين ألف انسان وسبى من النساء والصبيان مثل ذلك ومدّة اقامته بمكة ستة أيام ولم يحج أحد ولا وقف بالناس امام سنة سبع عشرة وثلثمائة كذا فى سيرة مغلطاى فكان من القتلى شيخ الحنفية ببغداد أبو سعيد أحمد بن على البردعى والحافظ أبو الفضل محمد بن أبى الحسين الهروى وبعد عود القرمطى الى هجر رماه الله فى جسده وطال عذابه وتقطعت أوصاله وتناثر الدود من لحمه الى أن مات وبقى الحجر الاسود عند القرامطة نحو عشرين سنة ولما أخذه القرمطى وساربه الى هجر هلك تحته أربعون جملا فلما أعيد الى مكة حمل على قعود هزيل فسمن تحته* ولما كان الحجر عندهم دفع فيه بحكم التركى خمسين ألف دينار ليردّه الى مكانه فأبوا وقالوا قد أخذناه بأمر ولا نردّه الا بأمر وقد مرّ فى بناء الكعبة* وفيها فى آخر ذى القعدة انقض كوكب عظيم وصار له ضوء عظيم جدّا وفيها هبت ريح شديدة وحملت رملا أحمر شديد الحمرة فعمّ جانبى بغداد وامتلات منه البيوت والدور يشبه رمل طريق مكة كذا فى الكامل* وأما المقتدر فاستمرّ فى الخلافة الى أن قتل فى يوم الاربعاء السابع والعشرين من شوّال سنة عشرين وثلثمائة فى حرب كان بينه وبين مونس من البربر فضربه رجل منهم من خلفه ضربة سقط منها الى الارض فقال له ويحك أنا الخليفة فقال أنت المطلوب وذبحه بالسيف وشال رأسه على رمح ثم سلب ما عليه وبقى مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له فى الموضع ودفن وعفى أثره* وفى سيرة مغلطاى صاحب المقتدر قرناء السوء حتى أخرجوه ليتفرّج على لاعب فى الميدان فاشتغل الناس باللاعب عن حراسة الخليفة فلما رأى اللاعب الناس قد أبعدوا عنه ركض فرسه اليه وطعنه فى صدره بحربة ثم مر اللاعب يطلب دار الخلافة نحو القاهر فعلق به كلاب فى دكان قصاب فخرج الفرس من تحته فبقى معلقا فمات فى الوقت وأحرق وكان قتله يوم الاربعاء لثلاث ليال بقين من شوّال سنة عشرين وثلثمائة وقيل انه قتل فى حرب كانت بينه وبين مونس الخادم الملقب بالمظفر وأعيد بعده الى الخلافة أخوه القاهر* وكانت خلافة المقتدر أوّلا وثانيا وثالثا خمسا وعشرين سنة الا اياما* وفى سيرة مغلطاى كانت خلافته أربعا وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام وقيل وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما انتهى وعاش ثمانيا وعشرين أو ثلاثين سنة وكان سخيا مبذرا يصرف فى كل سنة للحج اكثر من ثلثمائة ألف دينار وكان فى داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير الروم والصقالبة والسود* وقال الصولى كان المقتدر يفرّق يوم عرفة من الابل والبقر أربعين ألف رأس ومن الغنم خمسين ألف رأس ويقال انه أتلف من الذهب ثمانين ألف ألف دينار فى أيامه قال الذهبى انه كان مسرفا مبذرا للمال ناقص الرأى أعطى جارية له الدرّة اليتيمة وزنها

(2/350)


ثلاثة مثاقيل وما كانت تقوّم وخلف عدّة أولاد منهم الراضى بالله والمتقى بالله واسحاق والمطيع لله
*

(خلافة القاهر بالله أبى منصور محمد)
* تخلف ثانيا بعد قتل أخيه جعفر المقتدر بالله فى السابع والعشرين من شوّال سنة عشرين وثلثمائة* وفى سنة احدى وعشرين وثلثمائة مات شيخ الحنفية أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوى المصرى الحنفى أحد الاعلام* وشيخ الاعتزال والضلال أبو هاشم الجبائى وشيخ اللغة والعربية أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد الازدى ببغداد وله ثمان وتسعون سنة* وفيها توفى محمد بن يوسف بن مطر الفربرى بالفاء والراءين المهملتين بينهما باء موحدة وهى قرية من قرى بخارى وكان مولده سنة احدى وثلاثين ومائتين وهو الذى روى صحيح البخارى عنه وكان قد سمعه عشرات ألوف من البخارى فلم ينتشر الا عنه كذا فى الكامل* وكان القاهر هذا قد قرب المنجمين وعمل بقولهم على طريق أبى جعفر المنصور فانه أوّل خليفة قرّبهم وكان عنده نوبخت المنجم وعلى بن عيسى الاسطرلابى وهو أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والاعجمية ككتاب كليلة ودمنة وكتاب أرسطاطاليس فى المنطق واقليدس وكتب اليونان فنظر الناس فيها وتعلقوا بها فلما رأى ذلك محمد بن اسحاق جمع المغازى والسير* قال الصولى كان القاهر سفا كاللدماء قبيح السيرة كثير التلوّن والاستحالة مدمن الخمر ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل وكان قد صنع حربة يأخذها بيده فلا يضعها حتى يقتل بها انسانا* قال محمود الاصبهانى كان سبب خلع القاهر سوء سيرته وسفكه الدماء ولما أساء السيرة وقتل بعضا من الاعيان كالامير أبى السرايا نصر بن أحمد واسحاق بن اسماعيل النوبختى وكان أشار بخلافته وكان أحد الصدور وغيرهم نفرت القلوب منه وكان ابن مقلة مختفيا فبقى يراسل الخاصكية ويجسرهم على القاهر بالله ويخوّفهم من غائلته حتى اتفقوا على الفتك به فركبوا آخر النهار وأتوا الى دار القاهر وكان نائما سكران الى أن طلعت الشمس فنبهوه فلم ينتبه لشدّة سكره وهرب الوزير فى زىّ امرأة وكذا سلامة الحاجب فدخلوا بالسيوف على القاهر فأفاق من سكره وهرب الى سطح حمام واستتر فأتوا مجلس القاهر وفيه عيسى الطبيب وزيرك الخادم واختيار القهرمان فسألوهم عن القاهر فقالوا ما نعرف له خبرا فرسموا عليهم ووقع فى أيديهم خادم القاهر فضربوه فدلهم عليه فجاؤه وهو على السطح وبيده سيف مسلول فقالوا انزل فامتنع فقالوا نحن عبيدك لا تستوحش مناثم فوّق واحد منهم سهما وقال انزل والا قتلتك فنزل اليهم فقبضوا عليه فى سادس جمادى الاخرة من سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة ثم أخرجوا أبا العباس محمد بن المقتدر وأمه من الحبس وبايعوه ولقبوه بالراضى بالله ثم أرسل الراضى بالقاضى وغيره الى القاهر ليخلع نفسه فأبى فعادوا للراضى بالخبر فقال لهم انصرفوا ودعونى واياه فأمسكوا القاهر واكحلوه بمسمار قد حمى بالنار فعمى ودام مسجونا الى أن مات فى جمادى الاولى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة وكانت خلافته سنة وستة أشهر وسبعة أو ثمانية أيام*

(خلافة الراضى بالله أبو العباس محمد بن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولىّ العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين أمه أم ولد رومية تسمى ظلوم ومولده فى سنة سبع وتسعين ومائتين* صفته* كان قصيرا أسمر نحيفا فى وجهه طول بويع بالخلافة بعد عمه القاهر حسبما تقدّم ذكره بعد ما سمل القاهر سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة واستوزر أبا على بن مقلة وكان بديع الخط وفى أيام الراضى ضعف أمر الخلافة حتى لم يبق للخلفاء من البلاد سوى بغداد وما والاها وعظم فى أيامه أمر الحنابلة ببغداد حتى صاروا يكبسون دور الامراء والقوّاد فان وجدوا نبيذا أراقوه او قنية كسروها ثم اعترضوا على الناس فى البيع والشراء قال أبو بكر الخطيب وكان للراضى فضائل منها انه آخر خليفة له شعر مدوّن

(2/351)


وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش وآخر خليفة خطب يوم الجمعة وآخر خليفة جالس الندماء وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدّمين* وفيها مات شيخ العارفين خير النساخ وشيخ الصوفية أبو على الروذآبادى* وفى سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة انقضت الكواكب من أوّل الليل الى آخره انقضاضا دائما كذا فى الكامل وفيها توفى ابراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه النحوى وله مصنفات كذا فى الكامل* وفى سنة أربع وعشرين وثلثمائة مات مقرئ الافاق أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ببغداد وله ثمانون سنة وفيها انخسف القمر جميع جرمه ليلة الجمعة لازبع عشرة خلت من شوّال كذا فى الكامل* وفى سنة خمس وعشرين وثلثمائة مات حافظ وقته عبد الرحمن بن أبى حازم الرازى مصنف التفسير والتاريخ وكان يعدّ من الابدال* وفى سنة ثمان وعشرين وثلثمائة مات الوزير ابن مقلة فى السجن وقد قطعت يده وعاش ستين سنة وتوفى الراضى بالله محمد بن المقتدر فى ليلة السبت لاربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل سنة تسع وعشرين وثلثمائة وله اثنتان وثلاثون سنة وكانت خلافته سنتين وأشهرا* وفى سيرة مغلطاى خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام مرض أياما ثم تقايأ دما كثيرا ومات وكان أكبر آفاته كثرة الجماع صلى بالناس الجمعة بسامرا وخطب فأبلغ وأجاد*

(خلافة المتقى لله أبو اسحاق ابراهيم بن المقتدر جعفر الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد تسمى حلوب مولده سنة سبع وتسعين ومائتين فأبوه أكبر منه بخمس عشرة سنة* صفته* كان أبيض مليحا أشهل كث اللحية وكان صالحا خيرا كثير الصوم والتهجد والتلاوة فى المصحف ولا يشرب مسكرا ولهذا لقبوه بالمتقى لله بويع بالخلافة لما مات أخوه الراضى بالله وفى أيامه ضعفت الدولة وصغرت دائرة الخلافة فان فى زمانه لم يكن يحمل الى بغداد مال من الاقاليم بل كل واحد استولى على قطر ونزل الامير بحكم التركى واسطا وقرّر مع الخليفة أن يحمل اليه فى السنة ثمانمائة ألف دينار وفى أيامه كانت حروب وفتن وزلازل أقامت تعاود الناس ستة أشهر حتى خربت البلاد وفى أيامه فى سنة احدى وثلاثين وثلثمائة أرسل ملك الروم يطلب منه منديلا زعم انّ المسيح مسح به وجهه فصارت صورة وجهه فيه وكان هذا المنديل فى كنيسة الرهبان وأرسل ملك الروم يقول للمتقى ان أرسلت هذا المنديل أطلقت لك عشرة آلاف أسير من المسلمين فأحضر المتقى الفقهاء واستفتاهم فقالوا أرسل اليهم هذا المنديل ففعل وأطلق الاسراء* وفى هذه السنة توفى أبو الحسن على بن أبى اسمعيل بن أبى بشر الاشعرى المتكلم صاحب المذهب المشهور وكان مولده سنة ستين ومائتين وهو من ولد أبى موسى الاشعرى كذا فى الكامل* وفى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة مات الطاغية القرمطى أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الجبانى فى هجر بالجدرى لا رحمه الله* وفى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة جلف توزون التركى للمتقى* وفى سيرة مغلطاى فغدر به توزون فالتقى توزون بالمتقى بين الانبار وهيت فنزل توزون وقبل الارض فأمره المتقى بالركوب فلم يفعل ومشى بين يديه الى المخيم فلما نزل المتقى قبض عليه توزون وعلى ابن مقلة ومن معه ثم كحل المتقى يوم السبت لعشر ليال بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة فصاح المتقى وصاح النساء فأمر توزون بضرب الديارب حول المخيم ساعة ثم أدخل المتقى بغداد مسمول العينين وقد أخذ منه الخاتم والبردة والقضيب وبلغ القاهر الذى كان خلع من الخلافة وسمل فقال صرنا اثنين ونحتاج الى ثالث يعرّض بالمستكفى الذى نصبه توزون بالامس فى الخلافة فكان كما قال كما سيأتى ذكره ثم أحضر توزون عبد الله بن المكتفى وبايعه بالخلافة ولقبه المستكفى بالله وكانت خلافة المتقى نحو أربع سنين وعاش بعد خلعه خمسا وعشرين سنة ودفن فى داره فأخرجه منها عز الدولة ودفنه فى تربة أخرى فامتحن حيا وميتا كذا فى سيرة مغلطاى* وفى دول الاسلام أربعا وعشرين

(2/352)


سنة وأما توزون لما فعل بالمتقى ما فعل لم يحل عليه الحول ومات بالصرع من سنته*

(خلافة المستكفى بالله أبى القاسم عبد الله بن المكتفى بالله على بن المعتضد أحمد الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد تسمى فضة بويع بالخلافة بعد ما كحل المتقى فى عشرين صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة وعمره احدى وأربعون سنة* قال ثابت أحضر توزون عبد الله بن المكتفى وبايعه بالخلافة ولقبه بالمستكفى وفيها مرض توزون بعلة الصرع* وفى سنة أربع وثلاثين وثلثمائة هلك أتابك الجيوش توزون بالصرع بهيت ولقب المستكفى نفسه امام الحق ودخل معز الدولة أحمد بن بويه بغداد وهو أوّل من ملكها من الديلم باذن المستكفى غضبا عليه ودام أشهرا ثم وقعت الوحشة بينه وبين المستكفى فى جمادى الاخرة من سنة أربع وثلاثين وثلثمائة ودخل معز الدولة بحواشيه والامراء على خدمة الخليفة فوقف الناس على مراتبهم فتقدم أميران من الديلم فطلبا من الخليفة رزقهما فمدّ لهما يده على العادة للتقبيل ظنا منه أنهما يريدان تقبيلها فجذباه من السرير وطرحاه الى الارض وجرّاه بعمامته ووقعت الضجة وهجم الديلم دار الخلافة الى الحرم ونهبوا وقبضوا على القهرمانة وخواص الخليفة ومضى معز الدولة الى منزله وساقوا المستكفى ماشيا اليه ولم يبق فى دار الخلافة شئ وخلع المستكفى ثم سملت يومئذ عيناه وهو يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الاخرة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة فصار أعمى ثالث خليفة قد سمل كما أشار اليه القاهر وكانت خلافة المستكفى سنة وأربعة أشهر ويومين وتوفى بعد ذلك فى سنة ثمان وثلاثين وعمره ست وأربعون سنة ثم أحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر جعفر وبايعوه بالخلافة ولقبوه بالمطيع لله*

(ذكر خلافة المطيع لله أبى القاسم الفضل ابن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد تسمى شعلة ومولده فى أوّل سنة احدى وثلثمائة بويع بالخلافة فى سنة أربع وثلاثين وثلثمائة بعد خلع المستكفى وسمله وللمطيع يومئذ أربع وثلاثون سنة وتم أمره فى الخلافة وطالت أيامه وفى أيامه كانت بمصر زلازل عظيمة عاودت الناس أشهرا وخربت بسببها عدّة بلاد وسكنت الناس الصحراء وفى أيامه أمطرت بغداد حصى ورن كل حصاة رطل فقتلت خلقا كثيرا من الناس والدواب والطير وفى أيامه اشتدّ أمر الغلاء حتى أكل لحم الادميين وبيع العقار بالرغفان* قال ابن الجوزى فى أيامه وقع حريق عظيم بمصر أحرقت فيه قيسارية العسل وسوق الزياتين وألف وسبعمائة دار ونادى كافور الاخشيدى من جاء بجرة ماء فله درهم فكان جملة ما انصرف على الماء أربعة عشر ألف دينار وفيها مات الشبلى أبو بكر الزاهد صاحب الاحوال والتأله وتلميذ الجنيد* وفى سنة خمس وثلاثين وثلثمائة مات حافظ ما وراء النهر الهيتم بن كليب الشاشى صاحب المسند* وفى سنة سبع وثلاثين وثلثمائة مات المستكفى بالله الذى خلع وسمل من أربع سنين مات بنفث الدم وله ست وأربعون سنة كما مرّ* وفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة مات القاهر بالله الذى كان خليفة وعزل وكحل وعاش ثلاثا وخمسين سنة وفيها مات أبو نصر محمد بن محمد الفارابى الفيلسوف بدمشق وكان صاحب التصانيف وفيها مات أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق الزجاج النحوى وقيل سنة أربعين وفيها أعادت القرامطة الحجر الاسود الى مكة* وفى سيرة مغلطاى أعيد الحجر الاسود الى موضعه فى ذى الحجة انتهى وقالوا أخذناه بأمر وأعدناه بأمر وكان بحكم بذل لهم فى ردّه خمسين ألف دينار فلم يجيبوه وردّوه الان بغير شئ فى ذى القعدة ولما أرادوا ردّه حملوه الى الكوفة وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس ثم ردّوه الى مكة وكانوا أخذوه من ركن بيت الله الحرام سنة سبع عشرة وثلثمائة فكان مكثه عندهم اثنين وعشرين سنة

(2/353)


الا شهرا كذا فى الكامل* وفى سنة ست وأربعين وثلثمائة قال ابن الجوزى كان بالرّى زلزلة عظيمة وخسف ببلد الطالقان ولم يفلت من أهلها الا نحو ثلاثين وخسف بخمسين ومائة قرية قال وعلقت قرية بين السماء والارض نصف يوم ثم خسف بها هكذا ذكره فى المنتظم* وزاد بعضهم ورد بذلك محاضر شرعية وقال وصارت كلها نارا وانقطعت الارض وخرج منها دخان عظيم وقذفت الارض جميع ما فى بطنها حتى عظام الموتى من القبور* وفى الكامل ودامت الزلزلة نحو أربعين يوما تسكن وتعود فهدمت الابنية وغارت المياه وهلك تحت الهدم من الامم كثير وكذلك كانت ببلاد الجبال وقم ونواحيها زلازل كثيرة متتابعة وفيها نقص البحر ثمانين ذراعا فظهر فيه جزائر وجبال لم تعرف قبل ذلك* وفى سنة سبع وأربعين وثلثمائة مات عبد الله بن جعفر بن درستويه أبو محمد الفارسى النحوى فى صفر وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين أخذ النحو عن المبرّد* وفى سنة تسع وأربعين وثلثمائة أسلم من الترك مائتا ألف وحضروا الى دار الاسلام بأهليهم وأموالهم وفيها انصرف حجاج مصر من الحج فنزلوا واديا وباتوا فيه فأتاهم السيل ليلا فأخذهم جميعهم مع أثقالهم وأحمالهم فألقاهم فى البحر* وفى سنة احدى وخمسين وثلثمائة توفى أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقرى صاحب كتاب شفاء الصدور فى التفسير ذكرهما فى الكامل* وفى سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة أرسل بطارقة الارمن الى ناصر الدولة ابن حمدان رجلين ملتصقين من تحت ابطيهما ولهما بطنان وسرتان وفرجان ومقعدان وكل منهما كامل الاطراف فأراد ناصر الدولة افصالهما فأحضر الاطباء فسألوهما هل تجوعان جميعا وتعطشان معا قالا نعم فقال الاطباء متى فصلناهما ماتا* وفى سنة أربع وخمسين وثلثمائة مات شاعر العصر أبو الطيب المتنبى وله احدى وخمسون سنة وعالم وقته أبو حاتم محمد بن حبان التميمى النسائى الحافظ صاحب التصانيف وقد قارب ثمانين سنة* وفى سنة خمس وخمسين وثلثمائة انخسف القمر جميعه ليلة السبت ثالث عشر شعبان وغاب منخسفا كذا فى الكامل* وفى سنة سبع وخمسين وثلثمائة توفى المتقى لله بن المقتدر الذى كان خليفة وخلعوه مات فى السجن* وفى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ليلة الخميس رابع عشر رجب انخسف القمر جميعه وغاب منخسفا وفيها قدم جوهر القائد غلام المعز لدين الله صاحب القيروان مصر فأقام الدعوة بها للمعز لدين الله وبايعه الناس وانقطعت الخطبة بمصر عن بنى العباس وشرع جوهر القائد فى بناء القاهرة لاسكان الجند بها ثم دخل المعز لدين الله مصر لثمان مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة وهو أوّل الخلفاء الفاطمية بمصر كذا فى حياة الحيوان* وفى سنة ستين وثلثمائة انفلج المطيع لله أمير المؤمنين وثقل لسانه وفيها توفى مسند الدنيا الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبرانى بأصبهان وله مائة سنة وشهران* وفى سنة احدى وستين فى صفر انقض كوكب عظيم له نور وسمع له عند انقضاضه صوت كالرعد وبقى ضوءه كذا فى الكامل* واستمرّ المطيع لله فى الخلافة الى سنة ثلاث وستين وثلثمائة ففيها ظهر ما كان يستره من مرضه وتعذرت الحركة وثقل لسانه من الفالج الذى اعتراه فدخل عليه الصاحب عز الدولة سبكتكين ودعاه الى خلع نفسه من الخلافة وتسليم الامر الى ابنه الطائع ففعل ذلك وعقد للطائع يوم الاربعاء ثالث عشر ذى الحجة من سنة ثلاث وستين وثلثمائة فكانت مدّة خلافة المطيع تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وعشرين يوما وصار المطيع بعد أن خلع من الخلافة يسمى الشيخ الفاضل وصار فى خلافة ولده مكرما الى ان مات بعد أشهر* وفى سيرة مغلطاى توفى يوم الاثنين لثمان بقين من المحرم سنة أربع وستين وثلثمائة*

