جمع الوسائل في شرح الشمائل

(بَابُ مَا جَاءَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّمْرِ)
السَّمْرُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَالْمِيمِ السَّاكِنَةِ كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ ، وَهُوَ حَدِيثُ اللَّيْلِ مِنَ الْمُسَامَرَةِ ، وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ فِيهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى سَامِرًا تَهْجُرُونَ أَيْ : يَسْمُرُونَ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ ، وَالطَّعْنِ فِيهِ حَالَ كَوْنِهِمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَفِي النِّهَايَةِ ، الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِسُكُونِ الْمِيمِ ، وَجَعْلِهِ الْمَصْدَرَ ، وَأَصْلُ السَّمْرِ ضَوْءُ لَوْنِ الْقَمَرِ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (الْبَزَّارُ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ (حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ (حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الثَّقَفِيُّ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَالْقَافِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ ثَقِيفٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُجَالِدٍ) بِالْجِيمِ بَعْدَ ضَمِّ الْمِيمِ (عَنِ الشَّعْبِيُّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ) كَلِمَةُ «ذَاتَ» مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّأْكِيدِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا صِفَةُ مَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ أَيْ : فِي سَاعَاتٍ ذَاتِ لَيْلَةٍ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ : بِضَمَائِرِهَا ، وَخَوَاطِرِهَا (نِسَاءَهُ) أَيْ : بَعْضَ نِسَائِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أَوْ كُلِّهِنَّ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُنَّ بَعْضُ بَنَاتِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ مِنَ النِّسَاءِ (حَدِيثًا) أَيْ كَلَامًا عَجِيبًا أَوْ تَحْدِيثًا غَرِيبًا (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ : كَأَنَّ الْحَدِيثَ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ : كَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ (حَدِيثُ خُرَافَةَ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ : مُسْتَمْلَحٌ مِنْ بَابِ الظَّرَافَةِ وَفِي غَايَةٍ مِنَ اللَّطَافَةِ فَفِي الْمُغْرِبِ : الْخُرَافَاتُ : الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَمْلَحَةُ وَبِهَا سُمِّيَ خُرَافَةُ رَجُلٍ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ كَمَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ بِمَا رَأَى مِنْهَا فَكَذَّبُوهُ ، وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُرَافَةُ حَقٍّ يَعْنِي مَا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْجِنِّ انْتَهَى .
فَقَوْلُهُ كَمَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَفِي الْقَامُوسِ خُرَافَةُ كَثُمَامَةَ رَجُلٌ مِنْ عُذْرَةَ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِمَا رَأَى فَكَذَّبُوهُ ، وَقَالُوا : حَدِيثُ خُرَافَةَ أَيْ : هِيَ حَدِيثٌ مُسْتَمْلَحٌ كَذِبٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : لَمْ تُرِدِ الْمَرْأَةُ مَا يُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ ، وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَذِبٌ مُسْتَمْلَحٌ لَأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا الْحَقُّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَمْلَحٌ لَا غَيْرَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدِيثَ خُرَافَةَ يَشْتَمِلُ عَلَى وَصْفَيْنِ الْكَذِبِ وَالِاسْتِمْلَاحِ ، فَيَصِحُّ التَّشْبِيهُ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا ، أَقُولُ : الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ حَدِيثَ خُرَافَةَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُكَذِّبُونَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ ، وَعَلَى كُلِّ مَا يُسْتَمْلَحُ ، وَيُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَامُوسُ ، فَيُحْمَلُ كَلَامُهَا عَلَى التَّجْرِيدِ ، وَيَتِمُّ بِهِ التَّسْدِيدُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُبَالَغُ فِي التَّشْبِيهِ فَيُقَالُ هَذَا كَلَامُ صِدْقٍ يُشْبِهُ الْكَذِبَ كَمَا قَالَ الْغَزَّالِيُّ : الْمَوْتُ يَقِينٌ يُشْبِهُ الظَّنَّ عِنْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ (فَقَالَ : أَتَدْرُونَ) خَاطَبَهُنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِنَّ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النُّسَخِ أَتَدْرِينَ بِخِطَابِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ الْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَهُنَّ وَلَكِنَّهُنَّ وَرَاءَ النِّقَابِ أَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَتَبْعِيدُ كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ فِي حَقِّ الشَّارِحِينَ الْمُتَعَارِضِينَ ، وَالْمَعْنَى أَتَعْلَمُونَ (مَا خُرَافَةُ) وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ مَا يَدْرُونَ حَقِيقَةَ خُرَافَةَ ، وَحَقِيقَةَ كَلَامِهِ بَادَرَ إِلَى بَيَانِهِ قَبْلَ جَوَابِهِمْ فَقَالَ :

(2/47)


(إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلًا مِنْ عُذْرَةَ) بِضَمِّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ ، وَسُكُونِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنَ الْيَمَنِ (أَسَرَتْهُ) أَيِ : اخْتَطَفَتْهُ (الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ : فِي أَيَّامِهَا ، وَهِيَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَى الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ فِي الْأَمْثَالِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا رَحِمَ اللَّهُ خُرَافَةَ إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا (فَمَكَثَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ : لَبِثَ (فِيهِمْ دَهْرًا) أَيْ : زَمَانًا طَوِيلًا (ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الْإِنْسِ وَكَانَ) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ (يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الْأَعَاجِيبِ فَقَالَ النَّاسُ : حَدِيثُ خُرَافَةَ) أَيْ : فِيمَا سَمِعُوهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْعَجِيبَةِ ، وَالْحِكَايَاتِ الْغَرِيبَةِ هَذَا حَدِيثُ خُرَافَةَ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَكَاذِيبِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ قَدْ تُرَادُ مُبَالَغَةً فِي الْأَعَاجِيبِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّحَدُّثِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِيَالِ ، وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ ، وَتَفْرِيجِ الْهَمِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، فَالنَّهْيُ الْوَارِدُ مَحْمُولٌ عَلَى كَلَامِ الدُّنْيَا ، وَمَا لَا يَعْنِي فِي الْعُقْبَى ، وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَةُ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ بِالْحُسْنَى ، وَمُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ لَهُ فِيمَا مَضَى ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أُمِّ زَرْعٍ فِي بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْهُ وَحِدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ مِنْهَا فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ ، وَسَمَاعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .

(حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ) أَيْ : هَذَا حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالْعُنْوَانِ ، وَمَيَّزَهُ عَنْ سَائِرِ الْأَقْرَانِ لِطُولِ مَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ ، وَلِهَذَا أَفْرَدَهُ بِالشَّرْحِ بَعْضُ الْأَعْيَانِ ثُمَّ أُمُّ زَرْعٍ بِزَايٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ، وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَاحِدَةٌ مِنَ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهَا لِأَنَّ مُعْظَمَ الْكَلَامِ ، وَغَايَةَ الْمَرَامِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : جَلَسَتْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جَلَسَ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مُسْنَدًا إِلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ بِلَا فَاصِلٍ ، نَعَمْ فِي صُورَةِ الْفَصْلِ يَجُوزُ الْوَجْهَانِ نَحْوَ حَضَرَتِ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ ، وَحَضَرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ ، فَوَجْهُ تَذْكِيرِهِ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ : «قَالَ فُلَانَةُ» كَمَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ اسْتِغْنَاءً بِظُهُورِ تَأْنِيثِهِ عَنْ عَلَامَتِهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّاءَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ فِي إِفَادَةِ التَّأْنِيثِ ابْتِدَاءً كَمَا
يُؤَكَّدُ فِي الْأَكْثَرِ انْتِهَاءً ، وَكِلَاهُمَا يَقَعُ اهْتِمَامًا وَاعْتِنَاءً ، وَقَدْ يُكْتَفَى بِأَصْلِ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ اكْتِفَاءً ، وَقِيلَ أَنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ لَا الْجَمَاعَةِ إِذْ حُكْمُ الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ حُكْمُ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ الْغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ فِي التَّخْيِيرِ ، وَالْمَعْنَى جَلَسْتُ فِي بَعْضِ قُرَى مَكَّةَ ، وَقِيلَ عَدَنٍ (إِحْدَى عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَكْسِرُونَهَا (امْرَأَةً) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ : كُلُّهُنَّ مِنَ الْيَمَنِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا غَرَضٌ مُعْتَدٌّ بِهِ لَمْ يَذْكُرْهَا ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهَا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ سُمِّيَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِنْهُنَّ عَمْرَةُ بِنْتُ عُمَرَ وَحَيُّ بِنْتُ كَعْبٍ وَمَهْدَدُ بِنْتُ أَبِي هَرُومَةَ وَكَبْشَةُ وَهِنْدُ وَحُبَّى بِنْتُ عَلْقَمَةَ وَكَبْشَةُ بِنْتُ الْأَرْقَمِ وَبِنْتُ

(2/48)


