البداية والنهاية، ط. دار هجر
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ]
[قُدُومُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَنَازِلَ مَدِينَةِ بَهُرَسِيرَ،
وَهِيَ إِحْدَى مُدُنِ كِسْرَى]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مُنَازِلٌ
مَدِينَةَ بَهُرَسِيرَ، وَهِيَ إِحْدَى مَدِينَتَيْ كِسْرَى مِمَّا
يَلِي دِجْلَةَ مِنَ الْغَرْبِ، وَكَانَ قُدُومُ سَعْدٍ إِلَيْهَا فِي
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ
السَّنَةُ وَهُوَ نَازِلٌ عِنْدَهَا، وَقَدْ بَعَثَ السَّرَايَا
وَالْخُيُولَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَجِدُوا وَاحِدًا مِنَ
الْجُنْدِ، بَلْ جَمَعُوا مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِائَةَ الْفٍ،
فَحُبِسُوا حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْفَلَّاحِينَ لَمْ يُعِنْ
عَلَيْكُمْ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ، فَهُوَ أَمَانُهُ، وَمَنْ
هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ. فَأَطْلَقَهُمْ سَعْدٌ
بَعْدَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبَوْا إِلَّا
الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ
الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ إِلَّا تَحْتَ الْجِزْيَةِ
وَالْخَرَاجِ.
وَامْتَنَعَتْ بَهُرَسِيرَ مِنْ سَعْدٍ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ
بَعَثَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ سَلْمَانَ
(10/5)
الْفَارِسِيَّ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ،
عَزَّ وَجَلَّ، أَوِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْمُقَاتَلَةِ، فَأَبَوْا
إِلَّا الْمُقَاتَلَةَ وَالْعِصْيَانَ، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ
وَالدَّبَّابَاتِ، وَأَمَرَ سَعْدٌ بِعَمَلِ الْمَجَانِيقِ، فَعُمِلَتْ
عِشْرُونَ مَنْجَنِيقًا، وَنُصِبَتْ عَلَى بَهُرَسِيرَ، وَاشْتَدَّ
الْحِصَارُ وَكَانَ أَهْلُ بَهُرَسِيرَ يَخْرُجُونَ فَيُقَاتِلُونَ
قِتَالًا شَدِيدًا، وَيَحْلِفُونَ أَنْ لَا يَفِرُّوا أَبَدًا،
فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، وَهَزَمَهُمْ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ بَعْدَ
مَا أَصَابَهُ سَهْمٌ، وَقَتَلَ بَعْدَ مُصَابِهِ بِهِ كَثِيرًا مِنَ
الْفُرْسِ، وَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَجَئُوا إِلَى بَلَدِهِمْ،
فَكَانُوا يُحَاصَرُونَ فِيهِ أَشَدَّ الْحِصَارِ، وَقَدِ انْحَصَرَ
أَهْلُ الْبَلَدِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ. وَقَدْ
أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَقُولُ
لَكُمُ الْمَلِكُ: هَلْ لَكَمَ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنَّ لَنَا
مَا يَلِينَا مَنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِنَا وَلَكُمْ مَا يَلِيكُمْ
مِنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِكُمْ، أَمَا شَبِعْتُمْ! لَا أَشْبَعَ
اللَّهُ بُطُونَكُمْ. قَالَ: فَبَدَرَ النَّاسَ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ:
أَبُو مُفَزِّرٍ الْأَسْوَدُ بْنُ قُطْبَةَ، فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ
بِكَلَامٍ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ لَهُمْ، قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ
وَرَأَيْنَاهُمْ يَقْطَعُونَ مِنْ بَهُرَسِيرَ إِلَى الْمَدَائِنِ.
فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي مُفَزِّرٍ: مَا قُلْتَ لَهُمْ؟ فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا أَدْرِي مَا قُلْتُ
لَهُمْ، إِلَّا أَنَّ عَلَيَّ سَكِينَةً، وَأَنَا
(10/6)
أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ أُنْطِقْتُ
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَجَعَلَ النَّاسُ يَنْتَابُونَهُ،
يَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي مَنْ سَأَلَهُ سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَاءَهُ سَعْدٌ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا
مُفَرِّزٍ مَا قُلْتَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُمْ هُرَّابٌ. فَحَلَفَ لَهُ
أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا قَالَ.
فَنَادَى سَعْدٌ فِي النَّاسِ وَنَهَدَ بِهِمْ إِلَى الْبَلَدِ،
وَالْمَجَانِيقُ تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ، فَنَادَى رَجُلٌ مِنَ
الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ فَآمَنَّاهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
بِالْبَلَدِ أَحَدٌ. فَتَسَوَّرَ النَّاسُ السُّورَ، فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا أَحَدًا إِلَّا قَدْ هَرَبُوا إِلَى الْمَدَائِنِ. وَذَلِكَ فِي
شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَسَأَلْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ
وَأُنَاسًا مَنَ الْأُسَارَى فِيهَا لِأَيِّ شَيْءٍ هَرَبُوا؟ قَالُوا:
بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْكُمْ يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ الصُّلْحَ،
فَأَجَابَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ صُلْحٌ أَبَدًا، حَتَّى نَأْكُلَ عَسَلَ أَفَرَنْدِينَ
بِأُتْرُجِّ كُوثَى. فَقَالَ الْمَلِكُ: يَا وَيْلَاهُ، إِنَّ
الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، تَرُدُّ عَلَيْنَا
وَتُجِيبُنَا عَنِ الْعَرَبِ. ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ مِنْ
هُنَاكَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَجَازُوا فِي السُّفُنِ مِنْهَا
إِلَيْهَا، وَبَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا جِدًّا.
(10/7)
وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ
بَهُرَسِيرَ فِي اللَّيْلِ، لَاحَ لَهُمُ الْقَصْرُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْمَدَائِنِ وَهُوَ قَصْرُ الْمَلِكِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ
اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَيَفْتَحُهُ
اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَذَلِكَ قُرَيْبَ الصَّبَاحِ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ،
فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْيَضُ كِسْرَى، هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَنَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَتَابَعُوا
التَّكْبِيرَ إِلَى الصُّبْحِ.
[ذِكْرُ فَتْحِ الْمَدَائِنِ الَّتِي هِيَ مُسْتَقَرُّ مُلْكِ كِسْرَى]
لَمَّا فَتَحَ سَعْدٌ بَهُرَسِيرَ وَاسْتَقَرَّ بِهَا، وَذَلِكَ فِي
صَفَرٍ، لَمْ يَجِدْ فِيهَا أَحَدًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُغْنَمُ،
بَلْ قَدْ تَحَوَّلُوا بِكَمَالِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَرَكِبُوا
السُّفُنَ، وَضَمُّوا السُّفُنَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ سَعْدٌ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شَيْئًا مِنَ السُّفُنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ
تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ زَادَتْ دِجْلَةُ
زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَاسْوَدَّ مَاؤُهَا، وَرَمَتْ بِالزَّبَدِ مِنْ
كَثْرَةِ الْمَاءِ بِهَا، وَأُخْبِرَ سَعْدٌ، بِأَنَّ كِسْرَى
يَزْدَجِرْدَ عَازِمٌ
(10/8)
عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ
مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى حُلْوَانَ وَأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ
قَبْلَ ثَلَاثٍ، فَاتَ عَلَيْكَ وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ، فَخَطَبَ
سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدِ اعْتَصَمَ
مِنْكُمْ بِهَذَا الْبَحْرِ ; فَلَا تَخْلُصُونَ إِلَيْهِ مَعَهُ،
وَهُمْ يَخْلُصُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا شَاءُوا فَيُنَاوِشُونَكُمْ فِي
سُفُنِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَكُمْ شَيْءٌ تَخَافُونَ أَنْ تُؤْتَوْا
مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ تُبَادِرُوا جِهَادَ الْعَدُوِّ
بِنِيَّاتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحْصُرَكُمُ الدُّنْيَا، أَلَا إِنِّي
قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَطْعِ هَذَا الْبَحْرِ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا
جَمِيعًا: عَزَمَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ عَلَى الرُّشْدِ، فَافْعَلْ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ سَعْدٌ النَّاسَ إِلَى الْعُبُورِ، وَيَقُولُ:
مَنْ يَبْدَأُ فَيَحْمِي لَنَا الْفِرَاضَ - يَعْنِي ثُغْرَةَ
الْمَخَاضَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى - لِيَجُوزَ النَّاسُ
إِلَيْهِمْ آمِنِينَ. فَانْتَدَبَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَذَوُو
الْبَأْسِ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنْ سِتِّمِائَةٍ، فَأَمَّرَ سَعْدٌ
عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ دِجْلَةَ،
فَقَالَ عَاصِمٌ: مَنْ يُنْتَدَبُ مَعِي لِنَكُونَ قَبْلَ النَّاسِ
دُخُولًا فِي هَذَا الْبَحْرِ، فَنَحْمِيَ الْفِرَاضَ مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ سِتُّونَ مِنَ الشُّجْعَانِ
الْمَذْكُورِينَ ; وَالْأَعَاجِمُ وُقُوفٌ صُفُوفًا مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَحْجَمَ
النَّاسُ عَنِ الْخَوْضِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ: أَتَخَافُونَ مِنْ
هَذِهِ
(10/9)
النُّطْفَةِ؟ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ
تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145]
[آلِ عِمْرَانَ 145] . ثُمَّ أَقْحَمَ فَرَسَهُ فِيهَا وَاقْتَحَمَ
النَّاسُ، وَقَدِ افْتَرَقَ السِّتُّونَ فِرْقَتَيْنِ: أَصْحَابُ
الْخَيْلِ الذُّكُورِ، وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ الْإِنَاثِ، فَلَمَّا
رَآهُمُ الْفُرْسُ يَطْفُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ قَالُوا: دِيوَانَا
دِيوَانَا. يَقُولُونَ: مَجَانِينُ مَجَانِينُ. ثُمَّ قَالُوا:
وَاللَّهِ مَا تُقَاتِلُونَ إِنْسًا بَلْ تُقَاتِلُونَ جِنًّا. ثُمَّ
أَرْسَلُوا فُرْسَانًا مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ يَلْتَقُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ لِيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَاءِ،
فَأَمَرَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو أَصْحَابَهُ أَنْ يَشْرَعُوا لَهُمُ
الرِّمَاحَ وَيَتَوَخَّوُا الْأَعْيُنَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِالْفُرْسِ
فَقَلَعُوا عُيُونَ خُيُولِهِمْ، فَرَجَعُوا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ
لَا يَمْلِكُونَ كَفَّ خُيُولِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْمَاءِ،
وَاتَّبَعَهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ حَتَّى
طَرَدُوهُمْ عَنِ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ
الدِّجْلَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَنَزَلَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ
عَاصِمٍ مِنِ السِّتِّمِائَةِ فِي دِجْلَةَ، فَخَاضُوهَا، حَتَّى
وَصَلُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَاتَلُوا
مَعَ أَصْحَابِهِمْ حَتَّى نَفَوُا الْفُرْسَ عَنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ.
وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْكَتِيبَةَ الْأُولَى كَتِيبَةَ الْأَهْوَالِ،
وَأَمِيرُهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْكَتِيبَةَ الثَّانِيَةَ
الْكَتِيبَةَ الْخَرْسَاءَ، وَأَمِيرُهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو.
وَهَذَا كُلُّهُ وَسَعْدٌ
(10/10)
وَالْمُسْلِمُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا
يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الْفُرْسَانُ بِالْفُرْسِ، وَسَعْدٌ وَاقِفٌ عَلَى
شَاطِئِ دِجْلَةَ. ثُمَّ نَزَلَ سَعْدٌ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ،
وَذَلِكَ حِينَ نَظَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَقَدْ تَحَصَّنَ
بِمَنْ حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَمَرَ
سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَاءِ أَنْ يَقُولُوا:
نَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. ثُمَّ اقْتَحَمَ بِفَرَسِهِ دِجْلَةَ،
وَاقْتَحَمَ النَّاسُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ فَسَارُوا فِيهَا
كَأَنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَلَأُوا مَا
بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُرَى وَجْهُ الْمَاءِ مِنَ الْفُرْسَانِ
وَالرَّجَّالَةِ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ
الْمَاءِ كَمَا يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ; وَذَلِكَ
لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْأَمْنِ، وَالْوُثُوقِ
بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ، وَتَأْيِيدِهِ، وَلِأَنَّ
أَمِيرَهُمْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشْرَةِ
الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَدَعَا
لَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ»
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ سَعْدًا دَعَا لِجَيْشِهِ هَذَا فِي هَذَا
الْيَوْمِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ، وَقَدْ رَمَى بِهِمْ فِي هَذَا
الْيَمِّ، فَسَدَّدَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّمَهُمْ، فَلَمْ يُفْقَدْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُقَالُ
لَهُ: غَرْقَدَةُ الْبَارِقِيُّ، ذَلَّ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ،
فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو بِلِجَامِهَا، وَأَخْذَ بِيَدِ
الرَّجُلِ حَتَّى عَدَلَهُ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ،
فَقَالَ: عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ الْقَعْقَاعِ بْنِ
عَمْرٍو. وَلَمْ يُعْدَمْ
(10/11)
لِلْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ
أَمْتِعَتِهِمْ غَيْرَ قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ:
مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ. كَانَتْ عَلَاقَتُهُ رَثَّةً، فَأَخَذَهُ
الْمَوْجُ، فَدَعَا صَاحِبُهُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِنْ بَيْنِهِمْ يَذْهَبُ مَتَاعِي.
فَرَدَّهُ الْمَوْجُ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ،
فَأَخَذَهُ النَّاسُ ثُمَّ رَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ.
وَكَانَ الْفَرَسُ إِذَا أَعْيَا وَهُوَ فِي الْمَاءِ، يُقَيِّضُ
اللَّهُ لَهُ مِثْلَ النَّشْزِ الْمُرْتَفِعِ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ
فَيَسْتَرِيحُ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْخَيْلِ لَيَسِيرُ وَمَا
يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى حِزَامِهَا، وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا،
وَأَمْرًا هَائِلًا، وَخَطْبًا جَلِيلًا، وَخَارِقًا بَاهِرًا،
وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي تِلْكَ
الْبِلَادِ، وَلَا فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْبِقَاعِ سِوَى قَضِيَّةِ
الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ، بَلْ هَذَا أَجَلُّ
وَأَعْظَمُ ; فَإِنَّ هَذَا الْجَيْشَ كَانَ أَضْعَافَ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي يُسَايِرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي
الْمَاءِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ
وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَلَيَهْزِمَنَ اللَّهُ
عَدُوَّهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ
تَغْلِبُ الْحَسَنَاتِ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ
جَدِيدٌ، ذُلِّلَتْ لَهُمْ وَاللَّهِ الْبُحُورُ، كَمَا ذُلِّلَ لَهُمُ
الْبَرُّ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ لَيَخْرُجُنَّ
مِنْهُ أَفْوَاجًا كَمَا دَخَلُوا أَفْوَاجًا. فَخَرَجُوا مِنْهُ كَمَا
قَالَ سَلْمَانُ، لَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَفْقِدُوا
شَيْئًا.
وَلَمَّا اسْتَقَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، خَرَجَتِ
الْخُيُولُ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا صَاهِلَةً، فَسَاقُوا وَرَاءَ
الْأَعَاجِمِ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدَائِنَ فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا
أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَخَذَ كِسْرَى أَهْلَهُ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ، وَتَرَكُوا مَا
(10/12)
عَجَزُوا عَنْهُ مِنَ الْأَنْعَا مِ،
وَالثِّيَابِ، وَالْمَتَاعِ، وَالْآنِيَةِ، وَالْأَلْطَافِ،
وَالْأَدْهَانِ، مَا لَا يُدْرَى قِيمَتُهُ. وَكَانَ فِي خِزَانَةِ
كِسْرَى ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ، فَأَخَذُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَرَكُوا
مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَهُوَ مِقْدَارُ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مَا
يُقَارِبُهُ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَدَائِنَ كَتِيبَةُ الْأَهْوَالِ،
ثُمَّ الْكَتِيبَةُ الْخَرْسَاءُ، فَأَخَذُوا فِي سِكَكِهَا لَا
يَلْقَوْنَ أَحَدًا وَلَا يَخْشَوْنَهُ، غَيْرَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ،
فَفِيهِ مُقَاتِلَةٌ، وَهُوَ مُحَصَّنٌ. فَلَمَّا جَاءَ سَعْدٌ
بِالْجَيْشِ، دَعَا أَهْلَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
عَلَى لِسَانِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ
الثَّالِثُ نَزَلُوا مِنْهُ، وَسَكَنَهُ سَعْدٌ وَاتَّخَذَ الْإِيوَانَ
مُصَلَّى، وَحِينَ دَخَلَهُ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى {كَمْ تَرَكُوا
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ
كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا
آخَرِينَ} [الدخان: 25]
[الدُّخَانِ 25 - 28] . ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى صَدْرِهِ فَصَلَّى
ثَمَانِ رَكَعَاتٍ صَلَاةَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ
أَنَّهُ صَلَّاهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ جَمَعَ
بِالْإِيوَانِ، فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ
جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بِالْعِرَاقِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدًا نَوَى
الْإِقَامَةَ بِهَا، وَبَعَثَ إِلَى الْعِيَالَاتِ فَأَنْزَلَهُمُ
دُورَ الْمَدَائِنِ وَاسْتَوْطَنُوهَا، حَتَّى فَتَحُوا جَلُولَاءَ
وَتَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلَ، ثُمَّ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ
ذَلِكَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
(10/13)
ثُمَّ أَرْسَلَ السَّرَايَا فِي إِثْرِ
كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ، فَلَحِقَ بِهِمْ طَائِفَةٌ فَقَتَلُوهُمْ
وَشَرَّدُوهُمْ، وَاسْتَلَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً،
أَكْثَرُهَا مِنْ مَلَابِسِ كِسْرَى وَتَاجِهِ وَحُلِيِّهِ. وَشَرَعَ
سَعْدٌ فِي تَحْصِيلٍ مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ
وَالتُّحَفِ، مِمَّا لَا يُقَوَّمُ وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ ;
كَثْرَةً وَعَظَمَةً.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ تَمَاثِيلُ مِنْ جِصٍّ،
فَنَظَرَ سَعْدٌ إِلَى أَحَدِهَا وَإِذَا هُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ
إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ هَذَا لَمْ يُوضَعْ هَكَذَا
سُدًى. فَأَخَذُوا مَا يُسَامِتُ أُصْبُعَهُ، فَوَجَدُوا قُبَالَتَهَا
كَنْزًا عَظِيمًا مِنْ كُنُوزِ الْأَكَاسِرَةِ الْأَوَائِلِ،
فَأَخْرَجُوا مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ
بَاهِرَةً، وَتُحَفًا فَاخِرَةً. وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
مَا هُنَالِكَ أَجْمَعَ، مِمَّا لَمْ يَرَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا
أَعْجَبَ مِنْهُ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ تَاجُ كِسْرَى وَهُوَ
مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُحَيِّرُ
الْأَبْصَارَ، وَمِنْطَقَتُهُ كَذَلِكَ، وَسَيْفُهُ وَسِوَارَاهُ
وَقَبَاؤُهُ، وَبِسَاطُ إِيوَانِهِ، وَكَانَ مُرَبَّعًا، سِتُّونَ
ذِرَاعًا فِي مِثْلِهَا، مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْبِسَاطُ مِثْلُهُ
سَوَاءٌ، وَهُوَ مَنْسُوجٌ بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ
الثَّمِينَةِ، وَفِيهِ مُصَوَّرُ جَمِيعِ مَمَالِكِ كِسْرَى ;
بِلَادُهُ بِأَنْهَارِهَا وَقِلَاعِهَا وَأَقَالِيمِهَا وَكُوَرِهَا،
وَصِفَةُ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي فِي بِلَادِهِ. فَكَانَ
إِذَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ تَاجِهِ،
وَتَاجُهُ مُعَلَّقٌ بِسَلَاسِلِ
(10/14)
الذَّهَبِ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقِلَّهُ عَلَى رَأْسِهِ لِثِقَلِهِ، بَلْ كَانَ
يَجِيءُ فَيَجْلِسُ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ تَحْتَ
التَّاجِ، وَالسَّلَاسِلُ الذَّهَبُ تَحْمِلُهُ عَنْهُ، وَهُوَ
يَسْتُرُهُ حَالَ لُبْسِهِ، فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْهُ، خَرَّتْ
لَهُ الْأُمَرَاءُ سُجُودًا، وَعَلَيْهِ الْمِنْطَقَةُ وَالسِّوَارَانِ
وَالسَّيْفُ وَالْقَبَاءُ الْمُرَصَّعُ بِالْجَوَاهِرِ، فَيَنْظُرُ فِي
الْبُلْدَانِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَمَنْ فِيهَا
مِنَ النُّوَّابِ، وَهَلْ حَدَثَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ؟
فَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ
يَنْتَقِلُ إِلَى الْأُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ
أَحْوَالِ بِلَادِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لَا يُهْمِلُ أَمْرَ
الْمَمْلَكَةِ، وَقَدْ وَضَعُوا هَذَا الْبِسَاطَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
تَذْكَارًا لَهُ بِشَأْنِ الْمَمَالِكِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ جَيِّدٌ
مِنْهُمْ فِي أَمْرِ السِّيَاسَةِ. فَلَمَّا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ،
زَالَتْ تِلْكَ الْأَيْدِي عَنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ وَالْأَرَاضِي،
وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَسْرًا، وَكَسَرُوا
شَوْكَتَهُمْ عَنْهَا، وَأَخَذُوهَا بِأَمْرِ اللَّهِ صَافِيَةً
ضَافِيَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ جَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْأَقْبَاضِ عَمْرَو
بْنَ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا حَصَّلَ مَا كَانَ
فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، وَمَنَازِلِ كِسْرَى، وَسَائِرِ دُورِ
الْمَدَائِنِ وَمَا كَانَ بِالْإِيوَانِ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَا
يَفِدُ مِنَ السَّرَايَا الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ زُهْرَةَ بْنِ
حَوِيَّةَ، وَكَانَ فِيمَا رَدَّ زُهْرَةُ بَغْلٌ كَانَ قَدْ
أَدْرَكَهُ وَغَصَبَهُ مِنَ الْفُرْسِ،
(10/15)
وَكَانَتْ تَحُوطُهُ بِالسُّيُوفِ،
فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا.
فَرَدَّهُ إِلَى الْأَقْبَاضِ، وَإِذَا عَلَيْهِ سَفَطَانِ فِيهِمَا
ثِيَابُ كِسْرَى وَحُلِيُّهُ، وَلُبْسُهُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ
عَلَى السَّرِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَغْلٌ آخَرُ عَلَيْهِ تَاجُهُ
الَّذِي ذَكَرْنَا فِي سَفَطَيْنِ أَيْضًا، رُدَّا مِنَ الطَّرِيقِ
مِمَّا اسْتَلَبَهُ أَصْحَابُ السَّرَايَا.
وَكَانَ فِيمَا رَدَّتِ السَّرَايَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا
أَكْثَرُ أَثَاثِ كِسْرَى، وَأَمْتِعَتُهُ وَالْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ
الَّتِي اسْتَصْحَبُوهَا مَعَهُمْ، فَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
فَاسْتَلَبُوهَا مِنْهُمْ. وَلَمْ تَقْدِرِ الْفُرْسُ عَلَى حَمْلِ
الْبِسَاطِ لِثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا حَمْلِ الْأَمْوَالِ
لِكَثْرَتِهَا ; فَإِنَّهُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجِيئُونَ بَعْضَ
تِلْكَ الدُّورِ فَيَجِدُونَ الْبَيْتَ مَلَآنًا إِلَى أَعْلَاهُ مِنْ
أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَجِدُونَ مِنَ الْكَافُورِ
شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَحْسَبُونَهُ مِلْحًا، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهُ
بَعْضُهُمْ فِي الْعَجِينِ فَوَجَدُوهُ مُرًّا، حَتَّى تَبَيَّنُوا
أَمْرَهُ.
فَتَحَصَّلَ الْفَيْءُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَشَرَعَ سَعْدٌ فَخَمَّسَهُ، وَأَمَرَ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ
الْبَاهِلِيَّ فَقَسَمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ
الْغَانِمِينَ، فَحَصَلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُرْسَانِ اثْنَا
عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانُوا كُلُّهُمْ فُرْسَانًا، وَمَعَ بَعْضِهِمْ
جَنَائِبُ. وَاسْتَوْهَبَ سَعْدٌ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْبِسَاطِ
وَلُبْسَ كِسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَبْعَثَهُ إِلَى عُمَرَ
وَالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ،
وَيَتَعَجَّبُوا مِنْهُ، فَطَيَّبُوا لَهُ ذَلِكَ وَأَذِنُوا فِيهِ،
فَبَعَثَهُ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ مَعَ الْخُمْسِ مَعَ بَشِيرِ بْنِ
الْخَصَاصِيَةِ، وَكَانَ
(10/16)
الَّذِي بَشَّرَ بِالْفَتْحِ قَبْلَهُ
حُلَيْسُ بْنُ فُلَانٍ الْأَسَدِيُّ، فَرُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ لَمَّا
نَظَرَ إِلَى ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ.
فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتْ
رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ. ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ ذَلِكَ
فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَ عَلِيًّا قِطْعَةٌ مِنَ الْبِسَاطِ
فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِخَشَبَةٍ، وَنَصَبَهَا أَمَامَهُ، لِيُرِيَ
النَّاسَ مَا فِي هَذِهِ الزِّينَةِ مِنَ الْعَجَبِ، وَمَا عَلَيْهَا
مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِسُرَاقَةَ
بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَمِيرِ بَنِي مُدْلِجٍ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ
النُّبُوَّةِ ": أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
الْأَصْبَهَانِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ:
وَجَدْتُ فِي كِتَابِي بِخَطِّ يَدِي عَنْ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا يُونُسُ، عَنِ
الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى
فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ
بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ: فَأَلْقَى إِلَيْهِ سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ
هُرْمُزَ فَجَعَلَهُمَا فِي يَدَيْهِ، فَبَلَغَا مَنْكِبَيْهِ،
فَلَمَّا رَآهُمَا فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ،
سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ
بْنِ جُعْشُمٍ، أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ. وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. هَكَذَا سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ. ثُمَّ حَكَى عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
(10/17)
وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ ;
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ
لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ: «كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ
لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قَالَ عُمَرُ
لِسُرَاقَةَ حِينَ أَلْبَسَهُ سِوَارَيْ كِسْرَى: قُلِ اللَّهُ
أَكْبَرُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: قُلِ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَأَلْبَسَهُمَا
سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ
اللَّيْثِيُّ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ،
قَالَ: بَعَثَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَيَّامَ الْقَادِسِيَّةِ
إِلَى عُمَرَ بِقَبَاءِ كِسْرَى وَسَيْفِهِ وَمِنْطَقَتِهِ
وَسِوَارَيْهِ وَسَرَاوِيلِهِ وَقَمِيصِهِ وَتَاجِهِ وَخُفَّيْهِ،
قَالَ: فَنَظَرَ عُمَرُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَكَانَ أَجْسَمَهُمْ
وَأَبَدْنَهُمْ قَامَةً سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ،
فَقَالَ: يَا سُرَاقُ قُمْ فَالْبَسْ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَطَمِعْتُ
فِيهِ فَقُمْتُ فَلَبِسْتُ. فَقَالَ: أُدَبِرْ. فَأَدْبَرْتُ، ثُمَّ
قَالَ: أَقْبِلْ. فَأَقْبَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: بَخٍ بَخٍ،
أُعَيْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ عَلَيْهِ قَبَاءُ كِسْرَى
وَسَرَاوِيلُهُ وَسَيْفُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَتَاجُهُ وَخُفَّاهُ، رُبَّ
يَوْمٍ يَا سُرَاقُ بْنَ مَالِكٍ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ فِيهِ هَذَا
مِنْ مَتَاعِ كِسْرَى وَآلِ كِسْرَى، كَانَ شَرَفًا لَكَ وَلِقَوْمِكَ،
انْزِعْ. فَنَزَعْتُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ مَنَعْتَ هَذَا
رَسُولَكَ وَنَبِيَّكَ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي، وَأَكْرَمَ
عَلَيْكَ مِنِّي، وَمَنَعْتَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ
مِنِّي،
(10/18)
وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي،
وَأَعْطَيْتَنِيهِ، فَأَعُوذُ بِكَ أَنْ تَكُونَ أَعْطَيْتَنِيهِ
لِتَمْكُرَ بِي. ثُمَّ بَكَى حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ
لَمَا بِعْتَهُ ثُمَّ قَسَّمْتَهُ قَبْلَ أَنْ تُمْسِيَ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ أَنَّ عُمَرَ حِينَ مَلَكَ
تِلْكَ الْمَلَابِسَ وَالْجَوَاهِرَ، جِيءَ بِسَيْفِ كِسْرَى وَمَعَهُ
عِدَّةُ سُيُوفٍ ; مِنْهَا سَيْفُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ
نَائِبِ كِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ سَيْفَ كِسْرَى فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا
يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُوا
أَمَانَةٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ كِسْرَى لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ
تَشَاغَلَ بِمَا أَوُتِيَ عَنْ آخِرَتِهِ، فَجَمَعَ لِزَوْجِ
امْرَأَتِهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ، وَلَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ،
وَلَوْ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ وَوَضَعَ الْفُضُولَ مَوَاضِعَهَا لَحَصَلَ
لَهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَبُو بُجَيْدٍ نَافِعُ
بْنُ الْأَسْوَدِ، فِي ذَلِكَ:
وَأَمَلْنَا عَلَى الْمَدَائِنِ خَيْلًا ... بَحْرُهَا مِثْلُ
بَرِّهِنَّ أَرِيضَا
فَانْتَثَلْنَا خَزَائِنَ الْمَرْءِ كِسْرَى ... يَوْمَ وَلَّوْا
وَحَاصَ مِنَّا جَرِيضَا
(10/19)
|