جمع الوسائل في شرح الشمائل

(بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الطَّعَامِ)
وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ مَا جَاءَ وَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ ، وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عِنْدَ الطَّعَامِ أَيْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ، لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ ، بِأَنْ يُرَادَ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ ، وَإِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهَا ، أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذَا الْبَابِ كَيْفِيَّةَ الْوُضُوءِ الْمُسْتَحَبِّ عِنْدَ الطَّعَامِ ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ يَدُلَّانِ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ هُنَا ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ ، ثُمَّ أَرْدَفَهُمَا بِحَدِيثِ سَلْمَانَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ، تَحْصِيلًا لِلْبَرَكَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَضْمُونَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ اللَّذَيْنِ يَخُصَّانِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ بِالصَّلَاةِ ، يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورِ آخِرَ الْبَابِ هُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ حَتَّى لَا يَتَحَقَّقَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : الْوَجْهُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ ، وَمَجَازِهِ فَأَرَادَ الْأَوَّلَ مِنْ حَيْثُ نَفْيِهِ ، وَالثَّانِيَ مِنْ حَيْثُ إِثْبَاتِهِ ، انْتَهَى .
وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ مَا ذُكِرَ ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ، وَهُوَ النَّظَافَةُ الشَّامِلَةُ لَهُمَا ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ ، كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَضَمَّنَ التَّرْجَمَةَ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى التَّرْجَمَةِ سَائِغَةً شَائِعَةً ، وَإِنَّمَا الْمَعِيبُ النَّقْصُ عَمَّا فِيهَا ، ثُمَّ الطَّعَامُ هَاهُنَا مَا يُؤْكَلُ ، كَمَا أَنَّ الشَّرَابَ مَا يُشْرَبُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْبُرِّ كَمَا وَرَدَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، وَصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ .

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ) أَيِ السِّخْتِيَانِيِّ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ) بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْمَكَانُ الْخَالِي ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَكَانُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ : أَيِ الْمُتَوَضَّأِ ، غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ نَجِدْهُ ،

(1/229)


وَكَذَا قَوْلُهُ : عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ اسْتِحْيَاءً وَتَجَمُّلًا (فَقُرِّبَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الطَّعَامُ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (فَقَالُوا) أَيْ : بَعْضُ الصَّحَابَةِ (أَلَا نَأْتِيكَ) بِالِاسْتِفْهَامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهِ ، لَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَالْبَاءُ
فِي قَوْلِهِ : (بِوَضُوءٍ) لِلتَّعْدِيَةِ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْعَرْضِ نَحْوَ أَلَا تَنْزِلُ عِنْدَنَا ، وَالْمَعْنَى أَلَا تَتَوَضَّأُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (قَالَ : إِنَّمَا أُمِرْتُ) أَيْ وُجُوبًا (بِالْوُضُوءِ) بِضَمِّ الْوَاوِ ، وَهُوَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ أَيْ بِفِعْلِهِ (إِذَا قُمْتُ) مُتَعَلِّقٌ بِالْوُضُوءِ لَا بِأُمِرْتُ أَيْ أَرَدْتُ الْقِيَامَ ، وَأَنَا مُحْدِثٌ (إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ عِنْدَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ ، وَإِرَادَةِ الطَّوَافِ ، وَلَعَلَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ ، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ ، فَنَفَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَبْلَغِ ، حَيْثُ أَتَى بِأَدَاةِ الْحَصْرِ ، وَأَسْنَدَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ تَعَالَى ، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَهُ ، بَلِ اسْتِحْبَابُهُ فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ ، سَوَاءٌ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ أَمْ لَا .
قَالَ مِيرَكُ : لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي يَلِيهِ تَعَرُّضٌ لِغَسْلِ الْيَدَيْنِ ; لِأَجْلِ الطَّعَامِ لَا نَفْيًا ، وَلَا إِثْبَاتًا ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ ، قُلْتُ : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا غَسَلَهُمَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا ، قَبْلَ الطَّعَامِ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ .

(حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ) تَصْغِيرُ الْحَارِثِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَائِطِ) الْغَوْطُ عُمْقُ الْأَرْضِ الْأَبْعَدُ ، وَمِنْهُ قِيلَ : لِلْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ ، ثُمَّ قِيلَ لِمَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ تُقْضَى فِي الْمُنْخَفِضِ ، حَيْثُ هُوَ أَسْتَرُ لَهُ ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّحْوِ نَفْسِهِ ، كَذَا حَرَّرَهُ الْحَنَفِيُّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْغَائِطَ أَصْلُهُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ ، كَانُوا يَأْتُونَهُ لِلْحَاجَةِ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْكُنُفِ فِي الْبُيُوتِ ، فَكَنُّوا بِهِ عَنْ نَفْسِ الْحَدَثِ لِمَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ كَرَاهَةً لِذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ ، إِذْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ التَّعَفُّفُ ، وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي كَلَامِهِمْ ، وَصَوْنُ الْأَلْسِنَةِ عَمَّا يُصَانُ الْأَبْصَارُ وَالْأَسْمَاعُ عَنْهُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَخْصُوصُ ، وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْكَنِيفِ ، وَهُوَ الْمُسْتَرَاحُ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ، خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ (فَأُتِيَ) أَيْ جِيءَ (بِطَعَامٍ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَوَضَّأُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِهِمَا ، وَالْمَعْنَى أَلَا تُرِيدَ الْوُضُوءَ فَنَأْتِيكَ بِالْوَضُوءِ ، كَمَا تَقَدَّمَ (فَقَالَ أُصَلِّي) وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ إِيجَابِ الْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ (فَأَتَوَضَّأَ) بِالنَّصْبِ
لِكَوْنِهِ بَعْدَ النَّفْيِ ، وَقَصْدِ السَّبَبِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ لِعَدَمِ قَصْدِهَا ذَكَرَهُ الْعِصَامُ ، وَقَالَ