أَوْسِ بْنِ عَبْدٍ وَأُمُّ زَرْعٍ ، وَأَغْفَلَ اسْمَ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُبَهَمَاتِ ، وَقَالَ : هُوَ غَرِيبٌ جِدًّا ، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّ اسْمَ أُمِّ زَرْعٍ عَاتِكَةُ ، وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو زَرْعٍ ، وَلَا ابْنُهُ وَلَا ابْنَتُهُ وَلَا جَارِيَتُهُ ، وَلَا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا ، وَلَا الْوَلَدَانِ ، وَلَا الرَّجُلُ الَّذِي تَزَوَّجَتْهُ أُمُّ زَرْعٍ بَعْدَ أَبِي زَرْعٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَمِنْهُ يُعْلَمُ حَالُ سَائِرِ الْمُبْهَمَاتِ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَتَعَاهَدْنَ) أَيْ : أَلْزَمْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَهْدًا ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تَعَاهَدْنَ ، وَهُوَ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ بِتَقْدِيرِ : «قَدْ» أَوْ بِدُونِهِ ، أَوْ عَلَى اسْتِئْنَافِ بَيَانٍ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَتَعَاقَدْنَ) أَيْ : عَقَدْنَ عَلَى الصِّدْقِ مِنْ ضَمَائِرِهِنَّ (أَنْ لَا يَكْتُمْنَ) أَيْ : عَلَى أَنْ لَا يَكْتُمْنَ كُلُّهُنَّ (مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ) أَيْ : أَحْوَالِهِمْ (شَيْئًا) أَيْ : مِنَ الْأَشْيَاءِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا أَوْ مِنَ الْكِتْمَانِ فَهُوَ إِمَّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ ، وَهُوَ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْكِتْمَانِ ، وَقِيلَ بِأَمْرٍ مُقَدَّرٍ ، تَأَمَّلْ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَوْسٍ ، وَعُقْبَةَ : أَنْ يَتَصَادَقْنَ بَيْنَهُنَّ ، وَلَا يَكْتُمْنَ . وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ : أَنْ يَنْعَتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ وَيَصْدُقْنَ . وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ : فَتَبَايَعْنَ عَلَى ذَلِكَ (فَقَالَتْ) بِالْفَاءِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ قَالَتْ : (الْأُولَى زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ) تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ مَعَ مُبَالَغَةٍ كَأَنَّهُ بِتَمَامِهِ وَكَمَالِهِ لَحْمٌ لَا حَيَاةَ فِيهِ ، ثُمَّ لَحَمُ جَمَلٍ ، وَهُوَ أَخْبَثُ اللَّحْمِ خُصُوصًا إِذَا كَانَ هَزِيلًا ، وَلِذَا قَالَتْ : (غَثٍّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمَلٍ لِقُرْبِهِ مِنْهُ ، وَمَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ لَحْمٍ ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ عَلَى خِلَافٍ فِي مَرْجِعِ هُوَ أَهُوَ الزَّوْجُ أَوِ اللَّحْمُ أَوِ الْجَمَلُ ، فَتَأَمَّلْ وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْخَفْضُ ، وَقِيلَ الْجَيِّدُ هُوَ الرَّفْعُ ، وَالْغَثُّ : الْمَهْزُولُ (عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ) صِفَةٌ أُخْرَى لِلَحْمٍ أَوْ جَمَلٍ ، وَقَوْلُهُ (وَعْرٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ صِفَةُ جَبَلٍ أَيْ : غَلِيظٌ يَصْعُبُ الصُّعُودُ إِلَيْهِ وَيَعْسُرُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ تَصِفُ قِلَّةَ خَيْرِهِ ، وَبُعْدَهُ عَنْهُ مَعَ الْقِلَّةِ كَالْمَشْيِ فِي قُلَّةِ الْجَبَلِ الصَّعْبِ الْوُصُولِ الشَّدِيدِ الْحُصُولِ ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ خَيْرِهِ وَكَثْرَةِ كِبْرِهِ ، سَيِّئُ الْخُلُقِ عَظِيمُ الْخَلْقِ يَعْجَزُ عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ فِي إِظْهَارٍ (لَا سَهْلٍ) بِالْجَرِّ وَيُرْفَعُ وَيُفْتَحُ أَيْ : غَيْرُ سَهْلٍ (فَيُرْتَقَى) أَيْ : فَيُصْعَدُ إِلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ (وَلَا سَمِينٍ) بِالْحَرَكَاتِ السَّابِقَةِ (فَيُنْتَقَلُ)
لِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ : فَيُؤْخَذُ أَوْ يُحْمَلُ بَلْ يُتْرَكُ لِرَدَاءَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيُنْتَقَى بِالْأَلْفِ بَدَلَ اللَّامِ أَيْ : فَيُخْتَارُ لِلْأَكْلِ بِأَنْ يُتَنَاوَلَ ، وَيُسْتَعْمَلَ قَالَ مِيرَكُ : لَا سَهْلٌ ، وَلَا سَمِينٌ فِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ جَبَلٍ أَيْ : غَيْرُ سَهْلٍ ، وَلَا سَمِينٍ ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ضَعْفٍ أَيْ : لَيْسَ سَهْلٌ ، وَلَا سَمِينٌ ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ : الرِّوَايَةُ بِالْجَرِّ (قَالَتِ الثَّانِيَةُ : زَوْجِي لَا أَبُثُّ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ : لَا أُظْهِرُ (خَبَرَهُ) وَلَا أُبَيِّنُ أَثَرَهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّ النَّثَّ بِالنُّونِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ لَا أَنُمُّ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ النَّمِيمَةِ (إِنِّي) بِسُكُونِ الْيَاءِ ، وَبِفَتْحٍ (أَخَافُ) أَيْ : أَنْ أُبْدِيَ خَبَرَهُ وَأَبْدَأَ أَثَرَهُ (أَنْ لَا أَذَرَهُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ : لَا أَتْرُكُهُ أَوْ لَا أَتْرُكُ خَبَرَهُ بَلْ (أَنْ أَذْكُرَهُ) أَيْ : بَعْضَ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِهِ (أَذْكُرُ عُجَرَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ، وَفَتْحِ جِيمِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَبُجَرَهُ) بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ : أَخْبَارَهُ كُلَّهَا أَيْ : بَادِيهَا وَخَافِيهَا أَوْ أَسْرَارُهُ جَمِيعُهَا أَوْ عُيُوبُهُ جَمِيعُهَا ، وَقِيلَ الْعُجَرُ وَالْبُجَرُ : الْغُمُومُ وَالْهُمُومُ ، فَأَرَادَتْ بِهِمَا

(2/49)


مَا تُقَاسِي مِنْهُ مِنَ الْأَذِيَّةِ ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : «أَشْكُوا عُجَرِي وَبُجَرِي إِلَى رَبِّي» أَيْ : هُمُومِي وَأَحْزَانِي ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَ صِفَتَهُ ، وَلَا أَقْطَعَهَا مِنْ طُولِهَا ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ : مَعْنَاهُ أَخَافُ أَنْ لَا أَقْدِرَ عَلَى فِرَاقِهِ لِأَنَّ أَوْلَادِيَ مِنْهُ ، وَأَسْبَابَ رِزْقِنَا عَنْهُ ، ثُمَّ قِيلَ أَصْلُ الْعُجَرِ جَمْعُ عُجْرَةٍ وَهِيَ نَفْخَةٌ فِي عُرُوقِ الْعُنُقِ حَتَّى تَرَيْهَا نَاتِئَةً مِنَ الْجَسَدِ ، وَالْبُجَرُ جَمْعُ بُجْرَةٍ وَهُوَ نُتُوءُ السُّرَّةِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتَا فِي الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، وَقِيلَ : «لَا» فِي : «أَنْ لَا أَذَرَهُ» زَائِدَةٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّوْجِ أَيْ : أَخَافُ أَنْ أَذَرَ زَوْجِي بِأَنْ طَلَّقَنِي ، وَحَاصِلُ كَلَامِهَا أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَشْكُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أُمُورَهُ كُلَّهَا مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ مِنْهَا (قَالَتِ الثَّالِثَةُ زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ : الطَّوِيلُ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا الطُّولُ ، فَهُوَ طَلَلٌ بِلَا طَائِلٍ فَلَا نَفْعَ عِنْدَهُ ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَانُ مَعَهُ يَطُولُ فَمُصَاحِبُهُ حَزِينٌ مَلُولٌ ، وَقِيلَ هِيَ السَّيِّئُ الْخُلُقِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا (إِنْ أَنْطِقْ) أَيْ : أَتَكَلَّمْ بِعُيُوبِهِ أَوْ لِلتَّمَلُّقِ بِهِ (أُطَلَّقْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ ; لِأَنَّهُ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ
مُخَلَّقٌ وَقَلْبِي عَلَى حُبِّ الزَّوْجِ مُعَلَّقٌ (وَإِنْ أَسْكُتْ) أَيْ : عَنْ عُيُوبِهِ أَوْ غَضَبًا عَلَيْهِ أَوْ أَدَبًا مَعَهُ (أُعَلَّقْ) أَيْ : بَقِيتُ مُعَلَّقَةً لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ أَيْ : كَالْمُعَلَّقَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لَا يُسْتَقَرُّ بِأَحَدِهِمَا ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْعَشَنَّقُ : هُوَ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ الْقَامَةِ أَرَادَتْ أَنَّ لَهُ مَنْظَرًا بِلَا مَخْبَرٍ لِأَنَّ الطُّولَ فِي الْغَالِبِ دَلِيلُ السَّفَهِ ، وَلِهَذَا ذَيَّلَتْهُ بِقَوْلِهَا إِنْ أَنْطِقْ إِلَخْ . لِأَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ فِعْلُ السُّفَهَاءِ ، وَمَنْ لَا تَمَاسُكَ عِنْدَهُ فِي مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِهِ ، وَهِيَ : «عَلَى حَدِّ السِّنَانِ الْمُذَلَّقِ» بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيِ : الْمُحَدَّدِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ كَثِيرٍ ، وَوَجَلٍ كَبِيرٍ (قَالَتِ الرَّابِعَةُ : زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ) بِكَسْرِ التَّاءِ ، وَهِيَ مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَغْوَارِ ، وَقِيلَ كُلُّ مَا نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ ، فَلَا تِهَامَةً ، وَلَا نَجْدِيَّةً ; لِأَنَّهَا فَوْقَ الْغَوْرِ دُونَ النَّجْدِ تُرِيدُ حُسْنَ خُلُقِ زَوْجِهَا مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ ، وَسُهُولَةَ أَمْرِهِ فِي حَالِ كَمَالِ الِاعْتِدَالِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا (لَا حَرٌّ) أَيْ : مُفْرِطٌ (وَلَا قَرٌّ) أَيْ : بَرْدٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ ، وَضَمِّهَا وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِحُسْنِ الِازْدِوَاجِ هُنَا خِلَافًا لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالضَّمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، ثُمَّ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ كِنَايَتَانِ عَنْ نَوْعَيِ الْأَذَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ : وَالْبَرْدَ ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَنُكْتَةُ تَقْدِيمِ الْحَرِّ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ أَكْثَرُ ، وَتَضْعِيفَهُ أَكْبَرُ أَوْ لِوُجُودِ كَثْرَةِ الْحَرِّ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً تَبَاعَدَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ سَنَةً» ، وَفِي رِوَايَةٍ : «مِائَتَيْ سَنَةٍ» قَالَ الْحَنَفِيُّ : وَكَلِمَةُ : «لَا» فِيهِ لِلْعَطْفِ أَوْ بِمَعْنَى لَيْسَ أَوْ بِمَعْنَى غَيْرَ ، فَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ مَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ وَمُنَوَّنٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ ، فَهُوَ مَفْتُوحٌ ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ : لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ ، قُلْتُ : الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ الْمُوَافِقِ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنْ يُقَالَ

