سيرة ابن
إسحاق ما جاء في هجرة
اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ارض الحبشة
«1»
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ومنع الله بأبي طالب رسوله صلى الله
عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وما يصيبهم من
البلاء والشدة، وأن الله تعالى قد أعفاه من ذلك، وأنه لا يقدر على أن
يمنعهم من قومهم، وأنه ليس في قومهم من يمنعهم كما منعه عمه أبو طالب،
أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، وقال لهم:
إن بها ملكاً لا يظلم الناس ببلاده في أرض صدق فتحرزوا عنده يأتيكم الله عز
وجل بفرج منه، ويجعل لي ولكم مخرجاً، فهاجر رجال من أصحابه إلى أرض الحبشة
مخافة الفتنة، وفروا إلى الله عز وجل بدينهم، واستخفى آخرون بإسلامهم.
نا يونس عن عيسى بن عبد الله التميمي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في
قوله عز وجل: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» الآية، فمكث رسول الله صلى الله عليه
وسلم بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه يدعون الله عز وجل
سراً وعلانية، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وكانوا بها خائفين يمسون
ويصبحون في السلاح، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لن تعبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم
ليس فيه حديد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ»
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: ح. نا يونس بن بكير قال: قال معاوية بن أبي سفيان:
أيها الناس اطلبوا حوائجكم دوننا فإن مطالبنا بعيد. ليس من الرواية.
(1/174)
إلى آخر الآية، لقول الرجل ولقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقوله: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ» «1» قال: ومن كفر بهذه النعمة، ليس يقول: من كفر بالله،
وكانوا كذلك حتى قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا كذلك
في إمرة أبي بكر، وعمر، وعثمان ثم غيروا فغير ما بهم، كفروا «2» بهذه
النعمة فأدخل الله عز وجل عليهم الخوف الذي كان قد وضعه عنهم (75) .
نا يونس عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم على ثلاث فرق: فرقة بالمدينة، وفرقتين بمكة، فرقة كانوا يؤذون
بمكة عشر سنين فيعفون عن المشركين، وفرقة كانوا إذا أوذوا انتصروا منهم،
فأنزل الله عز وجل عليهم جميعاً، فقال: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ» وهو الشرك «وَالْفَواحِشَ» وهو الزنا «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ» هؤلاء الذين كانوا لا ينتصرون من المشركين «وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ» الذين كانوا بالمدينة لم يكن عليهم أمير، كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة وهم بالمدينة، يتشاورون في أمرهم «وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ» هؤلاء الذين انتصروا «وَجَزاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ» الذين عفوا، ولمن انتصر بعد ظلمه، إلى قوله: «فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ» المشركين الذين كانوا يظلمون الناس المسلمين «لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ» «3» .
__________
(1) سورة النور: 55.
(2) في ع: فكفروا.
(3) سورة الشورى: 36- 42.
(1/175)
تسمية من هاجر إلى أرض الحبشة من مكة
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة،
قبل هجرة جعفر وأصحابه من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف:
عثمان بن عفان معه إمرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو
حذيفة بن عتبة بن عبد شمس معه امرأته سهلة ابنة سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن
عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، ولدت هناك محمد بن أبي حذيفة.
ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر، حليف لهم من قيس عيلان.
ومن بني اسد بن عبد العزى بن قصي: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن
عبد الدار.
ومن بني عبد بن قصي: طليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد ابن قصي.
ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن
زهرة، وعبد الله بن مسعود، حليف لهم، والمقداد، حليف لهم.
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سلمة بن عبد الأسد معه امرأته أم سلمة
بنت أبي أمية، وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبس بمكة فلم يقدم إلا بعد بدر،
وأحد، والخندق، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة هاجر معه إلى المدينة ولحق
به أخواه لأمه: أبو جهل بن هشام (76) والحارث بن هشام فرجعا به إلى مكة
فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق.
(1/176)
ومن حلفائهم: عمار بن ياسر- يشك فيه أكان
خرج إلى الحبشة أم لا، ومعتب بن عوف بن عامر بن خزاعه من بني عدي بن كعب بن
لؤي بن عامر بن ربيعة، حليفاً لهم، مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة بن غانم.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن
جمح، وابنه السائب، وقدامة بن مظعون.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وهشام
بن العاصي بن وائل.
ومن بني عامر بن لؤي: حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وهو أول من هاجر، فيما
يقال، وسليط بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته أم يقظة بنت علقمة، ولدت له،
ثم سليط بن سليط، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته سودة بنت زمعة
بن قيس، مات بمكة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخلف
رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأته سودة ابنة زمعة.
ومن حلفائهم: سعيد بن خولة.
