البداية والنهاية، ط. دار هجر
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا اسْتَوْزَرَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الضَّبِّيَّ
الْمُلَقَّبَ بِالْكَافِي، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ الصَّاحِبِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ، وَكَانَ مِنْ مَشَاهِيرِ الْوُزَرَاءِ.
وَفِيهَا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ
الْجَبَّارِ وَصَادَرَهُ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
مَا بِيعَ لَهُ فِي الْمُصَادَرَةِ أَلْفُ طَيْلَسَانٍ وَأَلْفُ ثَوْبٍ
مَغْرِبِيٍّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا
بَعْدَهَا الْمِصْرِيُّونَ، وَالْخُطْبَةُ فِي الْحَرَمَيْنِ لَهُمْ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ
عَبَّاسِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ أَحْمَدَ
(15/453)
ابْنِ إِدْرِيسَ الطَّالَقَانِيُّ، أَبُو
الْقَاسِمِ
الْوَزِيرُ الشَّهِيرُ الْمُلَقَّبُ بِكَافِي الْكُفَاةِ، وَزَرَ
لِمُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ،
وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْبَرَاعَةِ
وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعُلَمَاءِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ،
كَانَ يَبْعَثُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةِ آلَافِ
دِينَارٍ ; لِتُفَرَّقَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ الْيَدُ
الطُّولَى فِي الْأَدَبِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ،
وَاقْتَنَى كُتُبًا كَثِيرَةً كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ
بَعِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُزَرَاءَ بَنِي بُوَيْهِ الدَّيَالِمَةِ
مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ فِي مَجْمُوعِ فَضَائِلِهِ، وَقَدْ
كَانَتْ دَوْلَةُ بَنِي بُوَيْهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً،
وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً وَأَشْهُرًا،
وَفَتَحَ خَمْسِينَ قَلْعَةً لِمَخْدُومِهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ،
وَابْنِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، لِصَرَامَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَحُسْنِ
تَدْبِيرِهِ وَجَوْدَةِ آرَائِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلُومَ
الشَّرْعِيَّةَ، وَيُبْغِضُ الْفَلْسَفَةَ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنَ
الْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ، وَقَدْ مَرِضَ مَرَّةً بِالْإِسْهَالِ،
فَكَانَ كُلَّمَا قَامَ عَنِ الْمِطْهَرَةِ وَضَعَ عِنْدَهَا عَشَرَةَ
دَنَانِيرَ لِئَلَّا يَتَبَرَّمَ بِهِ الْفَرَّاشُونَ، فَكَانُوا
يَوَدُّونَ أَنْ لَوْ طَالَتْ عِلَّتُهُ، وَلَمَّا عُوفِيَ أَنْهَبَ
دَارَهُ الْفُقَرَاءَ، وَكَانَ قِيمَةُ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ نَحْوًا
مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ
الْمَشَايِخِ الْجِيَادِ عَوَالِي الْإِسْنَادِ، وَعُقِدَ لَهُ فِي
وَقْتٍ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ، فَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِحُضُورِهِ،
فَلَمَّا خَرَجَ لَبِسَ زِيَّ الْفُقَهَاءِ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ
بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا يُعَانِيهِ مِنْ أُمُورِ
السُّلْطَانِ، وَذَكَرَ
(15/454)
لِلنَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ
مِنْ حِينِ نَشَأَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا مِنْ أَمْوَالِ أَبِيهِ
وَجَدِّهِ، وَلَكِنْ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ، وَهُوَ تَائِبٌ مِمَّا
مَارَسَهُ مِنْ شُئُونِهِ، وَاتَّخَذَ بَيْتًا فِي دَارِهِ سَمَّاهُ
بَيْتَ التَّوْبَةِ، وَوَضَعَ الْعُلَمَاءُ خُطُوطَهُمْ بِصِحَّةِ
تَوْبَتِهِ، وَحِينَ حَدَّثَ اسْتَمْلَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ
مَجْلِسِهِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَكْتُبُ ذَلِكَ الْيَوْمَ