(2/50)


مَعْنَاهُ لَا ذُو حَرٍّ وَلَا ذُو قَرٍّ فَحُذِفَ الْمُضَافُ تَخْفِيفًا ، وَكَذَا قَوْلُهَا (وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ) إِعْرَابًا وَمَعْنًى أَيْ : لَيْسَ عِنْدَهُ شَرٌّ يُخَافُ مِنْهُ ، وَلَا مَلَالَةٌ فِي مُصَاحَبَتِهِ فَيُسْأَمُ عَنْهُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ حَرِّ لِسَانِهِ ، وَبُرُودَةِ طَبْعِهِ ، وَنَفْيُ خَشْيَةِ النَّفَقَةِ ، وَقِلَّةِ الْمُضَاجَعَةِ (قَالَتِ الْخَامِسَةُ : زَوْجِي إِنْ دَخَلَ) أَيْ : بِالْبَيْتِ (فَهِدَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ : صَارَ فِي النَّوْمِ كَالْفَهِدِ ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَغَافُلِهِ فِي الْأُمُورِ ، وَعَنْ عَدَمِ ظُهُورِ الشُّرُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَهِدَ
مَوْصُوفٌ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ فُلَانٌ أَنْوَمُ مِنَ الْفَهِدِ (وَإِنْ خَرَجَ) أَيْ : مِنَ الْبَيْتِ وَظَهَرَ بَيْنَ الرِّجَالِ ، وَأَقَامَ أَمْرَ الْقِتَالِ (أَسِدَ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ : صَارَ فِي الشَّجَاعَةِ ، وَالْجَلَادَةِ كَالْأَسَدِ تَصِفُهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ السَّخَاوَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَبَيْنَ الشَّجَاعَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَقَدَّمَتْ مَا سَبَقَ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا أَنْسَبُ ، وَأَحَقُّ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ كَمَالِ كَرَمِهِ ، وَغَايَةِ هِمَّتِهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يَجْرِي مِنَ الْأُمُورِ دَاخِلِ الْبَيْتِ ، وَلَا يَفْتَقِدُ مَا فِيهِ مِنَ الطَّعَامِ ، وَغَيْرِهِ إِكْرَامًا أَوْ تَغَافُلًا أَوْ تَكَاسُلًا ، فَكَأَنَّهُ سَاهٍ ، وَغَافِلٌ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهَا (وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) أَيْ : عَمَّا رَآهُ سَابِقًا أَوْ عَمَّا فِي عُهْدَتِهِ مِنْ ضَبْطِ الْمَالِ ، وَنَفَقَةِ الْعِيَالِ فَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى سَخَاوَةِ نَفْسِهِ ، وَجَوْدَةِ طَبْعِهِ ، وَقُوَّةِ قَلْبِهِ ، وَثُبُوتِ كَرَمِهِ ، وَثَبَاتِ تَمَكُّنِهِ حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ ، وَأَمَّا حَمْلُ كَلَامِهَا عَلَى ذَمِّ زَوْجِهَا ، فَلَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ كَمَا لَا يَخْفَى مَعَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى (قَالَتِ السَّادِسَةُ : زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ) أَيْ : أَكْثَرَ الطَّعَامَ ، وَخَلَطَ صُنُوفَهُ كَالْأَنْعَامِ (وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ) اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَا فِي الْإِنَاءِ مِنْ نَحْوِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ ، وَرُوِيَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَحَاصِلُ كَلَامِهَا ذَمُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا وَلِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى حِرْصِهِ ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَى حَالِ عِيَالِهِ ، وَنَظَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَسَلِ فِي الطَّاعَةِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْجُرْأَةِ فِي الشَّجَاعَةِ (وَإِنِ اضْطَجَعَ) أَيْ : أَرَادَ النَّوْمَ (الْتَفَّ) أَيْ : رَقَدَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ ، وَتَلَفَّفَ بِكِسَائِهِ وَحْدَهُ ، وَانْقَبَضَ إِعْرَاضًا عَنْ أَهْلِهِ ، فَتَكُونُ هِيَ كَهَيْئَةٍ حَزِينَةٍ فِي خَلْطَتِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ حُسْنِ عِشْرَتِهِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَرْقَدِ وَالْمَطْلَبِ ، كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهَا (وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ) أَيْ : وَلَا يُدْخِلُ كَفَّهُ إِلَى بَدَنِ امْرَأَتِهِ لِيَعْلَمَ بَثَّهَا وَحُزْنَهَا مِمَّا يَظْهَرُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَرَارَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهَا إِذَا وَقَعَ فِي بَدَنِهَا شَيْءٌ مِنْ قُرْحٍ أَوْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ أَوْ جَبْرٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا حَتَّى يَضَعَ الْيَدَ عَلَيْهَا لِيَعْلَمَ مِنْهَا الْأَلَمَ ، وَيَعْذِرُهَا فِي تَقْصِيرِ الْخَدْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : أَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ بِجَسَدِهَا عَيْبٌ أَوْ دَاءٌ أَحْزَنَهَا وُجُودُهُ مِنْهَا إِذَا لَبِثَ الْحُزْنُ ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ لَا يُدْخِلُ يَدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهَا خَوْفًا مِنْ حُزْنِهَا بِسَبَبِ مَسِّهِ مِنْهَا مَا تَكْرَهُ اطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ بِالْمُرُوءَةِ ، وَالْفُتُوَّةِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ فِي الْعِشْرَةِ ، وَرَدَّهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّهَا كَيْفَ تَمْدَحُهُ بِهَذَا ، وَقَدْ ذَمَّتْهُ بِمَا سَبَقَ ، وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَنَّهُنَّ تَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ ، فَمِنْهُنَّ مَنْ تَمَحَّضَ قُبْحُ زَوْجِهَا فَذَكَرَتْهُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تَمَحَّضَ حُسْنُ زَوْجِهَا فَذَكَرَتْهُ ،

(2/51)


