البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل ؟ فقالوا هو بالطائف مع ثقيف فقال " أخبروه إنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل " فلما بلغ ذلك مالكا انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة (4).
أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد (5) وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند (6) فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد (7) قال واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وتلك القبائل ثمالة وسلمة
__________
(1) في ابن هشام: ابن جارية.
وفي الواقدي: أعطاه خمسين بعيرا.
(2) لم يذكره ابن إسحاق في السيرة، ولا الواقدي.
وذكر الواقدي: قيس بن عدي فيمن أعطوا مائة.
(3) قال السهيلي: نسب ابن إسحاق جعيلا إلى ضمرة، وهو معدود في غفار لان غفارا هم بنو مليل بن ضمرة.
(4) جزم الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ركب من الجعرانة.
(5) اجتدى: أي طلب منه الجدوى، وهو العطية (شرح أبي ذر).
(6) عردت: عوجت (قاله أبو ذر)، وفي الواقدي بالمشرفي بدل بالسمهري.
قال أبو عبيدة: نسب السيوف المشرفية إلي مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف.
قال في الصحاح: يقال سيف مشرفي ولا يقال مشارفي.
(7) الهباءة: الغبار.
الخادر: الاسد الداخل في خدره أي عرينه.
والخدر هنا غابة الاسد.
(*)

(4/414)


وفهم (1)، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم.
وقال البخاري: ثنا موسى بن اسماعيل ثنا جرير بن حازم ثنا الحسن حدثني عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا عليه فقال " إني أعطى قوما أخاف هلعهم وجزعهم وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب " قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم، زاد أبو عاصم عن جرير: سمعت الحسن ثنا عمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي - فقسمه بهذا.
وفي رواية للبخاري قال: أتي رسول الله بمال - أو بشئ - فأعطى رجالا وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد " فذكره مثله سواء.
تفرد به البخاري وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال فيما كان من أمر الانصار وتأخرهم عن الغنيمة: ذر الهموم (2) فماء العين منحدر * سحا إذا حفلته عبرة درر وجدا بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور (3) دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزرا وشر وصال الواصل النزر وائت الرسول وقل يا خبر مؤتمن * للمؤمنين إذا ما عدد (4) البشر علام تدعى سليم وهي نازحة * قدام قوم هموا آووا وهم نصروا (5) سماهم الله أنصارا بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا وما ضجروا والناس إلب علينا فيك ليس لنا (6) * إلا السيوف وأطراف القناوزر تجالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع ما توحي به السور ولا تهز جناة الحرب نادينا (7) * ونحن حين تلظى نارها سعر كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل الظفر ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطرا أحزابها مضر
فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثارا وكل الناس قد عثروا
__________
(1) قال الواقدي: هوازن وفهم.
وقال السهيلي: " والمعروف في قبائل قيس سلمة بالفتح.
إلا أن يكونوا من الازد، فإن ثمالة المذكورين معهم حي من الازد، وفهم من دوس وهم من الازد أيضا.
".
(2) في ابن هشام: زادت هموم.
(3) ذنن، وفي ديوانه دنس.
قال أبو ذر: ذنن القذر.
وتروى دنن: معناه تطامن بالصدر.
(4) في الديوان: عدل.
(5) في الديوان: أمام بدلا من قدام.
(6) في الديوان: ثم ليس لنا.
(7) صدره في الديوان: ولا يهر جناب الحرب مجلسنا، وما قبله غير مذكور في الديوان.
(*)

(4/415)


اعترض بعض أهل الشقاق على الرسول قال البخاري: ثنا قبيصة ثنا سفيان عن الاعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة حنين قال رجل من الانصار: ما أراد بها وجه الله، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه ثم قال " رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ".
ورواه مسلم من حديث الاعمش به.
ثم قال البخاري ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن منصور، عن ابي وائل عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا، أعطى الاقرع بن حابس مائة من الابل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجه الله.
فقلت: لاخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، [ فأخبرته ] (1) فقال " رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ".
وهكذا رواه من حديث منصور عن المعتمر به.
وفي رواية البخاري: فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، فقلت والله لاخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته فقال " من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ ! رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " (2).
وقال محمد
ابن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم، أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو ابن العاص، وهو يطوف بالبيت، معلقا نعله بيده، فقلنا له هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ؟ قال: نعم جاء رجل من بني تميم، يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أجل فكيف رأيت ؟ " قال لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ " فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟ فقال " دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل، فلا يوجد شئ ثم في القدح فلا يوجد شئ، ثم في الفوق، (3) فلا يوجد شئ سبق الفرث والدم " وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، قال: " ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل " فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل
__________
(1) من صحيح البخاري.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة حنين، وفي كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم.
ورواه مسلم في الزكاة (46) باب.
الحديث (140).
(3) القدح: السهم.
والفوق: طرف السهم الذي يباشر الوتر.
والخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 139.
(*)