(خلافة الطائع لله أبى بكر عبد الكريم بن المطيع الفضل بن المقتدر الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين وهو السادس فخلع أمّه أمّ ولد تسمى غيب* صفته* كان مربوع القامة

(2/354)


كبير الانف أبيض أصفر* وفى دول الاسلام كان أشقر مربوعا شديد القوى فى أخلاقه حدّة بويع بالخلافة لما خلع أبوه المطيع نفسه من الخلافة فى سادس ذى الحجة* وفى سيرة مغلطاى فى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلثمائة وعمره سبع وأربعون سنة واستخلف فى حياة أبيه يقال لم يتقلد الخلافة وأبوه حىّ سوى الطائع لله والصدّيق وكلاهما اسمه أبو بكر كذا فى حياة الحيوان* قال الذهبى أثبتوا خلع المطيع لله على قاضى العراق أبى الحسين بن أم شيبان والنزول عن الخلافة لولده عبد الكريم ولقبوه بالطائع لله* قال أبو الفرج بن الجوزى ولما ولى الطائع الخلافة ركب وعليه البردة ومعه الجيش وبين يديه سبكتكين الحاجب وعقد له اللواء*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة الطائع لله
وفى سنة أربع وستين وثلثمائة مات الحافظ أبو بكر السنى صاحب النسائى بالدينور والامير سبكتكين حاجب معز الدولة وخلف ثلاثين ألف ألف درهم وثلاثة آلاف فرس وجواهر وفيها مات المطيع لله الفضل بن المقتدر والد أمير المؤمنين الطائع لله وله ثلاث وستون سنة وقد خلع نفسه طائعا للطائع لله* وفى سنة خمس وستين وثلثمائة مات حافظ خراسان الحسين بن محمد الماسرجسى عن ثمان وستين سنة وله المسند الكبير المعلل فى ألف وثلثمائة جزء يكون سبعين مجلدا وكان يحفظ كتاب الزهرى مثل الماء وفيها توفى أبو بكر بن محمد بن على الشاشى القفال شيخ الشافعية وفيها فى ذى القعدة توفى ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابى صاحب التاريخ وفى سنة سبع وستين وثلثمائة ظهر بافريقية فى السماء حمرة بين المشرق والشمال مثل لهب النار فخرج الناس يدعون الله تعالى ويتضرعون اليه كذا فى الكامل* وفى سنة ثمان وستين وثلثمائة مات شيخ النحو أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافى النحوى مصنف شرح كتاب سيبويه وكان فقيها فاضلا مهندسا منطقيا فيه كل فضيلة وله أربع وثمانون سنة* وفى سنة تسع وستين وثلثمائة مات قاضى القضاة أبو الحسن بن محمد بن صالح الهاشمى بن أمّ شيبان ببغداد فجاءة* وفى سنة سبعين وثلثمائة ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة عنبر وزنها ستة وخمسون رطلا وفيها توفى أبو بكر أحمد بن على الرازى امام الفقهاء فى زمانه وطلب ليلى قضاء القضاة فامتنع وهو من أصحاب الكرخى كذا فى الكامل وفى سنة احدى وسبعين وثلثمائة مات شيخ العلماء أبو زيد المروزى الشافعى الزاهد محمد بن أحمد شيخ أبى بكر القفال وشيخ الصوفية محمد بن يوسف الخفيف الشيرازى وقد جاوز المائة
*

غريبة
وفى سنة خمس وسبعين وثلثمائة خرج طير من البحر بعمان ولونه أبيض قدر الفيل ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال ولسان فصيح قد قرب الامر ثلاث مرّات ثم غاص فى البحر وطلع فى اليوم الثانى وقال مثل ذلك ثم طلع فى اليوم الثالث وقال مثل ذلك ثم غاب فلم يطلع ولم ير بعد ذلك واستمرّ الطائع الى سنة احدى وثمانين وثلثمائة فلما كان فى شعبان من السنة المذكورة خلع الطائع من الخلافة وأظهر أمر القادر بالله وانه الخليفة ونودى له فى الاسواق وكتب عن الطائع كتابا بخلع نفسه وأنه سلم الامر الى القادر بالله وشهد عليه الاكابر والاشراف وعاش الطائع بعد ذلك الى أن مات سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وكانت خلافته نحو ثمان عشرة سنة* وفى سيرة مغلطاى أقام فى الخلافة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر وستة أيام* وفى دول الاسلام ومدّة خلافته أربع وعشرون سنة وعاش ثلاثا وسبعين سنة*

(خلافة القادر بالله أبو العباس أحمد بن الامير اسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد بن ولىّ العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون العباسى الهاشمى البغدادى)
* أمير المؤمنين وأمه أم ولد تسمى يمن مولاة عبد الواحد بن المقتدر وكانت دينة خيرة ومولده فى سنة ست وثلاثين وثلثمائة* صفته* كان أبيض كث اللحية كبيرها طويلها يخضب بالسواد بويع بالخلافة فى حادى عشر شهر رمضان سنة احدى وثمانين وكان من أهل

(2/355)


الستر والصيانة دائم التهجد كثير الصدقات وكان لديه فضل وفقه وله مصنف فى السنة وذم المعتزلة والروافض وصنف كتابا فى الاصول ذكر فيه فضائل الصحابة واكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن وكان ذلك الكتاب يقرأ فى كل جمعة فى حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدى بحضرة الناس مدّة خلافته وهى احدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر وفى أيامه أحضر الى بغداد برجل من يأجوج ومأجوج قد ألقته الريح من فوق السد طوله ذراع ولحيته شبران وله اذنان عظيمتان فطافوا به مدينة بغداد حتى رآه الناس*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافة القادر بالله
وفى سنة خمس وثمانين وثلثمائة مات حافظ العصر أبو الحسن بن على بن عمر الدار قطنى ببغداد فى ذى القعدة وله ثمانون سنة والحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين البغدادى الحافظ المفسر صاحب التاليف ومن كتبه التفسير ألف جزء والمسند ألف وثلثمائة جزء* وفى سنة ست وثمانين وثلثمائة مات شيخ الصوفية أبو طالب المكى صاحب قوت القلوب* وفى سنة تسع وثمانين وثلثمائة عاشر ربيع الاوّل انقض كوكب عظيم ضحوة نهار كذا فى الكامل* وفى سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة مات امام العربية أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلى وهو فى عشر السبعين* وفى سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة مات امام اللغة وصاحب الصحاح أبو نصر اسماعيل بن حماد الجوهرى التركى قيل انه غلبت عليه السوداء بحيث انه عمل لنفسه جناحين ليطير فطفر فسقط وكسر فهلك وفيها مات الطائع لله عبد الكريم بن المطيع لله بن المقتدر العباسى الذى خلع فى سنة احدى وثمانين وثلثمائة ولم يردّوه بل بقى محترما مكرّما عند ابن عمه القادر بالله* وفى سنة أربع وتسعين وثلثمائة مات مسند الاندلس محمد بن عبد الملك بن صيفون القرطبى وكان قد رحل ولقى بمكة ابن الاعرابى* وفى سنة خمس وتسعين وثلثمائة مات مسند خراسان أبو الحسين أحمد بن محمد الخفاف صاحب السراج وحافظ أصبهان أبو عبد الله محمد بن اسحاق بن منده العبدى صاحب التصانيف وقد قارب التسعين وكان قد سمع من ألف وسبعمائة شيخ* وفى الكامل أورد وفاته سنة ست وتسعين وثلثمائة* وفى سنة ثمان وتسعين وثلثمائة وقع ثلج عظيم ببغداد وبقى أسبوعا لم يذب وكان سمكه ذراعا وكان شئ لم يعهد ببغداد وبقى فى الطرق نحو عشرين يوما كذا فى الكامل وفيها زلزلت الدينور فهلك تحت الردم اكثر من عشرة آلاف ووقع برد عظيم وزنت منه بردة مائة وستة دراهم وفيها هدم الحاكم كنيسة القمامة بالقدس وكان فيها من الا اموال والجواهر مالا يوصف وألزم النصارى بتعليق صلبان كبار على صدورهم وزن كل صليب رطل بالدمشقى وألزم اليهود بتعليق مثل رأس العجل كالمدقة وزنها رطل ونصف وأن يشدّوا الاجراس فى رقابهم عند دخول الحمامات* وفى سنة اربعمائة تزهد الحاكم وتأله وأنشأ دار العلم بمصر وعمر الجامع الحاكمى فدعا له الرعية فبقى كذلك ثلاث سنين ثم تزيذق وأخذ يقتل العلماء ومنع من فعل الخير وبطل تلك الدار* وفى سنة ثلاث وأربعمائة مات عالم العراق القاضى أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانى المالكى الأصولى قال الخطيب كان ورده عشرين ترويحة فاذا فرغ كتب من تصنيفه خمسا وثلاثين ورقة وكانت له بجامع المنصور حلقة عظيمة* وفى سنة خمس وأربعمائة مات حافظ زمانه الحاكم بنيسابور وولد بها سنة احدى وعشرين وثلثمائة* وفى سنة ست وأربعمائة مات شيخ الشافعية وعالم العراق أبو حامد أحمد بن أبى طاهر الاسفراينى وله اثنتان وستون سنة وكان يحضره بحلب سبعمائة فقيه وتعليقته الكبرى نحو من خمسين مجلدا* وفى أيامه سنة عشر وأربعمائة غزا السلطان محمود بن سبكتكين بلاد الهند وفتح بلادا كثيرة وقتل من الكفار خمسين ألفا وأسلم نحو عشرين ألفا وغنم أموالا عظيمة وحصل من الفضة نحو عشرين ألف ألف درهم وكان جيشه ثلاثين ألف فارس وأهدى الى القادر منها هدية جليلة فيها صنم من ذهب

(2/356)


وزنه أربعمائة رطل وقطعة ياقوت أحمر فى صورة امرأة وزنها ستون مثقالا وهى تضىء كالقنديل وفى سنة احدى عشرة وأربعمائة فى شهر ربيع الاوّل نشأت سحابة بافريقية شديدة البرق والرعد فأمطرت حجارة كثيرة ما رأت الناس اكثر منها فأهلكت كل من أصابته* وفى سنة اثنتى عشرة وأربعمائة توفى أبو الحسين بن على الدقاق النيسابورى الصوفى شيخ أبى القاسم القشيرى كذا فى الكامل* وفى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة تقدّم اسماعيل فضرب الحجر الاسود بدبوس غير مرة فقتل فى الحال وكان يقول الى متى نعبد الحجر ولا محمد ولا على ليمنعنى فاليوم أهدم هذا البيت وكان أحمر أشقر طويلا ضخما فطعنه رجل بخنجر وأحرق ثم قتلوا جماعة اتهموا بأنهم معه ومال الناس على ركب مصر بالنهب وفيها مات ابن البوّاب صاحب الخط الفائق على بن هلال ببغداد* وفى سنة ثمان عشرة وأربعمائة مات ابن اسحاق الاسفراينى الاصولى* وفى هذه السنة سقط فى العراق جميعه برد كبار تكون الواحدة رطلا ورطلين وأصغره كالبيضة فأهلك الغلات ولم يصح منها الا القليل وفيها فى آخر تشرين الثانى هب ريح بارد بالعراق جمد منها الماء وبطل دوران الدواليب على دجلة كذا فى الكامل* وفى سنة عشرين وأربعمائة وقع ببغداد البرد الكبار المفرط القدر حتى قيل ان بردة يزيد وزنها على قنطار بالبغدادى وقد نزلت فى الارض نحوا من ذراع وذلك بالارض النعمانية* وفيها توفى قسطنطين ملك الروم وانتقل الملك الى بنت له فقامت بتدبير الملك وفيها انقض كوكب عظيم فى رجب أضاءت منه الارض وسمع له صوت عظيم كالرعد وتقطع أربع قطع وانقض بعده بليلتين كوكب آخر دونه وانقض بعده اكبر منهما واكثر ضوء كذا فى الكامل* وفى سنة احدى وعشرين وأربعمائة افتتح سلطان خراسان محمود بن سبكتكين غزنة وبخارى وسمرقند والهند ثم استولى على خراسان ودانت له الامم وفرض على نفسه غزو الهند كل عام وطالت أيام الخليفة القادر بالله الى أن توفى ليلة الاثنين حادى عشر ذى الحجة* وفى سيرة مغلطاى ذى القعدة سنة اثنتين وعشرين وقيل ثلاث وعشرين وأربعمائة وخلافته احدى وأربعون سنة ويقال ثلاثا وأربعين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما وعاش سبعا وثمانين سنة الاشهر او ثمانية أيام ودفن بدار الخلافة وصلى عليه ولده الخليفة القائم بأمر الله والخلق ورآءه ولم يزل مدفونا حتى نقل تابوته فى مركب ليلا الى الرصافة فدفن بعد عشرة أشهر من موته وكان من أحسن الخلق سيرة*

(خلافة القائم بأمر الله أبى جعفر عبد الله بن القادر أحمد بن الامير اسحق بن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولىّ العهد الموفق طلحة بن المتوكل)
* الهاشمى العباسى البغدادى أمه أم ولد تسمى قطن* صفته* كان مليح الوجه أبيض فيه دين وخير وعدل وشفقة ومعرفة بالادب بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه القادر فى ذى الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وتم أمره فى الخلافة*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافته وما وقع من الغرائب فى زمنه
وفى سنة سبع وعشرين وأربعمائة مات أبو اسحاق أحمد بن ابراهيم النيسابورى الثعلبى المفسر وفى هذه السنة فى رجب انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد فى آخره مثل التنين يضرب الى السواد وبقى ساعة وذهب وفيها كانت ظلمة عظيمة اشتدّت حتى انّ الانسان كاد لا يبصر جليسه وأخذ بأنفاس الخلق فلو تأخر انكشافها لهلك أكثرهم ذكره فى الكامل وفى أيامه فى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وقع غلاء عظيم عم الدنيا كلها شرقا وغربا حتى لم يبق من الناس فى كل بلد الا القليل وفيها مات شيخ الحنفية أبو الحسن أحمد القدورى البغدادى وله ست وستون سنة وشيخ الفلسفة والطب الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا البلخى الاصل البخارى المولد عاش ثلاثا وخمسين سنة* قال ابن خلكان اغتسل وتاب وتصدّق بماله وأعتق غلمانه وجعل يختم فى كل ثلاث ومات بهمدان فى يوم

(2/357)


جمعة فلعله رحم* وفى سنة ثلاثين وأربعمائة مات حافط أصبهان أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الاصبهانى الصوفى الاحول صاحب الحلية فى المحرم وله أربع وتسعون سنة* وفى سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وقعت زلازل عظيمة بالقيروان وبلاد افريقية وخسف ببعض بلاد القيروان وطلع من الخسف دخان عظيم اتصل بالجوّ ووقع ببلاد خوزستان قطعة حديد من الهواء وزنها مائة وخمسون منا فكان لها دوى عظيم أسقط منها الحوامل فأخذها السلطان وأراد ان يعمل منها سيفا فكانت الالات لا تعمل فيها وكل آلة ضربوها بها تكسرت* وفى سنة أربع وثلاثين وأربعمائة كانت ببلاد توريز زلزلة عظيمة هدمتها كلها حتى القلعة والسور ومات تحت الردم بقدر مائة ألف انسان ولبس أهلها المسوح وتضرعوا الى الله لعظم هذه النازلة* وفى سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة فى ذى القعدة توفى عبد الله بن يوسف أبو محمد الجوينى والد امام الحرمين أبى المعالى وكان اماما للشافعية تفقه على أبى الطيب سهل بن محمد الصعلوكى* وفى سنة أربعين وأربعمائة توفى عبيد الله بن عمر بن أحمد بن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين ومولده سنة احدى وخمسين وثلثمائة* وفى سنة احدى وأربعين فى ذى الحجة ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلا فزادت ظلمتها على ظلمة الليل وظهر فى جوانب السماء كالنار المضطرمة وهبت معها ريح شديدة قلعت رواشن دار الخلافة وشاهد الناس من ذلك ما أزعجهم وخوّفهم فلزموا الدعاء والتضرّع فانكشفت فى باقى الليل* وفى سنة سبع وأربعين وأربعمائة فى شوالها توفى قاضى القضاة أبو عبد الله الحسين بن على بن مأكولا ومولده سنة ثمان وستين وثلثمائة وبقى فى القضاء تسعا وعشرين سنة وكان شافعيا ورعا نزها أمينا* وفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة فى ربيع الاوّل توفى اياز بن انماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين وأخباره معه مشهورة كذا فى الكامل* وفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة كان الوباء المفرط بما وراء النهر حتى قيل انه مات فى الوباء ألف ألف وستمائة ألف نفس* وفى سنة خمسين وأربعمائة توفى أقضى القضاة أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى الشافعى صاحب التصانيف الكثيرة منها الحاوى وغيره فى علوم كثيرة وكان عمره ستا وثمانين سنة* وفى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة فى جمادى الاولى انكسفت الشمس جميعها وظهرت الكواكب وأظلمت الدنيا وسقطت الطيور الطائرة* وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة توفى القاضى أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعى مصنف كتاب الشهاب بمصر كذا فى الكامل* وفى سنة ست وخمسين وأربعمائة مات عالم الاندلس أبو محمد على بن أحمد ابن حزم القرطبى الفقيه الظاهرى صاحب التصانيف وله اثنتان وسبعون سنة* وفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة كانت زلزلة عظيمة بخراسان تكرّرت أياما وتشققت منها الجبال وخسف بعدّة قرى وهلك خلق كثير نقله ابن الاثير قال وفيها ولدت ببغداد بباب الازج بنت لها رأسان ووجهان ورقبتان على بدن واحد وفيها مات بنيسابور عالم خراسان الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى صاحب التصانيف وله أربع وسبعون سنة وكانت ولادته سنة سبع وثلاثين وثلثمائة* وفى سنة ستين وأربعمائة كانت الزلزلة العظمى بالرملة ومصر والشام حتى طلع الماء من رؤس الابار وهلك من أهلها كما نقل ابن الاثير خمسة وعشرون ألفا وزال البحر عن الساحل فنزل الناس يلتقطون السمك منه فرجع عليهم البحر فغرقوا جميعا* وفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة فى ذى الحجة توفى ببغداد الخطيب أبو بكر أحمد بن على بن ثابت البغدادى صاحب التاريخ والمصنفات الكثيرة وكان امام الدنيا فى زمانه وممن حمل جنازته الشيخ أبو اسحاق الشيرازى* وفى سنة خمس وستين وأربعمائة توفى الامام ابو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى النيسابورى مصنف الرسالة وغيرها وكان اماما فقيها أصوليا مفسرا

(2/358)


