سيرة ابن إسحاق

حديث خديجة ابنة خويلد
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت خديجة ابنة خويلد إمرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وخرج في مالها ذلك، ومعه غلامها ميسرة، حتى قدم الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب على ميسرة، فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة فيما يزعمون، إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف، أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله عز وجل بها من كرامته.
فلما أخبرها ميسرة عما «1» أخبرها به (7) بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم،
__________
(1) في ع: بما.

(1/81)


فقالت له- فيما يزعمون-: يا ابن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وسطتك «1» فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالاً، كل قومها قد كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر على ذلك.
وهي خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأمها فاطمة ابنة زيد بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وأمها هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عبد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي، وأمها فلانة ابنة سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وأمها عاتكة ابنة عبد العزى بن قصي، وأمها ريطة ابنة كعب بن سعد ابن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وأمها قيلة ابنة حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وأمها أميمة ابنة عامر بن الحارث بن فهر، وأمها ابنة سعد بن كعب بن عمرو، من خزاعة، وأمها فلانة ابنة حرب بن الحارث بن فهر، وأمها سلمى بنت غالب بن فهر، وأمها ابنة محارب بن فهر.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فلما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالت، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على أسد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له قبل أن ينزل عليه الوحي ولده كلهم: زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة والقاسم، والطاهر والطيب، فأما القاسم، والطاهر والطيب فهلكوا قبل الإسلام، وبالقاسم كان يكنى صلى الله عليه وسلم، فأما بناته فأدركن الإسلام، وهاجرن معه، واتبعنه، وآمن به عليه السّلام.
__________
(1) اي لعلو نسبك فيهم، انظر الروض 1/ 212- 213.

(1/82)


قصة الأحبار
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت الأحبار والرهبان أهل (8) الكتابين هم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وزمانه الذي يترقب فيه من العرب، لما يجدون في كتبهم من صفاته، وما أثبت فيها عندهم من اسمه، وبما أخذ عليهم من الميثاق له في عهد أنبيائهم وكتبهم في اتباعه، فيستفتحون به على أهل الأوثان من أهل الشرك، ويخبرونهم أن نبياً مبعوثاً بدين إبراهيم اسمه أحمد، كذلك يجدونه في كتبهم وعهد أنبيائهم، يقول الله تبارك وتعالى:
«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ» إلى قوله:
(أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) «1» وقال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) «2» الآية كلها، وقال (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) «3» الآية كلها، وقوله: (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) «4» .
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت العرب أميين لا يدرسون كتاباً، ولا يعرفون من الرسل عهداً، ولا يعرفون جنة ولا ناراً، ولا بعثاً ولا قيامة إلا شيئاً يسمعونه من أهل الكتاب، لا يثبت في صدورهم، ولا يعملون به شيئاً من أعمالهم.
فكان فيما بلغنا من حديث الأحبار والرهبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله عز وجل بزمان.
__________
(1) الأعراف: 157.
(2) الصف 6.
(3) الفتح: 29.
(4) البقرة: 89- 90.

(1/83)


حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود، وكانوا آهل كتاب، وكنا أصحاب وثن، فكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبيا مبعوثاً الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروا به، ففينا والله وفيهم أنزل الله عز وجل «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ» «1» الآية.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال:
حدثني من شئت من رجال قومي «2» عن حسان بن ثابت قال: والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ابن ثماني سنين أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهودياً وهو [96] على أطمه «3» بيثرب، يصرخ: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا إليه قالوا:
ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد، الذي يبعث به، الليلة.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني صالح بن إبراهيم عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومي بني عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان، فقال ذاك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، وذلك قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويلك يا فلان، وهذا كائن، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار «4» فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟ قال:
نعم والذي يحلف به، لوددت أن حظي من تلك النار، أن توقدوا أعظم تنور
__________
(1) - البقرة: 89. ومعلوم ان عاصم بن عمر بن قتادة كان مدنيا اصله من الأنصار
(2) - في ع: قول.
(3) - الأطم: حصن مبني بحجارة، وقيل هو كل بيت مربع مسطح.
(4) في ع: ذات.