مِنَ الطَّلَبَةِ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ الْهَمَذَانِيُّ،
وَمَنْ شَابَهَهُ مِنْ رُءُوسِ الْفُضَلَاءِ وَسَادَاتِ
الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي قَزْوِينَ بِهَدِيَّةٍ ; كُتُبٍ
كَثِيرَةٍ، وَكَتَبَ مَعَهَا:
الْعُمَيْرِيُّ عَبْدُ كَافِي الْكُفَاةِ ... وَإِنِ اعْتَلَّ فِي
وُجُوهِ الْقُضَاةِ
خَدَمَ الْمَجْلِسَ الرَّفِيعَ بَكُتْبٍ ... مُفْعَمَاتٍ مِنْ
حُسْنِهَا مُتْرَعَاتِ
فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ أَخَذَ مِنْهَا كِتَابًا وَاحِدًا، وَرَدَّ
بَاقِيَهَا، وَكَتَبَ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ:
قَدْ قَبِلْنَا مِنَ الْجَمِيعِ كِتَابًا ... وَرَدَدْنَا لِوَقْتِهَا
الْبَاقِيَاتِ
لَسْتُ أَسْتَغْنِمُ الْكَثِيرَ وَطَبْعِي ... قَوْلُ خُذْ لَيْسَ
مَذْهَبِي قَوْلَ هَاتِ
وَجَلَسَ الْوَزِيُرُ ابْنُ عَبَّادٍ مَرَّةً فِي مَجْلِسِ شَرَابٍ،
فَنَاوَلَهُ السَّاقِي كَأْسًا، فَلَمَّا أَرَادَ شُرْبَهَا، قَالَ
لَهُ بَعْضُ خُدَّامِهِ: يَا سَيِّدِي، إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ
مَسْمُومٌ،
(15/455)
قَالَ: وَمَا الشَّاهِدُ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِكَ؟ قَالَ: تُجَرِّبُهُ، قَالَ: فِيمَنْ؟ قَالَ: فِي السَّاقِي،
قَالَ: وَيْحَكَ، لَا أَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، قَالَ: فَفِي دَجَاجَةٍ،
قَالَ: إِنَّ التَّمْثِيلَ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ أَمَرَ
بِصَبِّ مَا فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ، وَقَالَ لِلسَّاقِي: لَا تَدْخُلْ
دَارِي بَعْدَ هَذَا، وَلَمْ يَقْطَعْ عَنْهُ مَعْلُومَهُ.
وَقَدْ عَمِلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ ذِي
الْكِفَايَتَيْنِ حَتَّى عَزَلَهُ عَنْ وِزَارَةِ مُؤَيِّدِ
الدَّوْلَةِ، وَبَاشَرَهَا عِوَضَهُ، وَاسْتَمَرَّ مُدَّةً،
فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ قَدِ اجْتَمَعَ
عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ وَنُدَمَاؤُهُ وَهُوَ فِي أَتَمِّ سُرُورٍ، قَدْ
هُيِّئَ لَهُ مَجْلِسٌ حَافِلٌ بِأَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ، مِنَ
الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالتُّحَفِ، وَقَدْ نَظَّمَ
أَبْيَاتًا، وَالْمُغَنُّونَ يُلَحِّنُونَهَا لَهُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ
الطَّرَبِ وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَهِيَ هَذِهِ:
دَعَوْتُ الْهَنَا وَدَعَوْتُ الْعُلَا ... فَلَمَّا أَجَابَا دَعَوْتُ
الْقَدَحْ
وَقُلْتُ لِأَيَّامِ شَرْخِ الشَّبَابِ ... إِلَيَّ فَهَذَا أَوَانُ
الْفَرَحْ
إِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ آمَالَهُ ... فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهَا
مُنْتَزَحْ
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: بَاكِرُونِي غَدًا إِلَى الصَّبُوحِ،
وَنَهَضَ إِلَى بَيْتِ مَنَامِهِ، فَمَا أَصْبَحَ حَتَّى قَبَضَ
عَلَيْهِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي دَارِهِ
مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَجَعَلَهُ مُثْلَةً فِي
الْعِبَادِ، وَأَعَادَ إِلَى وِزَارَتِهِ الصَّاحِبَ بْنَ عَبَّادٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، أَنَّ الصَّاحِبَ بْنَ عَبَّادٍ
حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَاءَهُ
(15/456)
الْمَلِكُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ
مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ يَعُودُهُ لِيُوصِيَهُ فِي أُمُورِهِ، فَقَالَ
لَهُ: إِنِّي مُوصِيكَ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي الْأُمُورِ عَلَى مَا
تَرَكْتُهَا عَلَيْهِ، وَلَا تَغَيِّرْهَا، فَإِنَّكَ إِنِ
اسْتَمْرَرْتَ بِهَا نُسِبَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَى
آخِرِهِ، وَإِنْ غَيَّرْتَهَا وَسَلَكْتَ غَيْرَهَا نُسِبَتْ هِيَ
وَالْخَيْرُ الْمُتَقَدِّمُ إِلَيَّ لَا إِلَيْكَ، وَأَنَا أُحِبُّ
أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الْخَيْرِ إِلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَنَا
الْمُشِيرُ بِهَا عَلَيْكَ. فَأَعْجَبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ
عَلَى مَا أَوْصَاهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
عَشِيَّةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ مِنَ
الْوُزَرَاءِ بِالصَّاحِبِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدَهُ فِيهِمْ
وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ صُحْبَتِهِ الْوَزِيرَ أَبَا
الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: صَاحِبُ ابْنِ
الْعَمِيدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَيَّامَ وِزَارَتِهِ، وَقَالَ
الصَّابِئُ فِي كِتَابِهِ " التَّاجِيِّ ": إِنَّمَا سَمَّاهُ
الصَّاحِبَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ
صَاحِبُهُ مِنَ الصِّغَرِ، فَكَانَ يُسَمِّيهِ الصَّاحِبَ، فَلَمَّا
مَلَكَ وَاسْتَوْزَرَهُ سَمَّاهُ الصَّاحِبَ، فَاشْتُهِرَ بِهِ،
وَتَسَمَّى بِهِ الْوُزَرَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ
قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ مَكَارِمِهِ وَفَضَائِلِهِ وَثَنَاءِ النَّاسِ
عَلَيْهِ، وَعَدَّدَ لَهُ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً، مِنْهَا كِتَابُهُ "
الْمُحِيطُ " فِي اللُّغَةِ فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ، يَحْتَوِي عَلَى
أَكْثَرِ اللُّغَةِ، وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا
قَوْلُهُ وَهُوَ صَنِيعٌ لَطِيفٌ
رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَقَّتِ الْخَمْرُ ... وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ
الْأَمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ ... وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا
خَمْرُ
(15/457)
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ
بِالرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ نَحْوُ سِتِّينَ سَنَةً،
وَنُقِلَ إِلَى أَصْبَهَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ حَامِدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَامِدٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْأَدِيبُ، كَانَ شَاعِرًا مُتَمَوِّلًا، كَثِيرَ الْمَكَارِمِ، رَوَى
عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَوْصِلِيِّ، وَعَنْهُ
الصُّورِيُّ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
الْمُتَنَبِّيَ فِي دَارِهِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ النَّفَقَاتِ حَتَّى قَالَ لَهُ
الْمُتَنَبِّي: لَوْ كُنْتُ مَادِحًا تَاجِرًا لَمَدَحْتُكَ، وَقَدْ
كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا شَاعِرًا مَاهِرًا، فَمِنْ جِيِّدِ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
شَرَيْتُ الْمَعَالِيَ غَيْرَ مُنْتَظِرٍ بِهَا ... كَسَادًا وَلَا
سُوقًا يَقُامُ لَهَا أُخْرَى
وَمَا أَنَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَاسِبِ كُلَّمَا ... تَوَفَّرَتِ
الْأَثْمَانُ كُنْتُ لَهَا أَشْرَى
ابْنُ شَاهِينَ الْوَاعِظُ، عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ أَزْدَاذَ، أَبُو حَفْصِ
بْنُ شَاهِينَ
الْوَاعِظُ الْمَشْهُورُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
(15/458)
وَحَدَّثَ عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ وَأَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَخَلْقٍ،
وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا يَسْكُنُ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ
بَغْدَادَ وَكَانَتْ لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْعَدِيدَةُ الْمُفِيدَةُ،
ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ صَنَّفَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مُصَنَّفًا
; مِنْ ذَلِكَ " التَّفْسِيرُ " فِي أَلْفِ جُزْءٍ، وَ " الْمُسْنَدُ "
فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ جُزْءٍ، وَ " التَّارِيخُ " فِي مِائَةٍ
