البداية والنهاية، ط. دار هجر
[سَنَةُ مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، أَنْبَأَ
وَرْقَاءُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ
نُعَيْمِ بْنِ دَجَاجَةَ قَالَ: دَخَلَ أَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ
فَقَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ عَامٍ
وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» ؟ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِي عَلَى
النَّاسِ مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ مِمَّنْ
هُوَ حَيٌّ» وَإِنَّ رَخَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْمِائَةِ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ:
يَا فَرُّوخُ، أَنْتَ الْقَائِلُ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ
سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ؟ أَخْطَأَتِ اسْتُكَ
الْحُفْرَةَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى
الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ حَيٌّ» وَإِنَّمَا
رَخَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفَرَجُهَا بَعْدَ الْمِائَةِ. تَفَرَّدَ
بِهِ.
وَهَكَذَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَوَهَلَ
النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تِلْكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ.
وَفِيهَا خَرَجَتْ خَارِجَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ بِالْعِرَاقِ،
فَبَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(12/664)
إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ نَائِبِ
الْكُوفَةِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْحَقِّ،
وَيَتَلَطَّفَ بِهِمْ، وَلَا يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا
فَكَسَرَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ، فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهِ يَلُومُهُ
عَلَى جَيْشِهِ، وَأَرْسَلَ عُمَرُ ابْنَ عَمِّهِ مَسْلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الْجَزِيرَةِ إِلَى حَرْبِهِمْ، فَأَظْفَرَهُ
اللَّهُ بِهِمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى كَبِيرِ الْخَوَارِجِ
وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: بِسْطَامُ يَقُولُ لَهُ: مَا أَخْرَجَكَ
عَلَيَّ؟ فَإِنْ كُنْتَ خَرَجْتَ غَضَبًا لِلَّهِ فَأَنَا أَحَقُّ
بِذَلِكَ مِنْكَ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي، وَهَلُمَّ
أُنَاظِرْكَ; فَإِنْ رَأَيْتَ حَقًّا اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ أَبْدَيْتَ
حَقًّا نَظَرْنَا فِيهِ.
فَبَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ
عُمَرُ رَجُلَيْنِ فَسَأَلَهُمَا: مَاذَا تَنْقِمُونَ؟ فَقَالَا:
جَعْلَكَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ:
إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ غَيْرِي. قَالَا:
فَكَيْفَ تَرْضَى بِهِ أَمِينًا لِلْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ:
أَنْظِرْنِي ثَلَاثَةً. فَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ دَسَّتْ
إِلَيْهِ سُمًّا فَقَتَلُوهُ; خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَمْرُ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَيَمْنَعَهُمُ الْأَمْوَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ
الْمُعَيْطِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ
حِمْصَ الصَّائِفَةِ.
وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ
الْجَزِيرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَفِيهَا حُمِلَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مِنَ الْعِرَاقِ; أَرْسَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ
نَائِبُ الْبَصْرَةِ وَقَدْ كَانَ أَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ مَعَ مُوسَى
بْنِ وَجِيهٍ، وَكَانَ عُمَرُ يُبْغِضُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ
وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ جَبَابِرَةٌ وَلَا
(12/665)
أُحِبُّ مِثْلَهُمْ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ طَالَبَهُ بِمَا قِبَلَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ أَنَّهَا
حَاصِلَةٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ إِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ لِأُرْهِبَ
الْأَعْدَاءَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ
شَيْءٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَكَانَتِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
لَا أَسْمَعُ مِنْكَ هَذَا، وَلَسْتُ أُطْلِقُكَ حَتَّى تُؤَدِّيَ
أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ.
وَكَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عِوَضَهُ وَقَدِمَ وَلَدُ يَزِيدَ
بْنِ الْمُهَلَّبِ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ مَنَّ عَلَى هَذِهِ
الْأُمَّةِ بِوِلَايَتِكَ عَلَيْهَا فَلَا نَكُونَنَّ أَشْقَى النَّاسِ
بِكَ، فَعَلَامَ تَحْبِسُ هَذَا الشَّيْخَ وَأَنَا أَقُومُ بِمَا
تُصَالِحُنِي عَنْهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُصَالِحُكَ عَنْهُ إِلَّا
أَنْ تَقُومَ بِجَمِيعِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ لَكَ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِمَا تَقُولُ
وَإِلَّا فَاقْبَلْ يَمِينَهُ أَوْ فَصَالِحْنِي عَنْهُ. فَقَالَ: لَا
آخُذُ مِنْهُ إِلَّا جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مَخْلَدُ بْنُ
يَزِيدَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ مَخْلَدٌ،
فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يَلْبَسَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
جُبَّةً مِنْ صُوفٍ، وَيَرْكَبَ عَلَى بَعِيرٍ وَيَذْهَبُوا إِلَى
جَزِيرَةِ دَهْلَكَ الَّتِي كَانَ يُنْفَى إِلَيْهَا الْفُسَّاقُ،
فَشَفَعُوا فِيهِ، فَرَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ
حَتَّى مَرِضَ عُمَرُ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَهَرَبَ
(12/666)
مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَعَلِمَ
أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ،
كَمَا سَيَأْتِي، وَأَظُنُّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ عُمَرَ قَدْ سُقِيَ
سُمًّا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ
إِمْرَةِ خُرَاسَانَ بَعْدَ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ; وَإِنَّمَا
عَزَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ
الْكُفَّارِ وَيَقُولُ: أَنْتُمْ إِنَّمَا تُسْلِمُونَ فِرَارًا
مِنْهَا. فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ
وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ
جَابِيًا. وَعَزَلَهُ وَوَلَّى بَدَلَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيَّ عَلَى الْحَرْبِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ.
وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ،
وَيُوَضِّحُهُ لَهُمْ، وَيَعِظُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ
وَيُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَانْتِقَامَهُ فَكَانَ فِيمَا كَتَبَ
إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ:
أَمَّا بَعْدُ، فَكُنْ عَبْدًا لِلَّهِ نَاصِحًا لِلَّهِ فِي
عِبَادِهِ، وَلَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ
اللَّهَ أَوْلَى بِكَ مِنَ النَّاسِ وَحَقَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ،
وَلَا تُوَلِّيَنَّ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا
الْمَعْرُوفَ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَالتَّوْفِيرِ عَلَيْهِمْ،
وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا اسْتُرْعِيَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ
مَيْلُكَ مَيْلًا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى
عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا تَذْهَبَنَّ عَنِ اللَّهِ مَذْهَبًا;
فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَكَتَبَ مِثْلَ
ذَلِكَ مَوَاعِظَ كَثِيرَةً إِلَى الْعُمَّالِ.
(12/667)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ":
وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ
فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا
اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ
يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ
حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى
صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ.
[بُدُوُّ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بُدُوُّ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ وَكَانَ مُقِيمًا بِأَرْضِ الشُّرَاةِ بَعَثَ مِنْ جِهَتِهِ
رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مَيْسَرَةُ. إِلَى الْعِرَاقِ وَأَرْسَلَ
طَائِفَةً أُخْرَى وَهُمْ; مُحَمَّدُ بْنُ خُنَيْسٍ وَأَبُو عِكْرِمَةَ
السَّرَّاجُ وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ وَحَيَّانُ الْعَطَّارُ
خَالُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ إِلَى خُرَاسَانَ وَعَلَيْهَا
يَوْمئِذٍ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ قَبْلَ أَنْ
يُعْزَلَ فِي رَمَضَانَ وَأَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَإِلَى
أَهْلِ بَيْتِهِ فَلَقُوا مَنْ لَقُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا بِكُتُبِ مَنِ
اسْتَجَابَ مِنْهُمْ إِلَى مَيْسَرَةَ، الَّذِي بِالْعِرَاقِ فَبَعَثَ
بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَفَرِحَ بِهَا وَاسْتَبْشَرَ
وَسَرَّهُ وَكَانَ مَبَادِئَ أَمْرٍ قَدْ كَتَبَ اللَّهُ إِتْمَامَهُ
وَأَوَّلَ رَأْيٍ قَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ إِبْرَامَهُ،
(12/668)
وَذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ
قَدْ بَانَ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا
بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ. وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لِمُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَهُمْ; سُلَيْمَانُ بْنُ
كَثِيرٍ الْخُزَاعِيُّ وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ التَّمِيمِيُّ
وَقَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الطَّائِيُّ وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ
التَّمِيمِيُّ وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ بَنِي
عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذَهَبٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ
التَّمِيمِيُّ وَعِمْرَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو النَّجْمِ مَوْلًى
لِآلِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ
وَطَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ الْخُزَاعِيُّ وَعَمْرُو بْنُ أَعْيَنَ أَبُو
حَمْزَةَ مَوْلًى لِخُزَاعَةَ وَشِبْلُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو عَلِيٍّ
الْهَرَوِيُّ مَوْلًى لِبَنِي حَنِيفَةَ وَعِيسَى ابْنُ أَعْيَنَ
مَوْلَى خُزَاعَةَ أَيْضًا. وَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا
أَيْضًا. وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يَكُونُ
مِثَالًا وَسِيرَةً يَقْتَدُونَ بِهَا وَيَسِيرُونَ بِهَا.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ نَائِبُ الْمَدِينَةِ.
وَالنُّوَّابُ عَلَى الْأَمْصَارِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا مِمَّنْ عُزِلَ وَتَوَلَّى غَيْرُهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَحُجَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ لِشُغْلِهِ بِالْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُبْرِدُ
الْبَرِيدَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَقُولُ لَهُ: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي. وَسَيَأْتِي
بِإِسْنَادِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
(12/669)
سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ
الْأَشْجَعِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ أَخُو زِيَادٍ وَعَبْدُ
اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعِمْرَانُ وَمُسْلِمٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ
جَلِيلٌ رَوَى عَنْ ثَوْبَانَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ
وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَآخَرُونَ وَكَانَ
ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى
الْمَشْهُورِ.
أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَدَنِيُّ وُلِدَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ وَحَدَّثَ عَنْ
أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ
وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَازِمٍ وَجَمَاعَةٌ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مِنْ عِلْيَةِ الْأَنْصَارِ وَعُلَمَائِهِمْ
وَمِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ
الْمَاجِشُونِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: آخِرُ خَرْجَةٍ
خَرَجَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى
الْجُمُعَةِ، حَصَبَهُ النَّاسُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ
سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. قَالُوا: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(12/670)
أَبُو الزَّاهِرِيَّةِ حُدَيْرُ بْنُ
كُرَيْبٍ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ صَدَى بْنَ عَجْلَانَ
وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ وَيُقَالُ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَبَا
الدَّرْدَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْهُ وَعَنْ
حُذَيْفَةَ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
بَلَدِهِ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ أَغْرَبِ
مَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلُ قُتَيْبَةَ: ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: أَغْفَيْتُ فِي صَخْرَةِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَجَاءَتِ السَّدَنَةُ، فَأَغْلَقُوا عَلَيَّ
الْبَابَ، فَمَا انْتَبَهْتُ إِلَّا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ
فَوَثَبْتُ مَذْعُورًا، فَإِذَا الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ; فَدَخَلْتُ
مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُهُ: مَاتَ
سَنَةَ مِائَةٍ.
أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ
ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ
صَحَابِيٌّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاةً بِالْإِجْمَاعِ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَآهُ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنِهِ وَذَكَرَ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدَّثَ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعِينَ. وَكَانَ مِنْ أَنْصَارِ
(12/671)
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شَهِدَ مَعَهُ
حُرُوبَهُ كُلَّهَا لَكِنْ نَقِمَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ كَوْنَهُ كَانَ
مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ
حَامِلَ رَايَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ لَهُ: مَا أَبْقَى لَكَ الدَّهْرُ مِنْ ثَكْلِكَ عَلِيًّا؟
فَقَالَ: ثُكْلَ الْعَجُوزِ الْمِقْلَاتِ وَالشَّيْخِ الرَّقُوبِ.
قَالَ: كَيْفَ حُبُّكَ لَهُ؟ قَالَ: حُبُّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى
وَإِلَى اللَّهِ أَشْكُو التَّقْصِيرَ. قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ
حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانَ سِنِينَ
وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ:
سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا
وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ.
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدَيُّ
وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ الْبَصْرِيُّ، أَدْرَكَ
الْجَاهِلِيَّةَ وَحَجَّ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ،
وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يَرَهُ، وَأَدَّى فِي زَمَانِهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ سِنِينَ
إِلَى عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ;
وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مُخَضْرَمًا.
وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَسَمِعَ مِنْهُ وَمِنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَخَلْقٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَصَحِبَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً حَتَّى دَفَنَهُ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ
وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَسُلَيْمَانُ
بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ. وَقَالَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ: سَمِعْتُهُ
يَقُولُ: أَدْرَكْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَغُوثَ; صَنَمًا مِنْ
رَصَاصٍ يُحْمَلُ عَلَى جَمَلٍ أَجْرَدَ،
(12/672)
فَإِذَا بَلَغَ وَادِيَا بَرَكَ فِيهِ
فَيَقُولُونَ: قَدْ رِضَى رَبُّكُمْ لَكُمْ هَذَا الْوَادِيَ
فَيَنْزِلُونَ فِيهِ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ وَقَدْ قِيلَ لَهُ:
أَدْرَكْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ أَسْلَمْتُ عَلَى عَهْدِهِ وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ أَلْقَهُ وَشَهِدْتُ الْيَرْمُوكَ
وَالْقَادِسِيَّةَ وَجَلُولَاءَ وَنَهَاوَنْدَ وَتُسْتَرَ
وَأَذْرَبِيجَانَ وَرُسْتُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْبَشِيرَ
إِلَى عُمَرَ فِي فَتْحِ نَهَاوَنْدَ. قَالُوا: وَكَانَ أَبُو
عُثْمَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا; يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَيَقُومُ
اللَّيْلَ لَا يَتْرُكُهُ وَكَانَ يُصَلِّي حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ.
وَحَجَّ سِتِّينَ مَرَّةً مَا بَيْنَ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ. قَالَ
سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لَا يُصِيبُ ذَنْبًا;
لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلَهُ قَائِمًا وَنَهَارَهُ صَائِمًا. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ يَقُولُ: أَتَتْ
عَلَيَّ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ وَمَا مِنِّي شَيْءٌ إِلَّا
وَقَدْ أَنْكَرْتُهُ خَلَا أَمَلِي فَإِنِّي أَجِدُهُ كَمَا هُوَ.
وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: إِنِّي
لَأَعْلَمُ حِينَ يَذْكُرُنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَنَقُولُ
لَهُ: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] فَإِذَا
ذَكَرْتُ اللَّهَ ذَكَرَنِي. قَالَ: وَكُنَّا إِذَا دَعَوْنَا اللَّهَ
قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَنَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:
(12/673)
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ} [غافر: 60] قَالُوا: وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ
الْمَدَائِنِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ. وَقَالَ
الْفَلَّاسُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. وَالصَّحِيحُ
سَنَةَ مِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَكَانَ يَفْضُلُ عَلَى وَالِدِهِ فِي الْعِبَادَةِ
وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ، وَلَهُ كَلِمَاتٌ حِسَانٌ مَعَ أَبِيهِ
وَوَعْظِهِ إِيَّاهُ.
(12/674)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَةٍ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
فِيهَا كَانَ هَرَبُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنَ السِّجْنِ حِينَ
بَلَغَهُ مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَوَاعَدَ غِلْمَانِهِ
يَلْقَوْنَهُ بِالْخَيْلِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَقِيلَ: بِإِبِلٍ
لَهُ. ثُمَّ نَزَلَ مِنْ مَحْبَسِهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ وَامْرَأَتُهُ
عَاتِكَةُ بِنْتُ الْفُرَاتِ الْعَامِرِيَّةُ فَلَمَّا جَاءَهُ
غِلْمَانُهُ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَسَارَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ سِجْنِكَ إِلَّا
حِينَ بَلَغَنِي مَرَضُكَ وَلَوْ رَجَوْتُ حَيَاتَكَ مَا خَرَجْتُ
وَلَكِنِّي خَشِيتُ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ; فَإِنَّهُ
يَتَوَعَّدُنِي بِالْقَتْلِ. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
يَقُولُ: لَئِنْ وُلِّيتُ لَأَقْطَعَنَّ مِنْ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ طَائِفَةً. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِّيَ الْعِرَاقَ
عَاقَبَ أَصْهَارَهُ آلَ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُمْ بَيْتُ الْحَجَّاجِ
بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
مُزَوَّجًا بِبِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ، وَلَهُ
مِنْهَا ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ الْمَقْتُولُ،
كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ
يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ هَرَبَ مِنَ السِّجْنِ قَالَ: اللَّهُمَّ
إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ سُوءًا فَاكْفِهِمْ شَرَّهُ،
وَارْدُدْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَرَضُ يَتَزَايَدُ بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ مِنْ دَيْرِ سَمْعَانَ
بَيْنَ حَمَاةَ وَحَلَبَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ عَنْ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
(12/675)
سَنَةً وَأَشْهُرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ سَنَتَيْنِ
وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ حَكَمًا مُقْسِطًا
وَإِمَامًا عَادِلًا وَرِعًا دَيِّنًا، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ
لَوْمَةُ لَائِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
[تَرْجَمَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ]
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيِّ
الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
بْنِ أَبِي الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّهُ أُمُّ عَاصِمٍ لَيْلَى بِنْتُ عَاصِمِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيُقَالُ لَهُ: أَشَجُّ بَنِي مَرْوَانَ.
وَكَانَ يُقَالُ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ.
فَهَذَا هُوَ الْأَشَجُّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النَّاقِصِ.
كَانَ عُمَرُ تَابِعِيًّا جَلِيلًا، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَيُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَامٍ، وَيُوسُفُ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ. وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ
(12/676)
التَّابِعِينَ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:
لَا أَرَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ حُجَّةً إِلَّا قَوْلَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ ابْنِ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَهْدٍ مِنْهُ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيُقَالُ: كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَهِيَ
السَّنَةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا بِمِصْرَ. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ:
سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ أَبَوَيْهِ; أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ يَحْيَى
بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ كَانَ يُحَدِّثُ
أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ وُلِدَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ لَيْلَةَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ شَكَّ أَبُو
بَكْرٍ أَنَّ مُنَادِيًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُنَادِي:
أَتَاكُمُ اللِّينُ وَالدِّينُ، وَإِظْهَارُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي
الْمُصَلِّينَ. فَقُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ فَنَزَلَ فَكَتَبَ فِي
الْأَرْضِ: عُمَرُ. وَقَالَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ: ثَنَا ضَمْرَةُ،
ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ ثَرْوَانُ مَوْلَى
(12/677)
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:
دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى إِصْطَبْلِ أَبِيهِ وَهُوَ
غُلَامٌ، فَضَرَبَهُ فَرَسٌ فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ أَبُوهُ يَمْسَحُ
عَنْهُ الدَّمَ، وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ أَشَجَّ بَنِي أُمَيَّةَ
إِنَّكَ إِذًا لَسَعِيدٌ. رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ
طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ ضَمْرَةَ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ
حَمَّادٍ ثَنَا ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَكَى، وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا
يُبْكِيكَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ الْمَوْتَ. فَبَكَتْ أُمُّهُ. وَكَانَ قَدْ
جَمَعَ الْقُرْآنَ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ
عُثْمَانَ الْحِزَامِيُّ: كَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ صَالِحِ
بْنِ كَيْسَانَ يُؤَدِّبُهُ، فَلَمَّا حَجَّ أَبُوهُ اجْتَازَ بِهِ فِي
الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا خَبَرْتُ أَحَدًا
اللَّهُ أَعْظَمُ فِي صَدْرِهِ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَوْمًا، فَقَالَ صَالِحُ
بْنُ كَيْسَانَ مَا شَغَلَكَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ
شَعْرِي. فَقَالَ لَهُ: أَقَدَّمْتَ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ؟ وَكَتَبَ
إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عَلَى مِصْرَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ
أَبُوهُ رَسُولًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى حَلَقَ رَأْسَهُ. وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْتَلِفُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ مِنْهُ، فَبَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ أَنَّ
عُمَرَ يَنْتَقِصُ
(12/678)
عَلِيًّا، فَلَمَّا أَتَاهُ عُمَرُ
أَعْرَضَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْهُ، وَقَامَ يُصَلِّي فَجَلَسَ عُمَرُ
يَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ مُغْضَبًا،
وَقَالَ لَهُ: مَتَى بَلَغَكَ أَنَّ اللَّهَ سَخِطَ عَلَى أَهْلِ
بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ؟ قَالَ: فَفَهِمَهَا عُمَرُ،
وَقَالَ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا
أَعُودُ. قَالَ: فَمَا سُمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عَلِيًّا إِلَّا
بِخَيْرٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبِي ثَنَا
الْمُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ
قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا
الْبَابِ يَعْنِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بَعَثَ
إِلَيْنَا الْفَاسِقُ بِابْنِهِ هَذَا يَتَعَلَّمُ الْفَرَائِضَ
وَالسُّنَنَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ
خَلِيفَةً وَيَسِيرُ بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ
دَاوُدُ: فَوَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى رَأَيْنَا ذَلِكَ فِيهِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ قَالَ:
إِنَّ أَوَّلَ مَا اسْتُبْيِنَ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
حِرْصُهُ عَلَى الْعِلْمِ وَرَغْبَتُهُ فِي الْأَدَبِ - أَنَّ أَبَاهُ
وَلِيَ مِصْرَ وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ، يُشَكُّ فِي بُلُوغِهِ،
فَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَهْ، أَوْ غَيْرُ
ذَلِكَ لَعَلَّهُ يَكُونُ أَنْفَعَ لِي وَلَكَ؟ تُرَحِّلُنِي إِلَى
الْمَدِينَةِ فَأَقْعُدُ إِلَى فُقَهَاءِ أَهْلِهَا وَأَتَأَدَّبُ
بِآدَابِهِمْ. فَوَجَّهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَعَدَ مَعَ
مَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَتَجَنَّبَ شَبَابَهُمْ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ
دَأْبَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَخَذَهُ
عَمُّهُ
(12/679)
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ فَخَلَطَهُ بِوَلَدِهِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى كَثِيرٍ
مِنْهُمْ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ
فِيهَا الشَّاعِرُ:
بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا ... أُخْتُ الْخَلَائِفِ
وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا
قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى يَوْمِنَا
هَذَا سِوَاهَا.
قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حَاسِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ يَنْقِمُ عَلَيْهِ شَيْئًا سِوَى مُتَابَعَتِهِ فِي
النِّعْمَةِ، وَالِاخْتِيَالِ فِي الْمِشْيَةِ. وَقَدْ قَالَ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: الْكَامِلُ مَنْ عُدَّتْ هَفَوَاتُهُ، وَلَا
تُعَدُّ إِلَّا مِنْ قِلَّةٍ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يَتَجَانَفُ
فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، مَا لَكَ تَمْشِي غَيْرَ
مِشْيَتِكَ؟ قَالَ: إِنَّ فِيَّ جُرْحًا. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ
جَسَدِكَ؟ قَالَ: بَيْنَ الرَّانِفَةِ وَالصَّفَنِ يَعْنِي بَيْنَ
طَرَفِ الْأَلْيَةِ وَجِلْدَةِ الْخِصْيَةِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ
لِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ: بِاللَّهِ لَوْ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكَ سُئِلَ
عَنْ هَذَا مَا أَجَابَ هَذَا الْجَوَابَ.
قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَ عَمُّهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حَزِنَ عَلَيْهِ،
وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَحْتَ ثِيَابِهِ سَبْعِينَ يَوْمًا. وَلَمَّا
وَلِيَ الْوَلِيدُ عَامَلَهُ بِمَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ،
وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ
الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَسَنَةَ تِسْعِينَ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، ثُمَّ حَجَّ
بِالنَّاسِ عُمَرُ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
(12/680)
وَبَنَى فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ هَذِهِ
مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَسَّعَهُ
عَنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ لَهُ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ فِيهِ قَبْرُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ مُعَاشَرَةً، وَأَعْدَلِهِمْ
سِيرَةً; كَانَ إِذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ جَمَعَ فُقَهَاءَ
الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَيَّنَ عَشَرَةً مِنْهُمْ، وَكَانَ لَا
يَقْطَعُ أَمْرًا بِدُونِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَهُمْ:
عُرْوَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ،
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَثْمَةَ وَسُلَيْمَانُ
بْنُ يَسَارٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَخَارِجَةُ
بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
وَكَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ
كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَأْتِي أَحَدًا مِنَ
الْخُلَفَاءِ وَكَانَ يَأْتِي إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ
الْأَيْلِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ: قَدِمْتُ
الْمَدِينَةَ وَبِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرُهُ وَقَدْ
نَدَبَهُمْ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ رَأْيًا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي قَادِمٌ
الْبَرْبَرِيُّ، أَنَّهُ ذَاكَرَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ شَيْئًا مِنْ قَضَايَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ
كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ: كَأَنَّكَ تَقُولُ:
أَخْطَأَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْطَأَ قَطُّ. وَثَبَتَ
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
(12/681)
قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ
أَشْبَهَ صَلَاةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ
كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
قَالُوا: وَكَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُخَفِّفُ
الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّهُ كَانَ
يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَشْرًا عَشْرًا. وَقَالَ ابْنُ
وَهْبٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ،
قَالَ: لَقِيتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ خَارِجًا مِنْ عِنْدِ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ عِنْدِ عُمَرَ خَرَجْتَ؟
قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: تُعَلِّمُونَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: هُوَ
وَاللَّهِ أَعْلَمُكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَتَيْنَاهُ نُعَلِّمُهُ
فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى تَعَلَّمْنَا مِنْهُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ
مِهْرَانَ كَانَتِ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
تَلَامِذَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ مَيْمُونٌ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعَلِّمَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ اللَّيْثُ:
حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ قَدْ صَحِبَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ،
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى
الْجَزِيرَةِ قَالَ: مَا الْتَمَسْنَا عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْنَا
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَصْلِهِ
وَفَرْعِهِ، وَمَا كَانَ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَّا تَلَامِذَةً.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ: رَأَيْتُ أَبِي تَوَاقَفَ هُوَ
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ
(12/682)
بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى
أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا قُلْتُ: يَا أَبَهْ، مَنْ هَذَا
الرَّجُلُ؟ قَالَ: هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ مِنْ
صَالِحِي هَذَا الْبَيْتِ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ. وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا
كَانَ بَدْءُ إِنَابَتِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ ضَرْبَ غُلَامٍ لِي فَقَالَ
لِي: اذْكُرْ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَمَّا عُزِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ عَنْ الْمَدِينَةِ يَعْنِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ
وَخَرَجَ مِنْهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا وَبَكَى، وَقَالَ لِمَوْلَاهُ:
يَا مُزَاحِمُ، نَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ.
يَعْنِي أَنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ
خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَتَنْصَعُ طِيبَهَا.
قُلْتُ: خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا
يُقَالُ لَهُ: السُّوَيْدَاءُ حِينًا، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَلَى
بَنِي عَمِّهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ
قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ
الْمَدِينَةِ وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنِّي، فَلَمَّا قَدِمْتُ
الشَّامَ نَسِيتُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ
بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَهِرْتُ مَعَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ:
كُلُّ مَا
(12/683)
حَدَّثْتَ فَقَدْ سَمِعْتُهُ، وَلَكِنْ
حَفِظْتَ وَنَسِيتُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ إِلَيَّ الْوَلِيدُ
ذَاتَ سَاعَةٍ مِنَ الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ
عَابِسٌ، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَسُبُّ الْخُلَفَاءَ أَيُقْتَلُ؟
فَسَكَتُّ ثُمَّ عَادَ فَسَكَتُّ ثُمَّ عَادَ، فَقُلْتُ: أَقَتَلَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ سَبَّ. فَقُلْتُ:
يُنَكَّلُ بِهِ. فَغَضِبَ وَانْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ لِي
ابْنُ الرَّيَّانِ السَّيَّافُ: اذْهَبْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ
عِنْدِهِ وَمَا تَهُبُّ رِيحٌ إِلَّا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولٌ
يَرُدُّنِي إِلَيْهِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ: أَقْبَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ عَلَى مُعَسْكَرِ سُلَيْمَانَ وَفِيهِ تِلْكَ الْخُيُولُ
وَالْجِمَالُ وَالْبِغَالُ وَالْأَثْقَالُ وَالرِّجَالُ، فَقَالَ
سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ يَا عُمَرُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: أَرَى
دُنْيَا يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنْتَ الْمَسْئُولُ عَنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ. فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمُعَسْكَرِ إِذَا غُرَابٌ قَدْ
أَخَذَ لُقْمَةً فِي فِيهِ مِنْ فُسْطَاطِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ طَائِرٌ
بِهَا وَنَعَبَ نَعْبَةً، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ فِي
هَذَا يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ أَنَّهُ
يَقُولُ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَيْنَ جَاءَتْ؟ وَأَيْنَ
يُذْهَبُ بِهَا؟ فَقَالَ لَهُ
(12/684)
سُلَيْمَانُ: مَا أَعْجَبَكَ!! فَقَالَ
عُمَرُ: أَعْجَبُ مِنِّي مَنْ عَرَفَ اللَّهَ فَعَصَاهُ، وَمَنْ عَرَفَ
الشَّيْطَانَ فَأَطَاعَهُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ سُلَيْمَانُ وَعُمَرُ بِعَرَفَةَ
وَجَعَلَ سُلَيْمَانُ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: هَؤُلَاءِ رَعِيَّتُكَ الْيَوْمَ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ
غَدًا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَهُمْ خُصَمَاؤُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ: بِاللَّهِ أَسْتَعِينُ. وَتَقَدَّمَ
أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ رَعْدٌ شَدِيدٌ
وَبَرْقٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْحَكُ مِنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: أَتَضْحَكُ وَنَحْنُ فِيمَا تَرَى؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْحَالِ،
فَكَيْفَ بِآثَارِ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ؟
وَذَكَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَعُمَرَ تَقَاوَلَا
مَرَّةً، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ: كَذَبْتَ.
فَقَالَ: تَقُولُ لِي: كَذَبْتَ؟ وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ مُنْذُ
عَرَفْتُ أَنَّ الْكَذِبَ يَضُرُّ أَهْلَهُ. ثُمَّ هَجَرَهُ عُمَرُ
وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ
سُلَيْمَانُ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ فَصَالَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا
عَرَضَ لِي أَمْرٌ يَهُمُّنِي إِلَّا خَطَرْتَ عَلَى بَالِي.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْوَفَاةُ، أَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَانْتَظَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
(12/685)
[مَنَاقِبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ]
فَصْلٌ (مَنَاقِبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ)
قَالَ: أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا عَجَبًا!
يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يَلِيَ
رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ يَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِ عُمَرَ. قَالَ:
فَكَانُوا يَرَوْنَهُ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
وَكَانَ بِوَجْهِهِ أَثَرٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ، وَإِذَا هُوَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأُمُّهُ ابْنَةُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَ الْحَاكِمُ، أَنَا أَبُو حَامِدٍ
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَقْرِيُّ، ثَنَا أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا عَفَّانُ
بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ لَاحِقٍ،
عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: بَلَغَنَا
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَلَدِي رَجُلًا
بِوَجْهِهِ شَيْنٌ يَلِي، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا.
قَالَ نَافِعٌ مِنْ قَبْلِهِ: وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَرَوَاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ
نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ
هَذَا الَّذِي مِنْ وَلَدِ عُمَرَ فِي وَجْهِهِ عَلَامَةٌ يَمْلَأُ
الْأَرْضَ عَدْلًا؟ وَقَالَ: وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا أَنَا
نَائِمٌ، رَأَيْتُ كَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي
(12/686)
شَيْبَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، وُلِّيَ عَلَيْكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: مَنْ؟
فَأَشَارَ إِلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: عُ مَ رُ.
قَالَ: فَجَاءَتْ بَيْعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ
بَقِيَّةُ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي رَزِينٍ، حَدَّثَنِي الْخُزَاعِيُّ،
«عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَقَالَ
لَهُ: " إِنَّكَ سَتَلِي أَمْرَ أُمَّتِي فَزَعْ عَنِ الدَّمِ، فَإِنَّ
اسْمَكَ فِي النَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْمُكَ عِنْدَ
اللَّهِ جَابِرٌ» ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِيِّ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَوْدُودٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا
أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،
ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ رَبَاحِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ:
خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَشَيْخٌ
مُتَوَكِّئٌ عَلَى يَدِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ هَذَا
الشَّيْخَ جَافٌّ، فَلَمَّا صَلَّى وَدَخَلَ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ:
أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَنِ الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ مُتَّكِئًا
عَلَى يَدِكَ؟ فَقَالَ: يَا رَبَاحُ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: مَا أَحْسَبُكَ يَا رَبَاحُ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ
أَخِي الْخَضِرُ، أَتَانِي فَأَعْلَمَنِي أَنِّي سَأَلِي أَمْرَ هَذِهِ
الْأُمَّةِ، وَأَنِّي سَأَعْدِلُ فِيهَا.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْرٍ، ثَنَا
ضَمْرَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْلَةَ، عَنْ أَبِي الْأَعْيَسِ،
قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
(12/687)
فَجَاءَ شَابٌّ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ،
فَأَخَذَ بِيَدِ خَالِدٍ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْنَا مِنْ عَيْنٍ؟
فَقَالَ أَبُو الْأَعْيَسِ: فَقُلْتُ: عَلَيْكُمَا مِنَ اللَّهِ عَيْنٌ
بَصِيرَةٌ وَأُذُنٌ سَمِيعَةٌ، قَالَ: فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا
الْفَتَى. فَأَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ يَدِ خَالِدٍ وَوَلَّى، فَقُلْتُ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنُ أَخِي
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّهُ
إِمَامَ هُدًى. قُلْتُ: قَدْ كَانَ عِنْدَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ جَيِّدٌ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ
وَأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَزَمَ أَنْ يَكْتُبَ الْعَهْدَ
بِاسْمِ أَحَدِ أَوْلَادِهِ، فَمَا زَالَ بِهِ وَزِيرُهُ الصَّادِقُ
رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَارَ
عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَصْلَحِ النَّاسِ
لَهُمْ، فَأَلْهَمَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ رُشْدَهُ، فَعَيَّنَ لَهَا
ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَجَوَّدَ رَأْيَهُ
رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ وَصَوَّبَهُ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ الْعَهْدَ
فِي صَحِيفَةٍ، وَخَتَمَهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ عُمَرُ، وَلَا
أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ سِوَى سُلَيْمَانَ وَرَجَاءٍ، ثُمَّ
أَمَرَ صَاحِبَ الشُّرَطَةِ بِإِحْضَارِ الْأُمَرَاءِ، وَرُءُوسِ
النَّاسِ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَبَايَعُوا سُلَيْمَانَ
عَلَى مَا فِي الصَّحِيفَةِ الْمَخْتُومَةِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ
لَمَّا مَاتَ الْخَلِيفَةُ اسْتَدْعَاهُمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ
فَبَايَعُوا ثَانِيَةً، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا مَوْتَ الْخَلِيفَةِ،
ثُمَّ فَتَحَهَا فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فِيهَا الْبَيْعَةُ
لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَخَذُوهُ فَأَجْلَسُوهُ عَلَى
الْمِنْبَرِ وَبَايَعُوهُ، فَانْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ فِي
الرَّجُلِ يُوصِي الْوَصِيَّةَ فِي كِتَابٍ وَيُشْهِدُ عَلَى مَا فِيهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الشُّهُودِ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ عَلَى
مَا فِيهِ فَيَنْفُذُ،
(12/688)
فَسَوَّغَ ذَلِكَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ ; قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ
زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ: أَجَازَ ذَلِكَ وَأَمْضَاهُ وَأَنْفَذَ
الْحُكْمَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَمَكْحُولٍ،
وَنُمَيْرِ بْنِ أَوْسٍ، وَزُرْعَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ
وَافَقَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ.
وَحَكَى نَحْوَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ
أَبِيهِ وَقُضَاةِ جُنْدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي
مَنْ وَافَقَهُ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَهُوَ
قَوْلُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُضَاتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ
الْعَنْبَرِيِّ فِي مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ. وَأَخَذَ بِهَذَا عَدَدٌ
كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدٍ،
وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اعْتَنَى بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ".
قَالَ الْمُعَافَى: وَأَبَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ: إِبْرَاهِيمُ، وَحَمَّادٌ، وَالْحَسَنُ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ
شَيْخِنَا أَبِي جَعْفَرٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
بِالْعِرَاقِ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ
الْجَرِيرِيُّ: وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَذْهَبُ.
(12/689)
وَتَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ أُتِيَ
بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ لِيَرْكَبَهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ،
وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَوْلَا التُّقَى ثُمَّ النُّهَى خَشْيَةَ الرَّدَى ... لَعَاصَيْتُ
فِي حُبِّ الصِّبَا كُلَّ زَاجِرِ
قَضَى مَا قَضَى فِيمَا مَضَى ثُمَّ لَا تَرَى ... لَهُ صَبْوَةً
أُخْرَى اللَّيَالِي الْغَوَابِرِ
ثُمَّ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،
قَدِّمُوا إِلَيَّ بَغْلَتِي. ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْعِ تِلْكَ
الْمَرَاكِبِ الْخَلِيفِيَّةِ فِي مَنْ يُرِيدُ، وَكَانَتْ مِنَ
الْخُيُولِ الْجِيَادِ الْمُثَمَّنَةِ، فَبَاعَهَا وَجَعَلَ
أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.
قَالُوا: فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ بَايَعَهُ
النَّاسُ، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِهِ، انْقَلَبَ وَهُوَ
مُغْتَمٌّ مَهْمُومٌ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: مَا لَكَ هَكَذَا
مُغْتَمًّا مَهْمُومًا، وَلَيْسَ هَذَا بِوَقْتِ هَذَا؟ فَقَالَ:
وَيْحَكَ! وَمَا لِي لَا أَغْتَمُّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَهُوَ
يُطَالِبُنِي بِحَقِّهِ ; أَنْ أُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيَّ
فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكْتُبْ، طَلَبَهُ مِنِّي أَوْ لَمْ يَطْلُبْ.
قَالُوا: ثُمَّ إِنَّهُ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ بَيْنَ أَنْ
تُقِيمَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرَاغَ لَهُ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ
أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَبَكَتْ وَبَكَى جَوَارِيهَا
لِبُكَائِهَا، فَسُمِعَتْ ضَجَّةٌ فِي دَارِهِ، ثُمَّ اخْتَارَتْ
مُقَامَهَا مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، رَحِمَهَا اللَّهُ. وَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ: تَفَرَّغْ لَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْشَأَ
يَقُولُ
قَدْ جَاءَ شُغْلٌ شَاغِلٌ ... وَعَدَلْتُ عَنْ طُرُقِ السَّلَامَهْ
ذَهَبَ الْفَرَاغُ فَلَا فَرَا ... غَ لَنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَهْ
(12/690)
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ،
قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، وَكَانَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا حَمِدَ اللَّهَ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ صَحِبَنَا
فَلْيَصْحَبْنَا بِخَمْسٍ، وَإِلَّا فَلْيُفَارِقْنَا ; يَرْفَعُ
إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا، وَيُعِينُنَا عَلَى
الْخَيْرِ بِجُهْدِهِ، وَيَدُلُّنَا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى مَا لَا
نَهْتَدِي إِلَيْهِ، وَلَا يَغْتَابَنَّ عِنْدَنَا الرَّعِيَّةَ، وَلَا
يَعْرِضَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ. فَانْقَشَعَ عَنْهُ الشُّعَرَاءُ
وَالْخُطَبَاءُ، وَثَبَتَ مَعَهُ الْفُقَهَاءُ وَالزُّهَّادُ،
وَقَالُوا: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُفَارِقَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى
يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَرَجَاءِ بْنِ
حَيْوَةَ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ
تَرَوْنَ مَا ابْتُلِيتُ بِهِ وَمَا قَدْ نَزَلَ بِي، فَمَا
عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: اجْعَلِ الشَّيْخَ أَبًا،
وَالشَّابَّ أَخًا، وَالصَّغِيرَ وَلَدًا، فَبِرَّ أَبَاكَ، وَصِلْ
أَخَاكَ، وَتَعَطَّفْ عَلَى وَلَدِكَ. وَقَالَ رَجَاءٌ: ارْضَ
لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يُؤْتَى
إِلَيْكَ فَلَا تَأْتِهِ إِلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ أَوَّلُ
خَلِيفَةٍ تَمُوتُ. وَقَالَ سَالِمٌ اجْعَلِ الْأَمْرَ يَوْمًا
وَاحِدًا صُمْ فِيهِ عَنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَاجْعَلْ آخِرَ
فِطْرِكَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَكَأَنْ قَدْ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
(12/691)
وَقَالَ غَيْرُهُ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا النَّاسَ فَقَالَ، وَقَدْ خَنَقَتْهُ
الْعَبْرَةُ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْلِحُوا آخِرَتَكُمْ تَصْلُحْ
لَكُمْ دُنْيَاكُمْ، وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ
عَلَانِيَتُكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّ عَبْدًا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
آدَمَ أَبٌ إِلَّا قَدْ مَاتَ، إِنَّهُ لَمُعْرَقٌ لَهُ فِي الْمَوْتِ.
وَقَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: كَمْ مِنْ عَامِرٍ مُؤَنَّقٍ عَمَّا
قَلِيلٍ يَخْرُبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبِطٍ عَمَّا قَلِيلٍ
يَظْعَنُ، فَأَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنَ الدُّنْيَا
الرِّحْلَةَ بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النَّقْلَةِ،
بَيْنَمَا ابْنُ آدَمَ فِي الدُّنْيَا يُنَافِسُ فِيهَا قَرِيرَ
الْعَيْنِ قَانِعًا، إِذْ دَعَاهُ اللَّهُ بِقَدَرِهِ وَرَمَاهُ
بِيَوْمِ حَتْفِهِ، فَسَلَبَهُ آثَارَهُ وَدُنْيَاهُ، وَصَيَّرَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ مَصَانِعَهُ وَمَغْنَاهُ، إِنَّ الدُّنْيَا لَا
تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ، تَسُرُّ قَلِيلًا، وَتُحْزِنُ طَوِيلًا.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ،
قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَامَ فِي
النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّهُ لَا كِتَابَ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَلَا نَبِيَّ
بَعْدَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ
وَلَكِنِّي مُنْفِذٌ، وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي
مُتَّبِعٌ، إِنَّ الرَّجُلَ الْهَارِبَ مِنَ الْإِمَامِ الظَّالِمِ
لَيْسَ بِظَالِمٍ، أَلَا إِنَّ الْإِمَامَ الظَّالِمَ هُوَ الْعَاصِي،
أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ
(12/692)
عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ
قَالَ فِيهَا: وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ
وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا، أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى
الْحَلْوَانِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، حَدَّثَنِي ابْنٌ
لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: كَانَ آخِرُ خُطْبَةً خَطَبَهَا
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى، عَلَيْهِ
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا،
وَلَنْ تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ
فِيهِ لِلْحُكْمِ فِيكُمْ وَالْفَصْلِ بَيْنَكُمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ
مَنْ خَرَجَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ
غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَخَافَهُ، وَبَاعَ
نَافِدًا بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ؟ أَلَا
تَرَوْنَ أَنَّكُمْ فِي أَسْلَابِ الْهَالِكِينَ، وَسَيَكُونُ مِنْ
بَعْدِكُمْ لِلْبَاقِينَ، كَذَلِكَ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى خَيْرِ
الْوَارِثِينَ؟ ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُشَيِّعُونَ
غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللَّهِ، قَدْ قَضَى نَحْبَهُ حَتَّى
تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ صَدْعٍ غَيْرِ
مُوَسَّدٍ وَلَا مُمَهَّدٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ، وَبَاشَرَ
التُّرَابَ، وَوَاجَهَ الْحِسَابَ، فَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ،
غَنِيٌّ عَمَّا تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ
قَبْلَ انْقِضَاءِ مُرَاقَبَتِهِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِكُمْ، أَمَا
إِنِّي أَقُولُ هَذَا. ثُمَّ وَضَعَ طَرْفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ
فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَايْمِ اللَّهِ،
إِنِّي لَأَقُولَ قَوْلِي هَذَا، وَمَا أَعْلَمُ عِنْدَ أَحَدٍ
مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي،
وَلَكِنَّهَا سُنَنٌ مِنَ اللَّهِ عَادِلَةٌ ; أَمَرَ
(12/693)
فِيهَا بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى فِيهَا عَنْ
مَعْصِيَتِهِ. وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَوَضَعَ كُمَّهُ عَلَى وَجْهِهِ
فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، فَمَا عَادَ لِمَجْلِسِهِ حَتَّى
مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ يَقُولُ: " ادْنُ يَا عُمَرُ ".
قَالَ: فَدَنَوْتُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أُصِيبَهُ، فَقَالَ: " إِذَا
وُلِّيتَ فَاعْمَلْ نَحْوًا مِنْ عَمَلِ هَذَيْنِ ". وَإِذَا كَهْلَانِ
قَدِ اكْتَنَفَاهُ، فَقُلْتُ: وَمَنْ هَذَانِ؟ قَالَ: " هَذَا أَبُو
بَكْرٍ، وَهَذَا عُمَرُ ". وَرُوِّينَا أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ اكْتُبْ لِي سِيرَةَ عُمَرَ حَتَّى
أَعْمَلَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ عَمِلْتَ بِهَا كُنْتَ
أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَى الْخَيْرِ
أَعْوَانًا، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ مَنْ يُعِينُكَ عَلَى الْخَيْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: آمَنْتُ
بِاللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْوَفَاءُ عَزِيزٌ. وَقَدْ جَمَعَ
يَوْمًا رُءُوسَ النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ
بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهَا
حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ
كَذَلِكَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَمَا أَدْرِي مَا قَالَ فِي
عُثْمَانَ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ أَقْطَعَهَا فَحَصَلَ لِي
مِنْهَا نَصِيبٌ، وَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ نَصِيبَهُمَا،
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِي شَيْءٌ أَرَدَّ عَلَيَّ مِنْهَا، وَقَدْ
رَدَدْتُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي
زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ:
فَيَئِسَ النَّاسُ عِنْدَ
(12/694)
ذَلِكَ مِنَ الْمَظَالِمِ، ثُمَّ أَخَذَ
أَمْوَالَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّهَا إِلَى بَيْتِ
الْمَالِ، وَسَمَّاهَا أَمْوَالُ الْمَظَالِمِ، فَاسْتَشْفَعُوا
إِلَيْهِ بِالنَّاسِ، وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِعَمَّتِهِ فَاطِمَةَ
بِنْتِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ وَلَمْ يَرُدُّهُ عَنِ
الْحَقِّ شَيْءٌ، وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَتَدَعُنِّي، وَإِلَّا
ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ لِأَحَقِّ
النَّاسِ بِهِ. وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ فِيكُمْ خَمْسِينَ
عَامًا مَا أَقَمْتُ فِيكُمْ مَا أُرِيدُ مِنَ الْعَدْلِ، وَإِنِّي
لَأُرِيدُ الْأَمْرَ فَمَا أُنْفِذُهُ إِلَّا مَعَ طَمَعٍ مِنَ
الدُّنْيَا حَتَّى تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي هَذِهِ
الْأُمَّةِ مَهْدِيٌّ فَهُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَنَحْوَ
هَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرُ
وَاحِدٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ مَهْدِيٌّ وَلَيْسَ بِهِ، إِنَّهُ لَمْ
يَسْتَكْمِلِ الْعَدْلَ كُلَّهُ، إِذَا كَانَ الْمَهْدِيُّ تِيبَ عَلَى
الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ، وَزِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ،
سَمْحٌ بِالْمَالِ، شَدِيدٌ عَلَى الْعُمَّالِ، رَحِيمٌ
بِالْمَسَاكِينِ، وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ:
الْخُلَفَاءُ أَبُو بَكْرٍ وَالْعُمَرَانِ. فَقِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا، فَمَنْ عُمَرُ الْآخَرُ؟ قَالَ: يُوشِكُ
إِنْ عِشْتَ أَنْ تَعْرِفَهُ. يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَشَجُّ بَنِي
مَرْوَانَ. وَقَالَ عَبَّادٌ السَّمَّاكُ وَكَانَ يُجَالِسُ
(12/695)
سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: سَمِعْتُ
الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ ; أَبُو بَكْرٍ،
وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ
مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَأَحَدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ. وَذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي
الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ
الصَّحِيحُ: " «لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا
حَتَّى يَكُونَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ
قُرَيْشٍ» ".
وَقَدِ اجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَعَ
قِصَرِهَا حَتَّى رَدَّ الْمَظَالِمَ، وَصَرَفَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ
حَقَّهُ، وَكَانَ مُنَادِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِي: أَيْنَ
الْغَارِمُونَ؟ أَيْنَ النَّاكِحُونَ؟ أَيْنَ الْمَسَاكِينُ؟ أَيْنَ
الْيَتَامَى؟ حَتَّى أَغْنَى كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ هُوَ أَوْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ؟ فَفَضَّلَ بَعْضُهُمْ عُمَرَ لِسِيرَتِهِ وَمَعْدَلَتِهِ
وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَفَضَّلَ آخَرُونَ مُعَاوِيَةَ
لِسَابِقَتِهِ وَصُحْبَتِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيَوْمٌ
شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَيَّامِهِ،
وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يُعْجِبُهُ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِي
زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَانَ يَسْأَلُهَا
إِيَّاهَا ; إِمَّا بَيْعًا أَوْ هِبَةً، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيْهِ
ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَلْبَسَتْهَا وَطَيَّبَتْهَا
وَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ
(12/696)
وَوَهَبَتْهَا لَهُ، فَلَمَّا أَخْلَتْهَا
بِهِ أَعْرَضَ عَنْهَا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَصَدَفَ عَنْهَا،
فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَأَيْنَ مَا كَانَ يَظْهَرُ لِي مِنْ
مَحَبَّتِكَ إِيَّايَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَحَبَّتَكِ
لَبَاقِيَةٌ كَمَا هِيَ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ،
فَقَدْ جَاءَنِي أَمْرٌ شَغَلَنِي عَنْكِ، وَعَنْ غَيْرِكِ. ثُمَّ
سَأَلَهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَمِنْ أَيْنَ جَلَبُوهَا، فَقَالَتْ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَبِي أَصَابَ جِنَايَةً بِبِلَادِ
الْمَغْرِبِ، فَصَادَرَهُ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَأُخِذْتُ فِي
الْجِنَايَةِ، وَبَعَثَ بِي إِلَى الْوَلِيدِ فَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ
لِأُخْتِهِ فَاطِمَةَ زَوْجَتِكَ، فَأَهْدَتْنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ
عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كِدْنَا
وَاللَّهِ نَفْتَضِحُ وَنَهْلَكُ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّهَا مُكَرَّمَةً
إِلَى بِلَادِهَا وَأَهْلِهَا.
وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَيْهِ وَهُوَ
جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى يَدِهِ، وَدُمُوعُهُ
تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ يَا
فَاطِمَةُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا
وُلِّيتُ، فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَالْمَرِيضِ
الضَّائِعِ، وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ، وَالْيَتِيمِ الْمَكْسُورِ،
وَالْأَرْمَلَةِ الْوَحِيدَةِ، وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ،
وَالْغَرِيبِ، وَالْأَسِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذِي الْعِيَالِ
الْكَثِيرِ وَالْمَالِ الْقَلِيلِ، وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ
الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ خَصْمِي
دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَشِيتُ
أَنْ لَا يَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ، فَرَحِمْتُ نَفْسِي
فَبَكَيْتُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَلَّانِي عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَالَةً، ثُمَّ قَالَ لِي: إِذَا جَاءَكَ كِتَابٌ
مِنِّي
(12/697)
عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَاضْرِبْ بِهِ
الْأَرْضَ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: إِذَا دَعَتْكَ
قُدْرَتُكَ عَلَى النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ، فَاذْكُرْ قُدْرَةَ
اللَّهِ عَلَيْكَ، وَنَفَادَ مَا تَأْتِي إِلَيْهِمْ، وَبَقَاءَ مَا
يَأْتُونَ إِلَيْكَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ
لِلْإِسْلَامِ سُنَنًا وَشَرَائِعَ وَفَرَائِضَ، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا
اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ
يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ أُبَيِّنْهَا لَكُمْ
لِتَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَوَاللَّهِ مَا أَنَا عَلَى
صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "
تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ.
وَذَكَرَ الصُّولِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ:
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي لَا يُقْبَلُ
غَيْرُهَا، وَلَا يُرْحَمُ إِلَّا أَهْلُهَا، وَلَا يُثَابُ إِلَّا
عَلَيْهَا، وَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ، وَالْعَامِلِينَ
بِهَا قَلِيلٌ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ
عَمَلِهِ أَقَلَّ مِنْهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ
ذِكْرَ الْمَوْتِ اجْتَزَأَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ. وَقَالَ
أَيْضًا: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ
خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا
يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَكَلَّمَهُ رَجُلٌ يَوْمًا
حَتَّى أَغْضَبَهُ فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ ثُمَّ أَمْسَكَ نَفْسَهُ، ثُمَّ
قَالَ لِلرَّجُلِ: أَرَدْتَ أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ
بِعِزَّةِ السُّلْطَانِ فَأَنَالَ مِنْكَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا!
قُمْ عَافَاكَ اللَّهُ، لَا حَاجَةَ لَنَا فِي مُقَاوَلَتِكَ. وَكَانَ
يَقُولُ: إِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ الْقَصْدُ فِي
الْجِدِّ، وَالْعَفْوُ فِي الْمَقْدِرَةِ، وَالرِّفْقُ فِي
الْوِلَايَةِ،
(12/698)
وَمَا رَفَقَ عَبْدٌ بِعَبْدٍ فِي
الدُّنْيَا إِلَّا رَفَقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَخَرَجَ ابْنٌ لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ
فَشَجَّهُ صَبِيٌّ مِنْهُمْ، فَاحْتَمَلُوا الصَّبِيَّ الَّذِي شَجَّ
ابْنَهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَسَمِعَ الْجَلَبَةَ فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ، فَإِذَا مُرَيْئَةٌ تَقُولُ: إِنَّهُ ابْنِي، وَإِنَّهُ
يَتِيمٌ. فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: أَلَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ؟
قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَاكْتُبُوهُ فِي الذُّرِّيَّةِ. فَقَالَتْ
زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ إِنْ لَمْ يَشُجَّ
ابْنَكَ ثَانِيَةً. فَقَالَ: وَيْحَكِ، إِنَّكُمْ أَفْزَعْتُمُوهُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ: مَالِكٌ زَاهِدٌ. أَيُّ
زُهْدٍ عِنْدِي! إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا فَتَرَكَهَا. قَالُوا: وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ سِوَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَكَانَ إِذَا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي
الْمَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ. وَقَدْ وَقَفَ مَرَّةً عَلَى رَاهِبٍ،
فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ عِظْنِي. فَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ بِقَوْلِ
الشَّاعِرِ
تَجَرَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْتَ إِلَى
الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدُ
قَالُوا: فَكَانَ يُعْجِبُهُ وَيُكَرِّرُهُ وَعَمِلَ بِهِ حَقَّ
الْعَمَلِ.
قَالُوا: وَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا فَسَأَلَهَا أَنْ
تُقْرِضَهُ دِرْهَمًا أَوْ فُلُوسًا يَشْتَرِي
(12/699)
لَهُ بِهَا عِنَبًا، فَلَمْ يَجِدْ
عِنْدَهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
وَلَيْسَ فِي خِزَانَتِكَ مَا تَشْتَرِي بِهِ عِنَبًا؟ ! فَقَالَ:
هَذَا أَيْسَرُ مِنْ مُعَالَجَةِ الْأَغْلَالِ وَالْأَنْكَالِ غَدًا
فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ سِرَاجُ بَيْتِهِ عَلَى ثَلَاثِ قَصَبَاتٍ فِي
رَأْسِهِنَّ طِينٌ. قَالُوا: وَبَعَثَ يَوْمًا غُلَامَهُ لِيَشْوِيَ
لَهُ لَحْمَةً فَجَاءَهُ بِهَا سَرِيعًا مَشْوِيَّةً، فَقَالَ: أَيْنَ
شَوَيْتَهَا؟ قَالَ: فِي الْمَطْبَخِ. فَقَالَ: فِي مَطْبَخِ
الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلْهَا فَإِنِّي لَمْ
أُرْزَقْهَا، هِيَ رِزْقُكَ. وَسَخَّنُوا لَهُ مَاءً فِي الْمَطْبَخِ
الْعَامِّ فَرَدَّ بَدَلَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ حَطَبًا. وَقَالَتْ
زَوْجَتُهُ: مَا جَامَعَ وَلَا احْتَلَمَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ.
قَالُوا: وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ
الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ ثَوْبَانَ فِي الْحَوْضِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ عَلَى الْبَرِيدِ، وَقَالَ لَهُ
كَالْمُتَوَجِّعِ: مَا أَرَدْنَا الْمَشَقَّةَ عَلَيْكَ يَا أَبَا
سَلَّامٍ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِالْحَدِيثِ
مُشَافَهَةً. فَقَالَ: سَمِعْتُ ثَوْبَانَ، يَقُولُ قَالَ: رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَوْضِي مَا بَيْنَ عَدَنَ
إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ،
وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، أَكَاوِيبُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ،
مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا،
وَأَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ،
الشُّعْثُ رُءُوسًا، الدُّنْسُ ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ
الْمُتَنَعِّمَاتِ، وَلَا تُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ» .
(12/700)
فَقَالَ عُمَرُ: لَكِنِّي نَكَحْتُ
الْمُتَنَعِّمَاتِ، فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَفُتِحَتْ
لِيَ السُّدَدُ فَلَا جَرَمَ لَا أَغْسِلُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ،
وَلَا أُلْقِى ثَوْبِي حَتَّى يَتَّسِخَ.
قَالُوا: وَكَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ،
وَسِرَاجٌ لِبَيْتِ الْمَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحَ
الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكْتُبُ عَلَى ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفًا.
وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ كُلَّ يَوْمٍ أَوَّلَ النَّهَارِ،
وَلَا يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ شُرَطِيٍّ،
وَثَلَاثُمِائَةِ حَرَسِيٍّ، وَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ تُفَّاحًا فَاشْتَمَّهُ ثُمَّ رَدَّهُ مَعَ الرَّسُولِ،
وَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُ: قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا. فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ. فَقَالَ: إِنَّ الْهَدِيَّةَ كَانَتْ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً،
فَأَمَّا نَحْنُ فَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ.
قَالُوا: وَكَانَ يُوَسِّعُ عَلَى عُمَّالِهِ فِي النَّفَقَةِ ;
يُعْطِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ مِائَةَ دِينَارٍ،
وَمِائَتَيْ دِينَارٍ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا
فِي كِفَايَةٍ تَفَرَّغُوا لِأَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا
لَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ كَمَا تُنْفِقُ عَلَى
عُمَّالِكَ؟ فَقَالَ: لَا أَمْنَعُهُمْ حَقًّا لَهُمْ، وَلَا
أُعْطِيهِمْ حَقَّ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ بَقُوا فِي
جَهْدٍ عَظِيمٍ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ مَعَهُمْ سَلَفًا كَثِيرًا مِنْ
قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ: إِنِّي
لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ بِبَابِي وَلَا يُؤْذَنُ لَكَ.
وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ وَأَرْغَبُ
بِكَ أَنْ أُدَنِّسَكَ بِالدُّنْيَا لِمَا أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: كُنَّا نَحْنُ وَبَنُو عَمِّنَا بَنُو هَاشِمٍ،
مَرَّةً لَنَا وَمَرَّةً عَلَيْنَا، نَلْجَأُ إِلَيْهِمْ وَيَلْجَئُونَ
إِلَيْنَا، حَتَّى
(12/701)
طَلَعَتْ شَمْسُ الرِّسَالَةِ فَأَكْسَدَتْ
كُلَّ نَافِقٍ، وَأَخْرَسَتْ كُلَّ مُنَافِقٍ، وَأَسْكَتَتْ كُلَّ
نَاطِقٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخُو خَطَّابٍ،
ثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى
بْنِ أَعْيَنَ الرَّاعِي وَكَانَ يَرْعَى الْغَنَمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي عُيَيْنَةَ قَالَ: كَانَتِ الْغَنَمُ وَالْأُسْدُ وَالْوَحْشُ
تَرْعَى فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعٍ
وَاحِدٍ، فَعَرَضَ لِشَاةٍ مِنْهَا ذِئْبٌ، فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ،
مَا أَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ إِلَّا قَدْ هَلَكَ. قَالَ:
فَحَسَبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ هَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ حَمَّادٍ، فَقَالَ: كَانَ يَرْعَى الشَّاةَ
بِكَرْمَانَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَمِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ رِجَالًا أَطَاعُوكَ فِيمَا
أَمَرْتَهُمْ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَيْتَهُمْ، اللَّهُمَّ وَإِنَّ
تَوْفِيقَكَ إِيَّاهُمْ كَانَ قَبْلَ طَاعَتِهِمْ إِيَّاكَ،
فَوَفِّقْنِي. وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ، إِنَّ عُمَرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ
أَنْ تَنَالَهُ رَحْمَتُكَ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَكَ أَهْلٌ أَنْ تَنَالَ
عُمَرَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَبْقَاكَ اللَّهُ مَا كَانَ الْبَقَاءُ خَيْرًا
لَكَ. فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَلَكِنْ قُلْ:
أَحْيَاكَ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَتَوَفَّاكَ مَعَ الْأَبْرَارِ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ: أَصْبَحْتُ بَطِيئًا بَطِينًا، مُتَلَوِّثًا بِالْخَطَايَا،
أَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(12/702)
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ كَانَتِ
الْخِلَافَةُ لَهُمْ زَيْنٌ، وَأَنْتَ زَيْنُ الْخِلَافَةِ، وَإِنَّمَا
مَثَلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الدُّرُّ زَانَ حُسْنَ وُجُوهٍ ... كَانَ لِلدُّرِّ حُسْنُ
وَجْهِكَ زَيْنَا
قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ
سَمَرْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ
فَعَشِيَ السِّرَاجُ فَقُلْتُ: أَلَا أُنَبِّهُ هَذَا الْغُلَامَ
يُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَا، دَعْهُ يَنَامُ. فَقُلْتُ: أَفَلَا أَقُومُ
أُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَا، لَيْسَ مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ
اسْتِخْدَامُ ضَيْفِهِ. ثُمَّ قَامَ بِنَفْسِهِ فَأَصْلَحَهُ وَصَبَّ
فِيهِ زَيْتًا، ثُمَّ جَاءَ وَقَالَ: قُمْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجِئْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَقَالَ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ النِّعَمِ فَإِنَّ ذِكْرَهَا شُكْرُهَا.
وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ مَخَافَةَ
الْمُبَاهَاةِ. وَبَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ تُوُفِّيَ،
فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ لِيُعَزِّيَهُمْ فِيهِ، فَصَرَخُوا فِي
وَجْهِهِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ
لَمْ يَكُنْ يَرْزُقُكُمْ، وَإِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لَا
يَمُوتُ، وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا، لَمْ يَسُدَّ شَيْئًا مِنْ
حُفَرِكُمْ، وَإِنَّمَا سَدَّ حُفْرَةَ نَفْسِهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْكُمْ حُفْرَةً لَا بُدَّ وَاللَّهِ أَنْ يَسُدَّهَا، إِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا حَكَمَ عَلَيْهَا
بِالْخَرَابِ وَعَلَى أَهْلِهَا بِالْفَنَاءِ، وَمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ
حَبْرَةً إِلَّا امْتَلَأَتْ عَبْرَةً، وَلَا اجْتَمَعُوا إِلَّا
تَفَرَّقُوا، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَرِثُ الْأَرْضَ
وَمَنْ عَلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى
نَفْسِهِ، فَإِنَّ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ
(12/703)
صَاحِبُكُمْ، كُلُّكُمْ يَصِيرُ إِلَيْهِ
غَدًا.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِلَى
الْقُبُورِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا أَيُّوبَ، هَذِهِ قُبُورُ آبَائِي
بَنِي أُمَيَّةَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي
لَذَّتِهِمْ وَعَيْشِهِمْ، أَمَا تَرَاهُمْ صَرْعَى قَدْ خَلَتْ
فِيهِمُ الْمَثُلَاتُ، وَاسْتَحْكَمَ فِيهِمُ الْبَلَاءُ؟ ثُمَّ بَكَى
حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِنَا
فَوَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى هَذِهِ
الْقُبُورِ، وَقَدْ أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
جِنَازَةٍ، فَلَمَّا دُفِنَتْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا حَتَّى
آتِيَ قُبُورَ الْأَحِبَّةِ. فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَدْعُو،
إِذْ هَتَفَ بِهِ التُّرَابُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَلَا تَسْأَلُنِي
مَا فَعَلْتُ فِي الْأَحِبَّةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فَعَلْتَ بِهِمْ؟
قَالَ: مَزَّقْتُ الْأَكْفَانَ، وَأَكَلْتُ اللُّحُومَ، وَشَدَخْتُ
الْمُقْلَتَيْنِ، وَأَكَلْتُ الْحَدَقَتَيْنِ، وَنَزَعْتُ الْكَفَّيْنِ
مِنَ السَّاعِدَيْنِ، وَالسَّاعِدَيْنِ مِنَ الْعَضُدَيْنِ،
وَالْعَضُدَيْنِ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالْمَنْكِبَيْنِ مِنَ
الصُّلْبِ، وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ السَّاقَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ مِنَ
الْفَخْذَيْنِ، وَالْفَخْذَيْنِ مِنَ الْوِرْكِ، وَالْوِرْكَ مِنَ
الصُّلْبِ وَعُمَرُ يَبْكِي. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ
لَهُ: يَا عُمَرُ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَكْفَانٍ لَا تَبْلَى؟
قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَقَالَ مَرَّةً لِرَجُلٍ مِنْ جُلَسَائِهِ: لَقَدْ أَرِقْتُ
اللَّيْلَةَ مُفَكِّرًا. قَالَ: وَفِيمَ يَا أَمِيرَ
(12/704)
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: فِي الْقَبْرِ
وَسَاكِنِهِ، إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ الْمَيِّتَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فِي
قَبْرِهِ لَاسْتَوْحَشْتَ مِنْ قُرْبِهِ بَعْدَ طُولِ الْأُنْسِ مِنْكَ
بِنَاحِيَتِهِ، وَلَرَأَيْتَ بَيْتًا تَجُولُ فِيهِ الْهَوَامُّ،
وَيَجْرِي فِيهِ الصَّدِيدُ، وَتَخْتَرِقُهُ الدِّيدَانُ، مَعَ
تَغَيُّرِ الرِّيحِ، وَبِلَى الْأَكْفَانِ بَعْدَ حُسْنِ الْهَيْئَةِ،
وَطِيبِ الرِّيحِ، وَنَقَاءِ الثَّوْبِ. قَالَ: ثُمَّ شَهِقَ شَهْقَةً
خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَرَأَ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}
[الصافات: 24] فَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا وَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُجَاوِزَهَا. وَقَالَتِ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا
أَكْثَرَ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْهُ، وَلَا أَحَدًا أَشَدَّ فَرَقًا
مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ، كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يَجْلِسُ
يَبْكِي حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ، ثُمَّ يَنْتَبِهُ فَلَا يَزَالُ
يَبْكِي حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ. قَالَتْ: وَلَقَدْ كَانَ يَكُونُ
مَعِي فِي الْفِرَاشِ فَيَذْكُرُ الشَّيْءَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ;
فَيَنْتَفِضُ كَمَا يَنْتَفِضُ الْعُصْفُورُ فِي الْمَاءِ، وَيَجْلِسُ
يَبْكِي، فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ اللِّحَافَ رَحْمَةً لَهُ، وَأَنَا
أَقُولُ: يَا لَيْتَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخِلَافَةِ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سُرُورًا مُنْذُ دَخَلْنَا
فِيهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ كَأَنَّ
النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُمَا مِثْلَ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ يَبْكِي
حَتَّى بَكَى دَمًا. قَالُوا: وَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ
قَرَأَ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] الْآيَةَ.
(12/705)
وَيَقْرَأُ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:
97] وَنَحْوَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةٍ
إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَذْكُرُونَ إِلَّا
الْمَوْتَ وَالْآخِرَةَ، ثُمَّ يَبْكُونَ حَتَّى كَأَنَّ بَيْنَهُمْ
جِنَازَةً.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ كَانَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ
الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ
زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
بِأَيِّمَا بَلَدٍ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ ... إِنْ لَا يَسِرْ طَائِعًا
فِي قَصْدِهَا يُسَقِ
وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ فِي جِنَازَةٍ، إِلَى
قَوْمٍ قَدْ تَلَثَّمُوا مِنَ الْغُبَارِ وَالشَّمْسِ، وَانْحَازُوا
إِلَى الظِّلِّ، فَبَكَى وَأَنْشَدَ:
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوِ الْغُبَارُ
يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ
يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثًا
فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ ... يُطِيلُ فِي قَعْرِهَا
تَحْتَ الثَّرَى لُبْثَا
تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى
لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ الْغَلَّابِيُّ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يَجِفُّ فُوهُ
(12/706)
مِنْ هَذَا الْبَيْتِ:
وَلَا خَيْرَ فِي عَيْشِ امْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ... مِنَ اللَّهِ
فِي دَارِ الْقَرَارِ نَصِيبُ
وَزَادَ غَيْرُهُ مَعَهُ بَيْتًا حَسَنًا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا أُنَاسًا فَإِنَّهَا ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ
وَالزَّوَالُ قَرِيبُ
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
أَنَا مَيْتٌ وَعَزَّ مَنْ لَا يَمُوتُ ... قَدْ تَيَقَّنْتُ أَنَّنِي
سَأَمُوتُ
لَيْسَ مُلْكٌ يُزِيلُهُ الْمَوْتُ مُلْكًا ... إِنَّمَا الْمُلْكُ
مُلْكُ مَنْ لَا يَمُوتُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ يَقُولُ:
تُسَرُّ بِمَا يَبْلَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ... كَمَا اغْتَرَّ
بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ
وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
وَسَعْيكُ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا
تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
يَلُومُ نَفْسَهُ وَيُعَاتِبُهَا:
أَيَقِظَانُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ ... وَكَيْفَ
يُطِيقُ النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ
فَلَوْ كَنْتَ يَقْظَانَ الْغَدَاةَ لَحَرَّقَتْ ... مَدَامِعَ
عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ
وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
بَلَ اصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ ... إِلَيْكَ
أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائِمُ
وَشُغْلُكَ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي
الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
(12/707)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ
عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَتْ: انْتَبَهَ عُمَرُ
ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا مُعْجِبَةً.
فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا. فَقَالَ: حَتَّى نُصْبِحَ. فَلَمَّا
صَلَّى الصُّبْحَ بِالْمُسْلِمِينَ دَخَلَ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا،
فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي دُفِعْتُ إِلَى أَرْضٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ
كَأَنَّهَا بِسَاطٌ أَخْضَرُ، وَإِذَا فِيهَا قَصْرٌ كَأَنَّهُ
الْفِضَّةُ، فَخَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ فَنَادَى: أَيْنَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ؟ أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ إِذْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ ذَلِكَ الْقَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ
فَنَادَى: أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ،
ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؟
فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عُثْمَانُ
بْنُ عَفَّانَ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى:
أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ
آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ فَقُمْتُ -
فَدَخَلْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى جَانِبِ أَبِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَهُوَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقُلْتُ
لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ
سَمِعْتُ هَاتِفًا يَهْتِفُ، بَيْنِي وَبَيْنَهُ نُورٌ لَا أَرَاهُ،
وَهُوَ يَقُولُ:
(12/708)
يَا عُمَرُ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
تَمَسَّكْ بِمَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَاثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ
عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ كَأَنَّهُ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ
فَخَرَجْتُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَهُوَ
خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ، وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
نَصَرَنِي رَبِّي، وَإِذَا عَلِيٌّ فِي إِثْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي غَفَرَ لِي رَبِّي.
[إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ
مِائَةٍ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا]
فَصْلٌ (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ
كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا)
وَهُوَ ذِكْرُنَا فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " الْحَدِيثَ الَّذِي
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ
الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا
أَمْرَ دِينِهَا» . فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَغَيْرُهُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ عَلَى رَأْسِ
الْمِائَةِ الْأُولَى. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ
جَدَّدَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ الدِّينِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ
الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَوْلَى مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ
وَأَحَقَّ ; لِإِمَامَتِهِ، وَعُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَاجْتِهَادِهِ
وَقِيَامِهِ فِي تَنْفِيذِ الْحَقِّ، فَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ
شَبِيهَةً بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَانَ كَثِيرًا مَا
يَتَشَبَّهُ بِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ سِيرَةَ الْعُمَرَيْنِ ; عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ أَفْرَدْنَا سِيرَةَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُجَلَّدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَمُسْنَدَهُ فِي
مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ، وَأَمَّا سِيرَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(12/709)
فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا
هُنَا، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْطِي مَنِ انْقَطَعَ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، مِنْ بَلَدِهِ وَغَيْرِهَا، لِلْفِقْهِ
وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ
أَنْ يَأْخُذُوا النَّاسَ بِالسُّنَّةِ، وَيَقُولَ: إِنْ لَمْ
تُصْلِحْهُمُ السُّنَّةُ فَلَا أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ. وَكَتَبَ إِلَى
سَائِرِ الْبِلَادِ أَنْ لَا يَرْكَبَ ذِمِّيٌّ مِنَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ عَلَى سَرْجٍ، وَلَا يَلْبَسُ قَبَاءً
وَلَا طَيْلَسَانًا وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا يَمْشِيَنَّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ إِلَّا بِزُنَّارٍ مِنْ جِلْدٍ، وَهُوَ مَقْرُونُ
النَّاصِيَةِ، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ فِي مَنْزِلِهِ سِلَاحٌ أُخِذَ
مِنْهُ، وَكَتَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَعْمَالِ
إِلَّا أَهْلُ الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ
فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ خَيْرٌ. وَكَانَ
يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ: اجْتَنِبُوا الْأَشْغَالَ عِنْدَ حُضُورِ
الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ مَنْ أَضَاعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ
شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَشَدُّ تَضْيِيعًا. وَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ
الْمَوْعِظَةَ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عُمَّالِهِ فَيَنْخَلِعُ بِهَا
قَلْبُهُ، وَرُبَّمَا عَزَلَ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ عَنِ الْعِمَالَةِ
مِنْ شِدَّةِ مَا تَقَعُ مَوْعِظَتُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَوْعِظَةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قَلْبِ الْوَاعِظِ دَخَلَتْ قَلْبَ
الْمَوْعُوظِ. وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ كُلَّ
مَنِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثِقَةٌ، وَقَدْ
كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِمَوَاعِظَ حِسَانٍ وَلَوْ
تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ لَطَالَ هَذَا الْفَصْلُ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرْنَا
مَا فِيهِ إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ
(12/710)
عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي
أُذَكِّرُكَ لَيْلَةً تَمَخَّضُ بِالسَّاعَةِ فَصَبَاحُهَا
الْقِيَامَةُ، فَيَا لَهَا مِنْ لَيْلَةٍ وَيَا لَهُ مِنْ صَبَاحٍ،
وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا. وَكَتَبَ إِلَى آخَرَ:
أُذَكِّرُكَ طُولَ سَهَرِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ مَعَ خُلُودِ
الْأَبَدِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يُنْصَرَفَ بِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَيَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ، وَانْقِطَاعَ الرَّجَاءِ مِنْكَ.
قَالُوا: فَخَلَعَ هَذَا الْعَامِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْعِمَالَةِ،
وَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: خَلَعْتَ
قَلْبِي بِكِتَابِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَا
أَعُودُ إِلَى وِلَايَةٍ أَبَدًا.
[رَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِلْمَظَالِمِ]
فَصْلٌ (رَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِلْمَظَالِمِ)
وَقَدْ رَدَّ جَمِيعَ الْمَظَالِمِ كَمَا قَدَّمْنَا، حَتَّى إِنَّهُ
رَدَّ فَصَّ خَاتَمٍ كَانَ فِي يَدِهِ ; قَالَ: أَعْطَانِيهِ
الْوَلِيدُ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ. وَخَرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ
فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَأْكَلِ وَالْمَتَاعِ،
حَتَّى إِنَّهُ تَرَكَ التَّمَتُّعَ بِزَوْجَتِهِ الْحَسْنَاءِ،
فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، يُقَالُ: كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ
النِّسَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَدَّ جَهَازَهَا وَمَا كَانَ مِنْ
أَمْوَالِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ
دَخْلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ
أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ حَتَّى لَمْ
يَبْقَ لَهُ دَخْلٌ سِوَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ،
وَكَانَ حَاصِلُهُ فِي خِلَافَتِهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ
لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
أَجَلَّهُمْ، فَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ، حَتَّى
يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِيهِ. فَلَمَّا مَاتَ لَمْ
يَظْهَرْ عَلَيْهِ حُزْنٌ،
(12/711)
وَقَالَ: أَمْرٌ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا
أَكْرَهُهُ. وَكَانَ قَبْلَ الْخِلَافَةِ يُؤْتَى بِالْقَمِيصِ
الرَّفِيعِ اللَّيِّنِ جِدًّا، فَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا
خُشُونَةٌ فِيهِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
يَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْغَلِيظَ الْمَرْقُوعَ وَلَا يَغْسِلُهُ حَتَّى
يَتَّسِخَ جِدًّا، وَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا لِينُهُ. وَكَانَ
يَلْبَسُ الْفَرْوَةَ الْغَلِيظَةَ، وَكَانَ سِرَاجُهُ عَلَى ثَلَاثِ
قَصَبَاتٍ فِي رَأْسِهِنَّ طِينٌ، وَلَمْ يَبْنِ شَيْئًا فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ. وَكَانَ يَخْدِمُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: مَا
تَرَكْتُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا عَوَّضَنِي اللَّهُ مَا هُوَ
خَيْرٌ مِنْهُ. وَكَانَ يَأْكُلُ الْغَلِيظَ مِنَ الطَّعَامِ أَيْضًا،
وَلَا يُبَالِي بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا يُتْبِعُهُ نَفْسَهُ
وَلَا يَوَدُّهُ، حَتَّى قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ:
كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَزْهَدَ مِنْ أُوَيْسٍ
الْقَرْنِيِّ ; لِأَنَّ عُمَرَ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا
وَزَهِدَ فِيهَا، وَلَا نَدْرِي حَالَ أُوَيْسٍ لَوْ مَلَكَ مَا
مَلَكَهُ عُمَرُ كَيْفَ يَكُونُ؟ لَيْسَ مَنْ جَرَّبَ كَمَنْ لَمْ
يُجَرِّبْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ النَّاسُ
يَقُولُونَ: مَالِكٌ زَاهِدٌ. إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ; أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا فَرَدَّهَا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: لَمْ يَكُنْ عُمَرُ يَرْتَزِقُ
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَمَرَ جَارِيَةً
تُرَوِّحُهُ حَتَّى يَنَامَ فَرَوَّحَتْهُ، فَنَامَتْ هِيَ، فَأَخَذَ
الْمِرْوَحَةَ مِنْ يَدِهَا وَجَعَلَ يُرَوِّحُهَا، وَيَقُولُ:
أَصَابَكِ مِنَ الْحَرِّ مَا أَصَابَنِي. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَزَاكَ
اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا. فَقَالَ: بَلْ جَزَى اللَّهُ
الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ
تَحْتَ ثِيَابِهِ مِسْحًا غَلِيظًا مِنْ شَعْرٍ، وَيَضَعُ فِي
رَقَبَتِهِ غُلًّا إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِذَا
أَصْبَحَ وَضَعَهُ فِي مَكَانٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ
أَحَدٌ وَكَانُوا يَظُنُّونَهُ مَالًا أَوْ جَوْهَرًا مِنْ حِرْصِهِ
عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ فَإِذَا فِيهِ
غُلٌّ وَمَسْحٌ.
(12/712)
وَكَانَ يَبْكِي حَتَّى بَكَى الدَّمَ مِنَ
الدُّمُوعِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ بَكَى فَوْقَ سَطْحٍ حَتَّى سَالَ
دَمْعُهُ مِنَ الْمِيزَابِ. وَكَانَ يَأْكُلُ مِنَ الْعَدَسِ لِيَرِقَّ
قَلْبُهُ وَتَغْزُرُ دَمْعَتُهُ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ
اضْطَرَبَتْ أَوْصَالُهُ، وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَهُ {وَإِذَا أُلْقُوا
مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان: 13] الْآيَةَ.
فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَفَرَّقَ
النَّاسُ عَنْهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ
سَلِّمْ. وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ مَنْ كَانَ فِي
صَلَاحِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِ صَلَاحُ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: أَفْضَلُ
الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ.
وَقَالَ: لَوْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا
يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى يَحْكُمَ أَمْرَ نَفْسِهِ لَذَهَبَ
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَقَلَّ
الْوَاعِظُونَ وَالسَّاعُونَ لِلَّهِ بِالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ:
الدُّنْيَا عَدُوَّةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ، أَمَّا
الْأَوْلِيَاءُ فَغَمَّتْهُمْ، وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَغَرَّتْهُمْ.
وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْمِرَاءِ وَالْغَضَبِ
وَالطَّمَعِ. وَقَالَ لِرَجُلٍ: مَنْ سَيِّدُ قَوْمِكَ؟ قَالَ: أَنَا.
قَالَ: لَوْ كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تَقُلْهُ. وَقَالَ: أَزْهَدُ
النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: لَقَدْ
بُورِكَ لِعَبْدٍ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرَ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ،
أُعْطِيَ أَوْ مُنِعَ. وَقَالَ: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ.