(1/84)


في داركم فتحمونه، ثم تقذفوني فيه، ثم تطينون على، وإني أنجو من النار غداً، فقيل: يا فلان فما علامة ذلك؟ قال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمنء قالوا: فمتى تراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، فقال- وأنا أحدث القوم- إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم- وإنه لحي بين أظهركم- فآمنا به، وصدقناه، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: يا فلان ألست الذي قلت ما قلت، وأخبرتنا؟ قال: ليس به.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عما كان إسلام أسيد «1» وثعلبة ابني سعية، وأسد «2» بن عبيد، نفر من هذيل «3» ، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك؟ فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين، فكنا إذا قحطنا «4» ، وقل علينا المطر نقول: يابن الهيبان اخرج فاستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه، ثم نخرج إلى ظاهر حرتنا، ونحن معه فيستسقي، فو الله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب «5» ، قد فعل ذلك غير [10] مرة ولا مرتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه
__________
(1) - ضبط في الأصل بضم الألف، هذا وذكر السهيلي في الروض: 1/ 247 انه هكذا ورد ضبطها عن ابن إسحق في حين أن كل من يونس بن بكير والدارقطني قد ضبطاها بالفتح.
(2) - في ع: واسيد، وهو تصحيف فقد ورد في الروض: 1/ 246- 247 مثلما جاء في الأصل هنا.
(3) في الروض: 1/ 246 «هدل» وهو تصحيف.
(4) في ع: تحطنا.
(5) في الروض: 1/ 246 (حتى تمر السحابة ونسقى) .

(1/85)


أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: فإنما أخرجني، أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجرة، فأتبعه، فلا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، ثم مات؛ فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الفتية الثلاثة، وكانوا شبابا أحداثا:
يا معشر يهود والله إنه الذي كان ذكر ابن الهيبان، فقالوا: ما هو به، قالوا:
بلى والله إنه لصفته، ثم نزلوا فأسلموا، وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم.
نا أحمد: قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: كانت أموالهم في الحصن مع المشركين، فلما فتح رد ذلك عليهم.
نا أحمد: نا يونس عن قيس بن الربيع عن يونس بن أبي مسلم عن عكرمة أن ناسا من أهل الكتاب آمنوا برسلهم، وصدقوهم، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، فذلك قوله تبارك وتعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) «1» وكان قوم من أهل الكتاب آمنوا برسلهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث محمد آمنوا به فذلك قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) «2» .
__________
(1) آل عمران: 106.
(2) محمد: 17.

(1/86)


إسلام سلمان الفارسي رحمه الله
نا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلاً من أهل فارس من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي «1» ، وكان أبي دهقان أرضه، وكان يحبني حباً شديداً، لم يحبه شيئاً من ماله ولا ولده، فما زال به حبه إياي «2» حتى حبسني في البيت كما يحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، فكنت كذلك لا أعلم من أمر الناس شيئاً إلا ما أنا فيه حتى بنى أبي بنياناً له، وكانت له ضيعة فيها بعض العمل، فدعاني فقال: أي بني إنه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه، ولا بد لي من اطلاعها، فانطلق إليهم فمرهم بكذا وكذا ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني شغلتني عن كل شيء، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة النصارى، فسمعت أصواتهم [11] فيها، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هؤلاء النصارى يصلون، فدخلت أنظر فأعجبني ما رأيت من حالهم، فو الله ما زلت جالساً عندهم حتى غربت الشمس، وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضيعته، فقال: أي بني أين كنت، ألم أكن قلت لك؟! فقلت يا أبتاه
__________
(1) - اسم مدينة ناحية اصبهان، وكانت تدعى ايام ياقوت بشهرستان، وعرفت عند العرب وخاصة المحدثين منهم باسم المدينة واليها ينسب المديني العالم المشهور.
(2) - سقطت من ع.

