(2/440)
خَمْسٍ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ
عَنْ أَبِيهِ وَرَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَمُحَمّدٌ عَنْ الزّهْرِيّ،
وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ،
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ
جَعْفَرٍ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ وَمُحَمّدُ
بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ وَأَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ
وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى الزّرَقِيّ،
وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، وَمُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ
وَالضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ
وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
بِطَائِفَةٍ وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ
قَدْ حَدّثَنِي، فَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي، قَالُوا: لَمّا
أَجْلَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي
النّضِيرِ سَارُوا إلَى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهَا مِنْ الْيَهُودِ
قَوْمٌ أَهْلُ عَدَدٍ وَجَلَدٍ وَلَيْسَتْ لَهُمْ مِنْ الْبُيُوتِ
وَالْأَحْسَابِ1 مَا لِبَنِي النّضِيرِ - كَانَ بَنُو النّضِيرِ
سِرّهُمْ وَقُرَيْظَةُ مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ مِنْ بَنِي هَارُونَ -
فَلَمّا قَدِمُوا خَيْبَرَ خَرَجَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ
بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهَوْذَةُ بْنُ الْحُقَيْقِ وَهَوْذَةُ بْنُ
قَيْسٍ الْوَائِلِيّ مِنْ الْأَوْسِ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ وَأَبُو
عَامِرٍ الرّاهِبُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا إلَى مَكّةَ يَدْعُونَ
قُرَيْشًا وَأَتْبَاعَهَا إلَى حَرْبِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِقُرَيْشٍ: نَحْنُ مَعَكُمْ حَتّى
نَسْتَأْصِلَ مُحَمّدًا.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا الّذِي أَقْدَمَكُمْ وَنَزَعَكُمْ 2 ؟
قالوا: نعم جئنا
ـــــــ
1 في الأصل: "والأخشاب"، والتصحيح من نسخة ب.
2 في ب: "نزغكم".
(2/441)
لِنُحَالِفَكُمْ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَقِتَالِهِ. قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا، أَحَبّ النّاسِ إلَيْنَا مَنْ
أَعَانَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ. قَالَ النّفَرُ: فَأَخْرَجَ
خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلّهَا أَنْتَ فِيهِمْ
وَنَدْخُلُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتّى
نُلْصِقَ أَكْبَادَنَا بِهَا، ثُمّ نَحْلِفُ بِاَللّهِ جَمِيعًا لَا
يَخْذُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَتَكُونَن كَلِمَتُنَا وَاحِدَةً عَلَى
هَذَا الرّجُلِ مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ. فَفَعَلُوا فَتَحَالَفُوا
عَلَى ذَلِكَ وَتَعَاقَدُوا، ثُمّ قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ
قَدْ جَاءَكُمْ رُؤَسَاءُ أَهْلِ يَثْرِبَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ
وَالْكِتَابِ الْأُوَلِ فَسَلُوهُمْ عَمّا نَحْنُ عَلَيْهِ وَمُحَمّدٌ
أَيّنَا أَهْدَى ؟ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأُوَلِ
وَالْعِلْمِ أَخْبِرُونَا عَمّا أَصْبَحْنَا نَحْنُ فِيهِ وَمُحَمّدٌ
دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمّدٍ ؟ فَنَحْنُ عُمّارُ الْبَيْتِ
وَنَنْحَرُ الْكَوْمَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ وَنَعْبُدُ الْأَصْنَامَ.
قَالُوا: اللّهُمّ أَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ مِنْهُ إنّكُمْ
لَتُعَظّمُونَ هَذَا الْبَيْتَ وَتَقُومُونَ عَلَى السّقَايَةِ
وَتَنْحَرُونَ الْبُدْنَ وَتَعْبُدُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ
فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي
ذَلِكَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا
هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 1 فَاتّعَدُوا
لِوَقْتٍ وَقّتُوهُ فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ، إنّكُمْ قَدْ وَعَدْتُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لِهَذَا
الْوَقْتِ وَفَارَقُوكُمْ عَلَيْهِ فَفُوا لَهُمْ بِهِ لَا يَكُونُ
هَذَا كَمَا كَانَ وَعَدْنَا مُحَمّدًا بَدْرَ الصّفْرَاءِ فَلَمْ نَفِ
بِمَوْعِدِهِ وَاجْتَرَأَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ وَقَدْ كُنْت كَارِهًا
لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ. فَخَرَجَتْ الْيَهُودُ حَتّى
أَتَتْ غَطَفَانَ، وَأَخَذَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَهَازِ وَسَيّرَتْ فِي
الْعَرَبِ تَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهَا، وَأَلّبُوا أَحَابِيشَهُمْ
وَمَنْ تَبِعَهُمْ. ثُمّ خَرَجْت الْيَهُودُ حَتّى جَاءُوا بَنِي
سُلَيْمٍ
ـــــــ
1 سورة 4 النساء 51.
(2/442)
فَوَعَدُوهُمْ
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إذَا سَارَتْ قُرَيْشٌ. ثُمّ سَارُوا 1 فِي
غَطَفَانَ، فَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً
وَيَنْصُرُونَهُمْ وَيَسِيرُونَ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى مُحَمّدٍ إذَا
سَارُوا. فَأَنْعَمَتْ بِذَلِكَ غَطَفَانُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ
أَسْرَعَ إلَى ذَلِكَ مِنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ.
وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَحَابِيشِهَا أَرْبَعَةُ
آلَافٍ وَعَقَدُوا اللّوَاءَ فِي دَارِ النّدْوَةِ، وَقَادُوا مَعَهُمْ
ثَلَاثَمِائَةِ فَرَسٍ وَكَانَ مَعَهُمْ مِنْ الظّهْرِ أَلْفُ بَعِيرٍ
وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ. وَأَقْبَلَتْ سُلَيْمٌ فَلَاقَوْهُمْ بِمَرّ
الظّهْرَانِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةٍ يَقُودُهُمْ
سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ حَلِيفُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ، وَهُوَ
أَبُو أَبِي الْأَعْوَرِ الّذِي كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ بِصِفّينَ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ يَقُودُهَا أَبُو سُفْيَانَ
بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ بَنُو أَسَدٍ وَقَائِدُهَا طَلْحَةُ بْنُ
خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيّ وَخَرَجَتْ بَنُو فَزَارَةَ وَأَوْعَبَتْ 2
وَهُمْ أَلْفٌ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَخَرَجَتْ أَشْجَعُ
وَقَائِدُهَا مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ - لَمْ
تُوعِبْ أَشْجَعَ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ قَوْمَهُ
بَنِي مُرّةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ. لَمّا أَجَمَعَتْ غَطَفَانُ
السّيْرَ أَبَى الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمَسِيرَ وَقَالَ لِقَوْمِهِ
تَفَرّقُوا فِي بِلَادِكُمْ وَلَا تَسِيرُوا إلَى مُحَمّدٍ فَإِنّي
أَرَى أَنّ مُحَمّدًا أَمْرُهُ ظَاهِرٌ لَوْ نَاوَأَهُ مَنْ بَيْنَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَكَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ. فَتَفَرّقُوا
فِي بِلَادِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهَكَذَا رَوَى
الزّهْرِيّ وَرَوَتْ بَنُو مُرّةَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَاصِمُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَا: شَهِدَتْ بَنُو مُرّةَ الْخَنْدَقَ
وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ
الْمُرّيّ، وهجاه حسان وأنشد 3
ـــــــ
1 في ب: "ثم سارت".
2 أي خرجوا باجمعهم في الغزو. [النهاية، ج4، ص 220].
3 في ب" وأنشدوا".
(2/443)
شِعْرًا،
وَذَكَرُوا مُجَاوَرَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ. فَكَانَ هَذَا أَثْبَتَ عِنْدَنَا أَنّهُ شَهِدَ
الْخَنْدَقَ فِي قَوْمِهِ وَلَكِنّهُ كَانَ أَمْثَلَ تُقْيَةً مِنْ
عُيَيْنَةَ.
قَالُوا: وَكَانَ الْقَوْمُ جَمِيعًا الّذِينَ وَافَوْا الْخَنْدَقَ
مِنْ قُرَيْشٍ، وَسُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ، وَأَسَدٍ، عَشَرَةَ آلَافٍ
فَهِيَ عَسَاكِرُ ثَلَاثَةٍ وَعِنَاجُ 1 الْأَمْرِ إلَى أَبِي
سُفْيَانَ. فَأَقْبَلُوا فَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِرُومَةَ 2 وَوَادِي
الْعَقِيقِ فِي أَحَابِيشِهَا وَمَنْ ضَوَى إلَيْهَا مِنْ الْعَرَبِ،
وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ فِي قَادَتِهَا حَتّى نَزَلُوا بِالزّغَابَةِ
إلَى جَانِبِ أُحُدٍ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تُسَرّحُ رِكَابَهَا فِي
وَادِي الْعَقِيقِ فِي عِضَاهِهِ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ لِلْخَيْلِ
إلّا مَا حَمَلُوهُ مَعَهُمْ مِنْ عَلَفٍ - وَكَانَ عَلَفُهُمْ
الذّرَةَ - وَسَرّحَتْ غَطَفَانُ إبِلَهَا إلَى الْغَابَةِ فِي
أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا فِي عِضَاهِ الْجُرُفِ. وَقَدِمُوا فِي
زَمَانٍ لَيْسَ فِي الْعِرْضِ 3 زَرْعٌ فَقَدْ حَصَدَ النّاسُ قَبْلَ
ذَلِكَ بِشَهْرٍ فَأَدْخَلُوا حَصَادَهُمْ وَأَتْبَانَهُمْ. وَكَانَتْ
غَطَفَانُ تُرْسِلُ خَيْلَهَا فِي أَثَرِ الْحَصَادِ - وَكَانَ خَيْلُ
غَطَفَانَ ثَلَاثَمِائَةٍ - بِالْعِرْضِ فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنْ
خَيْلِهِمْ4 وَكَادَتْ إبِلُهُمْ تَهْلِكُ مِنْ الْهُزَالِ. وَكَانَتْ
الْمَدِينَةُ لَيَالِيَ قَدِمُوا جَدِيبَةً.
فَلَمّا فَصَلَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ
رَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِفُصُولِ قُرَيْشٍ، فَسَارُوا مِنْ مَكّةَ
إلَى الْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، فَذَلِكَ حِينَ نَدَبَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ
عَدُوّهِمْ وَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ بِالْجِدّ وَالْجِهَادِ
وَوَعَدَهُمْ النّصْرَ إنْ هُمْ صَبَرُوا وَاتّقُوا، وَأَمَرَهُمْ
بِطَاعَةِ اللّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ. وَشَاوَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صلّى الله عليه
ـــــــ
1 في الأصل: "عياج"، والتصحيح من ب.
2 رومة: أرض بالمدينة بين الجرف وزغابة. [معجم البلدان، ج4، ص 336].
3 يقال لكل واد فيه قرى ومياه عرض. وقال الأصمعي: أخصب ذلك العرض
وأخصبت أعراض المدينة وهي قراها التي في أوديتها. وقال شمر: أعراض
المدينة بطون سوادها حيث الزروع والنخل. [معجم البلدان، ج6، ص 146].
4 في ب: "من خيولهم".
(2/444)
وسلم وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ يُكْثِرُ مُشَاوَرَتَهُمْ فِي الْحَرْبِ فَقَالَ:
"أَنَبْرُزُ لَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، أَمْ نَكُونُ فِيهَا
وَنُخَنْدِقُهَا عَلَيْنَا، أَمْ نَكُونُ قَرِيبًا وَنَجْعَلُ
ظُهُورَنَا إلَى هَذَا الْجَبَلِ ؟" فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: نَكُونُ مِمّا يَلِي بُعَاثَ إلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ إلَى
الْجُرْفِ. فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْعُ الْمَدِينَةَ خُلُوفًا فَقَالَ
سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا إذْ كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ
وَتَخَوّفْنَا الْخَيْلَ خَنْدَقْنَا عَلَيْنَا، فَهَلْ لَك يَا
رَسُولَ اللّهِ أَنْ نُخَنْدِقَ ؟ فَأَعْجَبَ رَأْيُ سَلْمَانَ
الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرُوا حِينَ دَعَاهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يَخْرُجُوا،
فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْخُرُوجَ وَأَحَبّوا الثّبَاتَ فِي
الْمَدِينَةِ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ حَدّثَنِي أَبُو
بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَهْمٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا لَهُ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَارْتَادَ
مَوْضِعًا يَنْزِلُهُ فَكَانَ أَعْجَبَ الْمَنَازِلِ إلَيْهِ أَنْ
يَجْعَلَ سَلْعًا 1 خَلْفَ ظَهْرِهِ وَيُخَنْدِقَ مِنْ الْمَذَادِ2
إلَى ذُبَابٍ إلَى رَاتِجٍ 3. فَعَمِلَ يَوْمَئِذٍ فِي الْخَنْدَقِ،
وَنَدَبَ النّاسَ فَخَبّرَهُمْ بِدُنُوّ عَدُوّهِمْ وَعَسْكَرَهُمْ
إلَى سَفْحِ سَلْعٍ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَعْمَلُونَ
مُسْتَعْجِلِينَ يُبَادِرُونَ قُدُومَ الْعَدُوّ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ مَعَهُمْ
فِي الْخَنْدَقِ لِيُنَشّطَ الْمُسْلِمِينَ وَعَمِلُوا، وَاسْتَعَارُوا
مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ آلَةً كَثِيرَةً مِنْ مَسَاحِي، وَكَرَازِينَ 4
وَمَكَاتِلَ يَحْفِرُونَ بِهِ الْخَنْدَقَ - وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سِلْمٌ
لِلنّبِيّ صلّى
ـــــــ
1 سلع: الجبل المعروف الذي يسوق المدينة. [وفاء الوفا، ج2، ص 324].
2 المذاد: اسم اطم لبني حرام من بني سلمة غربي مسجد الفتح. [وفاء
الوفا،ج2، ص 370].
3 راتج: الجبل الذي إلى جنب جبل بني عبيد غربي بطحان. [وفاء الوفا، ج2،
ص 310].
4 مساحي: جمع مسحاة، وهي المجرفة من الحديد. وكرازين: جمع كرزنن وهو
الفأس. ومكاتل: جمع مكتل، وهو الزبيل الكبير، قيل إنه يسع خمسة عشر
صاعاً. [النهاية، ج4، ص 94، 14، 8].
(2/445)
الله عليه وسلم
يَكْرَهُونَ قُدُومَ قُرَيْشٍ. وَوَكّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلّ جَانِبٍ مِنْ الْخَنْدَقِ قَوْمًا
يَحْفِرُونَهُ فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَحْفِرُونَ مِنْ جَانِبِ
رَاتِجٍ إلَى ذُبَابٍ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ تَحْفِرُ مِنْ ذُبَابٍ
إلَى جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ سَائِرُ الْمَدِينَةِ مُشَبّكًا
بِالْبُنْيَانِ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدّهِ قَالَ كُنْت أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ 1 وَالشّبَابُ
يَنْقُلُونَ التّرَابَ وَالْخَنْدَقُ بَسْطَةٌ 2 أَوْ نَحْوُهَا،
وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَنْقُلُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ
فِي الْمَكَاتِلِ وَكَانُوا إذَا رَجَعُوا بِالْمَكَاتِلِ جَعَلُوا
فِيهَا الْحِجَارَةَ يَأْتُونَ بِهَا مِنْ جَبَلِ سَلْعٍ، وَكَانُوا
يَجْعَلُونَ التّرَابَ مِمّا يَلِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَكَانَ يَسْطُرُونَ الْحِجَارَةَ مِمّا
يَلِيهِمْ كَأَنّهَا حِبَالُ 3 التّمْرِ - وَكَانَتْ الْحِجَارَةُ مِنْ
أَعْظَمِ سِلَاحِهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَحْمِلُ التّرَابَ فِي الْمَكَاتِلِ وَيَطْرَحُهُ
وَالْقَوْمُ يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:
هَذَا الْجَمَالُ لَا جَمَالُ خَيْبَرَ ... هَذَا أَبَرّ رَبّنَا
وَأَطْهَرُ
وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ إذَا رَأَوْا مِنْ الرّجُلِ
فُتُورًا ضَحِكُوا مِنْهُ. وَتَنَافَسَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ فِي
سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنّا
وَكَانَ قَوِيّا عَارِفًا بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ. وَقَالَتْ
الْأَنْصَارُ: هُوَ مِنّا وَنَحْنُ أَحَقّ بِهِ! فَبَلَغَ رَسُولَ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ فَقَالَ:
"سَلْمَانُ رَجُلٌ مِنّا أَهْلَ
ـــــــ
1 في ث: "كنت أنظر إلى المسلمين يمرون".
2 بسطة: أي قامة. [القاموس المحيط، ج2، ص 250].
3 في ب: "جبال".
(2/446)
البيت"
وَلَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ يَعْمَلُ عَمَلَ عَشَرَةِ رِجَالٍ حَتّى
عَانَهُ 1 يَوْمَئِذٍ قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، فَلُبِطَ بِهِ2
فَسَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
"مُرُوهُ فَلْيَتَوَضّأْ لَهُ وَلْيَغْتَسِلْ بِهِ وَيُكْفِئْ
الْإِنَاءَ خَلْفَهُ. فَفَعَلَ فَكَأَنّمَا حُلّ مِنْ عِقَالٍ".
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ مُبَشّرٍ
قَالَ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ لَقَدْ كُنْت أَرَى
سَلْمَانَ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا
وَخَمْسًا فِي الْأَرْضِ فَمَا تَحَيّنْته حَتّى فَرَغَ وَحْدَهُ
وَهُوَ يَقُولُ:
اللّهُمّ لَا عَيْشَ إلّا عَيْشُ الْآخِرَةِ
وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ جَعَلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَرْتَجِزُ
وَنَحْفِرُ وَكُنّا - بَنِي سَلِمَةَ - نَاحِيَةٌ فَعَزَمَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيّ أَلّا أَقُولَ
شَيْئًا، فَقُلْت: هَلْ عَزَمَ عَلَى غَيْرِي ؟ قَالُوا: حَسّانُ بْنُ
ثَابِتٍ. قَالَ فَعَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنّمَا نَهَانَا لِوَجْدِنَا لَهُ وَقِلّتِهِ عَلَى
غَيْرِنَا، فَمَا تَكَلّمْت بِحَرْفٍ حَتّى فَرَغْنَا مِنْ
الْخَنْدَقِ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: "لَا يَغْضَبُ أَحَدٌ مِمّا قَالَ صَاحِبُهُ لَا
يُرِيدُ بِذَلِكَ سُوءًا، إلّا مَا قَالَ كَعْبٌ وَحَسّانُ فَإِنّهُمَا
يَجِدَانِ ذَلِكَ".
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ كَانَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ رَجُلًا
صَالِحًا، وَكَانَ ذَمِيمًا قَبِيحًا، وَكَانَ يَعْمَلُ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي الْخَنْدَقِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَيّرَ اسْمَهُ يَوْمَئِذٍ
فَسَمّاهُ عَمْرًا، فَجَعَلَ المسلمون يرتجزون ويقولون:
ـــــــ
1 عانه: أي أصابه بالعين. [لسان العرب، ج17، ص 176].
2 لبط: أي صرع وسقط إلى الأرض. [النهاية، ج4، ص 46].
(2/447)
سَمّاهُ مِنْ
بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرًا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرًا
قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يَقُولُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلّا أَنْ يَقُولَ " عَمْرًا " 1 .
فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ يَحْفِرُونَ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
فِيمَنْ يَنْقُلُ التّرَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَنَظَرَ إلَيْهِ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ الّذِي أَبْقَانِي حَتّى آمَنْت بِك ; إنّي عَانَقْت أَبَا
هَذَا يَوْمَ بُعَاثَ، ثَابِتَ بْنَ الضّحّاكِ، فَكَانَتْ اللّبْجَةُ 2
بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَمَا إنّهُ نِعْمَ الْغُلَامُ". وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ
رَقَدَ فِي الْخَنْدَقِ، غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتّى أُخِذَ سِلَاحُهُ
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَهُوَ فِي قُرّ شَدِيدٍ - تُرْسُهُ وَقَوْسُهُ
وَسَيْفُهُ - وَهُوَ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ
وَيَحْرُسُونَهُ وَتَرَكُوا زَيْدًا نَائِمًا، وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ
حَتّى جَاءَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَلَا
يَشْعُرُ حَتّى فَزِعَ بَعْدَ فَقْدِ سِلَاحِهِ حَتّى بَلَغَ رَسُولَ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا زَيْدًا فَقَالَ:
"يَا أَبَا رُقَادٍ نِمْت حَتّى ذَهَبَ سِلَاحُك". ثُمّ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِسِلَاحِ
هَذَا الْغُلَامِ ؟" فَقَالَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ: أَنَا يَا رَسُولَ
اللّهِ وَهُوَ عِنْدِي. فَقَالَ: "فَرُدّهُ عَلَيْهِ" وَنَهَى رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَوّعَ الْمُسْلِمُ
أَوْ يُؤْخَذَ مَتَاعُهُ لَاعِبًا جَادّا 3 .
حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَا كَانَ فِي
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلّا يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ أَوْ
يَنْقُلُ التّرَابَ وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ الله صلى
ـــــــ
1 أي إذا وصلوا إلى آخر البيت قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وإذا قالوا: "وكان للبائس يوماً ظهرا" قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ظهرا". [شرح أبي ذر، ص300].
2 اللبجة: من قولك لبج به، أي صرع. [أساس البلاغة، ص 842].
3 أي لا يأخذه على سبيل الهزل ثم يحبسه فيصير ذلك جداً. [النهاية، ج1،
ص 147].
(2/448)
الله عليه وسلم
وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَا
يَتَفَرّقَانِ فِي عَمَلٍ وَلَا مَسِيرٍ وَلَا مَنْزِلٍ - يَنْقُلَانِ
التّرَابَ فِي ثِيَابِهِمَا يَوْمَئِذٍ مِنْ الْعَجَلَةِ إذْ لَمْ
يَجِدَا مَكَاتِلَ لِعَجَلَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُولُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَحْسَنَ
فِي حُلّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنّهُ كَانَ أَبْيَضَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ، كَثِيرَ
الشّعْرِ يَضْرِبُ الشّعْرُ مَنْكِبَيْهِ. وَلَقَدْ رَأَيْته
يَوْمَئِذٍ يَحْمِلُ التّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتّى حَالَ الْغُبَارُ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ بَطْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْفِرُ فِي
الْخَنْدَقِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالتّرَابُ عَلَى صَدْرِهِ وَبَيْنَ
عُكَنِهِ 1 وَإِنّهُ لَيَقُولُ:
اللّهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا
صَلّيْنَا
يُرَدّدُ ذَلِكَ.
وَحَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
قَالَ: "كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَخَذَ الْكَرْزَنَ وَضَرَبَ بِهِ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرًا فَصَلّ الْحَجَرَ،
فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ:
يَا رَسُولَ اللّهِ مِمّ تَضْحَكُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَضْحَكُ مِنْ قَوْمٍ يُؤْتَى بِهِم مِنْ
الْمَشْرِقِ فِي الْكُبُولِ 2 يُسَاقُونَ إلَى الْجَنّةِ وَهُمْ
كَارِهُونَ".
فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْحُكْمِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْحَكَمِ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
يَضْرِبُ يَوْمَئِذٍ بِالْمِعْوَلِ فصادف
ـــــــ
1 العكنة: ما انطوى وتشنى من لحم البطن. [القاموس، المحيط، ج4، ص 249].
2 الكبول: جمع كبل، وهو قيد صخم. [النهاية، ج4، ص 6].
(2/449)
حَجَرًا
صَلْدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْهُ الْمِعْوَلَ وَهُوَ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، فَضَرَبَ
ضَرْبَةً فَذَهَبَتْ أَوّلُهَا بَرْقَةً إلَى الْيَمَنِ، ثُمّ ضَرَبَ
أُخْرَى فَذَهَبَتْ بَرْقَةً إلَى الشّامِ، ثُمّ ضَرَبَ أُخْرَى
فَذَهَبَتْ بَرْقَةً نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَكُسِرَ الْحَجَرُ عِنْدَ
الثّالِثَةِ. فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ وَاَلّذِي
بَعَثَهُ بِالْحَقّ لَصَارَ كَأَنّهُ سَهْلَةٌ 1 وَكَانَ كُلّمَا
ضَرَبَ ضَرْبَةً يَتْبَعُهُ سَلْمَانُ بِبَصَرِهِ 2 فَيُبْصِرُ عِنْدَ
كُلّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً فَقَالَ سَلْمَانُ يَا رَسُولَ اللّهِ رَأَيْت
الْمِعْوَلَ كُلّمَا ضَرَبْت بِهِ أَضَاءَ مَا تَحْتَهُ. فَقَالَ
أَلَيْسَ قَدْ رَأَيْت ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّي رَأَيْت فِي الْأُولَى قُصُورَ
الشّامِ، ثُمّ رَأَيْت فِي الثّانِيَةِ قُصُورَ الْيَمَنِ، وَرَأَيْت
فِي الثّالِثَةِ قَصْرَ كِسْرَى الْأَبْيَضَ بِالْمَدَائِنِ". وَجَعَلَ
يَصِفُهُ لِسَلْمَانَ فَقَالَ: صَدَقْت وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ
إنّ هَذِهِ لَصِفَتُهُ وَأَشْهَدُ أَنّك لَرَسُولُ اللّهِ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ فُتُوحٌ
يَفْتَحُهَا اللّهُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي يَا سَلْمَانُ لَتُفْتَحَن
الشّامُ، وَيَهْرُبُ هِرَقْلُ إلَى أَقْصَى مَمْلَكَتِهِ وَتَظْهَرُونَ
عَلَى الشّامِ فَلَا يُنَازِعُكُمْ أَحَدٌ، وَلَتُفْتَحَن الْيَمَنُ،
وَلَيُفْتَحَن هَذَا الْمَشْرِقُ وَيُقْتَلُ كِسْرَى بَعْدَهُ". قَالَ
سَلْمَانُ: فَكُلّ هَذَا قَدْ رَأَيْت.
قَالُوا: وَكَانَ الْخَنْدَقُ مَا بَيْنَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ
بِخُرْبَى إلَى رَاتِجٍ، فَكَانَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ ذُبَابٍ إلَى
رَاتِجٍ، وَكَانَ لِلْأَنْصَارِ مَا بَيْنَ ذُبَابٍ إلَى خُرْبَى،
فَهَذَا الّذِي حَفَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَشَبّكُوا الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ
مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَهِيَ كَالْحِصْنِ. وَخَنْدَقَتْ بَنُو عَبْدِ
الْأَشْهَلِ عَلَيْهَا فِيمَا يَلِي رَاتِجٍ إلَى خَلْفِهَا، حَتّى
جَاءَ الْخَنْدَقُ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ وخندقت
ـــــــ
1 السهلة: رمل ليس بالدقاق. [الصحاح، ص 1733].
2 في الأصل: "بضربه"؛ والتصحيح من نسخة ب.
(2/450)
بَنُو دِينَارٍ
مِنْ عِنْدِ خُرْبَى إلَى مَوْضِعِ دَارِ ابْنِ أَبِي الْجُنُوبِ
الْيَوْمَ. وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ فِي
الْآطَامِ وَرَفَعَتْ بَنُو حَارِثَةَ الذّرَارِيّ فِي أُطُمِهِمْ
وَكَانَ أُطُمًا مَنِيعًا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ فِيهِ.
وَرَفَعَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ فِي
الْآطَامِ وَخَنْدَقَ بَعْضُهُمْ حَوْلَ الْآطَامِ بِقُبَاءَ وَحَصّنَ
بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلَفّهَا1 ، وخَطْمَةُ وَبَنُو أُمَيّةَ،
وَوَائِلٌ وَوَاقِفٌ فَكَانَ ذَرَارِيّهُمْ فِي آطَامِهِمْ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبْجَرَ 2 عَنْ صَالِحِ بْنِ
أَبِي حَسّانَ قَالَ أَخْبَرَنِي شُيُوخُ بَنِي وَاقِفٍ أَنّهُمْ
حَدّثُوهُ أَنّ بَنِي وَاقِفٍ جَعَلُوا ذَرَارِيّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
فِي أُطُمِهِمْ وَكَانُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَانُوا يَتَعَاهَدُونَ أَهْلِيهِمْ بِأَنْصَافِ النّهَارِ
بِإِذْنِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْهَاهُمْ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَلَحّوا
أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السّلَاحَ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ بَنِي
قُرَيْظَةَ.
فَكَانَ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ يَقُولُ أَقْبَلْت فِي نَفَرٍ مِنْ
قَوْمِي وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ نَكَبْنَا عَنْ الْجِسْرِ
وَصَفْنَةَ 3 فَأَخَذْنَا عَلَى قُبَاءَ، حَتّى إذَا كنا بعوسا 4 إذَا
نَفَرٌ مِنْهُمْ فِيهِمْ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ الْقُرَظِيّ،
فَنَضَحُونَا بِالنّبْلِ سَاعَةً وَرَمَيْنَاهُمْ بِالنّبْلِ وَكَانَتْ
بَيْنَنَا جِرَاحَةٌ ثُمّ انْكَشَفُوا عَلَى حَامِيَتِهِمْ وَرَجَعْنَا
إلَى أَهْلِنَا، فَلَمْ نَرَ لَهُمْ جَمْعًا بَعْدُ.
وَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ
كَانَ الْخَنْدَقُ الّذِي خَنْدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ إلى راتج
ـــــــ
1 اللف: القوم المجتمعون. [القاموس المحيط، ج3، ص 196].
2 في ب: "عبد الرحمن بن الحارث".
3 كذا في الأصل؛ وفي نسخة ب: "وصقنة". وصفنة: منزلة بني عطية بن زائد،
ذكرها السمهودي، [وفاء الوفاء، ج2، ص 336].
4 عوسا: موضع بوادي رانونا. [وفاء الوفا، ج2، ص 213].
(2/451)
وَهَذَا
أَثْبَتُ الْأَحَادِيثِ عِنْدَنَا. وَذَكَرُوا أَنّ الْخَنْدَقَ لَهُ
أَبْوَابٌ فَلَسْنَا نَدْرِي أَيْنَ مَوْضِعُهَا.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ، قَالَ أَصَابَ النّاسُ كُدْيَةً يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَضَرَبُوا
فِيهَا بِمَعَاوِلِهِمْ حَتّى انْكَسَرَتْ فَدَعَوْا رَسُولَ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبّهُ عَلَيْهَا
فَعَادَتْ كَثِيبًا. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ: فَرَأَيْت
رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْفِرُ وَرَأَيْته
خَمِيصًا، وَرَأَيْت بَيْنَ عُكَنِهِ الْغُبَارَ فَأَتَيْت امْرَأَتِي
فَأَخْبَرْتهَا مَا رَأَيْت مِنْ خَمَصِ بَطْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ وَاَللّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ
إلّا هَذِهِ الشّاةُ وَمُدّ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ جَابِرٌ فَاطْحَنِي
وَأَصْلِحِي. قَالَتْ فَطَبَخْنَا بَعْضَهَا وَشَوَيْنَا بَعْضَهَا،
وَخُبِزَ الشّعِيرُ. [قَالَ جَابِرٌ] : ثُمّ أَتَيْت رَسُولَ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَكَثْت حَتّى رَأَيْت أَنّ
الطّعَامَ قَدْ بَلَغَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ صَنَعْت لَك
طَعَامًا فَأْتِ أَنْتَ وَمَنْ أَحْبَبْت مِنْ أَصْحَابِك. فَشَبّكَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ فِي
أَصَابِعِي، ثُمّ قَالَ: "أَجِيبُوا، جَابِرٌ يَدْعُوكُمْ!".
فَأَقْبَلُوا مَعَهُ فَقُلْت: وَاَللّهِ إنّهَا الْفَضِيحَةُ فَأَتَيْت
الْمَرْأَةَ فَأَخْبَرْتهَا فَقَالَتْ أَنْتَ دَعَوْتهمْ أَوْ هُوَ
دَعَاهُمْ ؟ فَقُلْت: بَلْ هُوَ دَعَاهُمْ قَالَتْ دَعْهُمْ هُوَ
أَعْلَمُ. قَالَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَكَانُوا فِرَقًا، عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ
ثُمّ قَالَ لَنَا: "اغْرِفُوا وَغَطّوا الْبُرْمَةَ وَأَخْرِجُوا مِنْ
التّنّورِ الْخُبْزَ ثُمّ غَطّوهُ". فَفَعَلْنَا فَجَعَلْنَا نَغْرِفُ
وَنُغَطّي الْبُرْمَةَ ثُمّ نَفْتَحُهَا، فَمَا نَرَاهَا نَقَصَتْ
شَيْئًا، وَنُخْرِجُ الْخُبْزَ مِنْ التّنّورِ ثُمّ نُغَطّيهِ فَمَا
نَرَاهُ يَنْقُصُ شَيْئًا. فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، وَأَكَلْنَا
وَأَهْدَيْنَا، فَعَمِلَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ كُلّهُمْ وَالنّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَجَعَلَتْ الْأَنْصَارُ
تَرْتَجِزُ وَتَقُولُ:
(2/452)
نَحْنُ
الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا
أَبَدًا
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللّهُمّ لَا خَيْرَ إلّا خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ
لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ
زَائِدَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
عَنْ "أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ الْغِلْمَان وَهُوَ يَحْفِرُ
الْخَنْدَقَ فَأَجَازَ مَنْ أَجَازَ وَرَدّ مَنْ رَدّ"، وَكَانَ
الْغِلْمَانُ يَعْمَلُونَ مَعَهُ الّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا وَلَمْ
يُجِزْهُمْ وَلَكِنّهُ لَمّا لُحِمَ الْأَمْرُ أَمَرَ مَنْ لَمْ
يَبْلُغْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ إلَى الْآطَامِ مَعَ
الذّرَارِيّ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَلَقَدْ كُنْت
أَرَى رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنّهُ
لَيَضْرِبُ مَرّةً بِالْمَعُولِ وَمَرّةً يَغْرِفُ بِالْمِسْحَاةِ
التّرَابَ وَمَرّةً يَحْمِلُ التّرَابَ فِي الْمِكْتَلِ.
وَلَقَدْ رَأَيْته يَوْمًا بَلَغَ مِنْهُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ اتّكَأَ عَلَى حَجَرٍ عَلَى
شِقّهِ الْأَيْسَرِ فَذَهَبَ بِهِ النّوُمُ. فَرَأَيْت أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَاقِفَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ يُنَحّيَانِ النّاسَ أَنْ
يَمُرّوا بِهِ فَيُنَبّهُوهُ وَأَنَا قَرّبْت مِنْهُ فَفَزِعَ وَوَثَبَ
فَقَالَ أَلَا أَفْزَعْتُمُونِي فَأَخَذَ الْكَرْزَنَ يَضْرِبُ بِهِ
وَإِنّهُ لَيَقُولُ:
اللّهُمّ إنّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ
وَالْمُهَاجِرَهْ
اللّهُمّ الْعَنْ عَضْلًا وَالْقَارَهْ ... فَهُمْ كَلّفُونِي أَنْقُلُ
الْحِجَارَهْ
فَكَانَ مِمّنْ أَجَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَالْبَرَاءُ
بْنُ عَازِبٍ ; وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ.
(2/453)
حَدّثَنِي
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمّا فَرَغَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ،
وَكَانَ حَفَرَهُ سِتّةَ أَيّامٍ وَحَصّنَهُ وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُبُرَ سَلْعٍ، فَجَعَلَهُ خَلْفَ
ظَهْرِهِ وَالْخَنْدَقَ أَمَامَهُ وَكَانَ عَسْكَرُهُ هُنَالِكَ.
وَضَرَبَ قُبّةً مِنْ أَدَمٍ وَكَانَتْ الْقُبّةُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْأَعْلَى الّذِي بِأَصْلِ الْجَبَلِ - جَبَلُ الْأَحْزَابِ - وَكَانَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْقِبُ بَيْنَ نِسَائِهِ
فَتَكُونُ عَائِشَةُ أَيّامًا، ثُمّ تَكُونُ أُمّ سَلَمَةَ ثُمّ
تَكُونُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثُ اللّاتِي
يُعْقِبُ بَيْنَهُنّ فِي الْخَنْدَقِ وَسَائِرُ نِسَائِهِ فِي أُطُمِ
بَنِي حَارِثَةَ. وَيُقَالُ كُنّ فِي الْمَسِيرِ 1 أُطُمٌ فِي بَنِي
زُرَيْقٍ وَكَانَ حَصِينًا. وَيُقَالُ كَانَ بَعْضُهُنّ فِي فَارِعٍ 2
- وَكُلّ هَذَا قَدْ سَمِعْنَاهُ.
فَحَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ بْنُ النّعْمَانِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ
حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ
وَلِقُرَيْشٍ فِي مَسِيرِهِ مَعَهُمْ إنّ قَوْمِي قُرَيْظَةَ مَعَكُمْ
وَهُمْ أَهْلُ حَلْقَةٍ وَافِرَةٍ هُمْ سَبْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ
وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا. فَلَمّا دَنَوْا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ
لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ائْتِ قَوْمَك، حَتّى يَنْقُضُوا الْعَهْدَ
الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. فَذَهَبَ حُيَيّ حَتّى أَتَى
بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ صَالَحَ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرَ وَمَنْ
بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ أَلّا يَكُونُوا مَعَهُ وَلَا
عَلَيْهِ. وَيُقَالُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْصُرُوهُ مِمّنْ
دَهَمَهُ مِنْهُمْ وَيُقِيمُوا عَلَى مَعَاقِلِهِمْ3 الْأُولَى الّتِي
بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَيُقَالُ إنّ حيي
ـــــــ
1 قال السمهودي: إنه أطم بني عبد الأشهل، كان لبني حارثة. [وفاء الوفا،
ج2، ص 373].
2 فارع: أطم كان في دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة. [وفاء الوفا، ج2، ص
354].
3 أي يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها.[النهاية، ج3، ص
117].
(2/454)
عَدَلَ مِنْ
ذِي الْحُلَيْفَةِ فَسَلَكَ عَلَى الْعَصَبَةِ حَتّى طَرَقَ كَعْبَ
بْنَ أَسَدٍ، وَكَانَ كَعْبٌ صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ
وَعَهْدِهَا.
فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ كَانَ
حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ رَجُلًا مَشْئُومًا ; هُوَ شَأْمُ بَنِي
النّضِيرِ قَوْمُهُ وَشَأْمُ قُرَيْظَةَ حَتّى قُتِلُوا، وَكَانَ
يُحِبّ الرّئَاسَةَ وَالشّرَفَ عَلَيْهِمْ وَلَهُ فِي قُرَيْشٍ شَبَهٌ
- أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. فَلَمّا أَتَى حُيَيّ إلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ كَرِهَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ دُخُولَهُ دَارَهُمْ فَكَانَ
أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ، فَقَالَ لَهُ حُيَيّ:
قَدْ جِئْتُك بِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ مُحَمّدٍ هَذِهِ قُرَيْشٌ
قَدْ حَلّتْ وَادِي الْعَقِيقِ، وَغَطَفَانَ بِالزّغَابَةِ. قَالَ
غَزَالٌ: جِئْتنَا وَاَللّهِ بِذُلّ الدّهْرِ قَالَ حُيَيّ: لَا تَقُلْ
هَذَا ثُمّ وُجّهَ إلَى بَابِ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ فَدَقّ عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُ كَعْبٌ وَقَالَ مَا أَصْنَعُ بِدُخُولِ حُيَيّ عَلَيّ
رَجُلٌ مَشْئُومٌ قَدْ شَأَمَ قَوْمَهُ وَهُوَ الْآنَ يَدْعُونِي إلَى
نَقْضِ الْعَهْدِ قَالَ فَدَقّ عَلَيْهِ.فَقَالَ كَعْبٌ إنّك امْرُؤٌ
مَشْئُومٍ قَدْ شَأَمْت قَوْمَك حَتّى أَهْلَكْتهمْ فَارْجِعْ عَنّا
فَإِنّك إنّمَا تُرِيدُ هَلَاكِي وَهَلَاكَ قَوْمِي فَأَبَى حُيَيّ
أَنْ يَرْجِعَ فَقَالَ كَعْبٌ يَا حُيَيّ، إنّي عَاقَدْتُ مُحَمّدًا
وَعَاهَدْته، فَلَمْ نَرَ مِنْهُ إلّا صِدْقًا ; وَاَللّهِ مَا
أَخْفَرَ 1 لَنَا ذِمّةً وَلَا هَتَكَ لَنَا سِتْرًا، وَلَقَدْ
أَحْسَنَ جِوَارَنَا. فَقَالَ حُيَيّ: وَيْحَك إنّي قَدْ جِئْتُك
بِبَحْرِ طَامٍ وَبِعَزّ الدّهْرِ جِئْتُك بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا
وَسَادَتِهَا، وَجِئْتُك بِكِنَانَةَ حَتّى أَنْزَلْتهمْ بِرُومَةَ
وَجِئْتُك بِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتّى
أَنْزَلْتهمْ بِالزّغَابَةِ إلَى نَقْمَى2، قَدْ قَادُوا الْخَيْلَ
وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَالْعَدَدُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالْخَيْلُ
أَلْفُ فَرَسٍ وَسِلَاحٌ كَثِيرٌ، وَمُحَمّدٌ لَا يُفْلَتُ فِي
فَوْرِنَا هَذَا، وقد تعاقدوا
ـــــــ
1 أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. [النهاية، ج 1، 306].
2 نقمى: موضع بقرب أحد كان لأبي طالب. [وفاء الوفا، ج2، ص 384].
(2/455)
وَتَعَاهَدُوا
أَلّا يَرْجِعُوا حَتّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمّدًا وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ
كَعْبٌ وَيْحَك جِئْتنِي وَاَللّهِ بِذُلّ الدّهْرِ وَبِسَحَابٍ
يَبْرُقُ وَيَرْعُدُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. وَأَنَا فِي بَحْرٍ لُجّيّ
لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَرِيمَ دَارِي، وَمَالِي مَعِي وَالصّبْيَانُ
وَالنّسَاءُ فَارْجِعْ عَنّي، فَإِنّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا
جِئْتنِي بِهِ.
قَالَ حُيَيّ: وَيْحَك أُكَلّمُك. قَالَ كَعْبٌ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.
قَالَ وَاَللّهِ مَا أَغْلَقْت دُونِي إلّا لِجَشِيشَتِك أَنْ آكُلَ
مَعَك مِنْهَا، فَلَك أَلّا أُدْخِلَ يَدِي فِيهَا. قَالَ فَأَحْفَظُهُ
1 فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُهُ فِي
الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ 2 حَتّى لَانَ لَهُ وَقَالَ ارْجِعْ عَنّي
يَوْمَك هَذَا حَتّى أُشَاوِرَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ. فَقَالَ قَدْ
جَعَلُوا الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ إلَيْك فَأَنْتَ تَرَى لَهُمْ.
وَجَعَلَ يُلِحّ عَلَيْهِ حَتّى فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ فَقَالَ كَعْبُ
بْنُ أَسَدٍ: يَا حُيَيّ، قَدْ دَخَلْت فِيمَا تَرَى كَارِهًا لَهُ
وَأَنَا أَخْشَى أَلّا يُقْتَلَ مُحَمّدٌ وَتَنْصَرِفُ قُرَيْشٌ إلَى
بِلَادِهَا، وَتَرْجِعُ أَنْتَ إلَى أَهْلِك، وَأَبْقَى فِي عُقْرِ
الدّارِ وَأُقْتَلُ وَمَنْ مَعِي. فَقَالَ حُيَيّ: لَك مَا فِي
التّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ،
لَئِنْ لَمْ يُقْتَلْ مُحَمّدٌ فِي هَذِهِ الْفَوْرَةِ وَرَجَعَتْ
قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا مُحَمّدًا، لَأَدْخُلَن
مَعَك حِصْنَك حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَك. فَنَقَضَ كَعْبٌ
الْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا حُيَيّ بِالْكِتَابِ الّذِي كَتَبَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَشَقّهُ
حُيَيّ، فَلَمّا شَقّهُ حُيَيّ عَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ قَدْ لَحَمَ
وَفَسَدَ فَخَرَجَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَهُمْ حِلَقٌ حَوْلَ
مَنْزِلِ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَخَبّرَهُمْ الْخَبَرَ. يَقُولُ
الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: وَا هَلَاكَ الْيَهُودِ تُوَلّي قريش وغطفان
ـــــــ
1 أحفظ: أي أغضب، والحفيظة: الغضب. [شرح أبي ذر، ص 301].
2 في الذروة والغارب: هذا مثل، وأصله في البعير يستصعب عليك فتأخذ
القراد من ذروته وغارب سنامه وتفتل هناك، فيجد البعير لذة فيأنس عند
ذلك، فضرب هذا الكلام مثلا في المراوضة والمخاتلة. [الروض الأنف، ج2،
189].
(2/456)
وَيَتْرُكُونَنَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَذَرَارِيّنَا،
وَلَا قُوّةَ لَنَا بِمُحَمّدٍ مَا بَاتَ يَهُودِيّ عَلَى حُزَمٍ قَطّ،
وَلَا قَامَتْ يَهُودِيّةٌ بِيَثْرِبَ أَبَدًا. ثُمّ أَرْسَلَ كَعْبَ
بْنَ أَسَدٍ إلَى نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ خَمْسَةً -
الزّبَيْرَ بْنَ بَاطَا، وَنَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، وَغَزّالَ بْنَ
سَمَوْأَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَكَعْبَ بْنَ زَيْدٍ
فَخَبّرَهُمْ خَبَرَ حُيَيّ وَمَا أَعْطَاهُ حُيَيّ أَنْ يَرْجِعَ
إلَيْهِ فَيَدْخُلَ مَعَهُ فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ. يَقُولُ
الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: وَمَا حَاجَتُك إلَى أَنْ تُقْتَلَ وَيُقْتَلَ
مَعَك حُيَيّ قَالَ فَأُسْكِتَ كَعْبٌ وَقَالَ الْقَوْمُ نَحْنُ
نَكْرَهُ نُزْرِي بِرَأْيِك أَوْ نُخَالِفُك، وَحُيَيّ مَنْ قَدْ
عَرَفْت شُومَهُ. وَنَدِمَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ
نَقْضِ الْعَهْدِ وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَمّا أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى
مِنْ حَرْبِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْخَنْدَقِ أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ فِي قُبّتِهِ - وَقُبّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْرُوبَةٌ مِنْ أَدَمٍ فِي أَصْلِ الْجَبَلِ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الّذِي فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ - مَعَهُ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى خَنْدَقِهِمْ
يَتَنَاوَبُونَ مَعَهُمْ بِضْعَةً وَثَلَاثُونَ فَرَسًا،
وَالْفُرْسَانُ يَطُوفُونَ عَلَى الْخَنْدَقِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ
يَتَعَاهَدُونَ رِجَالًا وَضَعُوهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ إلَى أَنْ
جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ
بَلَغَنِي أَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضَتْ الْعَهْدَ وَحَارَبَتْ.
فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: "مَنْ نَبْعَثُ يَعْلَمُ لَنَا عِلْمَهُمْ ؟".
فَقَالَ عُمَرُ: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. فَكَانَ أَوّلَ النّاسِ
بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزّبَيْرُ
بْنُ الْعَوّامِ، فَقَالَ: "اذْهَبْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ". فَذَهَبَ
الزّبَيْرُ فَنَظَرَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ
رَأَيْتهمْ يُصْلِحُونَ حُصُونَهُمْ وَيُدْرِبُونَ طُرُقَهُمْ وَقَدْ
جَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ. فَذَلِكَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّا،
وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ وَابْنُ عَمّتِي".
(2/457)
ثُمّ دَعَا
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ
مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَأُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فَقَالَ:
"إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ
الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَحَارَبُوا، فَاذْهَبُوا فَانْظُرُوا
إنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي حَقّا ; فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَأَظْهِرُوا
الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ حَقّا فَتَكَلّمُوا بِكَلَامٍ تَلْحَنُونَ لِي
بِهِ أَعْرِفُهُ لَا تَفُتّوا أَعْضَادَ الْمُسْلِمِينَ". فَلَمّا
انْتَهَوْا إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَجَدُوا الْقَوْمَ قَدْ نَقَضُوا
الْعَهْدَ فَنَاشَدُوهُمْ اللّهَ وَالْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ
أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يَلْتَحِمَ الْأَمْرُ وَأَلّا يُطِيعُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ. فَقَالَ
كَعْبٌ لَا نَرُدّهُ أَبَدًا، قَدْ قَطَعْته كَمَا قَطَعْت هَذَا
الْقِبَالَ 1 لِقِبَالِ نَعْلِهِ. وَوَقَعَ كَعْبٌ بِسَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ يَسُبّهُ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ تَسُبّ سَيّدَك يَا
عَدُوّ اللّهِ ؟ مَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءٍ أَمَا وَاَللّهِ يَا ابْنَ
الْيَهُودِ 2، لَتُوَلّيَن قُرَيْشٌ إنْ شَاءَ اللّهُ مُنْهَزِمَةً
وَتَتْرُكُك فِي عُقْرِ دَارِك، فَنَسِيرُ إلَيْك فَتَنْزِلُ مِنْ
جُحْرِك هَذَا عَلَى حُكْمِنَا. وَإِنّك لَتَعْلَمُ النّضِيرَ كَانُوا
أَعَزّ مِنْك وَأَعْظَمَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ دِيَتُك نِصْفُ
دِيَتِهِمْ وَقَدْ رَأَيْت مَا صَنَعَ اللّهُ بِهِمْ. وَقَبْلَ ذَلِكَ
بَنُو قَيْنُقَاعَ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا. قَالَ كَعْبٌ يَا ابْنَ
الْحُضَيْرِ تُخَوّفُونَنِي بِالْمَسِيرِ إلَيّ ؟ أَمَا وَالتّوْرَاة،
لَقَدْ رَآنِي أَبُوك يَوْمَ بُعَاثَ - لَوْلَا نَحْنُ لَأَجْلَتْهُ
الْخَزْرَجُ مِنْهَا. إنّكُمْ وَاَللّهِ مَا لَقِيتُمْ أَحَدًا
يُحْسِنُ الْقِتَالَ وَلَا يَعْرِفُهُ نَحْنُ وَاَللّهِ نُحْسِنُ
قِتَالَكُمْ وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَقْبَحَ الْكَلَامِ وَشَتَمُوا
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ شَتْمًا قَبِيحًا حَتّى أَغْضَبُوهُ. فَقَالَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: دَعْهُمْ فَإِنّا لَمْ نَأْتِ لِهَذَا، مَا
بَيْنَنَا أَشَدّ مِنْ المشاتمة - السيف وكان
ـــــــ
1 قبال النعل: زمام ما بين الإصبع الوسطى والتي تليها. [القاموس ا
لمحيط، ج3، ص 34].
2 في ب: "يا ابن اليهودية".
(2/458)
الّذِي
يَشْتُمُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ عَضِضْتَ
بِبَظْرِ 1 أُمّك فَانْتَفَضَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ غَضَبًا، فَقَالَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ بَنِي
النّضِيرِ. قَالَ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ: أَكَلْت أَيْرَ أَبِيك
قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنْهُ.
قَالَ ثُمّ رَجَعُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: عَضَلُ وَالْقَارَةُ. وَسَكَتَ
الرّجُلَانِ - يُرِيدُ بِعَضَلَ وَالْقَارَةَ غَدْرَهُمْ بِخُبَيْبٍ
وَأَصْحَابِ الرّجِيعِ - ثُمّ جَلَسُوا. فَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ اللّهِ وَعَوْنِهِ" وَانْتَهَى الْخَبَرُ إلَى
الْمُسْلِمِينَ بِنَقْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ فَاشْتَدّ
الْخَوْفُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ.
قُرِئَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ حَدّثَنَا
مُحَمّدُ بْنُ الثّلْجِيّ قَالَ حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ، قَالَ
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ أَرْسَلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ،
وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَخَوّاتَ
بْنَ جُبَيْرٍ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ:
وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
قَالُوا: وَنَجَمَ النّفَاقُ وَفَشِلَ النّاسُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ
وَاشْتَدّ الْخَوْفُ وَخِيفَ عَلَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ وَكَانُوا
كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ} 2 وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ وِجَاهَ الْعَدُوّ لَا يَسْتَطِيعُونَ الزّوَالَ عَنْ
مَكَانِهِمْ يَعْتَقِبُونَ خَنْدَقَهُمْ وَيَحْرُسُونَهُ. وَتَكَلّمَ
قَوْمٌ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ فَقَالَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: يَعِدُنَا
مُحَمّدٌ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وأحدنا لا
ـــــــ
1 في الأصل: "ببطن أمك"، وما أثبتناه من نسخة ب.
2 سورة 23 الأحزاب 10.
(2/459)
يَأْمَنُ أَنْ
يَذْهَبَ إلَى حَاجَتِهِ وَمَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلّا
غُرُورًا!
فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّي لَأَرْجُو
أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وَآخُذَ الْمِفْتَاحَ
وَلَيُهْلِكَن اللّهُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَلَتُنْفَقَن أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ" - يَقُولُ ذَلِكَ حِينَ رَأَى مَا
بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَرْبِ. فَسَمِعَهُ مُعَتّبٌ فَقَالَ مَا
قَالَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ
قَالَ هَمّتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَنْ يُغَيّرُوا عَلَى بَيْضَةِ
الْمَدِينَةِ لَيْلًا، فَأَرْسَلُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ إلَى
قُرَيْشٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ وَمِنْ غَطَفَانَ
أَلْفٌ فَيُغِيرُوا بِهِمْ 1. فَجَاءَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ فَعَظُمَ الْبَلَاءُ فَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ سَلَمَةَ
بْنَ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ الْأَشْهَلِيّ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ
وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ يَحْرَسُونَ الْمَدِينَةَ
وَيُظْهِرُونَ التّكْبِيرَ وَمَعَهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا
أَصْبَحُوا أَمّنُوا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ يَقُولُ لَقَدْ خِفْنَا عَلَى الذّرَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مِنْ
بَنِي قُرَيْظَةَ أَشَدّ [مِنْ] خَوْفِنَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ،
وَلَقَدْ كُنْت أُوفِي عَلَى سَلْعٍ فَأَنْظُرُ إلَى بُيُوتِ
الْمَدِينَةِ ، فَإِذَا رَأَيْتهمْ هَادِينَ 2 حَمِدْت اللّهَ عَزّ
وَجَلّ فَكَانَ مِمّا رَدّ اللّهُ بِهِ قُرَيْظَةَ عَمّا أَرَادُوا
أَنّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تُحْرَسُ.
حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ خَوّاتٍ عَنْ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ خَوّاتُ
بْنُ جُبَيْرٍ: دَعَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: "انْطَلِقْ إلَى
بَنِي قُرَيْظَةَ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى لَهُمْ غُرّةً أَوْ خَلَلًا
مِنْ مَوْضِعٍ فَتُخْبِرُنِي". قَالَ: فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ عِنْدَ
غُرُوبِ الشّمْسِ فَتَدَلّيْت من سلع وغربت
ـــــــ
1 في ث: "ليغيروا بهم على الذراري".
2 هكذا في كل النسخ؛ ولعله من تسهيل أهل الحجاز للهمزة، فتكون الكلمة
"هادئين".
(2/460)
لِي الشّمْسُ
فَصَلّيْت الْمَغْرِبَ ثُمّ خَرَجْت حَتّى أَخَذْت فِي رَاتِجٍ، ثُمّ
عَلَى عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمّ فِي زُهْرَةَ، ثُمّ عَلَى بُعَاثَ.
فَلَمّا دَنَوْت مِنْ الْقَوْمِ قُلْت: أَكْمُنُ لَهُمْ. فَكَمَنْت
وَرَمَقْت الْحُصُونَ سَاعَةً ثُمّ ذَهَبَ بِي النّوْمُ فَلَمْ
أَشْعُرْ إلّا بِرَجُلٍ قَدْ احْتَمَلَنِي وَأَنَا نَائِمٌ فَوَضَعَنِي
عَلَى عُنُقِهِ ثُمّ انْطَلَقَ يَمْشِي. قَالَ فَفَزِعْت وَرَجُلٌ
يَمْشِي بِي عَلَى عَاتِقِهِ فَعَرَفْت أَنّهُ طَلِيعَةٌ مِنْ
قُرَيْظَةَ وَاسْتَحْيَيْت تِلْكَ السّاعَةَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيَاءً شَدِيدًا، حَيْثُ ضَيّعْت
ثَغْرًا أَمَرَنِي بِهِ ثُمّ ذَكَرْت غَلَبَةَ النّوْمِ. قَالَ
وَالرّجُلُ يُرْقَلُ بِي إلَى حُصُونِهِمْ فَتَكَلّمَ بِالْيَهُودِيّةِ
فَعَرَفْته، قَالَ أَبْشِرْ بِجَزْرَةٍ سَمِينَةٍ قَالَ وَذَكَرْت
وَجَعَلْت أَضْرِبُ بِيَدِي - وَعَهْدِي بِهِمْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ
أَحَدٌ أَبَدًا إلّا بِمِعْوَلٍ فِي وَسَطِهِ. قَالَ فَأَضَعُ يَدِي
عَلَى الْمِعْوَلِ فَأَنْتَزِعُهُ وَشُغِلَ بِكَلَامِ رَجُلٍ مِنْ
فَوْقِ الْحِصْنِ فَانْتَزَعْته فَوَجَأْت بِهِ كَبِدَهُ فَاسْتَرْخَى
وَصَاحَ السّبُعُ فَأَوْقَدَتْ الْيَهُودُ النّارَ عَلَى آطَامِهَا
بِشُعَلِ السّعَفِ. وَوَقَعَ مَيّتًا وَانْكَشَفَ فَكُنْت لَا
أُدْرَكُ، 1 وَأَقْبَلَ مِنْ طَرِيقِي الّتِي جِئْت مِنْهَا. وَجَاءَ
جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ظَفِرْت
يَا خَوّاتُ!" ثُمّ خَرَجَ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ كَانَ مِنْ
أَمْرِ خَوّاتٍ كَذَا وَكَذَا. وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَهُمْ
يَتَحَدّثُونَ فَلَمّا رَآنِي قَالَ أَفْلَحَ وَجْهُك قُلْت: وَوَجْهُك
يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "أَخْبِرْنِي خَبَرَك". فَأَخْبَرْته،
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَكَذَا
أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ". وَقَالَ الْقَوْمُ هَكَذَا حَدّثَنَا رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ خَوّاتٌ فَكَانَ
لَيْلُنَا بِالْخَنْدَقِ نَهَارًا. قَالَ غَيْرُ صَالِحٍ قَالَ خَوّاتٌ
رأيتني
ـــــــ
1 في الأصل: "لا أدري" وما أثبتناه من ب، ث.