وَمِنْهُنَّ مَنْ جَمَعَ زَوْجُهَا حُسْنًا ، وَقُبْحًا فَذَكَرَتْهُمَا ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : إِنَّهُ ذَمٌّ لَهُ ; لِأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُ يَلْتَفُّ فِي ثِيَابِهِ فِي نَاحِيَةٍ عَنْهَا ، وَلَا يُضَاجِعُهَا لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهَا مِنْ مَحَبَّتِهِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي (قَالَتِ السَّابِعَةُ : زَوْجِي عَيَايَاءُ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَالْيَاءَيْنِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْجَمَلُ الَّذِي لَا يَضْرِبُ وَلَا يُلَقِّحُ ، وَرَجُلٌ عَيَايَاءُ إِذَا عَيَيَ بِالْأَمْرِ أَوِ النُّطْقِ ، وَقِيلَ هُوَ الْعِنِّينُ (أَوْ غَيَايَاءَ) قِيلَ أَوْ لِلشَّكِ ، وَقَالَ الشَّارِحُ : فِي أَكْثَرِ الرَّاوِيَاتِ بِالْمُعْجَمَةِ ، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَغَيْرُهُ الْمُعْجَمَةَ ، وَقَالُوا : الصَّوَابُ الْمُهْمَلَةُ لَكِنْ صَوَّبَ الْمُعْجَمَةَ الْقَاضِي ، وَغَيْرُهُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ ، وَهُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْغَيِّ ، وَهُوَ الضَّلَالَةُ أَوِ الْخَيْبَةُ ، وَقَلْبُ الْوَاوِ يَاءً مَحْمُولٌ عَلَى الشُّذُوذِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوْ مِنَ الْغَيَابَةِ وَهِيَ الظُّلْمَةُ ، وَكُلُّ مَا أَظَلَّ الشَّخْصَ كَالظُّلَلِ الْمُتَكَاثِفَةِ ، الظُّلْمَةُ الَّتِي لَا إِشْرَاقَ لَهَا ، وَمَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَسْلَكٍ (طَبَاقَاءَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَمْدُودٌ ، وَقِيلَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ حُمْقًا ، وَقِيلَ هُوَ الْعَاجِزُ الثَّقِيلُ الصَّدْرِ عِنْدَ الْجِمَاعِ يُطْبِقُ صَدْرَهُ عَلَى صَدْرِ الْمَرْأَةِ ، فَيَرْتَفِعُ أَسْفَلُهُ عَنْهَا ، يُقَالُ جَمَلٌ طَبَاقٌ لِلَّذِي لَا يَضْرِبُ ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ ، فَيَنْطَبِقُ شَفَتَاهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (كُلُّ دَاءٍ) أَيْ : فِي النَّاسِ (لَهُ دَاءٌ) أَيْ : جَمِيعُ الْأَدْوَاءِ مَوْجُودٌ فِيهِ بِلَا دَوَاءٍ ، فَفِيهِ سَائِرُ النَّقَائِصِ وَبَقِيَّةُ الْعُيُوبِ ، «فَلَهُ دَاءٌ» خَبَرٌ «لِكُلِّ دَاءٍ» ، وَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ «لَهُ» صِفَةً لِدَاءٍ ، وَدَاءٌ خَبَرٌ لِكُلِّ أَيْ : كُلُّ دَاءٍ فِي زَوْجِهَا بَلِيغٌ مُتَنَاهٍ ، كَمَا تَقُولُ : «إِنَّ زَيْدًا رَجُلٌ» وَنَحْوُهُ ، فَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (شَجَّكِ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ : جَرَحَكِ فِي الرَّأْسِ ، وَالْخِطَابُ لِنَفْسِهَا أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ (أَوْ فَلَّكِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ ضَرَبَكِ وَكَسَرَكِ (أَوْ جَمَعَ كُلًّا) أَيْ : مِنَ الشَّجِّ ، وَالْفَلِّ (لَكِ) وَالشَّجُّ : الشَّقُّ فِي الرَّأْسِ وَكَسْرُهُ ، وَالْفَلُّ كَسْرُ عَظْمِ بَاقِي الْأَعْضَاءِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَشُجَّ رَأْسَ نِسَائِهِ أَوْ يَكْسِرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِنَّ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَهُنَّ (قَالَتِ الثَّامِنَةُ زَوْجِي الْمَسُّ) اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ : مَسُّهُ (مَسُّ أَرْنَبٍ) وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْ : كَمَسِّ الْأَرْنَبِ فِي اللِّينِ وَالنُّعُومَةِ فَزَوْجِي مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ ، وَاكْتُفِيَ بِاللَّامِ فِي الرَّبْطِ ، وَكَذَا قَوْلُهَا (وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ نَوْعٌ مِنَ النَّبَاتِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ، وَقِيلَ الزَّعْفَرَانُ ، وَقِيلَ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مَعْرُوفٌ ، وَفِي الْفَائِقِ أَنَّ الزَّايَ وَالذَّالَ الْمُعْجَمَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ لُغَتَانِ ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَصِفُهُ لِحُسْنِ الْخُلُقِ وَلِكَرَمِ الْعَشِيرَةِ
وَلِينِ الْجَانِبِ كَلِينِ مَسِّ الْأَرْنَبِ ، وَشَبَّهَتْ رِيحَ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ بِرِيحِ الزَّرْنَبِ ، وَقِيلَ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ لِينِ بَشْرَتِهِ وَطِيبِ عَرَقِهِ ، وَجُوِّزَ أَنْ يُرَادَ طِيبُ ثَنَائِهِ عَلَيْهِ ، وَانْتِشَارُهُ فِي النَّاسِ كَعَرْفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الطِّيبِ (قَالَتِ التَّاسِعَةُ : زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْعِمَادِ : عِمَادُ الْبَيْتِ تَصِفُهُ بِالشَّرَفِ فِي النَّسَبِ ، وَالْحَسَبِ ، وَسَنَاءِ الثَّنَاءِ أَيْ : نَسَبُهُ

(2/52)


رَفِيعٌ وَحَسَبُهُ مَنِيعٌ ، فَفِي النِّهَايَةِ أَرَادَتْ عِمَادَ بَيْتِ شَرَفِهِ ، وَالْعَرَبُ تَضَعُ الْبَيْتَ مَوْضِعَ الشَّرَفِ فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ ، وَالْعِمَادُ الْخَشَبَةُ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الْبَيْتُ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ بُيُوتَ السَّادَةِ عَالِيَةٌ ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالْعِمَادِ عَنِ الْبَيْتِ نَفْسِهِ مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ ، وَإِرَادَةِ الْكُلِّ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْجُزْءُ مِمَّا يَكُونُ مَدَارَ الْكُلِّ عَلَيْهِ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ أَبْنِيَتَهُ رَفِيعَةٌ ، وَارْتِفَاعُهَا إِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا حَقِيقَةً ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ شُهْرَتِهَا مَجَازًا أَوْ بِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهَا بِأَنْ يَبْنِيَ بُيُوتَهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيَقْصِدَهَا الْأَضْيَافُ ، وَأَرْبَابُ الْحَاجَةِ (عَظِيمُ الرَّمَادِ) أَيْ : كَثِيرٌ رَمَادُهُ ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الضِّيَافَةِ ، وَزِيَادَةِ الْكَرَمِ وَالسَّخَاوَةِ ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْجُودِ يَسْتَلْزِمُ إِكْثَارَ الضِّيَافَةِ ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الطَّبْخِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَثْرَةِ الرَّمَادِ ، وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ وَقُودِ نَارِهِ لَيْلًا إِذِ الْكِرَامُ يُعَظِّمُونَ النَّارَ فِي اللَّيْلِ عَلَى التِّلَالِ ، وَلَا تُطْفَأُ لِيَهْتَدِيَ بِهِ الضِّيفَانُ وَيَقْصِدُونَهُ (طَوِيلُ النِّجَادِ) بِكَسْرِ النُّونِ حَمَائِلُ السَّيْفِ وَطُولُهُ يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِ الْقَامَةِ ; لِأَنَّ طُولَهَا مَلْزُومٌ لِطُولِ نِجَادِهِ ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَيَانِ : يَنْتَقِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ زَيْدٌ طَوِيلُ النِّجَادِ إِلَى طُولِ قَامَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طُولُ نِجَادٍ ذَكَرَهُ الْكَافِيَجِيُّ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ سِعَةِ حُكْمِهِ عَلَى أَتْبَاعِهِ وَأَشْيَاعِهِ كَمَا يُقَالُ سَيْفُ السُّلْطَانِ طَوِيلٌ أَيْ : يَصِلُ حُكْمُهُ إِلَى أَقْصَى مُلْكِهِ ، وَأَيْضًا فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى شَجَاعَتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ غَالِبًا لِسَخَاوَتِهِ (قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ) أَصْلُهُ النَّادِي ، فَخَفَّفَتْ وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ بِمُؤَاخَاةِ السَّجْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَالنَّادِي مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ وَإِنَّمَا قُرْبُ بَيْتِهِ مِنَ النَّادِي لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَكَانَهُ وَمَكَانَتَهُ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ إِذْ هُوَ مُجْتَمَعُ رَأْيِ الْقَوْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ أَيْ : عَشِيرَتَهُ ، وَقَوْمَهُ إِذْ هُمْ أَهْلُ النَّادِيَةِ ، فَالْإِطْلَاقُ مَجَازِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ (قَالَتِ الْعَاشِرَةُ : زَوْجِي مَالِكْ) أَيِ اسْمُهُ مَالِكٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهُ (وَمَا مَالِكْ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : فَمَا مَالِكْ ‍ ! هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ ، وَتَعْجِيزٌ عَنْ كُنْهِ بَيَانِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ فَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ ، وَالتَّعْجِيبِ وَالتَّفْخِيمِ (مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَصْلًا عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِإِحْدَاهُنَّ مِنَ الْمُجَاوِرَاتِ أَوِ لِجِنْسَيْنِ مِنَ الْمُخَاطِبَاتِ ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ : زَوْجِي مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ زَوْجِ التَّاسِعَةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ السَّابِقَةِ ، وَقِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَتَذْكُرُهُ هِيَ بَعْدُ أَيْ : خَيْرٌ مِمَّا أَقُولُهُ فِي حَقِّهِ ، فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ فَوْقَ مَا يُوصَفُ مِنَ الْجُودِ ، وَالسَّمَاحَةِ (لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ الْمَبْرَكِ ، وَهُوَ مَحَلُّ بُرُوكِ الْبَعِيرِ أَوْ زَمَانُهُ
أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْبُرُوكِ (قَلِيلَاتِ الْمَسَارِحِ) جَمْعُ الْمَسْرَحِ ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ مِنْ سَرَحَتِ الْمَاشِيَةُ أَيْ : رَعَتْ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِبِلَهُ كَثِيرَةٌ فِي حَالِ بَرُوكِهَا ، فَإِذَا سَرَحَتْ كَانَتْ قَلِيلَةً لِكَثْرَةِ مَا نَحَرَ مِنْهَا فِي مَبَارِكِهَا لِلْأَضْيَافِ ، وَقِيلَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ مَعَ كَثْرَتِهَا لَا يَسْرَحْنَ نَهَارًا ، وَلَا يَغِبْنَ عَنِ الْحَيِّ وَقْتًا أَوْ زَمَانًا أَوْ لَا تَسْرَحُ إِلَى الْمَرْعَى الْبَعِيدِ إِلَّا قَلِيلًا ، وَقَدْرَ الضَّرُورَةِ ، وَلَكِنَّهُنَّ يَبْرُكْنَ بِفَنَائِهِ حَتَّى إِذَا نَزَلَ ضَيْفُهُ يُقَرِّبُهُ مِنْ أَلْبَانِهَا ، وَلُحُومِهَا (إِذَا سَمِعْنَ) أَيِ : الْإِبِلُ الْبَارِكَةُ فِي الْمَبَارِكِ (صَوْتَ الْمِزْهَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يُضْرَبُ (أَيْقَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ : شَعَرْنَ وَفَطِنَّ (أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ) أَيْ : مَنْحُورَاتٌ لِلضَّيْفِ هُنَالِكَ ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ عَوَّدَ إِبِلَهُ بِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْأَضْيَافُ بِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْمَعَازِفِ كَالرَّبَابِ ، وَيَسْقِيَهُمُ الشَّرَابَ ، وَيُطْعِمَهُمُ الْكَبَابَ ، فَإِذَا سَمِعَتِ الْإِبِلُ ذَلِكَ الصَّوْتَ مِنَ الْبَابِ عَلِمَتْ أَنَّهُنَّ مَنْحُورَاتٌ بِلَا حِسَابٍ ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ النِّيسَابُورِيُّ : الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمُزْهِرِ بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَهُوَ مَوْقِدُ النَّارِ