(1/87)


مررت بأناس يقال لهم (النصارى) فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم، فجلست أنظر كيف يفعلون، فقال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت:
لا والله ما هو بخير من دينهم، هؤلاء قوم يعبدون الله ويدعونه ويصلون له، ونحن إنما نعبد ناراً نوقدها بأيدينا، إذا تركناها ماتت، فخافني، فجعل في رجلي حديدا وحبسني في بيت عنده، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: أين أهل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ فقالوا: بالشام، فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك أناس فآذنوني، فقالوا: نفعل، فقدم عليهم نامن من تجارهم، فبعثوا إلي: إنه قد قدم علينا تجار من تجارنا، فبعثت إليهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الخروج فآذنوني بهم، قالوا: نفعل، فلما قضوا حوائجهم، وأرادوا الرحيل بعثوا إلي بذلك، فطرحت الحديد الذي في رجلي، ولحقت بهم، فانطلقت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف صاحب الكنيسة، فجئته فقلت له: إني قد أحببت أن أكون معك في كنيستك، وأعبد الله فيها معك، وأتعلم منك الخير؟ قال:
فكن معي، فكنت معه، وكان رجل سوء، كان يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوها إليه اكتنزها ولم يعطها المساكين، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيت من حاله، فلم ينشب أن مات، فلما جاءوا ليدفنوه، قلت لهم: إن هذا رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، حتى إذا جمعتموها إليه اكتنزها ولم يعطها المساكين، فقالوا: وما علامة ذلك؟ فقلت: أنا أخرج لكم كنزه، فقالوا: فهاته فاخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً «1» ، فلما راوا ذلك، قالوا: والله لا يدفن أبداً فصلبوه على خشبة ورموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فلا والله يابن عباس ما رأيت رجلا قط لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أشد اجتهادا، ولا أزهد في الدنيا، ولا أدأب
__________
(1) اي فضة.

(1/88)


ليلا ولا نهاراً منه، ما أعلمني أحببت شيئاً قط قبله حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان قد حضرك ما ترى من أمر الله عز وجل وإني والله ما [12] أحببت شيئاً قط حبك، فماذا تأمرني، وإلى من توصيني؟ قال:
أي بني والله ما أعلمه إلا رجلاً بالموصل، فاتيه فإنك ستجده على مثل حالي، فلما مات وغيب، لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهاد في الدنيا، فقلت له: إن فلاناً أوصاني إليك أن آتيك، وأكون معك، قال: فأقم أي بني فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة، فقلت له: إن فلاناً أوصاني إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من؟ قال: والله ما أعلمه أي بني إلا رجلاً بنصيبين هو على مثل ما نحن عليه، فالحق به، فلما دفناه لحقت بالآخر فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني إلى فلان وفلان أوصاني إليك، قال: فأقم أي بني، فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، وقد كان فلان أوصاني إلى فلان وأوصاني فلان إلى فلان، وأوصاني فلان إليك، فإلى من؟ قال: أي بني والله ما أعلم أحدأ على مثل ما نحن عليه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم فاتيه فإنك ستجده على مثل ما كنا عليه، فلما واريته خرجت حتى قدمت على صاحب عمورية فوجدته على مثل حالهم، فأقمت عنده، واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقرات، ثم حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان إن فلاناً كان أوصاني إلى فلان، وفلان إلى فلان، وفلان إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصيني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة «2» ، يأكل الهدية،
__________
(2) - جاء في حاشية: نا العطاردي: نا يحيى بن آدم قال: الذي يختم به هو خاتم، والنبي عليه السّلام خاتم.