(2/461)
وَأَنَا
أَتَذَكّرُ سُوءَ أَثَرِي عِنْدَهُمْ بَعْدَ مُمَالَحَةٍ وَخِلْصِيّةٍ
مِنّي لَهُمْ فَقُلْت: هُمْ يُمَثّلُونَ بِي كُلّ الْمَثْلَ حَتّى
ذَكَرْت الْمِعْوَلَ.
حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ خَرَجَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ لَيْلَةً
مِنْ حِصْنِهِمْ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ
الْيَهُودِ مِنْ أَشِدّائِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ عَسَى أَنْ نُصِيبَ
مِنْهُمْ غُرّةً. فَانْتَهَوْا إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَيَجِدُونَ
نَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ
بْنِ حَرِيشٍ فَنَاهَضُوهُمْ فَرَامُوهُمْ سَاعَةً بِالنّبْلِ ثُمّ
انْكَشَفَ الْقُرَيْظِيّونَ مُوَلّينَ.وَبَلَغَ سَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ
وَهُمْ بِنَاحِيَةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَقْبَلَ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى
انْتَهَوْا إلَى حُصُونِهِمْ فَجَعَلُوا يُطِيفُونَ بِحُصُونِهِمْ
حَتّى خَافَتْ الْيَهُودُ، وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ عَلَى آطَامِهِمْ
وَقَالُوا: الْبَيَاتَ وَهَدَمُوا قَرْنَيْ 1 بِئْرٍ لَهُمْ
وَهَوّرُوهَا 2 عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا يَطْلُعُوا مِنْ
حِصْنِهِمْ وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا.
وَحَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ قُرَيْش، قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ
جَعْفَرٍ :هَذَا أَثْبَتُ مِنْ الّذِي فِي أُحُدٍ ، قَالَ: كَانَ
حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَجُلًا جَبَانًا، فَكَانَ قَدْ رُفِعَ مَعَ
النّسَاءِ فِي الْآطَامِ فَكَانَتْ صَفِيّةُ فِي أُطُمِ فَارِعٍ،
وَمَعَهَا جَمَاعَةٌ وَحَسّانُ مَعَهُمْ. فَأَقْبَلَ عَشَرَةٌ مِنْ
الْيَهُودِ وَرَأْسُهُمْ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ مِنْ بَنِي
قُرَيْظَةَ نَهَارًا، فَجَعَلُوا يَنْقَمِعُونَ3 وَيَرْمُونَ الْحِصْنَ
فَقَالَتْ صَفِيّةُ لِحَسّانَ دُونَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَالَ: لَا
وَاَللّهِ لَا أُعَرّضُ نَفْسِي لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ. وَدَنَا
أَحَدُهُمْ إلَى بَابِ الْحِصْنِ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فَاحْتَجَزَتْ
صَفِيّةُ بثوبها، ثم
ـــــــ
1 الفرقان: منارتان تبنيان على رأس البئر، ويوضع فوقهما خشبة فتعلق
البكرة فيها. [الصحاح، ص 2180].
2 هوروها: أي هدموها. [القاموس المحيط، ج2، ص 162].
3 انقمع: أي دخل. [لسان العرب، ج 10، ص 168].
(2/462)
أَخَذَتْ
خَشَبَةً فَنَزَلَتْ إلَيْهِ فَضَرَبَتْهُ ضَرْبَةً شَدَخَتْ رَأْسَهُ
فَقَتَلَتْهُ فَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.
وَاجْتَمَعَتْ بَنُو حَارِثَةَ فَبَعَثَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ; وَلَيْسَ دَارٌ مِنْ دُورِ
الْأَنْصَارِ مِثْلَ دَارِنَا، لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ غَطَفَانَ
أَحَدٌ يَرُدّهُمْ عَنّا، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إلَى دُورِنَا
فَنَمْنَعْ ذَرَارِيّنَا وَنِسَاءَنَا. فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعُوا بِذَلِكَ وَتَهَيّئُوا
لِلِانْصِرَافِ. فَبَلَغَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ
لَا تَأْذَنْ لَهُمْ إنّا وَاَللّهِ مَا أَصَابَنَا وَإِيّاهُمْ شِدّةٌ
قَطّ إلّا صَنَعُوا هَكَذَا. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِبَنِي
حَارِثَةَ هَذَا لَنَا مِنْكُمْ أَبَدًا، مَا أَصَابَنَا وَإِيّاكُمْ
شِدّةٌ إلّا صَنَعْتُمْ هَكَذَا. فَرَدّهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَقُولُ لَقَدْ رَأَيْت لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ
لَيْلَةً وَنَحْنُ بِالْخَنْدَقِ لَا أَزَالُ أُحِبّهُ أَبَدًا.
قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَخْتَلِفُ إلَى ثُلْمَةٍ فِي الْخَنْدَقِ يَحْرُسُهَا، حَتّى إذَا
آذَاهُ الْبَرْدُ جَاءَنِي فَأَدْفَأْته فِي حِضْنِي، فَإِذَا دَفِئَ
خَرَجَ إلَى تِلْكَ الثّلْمَةِ يَحْرُسُهَا وَيَقُولُ مَا أَخْشَى أَنْ
يُؤْتَى النّاسُ إلّا مِنْهَا. فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِضْنِي قَدْ دَفِئَ وَهُوَ يَقُولُ:
"لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي ".1 قَالَتْ: إلَى أَنْ سَمِعْت
صَوْتَ السّلَاحِ وَقَعْقَعَةَ الْحَدِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ هَذَا ؟" فَقَالَ: سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. قَالَ: "عَلَيْك بِهَذِهِ الثّلْمَةِ
فَاحْرُسْهَا". قَالَتْ: وَنَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ
ـــــــ
1 في ب: "يحرسني الليلة".
(2/463)
بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ كُنْت مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ فَلَمْ
أُفَارِقْهُ مَقَامَهُ كُلّهُ وَكَانَ يَحْرُسُ بِنَفْسِهِ فِي
الْخَنْدَقِ، وَكُنّا فِي قُرّ شَدِيدٍ فَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَيْهِ
قَامَ فَصَلّى مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يُصَلّيَ فِي قُبّتِهِ ثُمّ
خَرَجَ فَنَظَرَ سَاعَةً فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: "هَذِهِ خَيْلُ
الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ مَنْ لَهُمْ ؟". ثُمّ نَادَى:
"يَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ". فَقَالَ عَبّادٌ: لَبّيْكَ قَالَ: "أَمَعَك
أَحَدٌ ؟" قَالَ: نَعَمْ أَنَا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي كُنّا
حَوْلَ قُبّتِك. قَالَ: "فَانْطَلِقْ فِي أَصْحَابِك فَأَطِفْ
بِالْخَنْدَقِ فَهَذِهِ خَيْلٌ مِنْ خَيْلِهِمْ تُطِيفُ بِكُمْ
يَطْمَعُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْكُمْ غُرّةً. اللّهُمّ ادْفَعْ عَنّا
شَرّهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَاغْلِبْهُمْ لَا يَغْلِبُهُمْ
غَيْرُك!". فَخَرَجَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي أَصْحَابِهِ فَإِذَا
بِأَبِي سُفْيَانَ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُطِيفُونَ
بِمَضِيقِ الْخَنْدَقِ. وَقَدْ نَذَرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ
فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَوَقَفْنَا مَعَهُمْ
فَرَمَيْنَاهُمْ حَتّى أَذْلَقْنَاهُمْ 1 بِالرّمْيِ فَانْكَشَفُوا
رَاجِعِينَ إلَى مَنْزِلِهِمْ. وَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجِدُهُ يُصَلّي فَأَخْبَرْته. قَالَتْ
أُمّ سَلَمَةَ فَنَامَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ فَمَا تَحَرّكَ حَتّى
سَمِعْت بِلَالًا يُؤَذّنُ بِالصّبْحِ وَبَيَاضِ الْفَجْرِ فَخَرَجَ
فَصَلّى بِالْمُسْلِمِينَ. فَكَانَتْ تَقُولُ يَرْحَمُ اللّهُ عَبّادَ
بْنَ بِشْرٍ فَإِنّهُ كَانَ أَلْزَمَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُبّةِ رَسُولِ اللّهِ يَحْرُسُهَا
أَبَدًا.
فَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ
أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَحْرُسُ الْخَنْدَقَ فِي أَصْحَابِهِ
فَانْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ مِنْ الْخَنْدَقِ تَطْفُرُهُ 2 الخيل
ـــــــ
1 أذلقناهم: أي أضعفناهم. [القاموس المحيط، ج3، ص 224].
2 طفر: وثب في ارتفاع، وطفر الحائط: وثبه إلى ما ورائه. [لسان العرب،
ج6، ص173].
(2/464)
فَإِذَا
طَلِيعَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِائَةُ فَارِسٍ أَوْ نَحْوُهَا،
عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيّرُوا إلَى
الْمُسْلِمِينَ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَلَيْهَا
بِأَصْحَابِهِ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ حَتّى
أَجْهَضُوا عَنّا وَوَلّوْا. وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ
اللّيْلَةَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ، فَقَالَ لِأُسَيْدٍ إنّ هَذَا
مَكَانٌ مِنْ الْخَنْدَقِ مُتَقَارِبٌ وَنَحْنُ نَخَافُ تَطْفُرَهُ
خَيْلُهُمْ - وَكَانَ النّاسُ عَجِلُوا فِي حَفْرِهِ. وَبَادَرُوا
فَبَاتُوا يُوَسّعُونَهُ حَتّى صَارَ كَهَيْئَةِ الْخَنْدَقِ
وَأَمّنُوا أَنْ تَطْفُرَهُ خَيْلُهُمْ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ
يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ وَكَانُوا فِي قُرّ شَدِيدٍ وَجُوعٍ.
فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عَتِيقٍ السّلَمِيّ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتنِي أَحْرُسُ
الْخَنْدَقَ، وَخَيْلُ الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ
وَتَطْلُبُ غُرّةً وَمُضِيقًا مِنْ الْخَنْدَقِ فَتَقْتَحِمُ فِيهِ
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ هُمَا
اللّذَانِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ يَطْلُبَانِ الْغَفْلَةَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ. فَلَقِينَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مِائَةِ
فَارِسٍ، قَدْ جَالَ بِخَيْلِهِ يُرِيدُ مَضِيقًا مِنْ الْخَنْدَقِ
يُرِيدُ أَنْ يَعْبُرَ فُرْسَانُهُ فَنَضَحْنَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى
انْصَرَفَ 1.
فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ
مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ تِلْكَ
اللّيْلَةَ فِي مِائَةِ فَارِسٍ، فَأَقْبَلُوا مِنْ الْعَقِيقِ حَتّى
وَقَفُوا بِالْمُذَادِ وِجَاهَ 2 قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَنَذِرْت بِالْقَوْمِ فَقُلْت لِعَبّادِ بْنِ
بِشْرٍ وَكَانَ عَلَى حَرَسِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَانَ قَائِمًا يُصَلّي، فَقُلْت: أَتَيْت فَرَكَعَ ثُمّ
سَجَدَ وَأَقْبَلَ خَالِدٌ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ هُوَ رَابِعُهُمْ
فَأَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ هَذِهِ قُبّةُ مُحَمّدٍ ارْمُوا فَرَمَوْا،
فَنَاهَضْنَاهُمْ حَتّى وَقَفْنَا عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ ، وَهُمْ
بِشَفِيرِ 3 الْخَنْدَقِ مِنْ الجانب الآخر
ـــــــ
1 هكذا في الأصل. وفي ب: "أسبحوا".
2 في الأصل: "وجاء". وما أثبتناه من نسخة ب .
3 في ب: "بشفيرة".
(2/465)
فَتَرَامَيْنَا، وَثَابَ 1 إلَيْنَا أَصْحَابُنَا، وَثَابَ إلَيْهِمْ
أَصْحَابُهُمْ وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. ثُمّ
اتّبَعُوا الْخَنْدَقَ عَلَى حَافّتَيْهِ وَتَبِعْنَاهُمْ
وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَحَارِسِهِمْ فَكُلّمَا نَمُرّ بِمَحْرِسٍ
نَهَضَ مَعَنَا طَائِفَةٌ وَثَبَتَ طَائِفَةٌ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى
رَاتِجٍ فَوَقَفُوا وَقْفَةً طَوِيلَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ
قُرَيْظَةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ،
فَمَا شَعَرْنَا إلّا بِخَيْلِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ
يَحْرُسُ فَيَأْتُونَ مِنْ خَلْفِ رَاتِجٍ، فَلَاقَوْا خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ فَاقْتَتَلُوا وَاخْتَلَطُوا، فَمَا كَانَ إلّا حَلْبُ
شَاةٍ حَتّى نَظَرْت إلَى خَيْلِ خَالِدٍ مُوَلّيَةً وَتَبِعَهُ
سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ حَتّى رَدّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. فَأَصْبَحَ
خَالِدٌ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَزِرِي عَلَيْهِ وَتَقُولُ مَا
صَنَعْت شَيْئًا فِيمَنْ فِي الْخَنْدَقِ وَلَا فِيمَنْ أَصْحَرَ لَك
2. فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا أَقْعُدُ اللّيْلَةَ وَابْعَثُوا خَيْلًا
حَتّى أَنْظُرُ أَيّ شَيْءٍ تَصْنَعُ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي
عَوْنٍ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَتْ وَاَللّهِ إنّي لَفِي جَوْفِ اللّيْلِ فِي قُبّةِ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ إلَى أَنْ
سَمِعْت الْهَيْعَةَ 3 وَقَائِلٌ يَقُولُ يَا خَيْلَ اللّهِ وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ شِعَارَ
الْمُهَاجِرِينَ "يَا خَيْلَ اللّهِ " فَفَزِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتِهِ فَخَرَجَ مِنْ الْقُبّةِ
فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ الصّحَابَةِ عِنْدَ قُبّتِهِ يَحْرُسُونَهَا،
مِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَ: "مَا بَالُ النّاسِ ؟" . قَالَ
عَبّادٌ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا صَوْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ،
اللّيْلَةَ نَوْبَتُهُ يُنَادِي: "يَا خَيْلَ اللّهِ " وَالنّاسُ
يَثُوبُونَ إلَيْهِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ حُسَيْكَةَ مَا بَيْنَ
ذُبَابٍ وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه
ـــــــ
1 ثاب: أي رجع. [النهاية، ج1، ص 137].
2 أصحر: برز. [القاموس المحيط، ج2، ص 67].
3 الهيعة: الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدو. [النهاية، ج4، ص 261].
(2/466)
وسلم لِعَبّادِ
بْنِ بِشْرٍ: "اذْهَبْ فَانْظُرْ ثُمّ ارْجِعْ إلَيّ إنْ شَاءَ اللّه
فَأَخْبِرْنِي". قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَقُمْت عَلَى بَابِ الْقُبّةِ
أَسْمَعُ كُلّ مَا يَتَكَلّمَانِ بِهِ. قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا حَتّى جَاءَهُ
عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا عَمْرُو بْنُ
عَبْدٍ فِي خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ مَسْعُودُ بْنُ رُخْيَةَ بْنِ
نُوَيْرَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ سُحْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
هِلَالِ بْنِ خَلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، فِي
خَيْلِ غَطَفَانَ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ
وَالْحِجَارَةِ. قَالَتْ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ
وَخَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ حَتّى أَتَى تِلْكَ الثّغْرَةَ فَلَمْ
يَلْبَث أَنْ رَجَعَ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: "صَرَفَهُمْ اللّهُ
وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَةُ". قَالَتْ فَنَامَ حَتّى سَمِعْت
غَطِيطَهُ وَسَمِعْت هَائِعَةً أُخْرَى، فَفَزِعَ فَوَثَبَ فَصَاحَ:
"يَا عَبّادُ بْنَ بِشْرٍ". قَالَ: لَبّيْكَ قَالَ: "اُنْظُرْ مَا
هَذَا". فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: هَذَا ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ
فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي
خَيْلِ غَطَفَانَ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَالْمُسْلِمُونَ
يُرَامُونَهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَعَادَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَرَكِبَ
فَرَسَهُ ثُمّ خَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ إلَى تِلْكَ الثّغْرَةِ
فَلَمْ يَأْتِنَا حَتّى كَانَ السّحَرُ فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ:
"رَجَعُوا مَفْلُولِينَ قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَةُ". ثُمّ
صَلّى بِأَصْحَابِهِ الصّبْحَ وَجَلَسَ. فَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ
تَقُولُ: قَدْ شَهِدْت مَعَهُ مَشَاهِدَ فِيهَا قِتَالٌ وَخَوْفٌ -
الْمُرَيْسِيعَ، وَخَيْبَر، وَكُنّا بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَفِي
الْفَتْحِ، وُحَنَيْنٍ - لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ أَتْعَبُ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَخْوَفُ
عِنْدَنَا مِنْ الْخَنْدَقِ. وَذَلِكَ أَنّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي
مِثْلِ الْحَرَجَةِ 1 وَأَنّ قُرَيْظَةَ لَا نَأْمَنُهَا عَلَى
الذّرَارِيّ وَالْمَدِينَةُ تُحْرَسُ حَتّى الصّبَاحِ يُسْمَعُ
تَكْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا حَتّى يُصْبِحُوا
ـــــــ
1 الحرجة: الشجرة الكثيرة الأغصان. [شرح أبي ذر ، ص 159].
(2/467)
خَوْفًا، حَتّى
رَدّهُمْ اللّهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [وَكَفَى اللّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] 1. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ كُنّا حَوْلَ قُبّةِ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْرُسُهُ
وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ نَسْمَعُ
غَطِيطَهُ إذْ 2 وَافَتْ أَفْرَاسٌ عَلَى سَلْعٍ، فَبَصُرَ بِهِمْ
عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَأَخْبَرَنَا بِهِمْ قَالَ فَأَمْضَى إلَى
الْخَيْلِ وَقَامَ عَبّادٌ عَلَى بَابِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ يَنْظُرُنِي، فَرَجَعْت
فَقُلْت: خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ أَشْرَفَتْ عَلَيْهَا سَلَمَةُ بْنُ
أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ فَرَجَعْت إلَى مَوْضِعِنَا. ثُمّ يَقُولُ
مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ كَانَ لَيْلُنَا بِالْخَنْدَقِ نَهَارًا
حَتّى فَرّجَهُ اللّهُ.
حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ جَابِرٍ
وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: كَانَ خَوْفُنَا
عَلَى الذّرَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَشَدّ مِنْ
خَوْفِنَا مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى فَرّجَ اللّهُ ذَلِكَ.
قَالُوا: فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَنَاوَبُونَ بَيْنَهُمْ فَيَغْدُو
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَيَغْدُو
هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَوْمًا، وَيَغْدُو عِكْرِمَةُ بْنُ
أَبِي جَهْلٍ يَوْمًا، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمًا، فَلَا
يَزَالُونَ يُجِيلُونَ خَيْلَهُمْ مَا بَيْنَ الْمَذَادِ إلَى رَاتِجٍ،
وَهُمْ فِي نَشَرٍ 3 مِنْ أَصْحَابِهِمْ يَتَفَرّقُونَ مَرّةً
وَيَجْتَمِعُونَ أُخْرَى، حَتّى عَظُمَ الْبَلَاءُ وَخَافَ النّاسُ
خَوْفًا شَدِيدًا. وَيُقَدّمُونَ رُمَاتَهُمْ - وَكَانَ مَعَهُمْ
رُمَاةٌ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ وَأَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ،
وغيرهم من
ـــــــ
1 زيادة في ب.