ومن بني الحارث بن فهر بن مالك: أبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء،
وعمرو بن أبي شريح بن ربيعة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: فأقاموا حتى بلغهم أن أهل مكة قد أسلموا
وسجدوا، وذلك أن سورة النجم أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت لها كل مسلم ومشرك، حتى انتهى
إلي قوله:
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى» فأصاخوا له والمؤمنون يتصدقون «1»
وارتد ناس حين سمعوا سجع الشيطان، فقال: والله لنعبدهن ليقربونا إلى الله
زلفا، وعلم
__________
(1) في ع: مصدقون. وخلاصة الخبر أن النبي بعد ما قرأ من سورة النجم
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى»
ألقى الشيطان في أمنيته، أي في تلاوته ... «إنهم لهم الغرانقة العلى. وإن
شفاعتهم لترتجى» . انظر الروض: 2/ 126.
(1/177)
الشيطان بتيك «1» الآيتين كل مشرك وذلت بها
ألسنتهم، وكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتاه جبريل عليه
السلام، فشكا إليه هاتين الآيتين وما لقي من الناس فيهما، فتبرأ جبريل عليه
السلام منهما وقال: لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت
ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وخاف،
فأنزل الله عز وجل تعزية له: «2» «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ» إلى قوله «عَلِيمٌ حَكِيمٌ» «3» .
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: فلما بلغ من بالحبشة من المسلمين سجود
أهل مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلوا، أو من شاء الله عز وجل
منهم، وهم يرون أنهم قد تابعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [77] فلما
دنوا من مكة بلغهم الأمر فثقل عليهم أن يرجعوا إلى أرض الحبشة، وتخوفوا أن
يدخلوا مكة بغير جوار، فمكثوا على ذلك حتى دخل كل رجل منهم بجوار من بعض
أهل مكة، وقدم عثمان بن مظعون بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن
عبد الأسد بجوار من أبي طالب، وكان خاله، وأم أبي سلمة برة بنت عبد المطلب.
فأما عثمان بن مظعون فكان من خبره أن يونس بن بكير: نا عن محمد بن إسحق
قال: فحدثني صالح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدثه قال: لما رأى
عثمان ما يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الأذى، وهو يغدو
ويروح بأمان الوليد بن المغيرة قال عثمان: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار
رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل بيتي يلقون من البلاء والأذى في الله عز
وجل ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة وهو
__________
(1) في ع: تلك.
(2) سقطت «تعزية له» من ع.
(3) سورة الحج: 52.
(1/178)
في المسجد، فقال: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك،
قد كنت في جوارك، وقد أحببت أن أخرج منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولي به وبأصحابه أسوة، قال الوليد:
فلعلك يا ابن أخي أوذيت، أو انتهكت؟ فقال: لا ولكني أرضي بجوار الله تعالى
ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد، فاردد علي جواري علانية
كما أجرتك علانية، فقال: انطلق قال: فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد:
هذا عثمان بن مظعون قد جاء ليرد علي جواري، فقال عثمان: صدق، وقد وجدته
وفياً كريم الجوار، وقد أحببت ألا أستجير بغير الله، وقد رددت عليه جواره،
ثم انصرف عثمان بن مظعون ولبيد بن ربيعة ابن جعفر بن كلاب القيسي في مجلس
قريش، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد وهو ينشدهم:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل............... ..
فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان: كذبت، فالتفت إليه القوم وقالوا للبيد: أعد علينا، فأعاد لبيد،
وعاد له عثمان بتصديقه مرة وتكذيبه مرة، وإنما يعني عثمان إذ قال: كذبت،
يعني نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: والله يا معشر قريش ما كانت مجالسكم
هكذا! فقام سفيه منهم إلى عثمان ولطم عينه فاخضرت، فقال له من حوله: والله
يا عثمان لقد كنت في ذمة منيعة، وكانت عينك غنية عما لقيت! فقال عثمان:
جوار الله آمن وأعز، وعيني الصحيحة فقيرة إلى ما لقيت أختها [78] ولي برسول
الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وبمن معه أسوة، فقال الوليد:
هل لك في جواري؟ قال عثمان: لا إرب لي في جوار أحد إلا جوار الله، ثم قال
عثمان في ذلك:
لا إرب لي يا ابن المغيرة في الذي ... تقول ولكني بأحمد واثق
(1/179)
رسول عظيم الشان يتلو كتابه ... له كل من
يبغي التلاوة وامق
محب عليه كل يوم طلاوة وإن ... قال قولاً فالذي قال صادق
فيا رب إني مؤمن لمحمد وجبريل ... إذ جبريل بالوحي طارق
وما نزل الرحمن من كل آية لها ... كل قلب حين يذكر خافق
من الخوف مما ينذر الله خلقه ... إذا صد عن آيات ذي العرش وامق
ترى الناس ضلالاً وقد ضل سعيه ... وبالخير مغبون وبالشر سابق «1»
__________
(1) لم يرو الشعر عند ابن هشام الروض: 2/ 120- 127.
(1/180)
|