(1/89)


ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه، فلما واريناه أقمت على خير، حتى مر بي رجال من تجار العرب، من كلب، فقلت لهم تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى، فو الله لقد رأيت النخل وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي، وما حقت عندي حتى قدم رجل (13) من بني قريظة من يهود وادي القرى، فابتاعني من صاحبي الذي كنت عنده، فخرج بي حتى قدم المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفت نعته، فأقمت في رقي مع صاحبي، وبعث الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، لا يذكر لي شيء من أمره مما أنا فيه من الرق حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء «1» ، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له، فو الله إني لفيها إذ جاء ابن عم له، فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة «2» ، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي، فو الله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذني العرواء- يقول الرعدة- حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول ما هذا الخبر، ما هو؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا، أقبل قبل عملك، فقلت: لا شيء إنما سمعت خبراً، فأحببت أعلمه، فلما أمسيت وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقباء، فقلت: إني بلغني أنك رجل صالح، إن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شيء للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به، فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، فقلت في نفسي: هذه خلة مما ووصف لي صاحبي، ثم رجعت، وتحول رسول
__________
(1) - خارج المدينة، قدمها النبي يوم الهجرة.
(2) اي الأوس والخزرج، انظر الروض: 1/ 249.

(1/90)


الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئاً كان عندي، ثم جئته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية وكرامة ليست بالصدقة، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل أصحابه، فقلت هذه خلتان، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة، وعلي شملتان لي وهو في أصحابه، فاستدرت به لأنظر إلى الخاتم في ظهره، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبر عرف أني استثبت من شيء قد وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله، وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا، فتحولت، فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي عنه، فحدثته يابن عباس كما حدثتك، فلما فرغت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له، وأربعين أوقية، فأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخلة ثلاثين ودية (14) عشر، كل رجل منهم على قدر ما عنده، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقر لها فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي، ففقرتها وأعانني أصحابي- يقول حفرت لها حيث توضع- «1» حتى فرغنا منها، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد فرغنا منها، فخرج معي حتى جاءها، فكنا نحمل إليه الودي فيضعه بيده ويسوي عليه، فو الذي بعثه بالحق ما ماتت منها ودية واحدة.
وبقيت علي الدراهم، فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل البيضة من الذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الفارسي المسلم المكاتب؟ فدعيت له، فقال: خذ هذه يا سلمان فأد بها ما عليك، فو الذي نفس سلمان بيده لو زنت لهم منها أربعين أوقية، فأديتها إليهم، - وعتق سلمان- وكان الرق قد حبسني حتى فاتتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، ثم عتقت فشهدت الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
__________
(1) أوضح السهيلي في الروص: 1/ 250- 251، أسماء النخلة وأعمال غرسها في مختلف الأوقات، فلينظر.

(1/91)


نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال:
حدثني من سمع عمر بن عبد العزيز، وحدث هذا من حديث سلمان، فقال:
حدثت عن سلمان أن صاحب عمورية قال لسلمان، حين حضرته الوفاة: إئت غيضيتين من أرض الشام فإن رجلاً يخرج من إحداهما إلى الأخرى في كل سنة ليلة، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحدبه مرض إلا شفي، فسله عن هذا الدين الذي تسلني عنه، عن الحنيفية دين إبراهيم، فخرجت حتى أقمت بها سنة، حتى خرج تلك الليلة من إحدى الغيضيتين إلى الأخرى، وإنما كان يخرج مستجيزا، فخرج وغلبني عليه الناس حتى دخل في الغيضة التي يدخل فيها حتى ما بقي إلا منكبه، فاخذت به فقلت: رحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم؟ فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك [زمان] «1» نبي يخرج عند هذا البيت، بهذا الحرم، يبعث بسفك الدم، فلما ذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لئن كنت صدقت يا سلمان لقد رأيت عيسى بن مريم عليه السلام.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن رجل من عبد القيس عن سلمان قال: لما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذهب فقال: اقض به عنك، فقلت يا رسول الله، وأين تقع [15] هذه مما علي؟ فقلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسانه، ثم قذفها إلي، ثم قال: إنطلق بها فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك، فانطلقت فوزنت لهم منها حتى أوفيتهم منها أربعين أوقية.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن أبي ليلى قال: نا عتاب البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري فيبسط له على بابه بساط ثم يجعل عليه وسادة، ويتكىء على الوسادة ونحن حوله نحدق به، فسألته عن الخاتم الذي كان بين
__________
(1) زيدت من ع.