2 في ب: "إذا أوفت".
3 أي كانوا منتشرين متفرقين. [النهاية، ج4، ص144].
(2/468)
أَفْنَاءِ 1
الْعَرَبِ - فَعَمَدُوا يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ فَتَنَاوَشُوا بِالنّبْلِ
سَاعَةً وَهُمْ جَمِيعًا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وِجَاهَ قُبّةِ رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ
وَيُقَالُ عَلَى فَرَسِهِ. فَيَرْمِي حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ سَعْدَ
بْنَ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ 2 فَقَالَ: خُذْهَا
وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "عَرّقَ اللّهُ وَجْهَك فِي النّارِ " وَيُقَال
أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ رَمَاهُ وَكَانَ دَارِعًا. فَكَانَتْ
عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ
كُنّا فِي أُطُمِ بَنِي حَارِثَةَ قَبْلَ الْحِجَابِ وَمَعَنَا أُمّ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَمَرّ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِ
رَدْعٌ خَلُوقٌ 3 مَا رَأَيْت أَحَدًا فِي الْخَلُوقِ مِثْلَهُ
وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ مُشْمِرَةٌ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَاَللّهِ إنّي
لَأَخَافُ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِنْ تَشْمِيرَةِ دِرْعِهِ مَا
أَصَابَهُ فَمَرّ يُرَفّلُ فِي يَدِهِ الْحَرْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ:
لَبِثَ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا 4حَمَلْ 5 ... مَا أَحَسَنَ
الْمَوْتَ إذَا حَانَ الْأَجَلْ
وَأُمّهُ تَقُولُ: الْحَقْ بِرَسُولِ اللّهِ يَا بُنَيّ وَقَدْ
وَاَللّهِ تَأَخّرْت، فَقُلْت: وَاَللّهِ يَا أُمّ سَعْدٍ لَوَدِدْت
أَنّ دِرْعَ سَعْدٍ أَسْبَغُ عَلَى بَنَانِهِ. قَالَتْ أُمّ سَعْدٍ:
يَقْضِي اللّهُ مَا هُوَ قَاضٍ فَقَضَى لَهُ أَنْ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ
وَلَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنّهُ قَدْ رُمِيَ تَقُولُ أمه وا جبلاه!
ـــــــ
1 يقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. [الصحاح، ص 2457].
2 الأكحل: عرق في اليد، أو عرق الحياة. [القاموس المحيط، ج4، ص 44].
3 في الأصل: "درع حلوق" ؛ وما أثبتناه هو قراءة ب. والردع: أثر الطيب
في الجسد. [القاموس المحيط، ج3، ص 29]. والخلوق: طيب مركب يتخذ من
الزعفران وغيره من أنواع الطيب؛ وتغلب عليه الحمرة والصفرة. [النهاية،
ج1، ص 317].
4 الهيجا: الحرب. [الصحاح، ص 352].
5 قال السهيلي: هو بيت تمثل به، عنى به حمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل
بن كعب ابن عليم بن جناب الكلبي. [الروض الأنف، ج2، ص 192].
(2/469)
ثُمّ إنّ
رُؤَسَاءَهُمْ أَجَمَعُوا أَنْ يَغْدُوَا جَمِيعًا، فَغَدَا أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَضِرَارُ
بْنُ الْخَطّابِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ،
وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
الْمَخْزُومِيّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الدّيلِيّ، فِي عِدّةٍ فَجَعَلُوا يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ وَمَعَهُ
رُؤَسَاءُ غَطَفَانَ - عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَمَسْعُودُ 1 بْنُ
رُخَيْلَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ ; وَمِنْ سُلَيْمٍ رُؤَسَاؤُهُمْ
وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ. وَتَرَكُوا الرّجَالَ
مِنْهُمْ خُلُوفًا، يَطْلُبُونَ مُضِيقًا يُرِيدُونَ يَقْتَحِمُونَ
خَيْلَهُمْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ فَانْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ 2 قَدْ أَغْفَلَهُ
الْمُسْلِمُونَ فَجَعَلُوا يُكْرِهُونَ خَيْلَهُمْ وَيَقُولُونَ هَذِهِ
الْمَكِيدَةُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَصْنَعُهَا وَلَا تَكِيدُهَا.
قَالُوا 3: إنّ مَعَهُ رَجُلًا فَارِسِيّا، فَهُوَ الّذِي أَشَارَ
عَلَيْهِمْ بِهَذَا. قَالُوا: فَمَنْ هُنَاكَ إذًا ؟ فَعَبَرَ
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَعَمْرُو
بْنُ عَبْدٍ وَقَامَ سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وَرَاءِ الْخَنْدَقِ
لَا يَعْبُرُونَ وَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ أَلَا تَعْبُرُ ؟ قَالَ
قَدْ عَبَرْتُمْ فَإِنْ احْتَجْتُمْ إلَيْنَا عَبَرْنَا. فَجَعَلَ
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ وَيَقُولُ:
وَلَقَدْ بُحِحْتُ مِنْ النّدَا ... ءِ لِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ
مُبَارِزْ
وَعَمْرٌو يَوْمَئِذٍ ثَائِرٌ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا فَارْتُثّ جَرِيحًا
فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، وَحَرّمَ الدّهْنَ حَتّى يَثْأَرَ مِنْ
مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرٌ - يُقَالُ بَلَغَ
تِسْعِينَ سَنَةً. فَلَمّا دَعَا إلَى الْبِرَازِ قَالَ عَلِيّ -
عَلَيْهِ السّلَامُ - أَنَا أُبَارِزُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ثَلَاثَ
مَرّاتٍ. وَإِنّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَأَنّ عَلَى رءوسهم الطير
لمكان
ـــــــ
1 في الأصل: "سعود بن رحيلة"؛ والتصحيح من ب، ومن ابن عبد البر.
[الاستيعاب، ص 1392].
2 في ب: "إلى مكان ضيق".
3 في ب: "فيقولون".
(2/470)
عَمْرٍو
وَشَجَاعَتِهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَيْفَهُ. وَعَمّمَهُ وَقَالَ اللّهُمّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ
قَالَ: وَأَقْبَلَ عَمْرٌو يَوْمَئِذٍ وَهُوَ فَارِسٌ وَعَلِيّ رَاجِلٌ
فَقَالَ لَهُ عَلِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - "إنّك كُنْت تَقُولُ فِي
الْجَاهِلِيّةِ لَا يَدْعُونِي أَحَدٌ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ
إلّا قَبِلْتهَا " قَالَ " أَجَلْ! قَالَ عَلِيّ: " فَإِنّي أَدْعُوك
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ
اللّهِ وَتُسْلِمَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ". قَالَ يَا ابْنَ
أَخِي، أَخّرْ هَذَا عَنّي. قَالَ فَأُخْرَى، تَرْجِعُ إلَى بِلَادِك،
فَإِنْ يَكُنْ مُحَمّدٌ صَادِقًا كُنْت أَسْعَدَ [النّاسِ] بِهِ وَإِنْ
غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ الّذِي تُرِيدُ. قَالَ هَذَا مَا لَا تَتَحَدّثُ
بِهِ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَبَدًا، وَقَدْ نَذَرْت مَا نَذَرْت وَحَرّمْت
الدّهْنَ. قَالَ فَالثّالِثَةُ ؟ قَالَ الْبِرَازُ. قَالَ فَضَحِكَ
عَمْرٌو ثُمّ قَالَ إنّ هَذِهِ الْخَصْلَةُ مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ
أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُرَوّمُنِي عَلَيْهَا إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ
أَقْتُلَ مِثْلَك، وَكَانَ أَبُوك لِي نَدِيمًا، فَارْجِعْ فَأَنْتَ
غُلَامٌ حَدَثٌ إنّمَا أَرَدْت شَيْخَيْ قُرَيْشٍ أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ. قَالَ فَقَالَ عَلِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - فَإِنّي
أَدْعُوك إلَى الْمُبَارَزَةِ فَأَنَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك. فَأَسِفَ
عَمْرٌو وَنَزَلَ وَعَقَلَ فَرَسَهُ.
فَكَانَ جَابِرٌ يُحَدّثُ يَقُولُ فَدَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ
وَثَارَتْ بَيْنَهُمَا غَبَرَةٌ فَمَا نَرَاهُمَا، فَسَمِعْنَا
التّكْبِيرَ تَحْتَهَا فَعَرَفْنَا أَنّ عَلِيّا قَتَلَهُ. فَانْكَشَفَ
أَصْحَابُهُ الّذِينَ فِي الْخَنْدَقِ هَارِبِينَ وَطَفَرَتْ بِهِمْ
خَيْلُهُمْ إلّا أَنّ نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ وَقَعَ بِهِ
فَرَسُهُ فِي الْخَنْدَقِ، فَرُمِيَ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قُتِلَ.
وَرَجَعُوا هَارِبِينَ وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ الزّبَيْرُ بْنُ
الْعَوّامِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَنَاوَشُوهُمْ سَاعَةً.
وَحَمَلَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ
بِالرّمْحِ حَتّى إذَا وَجَدَ عُمَرُ مَسّ الرّمْحِ رَفَعَهُ عَنْهُ
وَقَالَ هَذِهِ نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ فَاحْفَظْهَا يَا ابْنَ
الْخَطّابِ إنّي قَدْ كُنْت حَلَفْت لَا تُمَكّنَنِي يَدَايَ مِنْ
رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَدًا. فَانْصَرَفَ ضِرَارٌ رَاجِعًا إلَى
أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ قِيَامٌ عِنْدَ جَبَلِ بني عبيد.
(2/471)
وَيُقَالُ:
حَمَلَ الزّبَيْرُ عَلَى نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بِالسّيْفِ حَتّى شَقّهُ بِاثْنَيْنِ وَقُطِعَ أَنَدُوجُ
1 سَرْجِهِ – وَالْأُنْدُوجُ: اللّبْدُ الّذِي يَكُونُ تَحْتَ السّرْجِ
- وَيُقَالُ إلَى كَاهِلِ الْفَرَسِ. فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ
مَا رَأَيْنَا سَيْفًا مِثْلَ سَيْفِك فَيَقُولُ وَاَللّهِ مَا هُوَ
بِالسّيْفِ وَلَكِنّهَا السّاعِدُ. وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ وَهُبَيْرَةُ
فَلَحِقَا بِأَبِي سُفْيَانَ وَحَمَلَ الزّبَيْرُ عَلَى هُبَيْرَةَ
فَضَرَبَ ثُفْرَ فَرَسِهِ فَقَطَعَ ثُفْرَ 2 فَرَسِهِ وَسَقَطَتْ
دِرْعٌ كَانَ مُحْقِبَهَا الْفَرَسَ، فَأَخَذَ الزّبَيْرُ الدّرْعَ
وَفَرّ عِكْرِمَةُ وَأَلْقَى رُمْحَهُ.
فَلَمّا رَجَعُوا إلَى أَبِي سُفْيَانَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ لَمْ يَكُنْ
لَنَا فِيهِ شَيْءٌ ارْجِعُوا فَنَفَرَتْ 3 قُرَيْشٌ فَرَجَعَتْ إلَى
الْعَقِيقِ، وَرَجَعَتْ غَطَفَانُ إلَى مَنَازِلِهَا، وَاتّعَدُوا
يَغْدُونَ جَمِيعًا وَلَا يَتَخَلّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَبَاتَتْ
قُرَيْشٌ يُعَبّئُونَ أَصْحَابَهُمْ وَبَاتَتْ غَطَفَانُ يُعَبّئُونَ
أَصْحَابَهُمْ وَوَافَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ. وَعَبّأَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَحَضّهُمْ
عَلَى الْقِتَالِ وَوَعَدَهُمْ النّصْرَ إنْ صَبَرُوا،
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ جَعَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ الْحِصْنِ
مِنْ كَتَائِبِهِمْ 4 فَأَخَذُوا بِكُلّ وَجْهٍ مِنْ الْخَنْدَقِ.
فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ قَاتَلُونَا
يَوْمَهُمْ وَفَرّقُوا كَتَائِبَهُمْ وَنَحْوًا إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً غَلِيظَةً فِيهَا خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى هَوِيّ مِنْ
اللّيْلِ مَا يَقْدِرُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَزُولُوا مِنْ
مَوَاضِعِهِمْ وَمَا يَقْدِرُ 5 رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلَاةِ الظهر
ـــــــ
1 في ب: "ابذوج".
2 الثفر، بالتحريك: للسير في مؤخر السرج. [القاموس المحيط، ج1، ص 383].
3 في ب: "فتفرقت".
4 في الأصل: "كثائبهم"؛ والتصحيح من نسخة ب.
5 في ب: "وما قدر".
(2/472)
وَلَا
الْعَصْرِ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا الْعِشَاءِ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ
يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا صَلّيْنَا فَيَقُولُ: "وَلَا أَنَا
وَاَللّهِ مَا صَلّيْت!". حَتّى كَشَفَهُمْ اللّهُ تَعَالَى فَرَجَعُوا
مُتَفَرّقِينَ. فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَنْزِلِهَا، وَرَجَعَتْ
غَطَفَانُ إلَى مَنْزِلِهَا، وَانْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ إلَى قُبّةِ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَقَامَ
أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَلَى الْخَنْدَقِ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ إذْ كَرّتْ خَيْلٌ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَطْلُبُونَ غُرّةً، عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ ; فَنَاوَشَهُمْ سَاعَةً وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ وَحْشِيّ،
فَزَرَقَ الطّفَيْلَ بْنَ النّعْمَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ
بِمِزْرَاقِهِ فَقَتَلَهُ فَكَانَ يَقُولُ أَكْرَمَ اللّهُ تَعَالَى
حَمْزَةَ وَالطّفَيْلَ بِحَرْبَتِي وَلَمْ يُهِنّي بِأَيْدِيهِمَا.
فَلَمّا صَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
مَوْضِعِ قُبّتِهِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذّنَ. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذّنَ وَأَقَامَ لِلظّهْرِ وَأَقَامَ بَعْدُ
لِكُلّ صَلَاةٍ إقَامَةً إقَامَةً.
وَقَدْ حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ - وَهُوَ أَثْبَتُ الْحَدِيثَيْنِ
عِنْدَنَا - قَالَ أَخْبَرَنِي الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ
بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَلَسْنَا يَوْمَ
الْخَنْدَقِ حَتّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيّ مِنْ اللّيْلِ
حَتّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ – {وَكَفَى
اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزًا } 1
. فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِلَالًا فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ صَلَاةَ الظّهْرِ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ
مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا. ثُمّ أَقَامَ صَلَاةَ الْعَصْرِ
فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمّ
أَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي
وَقْتِهَا، ثُمّ أَقَامَ الْعِشَاءَ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ
يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا. قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ
اللّهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَاناً} 2.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب 25.
2 سورة البقرة 239.
(2/473)
وَكَانَ ابْنُ
عَبّاسٍ يُحَدّثُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ "شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ
صَلَاةِ الْوُسْطَى - يَعْنِي الْعَصْرَ - مَلَأَ اللّهُ أَجْوَافَهُمْ
وَقُبُورَهُمْ نَارً ا"!
وَأَرْسَلَتْ بَنُو مَخْزُومٍ إلَى النّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَطْلُبُونَ جِيفَةَ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
يَشْتَرُونَهَا بِالدّيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّمَا هِيَ جِيفَةُ حِمَارٍ وَكَرِهَ ثَمَنَهُ".
فَلَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ قِتَالٌ جَمِيعًا حَتّى انْصَرَفُوا، إلّا أَنّهُمْ لَا
يَدْعُونَ يَبْعَثُونَ الطّلَائِعَ بِاللّيْلِ يَطْمَعُونَ فِي
الْغَارَةِ. وَخَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ طَلِيعَتَانِ لِرَسُولِ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا، فَالْتَقَيَا وَلَا
يَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَا يَظُنّونَ إلّا أَنّهُمْ
الْعَدُوّ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَةٌ وَقَتْلٌ وَلَسْنَا
نَعْرِفُ مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يُسَمّ لَنَا. ثُمّ نَادَوْا بِشَعَارِ
الْإِسْلَامِ وَكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَكَانَ شَعَارُهُمْ حم
لَا يُنْصَرُونَ فَجَاءُوا إلَى النّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "جِرَاحُكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَنْ قُتِلَ
مِنْكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ". فَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا دَنَا
الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ نَادَوْا بِشَعَارِهِمْ لِأَنْ
يَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَلَا يَرْمُونَ بِنَبْلٍ وَلَا
بِحَجَرٍ. كَانُوا يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ بِاللّيْلِ حَتّى
الصّبَاحِ يَتَنَاوَبُونَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا،
يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ حَتّى يُصْبِحُوا.
قَالَ فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي يَطْلُعُونَ إلَى 1
أَهْلِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ رَسُولُ اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ". فَإِذَا
أَلَحّوا فِي كَثْرَةِ مَا يَسْتَأْذِنُونَهُ يَقُولُ: "مَنْ ذَهَبَ
مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ سِلَاحَهُ فَإِنّي لَا آمَنُ بَنِي قُرَيْظَةَ
هُمْ عَلَى طَرِيقِكُمْ".
وَكَانَ كُلّ مَنْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ إنّمَا يَسْلُكُونَ عَلَى سَلْعٍ
حَتّى يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ، ثُمّ يَذْهَبُونَ إلَى العالية.
ـــــــ
1 في ب: "يطلعون أهليهم".
(2/474)
فَحَدّثَنِي
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ صَيْفِيّ مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي
السّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي بَيْتِهِ فَوَجَدَهُ يُصَلّي، قَالَ:
فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ. قَالَ فَسَمِعْت
تَحْرِيكًا تَحْتَ سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا حَيّةٌ فَقُمْت
لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إلَيّ أَنْ اجْلِسْ. فَلَمّا جَلَسْت سَلّمَ
وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدّارِ فَقَالَ لِي: أَتَرَى هَذَا
الْبَيْتَ ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: إنّهُ كَانَ فِيهِ فَتًى
حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ يَسْتَأْذِنُهُ
بِأَنْصَافِ النّهَارِ لِيَطّلِعَ إلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا، فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْ سِلَاحَك
فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْك بَنِي قُرَيْظَة". قَالَ: فَأَخَذَ الرّجُلُ
سِلَاحَهُ وَذَهَبَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ
فَهَيّأَ لَهَا الرّمْحَ لِيَطْعَنَهَا، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ
فَقَالَتْ اُكْفُفْ عَلَيْك رُمْحَك حَتّى تَرَى مَا فِي بَيْتِك
فَكَفّ وَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِحَيّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ
فَرَكَزَ فِيهَا رُمْحَهُ فانتظمها فيه، ثم خرج به فَنَصَبَهُ فِي
الدّارِ فَاضْطَرَبَتْ الْحَيّةُ فِي رَأْسِ الرّمْحِ وَخَرّ الْفَتَى
مَيّتًا، فَمَا نَدْرِي أَيّهمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا، الْفَتَى
أَوْ الْحَيّةُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَجِئْنَا رَسُولَ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ أَنْ يُحْيِيَهُ.
فَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ". ثُمّ قَالَ: "إنّ
بِالْمَدِينَةِ جِنّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ
شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ
ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ".
فَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ
عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: بَعَثْنَا ابْنَ أُخْتِنَا ابْنَ عُمَرَ
يَأْتِينَا بِطَعَامٍ وَلُحُفٍ وَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ الْجُوعِ
وَالْبَرْدِ فَخَرَجَ ابْنُ عُمَرَ حَتّى إذَا هَبَطَ مِنْ سَلْعٍ -
وَذَلِكَ لَيْلًا - غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ حَتّى أَصْبَحَ.
