البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
سنة إحدى وخمسين
فيها كان مقتل حجر بن عدي بن جبل بن عدي بن ربيعة بن معاوية الاكبر (1)
بن الحارث بن معاوية (2) بن ثور بن بزيغ بن كندي الكوفي، ويقال له حجر
الخير، ويقال له حجر بن
الادبر، لان أباه عديا طعن موليا فسمي الادبر، وهو من كندة من رؤساء
أهل الكوفة، قال ابن عساكر: وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع
عليا وعمارا وشراحيل بن مرة، ويقال شرحبيل بن مرة.
وروى عنه أبو ليلى مولاه، وعبد الرحمن بن عباس، وأبو البختري الطائي.
وغزا الشام في الجيش الذين افتتحوا عذراء (3)، وشهد صفين مع علي أميرا،
وقيل بعذراء من قرا دمشق، ومسجد قبره بها معروف.
ثم ساق ابن عساكر بأسانيده إلى حجر يذكر طرفا صالحا من روايته عن علي
وغيره، وقد ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وذكر له
وفادة، ثم ذكره في الاول من تابعي أهل الكوفة.
قال: وكان ثقة معروفا، ولم يرو عن غير علي شيئا.
قال ابن عساكر: بل قد روى عن عمار وشراحيل بن مرة، وقال أبو أحمد
العسكري: أكثر المحدثين لا يصححون له صحبة، شهد القادسية وافتتح برج
عذراء، وشهد الجمل وصفين، وكان مع علي حجر الخير وهو حجر بن عدي هذا -
وحجر الشرف - وهو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة - وقال المرزباني:
__________
(1) في ابن سعد 6 / 217 والاصابة 1 / 314: الاكرمين.
(2) في ابن سعد: معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع
الكندي...(3) في ابن سعد 6 / 217 مرج عذرى.
(*)
(8/54)
قد روي أن حجر
بن عدي وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عدي،
وكان هذا الرجل من عباد الناس وزهادهم، وكان بارا بأمه، وكان كثير
الصلاة والصيام، قال أبو معشر: ما أحدث قط إلا توضأ، ولا توضأ إلا صلى
ركعتين.
هكذا قال غير واحد من الناس.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثني الاعمش عن أبي إسحاق.
قال: قال سلمان لحجر: يا بن أم حجر لو تقطعت أعضاؤك ما بلغت الايمان،
وكان إذ كان المغيرة بن شعبة على الكوفة إذا ذكر عليا في خطبته يتنقصه
بعد مدح عثمان وشيعته فيغضب حجر هذا ويظهر الانكار عليه، ولكن كان
المغيرة فيه حلم وإناة فكان يصفح عنه ويعظه فيما بينه وبينه، ويحذره غب
هذا الصنيع، فإن معارضة السلطان شديد وبالها، فلم يرجع حجر عن ذلك.
فلما كان في آخر أيام المغيرة قام حجر
يوما، فأنكر عليه في الخطبة وصاح به وذمه بتأخيره العطاء عن الناس،
وقام معه فئام الناس لقيامه، يصدقونه ويشنعون على المغيرة، ودخل
المغيرة بعد الصلاة قصر الامارة ودخل معه جمهور الامراء، فأشاروا عليه
بردع حجر هذا عما تعاطاه من شق العصى والقيام على الامير، وذمروه وحثوه
على التنكيل فصفح عنه وحلم به.
وذكر يونس بن عبيد أن معاوية كتب إلى المغيرة يستمده بمال يبعثه من بيت
المال، فبعث عيرا تحمل مالا فاعترض لها حجر، فأمسك بزمام أولها وقال:
لا والله حتى يوفى كل ذي حق حقه.
فقال شباب ثقيف للمغيرة: ألا نأتيك برأسه ؟ فقال: ما كنت لافعلن ذلك
بحجر، فتركه، فلما بلغ معاوية ذلك عزل المغيرة وولى زيادا، والصحيح أنه
لم يعزل المغيرة حتى مات، فلما توفي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
وجمعت الكوفة مع البصرة لزياد دخلها وقد التف على حجر جماعات من شيعة
علي يقولون أمره ويشدون على يده، ويسبون معاوية ويتبرأون منه، فلما كان
أول خطبة خطبها زياد بالكوفة، ذكر في آخرها فضل عثمان وذم من قتله أو
أعان على قتله.
فقام حجر كما كان يقوم في أيام المغيرة، وتكلم بنحو مما قال المغيرة،
فلم يعرض له زياد، ثم ركب زياد إلى البصرة، وأراد أن يأخذ حجرا معه إلى
البصرة لئلا يحدث حدثا، فقال: إني مريض، فقال: والله إنك لمريض الدين
والقلب والعقل، والله لئن أحدثت شيئا لاسعين في قتلك، ثم سار زياد إلى
البصرة فبلغه أن حجرا وأصحابه أنكروا على نائبه بالكوفة - وهو عمرو بن
حريث - وحصبوه وهو على المنبر يوم الجمعة، فركب زياد إلى الكوفة فنزل
في القصر ثم خرج إلى المنبر وعليه قباء سندس، ومطرف خز أحمر، قد فرق
شعره، وحجر جالس وحوله أصحابه أكثر ما كانوا يومئذ، وكان من لبس من
أصحابه يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، وجلسوا حوله في المسجد في الحديد
والسلاح، فخطب زياد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن غب البغي
والغي وخيم، وإن هؤلاء أمنوني فاجترأوا علي، وايم الله لئن لم تستقيموا
لادواينكم بدوائكم، ثم قال: ما أنا بشئ إن لم أمنع ساحة الكوفة من حجر
وأصحابه وأدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط بك العشاء على
سرحان.
ثم قال: أبلغ نصيحة أن راعي إبلها * سقط العشاء به على سرحان
(8/55)
وجعل زياد يقول
في خطبته: إن من حق أمير المؤمنين - يعني كذا وكذا - فأخذ حجر كفا
حصباء فحصبه وقال: كذبت ! عليك لعنة الله.
فانحدر زياد فصلى، ثم دخل القصر واستحضر حجرا، ويقال إن زيادا لما خطب
طول الخطبة وأخر الصلاة فقال له حجر: الصلاة، فمضى في خطبته، فلما خشي
فوت الصلاة عمد إلى كف من حصباء ونادى الصلاة، وثار الناس معه، فلما
رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته كتب إلى معاوية في
أمره وكثر عليه، فكتب إليه معاوية: أن شده في الحديد واحمله إلي، فبعث
إليه زياد وإلى الشرطة - وهو شداد بن الهيثم - ومعه أعوانه فقال له: أن
الامير يطلبك، فامتنع من الحضور إلى زياد، وقام دونه أصحابه، فرجع
الوالي إلى زياد فأعلمه، فاستنهض زياد جماعات من القبائل فركبوا مع
الوالي إلى حجر وأصحابه فكان بينهم قتال بالحجارة والعصي، فعجزوا عنه،
فندب محمد بن الاشعث وأمهله ثلاثا وجهز معه جيشا، فركبوا في طلبه ولم
يزالوا حتى أحضروه إلى زياد (1)، وما أغنى عنه قومه ولا من كان يظن أن
ينصره فعند ذلك قيده زياد وسجنه عشرة أيام وبعث به إلى معاوية، وبعث
معه جماعة يشهدون عليه أنه سب الخليفة، وأنه حارب الامير، وأنه يقول:
إن هذا الامر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب.