(1/92)


كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان؟ قال فأشار أبو سعيد بالسبابة ووضع الإبهام على أول مفصل أسفل من ذلك. قال يونس: أخرج المفصل كله، قال: كانت بضعة ناشزة بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نا أحمد: نا يونس قال: قال ابن اسحق: وكانت قريش يعظمون الكعبة ويطوفون بها ويستغفرون عندها مع تعظيم الأوثان والشرك في ذبائحهم، ويحجون، ويقفون المواقف.

(1/93)


أثر الكعبة
نا أحمد: نا يونس عن سعيد بن ميسرة البكري قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان موضع البيت في زمن آدم شيراً «1» أو أكثر علماً، فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم، ثم حج آدم فاستقبلته الملائكة، فقالوا:
يا آدم من أين جئت؟ قال حججت البيت، قالوا: قد حجته الملائكة قبلك.
نا أحمد نا يونس عن ثابت بن دينار عن عطاء قال: أهبط آدم بالهند، فقال:
يا رب مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة؟ فقال له:
بخطيئتك يا آدم، فانطلق فابن لي بيتا فتطوف به كما رأيتهم يتطوفون، فانطلق حتى أتى مكة فبنى البيت، فكان موضع قدمى آدم قرى وأنهار وعمارة، وما بين خطاه مفاوز، فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة.
نا أحمد: نا يونس عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن مجاهد قال: لما قيل لابراهيم: «أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» قال يا رب كيف أقول؟ قال: قل يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فصعد الجبل فنادى أيها الناس أجيبوا ربكم، فأجابوه لبيك اللهم لبيك، فكان هذا أول التلبية.
نا أحمد نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني وهب بن سنان قال: سمعت عائذ ابن عمير الليثي يقول: لما آمر إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج استقبل المشرق، فدعا إلى الله عز وجل فأجيب لبيك لبيك، ثم استقبل المغرب فدعا إلى الله عز وجل فأجيب: لبيك لبيك، ثم استقبل الشام فدعا إلى الله عز وجل فأجيب
__________
(1) - في حاشية الأصل وع: نشزا.

(1/94)


لبيك (16) لبيك، ثم استقبل اليمن فدعا إلى الله عز وجل فأجيب لبيك لبيك.
نا أحمد نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني ثقة من أهل المدينة عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح، ولقد حجه نوح، فلما كان من الأرض ما كان من الغرق أصاب «1» البيت ما أصاب الأرض، فكان البيت روثة حمراء، فبعث الله تعالى هوداً، فتشاغل بأمر قومه، حتى قبضه الله عز وجل إليه، فلم يججه حتى مات، ثم بعث الله تعالى صالحاً فتشاغل بأمر قومه، فلم يحجه حتى مات، فلما بوأه الله عز وجل لإبراهيم حجه، ثم لم يبق نبي إلا حجه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق عن عطاء بن أبي رباح عن كعب الحبر قال:
شكت الكعبة إلى ربها عز وجل، وبكت إليه فقالت: أي رب، قل زواري، وجفاني الناس، فقال الله عز وجل لها: إني محدث لك إنجيلا، وجاعل لك زواراً يحنون إليك حنين الحمامة إلى بيضاتها.
نا أحمد قال: حدثني أبي قال: نا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: خلق البيت قبل الأرض بألفي عام، ثم دحيت الأرض منه.
نا أحمد: نا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال: خرج آدم من الجنة معه حجر في يده وورق في الكف الأخرى «2» ، فبث الورق بالهند فمنه ما ترون من الطيب، وأما الحجر فكان ياقوتة بيضاء يستضاء بها، فلما بنى إبراهيم البيت فبلغ موضع الحجر قال لإسماعيل: إئتني بحجر من الجبل، فقال: غير هذا، فرده مراراً لا يرضى بما يأتيه، فذهب مرة، وجاءه جبريل بالحجر من الهند الذي أخرج به آدم من الجنة فوضعه، فلما جاءه اسماعيل قال: من جاءك بهذا؟ قال: من هو أنشط منك.
__________
(1) في ع: واصاب.
(2) في ع: الآخر.