وَخَمْسِينَ جُزْءًا، وَ " الزُّهْدُ " فِي مِائَةِ جُزْءٍ. تُوُفِّيَ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
مَهْدِيِّ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ دِينَارِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، أُسْتَاذُ هَذِهِ الصَّنَاعَةِ فِي زَمَانِهِ
وَقَبْلَهَا بِمُدَّةٍ وَبَعْدَهَا إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، سَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَأَلَّفَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ،
وَأَحْسَنَ النَّظَرَ وَالتَّعْلِيلَ، وَالِانْتِقَاءَ
وَالِاعْتِقَادَ، وَكَانَ فَرِيدَ عَصْرِهِ، وَنَسِيجَ وَحْدِهِ،
وَإِمَامَ أَهْلِ دَهْرِهِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَصَنَاعَةِ
التَّعْلِيلِ، وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ
وَالتَّأْلِيفِ، وَاتِّسَاعِ الرِّوَايَةِ، وَالِاطِّلَاعِ التَّامِّ
فِي الدِّرَايَةِ، لَهُ كِتَابُ " السُّنَنِ الْكَبِيرِ "
الْمَشْهُورِ، مِنْ أَحْسَنِ الْمُصَنَّفَاتِ فِي بَابِهِ، لَمْ
يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي شَكْلِهِ، إِلَّا مَنِ
اسْتَمَدَّ مِنْ بَحْرِهِ، وَعَمِلَ كَعَمَلِهِ، وَلَهُ كِتَابُ "
الْعِلَلِ " بَيَّنَ فِيهِ الصَّوَابَ مِنَ
(15/459)
الزَّلَلِ، وَالْمُتَّصِلَ مِنَ
الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَالْمُعْضَلِ، وَكِتَابُ " الْأَفْرَادِ
" الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْظِمَهُ، إِلَّا مَنْ
هُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْأَفْرَادِ، وَالْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ،
وَالْجَهَابِدَةِ الْجِيَادِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي هِيَ كَالْعُقُودِ فِي الْأَجْيَادِ.
وَقَدْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ صِغَرِهِ مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ
الْبَاهِرِ ; جَلَسَ مَرَّةً فِي مَجْلِسِ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارِ،
وَهُوَ يُمْلِي عَلَى النَّاسِ الْأَحَادِيثَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ
يَنْسَخُ فِي جُزْءِ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي
أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ: إِنْ سَمَاعَكَ لَا يَصِحُّ وَأَنْتَ تَنْسَخُ،
فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: فَهْمِي خِلَافُ فَهْمِكَ، أَتَحْفَظُ كَمْ
أَمْلَى حَدِيثًا؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: إِنَّهُ أَمْلَى ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ حَدِيثًا إِلَى الْآنِ، فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْهَا عَنْ
فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، ثُمَّ سَاقَهَا كُلَّهَا بِأَسَانِيدِهَا
وَأَلْفَاظِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمْ
يَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَقَدِ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الْعِلْمُ
بِالْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَالشِّعْرِ، مَعَ
الْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، وَقَدْ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ
سَنَةً
(15/460)
وَيَوْمَانِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ
بِمَقْبَرَةِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَأَكْرَمَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ
حِنْزَابَةَ وَزِيرُ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ وَسَاعَدَهُ هُوَ
وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ عَلَى إِكْمَالِ " مُسْنَدِهِ "
وَحَصَلَ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْهُ مَالٌ جَزِيلٌ، قَالَ:
وَالدَّارَقُطْنِيُّ: نِسْبَةٌ إِلَى دَارِ الْقُطْنِ، وَهِيَ
مَحَلَّةٌ كَبِيرَةٌ بِبَغْدَادَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ: لَمْ
يَتَكَلَّمْ عَلَى الْأَحَادِيثِ مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
فِي زَمَانِهِ، وَمُوسَى بْنِ هَارُونَ فِي زَمَانِهِ،
وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي زَمَانِهِ.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَلْ رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ؟ قَالَ:
أَمَّا فِي فَنٍّ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا رَأَيْتُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ
مِنِّي، وَأَمَّا فِيمَا اجْتَمَعَ فِيَّ مِنَ الْفُنُونِ فَلَا.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرِ
بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَاكُولَا،
قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أَسْأَلُ عَنْ حَالِ أَبِي
الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي
الْآخِرَةِ، فَقِيلَ لِي: ذَاكَ يُدْعَى فِي الْجَنَّةِ الْإِمَامُ،
(15/461)
رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
عَبَّادُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبَّادٍ أَبُو الْحَسَنِ
الطَّالَقَانِيُّ
وَالِدُ الْوَزِيرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ، سَمِعَ أَبَا
خَلِيفَةَ الْفَضْلَ بْنَ الْحُبَابِ وَغَيْرَهُ مِنَ
الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْأَصْفَهَانِيِّينَ وَالرَّازِيِّينَ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ،
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَلِعَبَّادٍ هَذَا كِتَابٌ فِي
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ مَوْتُهُ وَمَوْتُ ابْنِهِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
عُقَيْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدَ، أَبُو الْحَسَنِ
الْأَحْنَفُ الْعُكْبَرِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ مُفْرَدٌ، وَمِنْ مُسْتَجَادِ
شِعْرِهِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ " قَوْلُهُ:
أَقْضَى عَلَيَّ مِنَ الْأَجَلْ ... عَذْلُ الْعَذُولِ إِذَا عَذَلَ
وَأَشَدُّ مِنْ عَذْلِ الْعَذُو ... لِ صُدُودُ إِلْفٍ قَدْ وَصَلْ
وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا وَذَا ... طَلَبُ النَّوَالِ مِنَ السَّفَلْ
وَمِنْ شَعْرِهِ الْجَيِّدِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَنْ أَرَادَ الْمُلْكَ وَالرَّا ... حَةَ مِنْ هَمٍّ طَوِيلٍ
(15/462)
فَلْيُكَنْ فَرَدًا مِنَ النَّا ... سِ
وَيَرْضَى بِالْقَلِيلِ
وَيَرَى أَنَّ قَلِيلًا ... نَافِعًا غَيْرُ قَلِيلِ
وَيَرَى بِالْحَزْمِ أَنَّ الْ ... حَزْمَ فِي تَرْكِ الْفُضُولِ
وَيُدَاوِي مَرَضَ الْوَحْ ... دَةِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ
لَا يُمَارِي أَحَدًا مَا ... عَاشَ فِي قَالَ وَقِيلِ
يَلْزَمُ الصَّمْتَ فَإِنَّ الصَّ ... مْتَ تَهْذِيبُ الْعُقُولِ
يَذْرُ الْكِبْرَ لِأَهْلِي ... هِ وَيَرْضَى بِالْخُمُولِ
أَيُّ عَيْشٍ لِامْرِئٍ يُصْ ... بِحُ فِي حَالٍ ذَلِيلِ
بَيْنَ قَصْدٍ مِنْ عَدُوٍّ ... وَمُدَارَاةِ جَهُولِ
وَاعْتِلَالٍ مِنْ صَدِيقٍ ... وَتَجَنٍّ مِنْ مَلُولِ
وَاحْتِرَاسٍ مِنْ ظُنُونِ السُّو ... ءِ مَعْ عَذْلِ الْعَذُولِ
وَمُمَاشَاةِ بَغِيضٍ ... وَمُقَاسَاةِ ثَقِيلِ
أُفِّ مِنْ مَعْرِفَةٍ النَّا ... سِ عَلَى كُلِّ سَبِيلِ
وَتَمَامُ الْأَمْرِ لَا يَعْ ... رِفُ سَمْحًا مِنْ بَخِيلِ
فَإِذَا أَكْمَلَ هَذَا كَا ... نَ فِي مُلْكٍ جَلِيلِ
(15/463)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُكَّرَةَ، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ
مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِاللَّهِ، كَانَ شَاعِرًا
أَدِيبًا خَلِيعًا ظَرِيفًا، وَكَانَ يَنُوبُ فِي نِقَابَةِ
الْهَاشِمِيِّينَ، فَتَرَافَعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ اسْمُهُ عَلَيٌّ
وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ يَتَحَاكَمَانِ فِي جَمَلٍ، فَقَالَ:
هَذِهِ قَضِيَّةٌ لَا أَحْكُمُ فِيهَا بِشَيْءٍ ; لِئَلَّا يَعُودَ
الْحَالُ خُدْعَةً.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ وَلَطِيفِ قَوْلِهِ:
فِي وَجْهِ إَنْسَانَةٍ كَلِفْتُ بِهَا ... أَرْبَعَةٌ مَا اجْتَمَعْنَ
فِي أَحَدِ
الْوَجْهُ بَدْرٌ وَالصُّدْغُ غَالِيَةٌ ... وَالرِّيقُ خَمْرٌ