كاتبا ذا فضائل جمة وكان له فرس قد أهدى اليه فركبه نحو عشرين سنة فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئا وعاش أسبوعا ومات* وفى سنة ست وستين وأربعمائة فى ربيع الاوّل توفى القاضى أبو الحسين ابن أبى جعفر السمنانى حمو قاضى القضاة أبى عبد الله الدامغانى وولى ابنه أبو الحسين ما كان اليه من القضاء بالعراق والموصل وكان مولده سنة أربع وثمانين وثلثمائة وكان هو وأبوه من المغالين فى مذهب الاشعرى ولابنه فيه تصانيف كثيرة وهذا مما يستظرف أن يكون حنفى أشعريا وفيها فى جمادى الاخرة توفى عبد العزيز أحمد بن محمد بن على أبو محمد الكنانى الدمشقى الحافظ وكان مكثرا من الحديث ثقة وممن سمع منه الخطيب أبو بكر البغدادى* وفى سنة سبع وستين وأربعمائة فى شوالها وقعت نار فى دكان خباز بنهر المعلى وأحرقت من السوق ثمانين دكانا سوى الدور ثم وقعت نار فى المأمونية ثم فى المظفرية ثم فى درب المطبخ ثم فى دار الخلافة ثم فى حمام السمرقندى ثم فى باب الازج ودرب فراشا ثم فى الجانب الغربى فى نهر طابق ونهر القلايين والقطيعة وباب البصرة فاحترق ما لا يحصى وفيها أيضا أعمل الرصد للسلطان ملك شاه واجتمع جماعة من أعيان المنجمين فى عمله منهم عمر بن ابراهيم الخيامى ومنهم أبو المظفر الاسفراينى وميمون ابن النجيب الواسطى وغيرهم وخرج عليه من الاموال شئ عظيم وبقى الرصد دائرا الى ان مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة ثم بطل ذكره فى الكامل وفى سيرة مغلطاى وفى أيامه قطعت خطبة المصريين بحران وأقيمت له وأسلم من كفار الترك ثلاثون ألف خركاه ودخل أبو طالب محمد بن طغرابك بن ميكائيل بن سلجوق بغداد وخطب للمستنصر ببغداد بجامع المنصور أربعين جمعة وزيد فى الاذان حىّ على خير العمل وطالت مدّة القائم فى الخلافة الى أن مات فى ليلة الخميس الثالث والعشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة فكانت مدّة خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أو تسعة أشهر الا خمسة أيام وعمره سبع وسبعون سنة وتخلف بعده حفيده فانه لم يخلف أولاد القلة الجماع قيل انه كان مرّة بجامع فرأى خياله فى ضوء الشمعة فاستقبح ذلك وترك الجماع فقل نسله لذلك*

(خلافة المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله بن الامير محمد الذخيرة بن القائم عبد الله بن القادر أحمد بن الامير اسحاق بن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن ولى العهد الموفق طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد تسمى أرجو ان ولد يوم مات أبوه ذخيرة الدين محمد ورباه جدّه القائم ولما كبر عهد اليه* وفى دول الاسلام ولد بعد موت أبيه الذخيرة بستة أشهر بويع بالخلافة بعد موت جدّه القائم فى شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة وفى دول الاسلام لما مرض القائم بأمر الله افتصد فانفجر فصاده وخرج منه دم عظيم فحارت قوّته فطلب ابن ابنه الامير عبد الله بن محمد وعهد اليه الامر ولقبه المقتدى بأمر الله بمحضر قاضى القضاة الدامغانى وأبى اسحاق صاحب التنبيه وأبى نصر بن الصباغ وأبى جعفر بن أبى موسى الهاشمى وتم أمره فى الخلافة وطالت أيامه وحسنت وظهر فى أيامه آثار حسنة غير انه ظهر فى أيامه زلازل كثيرة بعدة أقاليم حتى خربت أكثر البلاد وفارقت الناس الدور وسكنت البرارى* وفى سنة ثمان وستين وأربعمائة توفى أبو الحسن على بن محمد بن منوية الواحدى المفسر مصنف البسيط والوسيط والوجيز فى التفسير وهو نيسابورى امام مشهور*

ذكر من مات من المشاهير فى خلافته
وفى سنة خمس وسبعين وأربعمائة توفى أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن اسحاق بن منده الاصفهانى فى جمادى الاخرة فى أصفهان وكان حافظا فاضلا* وفى سنة ست وسبعين وأربعمائة فى جمادى الاخرة توفى الشيخ أبو اسحاق الشيرازى وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وكان واحد عصره علما وزهدا وعبادة وسخاء وصلى عليه فى جامع القصر وجلس أصحابه للعزاء فى المدرسة النظامية ثلاثة أيام ودفن بباب

(2/359)


نيرز كذا فى الكامل* وفى سنة احدى وسبعين وأربعمائة مات امام النحاة أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى صاحب التصانيف* وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة مات شيخ الصوفية أبو على الفارمدى صاحب القشيرى وفى هذه السنة فى صفر انقض كوكب من المشرق الى المغرب كان حجمه كالقمر وضوءه كضوئه وسار مدى بعيدا على تمهل وتؤدة فى نحو ساعة ولم يكن له شبيه من الكواكب وفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة مات شيخ الشافعية أبو سعيد المتولى عبد الرحمن بن مأمون النيسابورى وعالم زمانه امام الحرمين أبو المعالى عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوينى الشافعى بنيسابور وله تسع وخمسون سنة ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة وشيخ الحنفية قاضى القضاة أبو عبد الله محمد بن على الدامغانى ببغداد وله ثمانون سنة* وفى سنة ثمانين وفى الكامل احدى وثمانين وأربعمائة مات شيخ الاسلام أبو اسماعيل عبد الله بن محمد الانصارى الهروى الواعظ المحدّث صاحب التصانيف وقد نيف على الثمانين وفى سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة مات شيخ الحنفية بما وراء النهر أبو بكر خواهرزاده البخارى وطريقته أبسط طريقة للاصحاب* وفى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة توفى الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبى الحديد السلمى خطيب دمشق فى ذى الحجة ودام المقتدى فى الخلافة الى ان توفى ببغداد فى النصف من المحرّم سنة سبع وثمانين وأربعمائة وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر الا يومين* قال الذهبى ثلاثة أشهر مات فجأة وهو ابن تسع وثلاثين سنة ويقال انّ جاريته سمته وقد كان السلطان صمم على اخراجه من بغداد الى البصرة وكانت حرمته وافرة بخلاف الخلفاء قبله وتخلف بعده ابنه المستظهر*

(خلافة المستظهر بالله أبى العباس أحمد بن المقتدى بالله عبد الله)
* وقد مرّ نسب هؤلاء الخلفاء فى مواضع كثيرة فلا حاجة الى ذكرها هنا وفيما يأتى الا لضرورة* أمه أم ولد تركية اسمها التون وعاشت الى خلافة ابن ابن ابنها المسترشد* قال ابن الاثير كان المستظهر لين الجانب كريم الاخلاق يسارع فى أعمال البرّ وكانت أيامه أيام سرور للرّعية وكان حسن الخط جيد التوقيعات لا يقاومه فيها أحد بويع بالخلافة يوم مات أبوه فى محرّم سنة سبع وثمانين وأربعمائة*

ذكر من مات من المشاهير فى زمنه
وفى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة توفى محدث بغداد الحافظ أبو الفضل أحمد بن الحسن بن حيرون وله اثنتان وثمانون سنة* وفى هذه السنة توجه الامام أبو حامد الغزالى الى الشأم وزار القدس وترك التدريس فى النظامية واستناب أخاه وتزهد ولبس الخشن وأكل الدون وفى هذه السفرة صنف احياء علوم الدين وسمع منه الخلق الكثير بدمشق وعاد الى بغداد بعد ما حج فى السنة الثالثة وسار الى خراسان* وفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة اجتمع ستة كواكب فى برج الحوت وهى الشمس والقمر والمشترى والزهرة والمريخ وعطارد فحكم المنجمون بطوفان يكون فى الناس يقارب طوفان نوح فأحضر الخليفة المستظهر بالله ابن عبسون المنجم فسأله فقال انّ فى طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة فى برج الحوت والان قد اجتمع ستة منها ليس فيها زحل فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح* ولكن أقول انّ مدينة أو بقعة من الارض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة فيغرقون فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها من البلاد فأحكمت المسناة والمواضع التى يخشى منها الانفجار والغرق فاتفق انّ الحجاج نزلوا فى دار المناقب بعد نخله فأناهم سيل عظيم فغرق أكثرهم ونجا من تعلق بالجبال وذهب المال والدواب والارواد وغير ذلك فخلع الخليفة على المنجم* وفى هذه السنة ابتداء دولة محمد خوارزم شاه ذكره فى الكامل*

عجيبة فى ذكر صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس
قال ابن الجوزى وظهر فى هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس وبالغ الناس فى الحيل ليعلموا حالها فلم يعلموا* قال ابن عقيل أشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام حتى انها كانت تسأل

(2/360)


عن نقوش الخواتم وألوان الفصوص وصفات الاشخاص وما فى داخل البنادق من الشمع والطين وأنواع الخرز وبالغ واحد ووضع يده على ذكره فقيل لها ما الذى فى يده قالت يحمله الى أهله وعياله وفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة توفى فى ربيع الاوّل منها محمد بن على بن عبيد الله بن أحمد بن صالح ابن سليمان بن ودعان أبو النصر القاضى الموصلى وهو صاحب الاربعين الودعانية وقد تكلموا فيها فقيل انها سرقها وكانت تصنيف زيد بن رفاعة الهاشمى والغالب على حديثه المناكير كذا فى الكامل وفى أيام المستظهر توفى ملك شاه بخراسان وجلس ابنه سنجر مكانه وملك الفرنج انطاكية وسميساط والرها وبيت المقدس كذا فى سيرة مغلطاى* وفى سنة اثنتين وخمسمائة قتلت الاسماعيلية شيخ الشافعية أبا المحاسن الرويانى صاحب كتاب البحر وله ست وثمانون سنة وكان يقول لو عدمت كتب الشافعية أمليتها من حفظى ومات المستظهر فى يوم الاربعاء الثالث والعشرين من ربيع الاخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة وخلافته أربع وعشرون سنة وثلاثة أشهر* وفى سيرة مغلطاى مكث فى الخلافة خمسا وعشرين سنة وتوفى ليلة الاحد السابع والعشرين من ربيع الاخر مات بعلة التراقى وهى الخوانيق وغسله شيخ الحنابلة ابن عقيل وخلف عدّة أولاد وتخلف بعده ابنه المسترشد بالله*

(خلافة المسترشد بالله أبى منصور الفضل بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد بن المقتدى أبى القاسم عبد الله الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد تسمى لبابة ومولده فى حدود سنة خمس وثمانين وأربعمائة بويع بالخلافة بعد موت أبيه فى شهر ربيع الاخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة وكان شجاعا ذا نعمة ومعرفة وعقل وكان دينا مشتغلا بالعبادة سلك من الخلافة سيرة القادر وقرأ القرآن وسمع الحديث وقال الشعر وفى أيامه مات شيخ الحنفية شمس الائمة أبو الفضل بكر بن محمد الانصارى الجابرى البخارى الزنجرى وكان يضرب به المثل فى حفظ المذهب وعاش خمسا وثمانين سنة وتفقه على شمس الائمة السرخسى* وفى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة مات قاضى القضاة ببغداد أبو الحسن على ابن قاضى القضاة محمد بن على الدامغانى الحنفى وله أربع وستون سنة* وفى سنة أربع عشرة وخمسمائة ظهر قبر ابراهيم الخليل وقبور ولديه اسحاق ويعقوب عليهم السلام بالقرب من البيت المقدس ورآهم كثير من الناس لم تبل أجسادهم وعندهم فى المغارة قناديل من ذهب وفضة كذا ذكره أحمد بن أسد بن على بن محمد التميمى فى تاريخه والله أعلم* وفى هذه السنة ظهر معدن نحاس بديار بكر قريبا من قلعة ذى القرنين كذا فى الكامل* وفى سنة ست عشرة وخمسمائة توفى محيى السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوى الشافعى صاحب التصانيف وقد نيف على السبعين ومصنف المقامات أبو محمد القاسم بن على بن محمد البصرى الحزيرى وفيها تضعضع الركن اليمانى من البيت الحرام زاده الله شرفا من زلزلة وانهدم بعضه وتشعب بعض حرم النبىّ صلى الله عليه وسلم وتشعب غيرهما من البلاد* وفى سنة سبع عشرة وخمسمائة توفى عبد الله بن الحسين بن أحمد بن الحسين أبو نعيم بن أبى على الحدّاد الاصفهانى ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة وهو من أعيان المحدّثين سافر الكثير فى طلب الحديث* وفى سنة عشرين وخمسمائة توفى أبو الفتح أحمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الواعظ وهو اخو الامام أبى حامد وقد ذمه أبو الفرج ابن الجوزى بأشياء كثيرة منها روايته فى وعظ الاحاديث التى ليست بصحيحة والعجب أنه يقدح فيه بهذا وتصانيفه ووعظه مشحونة مملوءة به نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الوقيعة فى الناس* وفى سنة أربع وعشرين وخمسمائة ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد واذى عظيم كذا فى الكامل* وكان المسترشد لما تغير أحوال مملكته صار يباشر القتال بنفسه فمات قتيلا فى سابع عشر ذى القعدة سنة تسع وعشرين

(2/361)


وخمسمائة وسببه انه خرج فى عساكر لقتال مسعود بن محمد شاه بن ملك شاه السلجوقى فخالف عسكره فانكسروا وانهزم فأرسل سنجر شاه عم مسعود المذكور يلوم مسعودا فى قتال الخليفة فرجع عن قتاله وضرب له السرادق وطلبه وأنزله به فلما نزل المسترشد بالسرادق وصل رسول سنجر شاه الى الخليفة ومعه سبعة عشر نفرا من الباطنية الاسماعيلية فى زى الغلمان فدخلوا على الخليفة وضربوه بالسكاكين حتى قتلوه وقطعوا أنفه وأذنيه وخرجت الباطنية والسكاكين بأيديهم فيها الدم فمالت عليهم العساكر فقتلوهم ثم أحرقوهم وغطى الخليفة بسندسة خضراء لفوه فيها ودفنوه على حاله بباب مراغة وكان قتله فى سابع عشر ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة كذا فى سيرة مغلطاى وعمره أربع أو خمس وأربعون سنة وخلافته سبع عشرة سنة وسبعة أو ثمانية أشهر وفى سيرة مغلطاى وستة أشهر وأيام واستخلف بعده ابنه الراشد*

(خلافة الراشد بالله أبى جعفر منصور بن المسترشد الفضل بن المستظهر أحمد)
* الهاشمى العباسى البغدادى وهو السادس فخلع كما سيأتى وأمّه أمّ ولد حبشية ومولده فى سنة اثنتين وخمسمائة ويقال انّ الراشد هذا ولد مسدودا فأحضر والده المسترشد الاطباء فأشاروا ان يفتح له مخرج بالة من ذهب ففعل به ذلك بويع بالخلافة بعد قتل أبيه فى الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة* وفى دول الاسلام لما جاء الخبر بمصرع المسترشد قامت قيامة أهل بغداد وناحوا عليه وشقوا الثياب وخرج النساء يلطمن منتشرات الشعور ينشدن المراثى وطلب الاعيان ولده الراشد بالله فبايعوه* وحكى عن الراشد أن والده أعطاه عدّة جوار وعمره أقل من تسع سنين وأمرهنّ أن علاعبنه وكانت فيهنّ جارية فحملت من الراشد فلما ظهر الحمل وبلغ المسترشد أنكره لصغر سن ولده فسألها فقالت والله ما تقدّم الىّ غيره وأنه احتلم فسأل المسترشد باقى الجوارى فقلن كذلك ووضعت الجارية صبيا وسمى أمير الجيش وقيل للمسترشد ان صبيان تهامة يحتلمون لتسع سنين وكذلك نساؤهم ولم تطل خلافة الراشد فانه خرج بعد خلافته بمدّة الى الموصل لقتال مسعود بن محمد شاه وغيره فلما قاربهم خذله أصحابه فقبض مسعود عليه وخلعه من الخلافة فى يوم الخميس ثامن عشر أو تاسع عشر من ذى القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة يقال انّ الوزير أبا القاسم على بن طراد كتب محضرا على الراشد فيه أنواع كبائر ارتكبها من الفسق ونكاح أمّهات أولاد أبيه وأخذ أموال الناس وسفك الدماء وانه فعل أشياء لا يجوز أن يكون معها اماما على المسلمين فشهد بذلك طائفة وحكم ابن الكرخى القاضى بخلعه وكان السلطان مسعود قد جمع القضاة والشهود والاعيان وأخرج لهم نسخة يمين كانت بينه وبين الراشد أخذها عليه بخطه فيها متى عصيت أو حاربت أو جذبت سيفا فى وجه مسعود فقد خلعت نفسى من هذا الامر وفيها خطوط القضاة والشهود بذلك فحكم القضاة حينئذ بخلعه فخلع وولوا المقتفى محمد بن المستظهر عم الراشد وحبس الراشد الى أن مات قتيلا فى محبسه فى السابع والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وقيل انّ الذين قتلوه جماعة من الخراسانية كانوا بخدمته فوثبوا عليه فقتلوه بدسيسة من السلطان* وفى سيرة مغلطاى قتله الباطنية على باب أصبهان وقتلت معه خوارزمشاه*

(خلافة المقتفى لامر الله أبى عبد الله محمد ابن المستظهر أحمد بن المقتدى عبد الله بن الامير محمد الذخيرة بن الخليفة القائم بالله عبد الله الهاشمى العباسى البغدادى)
* أمه أم ولد تسمى بغية النفوس وقيل نسيم ومولده فى سنة تسع وثمانين وأربعمائة بويع بالخلافة بعد خلع ابن أخيه الراشد وكان المقتفى اماما عالما فاضلا أديبا شجاعا دمث الاخلاق كامل السودد خليقا للخلافة قليل المثل* وفى دول الاسلام لما حكم القاضى بخلع الراشد أحضروا عمه محمد بن المستظهر بالله وكان صهرا لعلى بن طرّاد ولقبوه المقتفى

(2/362)


لامر الله وبايعوه* وفى سنة احدى وثلاثين وخمسمائة تزوّج الخليفة بالخاتون فاطمة بنت محمد ابن ملك شاه على صداق مائة ألف دينار وفيها صام أهل بغداد ثلاثين يوما ولم يروا الهلال ليلة احدى وثلاثين مع كون السماء مصحية* قال ابن الجوزى وهذا شئ لم يقع مثله وفيها ظهر بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا ثم سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا ثم جاءت ريح عاصفة فألقت أشجارا كثيرة ثم وقع مطر شديد وسقط برد كبار* وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة كسا الكعبة رجل من التجار يقال له ابن امشت الفارسى وجعل فيها أربعة قناديل من الذهب وزنها عشرة ارطال بثمانية عشر ألف دينار وذلك لانه لم يأتها كسوة فى هذا العام لاجل اختلاف الملوك* وفى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة زلزل أهل حلب فى ليلة واحدة ثمانين مرّة وكانت زلازل بمصر والشام أقامت تعاود الناس أياما كثيرة حتى خربت اكثر البلاد* حكى أنها جاءت فى يوم وليلة احدى وتسعين مرّة* وفى دول الاسلام فيها كانت الزلزلة العظمى التى دكت مدينة الحيرة ومات تحت الردم أزيد من مائة ألف وقيل خسف بها وبقى مكانها ماء أسود* وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة مات محدّث بغداد الحافظ عبد الوهاب بن المبارك الانماطى وله ست وسبعون سنة* وعلامة خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى النحوى المفسر المعتزلى وله احدى وسبعون سنة* وفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة مات عالم المغرب القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض السبتى وله ثمان وستون سنة* وفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة مات الافضل أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستانى المتكلم صاحب الملل والنحل وتوفى المقتفى لامر الله يوم الاحد ثانى شهر ربيع الاوّل* وفى سيرة مغلطاى توفى المقتفى ليلة السبت مستهل ربيع الاوّل سنة خمس وخمسين وخمسمائة ودفن بداره بعد أن صلى عليه ولده المستنجد يوسف وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر واحدا وعشرين يوما وعاش ستا وستين سنة وفى أيامه مات السلطان مسعود بهمدان وقتل أتابك زنكى وهو نائم ومطرت اليمن دما ووقع على ثياب الناس والارض شبه الدم كذا فى سيرة مغلطاى*

(خلافة المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن المقتفى محمد بن المستظهر بن أحمد الهاشمى العباسى البغدادى أمير المؤمنين)
* أمه أم ولد كرجية تسمى طاوس أدركت خلافته ومولده فى سنة ثمان وخمسمائة* صفته* كان المستنجد أسمر طويل اللحية معتدل القامة شجاعا مهابا عادلا فى الرعية أديبا فصيحا فطنا أزال المظالم والمكوس فى خلافته بويع بالخلافة بعد موت أبيه المقتفى فى سنة خمس وخمسين وخمسمائة فبايعه أولاد عمه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر ثم ابن هبيرة وقاضى القضاة ابن الدامغانى قيل انّ المستنجد رأى فى منامه فى حياة أبيه كأن ملكا نزل من السماء فكتب فى كفه أربع خاآت معجمات فلما أصبح أوّله له بعض المعبرين بأنه يلى الخلافة فى سنة خمس وخمسين وخمسمائة وكان كذلك وكان نقش خاتم المستنجد من أحب نفسه عمل لها*

سبب حفر الخندق حول الحجرة النبوية
وفى سنة سبع وخمسين وخمسمائة عمل الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكى بن أقسنقر خندقا حول الحجرة النبوية مملوآ بالرصاص على ما ذكر فى الوفاء وسبب ذلك أن النصارى خذلهم الله دعتهم أنفسهم فى سلطنة الملك المذكور الى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وذلك ان السلطان المذكور كان له تهجد يأتى به فى الليل وأوراد يأتى بها فنام عقب تهجده فرأى النبى صلى الله عليه وسلم فى نومه وهو يشير الى رجلين أشقرين ويقول أنجدنى أنقذنى من هذين فاستيقظ فزعا ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه فاستيقظ وصلى ونام فرآه أيضا مرّة ثالثة فاستيقظ وقال لم يبق نوم وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلى فأرسل اليه ليلا وحكى له جميع ما اتفق

(2/363)


له فقال له وما قعودك اخرج الان الى المدينة النبوية واكتم ما رأيت فتجهز فى بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة فى عشرين نفرا وفى صحبته الوزير المذكور ومال كثير فقدم المدينة فى ستة عشر يوما فاغتسل خارجها ودخل فصلى فى الروضة وزار ثم جلس لا يدرى ماذا يصنع فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة فى المسجد ان السلطان قصد زيارة النبى صلى الله عليه وسلم وأحضر معه أموالا للصدقة فاكتبوا من عندكم فكتبوا أهل المدينة كلهم وأمر السلطان بحضورهم وكل من حضر ليأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التى أراها له النبىّ صلى الله عليه وسلم فلا يجد تلك الصفة فيعطيه ويأمره بالانصراف الى أن انفضت الناس فقال السلطان هل بقى أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة قالوا لا فقال تفكروا وتأمّلوا فقالوا لم يبق أحد الا رجلين مغربيين لا يتناولان لاحد شيئا وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج فلما سمعه السلطان انشرح صدره وقال علىّ بهما فأتى بهما فرآهما والرجلين اللذين أشار النبىّ صلى الله عليه وسلم اليهما بقوله أنجدنى أنقذنى من هذين فقال لهما من أين أنتما فقالا من بلاد المغرب جئنا حاجين فاخترنا المجاورة فى هذا العام عند رسول الله فقال أصدقانى فصمما على ذلك فقال أين منزلهما فأخبر بأنهما فى رباط بقرب الحجرة الشريفة فأمسكهما وحضر الى منزلهما فرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا فى الرقائق ولم ير فيه شيئا غير ذلك فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا انهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات فى الروضة الشريفة وزيارة النبىّ صلى الله عليه وسلم وزيارة البقيع كل بكرة وزيارة قباء كل سبت ولا يردّان سائلا قط بحيث سدّا خلة أهل المدينة فى هذا العام المجدب فقال السلطان سبحان الله ولم يظهر شيئا مما رآه وبقى السلطان يطوف فى البيت بنفسه فرفع حصيرا فى البيت فرأى سردا بالمحفورا ينتهى الى صوب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك وقال السلطان عند ذلك أصدقانى حالكما وضربهما ضربا شديدا فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى فى زى حجاج المغاربة وأمدّوهما بأموال عظيمة وامروهما بالتحيل فى شئ عظيم خيلته لهم أنفسهم وتوهموا أن يمكنهم الله منه وهو الوصول الى الجناب الشريف ويفعلوا به مازينه لهم ابليس فى النقل وما يترتب عليه فنزلا فى أقرب رباط الى الحجرة الشريفة وهو الرباط المعروف برباط المراغة وفعلا ما تقدّم وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلد على زىّ المغاربة والذى يجتمع من التراب يجعله كل منهما فى محفظته ويخرجان لاظهار زيارة قبور البقيع فيلقيانه بين القبور وأقاما على ذلك مدّة فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة واتفق مسكهما واعترافهما فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره بكى بكاء شديدا وأمر بضرب رقابهما فقاتلا تحت الشباك الذى يلى الحجرة الشريفة وهو مما يلى البقيع ثم أمر باحضار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما الى الماء حول الحجرة كلها وأذيب ذلك الرصاص وملئ به الخندق فصار حول الحجرة سورا رصاصا الى الماء ثم عاد الى ملكه وأمر باضعاف النصارى وأمر أن لا يستعمل كافر فى عمل من الاعمال وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعها وقد أشار الى ذلك الجمال المطرى باختصار ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسبك الرصاص به وقال ان السلطان محمود المذكور رأى النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات فى ليلة واحدة وهو يقول فى كل واحدة يا محمود أنقذنى من هذين الشخصين الاشقرين تجاهه فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك فقال له هذا أمر حدث فى مدينة النبى صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها والوزير معه وزار وجلس

(2/364)


فى المسجد لا يدرى ما يصنع وقال له الوزير أتعرف الشخصين اذا رأيتهما قال نعم فطلب الناس عامّة للصدقة وفرّق عليهم ذهبا كثيرا وفضة وقال لا يبقين أحد بالمدينة الاجاء فلم يبق الارجلان مجاوران من أهل الاندلس نازلان فى الناحية التى قبلة حجرة النبىّ صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التى تعرف اليوم بدار العشرة فطلبهما للصدقة فامتنعا وقالا نحن على كفاية لا نقبل شيئا فجدّ فى طلبهما فجىء بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان فسألهما عن حالهما وما جاء بهما فقالا لمجاورة النبى صلى الله عليه وسلم فقال أصدقانى وتكرّر السؤال حتى أفضى الى معاقبتهما فأقرّا انهما من النصارى وانهما وصلا لكى ينقلا من فى هذه الحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهم ووجدهما قد حفرا نقبا تحت الارض من تحت حائط المسجد القبلى وهما قاصدان الى جهة الحجرة الشريفة يجعلان التراب فى بئر عندهما فى البيت الذى هما فيه هكذا حدّثنى عمن حدّثه فضرب أعناقهما عند الشباك الذى فى شرقى حجرة النبىّ صلى الله عليه وسلم خارج المسجد ثم أحرقا بالنار آخر النهار وركب متوجها الى الشام* وذكر الامام اليافعى فى ترجمته أن بعض العارفين من الشيوخ ذكر أنه كان فى الاولياء معدودا من الاربعين وصلاح الدين نائبه من الثلثمائة* ويناسب ذلك ما ذكره المحب الطبرى فى الرياض النضرة فى فضائل العشرة قال أخبرنى هارون بن الشيخ عمر ابن الزغب وهو ثقة صدوق مشهور بالخير والصلاح والعبادة عن أبيه وكان من الرجال الكبار قال كنت مجاورا بالمدينة وشيخ خدّام النبى صلى الله عليه وسلم اذ ذاك شمس الدين صواب اللمطى وكان رجلا صالحا كثير البرّ بالفقراء والشفقة عليهم وكان بينى وبينه أنس فقال لى يوما أخبرك بعجيبة كان لى صاحب يجلس عند الامير ويأتينى من خبره بما تمس حاجتى اليه فبينا أنا ذات يوم اذ جاءنى فقال أمر عظيم حدث اليوم قلت وما هو قال جاء قوم من أهل حلب وبذلوا للامير بذلا كثيرا وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة واخراج أبى بكر وعمر منها فأجابهم الى ذلك قال صواب فاهتممت لذلك هما عظيما فلم أنشب أن جاء رسول الامير يدعونى اليه فأجبته فقال لى يا صواب يدق عليك الليلة أقوام المسجد فافتح لهم ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم ولا تعترض عليهم قال فقلت سمعا وطاعة قال فخرجت ولم أزل يومى أجمع خلف الحجرة أبكى لا ترقأ لى دمعة ولا يشعر أحد ما بى حتى اذا كان الليل وصلينا العشاء الاخرة وخرج الناس من المسجد وغلقت الابواب فلم ننشب أن دق الباب الذى حذاء باب الامير أى باب السلام فان الامير كان مسكنه حينئذ بالحصن العتيق قال ففتحت الباب فدخل أربعون رجلا أعدّهم واحدا بعد واحد ومعهم المساحى والمكاتل والشموع وآلات الهدم والحفر قال وقصدوا الحجرة الشريفة فو الله ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الارض جميعهم بجميع ما كان معهم من الالات ولم يبق لهم أثر قال فاستبطأ الامير خبرهم فدعانى وقال يا صواب ألم يأتك القوم قلت بلى ولكن اتفق لهم كيت وكيت قال انظر ما تقول قلت هو ذاك وقم فانظر هل ترى لهم من باقية أولهم أثر فقال هذا موضع هذا الحديث وان ظهر منك كان بقطع رأسك ثم خرجت عنه* قال المحب الطبرى فلما وعيت هذه الحكاية عن هارون حكيتها لجماعة من الاصحاب فيهم من أثق بحديثه قال وأنا كنت حاضرا فى بعض الايام عند الشيخ أبى عبد الله القرطبى بالمدينة والشيخ شمس الدين صواب يحكى هذه الحكاية سمعتها بأذنى انتهى ما ذكره الطبرى وقد ذكر أبو محمد عبد الله بن أبى عبد الله بن أبى محمد المرجانى هذه الواقعة باختصار فى تاريخ المدينة له وقال سمعتها من والدى يعنى الامام الجليل أبا عبد الله المرجانى قال وقال لى سمعتها من والدى أبى محمد المرجانى سمعها من خادم الحجرة قال أبو عبد الله المرجانى ثم سمعتها أنا من خادم الحجرة الشريفة وذكر نحو ما تقدّم الا أنه قال فدخل خمسة عشر أو قال عشرون رجلا بالمساحى

(2/365)


والقفاف فما مشوا غير خطوة أو خطوتين وابتلعتهم الارض ولم يسم الخادم والله أعلم* وفى أيام المستنجد فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة توفى الجمال محمد بن على وزير قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل كان كثير المعروف والصدقات ساق عينا الى عرفات وعمل هناك مصانع وبنى مسجد عرفات ودرجة وأحكم أبواب الحرم وبنى مسجد الخيف وبنى الحجر وزخرف الكعبة وذهبها وعملها بالرخام وبنى على المدينة النبوية سورا وبنى جسرا على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص وبنى الربط الكثيرة وكان يتصدّق كل يوم فى بابه بمائة دينار ويفتدى من الاسارى فى كل سنة بعشرين ألف دينار وكانت صدقاته وافدة الى الفقهاء والفقراء حيث كانوا وقد حبس فى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة* وذكر ابن الساعى عن شخص كان معه فى السجن أنه نزل اليه طائر أبيض قبل موته فلم يزل عنده وهو يذكر الله عز وجل حتى توفى فى شعبان من هذه السنة ثم طار عنه ودفن فى رباط بناه بالموصل* وفى سنة ستين وخمسمائة قال ابن الجوزى فى يوم الاضحى ولدت امرأة ببغداد يقال لها بنت أبى العز أربع بنات* وفى سنة احدى وستين وخمسمائة توفى شيخ الوقت أبو محمد عبد القادر بن صالح الجيلى الواعظ المفتى الحنبلى المذهب الزاهد أحد الاعلام ببغداد وله تسعون سنة* وفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة مات حافظ خراسان أبو سعيد عبد الكريم ابن محمد بن منصور السمعانى المروزى وله ست وخمسون سنة وله تصانيف جمة* وكانت وفاة المستنجد بالله الخليفة وقيل قتله فى يوم السبت ثانى ويقال ثامن شهر ربيع الاخر سنة ست وستين وخمسمائة وكانت خلافته احدى عشرة سنة وشهرا واحدا*

(خلافة المستضىء بالله أبى محمد الحسن بن المستنجد يوسف بن المقتفى لامر الله محمد بن المستظهر)
أمير المؤمنين الهاشمى العباسى البغدادى أمه أم ولد مولدة مولده فى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بويع بالخلافة بعد وفاة والده فى شهر ربيع الاخر سنة ست وستين وخمسمائة وخطب له بالديار المصرية واليمن وكانت الدولة العباسية منقطعة منها من زمن المطيع كذا فى حياة الحيوان وكان أحسن الخلفاء سيرة وكان اماما عادلا شريف النفس حسن السيرة كريما ليس للمال عنده قدر حليما شفوقا على الرعية أسقط فى أيامه المكوس والضرائب وفى أيامه فى سنة تسع وستين وخمسمائة وقع برد عظيم وزنت واحدة فكانت سبعة أرطال بالبغدادى فقتل جماعة وشيئا كثيرا من المواشى وكان غالبه كالنارنج* وفى سنة احدى وسبعين وخمسمائة مات حافظ الشام أبو القاسم على بن الحسين بن عساكر صاحب التاريخ الكبير وله ثلاث وسبعون سنة واستهلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وفى هذه السنوات كان ابن الجوزى يعظ ببغداد ويحضره ألوف مؤلفة ويحضره أمير المؤمنين فى المنظرة* وفى سنة أربع وسبعين وخمسمائة قال ابن الجوزى وعظت بجامع المنصور فخرر المجلس بمائة ألف وكان المستضىء بالله يحضر من وراء الستر وله محبة فى الحنابلة والسنية وكراهية فى الرافضة وكانت وفاة المستضىء بالله فى بغداد فى ليلة الاحد ثانى ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة* وفى دول الاسلام فى شوّال سنة خمس وسبعين وخمسمائة وعاش تسعا وثلاثين سنة وكانت خلافته تسع سنين وستة أشهر وأربعة عشر يوما وهو الذى عادت الخطبة باسمه فى الديار المصرية والبلاد الشامية والثغور واجتمعت الامة فى أيامه على خليفة واحد وانقطعت دولة بنى عبيد الفاطميين خلفاء مصر فى أيامه على يد الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب وفى دول الاسلام وكان سمحا جوادا محبا للسنة أمنت البلاد فى زمانه*

(خلافة الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضىء حسن بن المستنجد يوسف الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد تركية ومولده فى يوم الاثنين عاشر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة* صفته* قال الذهبى

(2/366)


كان أبيض اللون تركى الوجه مليح العينين أنور الجبهة أقنى الانف خفيف العارضين اشقر اللحية رقيق المحاسن بويع بالخلافة فى بغداد بعد موت أبيه فى أوّل ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة وكان نقش خاتمه رجائى من الله عفوه لم تكن خلافة أحد من بنى العباس قبله أطول مدّة منه وفى أيامه ظهرت القسى ببغداد والرمى بالبندق ولعب الحمام وتفنن الناس فى ذلك* قال الذهبى كان يعانى البندق والحمام فى شبيبته وكان له عيون على كل سلطان يأتونه بالاسرار حتى كان بعض الكبار يعتقد فيه انّ له كشفا واطلاعا على المغيبات* وفى أيامه سنة ثمان وخمسمائة مات حافظ الاندلس أبو القاسم خلف ابن عبد الملك بن بشكوال القرطبى وله أربع وثمانون سنة* وفى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة مات مسند بغداد أبو السعادات نصر الله القزاز وله اثنتان وتسعون سنة* وفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة مات شيخ الحنفية بماوراء النهر شمس الائمة عمر بن الزرنجرى الجابرى والحافظ المصنف أبو بكر محمد بن موسى الحازمى الهمدانى* وفى تسعين وخمسمائة توفى شيخ القراء أبو محمد القاسم بن فيره بن خلف الرعينى الشاطبى ناظم الشاطبية وله اثنتان وخمسون سنة* وفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة مات ببغداد شيخ الوقت العلامة جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى الحنبلى الواعظ ببغداد صاحب التصانيف وتصانيفه مشهورة وكان كثير الوقيعة فى الناس لا سيما العلماء المخالفين لمذهبه وكان مولده سنة عشر وخمسمائة كذا فى الكامل* وفى سنة تسع وتسعين وخمسمائة فى أوّلها ماجت النجوم ببغداد وتطايرت شبه الجراد ودام ذلك الى الفجر وضح الخلق الى الله تعالى وفى سنة ثلاث وستمائة قدم ببغداد للحج شيخ الحنفية برهان الدين صدر جهان وفى صحبته ثلثمائة فقيه وفيها مات مسند أصبهان أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلانى وله أربع وتسعون سنة*

وقعة خوارزم شاه مع التتار وابتداء ظهورهم
وفى سنة أربع وستمائة مات المعمر أبو على حنبل بن عبد الله الرصافى راوى المسند وله ثلاث وتسعون سنة وفيها عدّى خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش الى ماوراء النهر بجيوش عظيمة فالتقاه صاحب الخطا وتمت بينهم وقعات كبار آخرها انهزم المسلمون وأسر خلق وأسر السلطان خوارزم شاه مع أمير أسرهما الخطائى فأظهر السلطان انه مملوك لذلك الامير وقلعه خفه فاحترم الخطائى ذلك الامير ثم بعد أيام قال الامير للخطائى انى أخاف ان يظنّ أهلى انى قتلت فيقتسموا أموالى فقرّر علىّ شيئا حتى أبصر كيف أعمل فقرّره فقال أتأذن لغلامى هذا يذهب ويحضر الذهب فأذن له وبعث معه من يخفره الى خوارزم فنجا السلطان وتمت الحيلة وزينت بلاده وضربت البشائر ثم انّ الخطائى قال للامير انّ سلطانكم عدم قال أو ما تعرفه قال لا قال هو غلامى الذى بعثته فعض الخطائى على يده وبهت وقال هلا كنت أعلمتنى حتى كنت سرت بين يديه وخدمته الى مقر ملكه قال خفت عليه قال فانهض بنا الى خدمته فسارا جميعا الى باب خوارزم شاه* وفى سنة خمس وستمائة أخذت الكرج أرجيش وقتلوا أهلها وفى سنة ست وستمائة حاصرت الكرج خلاط وكادوا ان يفتحوها فركب ملك الكرج سكران وحمل على البلد فتقنطر به فرسه وتسارع اليه المسلمون فأسروه وقتلوا حوله جماعة فانهزم جيشه وفيها عبر خوارزم شاه جيحون فى جحفل عظيم فالتقى الخطا فكسرهم وقتل من الخطا مقتلة عظيمة لم يسمع بمثلها وأسر سلطانهم طاينكو وأحضر الى بين يدى خوارزم شاه فأكرمه وأجلسه معه على السرير ثم افتتح عدّة مدائن قهرا وصالحا وفى هذا الوقت كان مبدأ ظهور التتار فانهم كانوا ببادية الخطا فلما سمعوا بالهزيمة العظمى على الخطا قصدوهم مع كشلوخان وعلم خوارزم شاه انه لا طاقة له بالتتار فأمر أهل ممالكه من ناحية الخطا كأهل فرغانة والشاش واسبيجاب بالجلاء والانجفال الى بخارى وسمرقند الى ان أخلى تلك البلاد النزهة العامرة وخربها وصيرها مفاوز خوفا من ان يملكها التتار ويجاوروه

(2/367)


