سيرة ابن إسحاق

خبر الصديق مع رجل أنيبته حية.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد عن أبي بكر أنه قال: كنت امرءاً تاجراً، فسلكت ثنيه في سفر لي، فإذا رجل منها يقول: أتؤمني أؤمنك؟ فقلت: نعم، فقال:
أدنه، فأتيته، فإذا هو نهيش قد أنيبته حيه أصابته، فقال: يا عبد الله هل
__________
(1) كذا في الأصل، ويبدو أن جواب الشيخ البكري سقط كما سقط بعض من جواب الغلام.

(1/28)


أنت مبلغي إلي أهلي ها هنا، تحت هذه الثنية؟ فقلت: نعم، فاحتملته على بعيري، فأتيت به على أهله، فقال لي رجل من القوم: يا عبد الله ممن أنت؟
فقلت: رجل من قريش، فقال: والله إني لأظنك مصنوعاً لك، والله ما كان لص أعدى منه.
قال: وأضلتني ناقة لي قد كنت أعلفها العجين، فلما أيست منها، اضطجعت عند رحلي، وتقنعت بثوبي، فو الله ما أهبني إلا حس مشفرها تحرك به قدمي، فقمت إليها، فركبتها.

خبر عمر بن الخطاب مع شيخ كبير أعمى.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق، قال: حدثني من سمع عكرمة يذكر عن ابن عباس قال: بينا أنا جالس عند عمر بن الخطاب، وهو يعرض الناس على ديوانهم، إذ مر شيخ كبير أعمى يجبذ قائده جبذاً شديداً، فقال عمر:
ما رأيت كاليوم منظراً أسوأ.
قال: فقال له رجل: يا أمير المؤمنين هذا ابن صبغاء البهزي، ثم السلمي، بهيك بريق، فقال عمر: قد أعلم أن بريقاً لقب، فما اسم الرجل «1» ؟ قالوا:
عياض، قال عمر: ادعوا لي عياضاً، فدعى، فقال: أخبرني خبرك وخبر بني صبغاء- وكانوا عشرة نفر-.
فقال عياض: شيء كان في الجاهلية قد جا الله بالإسلام، فقال عمر: اللهم غفرا، ما كنا أحرانا نتحدث عن أمر الجاهلية منا حين هدانا الله عز وجل للإسلام، وأنعم علينا به! فقال: يا أمير المؤمنين كنت امرءاً قد نفاني أهلي، وكان بنو صبغاء عشرة، وكانت بيني وبينهم قرابة وجوار، فتنقصوني ما بي وتذللوني، فسألتهم بالله والرحم والجوار إلا ما كفوا عني، فلم يفعلوا، ولم يمنعني ذلك منهم، فأمهلتهم حتى دخل الشهر الحرام، ثم رفعت يدي إلى الله عز وجل فقلت:
اللهم أدعوك دعاء جاهداً ... اقتل بني الصبغاء إلا واحدا
ثم اضرب الرجل فذره قاعداً ... أعمى إذا ما قيد عنّى القائدا
__________
(1) أي اسم القائد.

(1/29)


فتتابع منهم تسعة في عام واحد، وضرب الله عز وجل هذا، وأعمى بصره، فقائده يلقي منه ما رأيت، فقال عمر: إن هذا لعجب.

أبو تقاصف الخناعي وأخوته.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين شأن أبي تقاصف الخناعي، ثم الهذلي، وأخوته أعجب من هذا، فقال عمر: وكيف كان شأن أبي تقاصف وإخوته؟
فقال: كان لهم جار هو منهم بمنزلة عياض من بني صبغاء، فتنقصوه وتذللوه، فذكرهم الله والرحم والجوار، فلم يعطفهم ذلك عليه، فأمهلهم حتى إذا دخل الشهر الحرام، رفع يديه ثم قال:
اللهم رب كل آمن وخائف ... وسامع هتاف كل هاتف
ان الخناعي أبا تقاصف ... لم يعطني الحق ولم يناصف
فاجمع له الأحبة الألاطف ... بين قران ثم والتواصف
قال فنزلوا في قليب لهم يحفرونه حيث وصف، فتهور عليهم، فإنه لقبرهم إلى يومهم هذا.

بنو مؤمل وابن عمهم.
فقال رجل من القوم: شأن بني مؤمل من بني نصر أعجب من هذا، كان بطن من بني مؤمل، وكان لهم ابن عم قد استولى على أموال بطن منهم وراثة «1» فألجأ نفسه وماله إلى ذلك البطن، فتنقصوا ماله وتذللوه وتضعفوه، فقال: يا بني مؤمل، إني قد ألجأت نفسي ومالي إليكم لتمنعوني وتكفوا عني، فقطعتم رحمي، وأكلتم مالي وتذللتموني، فقام رجل منهم يقال له رياح، فقال:
يا بني مؤمل صدق، فاتقوا الله فيه وكفوا عنه، فلم يمنعهم ذلك منه، ولم يكفوا عنه، فأمهلهم حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرجوا عمارا «2» ، رفع يديه فقال:
اللهم زلهم عن بني مؤمل ... وارم على أقفائهم بمنكل
بصخرة أو بعض جيش جحفل ... إلا رياحاً إنه لم يفعل
__________
(1) كذا في الأصل، وفي النفس من ذلك شيء!
(2) أي لأداء العمرة.

(1/30)


فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نزلوا إلى جبل فأرسل الله عز وجل من رأس الجبل صخرة تجر ما مرت به من حجر أو شجر، حتى دكتهم به دكة واحدة، إلا رياحاً وأهل خبائه، لأنه لم يفعل.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن هذا للعجب، لم ترون هذا كان؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت أعلم، فقال: أما إني قد علمت ذاك، كان الناس أهل الجاهلية لا يعرفون رباً ولا بعثاً، ولا قيامة ولا جنة ولا ناراً، فكان الله عز وجل يستجيب لبعضهم على بعض، للمظلوم على الظالم، ليكف بذلك بعضهم عن بعض، فلما بعث الله عز وجل هذا الرسول، وعرفوا الله عز وجل والبعث والقيامة، والجنة والنار، وقال الله عز وجل: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «1» » فكانت المدد والاملاء.
__________
(1) سورة القمر: 46.

(1/31)