فَاهْتَمَمْنَا بِهِ فَخَرَجْت أَطْلُبُهُ فَأَجِدُهُ نَائِمًا،
وَالشّمْسُ قَدْ ضَحّتْهُ فَقُلْت: الصّلَاةُ أَصَلّيْت الْيَوْمَ ؟
قَالَ لَا. قُلْت: فَصَلّ. فَقَامَ سَرِيعًا
(2/475)
إلَى الْمَاءِ
وَذَهَبَتْ إلَى مَنْزِلِنَا بِالْمَدِينَةِ فَجِئْت بِتَمْرٍ
وَلِحَافٍ وَاحِدٍ فَكُنّا نَلْبَسُ ذَلِكَ اللّحَافَ جَمِيعًا – مَنْ
قَامَ مِنّا فِي الْمَحْرَسِ ذَهَبَ مَقْرُورًا ثُمّ رَجَعَ حَتّى
يَدْخُلَ فِي اللّحَافِ حَتّى فَرّجَ اللّهُ ذَلِكَ. وَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْت بِالصّبَا
وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدّبُورِ".
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: جَاءَتْ
الْجَنُوبُ إلَى الشّمَالِ فَقَالَتْ انْطَلِقِي بِنَصْرِ اللّهِ
وَرَسُولِهِ. فَقَالَتْ الشّمَالُ إنّ الْحُرّةَ لَا تَسْرِي بِلَيْلٍ.
فَبَعَثَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - الصّبَا، فَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ
وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ فَسَاطِيطَهُمْ.
حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِيَاحٍ الْأَنْصَارِيّ،
عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ مِنْ بَنِي
عَدِيّ بْنِ النّجّارِ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ
مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ فَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَبْعَثُونَ إلَيْهِمْ بِمَا
قَدَرُوا عَلَيْهِ فَأَرْسَلَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ ابْنَتَهَا
بِجَفْنَةِ تَمْرٍ عَجْوَةٍ فِي ثَوْبِهَا، فَقَالَتْ يَا بُنَيّةُ
اذْهَبِي إلَى أَبِيك بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِك عَبْدِ اللّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا. فَانْطَلَقَتْ الْجَارِيَةُ حَتّى تَأْتِيَ
الْخَنْدَقَ، فَتَجِدَ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ وَهِيَ تَلْتَمِسُهُمَا،
فَقَالَ: "تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ مَا هَذَا مَعَك ؟". قَالَتْ:
بَعَثَتْنِي أُمّي إلَى أَبِي وَخَالِي بِغَدَائِهِمَا. فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "هَاتِيهِ!".
قَالَتْ: فَأَعْطَيْته فَأَخَذَهُ فِي كَفّيْهِ ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبٍ
فَبُسِطَ لَهُ وَجَاءَ بِالتّمْرِ فَنَثَرَهُ عَلَيْهِ فَوْقَ الثّوْبِ
فَقَالَ لِجُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ نَادِ 1 بِأَهْلِ الْخَنْدَقِ أَنْ
هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ
يَأْكُلُونَ مِنْهُ حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ وَإِنّهُ
لَيَفِيضُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ.
وَحَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ معتب
قال: أرسلت
ـــــــ
1 في ب، ت "أصرخ بأهل الخندق".
(2/476)
أُمّ عَامِرٍ
الْأَشْهَلِيّةُ بِقَعْبَةٍ فِيهَا حَيْسٌ 1 إلَى رَسُولِ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي قُبّتِهِ وَهُوَ
عِنْدَ أُمّ سَلَمَةَ فَأَكَلَتْ أُمّ سَلَمَةَ حَاجَتَهَا، ثُمّ
خَرَجَ بِالْبَقِيّةِ فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَشَائِهِ فَأَكَلَ أَهْلُ
الْخَنْدَقِ حَتّى نَهِلُوا وَهِيَ كَمَا هِيَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ حُصِرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بِضْعَ عَشْرَةَ حَتّى خَلُصَ إلَى
كُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ الْكَرْبُ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللّهُمّ إنّي أَنْشُدُك عَهْدَك
وَوَعْدَك اللّهُمّ إنّك إنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ" فَبَيْنَا هُمْ
عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْحَالِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَإِلَى الْحَارِثِ
بْنِ عَوْفٍ - وَلَمْ يَحْضُرْ الْخَنْدَقَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ
وَلَا قَوْمُهُ وَيُقَالُ حَضَرَهَا الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ. قَالَ
ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا. وَإِنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَيْهِ
وَإِلَى عُيَيْنَةَ أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَكُمْ ثُلُثَ تَمْرِ
الْمَدِينَةِ تَرْجِعَانِ بِمَنْ مَعَكُمْ وَتُخَذّلَانِ بَيْنَ
الْأَعْرَابِ ؟ قَالَا: تُعْطِينَا نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ .
فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَزِيدَهُمَا عَلَى الثّلُثِ فَرَضِيَا بِذَلِكَ وَجَاءَا فِي عَشَرَةٍ
مِنْ قَوْمِهِمَا حِينَ 2 تَقَارَبَ الْأَمْرُ فَجَاءُوا وَقَدْ
أَحَضَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ وَأَحْضَرَ الصّحِيفَةَ وَالدّوَاةَ وَأَحْضَرَ عُثْمَانَ
بْنَ عَفّانَ فَأَعْطَاهُ الصّحِيفَةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ
الصّلْحَ بَيْنَهُمْ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَنّعٌ فِي
الْحَدِيدِ. فَأَقْبَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــ
1 الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديداً ثم يندر منه نواه، وربما جعل
فيه سويق. [القاموس المحيط، ج2، ص 209].
2 في ب: "حتى".
(2/477)
وَلَا يَدْرِي
بِمَا كَانَ مِنْ الْكَلَامِ فَلَمّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ عُيَيْنَةُ مَادّا رِجْلَيْهِ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلِمَ مَا يُرِيدُونَ فَقَالَ يَا عَيْنَ الْهِجْرِسِ 1 اقْبِضْ
رِجْلَيْك أَتَمُدّ رِجْلَيْك بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ ؟ وَمَعَهُ
الرّمْحُ. وَاَللّهِ لَوْلَا رَسُولُ اللّهِ لَأَنْفَذْتُ خُصْيَتَيْك
بِالرّمْحِ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كَانَ أَمْرًا
مِنْ السّمَاءِ فَامْضِ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاَللّهِ
لَا نُعْطِيهِمْ إلّا السّيْفَ مَتَى طَمِعُوا 2 بِهَذَا مِنّا ؟
فَأُسْكِتَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَدَعَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
فَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذَلِكَ وَهُوَ مُتّكِئٌ عَلَيْهِمَا،
وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَتَكَلّمَ بِكَلَامٍ يُخْفِيهِ وَأَخْبَرَهُمَا
بِمَا قَدْ أَرَادَ مِنْ الصّلْحِ. فَقَالَا: إنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا
مِنْ السّمَاءِ فَامْضِ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ فِيهِ
وَلَك فِيهِ هَوًى فَامْضِ لِمَا كَانَ لَك فِيهِ هَوًى، فَسَمْعًا
وَطَاعَةً وَإِنْ كَانَ إنّمَا هُوَ الرّأْيُ فَمَا لَهُمْ عِنْدَنَا
إلّا السّيْفُ. وَأَخَذَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْكِتَابَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّي رَأَيْت
الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسِ وَاحِدَةٍ فَقُلْت أُرْضِيهِمْ وَلَا
أُقَاتِلُهُمْ". فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كَانُوا
لَيَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ 3 فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ الْجَهْدِ مَا
طَمِعُوا بِهَذَا مِنّا قَطّ، أَنْ يَأْخُذُوا تَمْرَةً إلّا بِشِرًى
أو قِرًى فَحِينَ أَتَانَا اللّهُ تَعَالَى بِك، وَأَكْرَمَنَا بِك،
وَهَدَانَا بِك نُعْطِي الدّنِيّةَ لَا نُعْطِيهِمْ أَبَدًا إلّا
السّيْفَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- "شُقّ الْكِتَابُ". فَتَفَلَ سَعْدٌ فِيهِ ثُمّ شَقّهُ وَقَالَ:
بَيْنَنَا السّيْفُ فَقَامَ عُيَيْنَةُ وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا
وَاَللّهِ لَلّتِي تَرَكْتُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الْخُطّةِ الّتِي
أخذتم
ـــــــ
1 الهجرس: ولد الثعلب، والهجرس أيضاً القرد. [النهاية، ج4، ص 240].
2 في الأصل: "متى طمعتم بهذا منا"؛ وما اثبتناه من نسخة ب.
3 العلهز :هو شيء يتخذونه في سنى المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم
يشوونه بالنار ويأكلونه، وقيل كانوا يخلطون قيه القردان. [النهاية، ج3،
ص 124].
(2/478)
وَمَا لَكُمْ
بِالْقَوْمِ طَاقَةٌ. فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ يَا عُيَيْنَةُ
أَبِالسّيْفِ تُخَوّفُنَا ؟ سَتَعْلَمُ أَيّنَا أَجْزَعَ وَإِلّا
فَوَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت أَنْتَ وَقَوْمَك تَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ
وَالرّمّةَ 1 مِنْ الْجَهْدِ فَتَأْتُونَ هَاهُنَا مَا تَطْمَعُونَ
بِهَذَا مِنّا إلّا قِرًى أَوْ شِرًى، وَنَحْنُ لَا نَعْبُدُ شَيْئًا،
فَلَمّا هَدَانَا اللّهُ وَأَيّدَنَا بِمُحَمّدٍ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْتُمُونَا هَذِهِ الْخُطّةَ أَمَا وَاَللّهِ
لَوْلَا مَكَانُ رَسُولِ اللّهِ مَا وَصَلْتُمْ إلَى قَوْمِكُمْ.
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعُوا،
بَيْنَنَا السّيْفُ!" رَافِعًا صَوْتَهُ. فَرَجَعَ عُيَيْنَةُ
وَالْحَارِثُ وَهُمَا يَقُولَانِ وَاَللّهِ مَا نَرَى أَنْ نُدْرِكَ
مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَقَدْ أُنْهِجَتْ لِلْقَوْمِ بَصَائِرُهُمْ
وَاَللّهِ مَا حَضَرْت إلّا كُرْهًا لِقَوْمٍ غَلَبُونِي، وَمَا
مَقَامُنَا بِشَيْءٍ مَعَ أَنّ قُرَيْشًا إنْ عَلِمَتْ بِمَا عَرَضْنَا
عَلَى مُحَمّدٍ عَرَفْت أَنّا قَدْ خَذَلْنَاهَا وَلَمْ نَنْصُرْهَا.
قَالَ عُيَيْنَةُ هُوَ وَاَللّهِ ذَلِكَ قَالَ الْحَارِثُ أَمَا إنّا
لَمْ نُصِبْ بِتَعَرّضِنَا لِنَصْرِ قُرَيْشٍ عَلَى مُحَمّدٍ وَاَللّهِ
لَئِنْ ظَهَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مُحَمّدٍ لَيَكُونَن الْأَمْرُ فِيهَا
دُونَ سَائِرِ الْعَرَبِ، مَعَ أَنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا
ظَاهِرًا. وَاَللّهِ لَقَدْ كَانَ أَحْبَارُ يَهُودِ خَيْبَرَ
وَإِنّهُمْ يُحَدّثُونَ أَنّهُمْ يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنّهُ
يُبْعَثُ نَبِيّ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صِفَتِهِ. قَالَ عُيَيْنَةُ إنّا
وَاَللّهِ مَا جِئْنَا نَنْصُرُ قُرَيْشًا، وَلَوْ اسْتَنْصَرْنَا
قُرَيْشًا مَا نَصَرَتْنَا وَلَا خَرَجْت مَعَنَا مِنْ حَرَمِهَا.
وَلَكِنّي كُنْت أَطْمَعُ أَنْ نَأْخُذَ تَمْرَ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ
لَنَا بِهِ ذِكْرٌ مَعَ مَا لَنَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْغَنِيمَةِ
مَعَ أَنّا نَنْصُرُ حُلَفَاءَنَا مِنْ الْيَهُودِ فَهُمْ جَلَبُونَا
إلَى مَا هَاهُنَا. قَالَ الْحَارِثُ قَدْ وَاَللّهِ أَبَتْ الْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ إلّا السّيْفَ وَاَللّهِ لَتُقَاتِلُنّ 2 عَنْ هَذَا
السّعَفِ مَا بَقِيَ مِنْهَا رَجُلٌ مُقِيمٌ 3 وَقَدْ أَجْدَبَ
ـــــــ
1 الرمة، بالكسر: العظام البالية. [القاموس المحيط، ج4، ص 122].
2 في الأصل: "لتقاتلن على" ؛ وما أثبتناه من نسخة ب.
3 في ب: "مقيم مقامنا".
(2/479)
الْجَنَابُ
وَهَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ. قَالَ عُيَيْنَةُ لَا شَيْءَ. فَلَمّا
أَتَيَا مَنْزِلَهُمَا جَاءَتْهُمَا غَطَفَانُ فَقَالُوا: مَا
وَرَاءَكُمْ ؟ قَالُوا: لَمْ يَتِمّ الْأَمْرُ رَأَيْنَا قَوْمًا عَلَى
بَصِيرَةٍ وَبَذْلِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ صَاحِبِهِمْ وَقَدْ هَلَكْنَا
وَهَلَكَتْ قُرَيْشٌ، وَقُرَيْشٌ تَنْصَرِفُ وَلَا تُكَلّمُ مُحَمّدًا
وَإِنّمَا يَقَعُ حَرّ مُحَمّدٍ بِبَنِي قُرَيْظَةَ إذَا وَلّيْنَا
جَثَمَ عَلَيْهِمْ فَحَصَرَهُمْ جُمُعَةً حَتّى يُعْطُوا
بِأَيْدِيهِمْ. قَالَ الْحَارِثُ بُعْدًا وَسُحْقًا مُحَمّدٌ أَحَبّ
إلَيْنَا مِنْ الْيَهُودِ.
(2/480)
ذِكْرُ
نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ
حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ قَالَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَهْلَ
شَرَفٍ وَأَمْوَالٍ وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَخْلَ لَنَا وَلَا
كَرْمَ وَإِنّمَا نَحْنُ أَهْلُ شَاةٍ وَبَعِيرٍ.
فَكُنْت أَقْدَمُ عَلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَأُقِيمُ عِنْدَهُمْ
الْأَيّامَ أَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ ثُمّ
يُحَمّلُونَنِي تَمْرًا عَلَى رِكَابِي مَا كَانَتْ فَأَرْجِعُ إلَى
أَهْلِي. فَلَمّا سَارَتْ الْأَحْزَابُ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرْت مَعَ قَوْمِي، وَأَنَا عَلَى
دِينِي، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَارِفًا، فَأَقَامَتْ الْأَحْزَابُ مَا أَقَامَتْ حَتّى
أَجْدَبَ الْجَنَابُ وَهَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ وَقَذَفَ اللّهُ -
عَزّ وَجَلّ - فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ. وَكَتَمْت قَوْمِي إسْلَامِي،
فَأَخْرُجُ حَتّى آتِي رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَأَجِدُهُ يُصَلّي،
فَلَمّا رَآنِي جَلَسَ ثُمّ قَالَ: " مَا جَاءَ بِك يَا نُعَيْمُ ؟".
قُلْت: إنّي جِئْت أُصَدّقُك وَأَشْهَدُ أَنّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ،
فَمُرْنِي بِمَا شِئْت يَا رَسُولَ اللّهِ فَوَاَللّهِ لَا تَأْمُرُنِي
بِأَمْرٍ إلّا مَضَيْت لَهُ قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِي
وَلَا غَيْرُهُمْ. قَالَ مَا اسْتَطَعْت أَنْ تُخَذّلَ النّاسَ
فَخَذّلْ قَالَ قلت: أفعل ولكن
(2/480)
يَا رَسُولَ
اللّهِ أَقُولُ فَأَذِنَ لِي. قَالَ: " قُلْ مَا بَدَا لَك فَأَنْتَ
فِي حِلّ". قَالَ: فَذَهَبْت حَتّى جِئْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَمّا
رَأَوْنِي رَحّبُوا وَأَكْرَمُوا وَحَيّوْا وَعَرَضُوا عَلَيّ
الطّعَامَ وَالشّرَابَ فَقُلْت: إنّي لَمْ آتِ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا ;
إنّمَا جِئْتُكُمْ نَصَبًا بِأَمْرِكُمْ وَتَخَوّفًا عَلَيْكُمْ
لِأُشِيرَ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ وَقَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ
وَخَاصّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ
وَأَنْتَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تُحِبّ مِنْ الصّدْقِ وَالْبِرّ. قَالَ
فَاكْتُمُوا عَنّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. قَالَ إنّ أَمْرَ هَذَا
الرّجُلُ بَلَاءٌ - يَعْنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَنَعَ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي
النّضِيرِ وَأَجْلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ بَعْدَ قَبْضِ الْأَمْوَالِ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ سَارَ فِينَا فَاجْتَمَعْنَا
مَعَهُ لِنَصْرِكُمْ وَأَرَى الْأَمْرَ قَدْ تَطَاوَلَ كَمَا تَرَوْنَ
وَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَنْتُمْ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ مِنْ
مُحَمّدٍ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَمّا قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ فَهُمْ
قَوْمٌ جَاءُوا سَيّارَةً حَتّى نَزَلُوا حَيْثُ رَأَيْتُمْ فَإِنْ
وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ أَوْ
أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ انْشَمَرُوا إلَى بِلَادِهِمْ. وَأَنْتُمْ
لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ فِيهِ
أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ وَقَدْ غَلُظَ عَلَيْهِمْ
جَانِبُ مُحَمّدٍ أَجَلَبُوا عَلَيْهِ أَمْسِ إلَى اللّيْلِ فَقَتَلَ
رَأْسَهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَهَرَبُوا مِنْهُ 1 مُجَرّحِينَ
وَهُمْ لَا غَنَاءَ 2 بِهِمْ عَنْكُمْ لِمَا تَعْرِفُونَ عِنْدَكُمْ.
فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ قُرَيْشٍ وَلَا غَطَفَانَ حَتّى تَأْخُذُوا
مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ تَسْتَوْثِقُونَ بِهِ مِنْهُمْ
أَلّا يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا. قَالُوا: أَشَرْت بِالرّأْيِ عَلَيْنَا
وَالنّصْحِ. وَدَعَوْا لَهُ وَتَشَكّرُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ
فَاعِلُونَ. قَالَ: وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي. قَالُوا: نَعَمْ
نَفْعَلُ. ثُمّ خَرَجَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي رِجَالٍ
مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جِئْتُك بِنَصِيحَةٍ
فَاكْتُمْ عَنّي. قَالَ أَفْعَلُ. قَالَ: تَعْلَمُ أَنّ قُرَيْظَةَ
قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بينهم
ـــــــ
1 في ب: "هربوا منه هربا".
2 في ب: "لا عناء بهم".