وَالثَّغْرُ مِنْ بَرَدِ
وَمِنْ مُجُونِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ، وَقَدْ دَخَلَ حَمَّامًا، فَسُرِقَ
نَعْلُهُ، فَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ حَافِيًا، فَقَالَ:
إِلَيْكَ أَذُمُّ حَمَّامَ ابْنِ مُوسَى ... وَإِنْ فَاقَ الْمُنَى
طِيبًا وَحَرَّا
تَكَاثَرَتِ اللُّصُوصُ عَلَيْهِ حَتَّى ... لَيَحْفَى مَنْ يُطِيفُ
بِهِ وَيَعْرَى
وَلَمْ أَفْقِدْ بِهِ ثَوْبًا وَلَكِنْ ... دَخَلْتُ مُحَمَّدًا
وَخَرَجْتُ بِشْرًا
(15/464)
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، أَبُو
الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ
سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنَ صَاعِدٍ
وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْخَلَّالُ وَالْعُشَارِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ
وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا، يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ،
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُنَّا نَتَبَرَّكُ بِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ
خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
يُوسُفُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
النَّحْوِيُّ بْنُ النَّحْوِيِّ
وَهُوَ الَّذِي تَمَّمَ شَرْحَ أَبِيهِ لِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَكَانَ
يَرْجِعُ إِلَى عِلْمٍ وَدِينٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا عَنْ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
(15/465)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَشَفَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ
عَنْ قَبْرٍ عَتِيقٍ، فَإِذَا هُمْ بِمَيِّتٍ طَرِيٍّ عَلَيْهِ
ثِيَابُهُ وَسَيْفُهُ، فَظَنُّوهُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ
فَأَخْرَجُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ، وَاتَّخَذُوا عِنْدَ قَبْرِهِ
مَسْجِدًا، وَوُقِفَتْ عَلَيْهِ أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ، وَجُعِلَ
عِنْدَهُ خُدَّامٌ وَقُوَّامٌ وَفُرُشٌ وَتَنْوِيرٌ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْحَاكِمُ الْعُبَيْدِيُّ بِلَادَ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ
هَلَكَ أَبُوهُ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ، وَكَانَ
عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ،
وَقَامَ بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ مَعَهُ أَرْجُوَانُ الْخَادِمُ،
وَأَمِينُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَمَّارٍ شَيْخُ كُتَامَةَ،
فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ قَتَلَهُمَا وَأَقَامَ غَيْرَهُمَا،
ثُمَّ قَتَلَ خَلْقًا، حَتَّى اسْتَقَامَ لَهُ الْأَمْرُ عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ الَّذِي مِنْ
جِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْخُطْبَةُ لَهُمْ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
سَخْتَوَيْهِ، أَبُو حَامِدِ بْنُ أَبِي
(15/466)
إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي النَّيْسَابُورِيُّ
سَمِعَ الْأَصَمَّ وَطَبَقَتَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مِنْ
صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ، وَصَامَ فِي عُمُرِهِ سَرْدًا تِسْعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَعِنْدِي أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكْتُبْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً، تُوُفِّيَ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ، صَاحِبُ " قُوتِ الْقُلُوبِ "، مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ، أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ، الْوَاعِظُ
الْمُذَكِّرُ، الزَّاهِدُ الْمُتَعَبِّدُ، الرَّجُلُ الصَّالِحُ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ الْعَتِيقِيُّ: كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، مُجْتَهِدًا فِي
الْعِبَادَةِ.
وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ " وَذَكَرَ فِيهِ
أَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ فِي الْجَامِعِ
بِبَغْدَادَ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْجَبَلِ، وَأَنَّهُ
نَشَأَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهُ دَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي
الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ، فَانْتَمَى إِلَى مَقَالَتِهِ، وَدَخَلَ
بَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ
الْوَعْظِ بِهَا، فَغَلِطَ فِي كَلَامٍ، وَحُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ أَضَرُّ مِنَ الْخَالِقِ،
فَبَدَّعَهُ النَّاسُ وَهَجَرُوهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ
(15/467)
الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ
أَبُو طَالِبٍ هَذَا مِمَّنْ يُبِيحُ السَّمَاعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْشَدَ
أَبُو طَالِبٍ:
فَيَا لَيْلُ كَمْ فِيكَ مِنْ مُتْعَةٍ ... وَيَا صُبْحُ لَيْتَكَ لَمْ
تَقْرَبِ
فَخَرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ مُغْضَبًا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بِشْرَانَ: دَخَلْتُ عَلَى شَيْخِنَا
أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَهُوَ يَمُوتُ، فَقُلْتُ: أَوْصِنِي،
فَقَالَ: إِذَا خُتِمَ لِي بِخَيْرٍ فَانْثُرْ عَلَى جِنَازَتِي
لَوْزًا وَسُكَّرًا، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ:
اجْلِسْ عِنْدِي، وَيَدُكَ فِي يَدِي، فَإِنْ قَبَضْتُ عَلَى يَدِكَ،
فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُتِمَ لِي بِخَيْرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ
عِنْدَهُ وَيَدِي فِي يَدِهِ، فَلَمَّا حَانَ فِرَاقُهُ، قَبَضَ عَلَى
يَدِيَ قَبْضًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى جِنَازَتِهِ، نَثَرْتُ
اللَّوْزَ وَالسُّكَّرَ عَلَى نَعْشِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ
ظَاهِرٌ بِالْقُرْبِ مِنْ جَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَزِيزُ صَاحِبُ مِصْرَ
نِزَارُ بْنُ الْمُعِزِّ مَعَدٍّ أَبِي تَمِيمٍ، وَيُكَنَّى نِزَارٌ
هَذَا بِأَبِي مَنْصُورٍ، وَيُلَقَّبُ بِالْعَزِيزِ، تُوُفِّيَ عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْهَا وِلَايَتُهُ بَعْدَ أَبِيهِ
إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ،
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْحَاكِمُ، وَالْحَاكِمُ
هُوَ الَّذِي
(15/468)
تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ
الْمُضِلَّةُ الزَّنَادِقَةُ الْحَاكِمِيَّةُ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ
أَهْلُ وَادِي التِّيمَ مِنَ الدَّرْزِيَّةِ أَتْبَاعِ هِسْتِكِينَ
غُلَامِ الْحَاكِمِ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى
الْكُفْرِ الْمَحْضِ، فَأَجَابُوهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ -
أَمَّا الْعَزِيزُ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَوْزَرَ رَجُلًا
نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ: عِيسَى بْنُ نِسْطُورِسَ، وَآخَرَ