(4/416)


هذا المنافق ؟ فقال " معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية " (1) ورواه مسلم عن محمد بن رمح عن الليث.
وقال أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال اعدل، فقال " لقد شقيت إذ لم
أعدل " (2) ورواه البخاري عن مسلم بن ابراهيم عن قرة بن خالد السدوسي به.
وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبت وخسرت، إذ لم أعدل فمن يعدل ؟ " فقال عمر ابن الخطاب: يا رسول الله إيذن لي فيه فأضرب عنقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شئ ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شئ ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدر در ويخرجون على حين فرقة من الناس " قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فألتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت (3).
ورواه مسلم أيضا من حديث القاسم بن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد به نحوه.
مجئ أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة قال ابن اسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هوازن " إن قدرتم على نجاد (4) - رجل من بني سعد بن بكر - فلا يفلتنكم " وكان قد أحدث حدثا، فلما
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة " (47) باب ذكر الخوارج الحديث (142) ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 185 - 186.
(2) مسند الامام أحمد ج 3 / 332.
(3) أخرجه البخاري في كتاب المناقب (25) باب علامات النبوة في الاسلام.
وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة (47) باب ذكر الخوارج (الحديث 148).
في الحديث: الرصاف: مدخل النصل من السهم.
والنفي: السهم بلا نصل ولا ريش.
والقذذ: ريش السهم.
وتدردر: تضطرب وتتحرك وتذهب وتجئ.
(4) في ابن هشام والواقدي بجاد، وكان قد أتاه رجل مسلم، فأخذه بجاد فقطعه عضوا عضوا ثم حرقه بالنار.
فكان قد عرف جرمه فهرب، فأخذته الخيل، ثم ضموه إلى الشيماء: وبعد رحيل الشيماء إلى قومها عادت وكلمته صلى الله عليه وسلم أن يهبها بجاد ويعفو عنه ففعل.
مغازي الواقدي: 3 - 913.
(*)

(4/417)


ظفر به المسلمون ساقوه وأهله وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال: فعنفوا عليها في السوق فقالت للمسلمين: تعلمون والله إني لاخت صاحبكم من الرضاعة ؟ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي - هو أبو وجزة - قال: فلما انتهي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة، قال: " وما علامة ذلك ؟ " قالت عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها وقال " إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت ؟ " قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما يقال له مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية (1).
وروى البيهقي من حديث الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا أختك أنا شيماء بنت الحارث، فقال لها " إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى " قال: فكشف عن عضدها فقالت: نعم يا رسول الله [ حملتك ] (2) وأنت صغير فعضضتني هذه العضة، قال: فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم قال " سلي تعطي واشفعي تشفعي ".
وقال البيهقي: أنبأ أبو نصر ابن قتادة، أنبأ عمرو بن اسماعيل بن عبد السلمي ثنا مسلم (3) ثنا أبو عاصم ثنا جعفر بن يحيى ابن ثوبان أخبرني عمي عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره قال: كنت غلاما أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعما بالجعرانة، قال: فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت: من
هذه ؟ قالوا أمه التي أرضعته (4).
هذا حديث غريب ولعله يريد أخته وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية وإن كان محفوظا فقد عمرت حليمة دهرا فان من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك، وقد ورد حديث مرسل فيه أن أبو يه من الرضاعة قدما عليه والله أعلم بصحته.
قال أبو داود في المراسيل (5) ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 4 / 100 - 101.
(2) من الدلائل: وانظر.
الخبر فيها ج 5 / 199 - 200.
(3) في الدلائل: أخبرنا نصر بن قتادة، قال: أنبأنا أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي، قال: أنبأنا أبو مسلم.
(4) دلائل البيهقي 5 / 199 وأخرجه أبو داود في كتاب الادب - باب في بر الوالدين 4 / 337.
وقال في بذل المجهود (20 / 81): هي حليمة السعدية، وبه جزم السيوطي في شرح الترمذي.
(5) الحديث أخرجه أبو داود في الادب 4 / 337 الحديث 5145 في باب: بر الوالدين.
(*)

(4/418)


ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه، وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر وهم شرذمة من هوازن، فقال خطيبهم زهير بن صرد: يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك فامنن علينا من الله عليك وقال فيما قال: أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثا خصوصا وعموما.
وقد ذكر الواقدي: عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل عن أبيه قال: كان
النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالاسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الاخوة، وبنو العم.
ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أنضير ؟ " قلت لبيك، قال " هلك لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟ " قال فأقبلت إليه سريعا فقال " قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع " قلت قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم زده ثباتا " قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتا في الدين، وتبصرة بالحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداه " (1).
عمرة الجعرانة في ذي القعدة قال الامام أحمد: ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا: ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات.
عمرته زمن الحديبية وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته (2).
ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: إعتمر رسول الله
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 205.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (35) باب الحديث (4148) ومسلم في كتاب الحج (35) باب.
الحديث (217).