ثم اتفق خروج جنكيزخان وجيوشه الذين أبادوا خراسان فاشتغل كشلوخان بحربهم مدّة وفيها توفى العلامة فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر التيمى البكرى الرازى بن خطيب الرى الشافعى المتكلم صاحب التصانيف فى التفسير والطب والفلسفة يوم الفطر وله اثنتان وستون سنة وفيها مات العلامة مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن الاثير الشيبانى الجزرى ثم الموصلى صاحب جامع الاصول وغريب الحديث فى آخر العام وله اثنتان وستون سنة وتسعة أشهر* وفى سنة تسع وستمائة مات الملك الاوحد أيوب بن العادل صاحب خلاط وميافارقين وكان ظلوما غشوما وتملك خلاط بعده أخوه الاشرف* وفى سنة عشر وستمائة خلص خوارزم شاه من الاسر وذلك انه كان منازلا للتتار فخاطر بنفسه وتنكر ولبس زى التتار هو وثلاثة ودخل فى التتار ليكشف أمورهم فاستنكروهم فأمسكوهم فضربوا اثنين منهم حتى ماتا تحت الضرب ولم يقرّا وضربوا خوارزم شاه والاخر ورسموا عليهما فهربا بالليل* وفى سنة خمس عشرة وستمائة اندفع السلطان خوارزم شاه بين يدى التتار لما بلغه انهم قاصدون ماوراء النهر وجاءه رسول جنكيزخان طاغية التتار بهدية مثل مسك ونحوه يطلب المسالمة وأعلمه بان جنكيزخان قد ملك طمغاج والصين وأشار بالمسالمة فأعطاه خوارزم شاه معضدة جوهرا وعاهده أن يكون عينا له ومناصحا ثم سافرت تجار جنكيزخان وجاءت فظلمهم نائب بخارى وهو خال خوارزم شاه وأخذ أموالهم فاستشاط جنكيزخان غضبا وأرسل يهدّد خوارزم شاه ويطلب منه أن يسلم خاله اليه نائب بخارى فأمر خوارزم شاه بالرسل فقتلوا فيا لها فعلة ما كان أقبحها أجرت كل قطرة من دماء الرسل سيلا من الدماء* وفى سنة ست عشرة وستمائة انهزم السلطان خوارزم شاه بين يدى التتار وبلغ أمّه الخبر فعمدت الى من كان محبوسا بخوارزم من الملوك وكانوا عشرين ملكا ممن قد أخذ بلادهم وأسرهم فأمرت بقتلهم ثم أخذت خزائن ابنها ونساءه الى قلعة ابلال فأخذت وأسرت وساق هو الى أن وصل الى همدان وقد تفرق جيوشه وبقى معه نحو عشرين ألفا ونازلت التتار بخارى وسمرقند وفعلوا عوائدهم الملعونة من القتل والسبى والحريق فانا لله وانا اليه راجعون* وفيها مات شيخ النحو أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبرى الضرير صاحب التصانيف وشيخ الحنفية افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمى البلخى ثم الحلبى مؤلف شرح الجامع الكبير وله ثمانون سنة* وفى سنة سبع عشرة وستمائة كان سيف التتار قد استطال فى الامة فانهم هزموا خوارزم شاه وملكوا ماوراء النهر وعدّوا جيحون فأبادوا أهل خراسان ووصلوا الى قزوين وهمدان وقصدوا توريز وفرغوا من بلاد الخطا والترك وماوراء النهر وخوارزم وخراسان والعجم وغير ذلك قتلا وتخريبا وابادة فى نحو من سنة ونصف ثم دخلوا صحراء القفجاق واستولوا عليها ومضت فرقة الى كرمان وغزنة وتلك الديار فتركوها بلاقع ودينهم الكفر دين جاهلية أعراب الترك وأكثرهم يعبدون الشمس وبعضهم مجوس وبعضهم يعبدون الاصنام وهم جنس من الترك ومأواهم جبال طمغاج وملك جنكيزخان عدّة أقاليم وبث جيوشه وجهز كل فرقة الى اقليم فأبادت أهله وفيها مات السلطان الكبير علاء الدين خوارزم شاه بن محمد ابن خوارزم شاه بن تكش بن أرسلان بن أستر بن توشتكين الخوارزمى وكان قدد انت له الامم واستولى على بلاد الترك وماوراء النهر وخراسان وغزنة وغير ذلك وكان جدّه الاعلى البتكين من مماليك السلطان ألب ارسلان بن جعفر بك السلجوقى وكان عنده علم من الفقه والاصول واكرام العلماء والصالحين لكنه ظلوم سفاك للدماء وعسكره قد اعتادوا النهب والفساد والاذى والرعية معهم فى بلاء وويل فلما ابتلوا بجند جنكيزخان رضوا عن الخوارزمية وكان محمد بطلا شجاعا مقداما يقطع

(2/368)


البلاد البعيدة فى أقرب زمان ولا ينشف له لبد وكان هجاما شهما بعيد الغور فاتكا كثير الغدر قليل النوم نزر الراحة وكان لا يعبأ بملبوس بل ثيابه وعدة فرسه تساوى دينارا أو نحوه وقد ذهب اليه رسول صاحب اربل فقال كان عدّة عسكر خوارزم شاه محمد ممن هو داخل فى طاعته ثلثمائة ألف وخمسين ألفا* وكانت دولته احدى وعشرين سنة ومات كهلا فرّ من التتار الى بحيرة مازندران فمرض بالاسهال وطلب الدواء فأعوزه الخبز ومات فى المركب غريبا وقام بعده ابنه جلال الدين خوارزم شاه* وفى سنة ثمان عشرة وستمائة جمع جلال الدين خوارزم شاه جيوش أبيه والتقى التتار وعليهم تولى ابن جنكيزخان فكسرهم جلال الدين ووضع فيهم السيوف قتلا وأسرا وقيل تولى فى المصاف وهذا هو أبو هولاكو* فلما بلغ الخبر أباه جنكيزخان قامت قيامته وجمع جيشه وسار مجدّا الى السند وكان السلطان جلال الدين قد فارقه بعض الجيش فالتقى جنكيزخان فى شوّال من السنة وحمل على القلب فمزقهم فولى جنكيزخان منهزما لكن كان له كمين عشرة آلاف فخرجوا على ميمنة جلال الدين وعليها الامير ملك فانكسرت وأسر ابن جلال الدين وتبدد نظامه فتقهقر الى حافة نهر السند فرآى نساءه وأمّه يصحن بالله اقتلنا لا نقع فى الاسر فأمر بتغريقهنّ وركبه العدوّ والبحر من بين يديه فرفس فرسه فى الماء على انه يغرق فسبح به فرسه ذلك النهر العظيم وخلص الى الجهة الآخرى هو ونحو أربعة آلاف فارس عراة جياعا فلما عرف متولى تلك الناحية انّ خوارزم شاه دخل فى أرضه طلبه بالفارس والراجل فانهزم منه خوارزم شاه ليختفى فى الشجر* ثم دهمه ملك الهند وحمل على خوارزم شاه فثبت له حتى قاربه فرماه بسهم ما أخطأ فواده فسقط وانهزم جيشه فحاز خوارزم شاه الغنيمة فعاش بذلك وقدم سجستان فتقوى بها* وأما التتار فوصلوا الى حدّ العراق وفنيت الناس وحصروا بغداد فأنفق الناصر لدين الله الاموال* وفيها عند أخذ خوارزم استشهد شيخ العارفين نجم الدين الكبرى أحمد بن عمر أبو الجناب الخيوقى ومات مسند دمشق موسى بن الشيخ عبد القادر الجيلى* وفى سنة تسع عشرة وستمائة مات محدث دمشق الحافظ تقى الدين اسماعيل بن عبد الله بن الانماطى المصرى كهلا* وفى سنة عشرين وستمائة كان فرقة عظيمة من التتار قد جاوزوا دربند شيرين الى صحراء القفجاق فجرت بينهم وبين القفجاق والروس وقعة عظيمة صبر فيها الجمعان وكثر القتل ثم انهزمت القفجاق وراح أكثرهم تحت السيف* وفى سنة احدى وعشرين وستمائة رجعت التتار من أرض القفجاق وأتوا الرىّ وقد تعمرت فوضعوا فى أهلها السيف وجعلوا كذلك بساوة وقم وقاشان وهمدان ثم قصدوا توريز فالتقاهم خوارزم شاه وكان كسرهم أخو خوارزم شاه وهو غياث الدين فتملك شيراز بلا كلفة وهرب منه صاحبها اتابك سعد بن زنكى الى قلعة اصطخر ثم داهنه سعد وسار تبعا وفيها انفصل خوارزم شاه جلال الدين عن الهند وكرمان وجاء فاستولى على مملكة اذربيجان وأقام الناصر لدين الله فى الخلافة ستة وأربعين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما الى ان مات فى ليلة الاحد سلخ رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة وكانت خلافته سبعا وأربعين سنة وتوفى وله سبعون سنة وتحلف بعده ابنه الظاهر بأمر الله*

(خلافة الظاهر بأمر الله أبى النصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين أمّه أمّ ولد ومولده فى المحرّم سنة سبعين وخمسمائة* صفته* كان جميل الصورة أبيض اللون مشربا بحمرة حلو الشمائل شديد القوّة بويع بالخلافة بعد موت أبيه الناصر لدين الله فى سنة اثنتين وعشرين وستمائة وله اثنتان وخمسون سنة الاشهر او فيها سار صاحب الروم علاء الدين كيقباد فأخذ قلاعا لصاحب آمد* وفى أيامه فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة قال ابن الاثير فى كامله صاد صاحب لنا أرنبا ولها ذكر وانثيان ولها أيضا فرج فشقوها فاذا فى بطنها

(2/369)


جروان فقال جماعة مازلنا نسمع ان الارنب تكون سنة ذكرا وسنة أنثى وفيها زلزلت الموصل وشهرزور وتكرّرت عليهم الزلزلة ثلاثين يوما وخربت القرى وانخسف القمر فى السنة مرّتين* وفى ثالث عشر رجب من سنة ثلاث وعشرين وستمائة مات الخليفة الظاهر بأمر الله وكانت خلافته تسعة أشهر ونصف* وفى سيرة مغلطاى واثنى عشر يوما وله اثنتان وخمسون سنة وكان فيه دين وعقل ووقار قيل له ألا تتفسح وتتنزه فقال قد فات الزرع فقيل له يبارك الله فى عمرك فقال من فتح دكانا بعد العصر أيش يكسب فكان كذلك ومات بعد مدّة يسيرة وكان خيرا عادلا أحسن الى الرعية وبذل الاموال وأزال المظالم والمكوس وكان يقول الجمع شغل التجار أنتم الى امام فعال أحوج منكم الى امام قوّال اتركونى أفعل الخير فكم بقيت أعيش وقد فرّق فى ليلة العيد فى العلماء والصالحين مائة ألف دينار* قال اين الاثير لقد أظهر من العدل والاحسان ما أحيا به سنة العمرين ولما تولى الخلافة ولى الشيخ عماد الدين بن الشيخ عبد القادر الجيلىّ الحنبلى القضاء فما قبل عماد الدين الا بشروط أنه يورث ذوى الارحام فقال له الخليفة أعط كل ذى حق حقه واتق الله ولا تتق سواه فكلمه أيضا فى الاوراق التى ترفع الى الخليفة وهو أن حراس الدروب كانت ترفع الى الخليفة فى صبيحة كل يوم ما يكون عندهم من أحوال الناس الصالحة والطالحة فأمر الظاهر بتبطيل ذلك وقال أى فائدة فى كشف أحوال الناس فقيل له ان تركت هذا تفسد الرعية فقال نحن ندعو لهم بالاصلاح ثم أعطى القاضى المذكور عشرة آلاف دينار يوفى بها ديون من فى السجون من الفقراء*

(خلافة المستنصر بالله أبى جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد بن المستضىء حسن بن المستنجد يوسف)
* أمير المؤمنين الهاشمى العباسى البغدادى أمّه أمّ ولد تركية ومولده فى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة* صفته* كان أبيض أشقر الشعر ضخما قصيرا ولما شاب خضب بالحناء ثم ترك الخضاب وهو السادس فلم يخلع لا هو ولا أبوه وبهذا انتقضت القاعدة المذكورة الا انّ التتار كان أمرهم قد عظم فى أيامهما فأخذوا جملة مستكثرة من بلاد الاسلام وفقد جلال الدين خوارزم شاه فى أيام المستنصر فى وقعة كانت بينه وبين التتار وهذا أعظم وأطم من الخلع كذا فى حياة الحيوان* بويع بالخلافة بعد موت أبيه الظاهر فى رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة* ولما ولى الخلافة نشر العدل فى الرعايا وبذل الانصاف وقرب أهل العلم والدين وبنى المساجد والربط والمدارس وأقام منار الدين وقمع المتمرّدين ونشر السنن وكف الفتن* قال الذهبى وهو أكبر اخوته فبايعه جميع اخوته وبنو عمه وله اذ ذاك خمس وثلاثون سنة وكان مليح الشكل كأبيه* قال ابن الساعى حضرت بيعته فلما رفعت الستارة شاهدته وقد كمل الله صورته ومعناه كان أبيض بحمرة أزج الحاجبين أدعج العينين سهل الخدّين أقنى رحب الصدر وعليه ثوب أبيض ومئزر أبيض وطرحة قصب بيضاء جلس الى الظهر فبلغنى انّ عدّة الخلع بلغت ثلاثة آلاف خلعة وخمسمائة وسبعين خلعة وفيها مات شيخ الشافعية امام الدين عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعى القزوينى مؤلف الشرح الكبير*

بقية أخبار التتار
وفى سنة أربع وعشرين وستمائة كان المصاف بين التتار وبين جلال الدين خوارزم شاه أقبلوا فى جمع عظيم حتى نزلوا شرقى أصبهان فتأخر هو عن الخروج ثلاثة أيام فذهبت فرق منهم تغير وتنهب فجهز السلطان وراءهم جيشا أخذوا على التتار المضايق فبيتوهم وأسروا منهم* ثم عبى السلطان جيشه وبرز فلما تراآى الجمعان خذله أخوه غياث الدين وفارقه لوحشة حدثت فثغافل السلطان عنه ووقف التتار كراديس متقاربة فردّ السلطان الرجالة وحملت ميمنته على ميسرة التتار فهزمتها وحملت ميسرته على التتار أيضا فرأى السلطان انهزام العدوّ فنزل ليستريح فجاءه أمير والح عليه فى اتباع التتار فركب آخر النهار وساق فلما رأت التتار السواد تجرد جماعة من أبطالهم وكمنوا للسلطان

(2/370)


وخرجوا بعد المغرب على ميسرة السلطان فطحنوها فقتل عدّة امراء واشتدّ الحرب ووقف السلطان وقد وهن نظامه وتبدد وأحاط به العدوّ فلم يبق معه سوى أربعة عشر فارسا فانهزم على حمية وجاءته طعنة فنجا منها وانهزم جيشه فرقا الى كرمان وتوريز وأمّا ميمنته فساقت وراء التتار تقتل فيهم وعادوا بعد يومين ودخل السلطان جلال الدين الى أصبهان وردت التتار الى خراسان* وفى سنة خمس وعشرين وستمائة التقى خوارزم شاه والتتار بالرى فانهزم ثم عمل مصافا آخر فانهزم أيضا ثم جمع وحشد ثم ضرب مع التتار رأسا فانهزم الجمعان من غير قتال وذلك انّ خوارزم شاه فارقه أخوه وقت المصاف بعسكره فظنت التتار أنه يريد أن يدور من ورائهم فانهزموا وأما هو فلما رأى مفارقة أخيه له وولت التتار ظن انها خديعة ليستدرجوه فتقهقر ولم يقحم عليهم ثم رجعت التتار ونازلت أصبهان فجاء خوارزم شاه وخرق فيهم ودخل أصبهان ثم خرج بالناس والتقى التتار فانهزمت التتار أقبح هزيمة وساق خوارزم شاه وراءهم الى الرى قتلا وأسرا ثم جاء فنازل خلاط مرة ثانية ليملكها وهى للملك الاشرف* وفى سنة ثمان وعشرين وستمائة التقى خوارزم شاه التتار فكسروه وطحنوه وتمزق عسكره وفيها قتل السلطان الكبير جلال الدين خوارزم شاه بن السلطان علاء الدين محمد بن تكش الخوارزمى وكانت دولته ثنتى عشرة سنة مات كهلا وكان أسمر أصفر لانّ أمّه هندية وكان فارسا شجاعا مهيبا حضر حروبا كثيرة وكان سدّا بيننا وبين التتار وكان عسكره مجمعة لا أخباز لهم بل يعيشون من النهب والغارة وفى آخر أمره راح منهزما من وقعة صاحب الروم فسار على فرسه فى تلك الجبال فظفر به كردى فقتله غيلة طعنه بحربة بأخ له كان قد قتلته الخوارزمية وذلك فى نصف شوّال وفى سنة تسع وعشرين وستمائة قصد التتار أذربيجان فتهيأ لحربهم عسكر الخليفة وصاحب اربل الملك المعظم مظفر الدين كوكبرى فردّت التتار* وفى سنة ثلاثين وستمائة حاصر الملك الكامل آمد بالمجانيق وأخذها من صاحبها الملك مسعود مودود الاتابكى وكان فاسقا قال الاشرف وجدنا فى قصره خمسمائة حرّة للفراش من بنات الناس يأخذهنّ قهرا وأخذ منه حصن كيفا ثم استناب السلطان على ذلك ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب* وفى شعبان مات العلامة عز الدين على بن محمد بن محمد بن الاثير الجزرى صاحب التاريخ المسمى بالكامل ومعرفة الصحابة* وفى سنه احدى وثلاثين وستمائة مات بدمشق العلامة المتكلم سيف الدين على بن أبى على الامدى صاحب التصانيف وله ثمانون سنة* وفى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة مات شيخ الصوفية العارف الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد السهروردى البكرى ببغداد وله ثلاث وتسعون سنة ومسند أصبهان أبو الوفاء محمود بن ابراهيم بن منده قتل بأصبهان فى خلق عظيم عند دخول التتار اليها بالسيف* وفى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة جاءت التتار الى اربل فالتقاهم عسكرها فقتل طائفة من التتار ثم ساقت التتار الى أعمال الموصل فنهبوا وقتلوا وردّوا فتهيأ المستنصر بالله وانفق أموالا واستخدم خلقا كثيرا وفيها مات قاضى قضاة بغداد عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلى الحنبلى وله سبعون سنة وكان من خيار القضاة دينا وتواضعا وعلما* وفى سنة أربع وثلاثين وستمائة حاصرت التتار اربل وأخذوها وقتلوا أهلها* وفى سنة سبع وثلاثين وستمائة مات الصاحب الوزير ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الاثير الجزرى الكاتب مصنف المثل السائر عن ثمانين سنة ومات المستنصر بالله فى العشرين من جمادى الاخرة وقيل يوم الجمعة عاشره سنة أربعين وستمائة عن احدى وخمسين سنة وأربعة اشهر وتسعة أيام وكتم موته وخطب له يومئذ بالجامع حتى جاء الامير شرف الدين اقبال الشرابى الخادم ومعه جمع من الخدام وسلم على ولده المستعصم بالخلافة فاستخلف المستعصم وتم أمره وكانت خلافة المستنصر

(2/371)


تسع عشرة سنة الاشهرا* وفى سيرة مغلطاى فمكث فى الخلافة ست عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما وتوفى سنة أربعين وستمائة فى جمادى الاخرة وهو الذى بنى المستنصرية ببغداد التى لم يبن فى الاسلام مثلها فى كثرة الاوقاف وكثرة ما جعل فيها من الكتب*

(خلافة المستعصم بالله أبى أحمد عبد الله بن المستنصر ابن الظاهر بأمر الله محمد أمير المؤمنين الهاشمى العباسى البغدادى)
* آخر خلفاء بنى العباس ببغداد وهو السادس فخلع وقتل فى أيام هولاكو أمّه أمّ ولد حبشية بويع بالخلافة بعد موت أبيه فى جمادى الاخرة سنة أربعين وستمائة وعمره ثلاثون سنة وكان فيه لين وقلة معرفة* وفى سيرة مغلطاى ومكث فى الخلافة خمس عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوما وقتله التتار سنة خمسين وستمائة* وفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة وصلت التتار الى يعقوبا من أعمال بغداد فالتقاهم الديدوان فكسرهم وفيها مات بدمشق العلامة تقى الدين بن الصلاح شيخ الشافعية والامام علم الدين السخاوى شيخ القراء ومسند العصر أبو الحسن على بن الحسين بن المقبرى بمصر وله ثمان وتسعون سنة* وفى سنة خمسين وستمائة مات العلامة رضى الدين بن الحسن بن محمد الصاغانى صاحب التصانيف ببغداد وله ثلاث وسبعون سنة*

ظهور النار خارج المدينة المنوّرة
وفى سنة أربع وخمسين وستمائة كان ظهور النار خارج مدينة النبىّ صلى الله عليه وسلم فكانت من الايات الكبرى التى أنذر بها النبىّ صلى الله عليه وسلم بين يدى الساعة ولم يكن لها حرّ على عظمها وشدّة ضوئها ودامت أياما وظنّ أهل المدينة انها الساعة وابتهلوا الى الله بالدعاء والتوبة وتواتر شأن هذه النار* وفى الوفاء ظهرت نار الحجاز التى أنذر بها النبىّ صلى الله عليه وسلم بأرض المدينة واطفأها الله تعالى عند وصولها الى حرم نبينا كما سنوضحه وهذه النار مذكورة فى الصحيحين ولفظ البخارى يخرج نار من أرض الحجاز تضىء منها أعناق الابل ببصرى ولا اشكال فى أنّ المدينة حجازية وظهور النار المذكورة بالمدينة الشريفة قد اشتهر اشتهارا بلغ حد التواتر عند أهل الاخبار وتقدّمها زلازل مهولة وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهل جمادى الاولى سنة أربع وخمسين وستمائة لكنها كانت خفيفة لم يدركها بعضهم وتكرّرت بعد ذلك واشتدّت فى يوم الثلاثاء على ما حكاه القطب القسطلانى وظهرت ظهورا عظيما اشترك فى ادراكها العامّ والخاص ثم لما كانت ليلة الاربعاء ثالثة الشهر أو رابعته فى الثلث الاخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة أشفق الناس منها وانزعجت القلوب لهيبتها واستمرّت تزلزل بقية الليل واستمرّت الى يوم الجمعة ولها دوىّ أعظم من دوىّ الرعد فتموّجت الارض وتحركت الجدران حتى وقع فى يوم واحد دون ليلته ثمانى عشرة حركة* قال القرطبى خرجت نار الحجاز بالمدينة وكان بدوّها زلزلة عظيمة فى ليلة الاربعاء بعد الليلة الثالثة من جمادى الاخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرّت الى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت وظهرت بقريظة النار بطرف الحرّة ترى فى صفة البلدة العظيمة عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج وماذن وترى رجال يوقدونها لا تمرّ على جبل الا دكته وأذابته ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وازرق له دوىّ كدوىّ الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهى الى محط الركب العراقى واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم فانتهت النار الى قرب المدينة ومع ذلك كان يأتى الى المدينة نسيم بارد وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر وقال لى بعض أصحابنا رأيتها صاعدة فى الهواء من نحو خمسة أيام وسمعت انها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى ونقل أبو شامة من كتاب الشريف سنان قاضى المدينة الشريفة وغيره أنّ فى ليلة الاربعاء ثالثة جمادى الاخرة حدثت بالمدينة فى الثلث الاخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت فى تلك الليلة تزلزل ثم استمرّت تزلزل كل يوم وليلة مقدار عشر مرّات وفى كتاب بعضهم أربع عشرة مرّة قال ولقد تزلزلت مرّة ونحن حول الحجرة فاضطرب لها المنبر الى أن سمعنا منه

