البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة
فيها غزا معاوية وسليمان ابنا أمير
المؤمنين هشام بن عبد الملك بلاد الروم، وفيها قصد شخص يقال له:
عمار بن يزيد، ثم سمى بخداش، إلى بلاد خراسان ودعا الناس إلى خلافة
محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاستجاب له خلق كثير، فلما التفوا
عليه دعاهم إلى مذهب الخرمية (1) الزنادقة، وأباح لهم نساء بعضهم بعضا،
وزعم لهم أن محمد بن علي يقول ذلك، وقد كذب عليه فأظهر الله عليه
الدولة فأخذ فجئ به إلى خالد بن عبد الله القسري أمير العراق وخراسان،
فأمر به فقطعت يده وسل لسانه ثم صلب بعد ذلك.
وفيها حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل أمير المدينة، وقيل إن إمرة
المدينة كانت مع خالد بن عبد الملك بن مروان، والصحيح أنه كان قد عزل
وولي مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان أمير العراق القسري.
وفيها كانت وفاة :
علي بن عبد الله بن عباس (2) ابن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو الحسن،
ويقال أبو محمد، وأمه زرعة بنت مسرح بن معد يكرب الكندي، أحد الملوك
الاربعة الاقيال المذكورين في الحديث الذي رواه أحمد، وهم مسرح، وحمل،
ومخولس، وأبضعة: وأختهم العمردة وكان مولد علي هذا يوم قتل علي بن أبي
طالب، فسماه أبوه باسمه، وكناه بكنيته، وقيل إنه ولد في حياة علي وهو
الذي سماه وكناه ولقبه بأبي الاملاك، فلما وفد على عبد الملك بن مروان
أجلسه معه على السرير وسأله عن اسمه وكنيته فأخبره فقال له: ألك ولد ؟
قال: نعم ولد لي ولد سميته محمدا، فقال له: أنت أبو محمد، وأجزل عطيته،
وأحسن إليه.
وقد كان علي هذا في غاية العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل
والعدالة والثقة كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، قال عمرو بن علي
الفلاس: كان من خيار الناس، وكانت وفاته بالجهمة (3) من أرض البلقاء في
هذه السنة، وقد قارب الثمانين.
وقد ذكر ابن خلكان أنه تزوج لبابة بنت عبد الله بن جعفر، التي كانت تحت
عبد الملك بن مروان، فطلقها،
وكان سبب طلاقه إياها أنه عض تفاحة ثم رمى بها إليها فأخذت السكين فحزت
من التفاحة ما مس فمه منها، فقال: ولم تفعلين هذا ؟ فقالت: أزيل الاذى
عنها - وذلك لان عبد الملك كان أبخر -
__________
(1) الخرمية: قال الاسفرائيني: هؤلاء صنفان صنف منهم كان قبل دولة
الاسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا ان الناس شركاء في
الاموال والنساء، ودامت فتنة هؤلاء إلى أن قتلهم أنوشروان في زمانه.
والصنف الثاني: الخر مدينية ظهروا في دولة الاسلام (ص 201).
(2) ترجمته في وفيات الاعيان 4 / 274 طبقات ابن سعد 5 / 312 صفة الصفوة
3 / 59 العبر للذهبي 1 / 148 شذرات الذهب 1 / 148، وتاريخ الطبري 8 /
230 ابن الاثير 5 / 198.
(3) في ابن الاثير 5 / 198: من أرض الشام (وانظر الطبري 8 / 230).
(*)
(9/351)
فطلقها عبد
الملك، فلما تزوجها علي بن عبد الله بن عباس هذا نقم عليه الوليد بن
عبد الملك لاجل ذلك، فضربه بالسياط، وقال إنما أردت أن تذل بنيها من
الخلفاء، وضربه مرة ثانية لانه اشتهر عنه أنه قال: الخلافة صائرة إلى
بيته، فوقع الامر كذلك (1).
وذكر المبرد أنه دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه السفاح والمنصور
وهما صغيران، فأكرمه هشام وأدنى مجلسه، وأطلق له مائة وثلاثين ألفا
(2)، وجعل علي بن عبد الله يوصيه بابنيه خيرا، ويقول: إنهما سيليان
الامر، فجعل هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق، فوقع
الامر كما قال.