وكان من جملة الشهود عليه (2) أبو بردة بن أبي موسى، ووائل بن حجر،
وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وإسحاق، وإسماعيل، وموسى بنو طلحة بن عبيد
الله، والمنذر بن الزبير، وكثير بن شهاب، وثابت بن ربعي، في سبعين
ويقال: إنه كتبت شهادة شريح القاضي فيهم، وإنه أنكر ذلك وقال: إنما قلت
لزياد: إنه كان صواما قواما (3)، ثم بعث زياد حجرا وأصحابه مع وائل بن
حجر، وكثير بن شهاب إلى الشام.
وكان مع حجر بن عدي بن جبلة الكندي، من أصحابه جماعة، قيل عشرون وقيل
أربعة عشر رجلا (4)، منهم الارقم بن عبد الله الكندي وشريك بن شداد
الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن
عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن
حيان، وعبد الرحمن بن حسان العريان (5) - من بني تميم - ومحرز بن شهاب
التميمي،
وعبيد الله بن حوية السعدي التميمي أيضا.
فهؤلاء أصحابه الذين وصلوا معه، فساروا بهم إلى
__________
(1) أما الطبري 6 / 143 ان حجر بن عدي لم يقاوم، وحاول قوم منعه، فقال:
لا ولكن سمع وطاعة، وفي الاخبار الطوال ص 223: أن جرير بن عبد الله جاء
بحجر إلى زياد بعد أن أعطاه أمانه وأن يبعث به إلى معاوية حتى يرى فيه
رأيه.
(2) في الاخبار الطوال ص 224: بعث زياد بثلاثة نفر من الشهود: أبو بردة
بن أبي موسى، وشريح بن هانئ الحارثي وأبو هنيدة القيني.
وانظر في أسماء الشهود.
الطبري 6 / 150 - 151.
(3) انظر الطبري: 6 / 151.
(4) في الطبري 6 / 150 جمع من أصحاب حجر اثنى عشر رجلا والمسعودي 3 /
3: حمله ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة، وأربعة من غيرها.
(5) في الكامل 3 / 483: العنزيين وفي الطبري 6 / 152: العنزيان.
(*)
(8/56)
الشام.
ثم إن زيادا أتبعهم برجلين آخرين، عتبة بن الاخنس من بني سعد، وسعد بن
عمران (1) الهمداني، فكملوا أربعة عشر رجلا، فيقال: إن حجرا لما دخل
على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فغضب معاوية غضبا شديدا
وأمر بضرب عنقه هو ومن معه، ويقال إن معاوية ركب فتلقاهم في مرج عذراء،
ويقال: بل بعث إليهم من تلقاهم إلى عذراء تحت الثنية - ثنية العقاب -
فقتلوا هناك.
وكان الذين بعث إليهم ثلاثة وهم هدبة بن فياض القضاعي، وحضير بن عبد
الله الكلابي، وأبو شريف البدوي فجاؤوا إليهم فبات حجر وأصحابه يصلون
طول الليل، فلما صلوا الصبح قتلوهم، وهذا هو الاشهر.
والله أعلم.
وذكر محمد بن سعد أنهم دخلوا عليه ثم ردهم فقتلوا بعذراء، وكان معاوية
قد استشار الناس فيهم حتى وصل بهم إلى برج عذراء فمن مشير بقتلهم، ومن
مشير بتفريقهم في البلاد، فكتب معاوية إلى زياد كتابا آخر في أمرهم،
فأشار عليه بقتلهم إن كان له حاجة في ملك العراق، فعند ذلك أمر بقتلهم،
فاستوهب منه الامراء واحدا بعد واحد حتى استوهبوا منه ستة، وقتل منهم
ستة أولهم حجر بن عدي، ورجع آخر فعفى
عنه معاوية، وبعث بآخر نال من عثمان وزعم أنه أول من جار في الكلم ومدح
عليا، فبعث به معاوية إلى زياد وقال له: لم تبعث إلي فيهم أردى من هذا.
فلما وصل إلى زياد ألقاه في الناطف حيا - وهو عبد الرحمن بن حسان
الفري.
وهذه تسمية الذين قتلوا بعذراء: حجر بن عدي، وشريك بن شداد، وصيفي بن
فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب المنقري، وكدام بن حيان.
ومن الناس من يزعم أنهم مدفونون بمسجد القصب في عرفة، والصحيح بعذراء،
ويذكر أن حجرا لما أرادوا قتله قال: دعوني حتى أتوضأ، فقالوا: توضأ،
فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين فصلاهما وخفف فيهما، ثم قال: لولا أن
يقولوا ما بي جزع من الموت لطولتهما.
ثم قال: قد تقدم لهما صلوات كثيرة.
ثم قدموه للقتل وقد حفرت قبورهم ونشرت أكفانهم، فلما تقدم إليه السياف
ارتعدت فرائصه فقيل له: إنك قلت لست بجازع، فقال: ومالي لا أجزع وأنا
أرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا.
فأرسلها مثلا.
ثم تقدم إليه السياف.
وهو أبو شريف البدوي، وقيل تقدم إليه رجل أعور فقال له: امدد عنقك،
فقال: لا أعين على قتل نفسي، فضربه فقتله.
وكان قد أوصى أن يدفن في قيوده، ففعل به ذلك، وقيل: بل صلوا عليه
وغسلوه.
وروي أن الحسن بن علي.
قال: أصلوا عليه ودفنوه في قيوده، قالوا: نعم ! قال: حجهم والله.
والظاهر أن الحسين قائل هذا، فإن حجرا قتل في سنة إحدى وخمسين، وقيل
سنة ثلاث وخمسين، وعلى كل تقدير فالحسن قد مات قبله والله أعلم.
فقتلوه رحمه الله وسامحه.
وروينا أن معاوية لما دخل على أم المؤمنين عائشة فسلم عليها من وراء
الحجاب - وذلك بعد مقتله حجرا وأصحابه - قالت له: أين ذهب عنك حلمك يا
معاوية حين قتلت حجرا وأصحابه ؟ فقال لها: فقدته حين غاب عني من قومي
مثلك يا أماه.
ثم قال لها: فكيف بري بك يا أمه ؟
__________
(1) في الكامل والطبري: نمران.
(*)
(8/57)
فقالت: إنك بي
لبار، فقال: يكفيني هذا عند الله، وغدا لي ولحجر موقف بين يدي الله عز
وجل.
وفي رواية أنه قال: إنما قتله الذين شهدوا عليه.
وروى ابن جرير: أن معاوية جعل
يغرغر بالموت وهو يقول: إن يومي بك يا حجر بن عدي لطويل، قالها ثلاثا.
فالله أعلم.
وقال محمد بن سعد في الطبقات: ذكر بعض أهل العلم أن حجرا وفد إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عدي، - وكان من أصحاب علي -
فلما قدم زياد بن أبي سفيان واليا على الكوفة دعا بحجر بن عدي فقال:
تعلم أني أعرفك وقد كنت أنا وأباك (1) على أمر قد علمت - يعني من حب
علي - وأنه قد جاء غير ذلك، وإني أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة
فأستفرغه كله، املك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك،
وحوائجك مقضية لدي، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك، فأنشدك الله في نفسك،
وإياك (2) وهذه السقطة وهؤلاء السفهاء أن يستنزلوك عن رأيك.
فقال حجر: قد فهمت، ثم انصرف إلى منزله، فأتاه الشيعة فقالوا: ما قال
لك ؟ قال: قال لي كذا وكذا.
وسار زياد إلى البصرة ثم جعلوا يترددون إليه يقولون له: أنت شيخنا،
وإذا جاء المسجد مشوا معه، فأرسل إليه عمرو بن حريث - نائب زياد على
الكوفة - يقول: ما هذه الجماعة وقد أعطيت الامير ما قد علمت ؟ فقال
للرسول: إنهم ينكرون ما أنتم عليه، إليك وراءك أوسع لك.
فكتب عمرو بن حريث إلى زياد: إن كان لك حاجة بالكوفة فالعجل العجل،
فأعجل زياد السير إلى الكوفة، فلما وصل بعث إليه عدي بن حاتم، وجرير بن
عبد الله البجلي، وخالد بن عرفطة في جماعة من أشراف الكوفة لينهوه عن
هذه الجماعة، فأتوه فجعلوا يحدثونه ولا يرد عليهم شيئا، بل جعل يقول:
يا غلام أعلفت البكر ؟ لبكر مربوط في الدار - فقال له عدي بن حاتم:
أمجنون أنت ؟ نكلمك وأنت تقول: أعلفت البكر، ثم قال عدي لاصحابه: ما
كنت أظن هذا البائس بلغ به الضعف كل ما أرى.
ثم نهضوا فأخبروا زيادا ببعض الخبر وكتموه بعضا، وحسنوا أمره وسألوه
الرفق به فلم يقبل، بل بعث إليه الشرط والمحاربة فأتي به وبأصحابه،
فقال له: مالك ويلك ؟ قال: إني على بيعتي لمعاوية، فجمع زياد سبعين من
أهل الكوفة فقال: اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا، ثم أوفدهم
إلى معاوية، وبلغ الخبر عائشة فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى
معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم، فلما دخلوا على معاوية قرأ كتاب زياد
فقال معاوية: اخرجوا بهم إلى عذراء فاقتلوهم
هناك، فذهبوا بهم ثم قتلوا منهم سبعة، ثم جاء رسول معاوية بالتخلية
عنهم، وأن يطلقوهم كلهم، فوجدوا قد قتلوا منهم سبعة وأطلقوا السبعة
الباقين، ولكن كان حجر فيمن قتل في السبعة
__________
(1) في ابن سعد 6 / 218: وإياك على ما قد علمت.
(2) العبارة في الطبقات: وإياك وهذه السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستزلوك
عن رأيك فإنك لو هنت علي أو استخففت بحقك لم أخصك بهذا من نفسي.
(*)
(8/58)
الاول، وكان قد
سألهم أن يصلي ركعتين قبل أن يقتلوه، فصلى ركعتين فطول فيهما، وقال
إنهما لاخف صلاة صليتها.
وجاء رسول عائشة بعد ما فرغ من شأنهم.
فلما حج معاوية قالت له عائشة: أين عزب عنك حلمك حين قتلت حجرا ؟ فقال:
حين غاب عني مثلك من قومي.
ويروى أن عبد الرحمن بن الحارث قال لمعاوية: أقتلت حجر بن الادبر ؟
فقال معاوية: قتله أحب إلي من أن أقتل معه مائة ألف.
وقد ذكر ابن جرير وغيره عن حجر بن عدي وأصحابه أنهم كانوا ينالون من
عثمان ويطلقون فيه مقالة الجور، وينتقدون على الامراء، ويسارعون في
الانكار عليهم، ويبالغون في ذلك، ويتولون شيعة علي، ويتشددون في الدين.
ويروى أنه لما أخذ في قيوده سائرا من الكوفة إلى الشام تلقته بناته في
الطريق وهن يبكين، فمال نحوهن: فقال إن الذي يطعمكم ويكسوكم هو الله
وهو باق لكن بعدي، فعليكن بتقوى الله وعبادته، وإني أما أن أقتل في
وجهي وهي شهادة، أو أن أرجع إليكن مكرما، والله خليفتي عليكم.
ثم انصرف مع أصحابه في قيوده، ويقال إنه أوصى أن يدفن في قيوده ففعل
ذلك به، ولكن صلوا عليهم ودفنوهم مستقبل القبلة رحمهم الله وسامحهم.
وقد قالت امرأة من المتشيعات ترثي حجرا - وهي هند بنت زيد بن مخرمة
الانصارية - ويقال إنها لهند أخت حجر (1).
فالله أعلم.
ترفع أيها القمر المنير * تبصر هل ترى حجرا يسير يسير إلى معاوية بن
حرب * ليقتله كما زعم الامير (2) يرى قتل الخيار عليه حقا * له من شر
أمته وزير
ألا يا ليت حجرا مات يوما * ولم ينحر كما نحر البعير (3) تجبرت الجبابر
بعد حجر * وطاب لها الخورنق والسدير وأصبحت البلاد له محولا * كأن لم
يحيها مزن مطير (4) ألا يا حجر حجر بن (5) عدي * تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عديا * وشيخا في دمشق له زبير (6) فإن تهلك فكل زعيم
(7) قوم * من الدنيا إلى هلك يصير فرضوا أن الآله عليك ميتا * وجنات
بها نعم وحور
__________
(11) وفي الاخبار الطوال ص 223: فأنشأت أم حجر تقول: (2) كذا في الاصل
والطبري والكامل والمسعودي، وفي ابن سعد 6 / 220: الخبير.
(3) سقط والبيت الذي قبله من الطبقات والكامل، وأثبته المسعودي في
المروج والطبري في تاريخه.
(4) في ابن سعد: يوما، وسقط البيت من المسعودي.
(5) في الطبري والكامل والمسعودي وابن سعد: بني.
(6) في المصادر السابقة: زئير.
(7) كذا بالاصل والطبري والكامل.
وفي الطبقات والمسعودي: عميد.
(*)
(8/59)
وذكر ابن عساكر
له مراث كثيرة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني حرملة أنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي
الاسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء،
حجرا وأصحابه ؟ فقال: يا أم المؤمنين إني رأيت في قتلهم صلاحا للامة،
وفي مقامهم فسادا للامة، فقالت: سمعت رسول الله يقول: " سيقتل بعذراء
أناس يغضب الله لهم وأهل السماء " (1).
وهذا إسناد ضعيف منقطع.
وقد رواه عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة عن أبي الاسود أن عائشة
قالت: بلغني أنه سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء.
وقال يعقوب: حدثني ابن لهيعة حدثني الحارث بن يزيد عن عبد الله بن رزين
(2) الغافقي.
قال:
سمعت عليا يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل
أصحاب الاخدود، قال: يقتل حجر وأصحابه (3) - ابن لهيعة ضعيف -.
وروى الامام أحمد: عن ابن علية عن ابن عون عن نافع قال: كان ابن عمر في
السوق فنعي له حجر فأطلق حبوته وقام وغلب عليه النحيب.
وروى أحمد: عن عفان، عن ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة -
أو غيره - قال لما قدم معاوية المدينة دخل على عائشة فقالت: أقتلت حجرا
؟ فقال: يا أم المؤمنين إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من
استحيائه في فسادهم.
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب عن مروان.
قال: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة فقالت: يا معاوية قتلت حجرا
وأصحابه وفعلت الذي فعلت، أما خشيت أن أخبأ لك رجلا يقتلك ؟ فقال: لا،
إني في بيت الامان، سمعت رسول الله يقول: " الايمان ضد الفتك لا يفتك
مؤمن " (4).
يا أم المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك ؟ قالت: صالح.
قال: فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا عز وجل (4).
وفي رواية أنها حجبته وقالت: لا يدخل علي أبدا، فلم يزل يتلطف حتى دخل
فلامته في قتله حجرا، فلم يزل يعتذر حتى عذرته.
وفي رواية: أنها كانت تتوعده وتقول: لولا يغلبنا سفهاؤنا لكان لي
ولمعاوية في قتله حجرا شأن، فلما اعتذر إليها عذرته.
وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه توفي في هذه السنة من الاكابر جرير بن
عبد الله البجلي، وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث، وحارثة بن النعمان،
وحجر بن عدي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن أنيس، وأبو
بكرة نفيع بن الحارث الثقفي، رضي الله عنهم.
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 456 والفسوي في المعرفة والتاريخ 3 /
421.
(2) في البيهقي والفسوي زرير، الغافقي المصري ثقة متشيع من الثانية مات
سنة ثمانين أو بعدها (تقريب التهذيب 1 / 307 / 415).
(3) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 456 والفسوي في المعرفة والتاريخ 3 /
431.
وقال البيهقي معقبا: " علي لا يقول مثل هذا إلا بأن يكون سمعه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عن عائشة باسناد مرسل مرفوعا ".
(4) المصدر السابق.
(*)
(8/60)
فأما جرير بن
عبد الله البجلي فأسلم بعد نزول المائدة، وكان إسلامه في رمضان سنة
عشر، وكان قدومه ورسول الله يخطب، وكان قد قال في خطبته: " إنه يقدم
عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن، وإن على وجهه مسحة ملك " (1)، فلما
دخل نظر الناس إليه فكان كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأخبروه بذلك فحمد الله تعالى.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جالسه بسط له رداءه وقال: "
إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه " (2) وبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة -
وكان بيتا تعظمه دوس في الجاهلية - فذكر أنه لا يثبت على الخيل، فضرب
في صدره وقال: " اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " (3) فذهب فهدمه.
وفي الصحيحين أنه قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت ولا رآني إلا
تبسم.
وكان عمر بن الخطاب يقول: جرير يوسف هذه الامة.
وقال عبد الملك بن عمير: رأيت جريرا كأن وجهه شقة قمر.
وقال الشعبي: كان جرير هو وجماعة مع عمر في بيت.
فاشتم عمر من بعضهم ريحا، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام
فتوضأ، فقال جرير: أو نقوم كلنا فنتوضأ يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر:
نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الاسلام.
وقد كان عاملا لعثمان على همدان، يقال إنه أصيبت عينه هناك، فلما قتل
عثمان اعتزل عليا ومعاوية، ولم يزل مقيما بالجزيرة حتى توفي بالسراة،
سنة إحدى وخمسين، قاله الواقدي، وقيل سنة أربع، وقيل سنة ست وخمسين.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة ولي زياد على خراسان بعد موت الحكم بن
عمرو الربيع بن زياد الحارثي ففتح بلخ صلحا، وكانوا قد غلقوها بعدما
صالحهم الاحنف، وفتح قوهستان عنوة، وكان عندها أتراك فقتلهم ولم يبق
منهم إلا ترك طرخان، فقتله قتيبة بن مسلم بعد ذلك كما سيأتي.
وفي هذه السنة غزا الربيع ما وراء النهر فغنم وسلم، وكان قد قطع ما
وراء النهر قبله الحكم بن عمرو، وكان أول من شرب من النهر غلام للحكم،
فسقى سيده وتوضأ
الحكم وصلى وراء النهر ركعتين ثم رجع، فلما كان الربيع هذا غزا ما وراء
النهر فغنم وسلم.
وفي هذه السنة حج بالناس يزيد بن معاوية فيما قاله أبو معشر والواقدي.
وأما جعفر بن أبي سفيان بن عبد المطلب فأسلم مع أبيه حين تلقياه بين
مكة والمدينة عام الفتح، فلما ردهما قال أبو سفيان: والله لئن لم يأذن
لي عليه لآخذن بيد هذا فأذهبن في الارض فلا يدري أين أذهب، فلما بلغ
ذلك رسول الله
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 4 / 360 - 364.
(2) رواه الطبراني وابن سعد عن جرير، والبيهقي في الدلائل 5 / 347.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الجهاد (154) باب ح (3020) فتح الباري 6 /
154 وفي المغازي (62) باب.
ح (4355) فتح الباري 8 / 70 ومسلم في فضائل الصحابة (29) باب.
ح (137) ص (4 / 1926).
(*)
(8/61)
رق له وأذن له
وقبل إسلامهما فأسلما إسلاما حسنا، بعد ما كان أبو سفيان يؤذي رسول
الله أذى كثيرا، وشهد حنينا، وكان ممن ثبت يومئذ رضي الله عنهما.
وأما حارثة بن النعمان الانصاري النجاري فشهد بدرا وأحدا والخندق
والمشاهد، وكان من فضلاء الصحابة، وروى أنه رأى جبريل مع رسول الله
بالمقاعد يتحدثان بعد خيبر، وأنه رآه يوم بني قريظة في صورة دحية.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قراءته في الجنة.
قال محمد بن سعد: حدثنا عبد الرحمن بن يونس ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي
فديك ثنا محمد بن عثمان عن أبيه أن حارثة بن النعمان كان قد كف بصره
فجعل خيطا من مصلاه إلى باب حجرته، فإذا جاءه المسكين أخذ من ذلك التمر
ثم أخذ يمسك بذلك الخيط حتى يضع ذلك في يد المسكين، وكان أهله يقولون
له: نحن نكفيك ذلك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
مناولة المسكين تقي ميتة السوء ".
وأما حجر بن عدي فقد تقدمت قصته مبسوطة.
وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي
فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وأخته
عاتكة زوجة عمر، وأخت عمر فاطمة زوجة سعيد، أسلم قبل عمر وزوجته فاطمة،
وهاجرا، وكان من سادات الصحابة قال عروة والزهري وموسى بن عقبة ومحمد
بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدرا لانه قد كان بعثه رسول الله
هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش فلم يرجعا حتى فرغ
من بدر، فضرب لهما رسول الله بسهمهما وأجرهما، ولم يذكره عمر في أهل
الشورى لئلا يحابى بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك، وإلا فهو ممن
شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في جملة العشرة، كما صحت
بذلك الاحاديث المتعددة الصحيحة، ولم يتول بعده ولاية، وما زال كذلك
حتى مات بالكوفة، وقيل بالمدينة وهو الاصح، قال الفلاس وغيره، سنة إحدى
وخمسين وقيل سنة ثنتين وخمسين والله أعلم.
وكان رجلا طوالا أشعر، وقد غسله سعد، وحمل من العقيق على رقاب الرجال
إلى المدينة، وكان عمره يومئذ بضعا وسبعين سنة.
وأما عبد الله أنيس بن الجهني أبو يحيى المدني فصحابي جليل شهد العقبة
ولم يشهد بدرا.
وشهد ما بعدها، وكان هو ومعاذ يكسران أصنام الانصار، له في الصحيح حديث
أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، وهو الذي بعثه رسول الله إلى خالد بن
سفيان الهذلي فقتله بعرنة (1) وأعطاه رسول الله مخصره وقال: " هذه آية
ما
__________
(1) عرنة: بوزن همزة، واد بحذاء عرفات (معجم البلدان).
(*)
(8/62)
بيني وبينك يوم
القيامة " فأمر بها فدفنت معه في أكفانه.
وقد ذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة إحدى وخمسين، وقال غيره سنة أربع
وخمسين وقيل سنة ثمانين.
وأما أبو بكرة نفيع بن الحارث ابن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة
الثقفي فصحابي جليل كبير القدر، ويقال كان اسمه مسروح وإنما قيل له أبو
بكرة لانه تدلى في بكرة يوم الطائف فأعتقه رسول الله وكل مولى فر إليهم
يومئذ.
وأمه سمية هي أم زياد، وكانا ممن شهد على المغيرة بالزنا هو وأخوه زياد
ومعهما
سهل بن معبد، ونافع بن الحارث فلما تلكأ زياد في الشهادة جلد عمر
الثلاثة الباقين ثم استتابهم فتابوا إلا أبا بكرة فإنه صمم على
الشهادة، وقال المغيرة: يا أمير المؤمنين اشفني من هذا العبد، فنهره
عمر وقال له: اسكت ! لو كملت الشهادة لرجمتك بأحجارك، وكان أبو بكرة
خير هؤلاء الشهود وكان ممن اعتزل الفتن فلم يكن في خيرهما، ومات في هذه
السنة، وقيل قبلها بسنة، وقيل بعدها بسنة وصلى عليه أبو برزة الاسلمي،
وكان قد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت
الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء
سنة سبع، قال ابن عباس - وكان ابن أختها أم الفضل لبابة بنت الحارث -:
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وثبت في صحيح مسلم عنها
أنهما كانا حلالين، وقولهما مقدم عند الاكثرين على قوله.
وروى الترمذي عن أبي رافع - وكان السفير بينهما - أنهما كانا حلالين.
ويقال كان اسمها برة فسماها رسول الله ميمونة، وتوفيت بسرف بين مكة
والمدينة حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، وقيل
في سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ست وستين، والمشهور الاول، وصلى عليها ابن
أختها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين
ففيها غزا بلاد الروم وشتى بها سفيان بن عوف الازدي فمات هنالك،
واستخلف على الجند بعده عبد الله بن مسعدة الفزاري، وقيل إن الذي كان
أمير الغزو ببلاد الروم هذه السنة بسر بن أبي أرطاة ومعه سفيان بن عوف.
وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص نائب المدينة، قاله أبو معشر
والواقدي وغيرهما.
وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفي.
وعمال الامصار في هذه السنة عمالها في السنة الماضية.
ذكر من توفي فيها من الاعيان خالد
بن زيد بن كليب أبو أيوب الانصاري الخزرجي شهد بدرا والعقبة والمشاهد
كلها، وشهد مع علي قتال
(8/63)
الحرورية، وفي
داره كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فأقام
عنده شهرا حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحول إليها، وقد كان أبو
أيوب أنزل رسول الله في اسفل داره ثم تحرج من أن يعلو فوقه، فسأل من
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى العلو ويكون هو وأم أيوب في
السفل فأجابه.
وقد روينا عن ابن عباس أنه قدم عليه أبو أيوب البصرة وهو نائبها فخرج
له عن داره وأنزله بها، فلما أراد الانصراف خرج له عن كل شئ بها، وزاده
تحفا وخدما كثيرا أربعين ألفا، وأربعين عبدا إكراما له لما كان أنزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وقد كان من أكبر الشرف له.
وهو القائل لزوجته أم أيوب - حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في
عائشة - ؟ فقال: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ فقالت: لا والله فقال:
والله لهي خير منك، فأنزل الله: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون
والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * الآية [ النور: 12 ].
وكانت وفاته ببلاد الروم قريبا من سور قسطنطينية من هذه السنة، وقيل في
التي قبلها، وقيل في التي بعدها.
وكان في جيش يزيد بن معاوية، وإليه أوصى، وهو الذي صلى عليه.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عثمان، ثنا همام، ثنا أبو عاصم، عن رجل من
أهل مكة أن يزيد بن معاوية كان أميرا على الجيش الذي غزا فيه أبو أيوب،
فدخل عليه عند الموت فقال له: إذا أنا مت فاقرأوا على الناس مني السلام
وأخبروهم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات لا
يشرك بالله شيئا جعله الله في الجنة " (1).
ولينطلقوا فيبعدوا بي في أرض الروم ما استطاعوا.
قال: فحدث الناس لما مات أبو أيوب فأسلم الناس وانطلقوا بجنازته.
وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الاعمش، عن أبي ظبيان
قال: غزا أبو أيوب مع يزيد بن معاوية قال: فقال إذا مت فأدخلوني في أرض
العدو فادفنوني تحت أقدامكم حيث تلقون العدو.
قال: ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات لا
يشرك بالله شيئا دخل الجنة ".
ورواه أحمد عن ابن نمير ويعلى بن عبيد عن الاعمش سمعت أبا ظبيان فذكره،
وقال فيه: سأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا
حالي هذا ما حدثتكموه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من
مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ": وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى
حدثني محمد بن قيس - قاضي عمر بن عبد العزيز -
عن أبي صرمة عن أبي أيوب الانصاري أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت
كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "
لولا أنكم تذنبون لخلق الله قوما يذنبون فيغفر لهم " (2).
وعندي أن هذا الحديث والذي قبله هو الذي حمل يزيد بن معاوية على طرف من
الارجاء، وركب بسببه أفعالا كثيرة أنكرت عليه كما سنذكره في ترجمته
والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده: 1 / 382، 425، 3 / 79، 391، 4 / 322،
346، 404، 5 / 166، 241، 416، 419، 423، 6 / 450.
(2) مسند الامام أحمد ج 5 / 414.
(*)
(8/64)
قال الواقدي:
مات أبو أيوب بأرض الروم سنة ثنتين وخمسين ودفن عند القسطنطينية وقبره
هنالك يستسقي به الروم إذا قحطوا، وقيل: إنه مدفون في حائط القسطنطينية
وعلى قبره مزار ومسجد وهم يعظمونه، وقال أبو زرعة الدمشقي: توفي سنة
خمس وخمسين، والاول أثبت والله أعلم.
وقال أبو بكر بن خلاد: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا داود بن المحبر،
ثنا ميسرة بن عبد ربه، عن موسى بن عبيدة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد،
عن أبي أيوب الانصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: " إن الرجلين ليتوجهان إلى المسجد فيصليان فينصرف أحدهما وصلاته
أوزن من صلاة الآخر، وينصرف الآخر وما تعدل صلاته مثقال ذرة، إذا كان
أورعهما عن محارم الله وأحرصهما على المسارعة إلى الخير ".
وعن أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله أن يعلمه
ويوجز فقال له: " إذا صليت صلاة فصل صلاة مودع، ولا تكلمن بكلام تعتذر
منه، واجمع اليأس مما في أيدي الناس ".
وفيها كانت وفاة أبي موسى عبد الله
بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غز (1) بن بكر بن عامر بن
عذر بن وائل بن ناجية بن جماهر بن الاشعر الاشعري، أسلم ببلاده وقدم مع
جعفر وأصحابه عام خيبر، وذكر محمد بن إسحاق أنه هاجر أولا إلى مكة ثم
هاجر إلى اليمن، وليس هذا بالمشهور، وقد استعمله رسول الله صلى الله
عليه وسلم مع معاذ على اليمن، واستنابه عمر
على البصرة، وفتح تستر، وشهد خطبة عمر بالجابية، وولاه عثمان الكوفة،
وكان أحد الحكمين بين علي ومعاوية، فلما اجتمعا خدع عمر وأبا موسى،
وكان من قراء الصحابة وفقهائهم، وكان أحسن الصحابة صوتا في زمانه، قال
أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار أطيب من صوت أبي
موسى وثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد أوتي
هذا مزمارا من مزامير آل داود " (2).
وكان عمر يقول له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ وهم يسمعون.
وقال الشعبي: كتب عمر في وصيته أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة إلا أبا
موسى فليقر أربع سنين.
وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه توفي في هذه السنة، وهو قول بعضهم،
وقيل إنه توفي قبلها بسنة، وقيل في سنة ثنتين وأربعين، وقيل غير ذلك
والله أعلم.
وكانت وفاته بمكة لما اعتزل الناس بعد التحكيم، وقيل بمكان يقال له:
الثوية على ميلين من الكوفة.
وكان قصيرا نحيف الجسم أسبط، أي لا لحية له، رضي الله عنه.
وذكر ابن الجوزي أنه توفي في هذه السنة أيضا من الصحابة.
عبد الله بن المغفل المزني وكان أحد البكائين، وأحد العشرة الذين بعثهم
عمر إلى البصرة ليفقهوا الناس، وهو أول
__________
(1) في ابن سعد 4 / 105: عنز.
(2) روى الحديث ابن سعد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأعاده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن
طريق عروة عن عائشة عن النبي انظر الطبقات 4 / 107.
(*)
(8/65)
من دخل تستر من
المسلمين حين فتحها.
لكن الصحيح ما حكاه البخاري عن مسدد أنه توفي سنة سبع وخمسين.
وقال ابن عبد البر: توفي سنة ستين، وقال غيره: سنة إحدى وستين فالله
أعلم.
ويروى عنه أنه رأى في منامه كأن القيامة قد قامت وكان هناك مكان من وصل
إليه نجا، فجعل يحاول الوصول إليه فقيل له: أتريد أن تصل إليه وعندك ما
عندك من الدنيا ؟ فاستيقظ فعمد إلى عيبة عنده فيها ذهب كثير فلم يصبح
عليه الصباح إلا وقد فرقها في المساكين والمحاويج والاقارب
رضي الله عنه.
وفيها توفي عمران بن حصين بن عبيد
ابن خلف أبو نجيد الخزاعي، أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر وشهد غزوات،
وكان من سادات الصحابة، استقضاه عبد الله بن عامر على البصرة فحكم له
بها، ثم استعفاه فأعفاه، ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة، قال الحسن:
وابن سيرين البصري: ما قدم البصرة راكب خير منه، وقد كانت الملائكة
تسلم عليه فلما اكتوى انقطع عنه سلامهم ثم عادوا قبل موته بقليل فكانوا
يسلمون عليه رضي الله عنه وعن أبيه.
كعب بن عجزة الانصاري أبو محمد المدني صحابي جليل وهو الذي نزلت فيه
آية الفدية في الحج.
مات في هذه السنة، وقيل قبلها بسنة عن خمس أو سبع وسبعين سنة.
معاوية بن خديج ابن جفنة بن قتيرة الكندي الخولاني المصري، صحابي على
قول الاكثرين، وذكره ابن حبان في التابعين من الثقاة، والصحيح الاول،
شهد فتح مصر، وهو الذي وفد إلى عمر بفتح الاسكندرية، وشهد مع عبد الله
بن سعد بن أبي سرح قتال البربر، وذهبت عينه يومئذ، وولي حروبا كثيرة في
بلاد المغرب، وكان عثمانيا في أيام علي ببلاد مصر، ولم يبايع عليا
بالكلية، فلما أخذ معاوية بن أبي سفيان مصر أكرمه ثم استنابه بها عبد
الله بن عمرو بن العاص، فإنه ناب بها بعد أبيه سنتين ثم عزله معاوية
وولى معاوية بن خديج هذا، فلم يزل بمصر حتى مات بها في هذه السنة.
هانئ بن نيار أبو بردة البلوي المخصوص بذبح العناق وإجزائها عن غيرها
من الاضاحي، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها وكانت راية بني حارثة معه
يوم الفتح رضي الله عنه.
(8/66)
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
ففيها غزا عبد الرحمن بن أم الحكم بلاد الروم وشتى بها، وفيها افتتح
المسلمون وعليهم جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس فأقام بها طائفة من
المسلمين كانوة أشد شئ على الكفار، يعترضون لهم في البحر ويقطعون
سبيلهم، وكان معاوية يدر عليهم الارزاق والاعطيات الجزيلة، وكانوا على
حذر شديد من الفرنج، يبيتون في حصن عظيم عنده فيه حوائجهم ودوابهم
وحواصلهم، ولهم نواطير على البحر ينذرونهم إن قدم عدو أو كادهم أحد،
وما زالوا كذلك حتى كانت إمرة يزيد بن معاوية بعد أبيه، فحولهم من تلك
الجزيرة، وقد كانت للمسلمين بها أموال كثيرة وزراعات غزيرة.
وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص والي المدينة أيضا، قاله أبو
معشر والواقدي.
وفي هذه السنة توفي جبلة بن الايهم الغساني كما ستأتي ترجمته في آخر
هذه التراجم.
وفيها توفي الربيع بن زياد الحارثي،
اختلف في صحبته وكان نائب زياد على خراسان، وكان قد ذكر حجر بن عدي
فأسف عليه، وقال: والله لو ثارت العرب له لما قتل صبرا ولكن أقرت العرب
فذلت، ثم لما كان يوم الجمعة دعا الله على المنبر أن يقبضه إليه فما
عاش إلى الجمعة الاخرى، واستخلف على عمله ابنه عبد الله بن الربيع
فأقره زياد على ذلك، فمات بعد ذلك بشهرين، واستخلف على عملهم بخراسان
خليد بن عبد الله الحنفي فأقره زياد.
رويفع بن ثابت صحابي جليل شهد فتح مصر، وله آثار جيدة في فتح بلاد
المغرب، ومات ببرقة واليا من جهة مسلمة بن مخلد نائب مصر.
وفي هذه السنة أيضا توفي زياد بن أبي سفيان ويقال له: زياد بن أبيه
وزياد بن سمية - وهي أمه - في رمضان من هذه السنة مطعونا (1)، وكان سبب
ذلك أنه كتب إلى معاوية يقول له: إني قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني
فارغة، فارع لي ذلك، وهو يعرض له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضا،
فلما بلغ أهل الحجاز جاؤوا إلى عبد الله بن عمر فشكوا إليه ذلك، وخافوا
أن يلي
عليهم زياد، فيعسفهم كما عسف أهل العراق، فقام ابن عمر فاستقبل القبلة
فدعا على زياد والناس يؤمنون، فطعن زياد بالعراق في يده فضاق ذرعا
بذلك، واستشار شريحا القاضي في قطع
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 32: خرجت في كفه بثرة ثم حكها ثم سرت واسودت
فصارت أكلة سوداء فهلك لذلك.
وفي فتوح ابن الاعثم 4 / 203: فخرج به خراج في إبهام يده وفشا ذلك
الخراج في يده اليمنى حتى ثقلت يده...واشتد به الامر ولقي جهدا شديدا
ثم مات بعد ذلك.
(*)
(8/67)
يده، فقال له
شريح: إني لا أرى ذلك، فإنه إن لم يكن في الاجل فسحة لقيت الله أجذم قد
قطعت يدك خوفا من لقائه، وإن كان لك أجل بقيت في الناس أجذم فيعير ولدك
بذلك.
فصرفه عن ذلك، فلما خرج شريح من عنده عاتبه بعض الناس: وقالوا: هلا
تركته فقطع يده ؟ ! فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
المستشار مؤتمن ".
ويقال إن زيادا جعل يقول: أأنام أنا والطاعون في فراش واحد ؟ فعزم على
قطع يده، فلما جئ بالمكاوي والحديد خاف من ذلك فترك ذلك، وذكر أنه جمع
مائة وخمسين طبيبا ليداووه مما يجد من الحر في باطنه، منهم ثلاثة ممن
كان يطب كسرى بن هرمز، فعجزوا عن رد القدر المحتوم والامر المحموم،
فمات في ثالث شهر رمضان في هذه السنة، وقد قام في إمرة العراق خمس
سنين.
ودفن بالثوية خارج الكوفة، وقد كان برز منها قاصدا إلى الحجاز أميرا
عليها، فلما بلغ خبر موته عبد الله بن عمر قال: اذهب إليك يا بن سمية،
فلا الدنيا بقيت لك، ولا الآخرة أدركت.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي عن هشام بن محمد حدثني يحيى بن
ثعلبة أبو المقدم الانصاري عن أمه عن عائشة عن أبيها عبد الرحمن بن
السائب الانصاري.
قال: جمع زياد أهل الكوفة فملا منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرض عليهم
البراءة من علي بن أبي طالب، قال عبد الرحمن: فإني لمع نفر من أصحابي
من الانصار، والناس في أمر عظيم من ذلك وفي حصر، قال: فهومت تهويمة -
أي نعست نعسة - فرأيت شيئا أقبل طويل العنق، له عنق مثل عنق البعير،
أهدب أهدل فقلت: ما أنت ؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب
هذا القصر، فاستيقظت فزعا فقلت لاصحابي: هل
رأيتم ما رأيت ؟ قالوا: لا ! فأخبرتهم، وخرج علينا خارج من القصر فقال:
إن الامير يقول لكم: انصرفوا عني: فإني عنكم مشغول.
وإذا الطاعون قد أصابه.
وروى ابن أبي الدنيا أن زيادا لما ولي الكوفة سأل عن أعبدها فدل على
رجل يقال له أبو المغيرة الحميري، فجاء به فقال له: الزم بيتك ولا تخرج
منه وأنا أعطيك من المال ما شئت، فقال: لو أعطيتني ملك الارض ما تركت
خروجي لصلاة الجماعة.
فقال الزم الجماعة ولا تتكلم بشئ.
فقال: لا أستطيع ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأمر به فضربت
عنقه.
ولما احتضر قال له ابنه: يا أبة قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فيها، فقال
يا بني قد دنا من أبيك أمر إما لباس خير من لباسه وإما سلب سريع.
وهذا غريب جدا.
صعصعة بن ناجية ابن عفان (1) بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، كان
سيدا في الجاهلية وفي الاسلام، يقال إنه أحيى في الجاهلية ثلثمائة
وستين موءودة، وقيل أربعمائة، وقيل ستا وتسعين موءودة، فلما
__________
(1) في الاصابة 2 / 186 والاستيعاب على هامش الاصابة 2 / 194: عقال.
(*)
(8/68)
أسلم قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لك أجر ذلك إذ من الله عليكم بالاسلام
".
ويروى عنه أنه أول ما أحيى المؤودة أنه ذهب في طلب ناقتين شردتا له،
قال: فبينما أنا في الليل أسير، إذ أنا بنار تضئ مرة وتخبو أخرى.
فجعلت لا أهتدي إليها، فقلت: اللهم لك علي إن أوصلتني إليها أن أدفع عن
أهلها ضيما إن وجدته بهم، قال فوصلت إليها وإذا شيخ كبير يوقد نارا
وعنده نسوة مجتمعات، فقلت: ما أنتن ؟ فقلن: إن هذه امرأة قد حبستنا منذ
ثلاث، تطلق ولم تخلص، فقال الشيخ صاحب المنزل: وما خبرك ؟ فقلت: إني في
طلب ناقتين ندتا لي، فقال: قد وجدتهما، إنهما لفي إبلنا، قال فنزلت
عنده ؟ قال: فما هو إلا أن نزلت إذ قلن: وضعت، فقال الشيخ: إن كان ذكرا
فارتحلوا، وإن كان أنثى فلا تسمعنني صوتها، فقلت: علام تقتل ولدك ورزقه
على الله ؟ فقال: لا حاجة لي بها، فقلت: أنا أفتديها منك وأتركها عندك
حتى تبين عنك
أو تموت.
قال: بكم ؟ قلت.
بإحدى ناقتي، قال: لا ! قلت فبهما، قال: لا: إلا أن تزيدني بعيرك هذا
فإني أراه شابا حسن اللون، قلت: نعم على أن تردني إلى أهلي، قال: نعم،
فلما خرجت من عندهم رأيت أن الذي صنعته نعمة من الله من بها علي هداني
إليها، فجعلت لله علي أن لا أجد موءودة إلا افتديتها كما افتديت هذه،
قال: فما جاء الاسلام حتى أحييت مائة موءودة إلا أربعا (1)، ونزل
القرآن بتحريم ذلك على المسلمين.
وممن توفي في هذه السنة من المشاهير
المذكورين جبلة بن الايهم الغساني ملك نصارى العرب وهو جبلة بن الايهم
بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، واسمه المنذر بن الحارث، وهو ابن مارية
ذات القرطين، وهو ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، واسمه كعب أبو عامر بن
حارثة بن امرئ القيس، ومارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ويقال
غير ذلك في نسبه، وكنيته جبلة أبو المنذر الغساني الجفني، وكان ملك
غسان، وهم نصارى العرب أيام هرقل، وغسان أولاد عم الانصار أوسها
وخزرجها، وكان جبلة آخر ملوك غسان، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم كتاب مع شجاع بن وهب يدعوه إلى الاسلام فأسلم وكتب باسلامه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عساكر: إنه لم يسلم قط، وهكذا صرح به الواحدي وسعيد بن عبد
العزيز.
وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ثم أسلم بعد
ذلك في أيام عمر، فاتفق أنه وطئ رداء رجل من مزينة بدمشق فلطمه ذلك
المزني، فدفعه أصحاب جبلة إلى أبي عبيدة فقالوا: هذا لطم جبلة، قال أبو
عبيدة: فيلطمه جبلة: فقالوا: أو ما يقتل ؟ قال
__________
(1) في الاصل: أربعة، وهو خطأ.
(*)
(8/69)
لا ! قالوا:
فما تقطع يده ؟ قال لا، إنما أمر الله بالقود، فقال جبلة: أترون أني
جاعل وجهي (1) بدلا لوجه مازني جاء من ناحية المدينة ؟ بئس الدين هذا،
ثم ارتد نصرانيا وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق عليه
وقال لحسان: إن صديقك جبلة ارتد عن الاسلام،
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: ولم ؟ قال لطمه رجل من مزينة
فقال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه.
ورواه الواقدي عن معمر وغيره عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن
ابن عباس وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة.
وهذا القول هو أشهر الاقوال.
وقد روى ابن الكلبي وغيره: أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه، ثم
بعث يستدعيه ليراه بالمدينة، وقيل بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن
له فركب في خلق كثير من قومه، قيل مائة وخمسين راكبا، وقيل خمسمائة،
وتلقته هدايا عمر ونزله قبل أن يصل إلى المدينة بمراحل، وكان يوم دخوله
يوما مشهودا دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة، ولبس تاجا على
رأسه مرصعا باللآلي والجواهر، وفيه قرطا مارية جدته، وخرج أهل المدينة
رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه، فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه،
وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطئ إزاره
رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل، ومن الناس
من يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من
بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة، فقال له عمر: أقدته منك.
فقال: كيف وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال: إن الاسلام جمعك وإياه فلست تفضله
إلا بالتقوى، فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الاسلام أعز مني في
الجاهلية، فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك، فقال
إذا أتنصر، فقال إن تنصرت ضربت عنقك، فلما رأى الحد: قال سأنظر في أمري
هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومن
أطاعه فسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم ودخل على هرقل في مدينة
القسطنطينية فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقا
جزيلة، وأهدى إليه هدايا جميلة، وجعله من سماره، فمكث عنده دهرا.
ثم إن عمر كتب كتابا إلى هرقل مع رجل يقال له جثامة بن مساحق الكناني،
فلما بلغ هرقل كتاب عمر بن الخطاب قال له هرقل: هل لقيت ابن عمك جبلة ؟
قال: لا ! قال فالقه، فذكر اجتماعه به وما هو فيه من النعمة والسرور
والحبور الدنيوي، في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه وجواريه، حواليه الحسان
من الخدم والقيان، ومطعمه وشرابه وسروره وداره التي تعوض بها عن دار
الاسلام، وذكر
أنه دعاه إلى الاسلام والعود إلى الشام فقال: أبعد ما كان مني من
الارتداد ؟ فقال: نعم ! إن الاشعث بن قيس ارتد وقاتلهم بالسيوف، ثم لما
رجع إلى الحق قبله منه وزوجه الصديق بأخته أم فروة، قال: فالتهى عنه
بالطعام والشراب، وعرض عليه الخمر فأبى عليه، وشرب جبلة من الخمر شيئا
كثيرا حتى سكر ثم أمر جواريه المغنيات فغنينه بالعيدان من قول حسان
يمدح بني عمه
__________
(1) في ابن سعد 1 / 265: إني جاعل وجهي ندا لوجه جدي جاء من عمق.
(*)
(8/70)
من غسان والشعر
في والد جبلة هذا الحيوان: لله در عصابة نادمتهم * يوما بجلق في الزمان
الاول أولاد جفنة حول قبر أبيهم * قبر ابن مارية الكريم المفضل يسقون
من ورد البريص عليهم * بردى يصفق بالرحيق السلسل بيض الوجوه كريمة
أحسابهم * شم الانوف من الطراز الاول يغشون حتى ما تهر كلابهم * لا
يسألون عن السواد المقبل قال: فأعجبه قولهن ذلك، ثم قال: هذا شعر حسان
بن ثابت الانصاري فينا وفي ملكنا، ثم قال لي: كيف حاله ؟ قلت: تركته
ضريرا شيخا كبيرا، ثم قال لهن: أطربنني فاندفعن يغنين لحسان أيضا: لمن
الديار أوحشت بمغان * بين أعلا اليرموك فالصمان فالقريات من بلامس
فداري * ا فكساء لقصور الدواني (1) فقفا جاسم فأودية الص * - فر مغنى
قبائل وهجان تلك دار العزيز بعد أنيس * وحلوك عظيمة الاركان صلوات
المسيح في ذلك الدي * - ر دعاء القسيس والرهبان ذاك مغنى لآهل جفنة في
الده * - ر محاه تعاقب الازمان (2) قد أراني هناك حق مكين * عند ذي
التاج مجلسي ومكاني
ثكلت أمهم وقد ثكلتهم * يوم حلوا بحارث الحولاني وقددنا الفصح فالولائد
ينظم * - ن سراعا أكلة المرجان ثم قال: هذا لابن الفريعة حسان بن ثابت
فينا وفي ملكنا وفي منازلنا بأكناف غوطة دمشق، قال: ثم سكت طويلا، ثم
قال لهن: بكينني، فوضعن عيدانهن ونكسن رؤوسهن وقلن: تنصرت الاشراف من
عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني فيها اللجاج ونخوة *
وبعت بها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى
القول الذي قاله عمر ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسيرا في
ربيعة أو مضر ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة * أجالس قومي ذاهب السمع
والبصر أدين بما دانوا به من شريعة * وقد يصبر العود الكبير على الدبر
__________
(1) في الديوان: والاعرج خير الآنام.
(2) في مروج الذهب 2 / 118...الدهر وحقا تصرف الازمان.
(*)
(8/71)
قال: فوضع يده على وجهه فبكى حتى بل لحيته بدموعه وبكيت معه، ثم استدعى
بخمسمائة دينار هرقلية فقال: خذ هذه فأوصلها إلى حسان بن ثابت، وجاء
بأخرى فقال: خذ هذه لك، فقلت: لا حاجة لي فيها ولا أقبل منك شيئا وقد
ارتددت عن الاسلام، فيقال: إنه أضافها إلى التي لحسان، فبعث بألف دينار
هرقلية، ثم قال له: أبلغ عمر بن الخطاب مني السلام وسائر المسلمين،
فلما قدمت على عمر أخبرته خبره فقال: ورأيته يشرب الخمر ؟ قلت: نعم !
وقال: أبعده الله، تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته.
ثم قال: وما الذي وجه به لحسان ؟ قلت: خمسمائة دينار هرقلية، فدعا
حسانا فدفعها إليه، فأخذها وهو يقول: إن ابن جفنة من بقية معشر * لم
يغرهم آباؤهم باللوم لم ينسني بالشام إذ هو ربها * كلا ولا متنصرا
بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده * إلا كبعض عطية المحروم وأتيته يوما فقرب
مجلسي * وسقا فرواني من المذموم ثم لما كان في هذه السنة من أيام
معاوية بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري رسولا إلى ملك الروم،
فاجتمع بجبلة بن الايهم فرأى ما هو فيه من السعادة الدنيوية والاموال
من الخدم والحشم والذهب والخيول، فقال له جبلة: لو أعلم أن معاوية
يقطعني أرض البثينة فإنها منازلنا، وعشرين قرينة من غوطة دمشق ويفرض
لجماعتنا، ويحسن جوائزنا، لرجعت إلى الشام.
فأخبر عبد الله بن مسعدة معاوية بقوله، فقال معاوية: أنا أعطيه ذلك،
وكتب إليه كتابا مع البريد بذلك، فما أدركه البريد إلا وقد مات في هذه
السنة قبحه الله.
وذكر أكثر هذه الاخبار الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم، وأرخ
وفاته هذه السنة، - أعني سنة ثلاث وخمسين - وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر
في تاريخه فأطال الترجمة وأفاد، ثم قال في آخرها: بلغني أن جبلة توفي
في خلافة معاوية بأرض الروم بعد سنة أربعين من الهجرة. |