(2/372)


صوتا للحديد الذى فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف* وزاد القاشانى ثم فى اليوم الثالث وهو يوم الجمعة تزلزلت الارض زلزلة عظيمة الى أن اضطرب منها المسجد وسمع لسقف المسجد صرير عظيم* قال القطب فلما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك النار فثار من محل ظهورها فى الجوّ دخان متراكم غشى الافق سواده فلما تراكمت الظلمات وأقبل الليل سطع شعاع النار وظهرت مثل المدينة العظيمة فى جهة المشرق* قال القاضى سنان وطلعت الى الامير وكان عز الدين منيف بن شيخه وقلت له قد أحاط بنا العذاب ارجع الى الله فأعتق كل مماليكه وردّ على الناس مظالمهم زاد القاشانى وأبطل المكس ثم هبط الامير الى النبىّ صلى الله عليه وسلم وبات فى المسجد ليلة الجمعة وليلة السبت ومعه جميع أهل المدينة حتى النساء والصغار ولم يبق أحد فى النخل الا جاء الى الحرم الشريف وبات الناس يتضرّعون ويبكون وأحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رؤسهم مقرّين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبيهم* قال القطب فصرف الله عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال ونجوا من الاوجال فسارت تلك النار من مخرجها وسال بحر عظيم من النار وأخذت فى وادى أخيليين وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم ومالت عن مخرجها الى جهة الشمال واستمرّت مدّة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرّخون قال وهى تسكن مرّة وتظهر أخرى* وذكر القسطلانى عمن يثق به انّ أمير المدينة أرسل عدّة من الفرسان الى هذه النار للاتيان بخبرها فلم تجسر الخيل على القرب منها فترجل أصحابها وقربوا منها فذكروا انها ترمى بشرر كالقصر ولم يظفروا بجلية أمرها فجرّد عزمه للاحاطة بخبرها فذكروا انه وصل منها الى قدر غلوتين بالحجر ولم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الارض واحجار كالمسامير تحتها نار سارية ومقابله ما يتصاعد من اللهب فعاين نارا كالجبال الراسيات والتلال المجتمعة السائرات تقذف بزبد الاحجار كالبحار المتلاطمة الامواج وعقد لهيبها فى الافق قتاما حتى ظنّ الظانّ انّ الشمس والقمر كسفا اذ سلبا بهجة الاشراق فى الافاق ولولا كفاية الله كفتها لأكلت ما تقدم عليه من الحيوان والنبات والحجر* وذكر الجمال المطرزى بعض ما يخالف هذا فانه قال اخبرنى علم الدين سنجر العزى من عتقاء الامير عز الدين منيف بن شيخه صاحب المدينة قال ارسلنى مولاى الامير عز الدين بعد ظهور النار بأيام ومعى شخص من العرب وقال لنا ونحن فارسان اقربا من هذه النار وانظر اهل يقدر أحد على القرب منها فانّ الناس يهابونها لعظمتها فخرجت أنا وصاحبى الى أن قربنا منها ولم نجد لها حرّا فنزلت عن فرسى وسرت الى أن وصلت اليها وهى تأكل الصخر والحجر فأخذت سهما من كنانتى ومددت به يدى الى أن وصل النصل اليها فلم أجد لذلك ألما ولا حرّا فغرق النصل ولم يحترق العود فأدرت السهم وأدخلت فيها الريش فاحترق الريش ولم تؤثر فى العود وذكر المطرزى قبل ذلك انها كانت تأكل كلما مرّت عليه من جبل وحجر ولا تأكل الشجر قال وظهر لى فى ذلك انه لتحريم النبىّ صلى الله عليه وسلم شجر المدينة فمنعت من أكل شجرها لوجوب طاعته عليه السلام على كل مخلوق* وذكر القسطلانى انّ هذه النار لم تزل مارّة على سبيلها حتى اتصلت بالحرّة ووادى الشظاة وهى تسحق ما والاها وتذيب ما لاقاها من الشجر الاخضر والحصا من قوّة اللظى وانّ طرفها الشرقى أخذ بين الجبال فحالت دونه ثم وقفت وانّ طرفها الشامى وهو الذى يلى الحرم اتصل بجبل يقال له وعر على قرب من شرقى جبل أحد ومضت فى الشظاة الذى فى طرفه وادى حمزة ثم استمرّت حتى استقرّت تجاه حرم النبىّ صلى الله عليه وسلم وأطفئت* قال المطرزى وأخبرنى بعض من أدركها من النساء انهنّ كنّ يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت بالمدينة الشريفة* قال القسطلانى انّ ضوأها استولى على ما بطن من القيعان وظهر من التلاع حتى كانّ الحرم النبوى عليه

(2/373)


الشمس مشرقة وجملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة ودام على ذلك لهبها حتى تأثر له النيران وصار نور الشمس على الارض يعتريه صفرة ولونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره* وأخبرنى جمع ممن توجه للزيارة على طريق الشام انهم شاهدوا ضوأها على ثلاث مراحل للمجدّ وآخرون انهم شاهدوها من جبال سارية ونقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضى المدينة انّ هذه النار رؤيت من مكة ومن الفلاة جميعها ورآها أهل الينبع قال أبو شامة وأخبرنى بعض من أثق به ممن شاهدها بالمدينة انه بلغه انه كتب بتيماء على ضوئها الكتب* وقال المجد الشمس والقمر فى المدّة التى ظهرت فيها ما يطلعان الا كاسفين* قال أبو شامة وظهر عندنا بدمشق أثر ذلك الكسوف من ضعف النور على الحيطان وكنا حيارى فى سبب ذلك الى أن بلغنا الخبر عن هذه النار ويقول فى آخر كلامه وعجائب هذه النار وعظمها يكل عن وصفها اللسان والاقلام وتجل أن يحيط بشرحها البيان والكلام فظهر بظهورها معجزة للنبىّ صلى الله عليه وسلم لوقوع ما أخبر به وهى هذه النار اذ لم يظهر من زمنه قبلها ولا بعدها نار مثلها* قال القسطلانى ان جاء من أخبر برؤيتها ببصرى فلا كلام والا فيحتمل أن يكون ذكر ذلك فى الحديث على وجه المبالغة فى ظهورها أو أنها بحيث ترى وقد جاء من أخبر انه أبصرها بتيماء وبصرى منها مثل ما هى من المدينة فى البعد* وعن القرطبى انه بلغه انها رؤيت من جبال بصرى* قال الشيخ عماد الدين بن كثير اخبرنى قاضى القضاة صدر الدين الحنفى قال اخبرنى والدى الشيخ صفى الدين مدرس مدرسة بصرى انه أخبره غير واحد من الاعراب صبيحة الليلة التى ظهرت فيها هذه النار ممن كان يحاضره ببلد بصرى انهم رأوا صفحات أعناق ابلهم فى ضوء تلك النار فقد تحقق بذلك انها الموعود بها* قال المؤرّخون وكان ظهور هذه النار من صدر واد يقال له وادى أخيليين* وقال البدر بن فرحون انها سالت فى وادى أخيليين وموضعها شرقى المدينة على طريق السوارقية مسيرة من الصبح الى الظهر* وقال القسطلانى ظهرت فى جهة المشرق على مرحلة متوسطة من المدينة فى موضع يقال له قاع الهيلا على قرب من مساكن قريظة شرقى قباء فهى بين قريظة وموضع يقال له أحيليين ثم عرجت واستقبلت الشأم سائلة الى أن وصلت الى موضع يقال له قرين الارنب بقرب من أحد فوقفت وانطفأت وانصرفت* قال المؤرّخون واستمرّت هذه النار مدّة ظهورها تأكل الاحجار والجبال وتسيل سيلا ذريعا فى واد يكون طوله مقدار أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف وهى تجرى على وجه الارض والصخر يذوب حتى يبقى مثل الانك فاذا خمد اسودّ بعد ان كان أحمر ولم يزل يجتمع من هذه الحجارة المذابة فى آخر الوادى عند منتهى الحرّة حتى قطعت فى وسط وادى الشظاة الى جهة جبل وعر فسدّت الوادى المذكور بسد عظيم من الحجر المسبوك بالنار ولا كسدّ ذى القرنين يعجز عن وصفه الواصف ولا مسلك لانسان فيه ولا دابة وهذا من فوائد ارسال هذه النار فان تلك الجهة كثيرا ما يطرق منها المفسدون لكثرة الاعراب بها فسار السلوك الى المدينة متعسرا عليهم جدّا* قال القسطلانى أخبرنى جمع ممن أركن الى قولهم انّ النار تركت على الارض من الحجر ارتفاع رمح طويل على الارض الاصلية* قال المؤرّخون انقطع وادى الشظاة بسبب ذلك وصار السيل اذا سال ينحبس خلف السدّ المذكور حتى يصير بحرا مد البصر عرضا وطولا فانخرق من تحته فى سنة تسعين وستمائة لتكاثر الماء من خلفه فجرى فى الوادى المذكور سنتين كاملتين أما السنة الاولى فكانت ملئ ما بين جانبى الوادى وأما الثانية فدون ذلك ثم انخرق مرّة أخرى فى العشر الاول بعد السبعمائة فجرى سنة كاملة أو أزيد ثم انخرق فى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وكان ذلك بعد تواتر أمطار عظيمة فى الحجاز فكثر الماء وعلا

(2/374)


من جانبى السدّ ومن دونه مما يلى جبل وعر وتلك النواحى فجاء سيل طام لا يوصف ولو زاد مقدار ذراع فى الارتفاع وصل الى المدينة وكان أهل المدينة يقفون خارج باب البقيع على التل الذى هناك فيشاهدونه ويسمعون خريرا توجل القلوب دونه فسبحان القادر على ما يشاء* ومن العجائب انّ فى السنة التى ظهرت فيها هذه النار احترق المسجد الشريف النبوى بعد انطفائها وسيجىء وزادت دجلة زيادة عظيمة فغرق أكثر بغداد وتهدّمت دار الوزير وكان ذلك انذارا لهم وليتهم اتعظوا*

ذكر احتراق المسجد النبوى
قال المؤرّخون احترق المسجد النبوى ليلة الجمعة أوّل شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستمائة فى أوّل الليل ونقل أبو شامة انّ ابتداء حرقه كان من زاويته الغربية من الشمال وسبب ذلك كما ذكره أكثرهم انّ أبا بكر بن أوحد الفراش أحد القوام بالمسجد الشريف دخل الى حاصل المسجد هناك ومعه نار فغفل عنها الى ان علقت فى بعض الالات التى كانت فى الحاصل وأعجزه اطفاؤها ثم احترق الفراش المذكور والحاصل وجميع ما فيه* وقال القسطلانى دخل أحد قومة المسجد فى المخزن الذى فى الجانب الغربى من أخريات المسجد لاستخراج قناديل لمنائر المسجد فاستخرج منها ما احتاج اليه ثم ترك الضوء الذى كان فى يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق فاشتعلت فيه النار وبادر لان يطفئه فغلبته وعلقت بحصر المسجد وبسطه وأقفاص وقصب كان فى المخزن ثم تزايد الالتهاب وتضاعف الى ان علا الى سقف المسجد* وفى العبر للذهبى ان حرقه كان من مسرجة القوّام* قال المؤرّخون ثم دبت النار فى السقف بسرعة آخذة قبلة وأعجزت الناس عن اطفائها بعد أن نزل أمير المدينة واجتمع معه غالب أهل المدينة فلم يقدروا على اطفائها وما كان الا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف واحترق جميعه حتى لم يبق خشبة واحدة سالمة قال القسطلانى وتلف جميع ما احتوى عليه المسجد الشريف من المنبر النبوى والابواب والخزائن والشبابيك والمقاصير والصناديق وما اشتملت عليه من كتب وكسوة الحجرة وكان عليها أحد عشر ستارة* ثم ذكر القطب حكما لذلك وأسرارا ككون تلك الزخارف لم ترضاه عليه السلام وأنشد ابراهيم بن محمد الكنانى رئيس المؤذنين هو وأبوه قال وجد بعد الحريق فى بعض جدران المسجد بيتان وهما شعر
لم يحترق حرم النبىّ لريبة ... يخشى عليه وما به من عار
لكنه أيدى الروافض لامست ... تلك الرسوم فطهرت بالنار
وأوردهما المجد هكذا شعر
لم يحترق حرم النبىّ لحادث ... يخشى عليه ولادها والعار
لكنما أيدى الروافض لامست ... ذاك الجناب فطهرته النار
ولم يسلم سوى القبة التى أحدثها الناصر لدين الله لكونها بوسط صحن المسجد وببركة المصحف الشريف العثمانى وعدة صناديق كبار*

ذكر الاحتراق الثانى
قال المؤرّخون احترق المسجد النبوى ثانى الاحتراقين أوّل الثلث الاخير من ليلة الثالث عشر من شهر رمضان عام ست وثمانين وثمانمائة وذلك انّ رئيس المؤذنين وصدر المدرسين الشيخ شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالرئيسة وصعد المؤذنون بقية المنائر وقد تراكم الغيم فحصل رعد قاصف أيقظ النائمين فسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة فسقط شرقى المسجد وله لهب كالنار وانشق رأس المنارة وتوفى الرئيس المذكور لحينه صعقا ففقد صوته من كان على بقية المنائر فنادوه فلم يجب فصعد اليه بعضهم فوجده ميتا وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الاعلى بين المنارة الرئيسة وقبة الحجرة النبوية

(2/375)


فثقبه ثقبا كالترس وعلقت النار فيه وفى السقف الاسفل ففتح الخادم أبواب المسجد قبل الوقت المعتاد وقبل اسراجه ونودى بالحريق فى المسجد فاجتمع أمير المدينة وأهلها بالمسجد الشريف وصعد أهل النجدة منهم بالمياه لاطفاء النار وقد التهبت سريعا فى السقفين وأخذت لجهة الشمال والمغرب فعجزوا عن اطفائها وكلما حاولوه لم تزدد الا التهابا واشتعالا فحاولوا قطعها بهدم بعض ما أمامها من السقف فسبقتهم لسرعتها وتطبق المسجد بدخان عظيم فخرج غالب من كان به ولم يستطيعوا المكث فكان ذلك سبب سلامتهم وهرب من كان بسطح المسجد الى شماليه ونزلوا بما كان معهم من حبال الدلاء التى استقوا بها الماء لخارج المسجد على الميضأة والبيوت التى هناك وما حول ذلك وسقط بعضهم فهلك ونزل طائفة منهم الى المسجد من الدرج فاحترق بعضهم ولجأبقيتهم الى صحن المسجد مع من حالت النار بينه وبين أبواب المسجد ممن كان اسفل منهم ومنهم الشيخ شمس الدين محمد بن المسكين المعروف بالعوفى فمات بعد أيام لضيق نفسه بسبب الدخان واحترق من الخدام الزينى سند نائب خازندار الحرم ومات جماعة تحت هدم الحريق من الفقراء وسودان المدينة وجملة من مات بسبب ذلك بضع عشرة نفسا وكان سلامة من بقى بالمسجد على خلاف القياس لانّ النار عظمت جدّا حتى صار المسجد كبحر لجىّ من نار ولها زفير وشهيق وألسن تصعد فى الجوّ وصار لهبها يؤثر من بعيد حتى أثرت فى النخلات التى فى صحن المسجد* وفى سنة أربع وخمسين وستمائة خرج الطاغية العنيد مبيد الامم هولاكو فأخذ قلعة الموت من الاسماعيلية وقتلهم وأخرب نواحى الرى وبذلت السيوف على عوائدهم فتوجه الكامل محمد صاحب ميافارقين الى خدمة هولاكو فأعطاه القرمان ثم نزل هولاكو باذربيجان وأخذها* وفى سنة خمس وخمسين وستمائة ثارت فتنة مهولة ببغداد بين السنية والرافضة أدّت الى نهب عظيم وخراب وقتل عدّة من الرافضة فغضب لها وتنمر ابن العلقمى الوزير وجسر التتار على العراق ليشتفى من السنية*

وصول هولاكو الى بغداد
وفى أوّل سنة ست وخمسين وستمائة وصل الطاغية هولاكو بن تولى بن جنكيزخان المغلى بغداد بجيوشه وبالكرج وبعسكر الموصل فخرج الدويدار بالعسكر فالتقى طلائع هولاكو وعليهم ياجونوس فانكسر المسلمون لقلتهم ثم أقبل ياجونوس فنزل على بغداد من غربيها ونزل هولاكو من شرقيها فقال الوزير ابن العلقمى للخليفة المستعصم بالله انى أخرج الى القاآن الاعظم فى تقرير الصلح فخرج الكلب وتوثق لنفسه ورجع فقال انّ القاآن قد رغب فى أن يزوّج بنته بابنك وأن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية ويرحل عنك فخرج المستعصم فى أعيان دولته وأكابر الوقت ليحضروا العقد فضربت رقاب الجميع وقتلوا الخليفة رفسوه حتى مات ودخلت التتار بغداد واقتسموها وكل أخذ ناحية وبقى السيف يعمل أربعة وثلاثين يوما وقلّ من سلم فبلغت القتلى ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة فعند ذلك نادوا بالامان ثم أمر هولاكو بضرب عنق ياجونوس لكونه كاتب الخليفة وأرسل الى صاحب الشام يهدّده ان لم يخرب أسوار بلاده كذا فى دول الاسلام* وفى تاريخ الجمالى يوسف سبب قتل المستعصم بالله انه لما ولى الخلافة لم يستوثق أمره لانه كان قليل المعرفة بتدبير الملك نازل الهمة مهملا للامور المهمة محبا لجمع المال أهمل أمر هولاكو وانقاد الى وزيره ابن العلقمى حتى كان فى ذلك هلاكه وهلاك الرعية فانّ وزيره ابن العلقمى الرافضى كان كتب كتابا الى هولاكو ملك التتار فى الدشت انك تحضر الى بغداد وانا أسلمها لك وكان قد داحل قلب اللعين الكفر فكتب هولاكو انّ عساكر بغداد كثيرة فان كنت صادقا فيما قلته وداخلا فى طاعتنا فرّق عساكر بغداد ونحن نحضر* فلما وصل كتابه الى الوزير دخل الى المستعصم وقال ان جندك كثيرة وعليك كلفة كبيرة والعدوّ قد رجع

(2/376)


