البداية والنهاية، ط. دار هجر

 [غَزْوَةُ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ]
[اسْتِعْدَادُ الْفَرِيقَيْنِ لِلْغَزْوَةِ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25]
[التَّوْبَةِ: 25 - 27] . وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوَازِنَ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ

(7/5)


فِي " تَارِيخِهِ ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوَازِنَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، فَانْتَهَى إِلَى حُنَيْنٍ فِي عَاشِرِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَانْهَزَمُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ بَنُو سُلَيْمٍ، ثُمَّ أَهْلُ مَكَّةَ ثُمَّ بَقِيَّةُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ جَمَعَهَا مَلِكُهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلُّهَا، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرُ، وَجُشَمُ كُلُّهَا وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَغَابَ عَنْهَا وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ، وَفِي بَنِي جُشَمَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّيَمُّنَ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرَّبًا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النَّاسِ إِلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ فَلَمَّا أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَطَّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ،

(7/6)


فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ. قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ، لَا حَزْنٌ ضَرِسٌ، وَلَا سَهْلٌ دَهِسٌ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟! قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ. وَدُعِيَ لَهُ. قَالَ: يَا مَالِكُ إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالَ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ. قَالَ: فَأَنْقَضَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، هَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالَ: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ: غَابَ الْحَدُّ وَالْجِدُّ، لَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرَّانِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَالِكُ

(7/7)


إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إِلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ دُرَيْدٌ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: ارْفَعْهُمْ إِلَى مُتَمَنَّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ، ثُمَّ أَلْقِ الصُّبَىَّ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. قَالَ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقْلُكَ. ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتَّكِئَنَّ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي - وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ - فَقَالُوا: أَطَعْنَاكَ. فَقَالَ دُرَيْدٌ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شِدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى. فَوَاللَّهِ مَا رَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.

(7/8)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «وَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ» . «فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ: " يَا أَبَا أُمَيَّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا ". فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ ". قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ. فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنَ السِّلَاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا فَفَعَلَ» هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمْ - قِصَّةَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةَ الْأَدْرَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ «أَنَّ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ لَمَّا رَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ هَوَازِنَ كَذَّبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي

(7/9)


حَدْرَدٍ: لَئِنْ كَذَّبْتَنِي يَا عُمَرُ فَرُبَّمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " قَدْ كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ» .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً» قَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا،» فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ أَدْرَاعًا وَأَفْرَاسًا،» وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا صَفْوَانُ

(7/10)


هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلَاحٍ؟ " قَالَ: عَارِيَةً أَمْ غَصْبًا؟ قَالَ: " لَا، بَلْ عَارِيَةً ". فَأَعَارَهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ دِرْعًا، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ فَفَقَدَ مِنْهَا أَدْرَاعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ " قَدْ فَقَدْنَا مِنْ أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا، فَهَلْ نَغْرَمُ لَكَ؟ قَالَ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِي قَلْبِي الْيَوْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» وَهَذَا مُرْسَلٌ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
قُلْتُ: وَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ يَكُونُ مَجْمُوعُ الْجَيْشَيْنِ اللَّذَيْنِ سَارَ بِهِمَا إِلَى هَوَازِنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا; لَأَنَّهُ قَدِمَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَكَّةَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ أَلْفَانِ مِنِ الطُّلَقَاءِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ، قَالَ: وَاسْتَخْلَفَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأُمَوِيَّ.
قُلْتُ: وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ: وَمَضَى رَسُولُ

(7/11)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ. وَذَكَرَ قَصِيدَةَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرُ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ غَسَّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّئِلِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ. قَالَ: وَكَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ. يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ فَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً. قَالَ: فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] إِنَّهَا السَّنَنُ، لِتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ

(7/12)


التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ سُفْيَانَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ.

(7/13)


وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو تَوْبَةَ ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ عَنِ السَّلُولِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ «أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةٌ، فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَبِنَعَمِهِمْ وَشَّائِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ ". قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَارْكَبْ ". فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ ". فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ " هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَسْنَا. فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، وَيَلْتَفِتُ إِلَى

(7/13)


الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: " أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ ". فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، وَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَوْجَبَتْ فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيِّ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ بِهِ.

