البداية والنهاية، ط. دار هجر
[سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ]
[إِسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ
بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَكَانَ قُدُومُهُمْ أَوَائِلَ سَنَةِ ثَمَانٍ، عَلَى مَا سَيَأْتِي
قَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ
الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، فَرَوَى مِنْ
طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كُنْتُ لِلْإِسْلَامِ
مُجَانِبًا
(6/399)
مُعَانِدًا حَضَرْتُ بَدْرًا مَعَ
الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ أُحُدًا فَنَجَوْتُ، ثُمَّ
حَضَرْتُ الْخَنْدَقَ فَنَجَوْتُ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَمْ
أُوضِعُ! وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ.
فَلَحِقْتُ بِمَالِي بِالْوَهْطِ، وَأَقْلَلْتُ مِنَ النَّاسِ - أَيْ
مِنْ لِقَائِهِمْ - فَلَمَّا حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةُ، وَانْصَرَفَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّلْحِ،
وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إِلَى مَكَّةَ، جَعَلْتُ أَقُولُ: يَدْخُلُ
مُحَمَّدٌ قَابِلًا مَكَّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكَّةُ بِمَنْزِلٍ
وَلَا الطَّائِفُ، وَلَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ. وَأَنَا
بَعْدُ نَاءٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ
كُلُّهَا لَمْ أُسْلِمْ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَجَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ
قَوْمِي، وَكَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي،
وَيُقَدِّمُونَنِي فِيمَا نَابَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا
فِيكُمْ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا فِي يُمْنِ نَقِيبَةٍ
وَبَرَكَةِ أَمْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: تَعْلَمُونَ أَنِّي وَاللَّهِ
لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا
مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ؟
قُلْتُ: نَلْحَقُ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونُ مَعَهُ، فَإِنْ يَظْهَرْ
مُحَمَّدٌ كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ
النَّجَاشِيِّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ
مُحَمَّدٍ، وَإِنْ تَظْهَرْ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا،
قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ. قَالَ: قُلْتُ: فَاجْمَعُوا مَا نَهْدِيهِ
لَهُ. وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ،
فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى
النَّجَاشِيِّ، فَوَاللَّهِ إِنَّا
(6/400)
لِعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ، يُزَوِّجُهُ
أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ
خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ
أُمَيَّةَ، وَلَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلْتُهُ
إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ
سَرَرْتُ قُرَيْشًا، وَكُنْتُ قَدْ أَجَزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ
رَسُولَ مُحَمَّدٍ. فَدَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَجَدْتُ لَهُ
كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي
مِنْ بِلَادِكِ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ،
أَهْدَيْتُ لَكَ أَدَمًا كَثِيرًا. ثُمَّ قَدَّمْتُهُ فَأَعْجَبَهُ،
وَفَرَّقَ مِنْهُ شَيْئًا بَيْنَ بَطَارِقَتِهِ، وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ
فَأُدْخِلَ فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُحْتَفَظَ بِهِ،
فَلَمَّا رَأَيْتُ طِيبَ نَفْسِهِ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي
قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ عَدُوٍّ
لَنَا قَدْ وَتَرَنَا، وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا،
فَأَعْطِنِيهِ فَأَقْتُلَهُ. فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَفَعَ يَدَهُ
فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَسَرَهُ،
فَابْتَدَرَ مَنْخَرَايَ، فَجَعَلْتُ أَتَلَقَّى الدَّمَ بِثِيَابِي،
فَأَصَابَنِي مِنَ الذُّلِّ مَا لَوِ انْشَقَّتْ بِيَ الْأَرْضُ
دَخَلْتُ فِيهَا، فَرَقًا مِنْهُ. ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ،
لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ مَا قُلْتُ مَا سَأَلَتُكَ. قَالَ:
فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ
رَسُولَ مَنْ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي
مُوسَى، وَالَّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى لِتَقْتُلَهُ؟! قَالَ عَمْرُو:
فَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ فِي
نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ
أَنْتَ؟! ثُمَّ قُلْتُ: أَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟ قَالَ:
نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يَا عَمْرُو، فَأَطِعْنِي
وَاتَّبِعْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ،
(6/401)
وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ،
كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قُلْتُ:
أَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَسَطَ
يَدَهُ فَبَايَعَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَعَا بِطَسْتٍ،
فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدِ
امْتَلَأَتْ بِالدَّمِ فَأَلْقَيْتُهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ عَلَى
أَصْحَابِي، فَلَمَّا رَأَوْا كِسْوَةَ النَّجَاشِيِّ سُرُّوا بِذَلِكَ
وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ صَاحِبِكَ مَا أَرَدْتَ؟ فَقُلْتُ
لَهُمْ: كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقُلْتُ:
أَعُودُ إِلَيْهِ. فَقَالُوا: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ. قَالَ:
فَفَارَقْتُهُمْ وَكَأَنِّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ، فَعَمَدْتُ إِلَى
مَوْضِعِ السُّفُنِ، فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ تُدْفَعُ.