(2/481)
وَبَيْنَ
مُحَمّدٍ وَأَرَادُوا إصْلَاحَهُ وَمُرَاجَعَتَهُ. أَرْسَلُوا إلَيْهِ
وَأَنَا عِنْدَهُمْ إنّا سَنَأْخُذُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ مِنْ
أَشْرَافِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا نُسَلّمُهُمْ إلَيْك تَضْرِبُ
أَعْنَاقَهُمْ وَتَرُدّ جَنَاحَنَا الّذِي كَسَرْت إلَى دِيَارِهِمْ -
يَعْنُونَ بَنِي النّضِيرِ - وَنَكُونُ مَعَك عَلَى قُرَيْشٍ حَتّى
نَرُدّهُمْ عَنْك. فَإِنْ بَعَثُوا إلَيْكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ رَهْنًا
فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا وَاحْذَرُوهُمْ عَلَى
أَشْرَافِكُمْ وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي وَلَا تَذْكُرُوا مِنْ هَذَا
حَرْفًا. قَالُوا: لَا نَذْكُرُهُ. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ
فَقَالَ يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إنّي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَاكْتُمُوا
عَنّي، وَاعْلَمُوا أَنّ قُرَيْظَةَ بَعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ - وَقَالَ
لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ - فَاحْذَرُوا أَنْ تَدْفَعُوا
إلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ رِجَالِكُمْ. وَكَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ
فَصَدّقُوهُ. وَأَرْسَلَتْ الْيَهُودُ غَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ إلَى
أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْب وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ: إنّ ثَوَاءَكُمْ
قَدْ طَالَ وَلَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا وَلَيْسَ الّذِي تَصْنَعُونَ
بِرَأْيٍ إنّكُمْ لَوْ وَعَدْتُمُونَا يَوْمًا تَزْحَفُونَ 1 فِيهِ
إلَى مُحَمّدٍ فَتَأْتُونَ مِنْ وَجْهٍ وَتَأْتِي غَطَفَانُ مِنْ
وَجْهٍ وَنَخْرُجُ نَحْنُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ يُفْلِتْ مِنْ
بَعْضِنَا. وَلَكِنْ لَا نَخْرُجُ مَعَكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا إلَيْنَا
بِرِهَانٍ مِنْ أَشْرَافِكُمْ يَكُونُونَ عِنْدَنَا، فَإِنّا نَخَافُ
إنْ مَسّتْكُمْ الْحَرْبُ وَأَصَابَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ شَمّرْتُمْ
وَتَرَكْتُمُونَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَقَدْ نَابَذْنَا مُحَمّدًا
بِالْعَدَاوَةِ. فَانْصَرَفَ الرّسُولُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ
يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا مَا
قَالَ نُعَيْمٌ. فَخَرَجَ نُعَيْمٌ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَا عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ حَتّى جَاءَ
رَسُولُكُمْ إلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الرّهَانَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ
شَيْئًا فَلَمّا وَلّى قَالَ: لَوْ طَلَبُوا مِنّي عَنَاقًا 2 مَا
رَهَنْتهَا أَنَا أَرْهَنُهُمْ سَرَاةَ أَصْحَابِي يَدْفَعُونَهُمْ
إلَى مُحَمّدٍ يَقْتُلُهُمْ فَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ حَتّى تَأْخُذُوا
الرّهْنَ فَإِنّكُمْ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مُحَمّدًا وَانْصَرَفَ أَبُو
سُفْيَانَ تَكُونُوا عَلَى مُوَاعَدَتِكُمْ 3 الأولى. قالوا:
ـــــــ
1 في ب: "ترجعون".
2 العناق: الأنثى من أولاد المعز. [القاموس المحيط، ج3، ص 269].
3 في ب: "موادعتكم".
(2/482)
تَرْجُو ذَلِكَ
يَا نُعَيْمُ ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: فَإِنّا لَا
نُقَاتِلُهُ. وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت لِهَذَا كَارِهًا وَلَكِنْ حُيَيّ
رَجُلٌ مَشْئُومٌ. قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: إنْ انْكَشَفَتْ
قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ عَنْ مُحَمّدٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنّا إلّا
السّيْفُ. قَالَ نُعَيْمٌ: لَا تَخْشَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ
الرّحْمَنِ. قَالَ الزّبَيْرُ بَلَى وَالتّوْرَاةُ، وَلَوْ أَصَابَتْ
الْيَهُودُ رَأْيَهَا وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَتَخْرُجَن إلَى مُحَمّدٍ
وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ رَهْنًا، فَإِنّ قُرَيْشًا لَا
تُعْطِينَا رَهْنًا أَبَدًا، وَعَلَى أَيّ وَجْهٍ تُعْطِينَا قُرَيْشٌ
الرّهْنَ وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِنَا، وَمَعَهُمْ كُرَاعٌ
وَلَا كُرَاعٌ مَعَنَا، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ وَنَحْنُ
لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ ؟ وَهَذِهِ غَطَفَانُ تَطْلُبُ إلَى مُحَمّدٍ
أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَتَنْصَرِفُ فَأَبَى
مُحَمّدٌ إلّا السّيْفَ فَهُمْ يَنْصَرِفُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ. فَلَمّا
كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ تَعَالَى
لِنَبِيّهِ أَنْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ
الْجَنَابَ قَدْ أَجْدَبَ وَهَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ، وَغَدَرَتْ
الْيَهُودُ وَكَذَبَتْ وَلَيْسَ هَذَا بِحَيْنِ مُقَامٍ فَانْصَرِفُوا
قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَاعْلَمْ عِلْمَ الْيَهُودِ وَاسْتَيْقِنْ
خَبَرَهُمْ.
فَبَعَثُوا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَتّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ
عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ مَسَاءَ لَيْلَةِ السّبْتِ فَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ الْيَهُودِ إنّهُ قَدْ طَالَ الْمُكْثُ وَجَهَدَ الْخُفّ
وَالْكُرَاعُ وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَإِنّا لَسْنَا بِدَارِ
مُقَامَةٍ اُخْرُجُوا إلَى هَذَا الرّجُلِ حَتّى نُنَاجِزَهُ
بِالْغَدَاةِ. قَالُوا: غَدًا السّبْتُ لَا نُقَاتِلُ وَلَا نَعْمَلُ
فِيهِ عَمَلًا، وَإِنّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إذَا
انْقَضَى سَبْتُنَا حَتّى تُعْطُونَا رِهَانًا مِنْ رِجَالِكُمْ
يَكُونُونَ مَعَنَا لِئَلّا تَبْرَحُوا حَتّى نُنَاجِزَ مُحَمّدًا،
فَإِنّا نَخْشَى إنْ أَصَابَتْكُمْ الْحَرْبُ أَنْ تُشَمّرُوا إلَى
بِلَادِكُمْ وَتَدْعُونَا وَإِيّاهُ فِي بِلَادِنَا وَلَا طَاقَةَ
لَنَا بِهِ مَعَنَا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ وَالْأَمْوَالُ. فَرَجَعَ
عِكْرِمَةُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ:
أَحْلِفُ بِاَللّهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي جَاءَ بِهِ نُعَيْمٌ حَقّ،
لَقَدْ غَدَرَ أَعْدَاءُ اللّهِ. وَأَرْسَلَتْ غطفان إليهم
(2/483)
مَسْعُودَ بْنَ
رُخَيْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ
فَأَجَابُوهُمْ بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَتْ
الْيَهُودُ حَيْثُ رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْهُمْ: نَحْلِفُ بِاَللّهِ
إنّ الْخَبَرَ الّذِي قَالَ نُعَيْمٌ لَحَقّ. وَعَرَفُوا أَنّ
قُرَيْشًا لَا تُقِيمُ فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ فَكّرَ أَبُو
سُفْيَانَ إلَيْهِمْ وَقَالَ إنّا وَاَللّهِ لَا نَفْعَلُ إنْ كُنْتُمْ
تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا. فَقَالَتْ الْيَهُودُ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوّلِ وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: الْخَبَرُ
مَا قَالَ نُعَيْمٌ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَقُولُ
الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ. وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ
هَؤُلَاءِ وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ وَاخْتَلَفَ
أَمْرُهُمْ فَكَانَ نُعَيْمٌ يَقُولُ: أَنَا خَذّلْتُ بَيْنَ
الْأَحْزَابِ حَتّى تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ وَأَنَا أَمِينُ
رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سِرّهِ.
فَكَانَ صَحِيحَ الْإِسْلَامِ بَعْدُ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ
مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا قَالَتْ
قُرَيْظَةُ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ مَا قَالَتْ قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْب لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ: أَيْنَ مَا وَعَدْتنَا
مِنْ نَصْرِ قَوْمِك ؟ قَدْ خَلّوْنَا وَهُمْ يُرِيدُونَ الْغَدْرَ
بِنَا قَالَ حُيَيّ: كَلّا وَالتّوْرَاةِ، وَلَكِنّ السّبْتَ قَدْ
حَضَرَ وَنَحْنُ لَا نَكْسِرُ السّبْتَ فَكَيْفَ نُنْصَرُ عَلَى
مُحَمّدٍ إذَا كَسَرْنَا السّبْتَ؟ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ
اُغْدُوا 1 عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِمِثْلِ حَرْقِ النّارِ.
وَخَرَجَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ
فِدَاءَكُمْ أَبِي وَأُمّي، إنّ قُرَيْشًا قَدْ اتّهَمَتْكُمْ
بِالْغَدْرِ وَاتّهَمُونِي مَعَكُمْ وَمَا السّبْتُ لَوْ كَسَرْتُمُوهُ
لِمَا قَدْ حَضَرَ مِنْ أَمْرِ عَدُوّكُمْ ؟ قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبُ
بْنُ أَسَدٍ، ثُمّ قَالَ: لَوْ قَتَلَهُمْ مُحَمّدٌ حَتّى لَا يَبْقَى
مِنْهُمْ أَحَدٌ مَا كَسَرْنَا سَبْتَنَا. فَرَجَعَ حُيَيّ إلَى أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ أَلَمْ أُخْبِرْك يا يَهُودِيّ أَنّ
قَوْمَك يُرِيدُونَ الْغَدْرَ ؟ قَالَ حُيَيّ: لَا وَاَللّهِ مَا
يُرِيدُونَ الْغَدْرَ وَلَكِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ يَوْمَ
الْأَحَدِ. فَقَالَ أَبُو سفيان:
ـــــــ
1 في ب: "عدوا على محمد".
(2/484)
وَمَا السّبْتُ
؟ قَالَ: يَوْمٌ مِنْ أَيّامِهِمْ يُعَظّمُونَ الْقِتَالَ فِيهِ
وَذَلِكَ أَنّ سَبْطًا مِنّا أَكَلُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السّبْتِ
فَمَسَخَهُمْ اللّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
لَا أَرَانِي أَسْتَنْصِرُ بِإِخْوَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ
ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ بَعَثْت عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي
جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: لَا نُقَاتِلُ حَتّى
تَبْعَثُوا لَنَا 1 بِالرّهَانِ مِنْ أَشْرَافِكُمْ. وَقَبْلَ ذَلِكَ
مَا جَاءَنَا غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ بِرِسَالَتِهِمْ. قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ أَحْلِفُ بِاَللّاتِي إنْ هُوَ إلّا غَدْرُكُمْ وَإِنّي
لَأَحْسَبُ أَنّك قَدْ دَخَلْت فِي غَدْرِ الْقَوْمِ قَالَ حُيَيّ:
وَالتّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ
مَا غَدَرْت وَلَقَدْ جِئْتُك مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ هُمْ أَعْدَى النّاسِ
لِمُحَمّدٍ وَأَحْرَصُهُمْ عَلَى قِتَالِهِ وَلَكِنْ مَا مُقَامُ
يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتّى يَخْرُجُوا مَعَك قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا
وَاَللّهِ وَلَا سَاعَةً لَا أُقِيمُ بِالنّاسِ انْتِظَارَ غَدْرِكُمْ.
حَتّى خَافَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ
فَخَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ حَتّى بَلَغَ الرّوْحَاءَ، فَمَا
رَجَعَ إلّا مُتَسَرّقًا لِمَا أَعْطَى كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ مِنْ
نَفْسِهِ لَيَرْجِعَن إلَيْهِ فَدَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ
حِصْنَهُمْ لَيْلًا وَيَجِدُ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدْ زَحَفَ إلَيْهِمْ سَاعَةَ وَلّتْ الْأَحْزَابُ.
فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي كَعْبٍ الْقُرَظِيّ
قَالَ كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ حِينَ
جَاءَهُ وَجَعَلَ كَعْبٌ يَأْبَى فَقَالَ حُيَيّ: لَا تُقَاتِلْ حَتّى
تَأْخُذَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِهَانًا
عِنْدَكُمْ. وَذَلِكَ مِنْ حُيَيّ خَدِيعَةً لِكَعْبٍ حَتّى يَنْقُضَ
الْعَهْدَ وَعَرَفَ أَنّهُ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ لَحَمَ الْأَمْرُ.
وَلَمْ يُخْبِر حُيَيّ قُرَيْشًا بِاَلّذِي قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ:
فَلَمّا جَاءَهُمْ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا
مَعَهُ السّبْتَ قَالُوا: لَا نَكْسِرُ السّبْتَ وَلَكِنْ يَوْمَ
الْأَحَدِ وَلَا نَخْرُجُ حَتّى تُعْطُونَا الرّهَانَ. فقال عكرمة: أي
ـــــــ
1 في ب: "تبعثوا إلينا".
(2/485)
رِهَانٍ ؟
قَالَ كَعْبٌ الّذِي شَرَطْتُمْ لَنَا. قَالَ وَمَنْ شَرَطَهَا لَكُمْ
؟ قَالُوا: حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ. فَأَخْبَرَ أَبَا سُفْيَانَ ذَلِكَ
فَقَالَ لِحُيَيّ يَا يَهُودِيّ، نَحْنُ قُلْنَا لَك كَذَا وَكَذَا ؟
قَالَ لَا وَالتّوْرَاةِ، مَا قُلْت ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بَلْ هُوَ الْغَدْرُ مِنْ حُيَيّ. فَجَعَلَ
حُيَيّ يَحْلِفُ بِالتّوْرَاةِ مَا قَالَ ذَلِكَ. حَدّثَنِي مُوسَى
بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَمّهِ قَالَ قَالَ كَعْبٌ يَا حُيَيّ، لَا
نَخْرُجُ حَتّى نَأْخُذَ مِنْ كُلّ أَصْحَابِك مِنْ كُلّ بَطْنٍ
سَبْعِينَ رَجُلًا رَهْنًا فِي أَيْدِينَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ حُيَيّ
لِقُرَيْشٍ وَلِغَطَفَانَ 1 وَقَيْسٍ، فَفَعَلُوا وَعَقَدُوا
بَيْنَهُمْ عَقْدًا بِذَلِكَ حَتّى شَقّ كَعْبٌ الْكِتَابَ. فَلَمّا
أَرْسَلَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ تَسْتَنْصِرُهُ قَالَ الرّهْنُ
فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا، لِمَا أَرَادَ اللّهُ - عَزّ
وَجَلّ -.
وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ:
أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ أَنْ ائْتُوا
فَإِنّا سَنُغِيرُ عَلَى بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ.
فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنّبِيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ عِنْدَ عُيَيْنَةَ
حِينَ أَرْسَلَتْ بِذَلِكَ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ
وَأَصْحَابِهِ فَأَقْبَلَ نُعَيْمٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا وَمَا أَرْسَلَتْ
بِهِ قُرَيْظَةُ إلَى الْأَحْزَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "فَلَعَلّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ".
فَقَامَ نُعَيْمٌ بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تِلْكَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ.
قَالَ: وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ. فَلَمّا
وَلّى مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ذَاهِبًا إلَى غَطَفَانَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللّهِ مَا هَذَا الّذِي قُلْت ؟ إنْ
كَانَ أَمْرٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى فَامْضِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا
رَأْيًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِك فَإِنّ شَأْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ هُوَ
أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا يُؤْثَرُ عَنْك. فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "بَلْ هُوَ رَأْيٌ
رَأَيْته،
ـــــــ
1 في ب: "وللغطفانيين".
(2/486)
الْحَرْبُ
خُدْعَةٌ" . ثُمّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي أَثَرِ نُعَيْمٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أَرَأَيْت الّذِي سَمِعْتنِي
قُلْت آنِفًا ؟ اُسْكُتْ عَنْهُ فَلَا تَذْكُرْهُ!". فَانْصَرَفَ مِنْ
عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتّى
جَاءَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ
لَهُمْ هَلْ عَلِمْتُمْ مُحَمّدًا قَالَ شَيْئًا قَطّ إلّا كَانَ حَقّا
؟ قَالُوا: لَا. قَالَ فَإِنّهُ قَالَ لِي فِيمَا أَرْسَلَتْ بِهِ
إلَيْكُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ " فَلَعَلّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ
بِذَلِكَ " ، ثُمّ نَهَانِي أَذْكُرَهُ لَكُمْ. فَانْطَلَقَ عُيَيْنَةُ
حَتّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ
نُعَيْمٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ لَهُمْ: إنّمَا أَنْتُمْ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَقَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: نُرْسِلُ إلَيْهِمْ الْآنَ فَنَسْأَلُهُمْ الرّهْنَ
فَإِنْ دَفَعُوا الرّهْنَ إلَيْنَا فَقَدْ صَدَقُونَا، وَإِنْ أَبَوْا
ذَلِكَ فَنَحْنُ مِنْهُمْ فِي مَكْرٍ. فَجَاءَهُمْ رَسُولُ أَبِي
سُفْيَانَ فَسَأَلَهُمْ الرّهْنَ لَيْلَةَ السّبْتِ فَقَالُوا: هَذِهِ
لَيْلَةُ السّبْتِ وَلَسْنَا نَقْضِي فِيهَا وَلَا فِي يَوْمِهَا
أَمْرًا، فَأَمْهِلْ حَتّى يَذْهَبَ السّبْتُ. فَخَرَجَ الرّسُولُ إلَى
أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَرُءُوسُ الْأَحْزَابِ
مَعَهُ هَذَا مَكْرٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَارْتَحِلُوا فَقَدْ
طَالَتْ إقَامَتُكُمْ. فَآذَنُوا بِالرّحِيلِ وَبَعَثَ اللّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ الرّيحَ حَتّى مَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَهْتَدِي لِمَوْضِعِ
رَحْلِهِ فَارْتَحَلُوا فَوَلّوْا مُنْهَزِمِينَ.
وَيُقَالُ إنّ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ أَنَا
آخُذُ لَك مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَبْعِينَ رَجُلًا رَهْنًا عِنْدَك
حَتّى يَخْرُجُوا فَيُقَاتِلُوا، فَهُمْ أَعْرَفُ بِقِتَالِ مُحَمّدٍ
وَأَصْحَابِهِ. فَكَانَ هَذَا الّذِي قَالَ إنّ أَبَا سُفْيَانَ طَلَبَ
الرّهْنَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ وَأَثْبَتُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَنَا
قَوْلُ نُعَيْمٍ الْأَوّلِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى
الْأَحْزَابِ فَقَالَ: "اللّهُمّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ
الْحِسَابِ اهْزِمْ الأحزاب؟ اللهم اهزمهم؟"
(2/487)
فَحَدّثَنِي
كُثَيّرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: دَعَا
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى
الْأَحْزَابِ فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ
الثّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ بَيْنَ
الظّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. قَالَ: فَعَرَفْنَا
السّرُورَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَا نَزَلَ بِي أَمْرٌ
غَائِظٌ مُهِمّ إلّا تَحَيّنْت تِلْكَ السّاعَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ
فَأَدْعُو اللّهَ فَأَعْرِفُ الْإِجَابَةَ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ يُحَدّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَبَلِ الّذِي عَلَيْهِ
الْمَسْجِدُ فَدَعَا فِي إزَارٍ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا، ثُمّ جَاءَهُ
مَرّةً أُخْرَى فَصَلّى وَدَعَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: صَلّى رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَرِيقِ الْقَابِلِ
الصّابّ عَلَى أَرْضِ بَنِي النّضِيرِ وَهُوَ الْيَوْمَ مَوْضِعُ
الْمَسْجِدِ الّذِي بِأَسْفَلَ الْجَبَلِ. وَيُقَالُ إنّهُ صَلّى فِي
تِلْكَ الْمَسَاجِدِ كُلّهَا الّتِي حَوْلَ الْمَسْجِدِ الّذِي فَوْقَ
الْجَبَلِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَحَادِيثِ.