قالوا: وقد كان علي في غاية الجمال وتمام القامة، كان بين الناس كأنه
راكب، وكان إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه
العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب، وقد بايع كثير من الناس
لابنه محمد بالخلافة قبل أن يموت علي هذا قبل هذه السنة بسنوات، ولكن
لم يظهر أمره حتى مات فقام بالامر من بعده ولده عبد الله أبو العباس
السفاح، وكان ظهوره في سنة اثنتين وثلاثين كما سيأتي إن شاء الله
تعالى.
عمرو بن شعيب، وعبادة بن نسي، وأبو صخرة جامع بن شداد، وأبو عياش
المعافري.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
ففيها غزا الوليد بن القعقاع بلاد الروم.
وفيها قتل أسد بن عبد الله القسري ملك الترك الاعظم خاقان، وكان سبب
ذلك أن أسد بن عبد الله أمير خراسان عمل نيابة عن أخيه خالد بن عبد
الله على العراق، ثم سار بجيوشه إلى مدينة ختل فافتتحها، وتفرقت في
أرضها جنوده يقتلون ويأسرون ويغنمون، فجاءت العيون إلى ملك الترك خاقان
أن جيش أسد قد تفرق في بلاد ختل، فاغتنم خاقان هذه الفرصة فركب من فوره
في جنوده قاصدا إلى أسد، وتزود خاقان وأصحابه سلاحا كثيرا، وقديدا
وملحا، وساروا في حنق عظيم، وجاء إلى أسد فأعلموه بقصد خاقان له في جيش
عظيم كثيف، فتجهز لذلك وأخذ أهبته، فأرسل من فوره إلى أطراف جيشه،
فلمها وأشاع بعض الناس أن خاقان قد هجم على أسد بن عبد الله فقتله
وأصحابه، ليحصل بذلك خذلان لاصحابه، فلا يجتمعون إليه، فرد الله كيدهم
في نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أن المسلمين لما سمعوا بذلك
أخذتهم حمية الاسلام وازدادوا حنقا على عدوهم، وعزموا على الاخذ
بالثأر، فقصدوا الموضع الذي فيه أسد، فإذا هو حي قد اجتمعت عليه
العساكر من كل جانب، وسار أسد نحو خاقان حتى أتى جبل الملح، وأراد أن
يخوض نهر بلخ، وكان معهم أغنام كثيرة، فكره أسد أن يتركها
__________
(1) وفيات الاعيان 3 / 275 - 276.
(2) انظر الكامل للمبرد 1 / 368.
وفيه: ثلاثون ألف درهم.
(*)
(9/352)
وراء ظهره،
فأمر كل فارس أن يحمل بين يديه شاة وعلى عنقه شاة، وتوعد من لم يفعل
ذلك بقطع اليد، وحمل هو معه شاة وخاضوا النهر، فما خلصوا منه جيدا حتى
دهمهم خاقان من ورائهم في خيل دهم، فقتلوا من وجدوه لم يقطع النهر وبعض
الضعفة، فلما وقفوا على حافة النهر أحجموا وظن المسلمون أنهم لا يقطعون
إليهم النهر، فتشاور الاتراك فيما بينهم، ثم اتفقوا على أن يحملوا حملة
واحدة - وكانوا خمسين ألفا - فيقتحمون النهر، فضربوا بكؤساتهم ضربا
شديدا حتى ظن المسلمون أنهم معهم في عسكرهم، ثم رموا بأنفسهم في النهر
رمية واحدة، فجعلت خيولهم تنخر أشد النخير، وخرجوا منه إلى ناحية
المسلمين فثبت المسلمون في معسكرهم، وكانوا قد خندقوا حولهم
خندقا لا يخلصون إليهم منه، فبات الجيشان تتراءى ناراهما، فلما أصبحا
مال خاقان على بعض الجيش الذي للمسلمين فقتل منهم خلقا وأسر أمما وإبلا
موقرة، ثم ان الجيشين تواجهوا في يوم عيد الفطر حتى خاف جيش أسد أن لا
يصلوا صلاة العيد، فما صلوها إلا على وجل، ثم سار أسد بمن معه حتى نزل
مرج بلخ، حتى انقضى الشتاء، فلما كان يوم عيد الاضحى خطب أسد الناس
واستشارهم في الذهاب إلى مرو أو في لقاء خاقان، أو في التحصن ببلخ.
فمنهم من أشار بالتحصن، ومنهم من أشار بملتقاه والتوكل على الله، فوافق
ذلك رأي أسد الاسد، فقصد بجيشه نحو خاقان، وصلى بالناس ركعتين أطال
فيهما، ثم دعا بدعاء طويل، ثم انصرف وهو يقول: نصرتم إن شاء الله، ثم
سار بمن معه من المسلمين فالتقت مقدمته بمقدمة خاقان، فقتل المسلمون
منهم خلقا وأسروا أميرهم وسبعة أمراء معه، ثم ساق أسد فانتهى إلى
أغنامهم فاستاقها، فإذا هي مائة ألف وخمسون ألف شاة، ثم التقى معهم،
وكان خاقان إنما معه أربعة آلاف أو نحوها، ومعه رجل من العرب قد خامر
إليه، يقال له الحارث بن سريج (1)، فهو يدلهم على عورات المسلمين، فلما
أقبل الناس هربت الاتراك في كل جانب، وانهزم خاقان ومعه الحارث بن سريج
(1) يحميه ويتبعه، فتبعهم أسد، فلما كان عند الظهيرة انخذل خاقان في
أربعمائة من أصحابه، عليهم الخز ومعهم الكؤسات، فلما أدركه المسلمون
أمر بالكؤسات فضربت ضربا شديدا ضرب الانصراف ثلاث مرات فلم يستطيعوا
الانصراف، فتقدم المسلمون فاحتاطوا على معسكرهم فاحتازوه بما فيه من
الامتعة العظيمة، والاواني من الذهب والفضة، والنساء والصبيان، من
الاتراك ومن معهم من الاسارى من المسلمات وغيرهم، مما لا يحد ولا يوصف
لكثرته وعظمه وقيمته وحسنه.
غير أن خاقان لما أحس بالهلاك ضرب امرأته بخنجر فقتلها، فوصل المسلمون
إلى المعسكر وهي في آخر رمق تتحرك، ووجدوا قدورهم تغلي باطعماتهم، وهرب
خاقان بمن معه حتى دخل بعض المدن فتحصن بها، فاتفق أنه لعب بالنرد مع
بعض الامراء (2) فغلبه الامير فتوعده خاقان بقطع اليد، فحنق عليه
__________
(1) من الطبري وابن الاثير وابن الاعثم، وفي الاصل شريح وهو تحريف.
(2) في ابن الاثير 5 / 205: كور صول.
وانظر الطبري 8 / 238.
(*)
(9/353)
ذلك الامير ثم
عمل على قتله فقتله، وتفرقت الاتراك يعدو بعضهم على بعض، وينهب بعضهم
بعضا، وبعث أسد إلى أخيه خالد يعلمه بما وقع من النصر والظفر بخاقان،
وبعث إليه بطبول خاقان - وكانت كبارا لها أصوات كالرعد وبشئ كثير من
حواصله وأمتعته، فأوفدها خالد إلى أمير المؤمنين هشام ففرح بذلك فرحا
شديدا، وأطلق للرسل أموالا جزيلة كثيرة من بيت المال وقد قال بعض
الشعراء في أسد يمدحه على ذلك: - لو سرت في الارض تقيس الارضا * تقيس
منها طولها والعرضا لم تلق خيرا إمرة ونقضا * من الامير أسد وأمضى افضى
إلينا الخير حتى افضا * وجمع الشمل وكان ارفضا ما فاته خاقان إلا ركضا
* قد فض من جموعه ما فضا يا بن سريج (1) قد لقيت حمضا * حمضا به تشفى
صداع المرضى وفيها قتل خالد بن عبد الله القسري المغيرة بن سعيد وجماعة
من أصحابه الذين تابعوه على باطله، وكان هذا الرجل (2) ساحرا فاجرا
شيعيا خبيثا، قال ابن جرير: ثنا ابن حميد، ثنا جرير، عن الاعمش قال:
سمعت المغيرة بن سعيد يقول: لو أراد أن يحيى عادا وثمودا وقرونا بين
ذلك لاحياهم.
قال الاعمش: وكان المغيرة هذا يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى مثل الجراد
على القبور، أو نحو هذا من الكلام.
وذكر ابن جرير له غير ذلك من الاشياء التي تدل على سحره وفجوره.
ولما بلغ خالدا أمره أمر بإحضاره فجئ به في ستة نفر أو سبعة نفر، فأمر
خالد فأبرز سريره إلى المسجد، وأمر باحضار أطناب القصب والنفط فصب
فوقها، وأمر المغيرة أن يحتضن طنبا منها، فامتنع فضرب حتى احتضن منها
طنبا واحدا وصب فوق رأسه النفط، ثم أضرم بالنار.
وكذلك فعل ببقية أصحابه.
وفي هذه السنة خرج رجل يقال له بهلول بن بشر ويلقب بكثارة، واتبعه
جماعات من الخوارج دون المائة، وقصدوا قتل خالد القسري، فبعث إليهم
البعوث فكسروا الجيوش واستفحل أمرهم جدا لشجاعتهم وجلدهم، وقلة نصح من
يقاتلهم من الجيوش، فردوا العساكر من الالوف
المؤلفة، ذوات الاسلحة والخيل المسومة، هذا وهم لم يبلغوا المائه، ثم
إنهم راموا قدوم الشام لقتل الخليفة هشام، فقصدوا نحوها، فاعترضهم جيش
بأرض الجزيرة فاقتتلوا معهم قتالا عظيما، فقتلوا
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل شريح.
(2) كان المغيرة بن سعيد من القائلين بالتجسيم أي أن الله على صورة رجل
على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به
لسان، ويقول بتكفير أبي بكر وعمر وان الله تعالى لما أراد أن يخلق تكلم
باسمه الاعظم فطار فوقع على تاجه ثم كتب باصبعه على كفه أعمال عباده من
المعاصي والطاعات.
(الفرق بين الفرق ص 181 - 182 ابن الاثير 5 / 208).
(*)
(9/354)
عامة أصحاب
بهلول الخارجي.
ثم إن رجلا من جديلة يكنى أبا الموت ضرب بهلولا ضربة فصرعه وتفرقت عنه
بقية أصحابه، وكانوا جميعهم سبعين رجلا (1)، وقد رثاهم بعض أصحابهم (2)
فقال: بدلت بعد أبي بشر وصحبته * قوما علي مع الاحزاب أعوانا بانوا كأن
لم يكونوا من صحابتنا * ولم يكونوا لنا بالامس خلانا يا عين أذري دموعا
منك تهتانا * وابكي لنا صحبة بانوا وجيرانا خلوا لنا ظاهر الدنيا
وباطنها * وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا ثم تجمع طائفة منهم أخرى على
بعض أمرائهم (3) فقاتلوا وقتلوا وقتلوا، وجهزت إليهم العساكر من عند
خالد القسري، ولم يزل حتى أباد خضراءهم ولم يبق لهم باقية.
وفيها غزا أسد القسري بلاد الترك، فعرض عليه ملكهم طرخان خان ألف ألف
فلم يقبل منه شيئا، وأخذه قهرا فقتله صبرا بين يديه، وأخذ مدينته
وقلعته وحواصله ونساءه وأمواله.
وفيها خرج الصحارى بن شبيب الخارجي واتبعه طائفة قليلة نحو من ثلاثين
رجلا، فبعث إليهم خالد القسري جندا فقتلوه وجميع أصحابه، فلم يتركوا
منهم رجلا واحدا.
وحج بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحج معه
ابن شهاب الزهري ليعلمه مناسك الحج، وكان أمير مكة والمدينة
والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل، وأمير العراق والمشرق وخراسان خالد
القسري، ونائبه على خراسان بكمالها أخوه أسد بن عبد الله القسري، وقد
قيل إنه توفي في هذه السنة، وقيل في سنة عشرين فالله أعلم.
ونائب أرمينية وأذربيجان مروان الحمار.
والله أعلم.
سنة عشرين ومائة من الهجرة فيها غزا
سليمان بن هشام بلاد الروم وافتتح فيها حصونا، وفيها غزا إسحاق بن مسلم
العقيلي تومان شاه، وافتتحها وخرب أراضيها، وفيها غزا مروان بن محمد
بلاد الترك، وفيها كانت وفاة أسد
ابن عبد لله القسري أمير خراسان، وكانت وفاته بسبب أنه كانت له دبيلة
في جوفه، فلما كان مهرجان هذه السنة قدمت الدهاقين - وهم أمراء المدن
الكبار - من سائر البلدان بالهدايا والتحف على أسد، وكان فيمن قدم نائب
هراة ودهقانها، واسم دهقانها خراسان شاه، فقدم بهدايا عظيمة وتحف
عزيزة، وكان من جملة ذلك قصر من ذهب، وقصر من فضة، وأبا ريق من ذهب،
وصحاف من
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 210 والطبري 8 / 242 أربعون رجلا.
(2) هو الضحاك بن قيس كما في الطبري 8 / 244.
(3) ومنهم: عمرو اليشكري قتل فخرج العنزي صاحب الاشهب فقتل ثم خرج وزير
السختياني.
(*)
(9/355)
ذهب وفضة،
وتفاصيل من حرير تلك البلاد ألوان ملونة، فوضع ذلك كله بين يدي أسد حتى
امتلا المجلس، ثم قام الدهقان خطيبا فامتدح أسدا بخصال حسنة، على عقله
ورياسته وعدله ومنعه أهله وخاصته أن يظلموا أحدا من الرعايا بشئ قل أو
كثر، وأنه قهر الخان الاعظم، وكان في مائة ألف فكسره وقتله، وأنه يفرح
بما يفد إليه من الاموال، وهو بما خرج من يده أفرح وأشد سرورا، فاثنى
عليه أسد وأجلسه، ثم فرق أسد جميع تلك الهدايا والاموال وما هناك أجمع
على الامراء والاكابر بين يديه، حتى لم يبق منه شئ، ثم قام من مجلسه
وهو عليل من تلك الدبيلة، ثم أفاق إفاقة وجئ بهدية كمثرى فجعل يفرقها
على الحاضرين واحدة واحدة، فألقى إلى دهقان خراسان واحدة فانفجرت
دبيلته وكان فيها حتفه، واستخلف على عمله جعفر بن حنظلة البهراني، فمكت
أميرا
أربعة أشهر حتى جاء عهد نصر بن سيار في رجب منها، فعلى هذا تكون وفاة
أسد في صفر من هذه السنة، وقد قال فيه ابن عرس العبدي يرثيه: نعى أسد
بن عبد الله ناع * فريع القلب للملك المطاع ببلخ وافق المقدار يسري *
وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحا * ألم يحزنك تفريق
الجماع أتاه حمامه في جوف صيغ * وكم بالصيغ من بطل شجاع كتائب قد
يجيبون المنادي * على جرد مسومة سراع سقيت الغيث إنك كنت غيثا * مريعا
عند مرتاد النجاع وفيها عزل هشام خالد بن عبد الله القسري عن نيابة
العراق، وذلك أنه انحصر منه لما كان يبلغه من إطلاق عبارة فيه، وأنه
كان يقول عنه ابن الحمقاء، وكتب إليه كتابا فيه غلظة، فرد عليه هشام
ردا عنيفا (1)، ويقال إنه حسده على سعة ما حصل له من الاموال والحواصل
والغلات، حتى قيل إنه كان دخله في كل سنة ثلاثة عشر ألف ألف دينار،
وقيل درهم، ولولده يزيد بن خالد عشرة آلاف ألف، وقيل إنه وفد إليه رجل
من الزام أمير المؤمنين من قريش يقال له ابن عمرو (2)، فلم يرحب به ولم
يعبأ به، فكتب إليه هشام يعنفه ويبكته على ذلك، وأنه حال وصول هذا
الكتاب إليه يقوم من فوره بمن حوله من أهل مجلسه فينطلق على قدميه حتى
يأتي باب ابن عمرو صاغرا ذليلا مستأذنا عليه، متنصلا إليه مما وقع، فإن
أذن لك وإلا فقف على بابه حولا غير متحلل من مكانك ولا زائل، ثم أمرك
إليه إن شاء عزلك وإن شاء أبقاك، وإن شاء انتصر، وإن شاء عفا.
وكتب إلى ابن عمرو يعلمه بما كتب إلى خالد، وأمره إن وقف بين يديه أن
يضربه عشرين سوطا على رأسه، إن رأى
__________
(1) انظر نسخة كتاب خالد إلى هشام ورد هشام عليه في الطبري 8 / 251.
(2) من آل عمرو بن سعيد بن العاص.
(*)
(9/356)
ذلك مصلحة.
ثم إن هشاما عزل خالدا وأخفى ذلك، وبعث البريد إلى نائبه على اليمن وهو
يوسف
ابن عمر فولاه إمرة العراق، وأمره بالمسير إليها والقدوم عليها في
ثلاثين راكبا، فقدموا الكوفة وقت السحر، فدخلوها، فلما أذن المؤذن أمره
يوسف بالاقامة: فقال: إلى أن يأتي الامام - يعني خالدا - فانتهره وأمره
بالاقامة وتقدم يوسف فصلى وقرأ (إذا وقعت الواقعة) و (سأل سائل) ثم
انصرف فبعث إلى خالد وطارق (1) وأصحابهما، فاحضروا فأخذ منهم أموالا
كثيرة، صادر خالدا بمائة ألف ألف درهم، وكانت ولاية خالد في شوال سنة
خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الاولى من هذه السنة - أعني سنة عشرين
ومائة - وفي هذا الشهر قدم يوسف بن عمر على ولاية العراق مكان خالد بن
عبد الله القسري، واستناب على خراسان جديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر
بن حنظلة الذي كان استنابه أسد، ثم إن يوسف بن عمر عزل جديعا في هذه
السنة عن خراسان، وولى عليها نصر ابن سيار، وذهب جميع ما كان اقتناه
وحصله خالد من العقار والاملاك وهلة واحدة، وقد كان أشار عليه بعض
أصحابه لما بلغهم عتب هشام عليه أن يبعث إليه يعرض عليه بعض أملاكه،
فما أحب منها أخذه وما شاء ترك، وقالوا له: لان يذهب البعض خير من أن
يذهب الجميع مع العزل والاخراق فامتنع من ذلك واغتر بالدنيا وعزت نفسه
عليه أن يذل، ففجأه العزل، وذهب ما كان حصله وجمعه ومنعه، واستقرت
ولاية يوسف بن عمر على العراق وخراسان، واستقرت نيابة نصر بن سيار على
خراسان، فتمهدت البلاد وأمن العباد ولله الحمد والمنة.
وقد قال سوار بن الاشعري في ذلك: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة * من ظلم
كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت * اختار نصرا لها نصر
بن سيار وفي هذه السنة استبطأت شيعة آل العباس كتاب محمد بن علي إليهم،
وقد كان عتب عليهم في اتباعهم ذلك الزنديق الملقب بخداش، وكان خرميا،
وهو الذي أحل لهم المنكرات ودنس المحارم والمصاهرات، فقتله خالد القسري
كما تقدم، فعتب عليهم محمد بن علي في تصديقهم له واتباعهم إياه على
الباطل، فلما استبطأوا كتابه إليهم بعث إليهم رسولا يخبر لهم أمره،
وبعثواهم أيضا رسولا، فلما جاء رسولهم أعلمه محمد بماذا عتب عليهم بسبب
الخرمي، ثم أرسل مع الرسول
كتابا مختوما، فلما فتحوه لم يجدوا فيه سوى: بسم الله الرحمن الرحيم،
تعلموا أنه إنما عتبنا عليكم بسبب الخرمي.
ثم أرسل رسولا إليهم فلم يصدقه كثير منهم وهموا به، ثم جاءت من جهته
عصى ملويا عليها حديد ونحاس، فعلموا أن هذا إشارة لهم إلى أنهم عصاة،
وأنهم مختلفون كاختلاف ألوان النحاس والحديد.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها محمد بن هشام المخزومي فيما قاله أبو
__________
(1) وهو طارق بن أبي زياد.
(*)
(9/357)
معشر، قال: وقد قيل إن الذي حج بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك،
وقيل ابنه يزيد بن هشام فالله سبحانه وتعالى أعلم. |