من بلاد العجم والصواب انك تعطى دستور الخمسة عشر ألفا من عسكرك وتوفر معلومهم فأجابه المستعصم لذلك فخرج الوزير لوقته ومحا اسم من ذكر من الديوان ثم نفاهم من بغداد ومنعهم من الاقامة بها ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الاولى ومحا اسم عشرين ألفا من الديوان ثم كتب الى هولاكو بما فعل وكان قصد الوزير بمجىء هولاكو أشياء منها انه كان رافضيا خبيثا وأراد أن ينقل الخلافة من بنى العباس الى العلويين فلم يتم له ذلك من عظم شوكة بنى العباس وعساكرهم فافكر أن هولاكو اذا قدم يقتل المستعصم وأتباعه ثم يعود الى حال سبيله وقد زالت شوكة بنى العباس وقد بقى هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانع لضعف العساكر ولقوّته ثم يضع السيف فى أهل السنة فهذا كان قصده لعنه الله* ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد ركب وقصدها الى أن نزل عليها وصار المستعصم يستدعى العساكر ويتجهز لحرب هولاكو وقد اجتمع أهل بغداد وتحالفوا على قتال هولاكو وخرجوا الى ظاهر بغداد ومشى عليهم هولاكو بعساكره فقاتلوا قتالا شديدا وصبر كل من الطائفتين صبرا عظيما وكثرت الجراحات والقتلى فى الفريقين الى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد وانكسر هولاكو أقبح كسرة وساق المسلمون خلفهم وأسروا منهم جماعة وعادوا بالاسرى ورؤس القتلى الى ظاهر بغداد ونزلوا بخيمهم مطمئنين بهروب العدوّ فأرسل الوزير ابن العلقمى فى تلك الليلة جماعة من أصحابه فقطعوا شط الدجلة فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون فغرقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم وصار السعيد منهم من لقى فرسا يركبها وكان الوزير قد أرسل الى هولاكو يعرّفه بما فعل ويأمره بالرجوع الى بغداد فرجعت عساكر هولاكو الى ظاهر بغداد فلم يجدوا هناك من يردّهم فلما أصبحوا استولوا على بغداد وبذلوا فيها السيف ووقع منهم أمور يطول شرحها والمقصودان هولاكو استولى على بغداد وأخذ المستعصم أسيرا ثم بذل السيف فى المسلمين فلم يرحم شيخا كبير الكبره ولا صغير الصغره* ولما أخذ الخليفة أسيرا هو وولده وأحضر بين يديه أمر به هولاكو فأخرج من بغداد وأنزله بمخيم صغير بظاهر بغداد هو وولده ثم فى عصر ذلك اليوم وضع الخليفة وولده فى عدلين وأمر التتار برفسهما الى أن ماتا فى المحرّم سنة ست وخمسين وستمائة ثم نهبت دار الخلافة ومدينة بغداد حتى لم يبق فيها لا ما قلّ ولا ما جلّ ثم أحرقت بغداد بعد أن قتل اكثر أهلها حتى قيل ان عدّة من قتل فى نوبة هولاكو يزيد على ألفى ألف وثلاثين ألف انسان وانقرضت الخلافة من بغداد بقتل المستعصم هذا وبقيت الدنيا بلا خليفة سنين الى أن أقام الملك الظاهر بيبرس البند قدارى بعض بنى العباس فى الخلافة حسبما يأتى ذكره على سبيل الاختصار* وكانت خلافة المستعصم خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما وتقدير عمره سبع وأربعون سنة وزالت الخلافة من بغداد قال الشاعر
خلت المنابر والاسرة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
وأما الوزير العلقمى فلم يتم له ما أراد من أن التتار يبذلون السيف فى أهل السنة فجاء بخلاف ما أراد وبذلوا السيف فى أهل السنة والرافضة كلهم وهو فى منصبه مع الذل والهوان وهو يظهر قوّة النفس والفرح وأنه بلغ مراده فلم يلبث أن أمسكه هولاكو بعد قتل المستعصم بأيام ووبخه بألفاظ شنيعة معناها انه لم يكن له خير فى مخدومه ولا فى دينه فكيف يكون له خير فى هولاكو ثم انه قتله أشرّ قتلة فى أوائل سنة سبع وخمسين وستمائة الى سقر لا دنيا ولا آخرة* وفى دول الاسلام وهو الوزير المدبر المتبر مؤيد الدين محمد بن محمد بن العلقمى قرّر مع هولاكو أمورا فانعكست عليه وعض يده ندما وبقى يركب اكديشا فنادته عجوز يا ابن العلقمى أهكذا كنت تركب فى أيام المستعصم واستشهد ببغداد

(2/377)


العلامة استاذ دار الخلافة محيى الدين يوسف بن الجزرى وأولاده وفيها نزل هولاكو على آمد وبعث اليه صاحب ماردين بالتقادم مع ولده الملك المظفر فقبض واشتدّت الاراجيف بقصد التتار الى الشام ونزح الخلق الى مصر فقبض الامير قطن على ابن استاذه الملك المنصور بن المعز وتسلطن ولقب بالملك المظفر ونازلت التتار فى آخر العام حلب ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة وهولاكو قد عدّى الفرات بجيوشه لمحاصرته حلب فنزلوها ففى اليوم الثامن أخذوا حلب وركبوا السور الخارج ونزلوا فوضعوا السيف يومين وأبادوا الخلق ثم أخذوا قلعة حلب الداخلة بالامان وعصت قلعة دمشق وحاصرتها التتار وبالاخرة نزل أهلها وسكنها نائب التتار وسلموا قلعة بعلبك وأخذوا نابلس وغيرها بالسيف*

(خلافة المستنصر بالله أبى العباس أحمد بن الخليفة الظاهر بالله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضىء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفى محمد العباسى الاسود)
* وكانت أمه حبشية وقد تقدّم بقية نسبه وكان بطلا شجاعا قدم مصر وعرفوه وهو عم المستعصم المقتول بويع المستنصر هذا بالخلافة بالقاهرة* وقصته انه كان معتقلا ببغداد فى وقعة التتار ولما حضر الى الديار المصرية فى تاسع شهر رجب ركب السلطان الظاهر بيبرس التركى القفجاقى البندقدارى ثم الصالحى النجمى وخرج الى تلقيه فى موكب عظيم فتلقاه وأكرمه وأنزله بقلعة الجبل وقصد السلطان اثبات نسبه الى العباس وتقريره فى الخلافة لكونها كانت شاغرة من يوم قتل المستعصم من سنة ست وخمسين الى يوم تاريخه فعمل السلطان الموكب وأحضر الامراء والقضاة والعلماء والفقهاء والصالحاء وأعيان الصوفية بقاعة الأعمدة من قلعة الجبل وحضر السلطان وتأدب مع المستنصر وجلس بغير مرتبة ولا كرسى وأمر باحضار العربان الذين حضروا مع المستنصر من العراق فحضروا وحضر طواشى من البغاددة فسألوا منه هذا هو الامام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله فقال نعم وشهد جماعة بالاستفاضة وهم جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر وعلم الدين بن دستق وصدر الدين بن برهوت الجزرى ونجيب الدين الحرانى وسديد الدين البرمينى نائب الحكم بالقاهرة عند قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الاعز فسجل على نفسه بالثبوت فلما ثبت قام قاضى القضاة قائما وأشهد على نفسه بثبوت النسب وبايعه فتمت بيعة المستنصر بالخلافة وكتب السلطان الى النوّاب والملوك بأن يخطبوا باسمه واسم السلطان الظاهر ثم ان الخليفة خلع على السلطان بيبرس خلعته فلبسها السلطان ونزل من القلعة فى موكبه وشق القاهرة وهى فرجية سوداء بتركيبة زركش وعمامة سوداء وطوق من ذهب وسيف بداوى ثم كتب للسلطان تقليدا عظيما فلما تم ذلك كله أخذ السلطان فى تجهيز المستنصر وارساله الى بغداد فرتب له الامير سابق الدين أتابكا والسيد الشريف أحمد أستادارا والامير فتح الدين بن الشهاب خازندارا والامير ناصر الدين صبرم دويدارا وبلبان الشمسى وأحمد بن أيدمر اليعمرى دويدارين أيضا والقاضى كمال الدين السخاوى وزيرا وعين له السلطان خانه وسلاح خزانه ومماليك كبارا وصغارا أربعين نفرا وأمر له بمائة فرس وعشر قطار من الجمال وعشر قطار من البغال وعين له البيوتات على العادة وجهز معه خمسمائة فارس ثم تجهز السلطان أيضا وخرج بعساكره الى دمشق ثم من دمشق جرّد معه الامير بلبان الرشيدى وسنقر الرومى ومعهما طائفة من العساكر المصرية والشامية وأوصاهما أن يوصلا المستنصر الى الفرات ثم ودّع السلطان الخليفة وسافر الخليفة فى ثالث ذى القعدة من سنة تسع وخمسين وستمائة وسار الى أن نزل على الرحبة فلقى عليها الامير على بن خديشة من آل فضل فى أربعمائة فارس فرحلوا فى خدمة الخليفة الى أن نزل مشهد على ثم قصد هيت فاتصل خبره بقرابغا مقدّم التتار ببغداد وبات المستنصر ليلة الاحد ثالث المحرّم من

(2/378)


سنة ستين بجانب الانبار فلما أصبح وصل قرابغا المذكور بمن معه من عساكر التتار فاقتتلوا فانكسر مقدّم التتار ووقع أكثرهم فى الفرات* وكان قرابغا قد أكمن جماعة من عسكره فخرج الكمين وأحاط بعسكر الخليفة فقتلوا عسكر الخليفة ولم ينج منهم الا من طوّل الله فى عمره وأضمرت البلاد الخليفة المستنصر وعدم فى الوقعة ولم يعلم له خبر الى يومنا هذا* وقد اختصر ناقصة المستنصر وبيعته من خوف التطويل* وفى دول الاسلام فى سنة تسع وخمسين وستمائة تجمع فى أوّلها خلق من التتار من الذين بالجزيرة وغيرهم فأغاروا على حلب وساقوا الى حمص عند ما سمعوا بقتل السلطان الذى كسرهم فالتقاهم صاحب حمص الملك الاشرف وصاحب حماة وحسام الدين الجوكندار وعدّتهم ألف وأربعمائة فارس والتتار فى ستة آلاف فحمل المسلمون حملة صادقة فكان لهم النصر ووضعوا السيف فى الكفرة حتى حصدوا أكثرهم وانهزم مقدّمهم بيدو باسوء حال والعجب انه ما قتل من المسلمين سوى رجل واحد* وفى سنة ستين وستمائة فى رمضان أخذت التتار الموصل بعد حصار تسعة أشهر أخذوها بخديعة وطمنوا الناس حتى خربوا السور ثم وضعوا السيف فى الخلق تسعة أيام ثم قتلوا صاحبها الصالح اسمعيل بن بدر الدين لؤلؤ وفيها وقع الحرب بين هولاكو وبين ابن عمه بركه صاحب مملكة القفجاق فانكسر هولاكو وقتلت أبطاله*

(خلافة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن على الفتى بن الراشد بالله منصور بن المسترشد الفضل بن المستظهر أحمد بن المقتدى عبد الله بن الامير محمد الذخيرة الهاشمى العباسى)
* أمير المؤمنين أوّل خلفاء مصر من بنى العباس قدم الى مصر فى يوم الخميس السادس والعشرين من صفر سنة ستين وستمائة فأنزله الظاهر بيبرس الصالحى النجمى البند قدارى بالبرج الكبير من قلعة الجبل ورتب له من الرواتب ما يكفيه فأقام على ذلك الى ثامن المحرّم سنة احدى وستين وستمائة فعقد له الملك الظاهر مجلس البيعة بالايوان من القلعة وحضر الوزير والقضاة والامراء وأرباب الدولة وقرئ نسب الحاكم هذا على قاضى القضاة وشهد عنده جماعة فأثبته ثم مدّ يده فبايعه بالخلافة ثم بايعه السلطان ثم الوزير ثم الاعيان على طبقاتهم وخطب له على المنبر وكتب السلطان الى النوّاب والى ملوك الاقطار أن يخطبوا باسمه ثم أنزله السلطان الى مناظر الكبش فأسكنه بها الى ان مات* وفى دول الاسلام فعند ذلك قلد السلطنة للملك الظاهر ومن الغد خطب الحاكم بأمر الله المذكور خطبة أوّلها الحمد لله الذى أقام لال العباس ركنا وظهيرا*

هلاك هولاكو
وفى أيامه فى سنة أربع وستين وستمائة مرض طاغية المغول هولاكو بن تولى بن جنكيزخان الذى أباد الامم ببغداد وحلب وكان ذا سطوة وهيبة شديدة وحزم ودهاء وخبرة بالحروب مات على دينه بعلة الصرع بمراغة وبنوا على قبره قبة بقلعة تلا وقام بعده ابنه أبغا وفى رجب سنة خمس وستين وستمائة مات صاحب مملكة القفجاق بركه بن نوشى بن جنكيزخان وقام بعده منكوتمر ابن أخيه* وفى سنة ست وستين وستمائة مات صاحب الروم ركن الدين كيقباد بن السلطان كيخسرو بن كيقباد السلجوقى وكان هو وأبوه من تحت أوامر التتار فقتلوه فى هذه السنة وله نحو من ثلاثين سنة* وفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة مات بالروم الصدر القونوى وببغداد خواجا نصير الطوسى* وفى سنة أربع وسبعين وستمائة نازلت التتار فى ثلاثين ألفا البيرة فكبسهم أهل البيرة وأحرقوا المجانيق فترحلوا بعد حصار تسعة أيام وفى سنة ست وسبعين وستمائة فى رجبها مات شيخ الاسلام شيخ الشافعية القدوة الزاهد العلم محيى الدين يحيى بن شرف الدين النووى وله خمس وأربعون سنة ونصف وله سيرة مفردة فى علومه وتصانيفه ودينه ويقينه وورعه وزهده وقناعته باليسير وتعبده وتهجده وخوفه من الله تعالى وقبره بنوى يزار*

وقعة التتار فى حمص
وفى سنة ثمانين وستمائة كانت وقعة حمص أقبلت التتار كالسيل وعدّوا الفرات وانجفل

(2/379)


الخلق وتهيأ السلطان بدمشق فنازل الرحبة ثلاثة آلاف وجاء منكو تمر بن هولاكو بمائة ألف من ناحية حلب وخرج الجيش المنصور مع السلطان المنصور وحضر الى خدمته سنقر الاشقر فاحترمه السلطان وحضر أيدمش السعدى والحاج ازدمر فكان المصاف شمالى حمص فى رجب بكرة الخميس وكان الجيش المنصور يقارب خمسين ألف راكب فاستظهر العدوّ أوّلا وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة وثبت السلطان أيده الله بمن حوله من أبطال المسلمين وبقى المصاف الى بعد العصر وثبت الفريقان وكثر القتل وأشرف الاسلام على خطة صعبة ثم تناجى الكبار مثل بيسرى وسنقر الاشقر وعلاء الدين طيبرس وأيدمش السعدى وأمير سلاح بكتاش وطرنطاى المنصورى ونائب الشام لاجين وحملوا على التتار عدّة حملات الى أن جرح منكو تمر فاشتغلت التتار فقيل انّ الجارح له ازدمر ساق وخرق فى التتار الى عند مقدّمهم منكوتمر وطعنه برمحه فاستشهد ازدمر رحمه الله ونزل النصر وركب المسلمون أقفية التتار واستجرّ بهم القتل وبقى السلطان واقفا فى نحو ألف فارس عند الماء وقد رجعت التتار الذين كسروا الميسرة فمرّوا بالسلطان والكوسات تضرب فلما جاوزوه حملت الخاصكية عليهم فانهزموا لا يلوون وذهبت فرقة على سلمية وفرقة على الرستن بأسوء حال ثم نزل السلطان بعد هوىّ من الليل مؤيدا مظفرا ولله المنة وزينت البلاد وعاشت العباد ووصل خبر النصر بكرة بعد أن عاين أهل دمشق من نصف الليل الى بكرة سكرات الموت وتودّعوا من أولادهم وأحبابهم فان عدوّهم كانوا كفارا لا يبقون على مسلم لو ملكوا واستشهد نحو المائتين منهم ازدمر وسيف الدين الرومى وشهاب الدين توتل وناصر الدين الكاملى وعز الدين بن النصرة وهلك متكوتمر من تلك الطعنة ومات أخوه الطاغية أبغا بعد شهرين وكان كافرا سفاكا للدماء مات بهمدان وله نحو من خمسين سنة وتملك بعده أخوه الملك أحمد الذى أسلم* وفيها مات بالموصل الامام شيخ الوقت موفق الدين أحمد بن يوسف الكواشى الزاهد المفسر وله سبعون سنة* وفى أوّل سنة احدى وثمانين وستمائة مات منكو تمر بن هولاكو عاش ثلاثين سنة وكان ذا شجاعة واقدام وكفر نفس وجرآءة على الله وعلى عباده تمرّض من جرحه واعتراه صرع حتى هلك* وفى سنة ثلاث وثمانين وستمائة مات صاحب خراسان والعراق وأذربيجان والروم أحمد بن هولاكو بن تولى بن جنكيزخان وكان قد دخل به الاحمدية النار بين يدى هولاكو فوهبه لهم وسماه أحمد فأسلم وهو صبى وتسلطن بعد أبغا وراسل السلطان الملك المنصور فى الصلح عاش بضعا وعشرين سنة قتله أرغون بن أبغا وملك البلاد بعده* وفيها توفى صاحب حماة الملك المنصور محمد بن الملك المظفر الايوبى وكانت دولته اثنتين وأربعين سنة وأمه هى غازية أخت السلطان الملك الصالح أيوب وتملك بعده ابنه الملك المظفر* وفى سنة سبع وثمانين وستمائة توفى بمصر الزاهد القدوة الشيخ ابراهيم بن معصار الجعبرى وله ثمان وثمانون سنة وشيخ الاطباء علاء الدين على بن أبى الحزم بن النفيس الدمشقى صاحب التصانيف بمصر وكان من أبناء الثمانين* وفى سنة تسعين وستمائة مات أرغون بن أبغا ملك التتار وكان ظلوما غشوما مات على كفره شابا وكان مقداما شجاعا جبارا شديد القوى يصفّ ثلاثة أفراس ويقف الى جنب أوّلها ويطفر فى الهواء فيركب الثالثة وهو والد قازان وخربنده* وفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة مات كنجتو بن هولاكو طاغية التتار تسلطن بعد موت أرغون فى سنة تسعين ومالت طائفة الى بيدو ابن أخيه فملكوه ووقع الخلف بينهم ثم قوى بيدو وقاد الجيوش فالتقى الجمعان فقتل كنجتو واستقل بيدو بالممالك فخرج عليه نائب خراسان غارى بن أرغون وجمع الجيوش وطلب الملك* وفى سنة أربع وتسعين وستمائة دخل

(2/380)


ملك التتار غازان بن أرغون فى الاسلام وتلفظ بالشهادتين باشارة نائبه نوروز ونثر الذهب واللؤلؤ على الخلق وكان يوما مشهودا ثم لقنه نوروز شيئا من القرآن ودخل رمضان فصامه وفشا الاسلام فى التتار وفيها توفى شيخ الحرم الحافظ الفقيه محب الدين أحمد بن عبد الله الطبرى مصنف الاحكام عن تسع وسبعين سنة* وفى سنة ثمان وتسعين وستمائة مات ببغداد ياقوت المستعصمى الرومى صاحب الخط البديع* وفى سنة تسع وتسعين وستمائة مات من مشايخ دمشق المسند شرف الدين أحمد بن هبة الله بن عساكر وله خمس وثمانون سنة وشيخ المغرب الواعظ القدوة العارف بالله أبو محمد عبد الله بن محمد المرجانى بتونس* وفى سنة سبعمائة ألبست النصارى واليهود بمصر والشام العمائم الزرق والصفر واستمرّ ذلك* وفى سنة احدى وسبعمائة فى صفر ختق شيخ الحنفية العلامة ركن الدين عبيد الله بن محمد السمرقندى البارسا مدرس الظاهرية وألقى فى بركتها وأخذ ماله ثم ظهر قاتله أنه قيم الظاهرية فشنق على حائطها* وفى ربيع الاوّل ثبت على قاضى ماردين ونقل ثبوته الى قاضى حماة انه وقع هناك برد على صورة حيات وعقارب وطيور ورجال وسباع* وفى ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الاولى سنة احدى وسبعمائة توفى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد الخليفة العباسى فى سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثانية ودفن بجوار السيدة نفيسة فى قبة بنيت له وكانت خلافته أربعين سنة وأشهرا وهو أوّل خليفة دفن بمصر من بنى العباس*

(خلافة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبى العباس أمير المؤمنين الهاشمى العباسى ثانى خلفاء مصر)
* وقد تقدّم بقية نسبه فى ترجمة أبيه الحاكم بويع بالخلافة بعهد من أبيه فى جمادى الاولى سنة احدى وسبعمائة وعمره عشرون سنة وقرئ تقليده بعد عزآء والده وخطب له على المنابر على العادة وسكن مكان والده* وفى سنة اثنتين وسبعمائة مات قاضى القضاة بقية الاعلام تقىّ الدين محمد بن على بن دقيق العيد بالقاهرة وله سبع وسبعون سنة* وفى سنة ثلاث وسبعمائة فى شوّالها مات صاحب العراق غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بقرب همدان مسموما وكان شابا لم يتكهل وتملك بعده أخوه خربنده محمد* وفى سنة خمس عشرة وسبعمائة مات المفتى الاصولى صفىّ الذين محمد بن عبد الرحيم الارموى ثم الهندى بدمشق عن احدى وسبعين سنة وكان شيخ الشيوخ ومدرس الظاهرية وفيها مات صاحب الشرق خربنده بن ارغون بن أبغا المغولى عن بضع وثلاثين سنة وكان قد أظهر الرفض وأمر قبل هلاكه ببذل السيف فى أهل باب الازج لامتناعهم عن اقامة الخطبة على شعار الشيعة فما أمهله الله فمات بهيضة شديدة وملكوا بعده ولده أبا سعيد فأظهر السنة وأقام المستكفى بالله فى الخلافة الى أن سافر فى صحبة الملك الناصر محمد بن قلاوون الى البلاد الشامية فى نوبة غازان ثم رجع وأقام بالقاهرة على عادته الى سنة ست وثلاثين وسبعمائة فتغير الملك الناصر عليه وأمره بسكنى القلعة فسكن بقلعة الجبل أربعة أشهر وسبعة عشر يوما ثم أمره بالنزول الى داره بالكبش فنزل اليها وسكنها على عادته مدّة الى أن بلغ السلطان ما غيره عليه فرسم له يوم السبت ثانى عشر ذى الحجة من سنة ست وثلاثين وسبعمائة بالتوجه الى قوص والسكن بها فسافر وأقام بقوص الى أن مات فى مستهل شعبان سنة احدى وأربعين وسبعمائة وورد الخبر على السلطان بموته وأنه قد عهد لولده أحمد بشهادة أربعين عدلا وأثبت قاضى قوص ذلك فلم يمض الناصر عهده لما كان فى نفسه منه وطلب ابراهيم بن محمد المستمسك بن الحاكم أحمد فى يوم الاثنين ثالث شهر رمضان واجتمع القضاة بدار العدل على العادة فعرّفهم السلطان بما أراد من اقامة ابراهيم المذكور فى الخلافة وأمرهم بمبايعته فأجابوه بعدم أهليته وأن المستكفى قد عهد لولده أحمد واحتجوا بما حكم