(4/419)


صلى الله عليه وسلم أربع عمر، عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع
حجته.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي عن عمرو بن دينار به.
وحسنه والترمذي.
وقال الامام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثنا حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال: إعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الجحر.
(الحجر) غريب من هذا الوجه وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة وإن أراد ابتداء الاحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لانه صد عنها ولم يفعلها.
والله أعلم.
قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية وذلك فيما قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به، قال وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا ؟ قال من رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي، قال اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافع: ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ولو اعتمر لم يخف على عبد الله، وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر به.
ورواه مسلم أيضا عن أحمد بن عبدة الضبي عن حماد ابن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها.
وهذا غريب جدا عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم.
وهذا أيضا كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح عن عروة عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وقالت: يغفر الله لابي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط.
وقال الامام أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا الاعمش، عن مجاهد قال سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي
شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال في رجب فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها وما اعتمر عمرة قط إلا في ذي القعدة، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث جرير عن منصور عن مجاهد به نحوه.
ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث زهير عن أبي اسحاق عن مجاهد سئل ابن عمركم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال مرتين، فقالت عائشة لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.
قال الامام أحمد ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور عن مجاهد قال: دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة وأناس

(4/420)


يصلون الضحى، فقال عروة: أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ؟ قال بدعة، فقال له عروة أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله ؟ فقال أربعا إحداهن في رجب، قال وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعا إحداهن في رجب ؟ فقلت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط (1).
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن الحسن بن موسى عن شيبان عن منصور وقال حسن صحيح غريب.
وقال الامام أحمد: ثنا روح ثنا ابن جريج أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم عن عبد العزيز بن عبد الله عن مخرش الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا حين أمسى معتمرا فدخل مكة ليلا يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس (2).
ورواه الامام أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك وهو من إفراده والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها والله أعلم.
ثم وهم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف وقسم غنائم حنين، وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير قائلا: حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي
شيبة، ثنا محمد بن الحسن الاسدي ثنا ابراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير مولى عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم إعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال فإنه غريب جدا وفي إسناده نظر والله أعلم.
وقال البخاري: ثنا يعقوب بن ابراهيم، ثنا اسماعيل، ثنا ابن جريج أخبرني عطاء أن صفوان ابن يعلى بن أمية أخبره أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه، قال فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه إذ جاءه اعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده، أن تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سرى عنه فقال " أين الذي يسألني عن العمرة آنفا ؟ " فالتمس الرجل فأتي به، قال " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " ورواه مسلم من حديث ابن جريج وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما عن صفوان بن يعلى ن أمية به.
وقال الامام أحمد: ثنا أبو أسامة، أنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة ودخل في العمرة من كدى.
وقال أبو داود: ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (ج 2 / 206) ومسلم في صحيحه في كتاب الحج، الحديث (220) (*).

(4/421)


الجعرانة فرملوا بالبيت ثلاثا ومشوا أربعا وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى.
تفرد به أبو داود ورواه أيضا وابن ماجه من حديث ابن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس مختصرا.
وقال الامام: أحمد ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوس أن ابن عباس أخبره أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة.
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.
ورواه مسلم أيضا: من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن
طاوس، عن ابن عباس عن معاوية به.
ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه به.
وقال عبد الله بن الامام أحمد: حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن ابن عباس عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل خرجوا منها، وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الايام، وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا والله تعالى أعلم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا وأمر ببقاء (1) الفئ فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.
قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الاعراب فيما بين مكة والمدينة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل (2) يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذا مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.
وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهما فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد.
قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة وقدم المدينة في بقية ذي القعدة أو في أول ذي الحجة.
قال ابن هشام: قدمها لست (3)
__________
(1) في ابن هشام: ببقايا.
(2) في الواقدي: أنه خلف معاذ وأبا موسى الاشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين.
(3) في الواقدي: لثلاث بقين من ذي القعدة يوم الجمعة (*)

(4/422)


بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني.
قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان.
قال وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع.