البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة خمس ومائة فيها غزا الجراح بن عبد الله الحكمي بلاد اللان،
وفتح حصونا كثيرة، وبلادا متسعة الاكناف من وراء بلنجر، وأصاب غنائم
جمة، وسبى خلقا من أولاد الاتراك.
وفيها غزا مسلم بن سعيد بلاد الترك وحاصر مدينة عظيمة من بلاد الصغد،
فصالحه ملكها على مال كثير يحمله إليه.
وفيها غزا سعيد بن عبد الملك بن مروان بلاد الروم، فبعث بين يديه سرية
ألف فارس، فأصيبوا جميعا.
وفيها لخمس بقين من شعبان منها توفي أمير
المؤمنين يزيد بن عبد الملك بن مروان بأربد من أرض البلقاء، يوم
الجمعة، وعمره ما بين الثلاثين والاربعين (2)، وهذه
ترجمته:
هو يزيد بن عبد الملك بن مروان أبو خالد القرشي الاموي، أمير المؤمنين،
وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، قيل إنها دفنت بقبر عاتكة فنسبت المحلة
إليها.
والله أعلم.
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومائة بعهد
من أخيه سليمان، أن يكون الخليفة بعد عمر ابن عبد العزيز، لخمس بقين من
رجب، قال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا كثير بن هشام ثنا
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 247: اسمه عامر.
(2) تقدم أن عمره يوم بويع تسع وعشرون سنة فإن صح تصح رواية الطبري عن
علي المديني والعقد الفريد: أنه توفي ابن أربع وثلاثين، وفي ابن
الاثير: له اربعون سنة وفي مروج الذهب 3 / 239 سبع وثلاثون.
وقال الواقدي: ثمان وثلاثين.
وفي ابن الاعثم: أربعين سنة.
وفي الاخبار الطوال ثمان وثلاثين.
(*)
(9/258)
جعفر بن برقان
حدثني الزهري قال: كان لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما ولي
الخلافة معاوية ورث المسلم من الكافر.
ولم يورث الكافر من المسلم، وأخذ بذلك الخلفاء من بعده، فلما قام عمر
بن عبد العزيز راجع السنة
الاولى، وتبعه في ذلك يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام أخذ بسنة
الخلفاء - يعني أنه ورث المسلم من الكافر - وقال الوليد بن مسلم عن ابن
جابر قال: بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن
نوسع له، فقال مكحول: دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس، يتعلم التواضع.
وقد كان يزيد هذا يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، فلما ولي
عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسنوا له
الظلم، قال حرملة عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: لما
ولي يزيد بن عبد الملك قال سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة،
فأتي بأربعين شيخا فهشدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب، وقد
اتهمه بعضهم في الدين، وليس بصحيح، إنما ذاك ولده الوليد بن يزيد كما
سيأتي، أما هذا فما كان به بأس، وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما
بعد فإني لا أراني إلا ملمابي، وما أرى الامر إلا سيفضي إليك، فالله
الله في أمة محمد، فإنك عما قليل ميت فتدع الدنيا إلى من لا يعذرك،
والسلام.
وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد
بلغه أنك استبطأت حياته وتمنيت وفاته ورمت الخلافة، وكتب في آخره: تمنى
رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد وقد علموا لو ينفع
العلم عندهم * متى مت ما الباغي علي بمخلد منيته تجري لوقت وحتفه *
يصادفه يوما على غير موعد فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لاخرى
مثلها وكأن قد فكتب إليه هشام: جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل
ولدك، فلا خير في العيش بعدك (1).
وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبابة - بتشديد الباء
الاولى - والصحيح تخفيفها - واسمها العالية، وكانت جميلة جدا، وكان قد
اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال
له أخوه سليمان: لقد هممت أحجر على يديك، فباعها، فلما أفضت إليه
الخلافة قالت له امرأته سعدة يوما: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك
من أمر الدنيا
شئ ؟ قال: نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها
وأجلستها من وراء
__________
(1) انظر نسخة كتاب يزيد إلى هشام ورد هشام عليه في مروج الذهب 3 /
246.
والعقد الفريد 2 / 282.
(*)
(9/259)
الستارة، وقالت
له أيضا: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شئ ؟ قال: أو
ما أخبرتك ؟ فقالت: هذه حبابة - وأبرزتها له وأخلته بها وتركته وإياها
- فحظيت الجارية عنده، وكذلك زوجته أيضا، فقال يوما أشتهي أن أخلو
بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه
في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط
الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة فبينما هو معها في ذلك القصر على أسر
حال وأنعم بال، وبين يديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي
تضحك فشرقت بها فماتت (1)، فمكث أياما يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى
أنتنت وجيفت فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أيام عندها على قبرها هائما،
ثم رجع إلى المنزل ثم عاد إلى قبرها فوقف عليه وهو يقول: فإن تسل عنك
النفس أو تدع الصبا (2) * فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني
فهو قاتل * من أجلك هذا هامة (3) اليوم أو غد ثم رجع فما خرج من منزله
حتى خرج بنعشه وكان مرضه بالسل (4).
وذلك بالسواد سواد الاردن يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان من هذه السنة
- أعني سنة خمس ومائة - وكانت خلافته أربع سنين وشهرا على المشهور،
وقيل أقل من ذلك، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة، وقيل خمسا وقيل ستا
وقيل ثمانيا وقيل تسعا وثلاثين، وقيل إنه بلغ الاربعين فالله أعلم.
وكان طويلا جسيما أبيض مدور الوجه أفقم الفم لم يشب، وقيل إنه مات
بالجولان، وقيل بحوران وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وعمره خمس عشرة
سنة، وقيل بل صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك، وهو الخليفة بعده، وحمل
على أعناق الرجال حتى دفن بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد
عهد بالامر من بعده لاخيه هشام، ومن بعده لولده الوليد بن يزيد، فبايع
الناس من بعده هشاما.
__________
(1) في فوات الوفيات 4 / 323: تناولت حبة رمانة فشرقت بها فماتت.
وفي مروج الذهب 3 / 242: اعتلت حبابة فبقيت أياما ثم ماتت.
وفي الطبري 8 / 179: مرضت وثقلت وماتت.
(2) في مروج الذهب: أو تدع الهوى...* تسلو النفس...والبيت في الطبري 8
/ 179: لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى * فباليأس يسلو القلب لا
بالتجلد وهو لكثير عزة في ديوانه ص 435.
(3) في العقد الفريد 2 / 283: ميت.
(4) في العقد: طعن ومات بعد خمسة عشر يوما، وفي مروج الذهب 3 / 242:
أمام بعدها أياما قلائل ومات.
(*)
(9/260)
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان
بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه لخمس بقين من شعبان من هذه
السنة - أعني سنة خمس ومائة - وله من العمر أربع وثلاثون سنة وأشهر،
لانه ولد لما قتل أبوه عبد الملك مصعب بن الزبير في سنة ثنتين وسبعين،
فسماه منصورا تفاؤلا، ثم قدم فوجد أمه قد أسمته باسم أبيها هشام،
فأقره.
قال الواقدي: أتته الخلافة وهو بالديثونة (1) في منزل له، فجاءه البريد
بالعصا والخاتم، فسلم عليه بالخلافة فركب من الرصافة حتى أتى دمشق،
فقام بأمر الخلافة أتم القيام، فعزل في شوال منها عن إمرة العراق
وخراسان عمر بن هبيرة، وولى عليها خالد بن عبد الله القسري، وقيل إنه
استعمله على العراق في سنة ست ومائة، والمشهور الاول.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال أمير
المؤمنين، أخو أمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل، ولم تلد من عبد الملك
سواه حتى طلقها، لانها كانت حمقاء.
وفيها قوي أمر دعوة بني العباس في السر بأرض العراق، وحصل لدعاتهم
أموال جزيلة يستعينون بها على أمرهم، وما هم بصدده.
وفيها توفي من الاعيان:
أبان بن عثمان بن عفان تقدم ذكر وفاته سنة خمس وثمانين، كان من فقهاء
التابعين وعلمائهم، قال عمرو بن شعيب ما رأيت أعلم منه بالحديث والفقه،
وقال يحيى بن سعيد القطان: فقهاء المدينة عشرة، فذكر أبان بن عثمان
أحدهم، وخارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن
يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة، والقاسم، وقبيصة بن
ذؤيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
قال محمد بن سعد: كان به صمم ووضح.
وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة، وتوفي سنة خمس ومائة.
أبو رجاء العطاردي.
عامر الشعبي.
في قول وقد تقدم، وكثير عزة في قول.
وقيل في التي بعدها كما سيأتي: ثم دخلت سنة ست ومائة ففيها عزل هشام بن
عبد الملك عن إمرة المدينة ومكة والطائف، عبد الواحد بن عبد الله
النضري، وولى على ذلك كله ابن خاله إبراهيم (2) بن هشام بن إسماعيل
المخزومي، وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة، وفيها غزا مسلم بن
سعيد مدينة فرغانة ومعاملتها، فلقيه عندها الترك، وكانت بينهم وقعة
هائلة، قتل فيها الخاقان وطائفة كبيرة من الترك، وفيها أوغل الجراح
__________
(1) في الطبري 8 / 105، بالزيتونة.
وفي ابن الاثير 5 / 124 بالرصافة.
(2) في الطبري 8 / 182 وابن الاثير 5 / 133: خاله ابراهيم.
(*)
(9/261)
الحكمي في أرض
الخزر، فصالحوه وأعطوه الجزية والخراج.
وفيها غزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فقتل خلقا كثيرا وغنم وسلم.
وفيها عزل خالد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان مسلم بن سعيد، وولى
عليها أخاه أسد بن عبد الله القسري.
وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن الملك، وكتب إلى أبي
الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ويكتب له مناسك الحج، ففعل، فتلقاه
الناس من المدينة إلى أثناء الطريق، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أمر
به، وتلقاه فيمن تلقاه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان،
فقال له: يا أمير المؤمنين إن أهل بيتك في مثل
هذه المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب، فالعنه أنت أيضا، قال
أبو الزناد: فشق ذلك على هشام واستثقله، وقال: ما قدمت لشتم أحد، ولا
لعنة أحد، إنما قدمنا حجاجا.
ثم أعرض عنه وقطع كلامه وأقبل على أبي الزناد يحادثه ولما انتهى إلى
مكة عرض له إبراهيم بن طلحة فتظلم إليه في أرض، فقال له: أين كنت عن
عبد الملك ؟ قال: ظلمني، قال: فالوليد ؟ قال: ظلمني، قال: فسليمان ؟
قال: ظلمني، قال فعمر بن عبد العزيز ؟ قال ردها علي، قال: فيزيد ؟ قال:
انتزعها من يدي، وهي الآن في يدك، فقال له هشام: أما لو كان فيك مضرب
لضربتك، فقال: بل في مضرب بالسوط والسيف، فانصرف عنه هشام وهو يقول لمن
معه: ما رأيت أفصح من هذا.
وفيها كان العامل على مكة والمدينة والطائف، إبراهيم بن هشام بن
إسماعيل، وعلى العراق وخراسان خالد القسري والله سبحانه أعلم.
وممن توفي فيها: سالم بن عبد الله
بن عمر بن الخطاب أبو عمرو الفقيه، أحد الفقهاء وأحد العلماء.
وله روايات عن أبيه وغيره، وكان من العباد الزهاد، ولما حج هشام بن عبد
الملك دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: سالم ؟ (1) سلني
حاجة، فقال: إني لاستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج سالم
خرج هشام في أثره فقال له: الآن قد خرجت من بيت الله فسلني حاجة، فقال
سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ قال: من حوائح الدنيا،
فقال سالم: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها ؟
وكان سالم خشن العيش، يلبس الصوف الخشن، وكان يعالج بيده أرضا له
وغيرها من الاعمال، ولا يقبل من الخلفاء، وكان متواضعا وكان شديد
الادمة وله من الزهد والورع شئ كثير.
وطاوس بن كيسان اليماني من أكبر أصحاب ابن عباس وقد ترجمناهم في كتابنا
التكميل ولله الحمد انتهى وقد زدنا هنا في ترجمة سالم بن عبد الله بن
عمر بن الخطاب زيادة حسنة.
فأما طاوس فهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني (2)، فهو أول طبقة
أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى
اليمن.
__________
(1) في هامش المطبوعة: كذا بالاصل ولعل المراد يا سالم.
(2) في الالقاب لابن الجوزي: اسمه ذكوان وطاوس لقبه.
والمشهور أنه اسمه (*)
(9/262)
أدرك طاوس
جماعة من الصحابة وروى عنهم، وكان أحد الائمة الاعلام، قد جمع العبادة
والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وقد أدرك خمسين من الصحابة،
وأكثر روايته عن ابن عباس، وروى عنه خلق من التابعين وأعلامهم، منهم
مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، وإبراهيم ابن ميسرة، وأبو الزبير ومحمد بن
المنكدر، والزهري وحبيب بن أبي ثابت، وليث بن أبي سليم، والضحاك بن
مزاحم.
وعبد الملك بن ميسرة، وعبد الكريم بن المخارق ووهب بن منبه، والمغيرة
ابن حكيم الصنعاني، وعبد الله بن طاوس، وغير هؤلاء.
توفى طاوس بمكة حاجا، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ودفن بها
رحمه الله تعالى.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قال أبي: مات طاوس بمكة فلم
يصلوا عليه حتى بعث هشام ابنه بالحرس، قال فلقد رأيت عبد الله بن الحسن
واضعا السرير على كاهله، قال: ولقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومزق رداؤه
من خلفه - يعني من كثرة الزحام - فكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: " الايمان يمان " وقد خرج من اليمن خلق من هؤلاء المشار إليهم في
هذا وغيره، منهم أبو مسلم، وأبو إدريس، ووهب وكعب وطاوس وغير هؤلاء
كثير.
وروى ضمرة عن ابن شوذب قال: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة خمس (1) ومائة،
فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة.
وقال عبد الرزاق: حدثنا أبي قال: توفي طاوس بالمزدلفة - أو بمنى -
حاجا، فلما حمل أخذ عبد الله بن الحسن بن علي بقائمة سريره.
فما زايله حتى بلغ القبر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قدم طاوس بمكة، فقدم أمير
المؤمنين، فقيل لطاوس: إن من فضله ومن، ومن، فلو أتيته قال: مالي إليه
حاجة، فقالوا: إنا نخاف عليك، قال: فما هو إذا كما تقولون: وقال ابن
جرير (1): قال لي عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع
حوائجك إلى من
أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه.
وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك
الاجابة.
وقال ابن جريج عن مجاهد عن طاوس (أولئك ينادون من مكان بعيد) [ فصلت:
44 ] قال: بعيد من قلوبهم، وروى الا حجري عن سفيان، عن ليث قال: قال لي
طاوس: ما تعلمت من العلم فتعلمه لنفسك، فإن الامانة والصدق قد ذهبا من
الناس.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن الصلت بن راشد.
قال: كنا عند طاوس فجاءه مسلم (2) بن قتيبة بن مسلم، صاحب خراسان،
فسأله عن شئ فانتهره طاوس، فقلت: هذا مسلم (3) بن قتيبة بن مسلم صاحب
خراسان، قال: ذاك أهون له علي.
وقال لطاوس: إن منزلك قد استرم، فقال: أمسينا.
__________
(1) في رواية صفة الصفوة عن ضمرة 2 / 290: ست.
(2) في رواية صفة الصفوة 2 / 288: ابن جريج.
(3) في صفة الصفوة 2 / 287: سلم.
(*)
(9/263)
وروى عبد
الرزاق عن معمر عن ابن طاوس في قوله تعالى (وخلق الانسان ضعيفا) [
النساء: 27 ] قال: في أمور النساء، ليس يكون في شئ أضعف منه في النساء.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن نافع،
عن ابن طاوس عن أبيه قال: لقي عيسى بن مريم عليه السلام إبليس فقال
إبليس لعيسى: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك ؟ قال: نعم،
قال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل فترد منه.
فانظر أتعيش أم لا، قال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني
عبدي، فإني أفعل ما شئت.
وفي رواية عن الزهري عنه قال: قال عيسى: إن العبد لا يختبر ربه، ولكن
الرب يختبر عبده، وفي رواية أخرى: إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الرب
يبتلي عبده.
قال: فخصمه عيسى عليه السلام.
وقال فضيل بن عياض عن ليث عن طاوس قال: حج الابرار على الرحال، رواه
عبد الله بن أحمد عنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو ثميلة عن ابن أبي داود: قال: رأيت طاوسا
وأصحابا له إذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا أحدا، وابتهلوا
إلى الله تعالى في الدعاء.
وقال: من لم يبخل
ولم يل مال يتيم لم ينله جهد البلاء.
روى عنه أبو داود الطيالسي، وقد رواه الطبراني: عن محمد بن يحيى بن
المنذر، عن موسى بن إسماعيل، عن أبي داود فذكره.
وقال لابنه: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا
تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شئ غاية،
وغاية المرء حسن عقله.
وسأله رجل عن مسألة فانتهره، فقال: - يا أبا عبد الرحمن إني أخوك، قال:
أخي من دون الناس ؟.
وفي رواية أن رجلا من الخوارج سأله فانتهره، فقال: إني أخوك، قال: أمن
بين المسلمين كلهم ؟.
وقال عفان عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: سأل رجل طاوسا عن شئ فانتهره،
ثم قال: تريد أن تجعل في عنقي حبلا ثم يطاف بي ؟ ورأى طاوس رجلا مسكينا
في عينه عمش وفي ثوبه وسخ، فقال له: عد ! إن الفقر من الله، فأين أنت
من الماء ؟ وروى الطبراني عنه قال: إقرار ببعض الظلم خير من القيام
فيه، وعن عبد الرزاق عن داود ابن إبراهيم أن الاسد حبس الناس ليلة في
طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضا، فلما كان السحر ذهب عنهم الاسد، فنزل
الناس يمينا وشمالا فألقوا أنفسهم، وقام طاووس يصلي، فقال له رجل - وفي
رواية فقال ابنه -: ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت هذه الليلة ؟ فقال:
وهل ينام السحر أحد ؟ وفي رواية: ما كنت أظن أحدا ينام السحر.
وروى الطبراني من طريق عبد الرزاق عن أبي جريج وابن عيينة.
قالا: حدثنا ابن طاوس قال: قلت لابي: ما أفضل ما يقال على الميت ؟ قال
الاستغفار.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الرزاق، قال: سمعت النعمان بن الزبير
الصنعاني يحدث أن محمد بن يوسف - أو أيوب بن يحيى - بعث إلى طاوس
بسبعمائة (1) دينار وقال للرسول: إن أخذها
__________
(1) في رواية ابن الجوزي 2 / 286 الصفة وتذكرة الحفاظ 1 / 90 خمسمائة.
(*)
(9/264)
منك فإن الامير
سيكسوك ويحسن إليك.
قال: فخرج بها حتى قدم على طاوس الجند، فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة
بعث بها الامير إليك، فقال: ما لي بها من حاجة، فأراده على أخذها بكل
طريق فأبى أن يقبلها، فغفل طاوس فرمى بها الرجل من كوة في البيت ثم ذهب
راجعا إلى الامير، وقال:
قد أخذها، فمكثوا حينا ثم بلغهم عن طاوس ما يكرهون - أو شئ يكرهونه -
فقالوا: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول فقال: المال
الذي بعثه إليك الامير رده إلينا، فقال: ما قبضت منه شيئا، فرجع الرسول
إليهم فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقالوا: انظروا الذي ذهب بها إليه،
فأرسلوه إليه، فجاءه فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال:
هل قبضت منك شيئا ؟ قال: لا ! قال: فقام إلى المكان الذي رمى به فيه
فوجدها كما هي، وقد بنت عليها العنكبوت، فأخذها فذهب بها إليهم.
ولما حج سليمان بن عبد الملك قال: انظروا إلي فقيها أسأله عن بعض
المناسك، قال: فخرج الحاجب يلتمس له، فمر طاوس فقالوا: هذا طاوس
اليماني، فأخذه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: اعفني، فأبى،
فأدخله عليه، قال طاوس: فلما وقفت بين يديه قلت: إن هذا المقام يسألني
الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جهنم هوت فيها
سبعين خريفا حتى استقرت في قرارها، أتدري لمن أعدها الله ؟ قال: لا ! !
ويلك لمن أعدها الله ؟ قال: لمن أشركه الله في حكمه فجار.
وفي رواية ذكرها الزهري أن سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت، له جمال
وكمال، فقال: من هذا يا زهري ؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدة من
الصحابة، فأرسل إليه سليمان فأتاه فقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني
أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهون الخلق على
الله عز وجل من ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم ".
فتغير وجه سليمان فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: لو ما حدثتنا ؟
فقال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب:
ظننت أنه أراد عليا - قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: " إن لكم على قريش حقا، ولهم على
الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا
أدوا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل
الله منه صرفا ولا عدلا ".
قال: فتغير وجه سليمان وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما
حدثتنا ؟ فقال: حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب الله: (واتقوا
يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) [
البقرة: 281 ].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر، عن ابن عيينة، عن
إبراهيم بن ميسرة قال: قال عمر بن عبد العزيز لطاوس: ارفع حاجتك إلى
أمير المؤمنين - يعني سليمان - فقال طاوس مالي إليه من حاجة، فكأنه عجب
من ذلك، قال سفيان وحلف لنا إبراهيم وهو مستقبل الكعبة: ورب هذا البيت
ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاوس.
قال: وجاء ابن (*)
(9/265)
لسليمان بن عبد
الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك [ ابن ]
(1) أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ؟ قال: أردت أن يعلم هو وأبوه أن لله
عبادا يزهدون فيهم وفيما في أيديهم.
وقد روى عبد الله بن أحمد عن ابن طاوس قال: خرجنا حجاجا فنزلنا في بعض
القرى، وكنت أخاف أبي من الحكام لشدته وغلظه عليهم، قال: وكان في تلك
القرية عامل لمحمد بن يوسف - أخي الحجاج بن يوسف - يقال له أيوب بن
يحيى، وقيل يقال له ابن نجيح، وكان من أخبث عمالهم كبرا وتجبرا، قال:
فشهدنا صلاة الصبح في المسجد، فإذا ابن نجيح قد أخبر بطاوس فجاء فقعد
بين يدي طاوس، فسلم عليه فلم يجبه، ثم كلمه فأعرض عنه، ثم عدل إلى الشق
الآخر فأعرض عنه، فلما رأيت ما به قمت إليه وأخذت بيده ثم قلت له: إن
أبا عبد الرحمن لم يعرفك، فقال طاوس: بلى ! إني به لعارف، فقال الامير:
إنه بي لعارف، ومعرفته بي فعلت بي ما رأيت.
ثم مضى وهو ساكت لا يقول شيئا، فلما دخلت المنزل قال لي أبي: يا لكع،
بينما أنت تقول أريد أخرج عليهم بالسيف لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك.
وقال أبو عبد الله الشامي: أتيت طاوسا فاستأذنت عليه فخرج إلي ابنه شيخ
كبير، فقلت: أنت طاوس ؟ فقال: لا ! أنا ابنه، فقلت: إن كنت أنت ابنه
فإن الشيخ قد خرف، فقال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه فقال طاوس: سل
فأوجز، فقلت: إن أوجزت أوجزت لك، فقال تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا
التوراة والانجيل والفرقان ؟ قال: قلت: نعم ! قال: خف الله مخافة لا
يكون عندك شئ أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما
تحب لنفسك.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن
ابن طاوس عن أبيه.
قال: يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان، فيقول صاحب المال
للمال: جمعتك في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، فيقول المال: ألم أقض
لك الحوائج ؟ أنا الذي حلت بينك وبين أن تصنع فيما أمرك الله عزوجل من
حبك إياي، فيقول صاحب المال إن هذا الذي نفد على حبال أوثق بها وأقيد،
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن الضريس، عن أبي
سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم
قط، عطاء وطاووس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة.
وقال سفيان: قلت لعبيد الله بن أبي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس
؟ قال: مع عطاء والعامة، وكان طاوس يدخل مع الخاصة، وقال حبيب: قال لي
طاوس إذا حدثتك حديثا قد أثبته فلا تسأل عنه أحدا - وفي رواية فلا تسأل
عنه غيري.
وقال أبو أسامة، حدثنا الاعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس قال:
أدركت
__________
(1) من صفة الصفوة 2 / 287.
(*)
(9/266)
خمسين من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني ابن طاوس قال:
قلت لابي: أريد أن أتزوج فلانة، قال: اذهب فانظر إليها، قال: فذهبت
فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي، وادهنت، فلما رآني في تلك الحال قال:
اجلس فلا تذهب.
وقال عبد الله بن طاوس: كان أبي إذا سار إلى مكة سار شهرا، وإذا رجع
رجع في شهر، فقلت له في ذلك، فقال: بلغني أن الرجل إذا خرج في طاعة لا
يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله.
وقال حمزة عن هلال بن كعب.
قال: كان طاوس إذا خرج من اليمن لم يشرب إلا من تلك المياه القديمة
الجاهلية، وقال له رجل: ادع الله لي، فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر
إذا دعاه.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن ابراهيم حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن
ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل فيما خلا من الزمان، وكان عاقلا لبيبا، فكبر فقعد في
البيت، فقال لابنه
يوما: إني قد اغتممت في البيت، فلو أدخلت علي رجالا يكلموني ؟ فذهب
ابنه فجمع نفرا فقال: ادخلوا على أبي فحدثوه، فإن سمعتم منه منكرا
فاعذروه فإنه قد كبر، وإن سمعتم منه خيرا فاقبلوه.
قال: فدخلوا عليه فكان أول ما تكلم به أن قال: إن أكيس الكيس التقى،
وأعجز العجز الفجور، وإذا تزوج الرجل فليتزوج من معدن صالح، فإذا
اطلعتم على فجرة رجل فاحذروه فإن لها أخوات.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدثنا عبد الله بن عمر
بن مسلم الجيري، عن أبيه قال: قال طاوس لابنه: إذا قبرتني فانظر في
قبري، فإن لم تجدني فاحمد الله تعالى، وإن وجدتني فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
قال عبد الله: فأخبرني بعض ولده أنه نظر فلم يره ولم يجد في قبره شيئا،
ورؤي في وجهه السرور، وقال قبيصة: حدثنا سفيان عن سعيد بن محمد قال:
كان من دعاء طاوس يدعو: اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني
الايمان والعمل.
وقال سفيان عنر معمر حدثنا الزهري قال: لو رأيت طاوس بن كيسان علمت أنه
لا يكذب.
وقال عون بن سلام: حدثنا جابر بن منصور - أخو إسحاق بن منصور - السلولي
عن عمران ابن خالد الخزاعي.
قال: كنت جالسا عند عطاء فجاء رجل فقال أبا محمد: إن طاوسا يزعم أن من
صلى العشاء ثم صلى بعدها ركعتين يقرأ في الاولى: آلم تنزيل السجدة، وفي
الثانية تبارك الذي بيده الملك كتب له مثل وقوف عرفة وليلة القدر.
فقال عطاء: صدق طاوس ما تركتهما.
وقال ابن أبي السري: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة
جميلة، فأخذها الجنون، فجئ بها إليه، فنزلت عنده فأعجبته، فوقع عليها
فحملت، فجاءه الشيطان فقال: إن علم بها افتضحت، فأقتلها وادفنها في
بيتك، فقتلها ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه عنها، قال:
ماتت، فلم يتهموه لصلاحه ومنزلته،
(9/267)
فجاءهم الشيطان
فقال: إنها لم تمت، ولكن قد وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها في بيته، في
مكان كذا وكذا، فجاء أهلها فقالوا: ما نتهمك ولكن أخبرنا أين دفنتها،
ومن كان معك ؟ فنبشوا بيته
فوجدوها حيث دفنها، فأخذوه فحبسوه وسجنوه، فجاءه الشيطان فقال: أنا
صاحبك، فإن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فاكفر بالله فأطاع الشيطان
فكفر بالله عزوجل، فقتل فتبرأ منه الشيطان حينئذ.
وقال طاوس: ولا أعلم أن هذه الآية نزلت إلا فيه وفي مثله (كمثل الشيطان
إذ قال للانسان اكفر، فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب
العالمين) [ الحشر: 16 ].
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر،
عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل من بني إسرائيل له أربعة بنين، فمرض، فقال أحدهم: إما أن
تمرضوا أبانا وليس لكم من ميراثه شئ، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه
شئ، فمرضه حتى مات ودفنه ولم يأخذ من ميراثه شيئا، وكان فقيرا وله
عيال، فأتي في النوم فيل له: إيت مكان كذا وكذا فاحفره تجد فيه مائة
دينار فخذها، فقال للآتي في المنام: ببركة أو بلا بركة ؟ فقال: بلا
بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت: اذهب فخذها فإن من بركتها أن
تكسوني منها ونعيش منها.
فأبى وقال: لا آخذ شيئا ليس فيه بركة.
فلما أمسى أتي في منامه فقيل له: إيت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة
دنانير، فقال: ببركة أو بلا بركة ؟ قال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك
لامرأته فقالت له مثل ذلك فأبى أن يأخذها، ثم أتي في الليلة الثالثة
فقيل له: إيت مكان كذا وكذا فخذ منه دينارا، فقال: ببركة أو بلا بركة ؟
قال: ببركة، قال، نعم إذا، فلما أصبح ذهب إلى ذلك المكان الذي أشير
إليه في المنام فوجد الدينار فأخذه، فوجد صيادا يحمل حوتين فقال: بكم
هما ؟ قال: بدينار، فأخذهما منه بذلك الدينار ثم انطلق بهما إلى امرأته
فقامت تصلحهما، فشقت بطن أحدهما فوجدت فيه درة لا يقوم بها شئ، ولم ير
الناس مثلها، ثم شقت بطن الآخر فإذا فيه درة مثلها، قال: فاحتاج ملك
ذلك الزمان درة فبعث يطلبها حيث كانت ليشتريها، فلم توجد إلا عنده،
فقال الملك: إيت بها، فأتاه بها، فلما رآها حلاها الله عزوجل في عينيه،
فقال: بعنيها، فقال: لا أنقصها عن وقر ثلاثين بغلا ذهبا، فقال الملك ؟
ارضوه، فخرجوا به فوقروا له ثلاثين بغلا ذهبا، ثم نظر إليها الملك
فأعجبته إعجابا عظيما، فقال: ما تصلح هذه إلا بأختها، اطلبوا لي أختها،
قال: فأتوه فقالوا له: هل عندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك ؟ قال
وتفعلون ؟ قالوا: نعم.
فأتى الملك بها، فلما رآها أخذت بقلبه فقال أرضوه، فأضعفوا له ضعف
أختها، والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا وهيب بن الورد حدثنا عبد الجبار بن
الورد قال: حدثني داود ابن سابور قال قلنا لطاوس: أدع بدعوات، فقال: لا
أجد لذلك حسبة.
وقال ابن جرير عن ابن طاوس عن أبيه قال: البخل أن يبخل الانسان بما في
يده، والشح أن يحب أن له ما في أيدي الناس بالحرام لا يقنع: وقيل الشح
هو ترك القناعة، وقيل: هو أن يشح بما في يد غيره، وهو مرض من
(9/268)
أمراض القلب
ينبغي للعبد أن يعزله عن نفسه وينفيه ما استطاع، وهو يأمرنا بالبخل كما
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الشح فإن
الشح أهلك من كان قبلكم [ أمرهم ] بالبخل فبخلوا وبالقطيعة فقطعوا وهذا
هو الحرص على الدنيا وحبها " وقال ابن أبي شيبة: حدثنا المحاربي عن ليث
عن طاوس قال: ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل فيصبح قد كتب له مائة
حسنة أو أكثر من ذلك، ومن زاد زيد في ثوبه، وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا
سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس.
قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج.
وعن سفيان عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لاقولن لك
ما قال عمر بن الخطاب لابي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو
فجور.
وقال طاوس: لا يحرز دين المؤمن إلا حفرته.
وقال عبد الرزاق، عن معمر بن طاوس وغيره أن رجلا كان يسير مع طاوس،
فسمع الرجل غرابا ينعب، فقال: خير: فقال طاوس: أي خير عند هذا أو شر لا
تصحبني ولا تمش معي.
وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: إذا غدا الانسان اتبعه الشيطان، فإذا أتى المنزل فسلم نكص الشيطان
وقال: لا مقيل، فإذا أتي بغدائه فذكر اسم الله قال: ولا غداء ولا مقيل،
فإذا دخل ولم يسلم قال الشيطان: أدركنا المقيل، فإذا أتي بغدائه ولم
يذكر اسم الله عليه قال الشيطان: مقيل وغداء، وفي العشاء مثل ذلك.
وقال: إن الملائكة ليكتبون صلاة بني آدم: فلان زاد فيها كذا وكذا،
وفلان نقص فيها كذا وكذا وذلك في الركوع والخشوع والسجود.
وقال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم سكنت، وكان
إذا سمع صوت
الرعد يقول: سبحان من سبحت له.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد لطاوس:
يا أبا عبد الرحمن ! رأيتك تصلي في الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم
على بابها يقول لك: اكشف قناعك، وبين قراءتك.
فقال له: اسكت لا يسمع هذا منك أحد.
ثم تخيل إلى أن انبسط في الحديث.
وقال أحمد أيضا بهذا الاسناد: إن طاوسا قال لابي نجيح: يا أبا نجيح ! !
من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى.
وقال مسعر عن رجل إن طاوسا أتى رجلا في السحر فقالوا: هو نائم، فقال:
ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا ابن يمان عن
مسعود، فذكره.
قال الثوري: كان طاوس يجلس في بيته، فقيل له في ذلك فقال: حيف الائمة
وفساد الناس.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرني أبي قال: كان طاوس
يصلي في غداة باردة معتمة، فمر به محمد بن يوسف صاحب اليمن وحاجبها -
وهو أخو الحجاج بن يوسف - وطاوس ساجد، والامير راكب في مركبه، فأمر
بساج أو طيلسان مرتفع القيمة فطرح على طاوس وهو ساجد، فلم يرفع رأسه
حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض فألقاه عنه،
ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله وتركه ملقى على الارض.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا حماد بن عيينة عن
(9/269)
ابن جريج عن
عطاء عن طاوس عن ابن عباس: ما من شئ يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى
أنينه في مرضه، فلما مرض الامام أحمد أن فقيل له: إن طاوسا كان يكره
أنين المرض فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان، عن أبيه،
عن داود بن شابور.
قال: قال رجل لطاوس: ادع الله لنا، فقال: ما أجد بقلبي خشية فأدعو لك.
وقال ابن طالوت: حدثنا عبد السلام بن هاشم، عن الحسن بن أبي الحصين
العنبري.
قال: مر طاوس برواس قد أخرج رؤوسا فغشي عليه.
وفي رواية كان إذا رأى الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الاشجعي عن سفيان
الثوري.
قال: قال طاوس: إن الموتى يفتنون في قبورهم (1) سغبا، وكانوا يستحيون
أن يطعم عنهم تلك الايام.
وقال ابن إدريس: سمعت ليثا يذكر عن طاوس وذكر النساء فقال: فيهن كفر من
مضى وكفر من بقي.
وقال أبو عاصم عن بقية عن سلمة بن وهرام، عن طاوس قال: كان يقال: اسجد
للقرد في زمانه، أي أطعه في المعروف.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أسامة، حدثنا نافع بن عمر، عن بشر بن
عاصم.
قال: قال طاوس: ما رأيت مثل (2) أحد آمن على نفسه، ولقد رأيت رجلا لو
قيل لي: من أفضل من تعرف ؟ لقلت: فلان ذلك الرجل، فمكثت على ذلك حينا
ثم أخذه وجع في بطنه، فأصاب منه شيئا استنضح بطنه عليه، فاشتهاه،
فرأيته في نطع ما أدري أي طرفيه أسرع حتى مات عرقا.
وروى أحمد: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن طاوس: أنه رأى فتية من
قريش يرفلون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم
تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون أن يمشوها.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أن طاوسا قام على رفيق له
مرض حتى فاته الحج - لعله هو الرجل المتقدم قبل هذا استنضح بطنه - وقال
مسعر بن كدام عن عبد الكبير المعلم قال طاوس قال ابن عباس: سئل النبي
صلى الله عليه وسلم من أحسن قراءة ؟ قال: " من إذا سمعته يقرأ رأيت أنه
يخشى الله عزوجل ".
وقد روي هذا أيضا من طريق ابن لهيعة، من عمرو بن دينار، عن طاوس قال:
قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحسن الناس قراءة
من قرأ القرآن يتحزن به ".
وعنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: رآني رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعلي ثوبان معصفران فقال: " أمك أمرتك بهذا ؟ قلت: أغسلهما ؟ قال:
بل أحدهما " رواه مسلم في صحيحه عن داود بن راشد عن عمر بن أيوب، عن
إبراهيم بن نافع عن سليمان الاحول عن طاوس به.
وروى محمد بن مسلمة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عمر وقال: قال
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 289: سبعا.
(2) كذا بالاصل، ولعلها: ما رأيت مثلي أحدا آمنا.
(*)
(9/270)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " الجلاوذة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار ".
انفرد به محمد بن مسلم
الطالقي.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحسن الانماطي البغدادي، حدثنا عبد
المنعم بن إدريس، حدثنا أبي عن وهب بن منبه عن طاوس عن أنس بن مالك
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب: " يا
علي استكثر من المعارف من المؤمنين فكم من معرفة في الدنيا بركة في
الآخرة ".
فمضى علي فأقام حينا لا يلقى أحدا إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد ذلك
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعلت فيما أمرتك به ؟ قال:
قد فعلت يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذهب فابل
أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فابل أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى
الله عليه وسلم تبسم [ فقال ]: ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء
الآخرة ؟ فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف
عليكم) [ الزخرف: 67 - 68 ] يا علي ! أقبل على شأنك واملك لسانك، وأغفل
من تعاشر من أهل زمانك تكن سالما غانما " لم يرو إلا من هذا الوجه فيما
نعلم والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع ومائة فيها خرج باليمن رجل
يقال له عباد الرعيني فدعا إلى مذهب الخوارج واتبعه فرقة من الناس
وحلموا فقاتلهم يوسف بن عمر فقتله وقتل أصحابه، وكانوا ثلاثمائة.
وفيها وقع بالشام طاعون شديد، وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة وعلى
جيش أهل الشام ميمون بن مهران، فقطعوا البحر إلى قبرص وغزا مسلمة في
البر في جيش آخر (1).
وفيها ظفر أسد بن عبد الله القسري بجماعة من دعاة بني العباس بخراسان
فصلبهم وأشهرهم (2).
وفيها غزا أسد القسري جبال نمروذ (3)، ملك القرقيسيان، مما يلي جبال
الطالقان، فصالحه نمروذ وأسلم على يديه.
وفيها غزا أسد الغور - وهي جبال هراة - فعمد أهلها إلى حواصلهم
وأموالهم وأثقالهم فجعلوا ذلك كله في كهف منيع، لا سبيل لاحد عليه، وهو
مستعل جدا، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع
ما هنالك في التوابيت ورفعوهم فسلموا وغنموا، وهذا رأي سديد.
وفيها أمر أسد بجمع ما حول بلخ
إليها.
واستناب عليها برمك والد خالد بن برمك وبناها بناء جيدا جديدا محكما
وحصنها وجعلها معقدا للمسلمين.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 141: أورد الخبرين في حوادث سنة 108 ه.
(2) في الطبري 8 / 188 ومنهم: أبو عكرمة ومحمد بن خنيس.
وانظر ابن الاثير 5 / 136 وفي الاخبار الطوال ص 334: أبو عكرمة وحيان
العطار ضرب أعناقهما وصلبهما أسد بن عبد الله في أيام يزيد بن عبد
الملك.
(3) في الطبري 8 / 188 وابن الاثير 5 / 137: جبال نمرون ملك الغرشستان.
(*)
(9/271)
سليمان بن يسار
أحد التابعين وهو أخو عطاء بن يسار، له روايات كثيرة، وكان من
المجتهدين في العبادة، وكان من أحسن الناس وجها، توفي بالمدينة وعمره
ثلاث وسبعون سنة، دخلت عليه امرأة من أحسن الناس وجها فأرادته على
نفسها فأبى وتركها في منزله وخرج هاربا منها، فرأى يوسف عليه السلام في
المنام.
فقال له: أنت يوسف ؟ فقال: نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي
لم تهم.
وقيل إن هذه الحكاية إنما وقعت في بعض منازل الحجاج، وكان معه صاحب له،
فبعثه إلى سوق الحجاج ليشتري شيئا فانحطت على سليمان امرأة من الجبل
حسناء فقالت له: هيت لك، فبكى واشتد بكاؤه فلما رأت ذلك منه ارتفعت في
الجبل، وجاء صديقه فوجده يبكي فقال له: مالك تبكي ؟ فقال خير، فقال:
لعلك ذكرت بعض ولدك أو بعض أهلك ؟ فقال: لا ! فقال: والله لتخبرني ما
أبكاك أنت.
قال: أبكاني حزني على نفسي، لو كنت مكانك لم أصبر عنها، ثم ذكر أنه نام
فرأى يوسف في منامه كما تقدم والله أعلم.
عكرمة مولى ابن عباس أحد التابعين، والمفسرين المكثرين والعلماء
الربانيين، والرحالين الجوالين.
وهو أبو عبد الله، وقد روى عن خلق كثير من الصحابة، وكان أحد أوعية
العلم، وقد أفتى في حياة مولاه ابن عباس، قال عكرمة: طلبت العلم أربعين
سنة، وقد طاف عكرمة البلاد، ودخل إفريقية
واليمن والشام والعراق وخراسان، وبث علمه هنالك، وأخذ الصلات وجوائز
الامراء وقد روى ابن أبي شيبة عنه قال: كان ابن عباس يجعل في رجلي
الكبل (1) يعلمني القرآن والسنن، وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي
خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا، عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة،
ومجاهد فأقبل سعيد ومجاهد يلقيان على عكرمة التفسير فلم يسألاه عن آية
إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا،
قال: ثم دخلوا الحمام ليلا.
قال جابر بن زيد: عكرمة أعلم الناس.
وقال الشعبي: ما بقى أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.
وروى الامام أحمد عن عبد الصمد عن سلام بن مسكين، سمعت قتادة يقول:
أعلمهم بالتفسير عكرمة.
وقال سعيد بن جبير نحوه، وقال عكرمة: لقد فسرت ما بين اللوحتين.
وقال ابن علية عن أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية فقال: نزلت في سفح ذلك
الجبل - وأشار إلى سلع - وقال عبد الرزاق عن أبيه: لما قدم عكرمة الجند
حمله طاوس على نجيب فقال: ابتعت علم هذا الرجل (2)، وفي رواية أن طاوسا
حمله على نجيب ثمنه ستون دينارا وقال: ألا نشتري علم هذا العبد بستين
دينارا !.
__________
(1) الكبل: القيد.
(2) زيد في طبقات ابن سعد 5 / 289: بهذا الجمل.
(9/272)
ومات عكرمة
وكثير عزة في يوم واحد فأخرجت جنازتهم فقال الناس: مات أفقه الناس
وأشعر الناس، وقال عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلق فأفت الناس فمن سألك
عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عني ثلثي
مؤنة الناس.
وقال سفيان عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف
عليهم ينظر كيف يصنعون ويقتتلون.
وقال الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يقول:
سمعت أيوب يقول: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة إلى أفق من الآفاق، فال
فإني لفي سوق البصرة، فإذا رجل على حمار، فقيل: هذا عكرمة، قال: واجتمع
الناس إليه فما قدرت أنا على شئ أسأله عنه، ذهبت مني المسائل،
وشردت عني فقمت إلى جنب حماره فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه (1).
وقال شعبة عن خالد الحذاء قال: قال عكرمة لرجل وهو يسأله: مالك أخبلت ؟
أي فتنت.
وقال زياد بن أبي أيوب: حدثنا أبو ثميلة، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد
قال: قلت لعكرمة بنيسابور: الرجل يريد الخلاء في إصبعه خاتم فيه اسم
الله، قال: يجعل فصه في بطان يده ثم يقبض عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خالد قال: سمعت شعبة يقول: قال خالد
الحذاء: كل شئ قال فيه محمد بن سيرين: ثبت عن ابن عباس، إنما سمعه من
عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة.
وقال سفيان الثوري: خذوا المناسك عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة.
وقال أيضا: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة،
والضحاك.
وقال عكرمة: أدركت مئتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا
المسجد.
وقال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن
عكرمة: قال: كانت الخيل التي شغلت سليمان بن داود عليه السلام عشرين
ألفا فعقرها، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معمر بن سليمان عن الحكم
بن أبان عن عكرمة: (الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) [
النساء: 17 ] قال: الدنيا كلها قريب وكلها جهالة.
وفي قوله (الذين لا يريدون علوا في الارض) [ القصص: 83 ] قال: عند
سلاطينها وملوكها.
(ولا فسادا) لا يعلمون بمعاصي الله عز وجل.
(والعاقبة) هي الجنة.
وقال في قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) [ الاعراف: 164 ] أي
تركوا ما وعظوا (بعذاب بئيس) أي شديد (فلما عتوا عما نهوا عنه) أي
تمادوا وأصروا.
(خاسئين) صاغرين.
(فجعلناها نكالا لما بين يديها) [ البقرة: 166 ] أي من الامم الماضية
(وما خلفها) [ البقرة: 66 ] من الامم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم
(وموعظة) تقي من اتعظ بها الشرك والمعاصي.
وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة بعث الله الذين اعتدوا ويحاسب
الذين تركوا الامر والنهي كان المسخ لهم عقوبة في الدنيا حين تركوا
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال
__________
(1) انظر ابن سعد 5 / 289.
(*)
(9/273)
عكرمة: قال ابن
عباس: هلك والله القوم جميعا، قال ابن عباس فالذين أمروا ونهوا نجوا،
والذين لم يأمروا ولم ينهوا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي.
قال: وذلك أهل إيلة - وهي قرية على شاطئ البحر - وكان الله قد أمر بني
إسرائيل إن يتفرغوا ليوم الجمعة فقالوا: بل نتفرغ ليوم السبت، لان الله
فرغ من الخلق يوم السبت، فأصبحت الاشياء مسبوتة.
وذكروا قصة أصحاب السبت، وتحريم الصيد عليهم، وأن الحيتان كانت تأتيهم
يوم السبت ولا تأتيهم في غيره من الايام، وذكروا احتيالهم على صيدها في
يوم السبت فقال قوم: لا ندعكم تصيدون في يوم السبت ووعظوهم، فجاء قوم
آخرون مداهنون فقالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا
شديدا ؟) [ الاعراف: 163 ] قال الناهون (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)
[ الاعراف: 163 ] أي ينتهون عن الصيد في يوم السبت.
وقد ذكر عكرمة أنه لما قال لابن عباس إن المداهنين هلكوا مع الغافلين،
كساه ثوبين.
وقال حوثرة عن مغيرة عن عكرمة قال: كانت القضاة ثلاثة - يعني في بني
إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا
فبعث الله ملكا على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك
العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال: يا عبد الله ! عجلي
وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال:
القاضي بيني وبينك، قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة فتكلم صاحب
العجل فقال له: مربي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال: ومع
الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة وقال: اقض لي،
فقال: كيف يسوغ هذا ؟ فقال: نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها
فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له.
فقال صاحب العجل: لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم
أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها،
وقال لا أقضي بينكما اليوم، فقالا: ولم لا تقضي بيننا ؟ فقال: لاني
حائض، فقال الملك: سبحان الله ! رجل يحيض ! ؟.
فقال القاضي: سبحان الله ! وهل تنتج الفرس عجلا ؟ فقضى
لصاحب البقرة.
فقال الملك: إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.
وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة أن ملكا من الملوك
نادى في مملكته: إني إن وجدت أحدا يتصدق بصدقة قطعت يده، فجاء سائل إلى
امرأة فقال: تصدقي علي بشئ فقالت: كيف أتصدق عليك والملك يقطع يد من
يتصدق ؟ قال: أسألك بوجه الله إلا تصدقت علي بشئ، فتصدقت عليه برغيفين،
فبلغ ذلك الملك فأرسل إليها فقطع يديها، ثم إن الملك قال لامه: دليني
على امرأة جميلة لا تزوجها، فقالت: إن ههنا امرأة ما رأيت مثلها، لو لا
عيب بها، قال: أي عيب هو ؟ قالت: مقطوعة اليدين، قال: فأرسلي إليها،
فلما رآها أعجبته - وكان لها جمال - فقالت: إن الملك يريد أن يتزوجك:
قالت: نعم إن شاء الله، فتزوجها
(9/274)
وأكرمها، فنهد
إلى الملك عدو فخرج إليهم، ثم كتب إلى أمه: انظري فلانة فاستوصي بها
خيرا وافعلي وافعلي معها، فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها
فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه: انظري فلانة فقد بلغني أن رجالا
يأتونها فأخرجيها من البيت وافعلي وافعلي، فكتبت إليه الام إنك قد
كذبت، وإنها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن فنزل بهن فأخذن الكتاب
فغيرنه فكتبن إليه: إنها فاجرة وقد ولدت غلاما من الزنا، فكتب إلى أمه:
انظري فلانة فاجعلي ولدها على رقبتها واضربي على جيبها واخرجيها.
قال: فلما جاءها الكتاب قرأته عليها وقالت لها: اخرجي، فجعلت الصبي على
رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة فنزلت لتشرب والصبي على رقبتها
فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكي على شاطئ النهز، فمر بها رجلان فقالا:
ما يبكيك ؟ فقالت: ابني كان على رقبتي وليس لي يدان فسقط في الماء
فغرق.
فقالا لها: أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا ؟ قالت: نعم !
فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها: أتدرين من نحن ؟
قالت: لا قالا: نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما.
وقال في قوله: (طيرا أبابيل) [ الفيل: 3 ] قال: طير خرجت من البحر لها
رؤوس كرؤوس السباع فلم تزل ترميهم حتى جدرت جلودهم، وما رؤي الجدري قبل
يومئذ وما رؤي الطير قبل
يومئذ ولا بعد.
وفي قوله تعالى: (ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) [ فصلت: 6 - 7 ]
قال: لا يقولون لا إله إلا الله، وفي قوله (قد أفلح من تزكى) [ الاعلى:
14 ] قال: من يقول لا إله إلا الله، وفي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) [
النازعات: 18 ] إلى أن تقول لا إله إلا الله، وفي قوله: (إن الذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [ فصلت: 30 ] على شهادة أن لا إله إلا
الله.
وفي قوله: (أليس منكم رجل رشيد) [ هود: 78 ] أليس منكم من يقول: لا إله
إلا الله، وفي قوله: (وقال صوابا) [ النبأ: 38 ] قال: لا إله إلا الله.
وفي قوله: (إنك لا تخلف الميعاد) [ آل عمران: 194 ] لمن قال: لا إله
إلا الله.
وفي قوله (لا عدوان إلا على الظالمين) [ البقرة: 193 ] على من لا يقول:
لا إله إلا الله.
وفي قوله: (واذكر ربك إذا نسيت) [ الكهف: 24 ] قال: إذا غضبت (سيماهم
في وجوههم) [ الفتح: 29 ] قال: السهو.
وقال: إن الشيطان ليزين للعبد الذنب، فإذا عمله تبرأ منه، فلا يزال
يتضرع إلى ربه ويتمسكن له ويبكي حتى يغفر الله له ذلك وما قبله.
وقال: قال جبريل عليه السلام: إن ربي ليبعثني إلى الشئ لامضيه فأجد
الكون قد سبقني إليه.
وسئل عن الماعون قال: العارية.
قلت: فإن منع الرجل غربالا أو قدرا أو قصعة أو شيئا من متاع البيت فله
الويل ؟ قال: لا ! ولكن إذا نهي عن الصلاة ومنع الماعون فله الويل.
وقال: البضاعة المزجاة التي فيها تجوز.
وقال: السائحون، هم طلبة العلم وقال: (كما يئس الكفار من أصحاب القبور)
[ الممتحنة: 13 ] قال: إذا دخل الكفار القبور وعاينوا ما أعد الله لهم
من الخزي، يئسوا من نعمة الله.
وقال
(9/275)
غيره: [ يئس
الكفار من أصحاب القبور) أي من حياتهم وبعثهم بعد موتهم.
وقال: كان إبراهيم عليه السلام يدعى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة
أبواب لكيلا يفوته أحد، وقال: أنكالا، أي قيودا.
وقال في كاهن سبأ: إنه قال لقومه لما دنا منهم العذاب: من أراد سفرا
بعيدا وحملا شديدا، فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا
والعصير، فعليه ببصرى
- يعني الشام - ومن أراد الراسخات في الوحل، والمقيمات في المحل فعليه
بيثرب ذات النخل.
فخرج قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، وهم غسان، وخرج الاوس والخزرج - وهم
بنو كعب بن عمرو - وخزاعة حتى نزلوا يثرب، ذات النخل، فلما كانوا ببطن
مر قالت خزاعة: هذا موضع صالح لا نريد به بدلا، فنزلوا، فمن ثم سميت
خزاعة، لانهم تخزعوا من أصحابهم.
وتقدمت الاوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب، فقال الله عزوجل ليوسف عليه
السلام يا يوسف ! بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك مع الذاكرين.
وقال: قال لقمان لابنه: قد ذقت المرار فلم أذق شيئا أمر من الفقر.
وحملت كل حمل ثقيل فلم يحمل أثقل من جار السوء.
ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب.
رواه وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبيه عن عكرمة: (وما رميت إذ رميت
ولكن الله رمى) [ الانفال: 17 ] قال: ما وقع شئ منها إلا في عين رجل
منهم.
وقال: في قوله تعالى (زنيم) [ القلم: 13 ] هو اللئيم الذي يعرف اللؤمة
كما يعرف الشاة بذنمتها.
وقال في قوله تعالى (الذين يؤذون الله ورسوله) [ الاحزاب: 53 ] قال: هم
أصحاب التصاوير، (وبلغت القلوب الحناجر) [ الاحزاب: 100 ] قال: لو أن
القلوب تحركت أو زالت لخرجت نفسه، وإنما هو الخوف والفزع.
(فتنتم أنفسكم) [ الحديد: 14 ] أي بالشهوات (وتربصتم) [ الحديد: 14 ]
بالتوبة (وغرتكم الاماني) [ الحديد: 14 ] أي التسويف (حتى جاء أمر
الله) الموت (وغركم بالله الغرور) الشيطان.
وقال: من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزل ذلك اليوم في سرور حتى يمسي.
قال سلمة بن شعيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم عن أبان عن أبيه.
قال: كنت جالسا مع عكرمة عند البحر فذكروا الذين يغرقون في البحر فقال
عكرمة: الذين يغرقون في البحار تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقي منها شئ
إلا العظام، حتى تصير حائلا نخرة فتمر بها الابل فتأكلها، ثم تسير
الابل فتبعرها، ثم يجئ بعدهم قوم فينزلون ذلك المنزل فيأخذون ذلك البعر
فيوقدونه ثم يصير رمادا فتجئ الريح فتأخذه فتذريه في كل مكان من الارض
حيث يشاء الله من بره وبحره، فإذا جاءت النفخة - نفخة المبعث - فيخرج
أولئك وأهل القبور المجموعين سواء.
وبهذا الاسناد
عنه قال: إن الله أخرج رجلين، رجلا من الجنة ورجلا من النار، فقال
لصاحب الجنة: عبدي ! كيف وجدت مقيلك ؟ قال خير مقيل.
ثم قال لصاحب النار: عبدي كيف وجدت مقيلك ؟ فقال: شر مقيل قاله
القائلون، ثم ذكر من عقاربها وحياتها وزنابيرها، ومن أنواع ما
(9/276)
فيها من العذاب
وألوانه، فيقول الله تعالى لصاحب النار: عبدي ! ماذا تعطيني إن أنا
أعفيتك من النار ؟ فيقول العبد: إلهي وماذا عندي ما أعطيك، فقال له
الرب تعالى: لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني فأعفيك من النار ؟ فقال
نعم، فقال له الرب: كذبت لقد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك !
تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرني فأغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكتب تتولى
ذاهبا.
وبهذا الاسناد قال: ما من عبد يقربه الله عزوجل يوم القيامة للحساب إلا
قام من عند الله بعفوه، وبه عنه: لكل شئ أساس، وأساس الاسلام الخلق
الحسن.
وبه عنه قال: شكا نبي من الانبياء إلى ربه عزوجل الجوع والعري، فأوحى
الله إليه: أما ترضى أني سددت عنك باب الشر الناشئ عنها ؟.
وبه عنه قال: إن في السماء ملكا يقال له إسماعيل لو أذن الله له بفتح
أذن من آذانه يسبح الرحمن عز وجل لمات من في السموات والارض.
وبه عنه قال: سعة الشمس سعة الارض وزيادة ثلاث مرات، وسعة القمر سعة
الارض مرة، وإن الشمس إذا غربت دخلت بحرا تحت العرش تسبح الله حتى إذا
أصبحت استعفت ربها تعالى من الطلوع فيقول لها: ولم ذاك - وهو أعلم -
فتقول: لئلا أعبد من دونك، فيقول لها: اطلعي فليس عليك شئ من ذلك،
حسبهم جهنم أبعثها إليهم مع ثلاث عشرة ألف ملك تقودها حتى يدخلوهم:
وهذا خلاف ما ثبت في الحديث الصحيح " إن جهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف
زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك ".
وقال مندل عن أسد بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقفن أحدكم على رجل يضرب
ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه.
ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من
يحضره إذا لم تدفعوا
عنه ".
لم يرفعه إلا مندل هذا.
وروى شعبة عن عمارة بن حفصة عن عكرمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بثوبه، ووضع يديه على حاجبيه "،
هذا حديث عال من حديث شعبة.
وروى بقية عن إسحاق بن مالك الخضري عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " من حلف على أحد يمينا، وهو يرى أن سيبره فلم
يفعل، فإنما إثمه على الذي لم يبره ".
تفرد به الوليد مرفوعا.
وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه: حدثنا عبيد بن عمر القواريري،
حدثنا يزيد بن ربيع، حدثنا عمارة بن أبي حفصة، حدثنا عكرمة، حدثتنا
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه بردان قطريان خشنان
غليظان، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح
فيهما فيثقلان عليك، فأرسل إلى فلان فقد أتاه برد من الشام فاشتر منه
ثوبان إلى ميسرة.
فقال: قد علمت والله، ما يريد مني الله إلا أن يذهب بثوبي ويمطلني
بثمنهما، فرجع الرسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال
صلى الله عليه وسلم: كذب ! قد علموا أني أتقاهم لله وآداهم للامانة ".
وفي هذا اليوم قال
(9/277)
النبي صلى الله
عليه وسلم: " لان يلبس أحدكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين مالي
عنده " والله سبحانه أعلم.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق كان أحد الفقهاء المشهورين، له
روايات كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضل أهل المدينة، وأعلم أهل
زمانه، قتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذته خالته فنشأ عندها، وساد وله
مناقب كثيرة.
أبو رجاء العطاردي.
وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور
وهو كثير بن عبد الرحمن بن الاسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي،
المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله
فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن
غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثير، لانه كان دميم الخلق
قصيرا، طوله ثلاثة أشبار.
قال ابن خلكان: كان يقال له رب الدبان (1)، وكان إذا مشى يظن أنه صغير
من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك (2) بن مروان يقول له: طأطئ رأسك
لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد
الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان يقال إنه أشعر
الاسلاميين، على أنه كان فيه تشيع، وربما نسبه بعضهم إلى مذهب
التناسخية (3)، وكان يحتج على ذلك من جهله وقلة عقله إن صح النقل عنه،
في قوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) [ الانفطار: 8 ] وقد استأذن
يوما على عبد الملك فلما دخل عليه قال عبد الملك: لان تسمع بالمعيدي
خير من أن تراه، فقال: حيهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه
ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول: وجربت
الامور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الامور وما تخفى الرجال علي أني *
بهم لاخو مثاقفة خبير
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 113: زب الذباب (2) في ابن خلكان: عبد العزيز.
(3) التناسخية: قالوا بتناسخ الارواح في الاجساد والانتقال من شخص إلى
شخص، وما يلقى الانسان من الراحة والتعب والدعة والنصب فمرتب على ما
أسلفه من قبل وهو في بدن آخر جزاء على ذلك.
والانسان أبدا في أحد أمرين: إما في فعل وإما في جزاء.
(الملل والنحل ص 119) قال الاسفرايني في الفرق ص 203: القائلون
بالتناسخ أصناف: صنف من الفلاسفة وصنف من السمنية (قالت بقدم العالم)
وهذان كانا قبل دولة الاسلام.
وصنفان آخران ظهرا في دولة الاسلام.
(*)
(9/278)
ترى الرجل
النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير ويعجبك الطرير فتختبره * فيخلف
ظنك الرجل الطرير وما هام الرجال لها بزين * ولكن زينها دين وخير بغاث
الطير أطولها جسوما * ولم تطل البزاة ولا الصقور
وقد عظم البعير بغير لب * فلم يستغن بالعظم البعير فيركب ثم يضرب
بالهراوي * ولا عرف لديه ولا نكير وعود النبع ينبت مستمرا * وليس يطول
والعضباء حور وقد تكلم أبو الفرج بن طرار على غريب هذه الحكاية وشعرها
بكلام طويل، قالوا: ودخل كثير عزة يوما على عبد الملك بن مروان فامتدحه
بقصيدته التي يقول فيها: - على ابن أبي العاصي دروع حصينة * أجاد
المسدى سردها وأدالها قال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الاعشى لقيس
بن معد يكرب: - وإذا تجئ كتيبة ملمومة * شهبا يخشى الذائدون صيالها كنت
المقدم غير لابس جبة * بالسيف يضرب معلما أبطالها فقال: يا أمير
المؤمنين وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم.
ودخل يوما على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال:
ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال: يا أمير
المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها
فذكرت قولي: إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم (1)
دريزينها نهته فلما لم تر النهي عافه * بكت فبكى مما عراها (2) قطينها
قال: أصبت فاحتكم، قال: مائة ناقة من نوقك المختارة، قال: هي لك، فلما
سار عبد الملك إلى العراق نظر يوما إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره
فقال: علي به، فلما جئ به قال له: أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به
تعطيني حكمي ؟ قال: نعم، قال: والله ؟ قال: والله، قال له عبد الملك
إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل
ليس هو على مذهبي، فان أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة،
فقال: أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم، قال أحتكم حكمي أن أردك إلى
أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالا
__________
(1) في الاغاني 9 / 21: عقد.
(2) في الاغاني، وابن خلكان 4 / 108: شجاها.
والقطين: الخدم والاتباع والحشم (*)
(9/279)
وأذن له
بالانصراف وقال حماد الراوية عن كثير عزة: وفدت أنا والاحوص ونصيب إلى
عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا
له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة.
فنحن نسير ونختال في رحالنا، فلما انتهينا إلى خناصرة ولاحت لنا
أعلامها، تلقانا مسلمة بن عبد الملك فقال: ما أقدمكم ؟ أو ما علمتم أن
صاحبكم لا يحب الشعر ولا الشعراء ؟ قال: فوجمنا لذلك، فأنزلنا مسلمة
عنده وأجرى علينا النفقات وعلف دوابنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر لا
يمكنه أن يستأذن لنا على عمر، فلما كان في بعض الجمع دنوت منه لاسمع
خطبته فأسلم عليه بعد الصلاة، فسمعته يقول في خطبته: لكل سفر زاد،
فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد
الله له من عذابه وثوابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الامد فتقسو
قلوبكم وتنقادوا لعدوكم.
فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه ولا يصبح
بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما
يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا
يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يطمئن، أعوذ
بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا
ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه، وارتج المسجد
وما حول بالبكاء والعويل: قال: فانصرفت إلى صاحبي فقلت: خد سرحا من
الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإنه رجل أخرى ليس برجل دنيا.
قال: ثم استأذن لنا مسلمة عليه يوم الجمعة فلما دخلنا عليه سلمت عليه
ثم قلت: يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا
وفود العرب.
فقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [ التوبة: 61 ] وقرأ الآية،
فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم وإلا فلا حق لكم فيها، فقلت: يا أمير
المؤمنين إني مسكين وعابر سبيل ومنقطع به، فقال: ألستم عند أبي سعيد ؟
- يعني مسلمة بن عبد الملك - فقلنا: بلى ! فقال: إنه لا ثواب على من هو
عند أبي سعيد، فقلت: ائذن لي يا أمير المؤمنين بالانشاد، قال: نعم ولا
تقل إلا حقا،
فأنشدته قصيدة فيه: وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريئا ولم تقبل إشارة
مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي * أتيت فأمسى راضيا كل مسلم ألا إنما
يكفي الفتى بعد ريعه * من الاود النادي ثقاف المقوم وقد لبست تسعى إليك
ثيابها * تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحيانا بعين مريضة * وتبسم
عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزا كأنما * سقتك مذوقا من سمام
وعلقم وقد كنت من أحبالها في ممنع * ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما
زلت تواقا إلى كل غاية * بلغت بها أعلى البناء المقدم فلما أتاك الملك
عفوا ولم تكن * لطالب دنيا بعده في تكلم
(9/280)
تركت الذي يفنى
وإن كان مونقا * وآثرت ما يبقى برأى مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي *
أمامك في يوم من الشر مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع * سوى الله من
مال رعيت ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق * بلغت به أعلى المعالي بسلم
فما بين شرق الارض والغرب كلها * مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول أمير
المؤمنين ظلمتني * بأخذك ديناري وأخذك درهمي ولا بسط كف لامرئ غير مجرم
* ولا السفك منه ظالما ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا * لك الشطر
من أعمارهم غير ندم فعشت بها ما حج لله راكب * ملب مطيف بالمقام وزمزم
فاربخ بها من صفقة لمبايع * وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال: فأقبل علي
عمر بن عبد العزيز وقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة، ثم استأذنه
الاحوص فأنشده قصيدة أخرى فقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة.
ثم استأذنه نصيب فلم يأذن له وأمر لكل واحد منهم بمائة وخمسين درهما،
وأغزى نصيبا إلى مرج دابق.
وقد وفد كثير عزة بعد ذلك على يزيد بن عبد الملك فامتدحه بقصائد فأعطاه
سبعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: كان كثير عزة شيعيا خبيثا يرى الرجعة، وكان يرى
التناسخ ويحتج بقوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) [ الانفطار: 8 ]
وقال موسى بن عقبة هول كثير عزة ليلة في منامه فأصبح يمتدح آل الزبير
ويرثي عبد الله بن الزبير، وكان يسئ الرأي فيه: بمفتضح البطحا تأول أنه
* أقام بها ما لم ترمها الاخاشب سرحنا سروبا آمنين ومن يخف * بوائق ما
يخشى تنبه النوائب تبرأت من عيب ابن أسماء إنني * إلى الله من عيب ابن
أسماء تائب هو المرء لا ترزى به أمهاته * وآباؤه فينا الكرام الاطايب
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قالت عائشة بنت طلحة لكثير عزة: ما
الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على نصف من الحسن
والجمال ؟ فلو قلت ذلك في وفي أمثالي فأنا أشرف وأفضل وأحسن منها -
وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسنا وجمالا وأصالة - وإنما قالت
له ذلك لتختبره وتبلوه فقال: ضحى قلبه يا عز أو كاد يذهل * وأضحى يريد
الصوم أو يتبدل وكيف يريد الصوم من هو وامق * لعزة لا قال ولا متبذل
إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول سنوليك عرفا إن
أردت وصالنا * ونحن لتيك الحاجبية أوصل
(9/281)
وحدثها الواشون
أني هجرتها * فحملها غيظا علي المحمل فقالت له عائشة: قد جعلتني خلة
ولست لك بخلة، وهلا قلت كما قال جميل فهو والله أشعر منك حيث يقول:
يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل فأجبتها بالقول بعد
تستر * حبي بثينة عن وصالك شاغلي لو كان في قلبي بقدر قلامة * فضل
وصلتك أو أتتك رسائلي فقال: والله ما أنكر فضل جميل، وما أنا إلا حسنة
من حسناته، واستحيا.
ومما أنشده ابن الانباري لكثير عزة: بأبي وأمي أنت من معشوقة * طبن
العدو لها فغير حالها ومشى إلي بعيب عزة نسوة * جعل الآله خدودهن
نعالها الله يعلم لو جمعن ومثلت * لاخذت قبل تأمل تمثالها ولو ان عزة
خاصمت شمس الضحى * في الحسن عند موفق لقضى لها وأنشد غيره لكثير عزة:
فما أحدث النأي الذي كان بيننا * سلوا ولا طول اجتماع تقاليا وما زادني
الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا غيره له: فقلت لها يا
عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت هنيئا مريئا غير داء مخامر
* لعزة من أعراضنا ما استحلت وقال كثير عزة أيضا وفيه حكمة أيضا: ومن
لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا
كل عثرة * يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب وذكروا أن عزة بنت جميل بن حفص
أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار أم عمرو الضمرية وفدت على عبد الملك
بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال: لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئا من
شعره، فقالت: لا أحفظ لكثير شعرا، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال في
هذه الابيات: قضى كل ذي دين علمت غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
فقال: ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله: وقد زعمت أني تغيرت بعدها *
ومن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي والمحبة كالذي * عهدت ولم يخبر
بذاك مخبر
(9/282)
قال فاستحيت
وقالت: أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكونه عنه، ولكن أحفظ له قوله:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الظلم لو تمشي بها العصم زلت صفوح فما
تلقاك إلا بخيلة * ومن مل منها ذلك الوصل ملت قال فقضى لها حاجتها
وردها ورد عليها ظلامتها وقال: أدخلوها الحرم ليتعلموا من أدبها.
وروى عن بعض نساء العرب قالت: اجتازت بنا عزة فاجتمع نساء الحاضر إليها
لينظرن حسنها، فإذا هي حميراء حلوة لطيفة، فلم تقع من النساء بذاك
الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حديثا، فما بقي في
أعيننا امرأة تفوقها حسنا وجمالا وحلاوة.
وذكر الاصمعي: عن سفيان بن عيينة قال: دخلت عزة على سكينة بنت الحسين
فقالت لها: إني أسألك عن شئ فاصدقيني، ما الذي أراد كثير في قوله لك:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها فقالت: كنت وعدته
قبلة فمطلته بها، فقالت: أنجزيها له وإثمها علي، وقد كانت سكينة بنت
الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل.
وروى أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيرا من عزة فأبت عليه
وقالت: يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ؟
وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر.
وروى أنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر
ما عنده، فتعرض لها فقالت: فأين حبك عزة ؟ فقال: أنا لك الفداء لو أن
عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت، ويحك لا تفعل ألست القائل: إذا وصلتنا
خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول ؟
فقال: بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها واسمعي ما أقول: هل وصل عزة إلا
وصل غانية * في وصل غانية من وصلها بدل قالت: فهل لك في المجالسة ؟
قال: ومن لي بذلك ؟ قال: فكيف بما قلت في عزة ؟ قال: أقلبه فيتحول لك،
قال فسفرت عن وجهها وقالت: أغدرا وتناكثا يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو
الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت: قاتل الله جميلا حيث
يقول: - محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متين ومن
هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافا بكل يمين ثم شرع كثير يعتذر
ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الاشعار ذاكرا وآثرا.
وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها
ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل: ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه
؟ فقال: ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات
(9/283)
عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال.
وكانت وفاته وفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على
المشهور.
وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة - أعني سنة سبع ومائة - والله
سبحانه أعلم. |