(1/230)


الْحَنَفِيُّ : رُوِي مَنْصُوبًا عَلَى سَبَبِيَّةِ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ لِلْوُضُوءِ ، وَمَرْفُوعًا نَظَرًا إِلَى مُجَرَّدِ اسْتِلْزَامِهَا لَهُ ، لَا إِلَى السَّبَبِيَّةِ .

(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ح) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ الْإِسْنَادِ ; وَلِذَا عَطَفَ فِي قَوْلِهِ : (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجُرْجَانِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ) عَلَى زِنَةِ فَاعِلٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ (عَنْ زَاذَانَ) بِزَايٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَيْنَ أَلِفَيْنِ آخِرُهَا نُونٌ (عَنْ سَلْمَانَ) الْفَارِسِيِّ (قَالَ : قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ) بِفَتْحِ أَنَّ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (الْوُضُوءُ) أَيْ غَسْلُ الْيَدَيْنِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيِ الْمَقْرُوءَ الْمَذْكُورَ (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ أَنِّي سَأَلْتُهُ ، هَلْ بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ ، وَالْحَالُ أَنِّي أَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الِاخْتِصَارِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ بِمَا بَعْدَ الطَّعَامِ ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ) وَهَذَا يُحْتَمَلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَأَنْ يَكُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ زَادَتِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ أَيْضًا اسْتِقْبَالًا لِلنِّعْمَةِ بِالطِّهَارَةِ الْمُشْعِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى

(1/231)


مَا وَرَدَ : «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ جَوَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ .
وَقَالَ مِيرَكُ : الْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مَجَازًا ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْظِيمُ نِعْمَةِ اللَّهِ لِيُبَارِكَ لَهُ فِيهِ ; وَلِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ ; وَلِأَنَّ الْيَدَ لَا تَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ فِي تَعَاطِي الْأَعْمَالِ ، وَغَسْلُهُمَا أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ وَالنَّزَاهَةِ ; وَلِأَنَّ الْأَكْلَ يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الطَّهَارَةِ مِنَ الصَّلَاةِ ، فَيُبْتَدَأُ فِيهِ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الثَّانِي غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ مِنَ الدُّسُومَاتِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ بِفَتْحَتَيْنِ ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» .
أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ انْتَهَى . وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ : «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ اللُّحُومِ شَيْئًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ مِنْ رِيحٍ وَغَيْرِهِ ، وَلَا يُؤْذِي مَنْ حَذَاهُ» ، قِيلَ : وَمَعْنَى : «بَرَكَةُ الطَّعَامِ مِنَ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ» النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ نَفْسِهِ ، وَبَعْدَهُ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِي فَوَائِدِهَا وَآثَارِهَا ، بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِسُكُونِ النَّفْسِ وَقَرَارِهَا وَسَبَبًا لِلطَّاعَاتِ وَتَقْوِيَةً
لِلْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُرْضِيَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّنِيَّةِ ، وَجَعْلِهِ نَفْسَ الْبَرَكَةِ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَنْشَأُ عَنْهُ ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَقَالَ : الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا ، الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ ، مِنْ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَ الْأَكْلِ ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ سَلْمَانَ فِي جَامِعِهِ وَفِي الْبَابِ ، عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ ، ثُمَّ قَالَ : لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي حَدِيثَ سَلْمَانَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ ، قَالَ : وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوضَعَ الرَّغِيفُ تَحْتَ الْقَصْعَةِ ، انْتَهَى كَلَامُ الْمُؤَلِّفِ .
وَلَعَلَّ كَلَامَ الثَّوْرِيِّ مُحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شُبْهَةٌ فِي طَهَارَةِ الْيَدِ ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِسْرَافٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَاشِفِ ، فِي تَرْجَمَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ : كَانَ شُعْبَةُ يُثْنِي عَلَيْهِ ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ مَحَلُّهُ الصِّدْقُ ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ رِوَايَاتِهِ سَقِيمَةٌ ، انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ : صَدُوقٌ تَغَيَّرَ بِالْآخِرَةِ لَمَّا كَبِرَ ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ .