ج / 2 ص -114-
قال: ثم كان الرجل يلقي الرج أو الرجلين أو
أكثر من ذلك أو أقل فيقتتلون؛ فربما قتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية
أخو بني الديل بن بكر أبا خداش بن زهير بالصفاح1؛ فقال أخو زهير بن
خداش: جئت معتمرا، فقال: لا يلقي الدين إلا أن قلت معتمرا، فقتله ثم
ندم، فقال:
اللهم إن العامري المعتمر
لم آت فيه عذر المعتذر
ثم إن الناس تداعوا إلى السلم على أن يدي الفضل من القتلى
التي فيهم؛ أي الفريقين أفضل على الآخر، فتواعدوا عكاظا ليتعادوا
القتلى، وتعاقدوا وتواثقوا أن يتموا على ذلك وجعلوا بينهما مواعدا
يلتقون فيه لذلك؛ فأبي ذلك وهب بن معتب، وخالف قومه، وجعل لا يرضي
بذلك، حتى يدركوا ثأرهم، فقال في ذلك أمية بن جدعان بن الأشكر:
المرء وهب وهب آل معتب
مل الغواة وأنت لما تملل
يسعى يعوذها بحر وقودها
وإذا تعابى صلح قومك فأعمل
وهي في شعره، واندس وهي حتى مكرت هوزان بكنانة وهم على رأس
الصلح؛ فبعثت خيلا عليها سلمة بن مشعل البكائي، وخالد بن هوذة، فيهم
ناس من بني هلال، ورئيسهم ربيعة بن أبي ظبيان، وناس من بني نصر، عليهم
مالك بن عوف، فأغاروا على بني ليث بصحراء الغميم وهم غارون فقاتلوهم،
وجعل مالك يقاتل ويرتجز، وهو أمرد يومئذ، يقول:
أمر يبدي حمله شيب اللحا
وهو أول يوم ذكر فيه مالك بن عوف
فقتلت بنو مدلج يومئذ عبيد بن عوف البكائي، وسبيع بن أبي
المؤمل من بني محارب، ثم انهزمت بنو ليث، فاستحر القتل ببني الملوح بن
يعمر، فقتلوا منهم ثلاثين رجلا، وساقوا نعما، ثم أقبلوا، فعرضت لهم
خزاعة وطمعوا فيهم فقاتلوهم؛ فلما رأوا أنه لا بد لهم منهم، وقالوا:
عرضونا من غنيمتكم عراضة، فأبوا، فخلوا سبيلهم.
فقال مالك بن عوف:
نحن حمينا الخيل من بطن لية
وخلدان فينا جافينات ووقعا
تواعد ضبطا ذو خزاعة حزبنا
وما حزت ضبطا يغلب مضجعا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الصفاح" موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسار الداخل إلى مكة من
مشاش، جبل في وسط عرفة متصل بجبال تصل إلى مكة "معجم البلدان 3/ 412
و5/ 131".
ج / 2 ص -115-
ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح، ورهنوا رهنا
بوفاء بديات من كان له الفضل في القتلى وتم الصلح، ووضعت الحرب
أوزارها... انتهى.
وكان آخر أمر الفجار ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وحدثني محمد بن
حسن عن حماد بن موسى عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: حدثني حكيم بن
حزام قال: لما توافت كنانة، وقيس، من العام القابل، بعكاظ، بعد العام
الأول الذي كانوا التقوا فيه، ورأس الناس حرب، خرج معه عتبة بن ربيعة،
وهو يومئذ في حجر حرب فمنعه أن يخرج، وقال يا بني أنا بك، فاقتاد
راحلته، وتقدم في أول الناس فلم يدر به حرب إلا وهوفي العسكر، قال حكيم
بن حزام: فنزلنا عكاظ، ونزلت هوزان بجمع كثير؛ فلما أصبحنا ركب عتبة
جملا ثم صاح في الناس: يا معشر مضر، علام تفانون بينكم؟ هلم إلى الصلح
قالت هوزان، وماذا تعرض. قال أعرض أن أعطي دية من أصيب، قالوا: ومن
أنت؛ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قالوا: قد قبلنا، فاصطلحج
الناس، ورضوا بما قال عتبة: وأعطوهم أربعين رجلا من فتيان قريش، وكنت
فيهم؛ فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم رغبوا في العفو،
فأطلقوهم.
قال الزبير: وسمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول: لم يسد مملتق من قريش
إلا عتبة بن ربيعة، وأبو طالب بن عبد المطلب، فإنهما سادا بغير مال...
انتهى.
وكلام مغلطاي يقتضي أن أيام هذه الفجار ستة؛ لأنه في "سيرته" -على ما
أخبرت به عنه: وأيام الفجار أربعة، قال السهيلي2، والصواب أنها ستة...
انتهى.
ووقع في كلام الفاكهي ما يقتضي أنه كان قبل الفجار الذي أثاره البراض
فجار آخر، وذكر الفاكهي شيئا من خبره، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة،
ونص ما ذكره الفاكهي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 188، 189.
2 الروض الأنف 1/ 209.
ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش وقيس
عيلان وسبب ذلك:
حدثنا عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله،
عن محمد بن إسحاق، قال: ثم هاج يوم الفجار الأول بين قريش، ومن كان
إلفها من كنانة كلها، وبين قيس عيلان؛ وسببه أن رجلا من بني كنانة كان
عليه دين لرجل من بني نضر بن معاوية بن بكر بن هوزان، فواعده به
الكناني، فوافاه النصري بسوق عكاظ بقرد معه، فوقفه بالسوق، فقال: من
يبيعني مثل هذا بمال لي على فلان بن فلان الكناني؛ وإنما أراد ذلك
النضري الكناني وقومه، فمر به رجل من كنانة؛ فضربه القرد بالسيف أنفا
مما يقول النضري، فصرخ
ج / 2 ص -116-
النضري في قيس، والكناني في بني كنانة؛
فتجاوز الناس حتى كادوا أن يكون بينهم قتال ثم تداعوا بمنى للصلح، وسرى
الخطب من أنفسهم، فتراجع الناس وكف بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم إلا
ذلك.
ويقال: بل قعد قتيبة من العرب من قريش غدية إلى امرأة من بني عامر ذات
هيبة، عليها برفع وهي في درع فضل -وكذلك نساء العرب يفعلن- فأعجبهم ما
رأوه من حسن هيئتها؛ فقالوا لها: يا أمة الله أسفري لنا عن وجهك ننظر
إليك، فأبت عليهم، فقام غلام منهم فشبك درعها إلى ظهرها بشوكة -والمرأة
لا تدري- فلما قامت انكشف الدرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا أن
ننظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك!! فصاحت المرأة في بني عامر: فضحت
فتحاور الناس ثم ترادوا، ورأوا أن الأمر دون1.
ويقال: بل قعد رجل من بني غفار بني خليل بن حمزة يقال له: أبو معشر،
كان عارفا متصنعا في نفسه بسوق عكاظ، ومد رجله وقال:
أنا ابن مدركة بن خندف
من تضعفوا في عينه لا تطرف
ومن تكونوا قومه يغطرف
أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أكرم مني فليضربها بالسيف.
فضربها رجل من قيس فخدشها خدشا غير كبير، فتحاور الناس عند ذلك حتى كاد
أن يكون بينهم قتال.
قال: ثم تراجع الناس ورأوا أنه لم يكن بينهم شيء كبير، فكل هذا الحديث
يقال في يوم الفجار2، والله أعلم أي ذلك كان؟
قال عبد الملك: قال زياد: قال ابن إسحاق: وقد قال بعض الشعراء شعرا، قد
ذكر فيه عكاظ وما أصابوا من بني كنانة وضرب رجل أبي معشر فقال:
عمرك الله سائلي أي قوم
معشري في سوالف الأعصار
نحن كنا الملوك من أهل نجد
زمن جزناه بميل الدمار
ومنعنا الحجاز من كل حي
وقمعنا الفجار يوم الفجار
وضربنا به كنانة ضربا
حالفوا بعده سني العسار
وتركنا سراة خثعم محا
كذا تتويج أهل الدثار
فاستغاثوا إلى العريف فقلنا
أخرجوهم من العريف بثار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأغاني 22/ 6.
2 الوفا بأحوال المصطفى 1/ 135، السيرة الحلبية 1/ 128، إتحاف الورى 1/
103، تاريخ الخميس 1/ 255، الأغاني 22/ 59.
ج / 2 ص -117-
قال زياد في حديثه هذا: وقال ابن إسحاق،
فأجابه أمية بن الأشكر بشعر1، فقال:
أبلغا حمة الغريب أنا
قد قتلنا ميراثكم في الفجار
وسقيناكم المنية صرفا
ودهشنا بالنهب والإذكار
وطحنا مضر فدارت رحانا
فاستدلوا الباء
والأعشار
خرجوا من ديارهم سراعا
إلينا فرددته للديار
وضربوا هوازن بعكاز
مثل ضرب الصحيفة
وطلعنا بعد تعود إليها
سحب الخيل ضم للمغمار
فتركناهم هنالك صرعى
وحلت عن قلوبهم للفرار
رفعت عن خجولها كل أثنى
فصلاها هاربا بغير إزار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183-185، سمط النجوم العوالي 1/ 193.
ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش:
ذكر الزبير بن بكار في كتاب "النسب" شيئا من خبر الأحابيش ومحالفتهم مع
قريش لأنه قال: وحدثني محمد بن الحسن قال: تحالفت قريش والأحابيش
الأحلاف؛ فصاروا حلفاء لقريش دون بني كنانة، والحيا والمصطلق من خزاعة
كلها إلا الحيا والمصطلق مع بني مدلج. قال: وكان تحالف قريش والأحابيش
على الركن يقوم رجلان أحدهما من قريش والآخر من الأحابيش فيضعفان
أيديهما على الركن فيحلفان بالله القائل بحرمة هذا البيت، والمقام،
والركن، والشهر الحرام، على النصر على الخلق جميعا حتى يرث الله الأرض
ومن عليها، وعلى التعاقل التعاون وعلى من عاداهم من الناس جميعا ما بل
بحر صوفه، وما قام حراء وثبير، وما طلعت الشمس من مشرقها، وما غربت من
مغربها، إلى يوم القيامة؛ فسموا عند ذلك الأحابيش لاجتماعهم... انتهى،
والله أعلم.