وَقَالَ لِرَجُلٍ: عَلِّمْ وَلَدَكَ الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ:
الْقَنَاعَةَ وَكَفَّ الْأَذَى. وَتَكَلَّمَ رَجُلٌ عِنْدَهُ
فَأَحْسَنَ، فَقَالَ: هَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَّالُ. وَقِصَّتُهُ
مَعَ
(12/713)
أَبِي حَازِمٍ مُطَوَّلَةٌ حِينَ رَآهُ
خَلِيفَةً وَقَدْ شَحَبَ وَجْهُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَتَغَيَّرَ
حَالُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكُنْ ثَوْبُكَ نَقِيًّا؟ وَوَجْهُكَ
وَضِيًّا؟ وَطَعَامُكَ شَهِيًّا؟ وَمَرْكَبُكَ وَطِيًّا؟ فَقَالَ لَهُ:
أَلَمْ تُخْبِرْنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ
عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَجُوزُهَا إِلَّا كُلُّ ضَامِرٍ مَهْزُولٍ» ؟
ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَذَكَرَ أَنَّهُ
رَأَى فِي غَشْيَتِهِ تِلْكَ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، وَقَدِ
اسْتُدْعِيَ بِكُلٍّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَأُمِرَ بِهِمْ
إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ ذُكِرَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَمْ
يَدْرِ مَا صُنِعَ بِهِمْ، ثُمَّ دُعِيَ هُوَ فَأُمِرَ بِهِ إِلَى
الْجَنَّةِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ لَقِيَهُ سَائِلٌ فَسَأَلَهُ عَمَّا
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلسَّائِلِ: فَمَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، قَتَلَنِي رَبِّي
بِكُلِّ قَتْلَةٍ قَتْلَةً، ثُمَّ هَا أَنَا أَنْتَظِرُ مَا
يَنْتَظِرُهُ الْمُوَحِّدُونَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
[سَبَبُ وَفَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ]
ذِكْرُ سَبَبِ وَفَاتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ سَبَبُهَا السُّلَّ، وَقِيلَ: سَبَبُهَا أَنَّ مَوْلًى لَهُ
سَمَّهُ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ أَلْفَ
دِينَارٍ. فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ
مَسْمُومٌ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ يَوْمَ سُقِيتُ السُّمَّ. ثُمَّ
اسْتَدْعَى مَوْلَاهُ الَّذِي سَقَاهُ، فَقَالَ لَهُ:
(12/714)
وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا
صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ أُعْطِيتُهَا. فَقَالَ: هَاتِهَا.
فَأَحْضَرَهَا فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ:
اذْهَبْ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَتَهْلَكَ.
ثُمَّ قِيلَ لِعُمَرَ: تَدَارَكْ نَفْسَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ
أَنَّ شِفَائِي أَنْ أَمْسَحَ شَحْمَةَ أُذُنِي، أَوْ أُوتَى بِطِيبٍ
فَأَشُمَّهُ مَا فَعَلْتُ. فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ بَنُوكَ وَكَانُوا
اثْنَيْ عَشَرَ أَلَا تُوصِي لَهُمْ بِشَيْءٍ ; فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ؟
فَقَالَ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ
حَقَّ أَحَدٍ، وَهُمْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا صَالِحٌ فَاللَّهُ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ فَمَا كُنْتُ
لِأُعِينَهُ عَلَى فِسْقِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا أُبَالِي فِي أَيِّ
وَادٍ هَلَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَأَدَعُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ
عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَكُونَ شَرِيكَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بَعْدَ
الْمَوْتِ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِأَوْلَادِهِ
فَوَدَّعَهُمْ وَعَزَّاهُمْ بِهَذَا، وَأَوْصَاهُمْ بِهَذَا
الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ: انْصَرِفُوا عَصَمَكُمُ اللَّهُ، وَأَحْسَنَ
الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ أَوْلَادِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْمِلُ عَلَى ثَمَانِينَ فَرَسًا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ مَعَ كَثْرَةِ مَا تَرَكَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ
يَتَعَاطَى وَيَسْأَلُ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
لِأَنَّ عُمَرَ وَكَلَ وَلَدَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَسُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَكِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَى مَا
يَدَعُونَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْفَانِيَةِ، فَيَضِيعُونَ
وَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِمْ.
(12/715)
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا
أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ،
قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ فَإِنْ قَضَى اللَّهُ
مَوْتًا دُفِنْتَ فِي الْقَبْرِ الرَّابِعِ مَعَ رَسُولِ صَلَّى الْهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَأَنْ يُعَذِّبَنَا اللَّهُ بِكُلِّ عَذَابٍ، إِلَّا النَّارَ
فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِي أَنِّي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَهْلٌ.
قَالُوا: وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ قُرَى حِمْصَ
وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرَضِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا.
وَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ:
إِلَهِي، أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْتُ، وَنَهَيْتَنِي
فَعَصَيْتُ ثَلَاثًا وَلَكِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ فَأَحَدَّ النَّظَرَ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا
شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى
حَضَرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ. ثُمَّ قُبِضَ مِنْ
سَاعَتِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: اخْرُجُوا
عَنِّي. فَخَرَجُوا وَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَأُخْتُهُ فَاطِمَةُ، فَسَمِعُوهُ يَقُولُ: مَرْحَبًا
بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوُجُوهِ إِنْسٍ وَلَا جَانٍّ،
ثُمَّ قَرَأَ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ثُمَّ هَدَأَ الصَّوْتُ، فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غُمِّضَ، وَسُوِّيَ إِلَى الْقِبْلَةِ،
وَقُبِضَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ،
(12/716)
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي
سَلَمَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُضِعَ عِنْدَ
قَبْرِهِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَسَقَطَتْ صَحِيفَةٌ بِأَحْسَنِ
كِتَابٍ فَقَرَءُوهَا فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
مِنَ النَّارِ. فَأَدْخَلُوهَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ، وَدَفَنُوهَا
مَعَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بِسَنَدِهِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْحُبَابِ السُّلَمِيِّ،
قَالَ: أُسِرْتُ أَنَا وَثَمَانِيَةٌ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ،
فَأَمَرَ مَلِكُ الرُّومِ بِضَرْبِ رِقَابِنَا، فَقُتِلَ أَصْحَابِي،
وَشَفَعَ فِيَّ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الْمَلِكِ، فَأَطْلَقَنِي
لَهُ، فَأَخَذَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَإِذَا لَهُ ابْنَةٌ مِثْلُ
الشَّمْسِ، فَعَرَضَهَا عَلَيَّ، وَعَلَى أَنْ يُقَاسِمَنِي
نِعْمَتَهُ، وَأَدْخُلَ مَعَهُ فِي دِينِهِ، فَأَبَيْتُ، وَخَلَتْ بِي
ابْنَتُهُ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيَّ فَامْتَنَعْتُ، فَقَالَتْ: مَا
يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: يَمْنَعُنِي دِينِي، فَلَا أَتْرُكُ
دِينِي لِامْرَأَةٍ وَلَا لِشَيْءٍ. فَقَالَتْ: تُرِيدُ الذَّهَابَ
إِلَى بِلَادِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: سِرْ عَلَى هَذَا
النَّجْمِ بِاللَّيْلِ، وَاكْمُنْ بِالنَّهَارِ ; فَإِنَّهُ يُلْقِيكَ
إِلَى بِلَادِكَ. قَالَ: فَسِرْتُ كَذَلِكَ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا
فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مُكْمِنٌ، وَإِذَا بِخَيْلٍ مُقْبِلَةٍ
فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ فِي طَلَبِي ; فَإِذَا أَنَا بِأَصْحَابِي
الَّذِينَ قُتِلُوا، وَمَعَهُمْ آخَرُونَ عَلَى دَوَابَّ شُهْبٍ،
فَقَالُوا: عُمَيْرٌ؟ فَقُلْتُ: عُمَيْرٌ، فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ قَدْ
قُتِلْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، نَشَرَ
الشُّهَدَاءَ، وَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا جِنَازَةَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: نَاوِلْنِي
يَدَكَ يَا عُمَيْرُ، فَأَرْدَفَنِي، فَسِرْنَا يَسِيرًا، ثُمَّ قَذَفَ
بِي قَذْفَةً وَقَعْتُ قُرْبَ مَنْزِلِي بِالْجَزِيرَةِ، مِنْ غَيْرِ
(12/717)
أَنْ يَكُونَ لَحِقَنِي شَرٌّ.
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَدْ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ أُغَسِّلَهُ وَأُكَفِّنَهُ، وَأَدْفِنَهُ
فَإِذَا حَلَلْتُ عُقْدَةَ الْكَفَنِ، أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجْهِهِ،
قَالَ: فَلَمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ إِذَا وَجْهُهُ كَالْقَرَاطِيسِ
بَيَاضًا، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ دَفَنَ ثَلَاثَةً مِنَ
الْخُلَفَاءِ فَيَحُلُّ عَنْ وُجُوهِهِمْ فَإِذَا هِيَ مُسْوَدَّةٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ قَالَ:
بَيْنَمَا نَحْنُ نُسَوِّي التُّرَابَ عَلَى قَبْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِذْ سَقَطَ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ. سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَصْرِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ
فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
رُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ
وَالْعَامَّةُ، لَا سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ
وَالْعُبَّادُ. وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ ; فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ
أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ يَرْثِي عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
عَمَّتْ صَنَائِعُهُ فَعَمَّ هَلَاكُهُ ... فَالنَّاسُ فِيهِ كُلُّهُمْ
مَأْجُورُ
وَالنَّاسُ مَأْتَمُهُمْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ ... فِي كُلِّ دَارٍ رَنَّةٌ
وَزَفِيرُ
يُثْنِي عَلَيْكَ لِسَانُ مَنْ لَمْ تُولِهِ ... خَيْرًا لِأَنَّكَ
بِالثَّنَاءِ جَدِيرُ
رَدَّتْ صَنَائِعُهُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ ... فَكَأَنَّهُ مِنْ
نَشْرِهَا مَنْشُورُ
(12/718)
وَقَالَ جَرِيرٌ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
يَنْعَى النُّعَاةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا ... يَا خَيْرَ مَنْ
حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ وَاعْتَمَرَا
حَمَلْتَ أَمْرًا عَظِيمًا فَاضْطَلَعْتَ بِهِ ... وَقُمْتَ فِيهِ
بِأَمْرِ اللَّهِ يَا عُمْرَا
الشَّمْسُ كَاسِفَةٌ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ
نُجُومُ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
وَقَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
لَوْ أَعْظَمَ الْمَوْتُ خَلْقًا أَنْ يُوَاقِعَهُ ... لِعَدْلِهِ لَمْ
يُصِبْكَ الْمَوْتُ يَا عُمَرُ
كَمْ مِنْ شَرِيعَةِ عَدْلٍ قَدْ نَعَشْتَ لَهُمْ ... كَادَتْ تَمُوتُ
وَأُخْرَى مِنْكَ تُنْتَظَرُ
يَا لَهَفَ نَفْسِي وَلَهَفَ الْوَاجِدِينَ مَعِي ... عَلَى الْعُدُولِ
الَّتِي تَغْتَالُهَا الْحَفْرُ
ثَلَاثَةٌ مَا رَأَتْ عَيْنِي لَهُمْ شَبَهًا ... تَضُمُّ أَعْظُمَهُمْ
فِي الْمَسْجِدِ الْحُفَرُ
وَأَنْتَ تَتْبَعُهُمْ لَمْ تَأْلُ مُجْتَهِدًا ... سُقْيًا لَهَا
سُنَنٌ بِالْحَقِّ تَفْتَقِرُ
لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... تَأْتِي رَوَاحًا
وَتِبْيَانًا وَتَبْتَكِرُ
صَرَفْتُ عَنْ عُمَرَ الْخَيْرَاتِ مَصْرَعَهُ ... بِدَيْرِ سَمْعَانَ
لَكِنْ يَغْلِبُ الْقَدْرُ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ:
(12/719)
الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ. وَقِيلَ:
بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ. وَقِيلَ: لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ
إِحْدَى - وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ - وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَمِائَةٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ مَسْلَمَةُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَقِيلَ: ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ
سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ
بِأَشْهُرٍ. وَقِيلَ: بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بِأَكْثَرَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
عَاشَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: سِتًّا وَثَلَاثِينَ.
وَقِيلَ: سَبْعًا وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ
يَبْلُغْهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: مَاتَ عُمَرُ
عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ:
وَهَذَا وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، يَعْنِي تِسْعًا
وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ
وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: وَأَرْبَعَةَ
عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سَنَتَانِ وَنِصْفٌ.
وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَسْمَرَ دَقِيقَ الْوَجْهِ حَسَنَهُ،
نَحِيفَ الْجِسْمِ حَسَنَ اللِّحْيَةِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ،
بِجَبْهَتِهِ أَثَرُ شَجَّةٍ، وَكَانَ قَدْ شَابَ وَخَضَّبَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(12/720)
|