(2/53)


لِلْأَضْيَافِ قَالَ : وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْمِزْهَرِ الَّذِي هُوَ الْعُودُ إِلَّا مَنْ خَالَطَهُ الْحَضَرُ قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَلِأَنَّ الْمِزْهَرَ بِالْكَسْرِ مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ ، وَإِنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاضِرَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُنَّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ قُلْتُ ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ أَنَّهُنَّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مَكَّةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْمِزْهَرِ صَوْتُ الْغِنَاءِ أَوْ أَيِّ آلَةٍ لَهُ خُصُوصُ الْعُودِ الْمَشْهُورِ مَعَ أَنَّ الْمِزْهِرَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْفَائِقِ بِكَسْرِ الْمِيمِ يُطْلَقُ عَلَى الْعُودِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ ، وَعَلَى الَّذِي يُزْهِرُ النَّارَ ، وَيُقَلِّبُهَا لِلضِّيفَانِ (قَالَتِ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ) : كَذَا بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ فِيهِ ، وَمَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ ، وَالشِّينُ سَاكِنَةٌ ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَكْسِرُونَهَا ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ : كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ ، وَفِي بَعْضِهَا الْحَادِي عَشْرَةَ ، وَفِي بَعْضِهَا الْحَادِيَةُ عَشْرَ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ يَعْنِي لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي الْمُؤَنَّثِ كَمَا يُذَكَّرَانِ فِي الْمُذَكَّرِ (زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ) لَعَلَّهُ كُنِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ زِرَاعَتِهِ أَوْ تَفَاؤُلًا لَكَثْرَةِ أَوْلَادِهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا زَادَ : «صَاحِبُ نَعَمٍ وَزَرْعٍ» (أَنَاسَ) بِزِنَةِ أَقَامَ مِنَ النَّوْسِ وَهُوَ تُحَرُّكُ الشَّيْءِ مُتَدَلِّيًا ، وَنَاسَهُ حَرَّكَهُ غَيْرُهُ أَيْ : أَثْقَلَ (مِنْ حُلِيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ ، وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ الْحِلْيَةِ ، وَهِيَ الصِّيغَةُ لِلزِّينَةِ (أُذُنَيَّ) بِضَمِّ الذَّالِ ، وَيُسَكَّنُ ، وَالرِّوَايَةُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِيهِ وَفِي قَوْلِهِ (وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ) أَيْ : سَمَّنَنِي بِإِحْسَانِهِ إِلَيَّ وَتَفَقُّدِهِ لِي وَخُصَّتِ الْعَضُدَيْنِ لِأَنَّهُمَا إِذَا سَمِنَتَا سَمِنَ سَائِرُ الْبَدَنِ كَذَا فِي الْفَائِقِ وَقِيلَ إِنَّمَا خَصَّتْهُمَا بِمُجَاوَرَتِهِمَا لِلْأُذُنَيْنِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا أَنَّهُ يَظْهَرُ شَحْمُهُمَا عِنْدَ مُزَاوَلَةِ الْأَشْيَاءِ ، وَكَشْفِهِمَا غَالِبًا ، وَلِذَا صَارَ مَحَلًّا لِلْحُلِيِّ ، فَيُلْبَسُ فِيهِ الْمَعَاضِدُ وَالدَّمَالِجُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ قُوَّةِ يَدَيْهَا ، وَسَائِرِ بَدَنِهَا أَوْ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ حَالِهَا ، وَطِيبِ مُعَاشَرَتِهِ إِيَّاهَا (وَبَجَّحَنِي) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ بَيْنَ الْمُوَحَّدَةِ وَالْحَاءُ الْمُهْمَلَةُ أَيْ : فَرَّحَنِي (فَبَجِحْتُ)
بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَكَسْرِ الْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ وَفَتْحِهَا ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْفَتْحُ ضَعِيفٌ ، وَفِي الْقَامُوسِ الْبَجَحُ مُحَرَّكَةٌ الْفَرَحُ ، وَبَجِحَ بِهِ كَفَرِحَ ، وَكَمَنَعَ ضَعِيفَةٌ فَمَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَتْحِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ، وَالْمَعْنَى فَرِحْتُ (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ : مَائِلَةً مُتَوَجِّهَةً رَاغِبَةً (نَفْسِي) وَقِيلَ عَظَّمَنِي فَعَظُمَتْ نَفْسِي عِنْدَهُ يُقَالُ فُلَانٌ يَبْجِحُ بِكَذَا أَيْ : يَتَعَظَّمُ وَيَفْتَخِرُ بِهِ (وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُصَغَّرًا لِلتَّقْلِيلِ تَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا أَصْحَابَ غَنَمٍ لَا أَصْحَابَ خَيْلٍ ، وَلَا إِبِلٍ (بِشَقٍّ) رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِأَهْلِ اللُّغَةِ ، وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمٍ مَوْضُوعٍ بِعَيْنِهِ ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ : فِي الْمُجْمَلِ : أَنَّ الشَّقَّ بِالْفَتْحِ : النَّاحِيَةُ مِنَ الْجَبَلِ ، أَيْ : بِشَقٍّ فِيهِ غَارٌ وَنَحْوُهُ ، فَالْمَعْنَى بِنَاحِيَةٍ شَاقَّةٍ ، أَهْلُهَا فِي غَايَةِ الْجُهْدِ لِقِلَّتِهِمْ ، وَقِلَّةِ غَنَمِهِمْ وَمَنْ رَوَاهُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ أَيْ : مَعَ كَوْنِي وَإِيَّاهُمْ فِي مَشَقَّةٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَقِيلَ الصَّوَابُ بِالْفَتْحِ ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْمَوْضِعِ ، وَقِيلَ الشِّقُّ بِالْكَسْرِ هُنَا ضِيقُ الْعَيْشِ وَالْجُهْدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهَا : «وَجَدَنِي» يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ شَأْنِ أَبِي زَرْعٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا ، وَأَنَّ تَصْغِيرَ غُنَيْمَةٍ يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ حَالِهَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْغَنَمِ ، وَالْبَادِيَةِ مُطْلَقًا لَا يَخْلُو عَنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَقَوْلُهُ : «بِشِقٍّ» أَيْضًا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذَا دَخْلٌ فِي مَدْحِ أَبِي رَزْعٍ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَلِذَا قَالَتْ : (فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فِيهِمَا أَيْ : فَحَمَلَنِي إِلَى أَهْلِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ خَيْلٍ وَإِبِلٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَإِلَّا فَمَعْنَى الصَّهِيلِ : صَوْتُ الْخَيْلِ ، وَمَعْنَى الْأَطِيطِ : صَوْتُ الْإِبِلِ عَلَى مَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ ، تُرِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي

(2/54)


أَهْلِ خُمُولَةٍ وَقِلَّةٍ ، فَنَقَلَهَا إِلَى أَهْلِ ثَرْوَةٍ وَكَثْرَةٍ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ أَكْبَرُ شَأْنًا مِنْ أَهْلِ الْغَنَمِ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يَعْتَدُّونَ ، وَيَعْتَنُونَ بِأَصْحَابِهِمَا دُونَ أَصْحَابِ الْغَنَمِ ثُمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهَا (وَدَائِسٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الدَّوْسِ ، وَهُوَ الَّذِي يَدُوسُ كَنْسَ الْحَبِّ وَيَبْدُرُهُ مِنَ الْبَقَرِ ، وَغَيْرِهِ لِيَخْرُجَ الْحَبُّ مِنَ السُّنْبُلِ (وَمُنَقٍّ) بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَفَتْحِ النُّونِ ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ، فَلَا يَغُرُّكَ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ رُوِّينَا بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مَعًا انْتَهَى .
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ التَّنْقِيَةِ ، فَهُوَ الَّذِي يُنَقِّي الْحَبَّ وَيُصْلِحُهُ ، وَيُنَظِّفُهُ مِنَ التِّبْنِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الدَّوْسِ بِغِرْبَالٍ وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمَقَامِ لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّائِسِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَنِي أَيْضًا فِي أَصْحَابِ زَرْعٍ شَرِيفٍ ، وَأَرْبَابِ حَبٍّ نَظِيفٍ فَتَصِفُهُ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ ، وَتَعَدُّدِ نِعْمَهُ ، وَحُسْنِ أَحْوَالِهِ ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَقِيلَ يَجُوزُ كَسْرُ نُونِهِ ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرَدَّ بِأَنَّهُ مِنَ الْإِنْقَاقِ الْمَأْخُوذِ مِنَ النَّقِيقِ ، وَهُوَ صَوْتُ الدَّجَاجِ وَالرُّخْمَةِ أَيْ : جَعَلَنِي فِي الطَّارِدِينَ لِلطُّيُورِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ زُرُوعِهِمِ ، وَنِعَمِهِمْ ، وَسُمِّيَ هَذَا مُنَقِّي ; لِأَنَّهُ إِذَا طَرَدَ الطَّيْرَ نَقَّ أَيْ : صَوَّتَ فَيَصِيرُ هُوَ أَعْنِي الطَّارِدَ ذَا نَقِيقٍ أَيْ : صَوْتٍ وَقِيلَ الْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْمُنَقِّ بِذَابِحِ الطَّيْرِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ يَنُقُّ ، فَيَصِيرُ هُوَ ذَا نَقِيقٍ أَيْ : جَعَلَنِي مِنْ أَهْلِ ذَابِحِي الطَّيْرِ ، وَطَاعِمِي لُحُومِهَا ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ رَبَّاهَا بِلَحْمِ الطَّيْرِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ أَمْرَأُ وَأَطْيَبُ مِنْ لَحْمِ غَيْرِهِ ، ثُمَّ زَادَتْ فِي مَدْحِهِ حَيْثُ قَالَتْ (فَعِنْدَهُ) أَيْ : مَعَ
هَذَا الْحَالِ (أَقُولُ) أَيْ : شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ (فَلَا أُقَبَّحُ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ : فَلَا أُنْسَبُ إِلَيَ تَقْبِيحِ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِي لِكَرَامَتِي عَلَيْهِ ، وَلَا يُقَبِّحُهُ لِقَبُولِ كَلَامِي ، وَحُسْنِهِ لَدَيْهِ ; فَإِنَّهُ وَرَدَ : «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيَصُمُّ» ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا قِيلَ ، الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ لِي : قَبَحَكِ اللَّهُ ، بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ مِنَ الْقُبْحِ ، وَهُوَ الْإِبْعَادُ ، وَفِي الْحَدِيثِ : «لَا تُقَبِّحُوا الْوُجُوهَ» أَيْ : لَا تَقُولُوا قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَ فُلَانٍ ، وَقِيلَ لَا تَنْسُبُوهُ إِلَى الْقُبْحِ ضِدِّ الْحُسْنِ (وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ) أَيْ : أَنَامُ إِلَى الصُّبْحِ لِأَنِّي مَكْفِيَّةٌ عِنْدَهُ بِمَنْ يَخْدِمُنِي ، وَمَحْبُوبَةٌ إِلَيْهِ ، وَمُعَظَّمَةٌ لَدَيْهِ ، فَهُوَ يَرْفُقُ بِي ، وَلَا يُوقِظُنِي لِخِدْمَتِهِ ، وَمِهْنَتِهِ وَلَا يَذْهَبُ لِغَيْرِي مَعَ مُرُوءَتِهِ ، وَكَمَالِ عِزَّتِهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كِنَايَةً عَنْ نِهَايَةِ أَمْنِهِ ، وَغَايَةِ أُمْنِيَتِهِ (وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ) أَيْ : فَأُرْوَى وَأَدَعُهُ ، وَأَرْفَعُ رَأْسِيَ ، وَالْمَعْنَى لَا أَتَأَلَّمُ مِنْهُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَرْقَدِ ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَذْكُرِ الْأَكْلَ إِمَّا اكْتِفَاءً أَوْ لِأَنَّ الشُّرْبَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : لَا أُرَاهَا قَالَتْ : هَذَا إِلَّا لِعِزَّةِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ ، وَيُرْوَى بِقَافٍ وَنُونٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ نُونِهِ فِيمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَهُوَ أَصَحُّ أَيْ : أُرْوَى حَتَّى أَدَعَ الشُّرْبَ مِنَ الرِّيِّ قِيلَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالنُّونِ أَقْطَعُ الشُّرْبَ وَأَتَمَهَّلُ فِيهِ ، وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ رِوَايَةَ النُّونِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِكُلِّ مَكْنُونٍ (أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) انْتَقَلَتْ مِنْ مَدْحِهِ إِلَى مَدْحِ أُمِّهِ مَعَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنْ كَرَاهَةِ أُمِّ الزَّوْجِ إِعْلَامًا بِأَنَّهَا غَايَةٌ فِي الْإِنْصَافِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ (فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) الرِّوَايَةُ هَهُنَا ، وَفِيمَا بَعْدَهُ بِالْفَاءِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ قِيلَ تَعْجِيبٌ مِنْهَا ، وَقَرَنَتْهُ بِالْفَاءِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ وَالِدَةِ أَبِي زَرْعٍ (عُكُومُهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتُفْتَحُ ، جَمْعُ عِكْمٍ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْعِدْلِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ أَيْ : أَوْعِيَةُ طَعَامِهَا (رَدَاحٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَرُوِيَ بِكَسْرِهِ أَيْ عِظَامٌ كَبِيرَةٌ وَوُصِفَ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ عَلَى إِرَادَةِ : كُلُّ عُكْمٍ مِنْهَا رَدَاحٌ ، أَوْ عَلَى أَنَّ رَدَاحَ هُنَا مَصْدَرٌ كَالذَّهَابِ ، وَقِيلَ لَمَّا كَانَتْ جَمَاعَةُ مَا لَا يَعْقِلُ فِي حُكْمِ الْمُؤَنَّثِ أَوْقَعَهَا صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَلَوْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَكَانَ الْوَجْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُكُومُ أُرِيدَ بِهَا الْحَفْنَةُ الَّتِي لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا لِعِظَمِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ كِفْلَهَا وَمُؤَخَّرَهَا ، وَكَنَّتْ عَنْ ذَلِكَ بِالْعُكُومِ ، وَامْرَأَةٌ رَدَاحٌ عَظِيمَةٌ الْأَكْفَالِ عِنْدَ الْحَرَكَةِ إِلَى

(2/55)


النُّهُوضِ (وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ) بِفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرُوِيَ بِالضَّمِّ أَيْ : وَاسِعٌ يُقَالُ بَيْتٌ فَسِيحٌ ، وَفَسَاحٌ كَطَوِيلٍ وَطَوَالٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : فُسَاحٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ أَيْ : وَاسِعٌ وَالْفَسِيحُ مِثْلُهُ قُلْتُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ : «خَيْرُ الْمَجَالِسِ أَفْسَحُهَا» أَيْ : أَوْسَعُهَا وَيُرْوَى وَبَيْتُهَا فَتَاحٌ
بِالْفَوْقِيَّةِ بِمَعْنَى الْوَاسِعِ كَذَا فِي الْفَائِقِ أَرَادَتْ سِعَةَ مِسَاحَةِ الْمَنْزِلِ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الثَّرْوَةِ وَكَثْرَةِ النِّعْمَةِ ، وَوُجُودِ التَّوَابِعِ مِنَ الْخِدْمَةِ قِيلَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ خَيْرَ بَيْتِهَا وَسَعَةَ ذَاتِ يَدِهَا ، وَكَثْرَةَ مَالِهَا (ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ مَضْجَعُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ أَيْ : مَرْقَدُهُ (كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ السَّعَفَةُ ، وَهِيَ جَرِيدَةُ النَّخْلِ الْخَضْرَاءُ الرَّطْبَةُ ، وَالْمَسَلُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالسِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَذَا قَالُوهُ ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ مِنَ السُّلُولِ تَعْنِي أَنَّ مَضْجَعَهُ كَمَوْضِعٍ سُلَّ عَنْهُ الشَّطْبَةُ ، وَقِيلَ هِيَ السَّيْفُ تُرِيدُ مَا سُلَّ مِنْ قِشْرِهِ أَوْ غِمْدِهِ مُبَالَغَةً فِي لَطَافَتِهِ ، وَتَأْكِيدًا لِظَرَافَتِهِ قَالَ مِيرَكُ : الشَّطْبَةُ أَصْلُهَا مَا شُطِبَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ ، وَهُوَ سَعَفُهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُشَقُّ مِنْهُ قُضْبَانٌ دِقَاقٌ ، وَيُنْسَجُ مِنْهُ الْحُصْرُ ، أَرَادَتْ أَنَّهُ خَفِيفُ اللَّحْمِ دَقِيقُ الْخَصْرِ شَبَّهَتْهُ بِتِلْكَ الشَّطْبَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يُمْدَحُ بِهِ الرَّجُلُ ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : أَرَادَتْ بِهِ سَيْفًا سُلَّ مِنْ غِمْدٍ شَبَّهَتْهُ بِهِ انْتَهَى .
وَحَاصِلُ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ تَشْبِيهُ الْمَضْجَعِ بِالْمَسْلُولِ مِنْ قِشْرِهِ أَوْ غِمْدِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْقِشْرِ أَوِ الْغِمْدِ ، وَتَشْبِيهُ الِابْنِ بِمَا سُلَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمَسَلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقِشْرُ أَوِ الْغِمْدُ (وَتُشْبِعُهُ) بِالتَّأْنِيثِ مِنَ الْإِشْبَاعِ لَا مِنَ الشِّبَعِ ، وَهُوَ ضِدُّ الْجُوعِ (ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أُنْثَى وَلَدِ الْمَعِزِ ، وَقِيلَ الضَّأْنُ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا ، وَالذَّكَرُ جَفْرٌ ; لِأَنَّهُ جَفْرٌ جَنْبَاهُ أَيْ : عَظْمٌ ، فَهُوَ قَلِيلُ الْأَكْلِ أَوْ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ مَحْمُودٌ شَرْعًا ، وَعُرْفًا لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : وَتُرْوِيهِ - بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِرْوَاءِ لَا مِنَ الرِّيِّ ، وَهُوَ ضِدُّ الْعَطَشِ - فِيقَةُ الْيَعْرَةِ ، بِكَسْرِ الْفَاءِ ، وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْقَافِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَفِي الصِّحَاحِ الْفِيقَةُ : اسْمُ اللَّبَنِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا ، وَالْجَمْعُ فِيَقٌ ثُمَّ أَفْوَاقٌ ، مِثْلُ شِبْرٍ وَأَشْبَارٍ ، ثُمَّ أَفَاوِيقُ ، وَالْأَفَاوِيقُ أَيْضًا مَا اجْتَمَعَ فِي السَّحَابِ مِنْ مَاءٍ فَهُوَ يُمْطِرُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ ، وَأَفَاقَتِ النَّاقَةُ تَفِيقُ إِفَاقَةً أَيِ اجْتَمَعَتِ الْفِيقَةُ فِي ضَرْعِهَا ، فَهِيَ مَفِيقٌ وَمَفِيقَةٌ ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْجَمْعُ مَفَاوِيقُ وَفَوَّقْتُ الْفَصِيلَ سَقَيْتُهُ اللَّبَنَ فَوَاقًا ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ تَذَاكَرَ هُوَ وَمُعَاذٌ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى : أَمَّا أَنَا فَأَتَفَوَّقُهُ تَفُوُّقَ اللُّقُوحِ أَيْ : لَا أَقْرَأُ حِزْبِي بِمَرَّةٍ ، وَلَكِنِّي أَقْرَأُ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ ، وَأَطْرَافِ النَّهَارِ (بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ طَوْعُ أَبِيهَا) أَيْ : مُطِيعَةٌ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (وَطَوْعُ أُمِّهَا) أُعِيدَ «طَوْعُ» إِشْعَارًا بِأَنَّ طَاعَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ ، وَالْمَعْنَى لَا تُخَالِفُهُمَا ، فِيمَا أَمَرَاهَا أَوْ نَهَيَاهَا (وَمِلْءُ كِسَائِهَا) كِنَايَةً عَنْ ضَخَامَتِهَا ، وَسِمَنِهَا ، وَامْتَلَاءِ جِسْمِهَا ، وَكَثْرَةِ شَحْمِهَا وَلَحْمِهَا ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي النِّسَاءِ أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي خِبَائِهَا بِحَيْثُ لَا يَسَعُهَا غَيْرُ ثَوْبِهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ : صِفْرُ رِدَائِهَا ، بِكَسْرِ الصَّادِ ، وَسُكُونِ الْفَاءِ ، وَهُوَ الْخَالِي فَقِيلَ أَيْ : ضَامِرَةُ الْبَطْنِ لِأَنَّ الرِّدَاءَ يَنْتَهِي إِلَيْهَا ، وَقِيلَ خَفِيفَةُ أَعْلَى الْبَدَنِ ، وَهُوَ مَحَلُّ الرِّدَاءِ مُمْتَلِئَةٌ أَسْفَلَهُ وَهُوَ مَكَانُ الْكِسَاءِ لِرِوَايَةِ : وَمَلْءُ إِزَارِهَا ، قَالَ الْقَاضِي : وَالْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ امْتَلَاءُ مَنْكِبَيْهَا ، وَقِيَامُ نَهْدَيْهَا بِحَيْثُ يَرْفَعَانِ الرِّدَاءَ مِنْ أَعْلَى جَسَدِهَا ، فَلَا يَمَسُّهُ فَيَصِيرُ خَالِيًا بِخِلَافِ أَسْفَلِهَا كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (وَغَيْظُ جَارَتِهَا)
الْجَارَةُ الضُّرَّةُ لَا تَأْنِيثَ الْجَارِ إِذْ لَا وَجْهَ لِتَأْنِيثِ الْجَارِ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ ،

(2/56)


ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَقَالُوا : الْمُرَادُ بِجَارَتِهَا ضُرَّتُهَا لِلْمُجَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا غَالِبًا ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مَحْسُودَةٌ لِجَارَتِهَا ، وَأَنَّهَا لِحُسْنِهَا صُورَةً وَسِيرَةً تَغِيظُ جَارَتَهَا ، وَرُوِيَ : عَقْرُ جَارَتِهَا ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ ، وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ : هَلَاكُهَا مِنَ الْغَيْظِ وَالْحَسَدِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : وَعُبْرُ جَارَتِهَا ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِالْكَسْرِ أَيْ : تَرَى مِنْ حُسْنِهَا وَعِفَّتِهَا وَعَقْلِهَا مَا تَعْتَبِرُ بِهِ أَوْ مِنَ الْعِبْرَةِ بِالْفَتْحِ أَيْ : تَرَى مِنْ جَمَالِهَا وَكَمَالِهَا مَا يُبْكِيهَا لِغَيْظِهَا ، وَحَسَدِهَا هَذَا ، وَفِي الْفَائِقِ : «بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، وَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، وَفِيُّ الْإِلِّ كَرِيمُ الْخِلِّ بَرُودُ الظِّلِّ طَوْعُ أَبِيهَا» . . الْحَدِيثَ ، وَالْإِلُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْعَهْدُ أَيْ : هِيَ وَافِيَةٌ بِعَهْدِهَا ، وَكَرَمُ الْخِلِّ أَنْ لَا تُخَادِنَ أَخْدَانَ السُّوءِ ، وَبَرْدُ الظِّلِّ مَثَلٌ لِطِيبِ الْعِشْرَةِ ، وَإِنَّمَا سَاغَ فِي وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ وَفِيُّ وَكَرِيمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِ الرُّوَاةِ ، وَالنَّقْلِ مِنْ صِفَةِ الِابْنِ إِلَى صِفَةِ الْبِنْتِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ إِنْسَانٌ أَوْ شَخْصٌ وَفِيٌّ كِرِيمٌ ، وَالثَّانِي أَنْ يُشَبَّهَ فَعِيلٌ الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ بِالَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ) أَيْ : مَمْلُوكَتُهُ (فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَبُثُّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَرُوِيَ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ أَيْ : لَا تَنْشُرُ وَلَا تُظْهِرُ وَلَا تُذِيعُ وَلَا تُشِيعُ (حَدِيثَنَا) أَيْ : كَلَامَنَا وَأَخْبَارَنَا ، وَفِي نُسْخَةٍ (تَبْثِيثًا) وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أُتِيَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وَرُوِيَ : وَلَا تَغُثُّ طَعَامَنَا تَغْثِيثًا ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ : لَا تُفْسِدُهُ (وَلَا تَنْقُثُ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَرُوِيَ : وَلَا تَنْقُلُ ، وَهُمَا بِمَعْنًى أَيْ : لَا تُخْرِجُ وَلَا تُفَرِّقُ وَلَا تُذْهِبُ (مِيرَتَنَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ : طَعَامَنَا (تَنْقِيثًا) مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ ، وَرُوِيَ : وَلَا تَنْقِثُ ، بِكَسْرِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ ، وَهُوَ مَصْدَرُهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي وَصْفِهَا بِالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ ، وَالصِّيَانَةِ (وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا) أَيْ : مَكَانَنَا أَيْ : بِتَرْكِ الْكُنَاسَةِ أَوْ بِتَخْبِيَةِ الطَّعَامِ لِلْخِيَانَةِ (تَغْشِيشًا) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ فَقِيلَ الْأَوَّلُ مِنَ الْغِشِّ ضِدِّ الْخَالِصِ أَيْ : تَمْلَؤُهُ بِالْخِيَانَةِ أَوِ النَّمِيمَةِ ، وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِفَّةِ فَرْجِهَا ، وَالثَّانِي مِنْ عُشِّ الطَّيْرِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُصْلِحَةٌ لِلْبَيْتِ مُهْتَمَّةٌ بِتَنْظِيفِهِ وَإِلْقَاءِ كُنَاسَتِهِ ، وَعَدَمِ تَرْكِهَا فِي جَوَانِبِهِ كَأَنَّهَا أَعْشَاشُ الطُّيُورِ ، وَقِيلَ لَا تُخَبِّئُ الطَّعَامَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ بِحَيْثُ تُصَيِّرُهَا كَالْأَعْشَاشِ ، وَفِي نُسْخَةٍ : «بَيْنَنَا» بِالنُّونِ بَدَلَ «بَيْتَنَا» فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ مَنْ رَوَاهُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، فَهُوَ يَرْوِي «بَيْنَنَا» بِنُونَيْنِ ، وَيَكُونُ مَأْخَذُهُ مِنَ الْغِشِّ ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : التَّغْشِيشُ النَّمِيمَةُ انْتَهَى .
وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّ التَّغْشِيشَ بِالْمُعْجَمَةِ لَا يَصِحُّ مَعَ رِوَايَةِ الْبَيْتِ ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مَعَ رِوَايَةِ الْبَيْنِ أَظْهَرُ ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى ، وَأَمَّا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَيْتِ لِوُضُوحِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَالَتْ) أَيْ : أُمُّ زَرْعٍ (خَرَجَ) أَيْ : مِنَ الْبَيْتِ (أَبُو زَرْعٍ) أَيْ : يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ (وَالْأَوْطَابُ) جَمْعُ وَطْبٍ أَيْ : أَسْقِيَةُ اللَّبَنِ ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ : وَالْوِطَابُ بِكَسْرِ الْوَاوِ (تُمَخَّضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ : تُحَرَّكُ لِاسْتِخْرَاجِ الزُّبْدِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خَرَجَ
وَهُوَ أَبُو زَرْعٍ (فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ) أَيْ : يَمْشِيَانِ مَعَهَا أَوْ مَصْحُوبَانِ لَهَا ، وَقَوْلُهَا (لَهَا) أَيْ : لَيْسَا لِغَيْرِهَا مُرَافِقَيْنِ بِهَا (كَالْفَهِدَيْنِ) أَيْ : مُشَبَّهَانِ بِالْفَهِدِ ، وَهُوَ سَبُعٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَ الدَّمِيرِيُّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي كَثْرَةِ النَّوْمِ وَالْوُثُوبِ ، وَمِنْ خُلُقِهِ أَنَّهُ يَأْنَسُ لِمَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ ، وَكِبَارُ الْفُهُودِ أَقْبَلُ لِلتَّأْدِيبِ مِنْ صِغَارِهَا وَأَوَّلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْخَيْلِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَكْثَرُ مَنِ اشْتَهَرَ بِاللَّعِبِ بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ ، هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَالْفَهِدَيْنِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (يَلْعَبَانِ) وَهُوَ صِفَةٌ لِوَلَدَانِ (مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ : وَسَطِهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ تَحْتِ صَدْرِهَا (بِرُمَّانَتَيْنِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : تَعْنِي إِنَّهَا ذَاتَ كِفْلٍ عَظِيمٍ ، فَإِذَا اسْتَلْقَتْ عَلَى قَفَاهَا ارْتَفَعَ الْكِفْلُ بِهَا مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ تَحْتَهَا فَجْوَةٌ يَجْرِي فِيهَا الرُّمَّانُ ، وَقِيلَ ذَاتُ ثَدْيَيْنِ حَسَنَيْنِ صَغِيرَيْنِ كَالرُّمَّانَتَيْنِ ، وَقِيلَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ لَأَنَّ قَوْلَهَا مِنْ تَحْتِ