(2/381)


به قاضى قوص فكتب السلطان بقدوم أحمد المذكور الى القاهرة وأقام الخطباء بمصر وغيرها نحو أربعة أشهر لا يذكرون فى خطبتهم اسم الخليفة فلما قدم أحمد من قوص لم يمض السلطان عهده وطلب ابراهيم ثانيا وعرّفه قبح سيرته وما سمع عنه فأظهر التوبة منها والتزم سلوك طريق الخير فاستدعى السلطان القضاة وعرفهم انه قد أقام ابراهيم فى الخلافة فأخذ قاضى القضاة عز الدين بن جماعة يعرّفه عدم أهليته فلم يلتفت السلطان الى كلامه وقال له انه قد تاب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فبايعوه ولقب بالواثق وكانت العامة تسميه المستعطى فانه كان قبل ذلك يستعطى من الناس ما ينفقه* واستمرّ ابراهيم فى الخلافة على زعم الملك الناصر الى ان مات الناصر وتسلطن ولده المنصور أبو بكر فى يوم الخميس حادى عشرى ذى الحجة سنة احدى وأربعين وسبعمائة فلما كان يوم السبت سلخ الحجة طلب الملك المنصور القضاة والاعيان واجتمعوا بجامع القلعة للنظر فى أمر أحمد المستكفى فاتفق الامر على خلافة أحمد المذكور بعهد أبيه اليه بمقتضى المكتوب الثابت على قاضى قوص فبويع ولقب بالحاكم بأمر الله على لقب جدّه وكان لقب به فى حياة أبيه* وقد اختلف المؤرّخون فى خلافة ابراهيم هذا فمنهم من عدّه فى الخلفاء لكون السلطان أقامه وبايعه ومنهم من لم يعدّه لكون المستكفى كان عهد لولده أحمد والناظر فى أمرهما بالخيار لما عرفته فان شاء أثبت وان شاء نفى والله أعلم*

(خلافة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بن المستكفى سليمان)
* أمير المؤمنين الهاشمى العباسى المصرى بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه بقوص فى العشرين من شعبان سنة احدى وأربعين وسبعمائة ولما بلغ الناصر محمد بن قلاوون موت المستكفى لم يمض خلافة الحاكم هذا وبايع ابراهيم ولقبه بالواثق بالله فدام ابراهيم على ذلك الى ان مات الناصر وتسلطن بعده ولده المنصور أبو بكر فعزل ابراهيم وبايع الحاكم هذا وقد تقدّم ذلك كله مفصلا فاستمرّ الحاكم فى الخلافة وسكن بالكبش على عادة أبيه وجده الى ان توفى سنة أربع وخمسين وسبعمائة ولم يعهد لاحد وكانت خلافة الحاكم نحو أربع عشرة سنة تخمينا*

(خلافة المعتضد بالله أبى بكر بن المستكفى بالله سليمان بن الحاكم)
* ولما توفى الحاكم جمع المتولى لتدبير مملكة مصر الامير شيخون العمرى الناصرى الامراء والقضاة وجمع بنى العباس وعقد بسبب الخلافة مجلسا عظيما وتكلموا فيمن يبايع بالخلافة الى أن وقع الاتفاق على أبى بكر بن المستكفى أخى الحاكم بأمر الله المتوفى فى سنة أربع وخمسين وسبعمائة واستمرّ فى الخلافة الى ان توفى بالقاهرة فى ليلة الاربعاء الثامنة عشر من جمادى الاولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة وعهد بالخلافة الى ولده المتوكل محمد فكانت مدّة خلافته عشر سنين هكذا أرّخه بدر الدين حسن بن حبيب فى تاريخه المسمى بدرة الاسلاك فى تاريخ الاتراك*

(خلافة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد بن المعتضد بالله أبى بكر بن المستكفى سليمان)
* أمير المؤمنين الهاشمى العباسى المصرى بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه بعهد منه اليه فى سابع جمادى الاخرة سنة ثلاث وستين وسبعمائة والمتوكل هذا تخلف من أولاده لصلبه خمسة خلفاء وهم العباس وداود وسليمان وحمزة ويوسف الاتى ذكرهم فى محلهم وهذا شئ لم يقع لخليفة وأما أربعة فتخلف من بنى عبد الملك بن مروان وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام وأما ثلاثة اخوة فالامين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد والمستنصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل والمقتفى والمقتدر والقاهر بنو المعتضد والراضى والمقتفى والمطيع بنو المقتدر وأما الاخوان فالمقتفى والمسترشد أبناء المستظهر* قال الشيخ عماد الدين بن كثير ودام المتوكل فى الخلافة الى ان خلعه الامير ايبك البدرى فى ثالث شهر ربيع الاوّل سنة تسع وسبعين وسبعمائة واستخلف عوضه زكريا بن ابراهيم ولقب بالمعتصم ثم أعيد المتوكل هذا ثانيا حسبما يذكر وكانت خلافة

(2/382)


المتوكل فى هذه المرة نحو ستة عشر سنة*

(خلافة المعتصم بالله أبى يحيى زكريا بن ابراهيم بن الحاكم أحمد ابن محمد بن حسن بن على الفتى)
* أمير المؤمنين الهاشمى العباسى المصرى بويع بالخلافة بعد المتوكل وسبب خلافته ان أيبك البدرى لما ملك الديار المصرية بعد قتل الاشرف وقع من المتوكل هذا أمور حقدها عليه أيبك فلما انفرد أيبك بالحكم أمر نفيه الى قوص فخرج المتوكل ثم شفع فيه فعاد الى بيته ثم أصبح أيبك من الغد وهو رابع شهر ربيع الاوّل سنة تسع وسبعين وسبعمائة فاستدعى نجم الدين زكريا ابن ابراهيم المتقدّم ذكره وخلع عليه واستقربه خليفة عوضا عن المتوكل من غير مبايعة ولا خلع المتوكل نفسه ولقب زكريا بالمعتصم ودام فى الخلافة على زعم من يثبت ذلك الى رابع عشرى شهر ربيع الاوّل خلعه أيبك وأعاد المتوكل ثانيا وسببه انه لما كان رابع عشرى الشهر المذكور تكلم الامراء مع أيبك فيما فعله مع المتوكل ورغبوه فى اعادته فأذعن واستدعاه وخلع عليه باعادته الى الخلافة فكانت مدّة خلافته فى هذه المرة شهرا الاعشرة أيام*

(خلافة المتوكل على الله فى المرة الثانية)
* تقدّم ذكر نسب المتوكل فى خلافته فى المرة الاولى ولما أعيد الى الخلافة طالت أيامه ودام الى ان تسلطن الظاهر برقوق فلما كان شهر رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة قبض عليه برقوق وحبسه بقلعة الحبل وأرسل الظاهر برقوق خلف زكريا الذى كان تخلف فى أيام أيبك فى سلطنة المنصور على بن الاشرف وخلف أخيه عمر وشاور الامراء فى أمرهما ثم وقع اختيارهم على عمر فولاه الخلافة عوضا عن المتوكل هذا ولقبه الواثق بالله ودام المتوكل فى الحفظ بقلعة الجبل الى ان أعيد الى الخلافة ثالث مرّة*

(خلافة الواثق بالله أبى حفص عمر بن المعتصم ابراهيم
كان ولاه ابن قلاون الخلافة بن المستمسك بالله محمد ومحمد هذا ليس بخليفة ابن الحاكم بأمر الله أحمد الهاشمى العباسى المصرى أمير المؤمنين بويع بالخلافة لما خلع الظاهر برقوق المتوكل حسبما تقدّم ذكره وتم أمره فى الخلافة ودام فيها الى ان مرض ومات فى يوم الاربعاء سابع عشرى شوّال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة فكانت خلافته نحو ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأياما ولما توفى كلم الناس الظاهر برقوق فى اعادة المتوكل فلم يقبل وأرسل فأحضر أخاه المعتصم زكريا الذى كان ولاه أيبك تلك الايام اليسيرة وخلع عليه وأقره عوضا عن الواثق*

(خلافة المعتصم بالله ابى يحيى زكريا بن المستعصم ابراهيم بن المستمسك بالله)
* محمد أمير المؤمنين الهاشمى العباسى تقدّم ان المستمسك بالله لم يكن خليفة بويع بالخلافة ثانيا على قول من أثبت خلافته الاولى بعد موت أخيه الواثق عمر فى آخر شوّال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ودام فى الخلافة فى هذه المرة الى ان خرج الامير تمربغا الافضلى المدعو منطاس والاتابك يلبغا الناصرى اليلبغائى نائب حلب* وفى سنة احدى وتسعين استدرك الملك الظاهر فرطه وما وقع منه فى حق المتوكل فانه كان من يوم خلعه من الخلافة فى سجنه بقلعة الجبل وأرسل بطلبه وخلع عليه باستقراره فى الخلافة على عادته بعد ان حبس فى سنة خمس وثمانين الى هذه السنة وعزل المعتصم زكريا ولزم داره الى أن مات*

(خلافة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد)
* أعبد الى الخلافة ثالث مرّة فى سنة احدى وتسعين وسبعمائة وسبب اعادته ان الظاهر برقوق كان أفحش فى أمر المتوكل وعزله فلما قوى امر الناصرى ومنطاس أشاعا عن الظاهر بما فعله مع المتوكل بالبلاد الشامية فنفرت القلوب منه لهذا المعنى وغيره فلما بلغه ذلك استشار فى أمره فأشار عليه أكابر دولته بتلافى أمر المتوكل واعادته الى الخلافة ففعل ذلك وأنعم على المتوكل بأشياء كثيرة وأكرمه غاية الاكرام وتصافيا بحيث ان برقوق لما خلع من السلطنة فى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة بالمنصور حاجى وصار الناصرى مدبر مملكته ووقع لبرقوق ما وقع من الخلع والحبس بالكرك لم يتكلم فيه المتوكل بكلام قادح بالنسبة الى من تكلم

(2/383)


فى حق برقوق من أصحابه لا من أعدائه لما أيسوا من عوده فلما أعيد الظهر برقوق الى ملكه لم ينقم على المتوكل بشىء فى الظاهر ودام المتوكل فى الخلافة الى ان مات فى الدولة الناصرية فرج بن برقوق فى ليلة الثلاثاء ثامن عشرى رجب سنة ثمان وثمانمائة فكان مجموع خلافته بما كان فيها من الخلع والحبس سنين نحوا من خمس وأربعين سنة تخمينا*

(خلافة المستعين بالله أبى الفضل العباس بن المتوكل على الله أبى عبد الله محمد)
* تقدّم بقية نسبه فى تراجم آبائه أمير المؤمنين والسلطان بويع بالخلافة بعد موت أبيه فى يوم الاثنين مستهل شعبان سنة ثمان وثمانمائة بعهد منه اليه وتم أمره فى الخلافة الى أن سافر الناصر فرج الى البلاد الشامية فى سنة أربع عشرة وثمانمائة لقتال شيخ ونوروز وهى السفرة التى قتل فيها كان المستعين هذا فى صحبته فلما انكسر الناصر من الاميرين ودخل الشام يوم مات الوالد أو قبله بيوم فولى عوض الوالد فى نيابة دمشق دمرداش المحمدى وتجهز لحرب أعدائه فلم ينتج أمره وانكسر ثانيا وحوصر بدمشق وقد استولت الامراء على الخليفة هذا والقضاة وطال الامر بين الامراء والسلطان الناصر فلم يجد الامراء بدّا من خلع الناصر وسلطنة المستعين هذا فتسلطن المذكور بعد مدافعة كثيرة على كره منه* ولما تسلطن المستعين عظم أمره الى أن قتل الناصر فرج وعاد الامير شيخ المحمودى بالمستعين الى الديار المصرية وقد صار نوروز الحافظى نائبا على دمشق وأخذ شيخ يسير مع المستعين على قاعدة الخلفاء لا على قاعدة السلاطين فعظم ذلك على المستعين وكان فى ظنه انه يستبد بالامور فجاء الامر على خلاف ذلك فصار فى قلعة الجبل كالمسجون بها وليس له من الامر شئ وأخذ الامير شيخ فى أسباب السلطنة الى أن تم له ذلك وتسلطن فى يوم الاثنين مستهل شعبان من سنة خمس عشرة وثمانمائة على كره من المستعين وخلع المستعين من السلطنة من غير أمر موجب لدلك بل بالشوكة فكانت مدّة سلطنة المستعين سبعة أشهر وخمسة أيام وليس له فيها الا مجرّد الاسم فقط واستمرّ فى الخلافة وهو محتفظ به بقلعة الجبل الى ذى الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة فخلعه المؤيد شيخ من الخلافة أيضا بأخيه المعتضد داود وأرسله الى سجن الاسكندرية فسجن بها الى ان أطلقه الاشرف برسباى ورسم له بالسكنى فى الاسكندرية فسكن بها الى ان مات فى يوم الاربعاء العشرين من جمادى الاخرة سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة بالطاعون ولم يبلغ الاربعين ودفن بالاسكندرية وعهد بالخلافة الى ولده يحيى يعنى انه لم يخلع منها بطريق شرعى*

(خلافة المعتضد بالله أبى الفتح داود بن المتوكل على الله أبى عبد الله محمد أمير المؤمنين)
* الهاشمى العباسى بويع بالخلافة بعد خلع أخيه المستعين فى يوم الخمس سادس عشر ذى الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة وأقام المعتضد فى الخلافة سنين حتى انه تسلطن فى أيامه عدّة سلاطين وكان فيه كل الخصال الحسنة سيد بنى العباس فى زمانه أهلا للخلافة بلا مدافعة كريما عاقلا حلو المحاضرة يجل طلبة العلم وأهل الادب جيد الفهم له مشاركة فى أشياء كثيرة من الفنون بالذوق والمعرفة وكان يجتهد فى السير على قاعدة الخلفاء مع جلسائه وندمائه فيضعف موجوده عن هذا الامر وربما يحمل الديون بسبب ذلك وكان يحب معاشرة الناس وله أوراد فى كل يوم وتوفى بعد مرض طويل بعد ان عهد الى أخيه سليمان بالخلافة فى يوم الاحد رابع شهر ربيع الاوّل سنة خمس وأربعين وثمانمائة وشهد السلطان الظاهر جقمق الصلاة عليه بمصلى المؤمنى من تحت القلعة ودفن عند آبائه بالمشهد النفيسى خارج القاهرة*

(خلافة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بن المتوكل على الله محمد بن المعتضد أبى بكر بن الحاكم أحمد ابن المستكفى بالله سليمان بن الحاكم أحمد بن محمد بن الحسن بن على الفتى بن الراشد)
* الهاشمى العباسى أمير المؤمنين بويع بالخلافة بعد أخيه داود بعهد منه اليه فى العشر الاوّل من شهر ربيع الاوّل

(2/384)


سنة خمس وأربعين وثمانمائة فأقام فى الخلافة الى أن مات فى يوم الجمعة ثانى المحرّم سنة خمس وخمسين وثمانمائة بعد ان مرض عدّة أيام ولم يعهد لاحد من اخوته ومات وهو فى عشر الستين تخمينا وحضر السلطان جقمق الصلاة عليه بمصلى المؤمنى تحت القلعة وعاد امام جنازته الى المشهد النفيسى ماشيا وتولى حمل نعشه فى بعض الاحيان وكان المستنكفى رئيسا كيسا عاقلا دينا كثير الصمت منعزلا عن الناس قليل الاجتماع بهم لم يسلك طريقة أخيه داود مع ندمائه وأصحابه هذا مع العقل التام والسيرة الحسنة والعفة عن المنكرات*

(خلافة القائم بأمر الله أبى البقاء حمزة بن المتوكل على الله محمد أمير المؤمنين الهاشمى العباسى)
* رابع الاخوة من أولاد المتوكل بويع بالخلافة بعد موت أخيه المستكفى سليمان من غير عهد وهو انه لما توفى سليمان أجمع رأى السلطان الظاهر جقمق على تولية حمزة المذكور لانه أسنّ من بقى من اخوته وأمثلهم فاستدعاه فى يوم الاثنين خامس المحرّم سنة خمس وخمسين وثمانمائة بالقصر السلطانى من قلعة الجبل وحضر الامراء والقضاة وأعيان الدولة وأجمعوا على بيعة حمزة المذكور فبايعوه ولقب بالقائم بأمر الله واستمرّ القائم فى الخلافة الى أن كانت الفتن وتسلطن الاتابك اينال العلائى ووقع بين الخليفة وبين السلطان هذا أمور يضحك السفهاء منها ويبكى من عواقبها اللبيب فطلب السلطان القائم بأمر الله الى القلعة ووبخه بالكلام فأراد القائم أن يلحن بحجته وكان فى لسانه مسكة تمنعه من الكلام فلم يقف السلطان لجوابه وأمر به فقبض عليه وحبس بالبحرة من قلعة الجبل ثم استدعى السلطان أخاه يوسف من الغد وهو يوم الخميس ثالث شهر رجب سنة تسع وخمسين وثمانمائة وخلع عليه بعد أن حكم القاضى بخلع القائم ودام القائم محتفظا به بقلعة الجبل الى يوم الاثنين سابع شهر رجب رسم السلطان بتوجهه الى سجن الاسكندرية فسار معه جماعة الى ان أوصلوه الى جزيرة أروى وأنزلوه الى النيل من تجاه بولاق التكرور وتوجه الى الاسكندرية فسجن بها الى سنة احدى وستين وثمانمائة أفرج عنه من سجن الاسكندرية ورسم له أن يسكن بها فى بيت كما كان أخوه العباس وأقام به الى أن مات*

(خلافة المستنجد بالله أبى المحاسن يوسف بن المتوكل على الله أمير المؤمنين الهاشمى العباسى)
* بويع بالخلافة بعد ان خلع الاشرف اينال أخاه القائم حمزة من الخلافة فى يوم الخميس ثالث شهر رجب سنة تسع وخمسين وثمانمائة ونقل القاضى الشافعى علم الدين صالح البلقينى عن علماء مذهبه انّ للسلطان أن يعزل الخليفة ويولى غيره فهذه المندوحة فى خلع القائم حمزة وولاية يوسف المستنجد* قال الشيخ صلاح الدين الصفدى فى شرح لامية العجم قلت* وكذلك العبيديون الذين يسمون بالفاطميين خلفاء مصر فأوّل من ملك منهم بالمغرب المهدى ثم القائم ثم ابنه المنصور ثم المعز وهو أوّل من ملك مصر منهم ثم العزيز ثم كان السادس الحاكم فقتلته أخته وولت ابنه الظاهر ثم المستنصر ثم المستعلى ثم الامر ثم الحافظ ثم كان السادس الظافر فخلع وقتل ثم ولى ابنه الفائز ثم العاضد وهو آخرهم* وكذلك بنو أيوب فى ملك مصر فأوّلهم صلاح الدين الملك الناصر ثم ابنه العزيز ثم أخوه الافضل بن صلاح الدين ثم العادل الكبير أخو صلاح الدين ثم الكامل ولده ثم كان السادس العادل الصغير فقبض عليه أرباب دولته وخلعوه وولى الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم ولده المعظم توران شاه وهو آخرهم* قال وكذلك دولة الاتراك فأوّلهم المعز عز الدين أيبك الصالحى ثم ابنه المنصور ثم المظفر قطز ثم الملك الظاهر بيبرس ثم ابنه السعيد محمد ثم السادس العادل سلامش بن الظاهر بيبرس فخلع وملك السلطان الملك المنصور قلاوون الالفى انتهى*