(1/95)


نا أحمد: نا يونس عن السري بن إسماعيل عن عامر عن عمر بن الخطاب أنه قال: الحجر الأسود من أحجار الجنة أهبط إلى الأرض وهو أشد بياضاً من الكرسف «1» ، فما اسود إلا من خطايا بني آدم، ولولا ذلك ما مسه أبكم ولا أصم ولا أعمى إلا برأ.
نا أحمد: نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن سلمة بن كهيل عن رجل عن علي أنه قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان وهي في ذلك ريح هفافة.
نا أحمد: نا يونس عن إبراهيم بن اسماعيل عن يزيد الرقاشي عن ابيه عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبياً حفاه عليهم العبأ يؤمون بيت الله العتيق منهم موسى عليه السلام.
نا أحمد: نا يونس عن [17] سعيد بن ميسرة عن أنس بن مالك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان الحجر من ياقوت الجنة فمسحه المشركون فاسود من مسحهم إياه.
نا أحمد نا يونس عن وهب بن عقبة عن عطية العوفي عن ابن عباس قال: إن الحجر الأسود من حجارة الجنة، كان أشد بياضاً من اللبن فاسواد مما مسحه بنو آدم من ذنوبهم.
نا أحمد نا يونس عن مسلمة بن عبد الله القرشي عن عبد الكريم أبي أمية قال: كان البيت ياقوتة من ياقوتات الجنة، فلما كان زمن الطوفان رفع إلى السماء الدنيا، فلو وقع الآن وقع على موضع البيت، يطوف به كل ليلة سبعون ألف ملك، واستودع جبريل أبا قبيس «2» الحجر، وهو ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة، فلما بنى إبراهيم البيت أتاه جبريل، فاخرج له الحجر، فوضعه في قواعد البيت؛ وهو يوم القيامة أعظم من أحد له لسان يشهد به.
نا أحمد: نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن سعيد بن أبي
__________
(1) القطن
(2) - جبل خارج مكة.

(1/96)


بردة الأشعري عن عبد الله بن عمر أنه قال لأبيه أبي بردة: اتدري ما كان قومك يقولون في الجاهلية إذا طافوا بالبيت؟ قال: وما كانوا يقولون؟ قال: كانوا يقولون:
اللهم هذا واحد إن تما ... أتمه الله وقد أتما
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
نا أحمد نا يونس عن قيس بن الربيع عن منصور عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية يقولون حين يطوفون بالبيت:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
نا أحمد نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لم يكن أحد يطوف بالكعبة عليه ثياب إلا الحمس، وكان بقية الناس الرجال والنساء يطوفون عراة، إلا أن تحتسب عليهم الحمس فيعطون الرجل أو المرأة الثوب يلبسه.
نا أحمد: نا يونس عن أبي معشر المديني عن محمد بن قيس قال: كان أهل الجاهلية من لم يكن من الحمس، فإن طابت نفسه أن يرمي بالثوب الذي عليه إلى الكعبة إذا طاف بالبيت أو وجد عارية من أهل مكة، طاف فيه، فإن لم تطب نفسه بالثوب الذي عليه، ولم يجد عارية من أهل مكة طاف عريانا، فقالوا:
وجدنا آباءنا عليها، والله أمرنا بها حتى بلغ «خالصة يوم القيامة» ؛ قال محمد بن قيس: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشركهم فيها الكفار، فإذا كان يوم القيامة خلص بها المؤمنون.
نا أحمد: نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت قريش ومن يدين دينها، وهم الحمس، يقضون عشية عرفة بالمزدلفة يقولون: [18] نحن قطن البيت، وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات، فأنزل الله تعالى:
«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» «1» فتقدموا فوقفوا مع الناس بعرفات.
__________
(1) البقرة: 199.

(1/97)


نا أحمد نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير بن مطعم قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات، من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله عز وجل له. «1»
نا أحمد: نا يونس عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي اسحق عن عمرو بن ميمون عن عمر قال: كان المشركون بجمع «2» يقولون: أشرق ثبير «3» كيمانغير، قال: فكانوا لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذاك. قال زكريا: فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تطلع الشمس.
نا أحمد: نا يونس عن يوسف بن ميمون عن الحسن قال: كان الناس في الجاهلية إذا أتوا المعرف «4» قام الرجل فوق جبل فقال: أنا فلان بن فلان، فعلت كذا، وفعل أبي كذا، وفعل جدي كذا فأنزل الله عز وجل: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» «5» يقول: كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: يا أيها الناس، إن الله قد رفع عنكم هذه النخوة والتفاخر في الآباء، فنحن ولد آدم، وخلق آدم من تراب، وقال الله عز وجل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» إلى قوله: «أَتْقاكُمْ» «6» .
نا أحمد: نا يونس عن يوسف بن ميمون التميمي عن عطاء بن أبي رباح أن إنساناً سأله عن السعي بين الصفا والمروة فقال: إن هاجر لما وضعها آبراهيم هي وابنها إسماعيل أصابها عطش شديد حتى أريت أن اسماعيل سيقتله العطش، فلما خشيت
__________
(1) انظر الروض: 1/ 229- 233، ففيه تفاصيل وشروح أوفى حول مسألة الخمس، وسترد هذه التفاصيل بعد صفحات هنا.
(2) سقطت من ع، وجمع هي المزدلفة.
(3) الجبل المشرف على مكة.
(4) مكان الوقوف بعرفة.
(5) البقرة: 200.
(6) الحجرات: 13.

(1/98)


ذلك منه، وضعته في موضع البيت، وانطلقت حتى أتت الصفا، فصعدت فوقه تنظر هل مات بعد أم لا، فجعلت تدعو الله تعالى له، ثم نزلت حتى أتت بطن الوادي فسعت فيه ثم خرجت تمشي حتى أتت المروة، فصعدت فوقها تنظر هل مات بعد أم لا، وكانا حجرين إلى البيت، ففعلت ذلك سبع مرات، فهذا أصل السعي بين الصفا والمروة.
نا أحمد نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه، في هذه الآية: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» «1» [19] الآية، فقلت لعائشة: لو أن انساناً حج فلم يطف بين الصفا والمروة ما ظننت أن عليه برحاً، قالت: فاتل علي، فتلوت عليها:
«فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» «2» فقالت: لو كان كما تقول كان: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، وإنما نزلت هذه الآية في أناس من قريش كانوا يحرمون لمناة ولا يحل في دينهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما أسلموا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنا كنا نحرم لمناة فلا يحل لنا في ديننا أن نطوف بين الصفا والمروة» فأنزل الله عز وجل الآية: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» فقالت عائشة: هما من شعائر الله، فما أتم الله حج من لم يطف بهما.
نا أحمد نا يونس عن يوسف بن ميمون عن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن رمي الجمار فقال: إن إبراهيم أتى البيت الحرام فصلى به، ثم راح حتى أتى منى في بعض الليل فانطلق حتى أتى الشجرة فعرض له الشيطان، فرماه إبراهيم بسبعة أحجار، يكبر مع كل حجر، فذهب عنه، ثم مضى حتى أتى مكان الجمرة التي يليها عرض له الشيطان، فرماه بسبعة أحجار، يكبر «3» مع كل حجر، فذهب عنه، ثم مضى حتى أتى موضع الجمرة الثالثة عرض له الشيطان، فرماه بسبعة أحجار يكبر مع كل حجر، فذهب عنه، فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم اقتص ما صنع إبراهيم فصنع مثله.
__________
(1) البقرة: 158.
(2) البقرة: 158.
(3) في ع فكبر.

(1/99)


نا أحمد: نا يونس عن أبي بكر الهذلي قال: نا الحسن قال: كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدماء وجه الكعبة، وشرحوا اللحوم فوضعوها على الحجارة، وقالوا لا يحل لنا نأكل شيئاً جعلناه لله عز وجل حتى تأكله السباع والطير، فلما جاء الإسلام جاء الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: شيئاً كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن، فإنما هو لله عز وجل، فأنزل الله عز وجل:
«فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا» «1» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله عز وجل. قال الحسن: فلم يعزم عليهم الأكل، فإن شئت فكل وإن شئت فدع.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار حتى صار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» فقال: كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة في كل اثنتي عشرة سنة مرة، فوفق الله تعالى لرسوله [20] في حجته التي حج ذا الحجة فحج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار حتى صار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» فقلت لابن أبي نجيح: فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال: على ما كان الناس يحجون عليه، ثم فسر ابن أبي نجيح فقال: كانوا يحجون في ذي الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثني عشر شهراً.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن أبي ليلى وابن أبي أنيسة عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزل جبريل على إبراهيم صلى الله عليهما، فراح به فصلى به الصلوات بها، قال يحيى: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. ثم اجتمعا، فبات به حتى صلى الفجر ثم سار به يوم عرفة حتى نزل به المنزل الذي ينزل الناس، فصلى به الصلاتين- «قال
__________
(1) الحج: 36.

(1/100)


يحيى: جميعاً» - ثم اجتمعا، قال: فسار حتى وقف به في الموقف حتى كان كأعجل ما يصلى أحد من المسلمين صلاة المغرب، ثم أفاض حتى أتى به «جميعاً» فصلى به الصلاتين، قال يحيى: المغرب والعشاء جميعاً. قالا: ثم بات بها حتى إذا كان كأعجل ما يصلى أحد من المسلمين صلاة الفجر أفاض به حتى أتى به الجمرة فرماها، ثم ذبح وحلق تم أتى به البيت فطاف به- قال ابن أبي ليلى:
ثم رجع به إلى منى فأقام فيها تلك الأيام، ثم أوحى الله عز وجل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
نا أحمد نا يونس عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي اسحق عن زيد بن يثيع عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت «براءة» «1» ألا يطوف بالبيت عريان.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت قريش- لا أدري قبل بناء الكعبة أو بعده- ابتدعت رأي الحمس، رأياً رأوه وأداروه بينهم، فقالوا:
نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنو مكة وسكانها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا يعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب حرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإضافة منها، وهم يقرون ويعرفون أنها من المشاعر «2» [21] والحج ودين إبراهيم عليه السلام، فيرون «3» لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج «4» من الحرمة ولا نعظمن «5» غيرها كما يعظمها الحمس، والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل والحرم مثل الذي لهم
__________
(1) انظر سورة التوبة.
(2) في ع: الشعائر.
(3) في ع: فيأذنون.
(4) في ع: يخرج.
(5) في ع: نعظم.

(1/101)


بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك، ثم ابتدعوا في ذلك أموراً لم تكن، فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حراماً، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاءوا حجاجاً أو عماراً، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئاً منها طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة لم يجد ثوباً من ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، لم ينتفع بها، ولم يمسها، ولا أحد غيره أبداً، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى، فحملوا العرب على ذلك فدانت به، ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها، فأطافوا بالبيت عراة، وأخذوا بها شرعوا لهم من ذلك، فكان أهل الحل يأتون حجاجاً وعماراً، فإذا دخلوا الحرم وضعوا أزوادهم التي جاءوا بها، وابتاعوا من طعام الحرم والتمسوا ثياباً من ثياب الحرم إما عارية وإما بإجارة، فطافوا فيها، فإن لم يجدوا طافوا عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع احداهن ثيابها كلها إلا درعاً تطرحه عليها، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب وهي كذلك تطوف:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها ألقاها فلم ينتفع بها هو ولا غيره، فقال قائل من العرب يذكر شيئاً تركه لا يقر به وهو يحبه:
كفى حزناً كري عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم
يقول: لا تمس. فكانوا كذلك حتى بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم «1» .
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: آخر الجزء الأول من المغازي، سمع من ... الى هنا-

(1/102)