قَالَ: فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
الشُّعَيْبَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ،
فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، وَخَرَجْتُ أُرِيدَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى
مَرَرْتُ عَلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، ثُمَّ مَضَيْتُ، حَتَّى إِذَا
كُنْتُ بِالْهَدَةِ، فَإِذَا رَجُلَانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ
كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلًا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي الْخَيْمَةِ،
وَالْآخَرُ يُمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ. قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ:
مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ
بِهِ طَعْمٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ لَأُخِذَ بِرِقَابِنَا كَمَا
يُؤْخَذُ بِرَقَبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا. قُلْتُ: وَأَنَا
وَاللَّهِ قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا، وَأَرَدْتُ الْإِسْلَامَ.
فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحَّبَ بِي، فَنَزَلْنَا جَمِيعًا
فِي الْمَنْزِلِ، ثُمَّ تُرَافَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا
(6/402)
الْمَدِينَةَ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ
لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ، يَا
رَبَاحُ، يَا رَبَاحُ فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسُرِرْنَا، ثُمَّ
نَظَرَ إِلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكَّةُ
الْمُقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي
وَيَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَوَلَّى مُدْبِرًا إِلَى
الْمَسْجِدِ سَرِيعًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَشَّرَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا
ظَنَنْتُ، وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ، فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ
ثِيَابِنَا، ثُمَّ نُودِيَ بِالْعَصْرِ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى
اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَإِنَّ لِوَجْهِهِ تَهَلُّلًا، وَالْمُسْلِمُونَ
حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلَامِنَا، فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ
فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ
جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْفَعَ طَرَفِي
إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ. قَالَ: فَبَايَعْتُهُ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ
لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخَّرَ
فَقَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ،
وَالْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا» قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا
عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرٍ
حَزَبَهُ مُنْذُ أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ
بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ
الْحَالَةِ، وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ شَيْخُ الْوَاقِدِيِّ:
فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ
(6/403)
أَبِي حَبِيبٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي
رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ
مَوْلَاهُ حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَحْوَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: كَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ حَبِيبٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ. فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِي رَافِعٍ. وَسِيَاقُ
الْوَاقِدِيِّ أَبْسَطُ وَأَحْسَنُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ
شَيْخِهِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: فَقُلْتُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ:
وَقَّتَ لَكَ مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا
أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: فَإِنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي
أَنَّ عَمْرًا وَخَالِدًا وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ قَدِمُوا
لِهِلَالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَسَيَأْتِي عِنْدَ وَفَاةِ عَمْرٍو مِنْ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مَا
يَشْهَدُ لِسِيَاقِ إِسْلَامِهِ، وَكَيْفِيَّةِ حُسْنِ صُحْبَتِهِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ
حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ مَاتَ وَهُوَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ
فِي مُدَّةِ مُبَاشَرَتِهِ الْإِمَارَةَ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، وَصِفَةُ مَوْتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(6/404)
[طَرِيقُ إِسْلَامِ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ
اللَّهُ بِي مَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ، قَذَفَ فِي قَلْبِي
الْإِسْلَامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، فَقُلْتُ: قَدْ شَهِدْتُ هَذِهِ
الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ فِي مَوْطِنٍ أَشْهَدُهُ إِلَّا أَنْصَرِفُ
وَأَنَا أَرَى فِي نَفْسِي أَنِّي مَوْضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا سَيَظْهَرُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ خَرَجْتُ فِي خَيْلٍ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بَعُسْفَانَ، فَقُمْتُ بِإِزَائِهِ
وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ أَمَامَنَا،
فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا -
وَكَانَتْ فِيهِ خِيَرَةٌ - فَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ
الْهَمِّ بِهِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ
الْخَوْفِ، فَوَقْعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا، وَقُلْتُ: الرَّجُلُ
مَمْنُوعٌ فَاعْتَزَلَنَا وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ خَيْلِنَا، وَأَخَذَ
ذَاتَ الْيَمِينِ، فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةَ،
وَدَافَعَتْهُ قُرَيْشٌ بِالرَّاحِ، قَلْتُ فِي نَفْسِي: أَيُّ شَيْءٍ
بَقِيَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ؟ إِلَى
(6/405)
النَّجَاشِيِّ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ
مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ، فَأَخْرُجُ إِلَى
هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ
يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ فِي عَجَمٍ تَابِعًا، فَأُقِيمُ فِي دَارِي
فِيمَنْ بَقِيَ؟ فَأَنَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ،
فَتَغَيَّبْتُ وَلَمْ أَشْهَدْ دُخُولَهُ، وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ
بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي،
فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ
رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ! وَمِثْلُ
الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟! وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْكَ، وَقَالَ: " أَيْنَ خَالِدٌ؟
" فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ. فَقَالَ: " مَا مِثْلُهُ جَهِلَ
الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحَدَّهُ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ
". فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَكَ
مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشِطْتُ
لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَسَرَّنِي
سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي،
وَأَرَى فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي بِلَادٍ ضَيِّقَةٍ مُجْدِبَةٍ،
فَخَرَجْتُ إِلَى بِلَادٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ
لَرُؤْيَا فَلَمَّا أَنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ قُلْتُ:
لَأَذْكُرَنَّهَا لِأَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: مَخْرَجُكَ الذى هَدَاكَ
اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضِّيقُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ مِنَ
الشِّرْكِ. قَالَ: فَلَمَّا أَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: مَنْ أُصَاحِبُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَلَقِيتُ
صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ،
(6/406)
فَقُلْتُ: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمَا تَرَى
مَا نَحْنُ فِيهِ، إِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ، وَقَدْ ظَهَرَ
مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى
مُحَمَّدٍ وَاتَّبَعْنَاهُ، فَإِنَّ شَرَفَ مُحَمَّدٍ لَنَا شَرَفٌ.
فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مَا
اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا، وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ
أَخُوهُ وَأَبُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ،
فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ
لِي مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَلْتُ: فَاكْتُمْ
عَلَيَّ. قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ. فَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلِي،
فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي، فَخَرَجْتُ بِهَا إِلَى أَنْ لَقِيتُ
عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ، فَلَوْ
ذَكَرْتُ لَهُ مَا أَرْجُو. ثُمَّ ذَكَرْتُ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ،
فَكَرِهْتُ أَنْ أُذَكِّرَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: وَمَا عَلَيَّ وَأَنَا
رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِي. فَذَكَرْتُ لَهُ مَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ،
فَقُلْتُ: إِنَّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ، لَوْ
صُبَّ فِيهِ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ لَخَرَجَ. وَقُلْتُ لَهُ نَحْوًا
مِمَّا قُلْتُ لِصَاحِبِي، فَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ، وَقَالَ: إِنِّي
غَدَوْتُ الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ، وَهَذِهِ
رَاحِلَتِي بِفَخٍّ مُنَاخَةٍ. قَالَ: فَاتَّعَدْتُ أَنَا وَهُوَ
يَأْجَجَ، إِنْ سَبَقَنِي أَقَامَ، وَإِنْ سَبَقْتُهُ أَقَمْتُ
عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْلَجْنَا سَحَرًا، فَلَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ
حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا
إِلَى الْهَدَةِ، فَنَجِدُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا فَقَالَ:
مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ، فَقُلْنَا: وَبِكَ. فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ
مَسِيرُكُمْ؟ فَقُلْنَا: وَمَا أَخْرَجَكَ. فَقَالَ: وَمَا
أَخْرَجَكُمْ؟ قُلْنَا: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ
(6/407)
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْدَمَنِي. فَاصْطَحَبْنَا
جَمِيعًا حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَأَنَخْنَا بِظَهْرِ
الْحَرَّةِ رِكَابَنَا، فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ
ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَنِي أَخِي، فَقَالَ: أَسْرِعْ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْبِرَ
بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْنَا
الْمَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ
حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ،
فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.
فَقَالَ: " تَعَالَ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ
كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى
خَيْرٍ» ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتَ مَا كُنْتُ
أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْكَ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ،
فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ
قَبْلَهُ» ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: "
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلَّ مَا أَوْضَعَ
فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِكَ» ". قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدَّمَ
عُثْمَانُ وَعَمْرٌو فَبَايَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَكَانَ قُدُومُنَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ
ثَمَانٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا
حَزَبَهُ.
(6/408)
|