[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْعَةِ وَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ الْفِرَارِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «فَخَرَجَ مَالِكُ

(7/14)


بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَسَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْحَطَّ النَّاسُ ثَارَتْ فِي وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ لَا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ يَقُولُ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ، وَرَكِبَتِ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ النَّاسِ، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ - وَقِيلَ الْفُضَيْلُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَأَيْمَنُ ابْنُ أَمِّ أَيْمَنَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَزِيدُ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَرَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ عَلَيْهَا قَدْ شَجَرَهَا. قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إِذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتَّبَعُوهُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ

(7/15)


كَذَلِكَ إِذْ هَوَى لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ. قَالَ: فَيَأْتِي عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيِ الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْعَجَفَ عَنْ رَحْلِهِ. قَالَ: وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: ابْنُ أُمِّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مَنَّ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدُ

(7/16)


مَدْخُولًا، وَكَانَتِ الْأَزْلَامُ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ -: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ - يَعْنِي لِأُمِّهِ - وَهُوَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اسْكُتْ، فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ هَوَازِنَ جَاءَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَجَعَلُوهَا صُفُوفًا يُكَثِّرُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا الْتَقَوْا وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " قَالَ: فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُضْرَبْ بِسَيْفٍ وَلَمْ يُطْعَنْ بِرُمْحٍ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ". قَالَ: فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ضَرَبْتُ رَجُلًا عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ، فَأُجْهِضَتْ عَنْهُ، فَانْظُرْ مَنْ أَخَذَهَا. قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا أَخَذْتُهَا، فَأَرْضِهِ مِنْهَا وَأَعْطِنِيهَا. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ أَوْ سَكَتَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا يُفِيئُهَا اللَّهُ عَلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ وَيُعْطِيكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ عُمَرُ ".» قَالَ: «وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ أَبْعَجَ بِهِ بَطْنَهُ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ؟ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ؛ انْهَزَمُوا بِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْهُ قِصَّةَ خِنْجَرِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ قَوْلَهُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَوْلُ عُمَرَ فِي هَذَا مُسْتَغْرَبٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا أَبِي، ثَنَا نَافِعٌ أَبُو غَالِبٍ شَهِدَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَدَوِيُّ: يَا أَبَا حَمْزَةَ بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ بُعِثَ؟ فَقَالَ: ابْنَ أَرْبَعِينَ

(7/17)


سَنَةً. قَالَ: ثُمَّ كَانَ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ كَانَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، فَتَمَّتْ لَهُ سِتُّونَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. قَالَ: بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ هُوَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كَأَشَبِّ الرِّجَالِ وَأَحْسَنِهِ وَأَجْمَلِهِ وَأَلْحَمِهِ. قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَهَلْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْتُ مَعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ بَكْرَةً، فَحَمَلُوا عَلَيْنَا حَتَّى رَأَيْنَا خَيْلَنَا وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَفِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَحْمِلُ عَلَيْنَا فَيَدُقُّنَا وَيَحْطِمُنَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ فَوَلَّوْا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى الْفَتْحَ، فَجُعِلَ يُجَاءُ بِهِمْ أُسَارَى رَجُلًا رَجُلًا فَيُبَايِعُونَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَلَيَّ نَذْرًا، لَئِنْ جِيءَ بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مُنْذُ الْيَوْمِ يَحْطِمُنَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِيءَ بِالرَّجُلِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، تُبْتُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَأَمْسَكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَايِعَهُ لِيُوفِيَ الْآخَرُ نَذَرَهُ. قَالَ: وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَهُ بِقَتْلِهِ، وَيَهَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا بَايَعَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَذْرِي؟! قَالَ: " لَمْ أُمْسِكْ عَنْهُ مُنْذُ الْيَوْمِ إِلَّا لِتُوفِيَ نَذْرَكَ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُومِيَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

(7/19)


وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ ثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» إِسْنَادُهُ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا غُنْدَرٌ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ «سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ - فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ; كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلَنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَهُوَ يَقُولُ: " أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ ".» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ وَقَالَ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ: ثُمَّ نَزَلَ عَنْ بَغْلَتِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَأَبِي مُوسَى. كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ بِهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ

(7/20)


قَالَ: «ثُمَّ نَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ
اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ ". قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَقَدْ كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي يُحَاذِي بِهِ.» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: «أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ» .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَسْفَاطِيُّ ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْوَاسِطِيُّ ثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ سَيَابَةَ بْنِ عَاصِمٍ السُّلَمِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: " أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ

(7/21)


وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُمْتُ فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ، سَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ فَأَعْطِهِ ". فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ» وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآخَرُ

(7/22)


مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ، فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ، فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي فَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا، ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ، ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ، فَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي، فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلَّا لَا يُعْطِيهِ أُضَيْبِعًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعُ أَسَدًا مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ بِهِ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ» وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمُسْلِمٌ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَعَلَّهُ

(7/23)


قَالَهُ مُتَابَعَةً لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُسَاعَدَةً وَمُوَافِقَةً لَهُ، أَوْ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى: " يَا عَبَّاسُ، نَادِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ ". فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ لِيَعْطِفَ بِعِيرَهُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقْذِفُ دِرْعَهُ فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ، ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مِائَةٌ، فَاسْتَعْرَضَ النَّاسَ فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَتْ بِالْأَنْصَارِ، ثُمَّ جُعِلَتْ آخِرًا بِالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فَقَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ إِلَّا وَالْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتَّفُونَ، فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ

(7/24)


قَتَلَ، وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.» .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَقَرَّ بِهَا عَيْنَهُ، خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا رَكِبَانًا وَمُشَاةً حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ يَمْشِينَ عَلَى غَيْرِ دِينٍ نُظَّارًا يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ، وَلَا يَكْرَهُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّدْمَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا: وَكَانَ مَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً، وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ يَرْعَشُ مِنَ الْكِبَرِ، وَمَعَهُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَالنَّعَمُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا، فَبَاتَ فِيهِمْ، فَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا أَصْبَحْتُمْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاكْسِرُوا أَغْمَادَ سُيُوفِكُمْ، وَاجْعَلُوا مَوَاشِيَكُمْ صَفًّا وَنِسَاءَكُمْ صَفًّا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَرَاءَهُمْ يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ، وَصَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغْلَةً لَهُ شَهْبَاءَ فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ، فَأَمَرَهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشَّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إِنْ صَبَرُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، ثُمَّ وَلَّوْا

(7/25)


مُدْبِرِينَ، فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ، فَقُلْتُ: مِائَةُ رَجُلٍ. قَالُوا: وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِهَزِيمَةِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَوَاللَّهِ لَا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: تُبَشِّرُنِي بِظُهُورِ الْأَعْرَابِ! فَوَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنَ الْأَعْرَابِ. وَغَضِبَ صَفْوَانُ لِذَلِكَ. قَالَ مُوسَى: وَبَعَثَ صَفْوَانُ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ: اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ. وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي الرِّكَابَيْنِ وَهُوَ عَلَى الْبَغْلَةِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ يَدْعُوهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْنَا ". وَنَادَى أَصْحَابَهُ وَذَمَّرَهُمْ: " يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ اللَّهَ اللَّهَ، الْكَرَّةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ ". وَيُقَالُ: حَرَّضَهُمْ فَقَالَ: " يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ". وَأَمَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُنَادِي بِذَلِكَ. قَالُوا: وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَحَصَبَ بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ وَنَوَاحِيَهُمْ كُلَّهَا، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ سِرَاعًا يَبْتَدِرُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". فَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَصَبَهُمْ مِنْهَا، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، وَغَنَّمَهُمُ اللَّهُ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَفَرَّ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ هُوَ وَأُنَاسٌ

(7/26)


مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ، وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْزَازَهُ دِينَهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُهُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ لَا نُفَارِقُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِهَا أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا عَطَفْتُهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَاهُ يَا لَبَّيْكَاهُ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ، كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: " هَذَا حِينُ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". ثُمَّ أَخَذَ

(7/27)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ". قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ، وَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَلَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، قَالَ: فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهَا جَمْعًا وَمَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُنْهَزِمٌ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا ". فَلَمَّا غَشَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقُبْضَةِ، فَوَلَّوْا

(7/28)


مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ، فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ السَّمُرِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، قَدْ حَانَ الرَّوَاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَجَلْ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا بِلَالُ ". فَثَارَ مِنْ تَحْتِ سَمُرَةٍ كَأَنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طَائِرٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَأَنَا فِدَاؤُكَ. فَقَالَ: " أَسْرِجْ لِي فَرَسِي ". فَأَتَاهُ بِدَفَّتَيْنِ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ. قَالَ: فَرَكِبَ فَرَسَهُ فَسِرْنَا يَوْمَنَا، فَلَقِينَا الْعَدُوَّ، وَتَشَامَتَ الْخَيْلَانِ، فَقَاتَلْنَاهُمْ فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". وَاقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسِهِ، وَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ، فَحَثَى بِهَا وَجُوهَ الْعَدُوِّ وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنَا أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ

(7/29)


آبَائِهِمْ قَالُوا: مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ مِنِ التُّرَابِ، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ، كَمَرِّ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ الْجَدِيدِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ حَصِيرَةَ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَنَكَصْنَا عَلَى أَقْدَامِنَا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ قَدَمًا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةَ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ يَمْضِي قُدُمًا، فَحَادَتْ بِهِ بَغْلَتُهُ، فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ، فَقُلْتُ لَهُ: ارْتَفِعْ رَفْعَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: " نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ". فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا قَالَ " أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟ " قُلْتُ هُمْ أُولَاءِ. قَالَ: " اهْتِفْ بِهِمْ ". فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ، وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ الْقَنْطَرِيُّ ثَنَا أَبُو قِلَابَةَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(7/30)


الطَّائِفِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتَى هَوَازِنَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِثْلُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّا مِنْ حَصًى، فَرَمَى بِهَا وُجُوهَنَا فَانْهَزَمْنَا» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " وَلَمْ يَنْسِبْ عِيَاضًا.
وَقَالَ مُسَدَّدٌ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا عَوْفٌ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَمِّ بُرْثُنٍ «عَمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَجِئْنَا نَهُشُّ سُيُوفَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ، فَإِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَقَالُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَارْجِعُوا. فَهُزِمْنَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بَدَلٍ النَّصْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ شَهِدَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَعَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فِلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَبَّاسٌ وَأَبُو

(7/31)


سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ. قَالَ: فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ. قَالَ: فَانْهَزَمْنَا فَمَا خُيِّلَ إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ أَوْ شَجَرِ فَارِسٌ يَطْلُبُنَا. قَالَ الثَّقَفِيُّ: فَأَعْجَزْتُ عَلَى فَرَسِي حَتَّى دَخَلْتُ الطَّائِفَ.» .
وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي " مَغَازِيهِ " عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ زَيْدٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكُدَيْمِيِّ ثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ السُّوَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «عِنْدَ انْكِشَافَةٍ انْكَشَفَهَا الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَتَبِعَهُمُ الْكُفَّارُ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: " ارْجِعُوا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا أَحَدٌ يَلْقَى أَخَاهُ إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو قَذًى فِي عَيْنَيْهِ.» .

(7/32)


ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي السَّائِبُ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَامِرٍ السُّوَائِيَّ - وَكَانَ شَهِدَ حُنَيْنًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ - قَالَ: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: فَكَانَ يَأْخُذُ لَنَا بِحَصَاةٍ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطَّسْتِ فَيَطِنُّ. قَالَ: كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثَنَا الْعَبَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِسْلَامٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَلَكِنْ أَبَيْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَى خَيْلًا بُلْقًا. فَقَالَ: " يَا شَيْبَةُ إِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا كَافِرٌ ". فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّانِيَةَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ» ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْتِقَاءِ النَّاسِ، وَانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِدَاءِ الْعَبَّاسِ وَاسْتِنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ.

(7/33)


وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِّيَ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي، وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَائِمًا، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أَسَاوِرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، كَأَنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ أَنْ يَمْحَشَنِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا شَيْبُ يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ ". قَالَ فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي وَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي. فَقَالَ: " يَا شَيْبُ، قَاتِلِ الْكُفَّارَ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: قُلْتُ: «الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي - وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي،

(7/34)


فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِّي» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِي، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ، فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَزَادَ: فَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النَّصْرِيُّ - يَعْنِي فِي ذَلِكَ -:
وَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللَّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ مِنْ عَرْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إِذًا مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشِّفَا
إِذًا مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدُّوا بِخِنْدِفَا
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ رَئِيسِ هَوَازِنَ يَوْمَ

(7/35)


الْقِتَالِ وَهُوَ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
أَقْدِمْ مُحَاجُ إِنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكُرْ
إِذَا أُضِيعَ الصَّفُّ يَوْمًا وَالدُّبُرْ ... ثُمَّ احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبُ يَكِلُّ فِيهِنَّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعُنُ الطَّعْنَةَ تَقْذِي بِالسُّبُرْ
حِينَ يُذَمُّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ... وَأَطْعُنُ النَّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
لَهَا مِنَ الْجَوْفِ رَشَاشٌ مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلِ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْنُ يَابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرْ
قَدْ نَفِدَ الضِّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطَّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنِّي فِي أَمْثَالِهَا غَيْرُ غَمِرْ ... إِذْ تَخْرُجُ الْحَاضِنُ مِنْ تَحْتِ السُّتُرْ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ مَالِكٍ

(7/36)


أَيْضًا حِينَ وَلَّى أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، وَقِيلَ هِيَ لِغَيْرِهِ:
اذْكُرْ مَسِيرَهُمُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ ... وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرَّايَاتُ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكٌ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التَّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتَّى لَقُوا النَّاسَ حِينَ الْبَأْسِ يَقْدُمُهُمْ ... عَلَيْهِمُ الْبَيْضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدَّرَقُ
فَضَارَبُوا النَّاسَ حَتَّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الْغَسَقُ
حَتَّى تَنَزَّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمُ ... فَالْقَوْمُ مُنْهَزِمٌ مِنَّا وَمُعْتَلِقُ
مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جِبْرِيلَ يُقَاتِلُنَا ... لَمَنَّعَتْنَا إِذًا أَسْيَافُنَا الْغُلُقُ
وَقَدْ وَفَى عُمَرُ الْفَارُوقُ إِذْ هَزَمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلَّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعُلُقُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمْكَنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(7/37)


مِنْهُمْ، قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتِ ... وَاللَّهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَدْ أَنْشَدَنِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ لِلشِّعْرِ:
غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتْ ... وَخَيْلُهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ، وَكَانَتْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ، فَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا بَلَغَهُ قَتْلُهُ قَالَ: " أَبْعَدَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْغُضُ قُرَيْشًا» .
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَتَبَةَ أَنَّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ هَذَا غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَسْلُبَهُ، فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ. قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الثَّقَفِيُّ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لَا تَقُلْ كَذَلِكَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ. ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى فَأَقُولُ لَهُ: أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتِنِينَ كَمَا تَرَى؟
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَمَّا انْهَزَمَ

(7/38)


النَّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إِلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْأَحْلَافِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ; رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ: وَهْبٌ. وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي كُبَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْجُلَاحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ: " قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنِ ابْنِ هُنَيْدَةَ " يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ، وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ لِلْمَوْتِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ غَيْلَانَ عَنِّي ... وَسَوْفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةَ إِنَّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكَمَا يَسِيرُ
بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبٍّ لَا يَضِلُّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قُسِيٍّ ... بِوَجٍّ إِذْ تُقُسِّمَتِ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ وَالدَّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إِلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللَّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ
نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ

(7/39)


وَأُقْسِمُ لَوْ هُمُ مَكَثُوا لَسِرْنَا
إِلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا ... فَكُنَّا أُسْدَ لِيَّةَ ثُمَّ حَتَّى
أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتِ النُّصُورُ ... وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ
فَأَقْلَعَ وَالدِّمَاءُ بِهِ تَمُورُ ... مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ
وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ ... قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ
عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورٌ ... وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ
لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ نَكِيرُ ... أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا
وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ ... فَأَفْلَتَ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ جَرِيضًا
وَقُتِّلَ مِنْهُمُ بَشَرٌ كَثِيرٌ ... وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو التَّوَانِي
وَلَا الْغَلِقُ الصُّرَيِّرَةُ الْحَصُورُ ... أَحَانَهُمْ وَحَانَ وَمَلَّكُوهُ
أُمُورَهُمُ وَأَفْلَتَتِ الصُّقُورُ ... بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ
أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشَّعِيرُ

(7/40)


فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ ... تُقُسِّمَتِ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنَّ الرِّيَاسَةَ عُمِّمُوهَا ... عَلَى يُمْنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ إِلَى عِزٍّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النَّاسِ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ
فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُمُ نَصِيرُ
كَمَا حَكَّتْ بَنُو سَعْدٍ وَحَرْبٍ ... بِرَهْطِ بَنِي غَزِيَّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنَّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إِلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ تَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمُ ... وَقَدْ بَرَأَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ
كَأَنَّ الْقَوْمَ إِذْ جَاءُوا إِلَيْنَا ... مِنَ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السِّلْمِ عُورُ

(7/41)


[هَزِيمَةُ هَوَازِنَ]
فَصْلٌ (هَزِيمَةُ هَوَازِنَ) .
وَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ وَقَفَ مَلِكُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ عَلَى ثَنِيَّةٍ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قِفُوا حَتَّى تَجُوزَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالَكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثَّنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحِهِمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ، طَوِيلَةً بِوَادُّهُمْ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي، ثُمَّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحِهِمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَ فَارِسٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادِّ، وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةٍ حَمْرَاءَ. قَالَ: هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأُقْسِمُ بِاللَّاتِ لِيُخَالِطَنَّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى الزُّبَيْرُ إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتَّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا.

(7/42)


[أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ]
فَصْلٌ (أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ) .
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ فَجُمِعَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، وَأَمَرَ أَنْ تُسَاقَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَتُحْبَسَ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَنَائِمِ مَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ.

[مُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا خَالِدٌ]
فَصْلٌ (مُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا خَالِدٌ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: " أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا» هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ حَدَّثَنِي الْمُرَقَّعُ بْنُ صَيْفِيٍّ عَنْ جَدِّهِ رَبَاحِ

(7/43)


بْنِ رَبِيعٍ أَخِي حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ «خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ ". فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: " الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلَنَّ ذَرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا ".» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيٍّ بِهِ نَحْوَهُ.

[سَرِيَّةُ أَوْطَاسٍ]
وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمَتْ ذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ، فِيهِمُ الرَّئِيسُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَسَارَتْ فِرْقَةٌ فَعَسْكَرُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: أَوَطَاسٌ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَاتَلُوهُمْ فَغَلَبُوهُمْ، ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَتَوْا الطَّائِفَ وَمَعَهُمْ

(7/44)


مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجَّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إِلَّا بَنُو غَيْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثَّنَايَا. قَالَ: فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ السُّلَمِيُّ - وَيُعْرَفُ بِابْنِ الدُّغُنَّةِ وَهِيَ أُمُّهُ - دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ، فَإِذَا بِرَجُلٍ، فَأَنَاخَ بِهِ، فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِذَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ، فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَاذَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السُّلَمِيُّ. ثُمَّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ، خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخَّرِ رَحْلِي فِي الشِّجَارِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ، وَارْفَعْ عَنِ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ، فَإِنِّي كَذَلِكَ كُنْتُ أَضْرِبُ الرِّجَالَ، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَرُبَّ - وَاللَّهِ - يَوْمٍ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَكَ. فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: لَمَّا ضَرَبْتُهُ فَوَقَعَ تَكَشَّفَ، فَإِذَا عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً. فَلَمَّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إِلَى أُمِّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهَاتٍ لَكَ ثَلَاثًا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا رَثَتْ بِهِ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَبَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا:

(7/45)


قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْتُ قَدْ صَدَقُوا ... فَظَلَّ دَمْعِي عَلَى السِّرْبَالِ مُنْحَدِرُ
لَوْلَا الَّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلَّهُمُ ... رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إِذَنْ لَصَبَّحَهُمْ غِبًّا وَظَاهِرَةً ... حُيْثُ اسْتَقَرَّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ فَأَدْرَكَ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ مَنِ انْهَزَمَ، فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ:
إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسَّمَهْ
أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ وَحَدِيثِهِ، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةَ إِخْوَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ

(7/46)


أَبُو عَامِرٍ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمَّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، حَتَّى قَتَلَ تِسْعَةً، وَبَقِيَ الْعَاشِرُ، فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ. فَكَفَّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتَ، فَأَسْلَمَ بَعْدُ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُ قَالَ: " «هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ» " قَالَ: وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ; الْعَلَاءُ وَأَوْفَى أَبْنَاءُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخِرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ، وَوَلَّى النَّاسُ أَبَا مُوسَى فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ بَنِي جُشَمَ يَرْثِيهِمَا:
وَإِنَّ الرَّزِيَّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هَبَّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنَّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ يَرَ فِي النَّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلَّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ

(7/47)


اللَّهُ أَصْحَابَهُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ. قَالَ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي. فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحِي؟ أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ. قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ. فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي. وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرَمَّلٍ، وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَوْلِهِ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ ". وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ " أَوْ " مِنَ النَّاسِ ". فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا» قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَرَّادٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ

(7/48)


عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أَصَبْنَا نِسَاءً مِنْ سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . قَالَ: فَاسْتَحْلَلْنَا بِهَا فُرُوجَهُنَّ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ - زَادَ مُسْلِمٌ: وَشُعْبَةُ - وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابُوا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَزَادَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ

(7/49)


وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، حَيْثُ بِيعَتْ ثُمَّ خُيِّرَتْ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا أَوْ إِبْقَائِهِ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا طَلَاقًا لَهَا لَمَا خُيِّرَتْ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ ". وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلَعَلَّهُنَّ أَسْلَمْنَ أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[فَصْلٌ فِيمَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَسَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ]
أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَيَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْجَنَاحُ. فَمَاتَ وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرُ سَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

(7/50)


[فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ]
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلَّيْتُمُ ... حِينَ اسْتَخَفَّ الرُّعْبُ كُلَّ جَبَانِ
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ... وَسَوَابِحُ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفِّهِ ... وَمُقَطَّرٍ بِسَنَابِكَ وَلَبَانِ
وَاللَّهُ أَكْرَمَنَا وَأَظْهَرَ دِينَنَا ... وَأَعَزَّنَا بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ
وَاللَّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ ... وَأَذَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ:
إِذْ قَامَ عَمُّ نَبِيِّكُمْ وَوَلِيُّهُ ... يَدْعُونَ يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الَّذِينَ هُمُ أَجَابُوا رَبَّهُمْ ... يَوْمَ الْعُرَيْضِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ

(7/50)


وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ:
فَإِنِّي وَالسَّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْتُ مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ الشِّعِبِ أَمْسِ مِنَ الْعَذَابِ
هُمُ رَأْسُ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمُ أَلَذُّ مِنَ الشَّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ ... وَحَكَّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ تُعَفَّرُ بِالتُّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنَّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسٍّ ... إِلَى الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنَّهَابِ
بِذِي لَجَبٍ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ ... كَتِيبَتُهُ تَعَرَّضُ لِلضِّرَابِ
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:

(7/52)


يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقِّ، كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إِنَّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا
ثُمَّ الَّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمْ ... جُنْدٌ بَعَثْتَ عَلَيْهِمُ الضَّحَّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السِّلَاحِ كَأَنَّهُ ... لَمَّا تَكَنَّفَهُ الْعَدُوُّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النَّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنَّمَا ... يَبْغِي رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَكَرَّهُ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتَّاكَا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكَمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ الَّذِي عَايَنْتُ كَانَ شِفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوِّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنَّهُمْ ... أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمَّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنَ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إِلَّا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الَّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً وَوَلِيُّنَا مَوْلَاكَا

(7/53)


وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَى أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إِذْ جُلُّ عَيْشِنَا ... رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّهْرِ لِلْحَيِّ جَامِعُ
حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنِّي وَزِيرٌ لِلنَّبِيِّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إِلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمْتُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمُ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنَّمَا ... يَدُ اللَّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَلَانِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيْوَمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إِلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الْأَضَالِعُ

(7/54)


صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لَا يَسْتَفِزُّنَا ... قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمُ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لَامَعُ
عَشِيَّةَ ضَحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنَّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنَّ دِينَ اللَّهِ دِينَ مُحَمَّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشَّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ دَافِعُ
وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا:
تَقَطَّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمِّ مُؤَمَّلِ ... بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيَّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرَّتِ الْحَلْفَا
خُفَافِيَّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَلُّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا

(7/55)


فَإِنْ تَتَبَعِ الْكُفَّارَ أُمُّ مُؤَمَّلٍ ... فَقَدْ زَوَّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغْفًا
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهَا الْخَبِيرُ بِأَنَّنَا ... أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبِّنَا حِلْفًا
وَأَنَّا مَعَ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزَّةٍ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفًا
خُفَافٌ وَذَكْوَانٌ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبَ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنَّ النَّسِيجَ الشُّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ... أُسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزَّ دِينُ اللَّهِ غَيْرَ تَنَحُّلٍ ... وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكَّةَ إِذْ جِئْنَا كَأَنَّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخَّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسِبُ بَيْنَهَا ... إِذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفًا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ... لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الِقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا زَجْمَةً إِلَّا التَّذَامُرَ وَالنَّقْفَا
بِبِيضٍ تُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرِّهَا ... وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكَمَاةِ بِهَا قَطْفَا