(2/57)


خَصْرِهَا يُنَافِيهِ ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي : هَذَا أَرْجَحُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَحْتِ صَدْرِهَا ، وَمِنْ تَحْتِ دِرْعِهَا ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِرَمْيِ الصِّبْيَانِ الرُّمَّانَ تَحْتَ ظُهُورِ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَلَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِاسْتِلْقَاءِ النِّسَاءِ كَذَلِكَ حَتَّى يُشَاهِدَ مِنْهُنَّ الرِّجَالُ ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بِمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ ، وَيَتَشَوَّشُ بِهِ السَّمْعُ (فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا وَنَكَحْتُ) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ فَنَكَحْتُ (بَعْدَهُ رَجُلًا) أَيْ : كَامِلَ الرُّجُولِيَّةِ (سَرِيًّا) بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ : شَرِيفًا ، وَقِيلَ سَخِيًّا (رُكِّبَ شَرِيًّا) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ : فَرَسَا يَسْتَشْرِي فِي سَيْرِهِ أَيْ : يَمْضِي بِلَا فُتُورٍ ، وَلَا انْكِسَارٍ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : أَيْ : فَرَسًا فَائِقًا جَيِّدًا (وَأَخَذَ خَطِّيًّا) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ ، وَالتَّحْتِيَّةِ بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ ، وَيُكْسَرُ أَيْ : رُمْحًا مَنْسُوبًا إِلَى الْخَطِّ قَرْيَةٌ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ عِنْدَ عُمَانَ ، وَالْبَحْرَيْنِ (وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ : أَنْعَامًا (ثُرَيًّا) أَيْ : كَثِيرًا مِنَ الْإِرَاحَةِ ، وَهِيَ رَدُّ الْمَاشِيَةِ بِالْعَشِيِّ مِنْ مَرْعَاهَا أَيْ : أَتَى بِهَا إِلَى مُرَاحِهَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَبِيتُهَا ، وَخُصَّتِ الْإِرَاحَةُ بِالذِّكْرِ دُونَ السَّرْحِ ; لِأَنَّ ظُهُورَ النِّعْمَةِ فِي النِّعَمِ حِينَئِذٍ أَتَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالنَّعَمُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بَعْضُهَا وَهِيَ الْإِبِلُ ، وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ النَّعَمَ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِبِلِ ، وَالثَّرَى فَعِيلٌ مِنَ الثَّرْوَةِ ، وَهِيَ الْكَثْرَةُ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ ، وَذَكَّرُوا فَرُدَّ ، وَوُصِفَتْ بِهِ النَّعَمُ لِأَنَّ النَّعَمَ قَدْ يُذَكَّرُ أَيْضًا أَوْ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ (وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ) يُقَالُ رَاحَتِ الْإِبِلُ تَرُوحُ ، وَأَرَحْتُهَا أَيْ : رَدَدْتُهَا أَيْ : مِمَّا تَرُوحُ إِلَى الْمَرَاحِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَالْعَبِيدِ أَيْ : يَرْجِعُ بِالْعَشِيِّ ، وَهُوَ الرَّوَاحُ ضِدَّ الصَّبَاحِ (زَوْجًا) أَيْ : أَوْ صِنْفًا وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ كُلِّ ذَابِحَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ ; فَإِنْ صَحَّ وَلَمْ يَكُنْ تَحْرِيفًا فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَكُونُ فَاعِلُهُ بِمَعْنَى مَفْعُولِهِ أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ ذَبْحُهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى (وَقَالَ) أَيِ : الزَّوْجُ الثَّانِي (كُلِي أُمَّ زَرْعٍ) أَيْ : يَا أُمَّ زَرْعٍ (وَمِيرِي) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ : أَعْطِي (أَهْلَكِ) وَتَفَضَّلِي عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْمِيرَةِ ، وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَمْتَارُهُ الْإِنْسَانُ أَيْ : يَجْلِبُهُ لِأَهْلِهِ يُقَالُ مَارَ أَهْلَهُ يَمِيرُهُمْ مَيْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ثُمَّ وَصَفَتْ كَثْرَةَ نِعَمِ أَبِي زَرْعِ ، وَكَرَمِهِ بِقَوْلِهَا (فَلَوْ جَمَعْتُ) أَيْ : أَنَا (كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ) أَيْ : هَذَا الزَّوْجُ (مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ) أَيْ : قَيْمَتِهَا أَوْ قَدْرِ مَلْئِهَا ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِبَارَةِ : مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ ، وَلِذَا قِيلَ الشَّيْبُ نِصْفُ الْمَرْأَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ وَقَالَ تَعَالَى فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا وَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ أَحَبِيَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ) أَيْ : فِي أَخْذِكِ بِكْرًا وَإِعْطَائِكَ كَثِيرًا لَا فِي الطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ إِذْ لَا

(2/58)


يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ قِيلَ ، وَافْهَمْ مِنْ قَوْلِهِ : لَكِ ، أَنَّهُ لَهَا كَأَبِي زَرْعٍ فِي النَّفْعِ لَا فِي الضُّرِّ الَّذِي جُمْلَتُهَا الطَّلَاقُ ، وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهَا ، وَكَانَ زَائِدَةٌ أَوْ لِلدَّوَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أَيْ : كَانَ فِيمَا مَضَى مِنَ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَبَدًا عَلَى وَجْهِ الْبَقَاءِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ ، وَاعْتَرَضَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الزَّائِدَةِ غَيْرُ عَامِلَةٍ فَلَا يُوصَلُ بِهَا الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ فِي الْأَصْلِ وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَمَّا مَضَى إِلَى وَقْتِ تَكَلُّمِهِ بِذَلِكَ ، وَأَبْقَى الْمُسْتَقْبَلَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ مَعَ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِهَا لِلدَّوَامِ إِذْ هُوَ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَضَرُورَةِ حَاجَةٍ ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَالَ عُرْوَةُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ ذِكْرِهِنَّ وَحَدِيثِهِنَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ فِي الْأُلْفَةِ وَالرَّفَاءِ لَا فِي الْفُرْقَةِ وَالْخَلَاءِ وَالرَّفَاءُ : الِاجْتِمَاعُ وَالْمُرَافَقَةُ ، وَمِنْهَا رَفَوْتُ الثَّوْبَ أَيْ : جَمَعْتُهُ وَالْخَلَاءُ الْمُبَاعَدَةُ وَالْمُجَانَبَةُ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ» حَتَّى فِي الْمُفَارَقَةِ لِأَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا ، وَتُحْرَمُ مِنْ مَنَافِعَ دِينِيَّةٍ كَانَتْ تَأْخُذُهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ : الْمَرْفُوعُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زَرْعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ وَبَاقِيهِ
مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ ، وَجَاءَ خَارِجَ الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ ، وَسَاقَهُ بِسِيَاقٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ ، وَلَفْظُهُ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ قَالَتْ عَائِشَةُ : بِأَبِي أَنْتَ ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ كَانَ أَبُو زَرْعٍ قَالَ : اجْتَمَعَ . . فَسَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ ، وَكَذَا جَاءَ مَرْفُوعًا كُلُّهُ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ ، وَيُقَوِّي رَفْعَ جَمِيعِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ الْمُتَّفَقَ عَلَى رَفْعِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ الْقِصَّةَ ، وَعَرَفَهَا فَأَقَرَّهَا ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا كُلُّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فَوَائِدَ كَثِيرَةً كَمَا قَالُوا : مِنْهَا حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْأَهْلِ ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَجَوَازُ السَّمَرِ ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ ، وَأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَمِنْهَا أَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ كَنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ أَبِي زَرْعٍ طَلَاقُ أُمِّ زَرْعٍ ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَاقٌ بِتَشْبِيهِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ ، وَمِنْهَا أَنَّ ذِكْرَ إِنْسَانٍ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ جَمَاعَةٍ كَذَلِكَ بِأَمْرٍ مَكْرُوهٍ لَيْسَ بِغَيْبَةٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَالْمُرَادُ عَدَمُ التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ ; فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ السَّامِعِ ، فَالَّذِي رَجَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ حِينَئِذٍ ، وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا خِلَافُهُ ; لِأَنَّ أَئِمَّتَنَا صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ الْغَيْبَةِ بِالْقَلْبِ وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْغَيْبَةَ بِالْقَلْبِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ ، فَإِذَا حَرُمَتْ بِهِ ، فَأَوْلَى حُرْمَتُهَا بِاللِّسَانِ وَلَوْ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُغْتَابَ انْتَهَى .
وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْقَاضِي لِوُرُودِ أَحَادِيثَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ كَذَا وَكَذَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَفْعَالِهِمْ ، وَأَقْوَالِهِمْ بِخُصُوصِ أَعْيَانِهِمْ ، وَأَشْخَاصِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْغَيْبَةُ الْقَلْبِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الْإِصْرَارِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى تِلْكَ الْخَصْلَةِ الدَّنِيَّةِ ، وَأَمَّا ذِكْرُهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِبْهَامِ ، وَالتَّعْمِيَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، فَلَا وَجْهَ لَهُ أَنْ يُسَمَّى غَيْبَةً ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي فَتَاوَاهُ : رَجُلٌ اغْتَابَ أَهْلَ قَرْيَةٍ ، لَمْ يَكُنْ غَيْبَةً حَتَّى يُسَمِّيَ قَوْمًا مَعْرُوفِينَ