وَقَالُوا: لَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ بَعَثَ اللّهُ الرّيحَ
فَقَلَعَتْ 1 وَتَرَكَتْ وَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلّي إلَى أَنْ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ
وَكَذَلِكَ فَعَلَ لَيْلَةَ قُتِلَ ابْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا حَزَبَهُ 2
الْأَمْرُ أَكْثَرَ الصّلَاةَ. قَالُوا: وَكَانَ حِصَارُ الْخَنْدَقِ
فِي قُرّ شَدِيدٍ وَجُوعٍ فَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَقُولُ
لَقَدْ رَأَيْتنَا فِي الْخَنْدَقِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ قَدْ
اجْتَمَعَ عَلَيْنَا البرد والجوع والخوف
ـــــــ
1 في ب: "ففعلت".
2 في ب: "أحزنه". وحزبه: أي أصابه غم. [النهاية، ج1، ص 222].
(2/488)
فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "مَنْ رَجُلٌ
يَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ جَعَلَهُ اللّهُ رَفِيقِي فِي
الْجَنّةِ" فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَنّةَ وَالرّجُوعَ فَمَا قَامَ مِنّا
رَجُلٌ ثُمّ عَادَ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَمَا قَامَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ مِنْ شِدّةِ الْجُوعِ وَالْقُرّ وَالْخَوْفِ. فَلَمّا رَأَى
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَا
يَقُومُ أَحَدٌ، دَعَانِي فَقَالَ: "يَا حُذَيْفَةُ!". قَالَ: فَلَمْ
أَجِدْ بُدّا مِنْ الْقِيَامِ حِينَ فَوّهَ1 بِاسْمِي، فَجِئْته
وَلِقَلْبِي وَجَبَانٌ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: "تَسْمَعُ كَلَامِي
مُنْذُ اللّيْلَةَ وَلَا تَقُومُ ؟". فَقُلْت: لَا، وَاَلّذِي بَعَثَك
بِالْحَقّ إنْ قَدَرْت عَلَى مَا بِي مِنْ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ.
فَقَالَ: "اذْهَبْ فَانْظُرْ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ وَلَا تَرْمِينَ
بِسَهْمٍ وَلَا بِحَجَرٍ وَلَا تَطْعَنُ بِرُمْحٍ وَلَا تَضْرِبَن
بِسَيْفٍ حَتّى تَرْجِعَ إلَيّ". فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِي
يَقْتُلُونِي وَلَكِنّي أَخَافُ أَنْ يُمَثّلُوا بِي. قَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لَيْسَ عَلَيْك
بَأْسٌ". فَعَرَفْت أَنّهُ لَا بَأْسَ عَلَيّ مَعَ كَلَامِ رَسُولِ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَوّلِ. ثُمّ قَالَ:
"اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ".
فَلَمّا وَلّى حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "اللّهُمّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ
تَحْتِهِ" فَدَخَلَ عَسْكَرَهُمْ فَإِذَا هُمْ يَصْطَلُونَ عَلَى
نِيرَانِهِمْ وَإِنّ الرّيحَ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ لَا تُقِرّ
لَهُمْ قَرَارًا 2 وَلَا بِنَاءً. فَأَقْبَلْت فَجَلَسْت عَلَى نَارٍ
مَعَ قَوْمٍ فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ احْذَرُوا الْجَوَاسِيسَ
وَالْعُيُونَ، وَلْيَنْظُرْ كُلّ رَجُلٍ جَلِيسَهُ. قَالَ: فَالْتَفَتّ
إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟ وَهُوَ عَنْ
يَمِينِي. فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَالْتَفَتّ إلَى
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ:
مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
ـــــــ
1 في ب: "نوه".
2 في ب: "لا تقر لهم قدرا".
(2/489)
إنّكُمْ
وَاَللّهِ لَسْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْخُفّ
وَالْكُرَاعُ وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو
قُرَيْظَةَ، وَبَلَغْنَا عَنْهُمْ الّذِي نَكْرَهُ وَقَدْ لَقِينَا
مِنْ الرّيحِ مَا تَرَوْنَ وَاَللّهِ مَا يَثْبُتُ لَنَا بِنَاءٌ وَلَا
تَطْمَئِنّ لَنَا قِدْرٌ فَارْتَحِلُوا فَإِنّي مُرْتَحِلٌ. وَقَامَ
أَبُو سُفْيَانَ وَجَلَسَ عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ ثُمّ
ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ
إلّا بَعْدَ مَا قَامَ. وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيّ " لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتّى
تَأْتِيَ " ثُمّ شِئْت، لَقَتَلْته. فَنَادَاهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي
جَهْلٍ إنّك رَأْسُ الْقَوْمِ وَقَائِدُهُمْ تَقْشَعُ وَتَتْرُكُ
النّاسَ ؟ فَاسْتَحْيَى أَبُو سُفْيَانَ فَأَنَاخَ جَمَلَهُ وَنَزَلَ
عَنْهُ وَأَخَذَ بِزِمَامِهِ وَهُوَ يَقُودُهُ وَقَالَ: ارْحَلُوا
قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَرْتَحِلُونَ وَهُوَ قَائِمٌ حَتّى خَفّ
الْعَسْكَرُ ثُمّ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَا أَبَا عَبْدِ
اللّهِ لَا بُدّ لِي وَلَك أَنْ نُقِيمَ فِي جَرِيدَةٍ 1 مِنْ خَيْلٍ
بِإِزَاءِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنّا لَا نَأْمَنُ أَنْ نُطْلَبَ
حَتّى يَنْفُذَ الْعَسْكَرُ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أُقِيمُ. وَقَالَ
لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَرَى يَا أَبَا سُلَيْمَانَ ؟
فَقَالَ: أَنَا أَيْضًا أُقِيمُ. فَأَقَامَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ فِي
مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ إلّا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ
عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ.
قَالُوا: وَذَهَبَ حُذَيْفَةُ إلَى غَطَفَانَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ
ارْتَحَلُوا، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ. وَأَقَامَتْ الْخَيْلُ حَتّى كَانَ السّحَرُ
ثُمّ مَضَوْا فَلَحِقُوا الْأَثْقَالَ وَالْعَسْكَرَ مَعَ ارْتِفَاعِ
النّهَارِ بِمَلَلَ فَغَدَوَا إلَى السّيّالَةِ. وَكَانَتْ غَطَفَانُ
لَمّا ارْتَحَلَتْ وَقَفَ مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ فِي خَيْلٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَوَقَفَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فِي خَيْلٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَوَقَفَ فُرْسَانٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فِي أَصْحَابِهِمْ
ثُمّ تَحَمّلُوا جَمِيعًا فِي طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ وَكَرِهُوا أَنْ
يَتَفَرّقُوا حَتّى
ـــــــ
1 هي التي جردت من معظم الحيل لوجه. [أساس البلاغة، ص 116].
(2/490)
أَتَوْا عَلَى
الْمِرَاضِ 1 ثُمّ تَفَرّقَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ إلَى مَحَالّهَا.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ - يَعْنِي
ابْنَ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ - قَالَ: لَمّا انْصَرَفَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ قَالَ: قَدْ عَلِمَ كُلّ ذِي عَقْلٍ أَنّ مُحَمّدًا لَمْ
يَكْذِبْ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ أَنْتَ أَحَقّ النّاسِ
أَلّا يَقُولَ هَذَا. قَالَ عَمْرٌو: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنّهُ نَزَلَ
عَلَى شَرَفِ أَبِيك وَقَتَلَ سَيّدَ قَوْمِك. وَيُقَالُ: الّذِي
تَكَلّمَ بِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَا نَدْرِي، لَعَلّهُمَا
قَدْ تَكَلّمَا بِذَلِكَ جَمِيعًا. قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ:
قَدْ عَلِمَ كُلّ حَلِيمٍ أَنّ مُحَمّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطّ. قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: إنّ أَحَقّ النّاسِ أَلّا يَقُولَ هَذَا
أَنْتَ. قَالَ وَلِمَ ؟ قَالَ: نَزَلَ عَلَى شَرَفِ أَبِيك، وَقَتَلَ
سَيّدَ قَوْمِك أَبَا جَهْلٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ
الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ مُحَاصَرَةُ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَنْدَقِ بِضْعَةَ
عَشَرَ يَوْمًا. وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ
اللّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ
عِشْرِينَ يَوْمًا. وَيُقَالُ خَمْسَةَ عَشَرِ يَوْمًا، وَهَذَا
أَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا. فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَنْدَقِ أَصْبَحَ وَلَيْسَ
بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعَسَاكِرِ قَدْ هَرَبُوا وَذَهَبُوا.
وَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الثّبَتُ أَنّهُمْ انْقَشَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ وَلَمّا أَصْبَحُوا
أَذِنَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِانْصِرَافِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَخَرَجُوا
مُبَادِرِينَ مَسْرُورِينَ بِذَلِكَ. وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَعْلَمَ بَنُو قُرَيْظَةَ
رَجْعَتَهُمْ 2 إلَى مَنَازِلِهِمْ فَأَمَرَ بِرَدّهِمْ وَبَعَثَ مَنْ
يُنَادِي فِي أثرهم فما
ـــــــ
1 المراض: موضع بناحية الطرف على ستة وثلاثين ميلا من المدينة. [وفاء
الوفا، ج2، ص 370].
2 في ب: "حب رجعتهم".
(2/491)
رَجَعَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ. فَكَانَ مِمّنْ يَرُدّهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ،
أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
عَبْدُ اللّهِ فَجَعَلْت أَصِيحُ فِي أَثَرِهِمْ فِي كُلّ نَاحِيَةٍ
إنّ رَسُولَ اللّهِ أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا، فَمَا رَجَعَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْقُرّ وَالْجُوعِ. فَكَانَ يَقُولُ كَرِهَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى
سُرْعَتَهُمْ وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِقُرَيْشٍ عُيُونٌ. قَالَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَرُدّهُمْ فَجَعَلْت أَصِيحُ بِهِمْ فَمَا
يَرْجِعُ أَحَدٌ، فَانْطَلَقْت فِي أَثَرِ بَنِي حَارِثَةَ فَوَاَللّهِ
مَا أَدْرَكْتهمْ حَتّى دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَلَقَدْ صِحْت فَمَا
يَخْرُجُ إلَيّ أَحَدٌ مِنْ جَهْدِ الْجُوعِ وَالْقُرّ فَرَجَعَتْ إلَى
النّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَاهُ فِي بَنِي
حَرَامٍ مُنْصَرِفًا، فَأَخْبَرْته فَضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي وَجْزَةَ
قَالَ: لَمّا مَلّتْ قُرَيْشٌ الْمُقَامَ وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ،
وَضَاقُوا بِالْخَنْدَقِ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى طَمَعٍ أَنْ
يُغِيرَ عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ ، كَتَبَ كِتَابًا 1 فِيهِ:
بِاسْمِك اللّهُمّ فَإِنّي أَحْلِفُ بِاَللّاتِي وَالْعُزّى، لَقَدْ
سِرْت إلَيْك فِي جَمْعِنَا، وَإِنّا نُرِيدُ أَلّا نَعُودَ إلَيْك
أَبَدًا حَتّى نَسْتَأْصِلَك، فَرَأَيْتُك2 قَدْ كَرِهْت لِقَاءَنَا،
وَجَعَلْت مَضَايِقَ وَخَنَادِقَ فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ عَلّمَك هَذَا؟
فَإِنْ نَرْجِعْ عَنْكُمْ فَلَكُمْ مِنّا يَوْمٌ كَيَوْمِ أُحُدٍ،
تُبْقَرُ فِيهِ النّسَاءُ. وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ أَبِي أُسَامَةَ
الْجُشَمِيّ فَلَمّا أَتَى بِالْكِتَابِ دَعَا رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ
قُبّتَهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَتَبَ إلَيْهِ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "مِنْ مُحَمّدٍ
رَسُولِ اللّهِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ... أَمَا بَعْدُ
فَقَدِيمًا غَرّك بِاَللّهِ الْغَرُورُ أَمّا مَا ذَكَرْت أَنّك سِرْت
إلَيْنَا فِي جَمْعِكُمْ وَأَنّك لا تريد
ـــــــ
1 أي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 في ب: "فرأيتكم".
(2/492)
أَنْ تَعُودَ
حَتّى تَسْتَأْصِلَنَا، فَذَلِكَ أَمْرٌ اللّهُ يَحُولُ بَيْنَك
وَبَيْنَهُ وَيَجْعَلُ لَنَا الْعَاقِبَةَ حَتّى لَا تَذْكُرَ اللّاتِي
وَالْعُزّى. وَأَمّا قَوْلُك: " مَنْ عَلّمَك الّذِي صَنَعْنَا مِنْ
الْخَنْدَقِ " فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى أَلْهَمَنِي ذَلِكَ لِمَا
أَرَادَ مِنْ غَيْظِك بِهِ وَغَيْظِ أَصْحَابِك، وَلَيَأْتِيَن عَلَيْك
يَوْمٌ تُدَافِعُنِي بِالرّاحِ وَلْيَأْتِيَن عَلَيْك يَوْمٌ أَكْسِرُ
فِيهِ اللّاتِي، وَالْعُزّى، وَإِسَافَ وَنَائِلَةَ وَهُبَلَ حَتّى
أُذَكّرُك ذَلِكَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: فَذَكَرْت ذَلِكَ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنّ فِي
الْكِتَابِ: "وَلَقَدْ عَلِمْت أَنّي لَقِيت أَصْحَابَك بِأَحْيَاءَ 1
وَأَنَا فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ فَمَا حَصَرَ أَصْحَابُك مِنّا شَعْرَةً
وَرَضُوا بِمُدَافَعَتِنَا بِالرّاحِ. ثُمّ أَقْبَلْت فِي عِيرِ
قُرَيْشٍ حَتّى لَقِيت قَوْمِي، فَلَمْ تَلْقَنَا، فَأَوْقَعْت
بِقَوْمِي وَلَمْ أَشْهَدْهَا مِنْ وَقْعَةٍ. ثُمّ غَزَوْتُكُمْ فِي
عُقْرِ دَارِكُمْ فَقَتَلْت وَحَرَقْت - يَعْنِي غَزْوَةَ السّوِيقِ -
ثُمّ غَزَوْتُك فِي جَمْعِنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَكَانَتْ وَقْعَتُنَا
فِيكُمْ مِثْلَ وَقْعَتِكُمْ بِنَا بِبَدْرٍ ثُمّ سِرْنَا إلَيْكُمْ
فِي جَمْعِنَا وَمَنْ تَأَلّبَ إلَيْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ،
فَلَزِمْتُمْ الصّيَاصِيَ 2 وَخَنْدَقْتُمْ الْخَنَادِقَ ".
ـــــــ
1 أحياء: اسم ماء أسفل من ثنية المرة برابغ. [وفاء الوفا، ج2، ص 344].
2 الصياصي: جمع صيصة، وهي الحصن وكل ما امتنع به. [القاموس المحيط، ج2،
ص 207].
(2/493)
بَابُ مَا
أَنَزَلَ اللّهُ مِنْ الْقُرْآنِ في الخندق
حدثني مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ، قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي شَأْنِ الْخَنْدَقِ
يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ وَكِفَايَتَهُ عَدُوّهُمْ بَعْدَ سُوءِ الظّنّ
مِنْهُمْ وَمَقَالَةِ مَنْ تَكَلّمَ بِالنّفَاقِ فَقَالَ: {يَا أَيّهَا
الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ
تَرَوْهَا} 1. قَالَ: وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي أَتَتْ
الْمُؤْمِنِينَ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ وَأَسَدًا وَسُلَيْمًا،
وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ
الرّيحَ. وَذَكَرَ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 2 وَكَانَ الّذِينَ
جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَاَلّذِينَ جَاءُوا
مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَسُلَيْمٌ.
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا
شَدِيدًا} 3 {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُورًا}
4 قَوْلُ مُعَتّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ
رَأْيِهِ. {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا
مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ
يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا} 5 يَقُولُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَمَنْ
كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ. {وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} 6 مِنْ نَوَاحِيهَا {ثُمّ سُئِلُوا
الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُوا بِهَا إِلّا يَسِيرًا}
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِنْ
قَبْلُ لَا يُوَلّونَ الْأَدْبَارَ} 7 إلَى قَوْلِهِ تعالى:
ـــــــ
1 سورة 33 الأحزاب 9.
2 سورة 33 الأحزاب10.
3 سورة 33 الأحزاب 11.
4 سورة 33 الأحزاب 12.
5 سورة 33 الأحزاب 13.
6 سورة 33 الأحزاب14.
7 سورة 33 الأحزاب 15.
(2/494)
{وَإِذًا لَا
تُمَتّعُونَ إِلّا قَلِيلًا}، كَانَ ثَعْلَبَةُ عَاهَدَ اللّهَ يَوْمَ
أُحُدٍ لَا يُوَلّي دُبُرًا أَبَدًا بَعْدَ أُحُدٍ. ثُمّ ذَكَرَ أَهْلَ
الْإِيمَانِ حِينَ أَتَاهُمْ الْأَحْزَابُ فَحَصَرُوهُمْ
وَظَاهَرَتْهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ فِي الْخَنْدَقِ فَاشْتَدّ
عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ فَقَالُوا لَمّا رَأَوْا ذَلِكَ: {هَذَا مَا
وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ} 1 وَذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ
وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ
الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ
نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} 2 وَفِي قَوْلِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} 3 يَقُولُ
قُتِلَ أَوْ أُبْلِيَ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أَنْ يُقْتَلَ أَوْ
يُبْلَى، {وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلًا} مَا تَغَيّرَتْ نِيّاتُهُمْ.
{لِيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ
الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ
غَفُورًا رَحِيمًا} 4 .
حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُجَاهَدٍ، قَالَ نَظَرَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى طَلْحَةَ
بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ فَقَالَ: "هَذَا مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ".
ـــــــ
1 سورة 33 الأحزاب 22.
2 سورة 2 البقرة 214.
3 سورة 33 الأحزاب 23.
4 سورة 33 الأحزاب 24.
(2/495)
ذِكْرُ مَنْ
قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ
مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، رَمَاهُ حِبّانُ
بْنُ الْعَرِقَةِ فَمَاتَ وَيُقَالُ رَمَاهُ أَبُو أُسَامَةَ
الْجُشَمِيّ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ
الْأَشْهَلِ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ.
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ الْأَشْهَلِيّ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
عويف فقتله.
(2/495)
وَمِنْ بَنِي
سَلِمَةَ الطّفَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ قَتَلَهُ وَحْشِيّ، وَكَانَ
وَحْشِيّ يَقُولُ أَكْرَمَ اللّهُ بِحَرْبَتِي حَمْزَةَ وَالطّفَيْلَ
وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، قَتَلَهُ
هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ. وَمِنْ بَنِي دِينَارٍ
كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ وَكَانَ قَدْ اُرْتُثّ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ
فَصَحّ حَتّى قُتِلَ فِي الْخَنْدَقِ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ
الْخَطّابِ. فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتّةُ
نَفَرٍ.
(2/496)
ذِكْرُ مَنْ
قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَيْسِ
بْنِ عَبْدِ وُدّ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
الْمَخْزُومِيّ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَيُقَالُ
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَمِنْ بَنِي عَبْدِ
الدّارِ عُثْمَانُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ مَاتَ
بِمَكّةَ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ
ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
ذِكْرُ مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي الْخَنْدَقِ.
قَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ: هَكَذَا كَانَ...
(2/496)