(7/56)


فَكَائِنْ تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللَّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النَّاسِ نَبْتَغِي ... وَلِلَّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرُ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمِهِ ... تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ
دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ ... وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الِفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا ... دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجَرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ ... وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ

(7/57)


إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرُبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ
تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيُّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلٌ وَلَا ضُجُرُ
الضَّارِبُونَ جُنُودَ الشِّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالْأَرْوَاحُ تُبْتَدَرُ
حَتَّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنَّهُمُ ... نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ
إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللِّوَاءِ مَعَ الضَّحَّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزَقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا ... لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتَّى تَأَوَّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلَا كَثُرُوا ... إِلَّا قَدْ أَصْبَحَ مِنَّا فِيهِمُ أَثَرُ

(7/58)


وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إِمَّا أَتَيْتَ عَلَى النَّبِيِّ فَقُلْ لَهُ ... حَقًّا عَلَيْكَ إِذَا اطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيَّ وَمَنْ مَشَى ... فَوْقَ التُّرَابِ إِذَا تُعَدُّ الْأَنْفُسُ
إِنَّا وَفَيْنَا بِالَّذِي عَاهَدْتَنَا ... وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إِذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلِّهَا ... جَمْعٌ تَظَلُّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجُسُ
حَتَّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكَّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلِّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ... بَيْضَاءُ مُحْكَمَةُ الدِّخَالِ وَقَوْنَسُ
يَرْوِي الْقَنَاةَ إِذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ... وَتَخَالُهُ أَسَدًا إِذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفِّهِ ... عَضْبٌ يَقُدُّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ

(7/59)


وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ أُمِدَّ بِهِ الرَّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ... وَالشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ... وَاللَّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدَّةً ... كَفَتِ الْعَدُوَّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنُ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ تَمُدُّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتَّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنَّهُ ... عَيْرٌ تَعَاقَبُهُ السِّبَاعُ مُفَرَّسُ
وَقَالَ أَيْضًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
فَمَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولَ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمَّمَا
دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ وَحْدَهُ ... فَأَصْبَحَ قَدْ وَفَّى إِلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قَدَيْدًا مُحَمَّدًا ... يَؤُمُّ بِنَا أَمْرًا مِنَ اللَّهِ مُحْكَمَا

(7/60)


تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنُوا ... مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وَغَابًا مُقَوَّمَا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ... وَرَجْلًا كَدُفَّاعِ الْأَتِيِّ عَرَمْرَمَا
فَإِنَّ سَرَاةَ الْحَيِّ إِنْ كُنْتَ سَائِلًا ... سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمُ مَنْ تَسَلَّمَا
وَجُنْدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلَّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمَّرْتَ فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدَّمْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللَّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقِّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْتُ يَمِينًا بَرَّةً لِمُحَمَّدٍ ... فَأَكْمَلْتُهَا أَلْفًا مِنَ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمُوا ... وَحُبَّ إِلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدَّمَا
وَبِتْنَا بِنَهِيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ... بِنَا الْخَوْفُ إِلَّا رَغْبَةً وَتَحَزُّمَا
أَطَعْنَاكَ حَتَّى أَسْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ... وَحَتَّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلُّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطَهُ ... وَلَا يَطْمَئِنُّ الشَّيْخُ حَتَّى يُسَوَّمَا

(7/61)


سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفَّهُ ضُحًى ... وَكُلٌّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدَ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى تَرَكْنَا عَشِيَّةً ... حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إِذَا شِئْتَ مِنْ كُلٍّ رَأَيْتَ طِمِرَّةً ... وَفَارِسَهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطَّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنَّا هَوَازِنُ سَرْبَهَا ... وَحُبَّ إِلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
هَكَذَا أَوْرَدَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصَائِدَ مَنْ شِعْرِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَرَكْنَا بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْقَصَائِدِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَخَوْفِ الْمَلَالَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ حَصَلَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(7/62)