يَهُودِيًّا اسْمُهُ مِيشَا، فَعَزَّ بِسَبَبِهِمَا أَهْلُ هَاتَيْنِ
الْمِلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى
كَتَبَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ قِصَّةً فِي حَاجَةٍ لَهَا، تَقُولُ
فِيهَا: بِالَّذِي أَعَزَّ النَّصَارَى بِعِيسَى بْنِ نِسْطُورِسَ،
وَالْيَهُودَ بِمِيشَا، وَأَذَلَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ إِلَّا مَا
كَشَفَتْ ظُلَامَتِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى
هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّصْرَانِيِّ ثَلَاثَمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الَّتِي كَانَتْ
زَوْجَةَ الطَّائِعِ لِلَّهِ فَحُمِلَتْ تَرِكَتُهَا إِلَى ابْنِ
أَخِيهَا بِهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ فِيهَا جَوْهَرٌ كَثِيرٌ
وَتُحَفٌ وَلَطَائِفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/469)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا تُوُفِّيَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ وَرُتِّبَ وَلَدُهُ رُسْتُمُ فِي
الْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَامَ
خَوَاصُّ أَبِيهِ بِتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ وَالرَّعَايَا.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ
اللُّغَوِيُّ
الْعَلَّامَةُ فِي فَنِّهِ وَتَصَانِيفِهِ الْمُفِيدُ فِي اللُّغَةِ
وَغَيْرِهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ،
وَلَمَّا قَدِمَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ هُوَ وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ
الْبَلْدَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ -
وَقَدْ كَبُرَ وَأَسَنَّ - بَعَثَ إِلَيْهِ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ
بِرُقْعَةٍ فِيهَا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
وَلَمَّا أَبَيْتُمْ أَنْ تَزُورُوا وَقُلْتُمُ ... ضَعُفْنَا فَمَا
نَقْوَى عَلَى الْوَخَدَانِ
أَتَيْنَاكُمُ مِنْ بَعْدِ أَرْضٍ نَزُورُكُمُ ... فَكَمْ مِنْ
مَنْزِلٍ بِكْرٍ لَنَا وَعَوَانِ
نُنَاشِدْكُمُ هَلْ مِنْ قِرًى لِنَزِيلِكُمْ ... بَطُولِ جِوَارٍ لَا
بِمِلْءِ جِفَانِ
(15/470)
فَكَتَبَ الْعَسْكَرِيُّ الْجَوَابَ فِي
ظَهْرِهَا:
أَرُومُ نَهُوضًا ثُمَّ يَثْنِي عَزِيمَتِي ... تَعَوُّذُ أَعْضَائِي
مِنَ الرَّجَفَانِي
فَضَمَّنْتُ بَيْتَ ابْنِ الشَّرِيدِ كَأَنَّمَا ... تَعَمَّدَ
تَشْبِيهِي بِهِ وَعَنَانِي
أَهُمُّ بِأَمْرِ الْحَزْمِ لَوْ أَسْتَطِيعُهُ ... وَقَدْ حِيلَ
بَيْنَ الْعَيْرِ وَالنَّزَوَانِ
ثُمَّ تَحَامَلَ وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ، وَصَارَ إِلَى الصَّاحِبِ،
فَوَجَدَهُ مَشْغُولًا فِي خَيْمَتِهِ بِأُبَّهَةِ الْوِزَارَةِ،
فَصَعِدَ أَكَمَةً، ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَمَثِّلًا
بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
مَا لِي أَرَى الْقُبَّةَ الْفَيْحَاءَ مُقْفَلَةً ... دُونِي وَقَدْ
طَالَ مَا اسْتَفْتَحْتُ مُقْفَلَهَا
كَأَنَّهَا جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مُعْرِضَةً ... وَلَيْسَ لِي عَمَلٌ
زَاكٍ فَأَدْخُلُهَا
فَلَمَّا سَمِعَ الصَّاحِبُ صَوْتَهُ نَادَاهُ: ادْخُلْهَا يَا أَبَا
أَحْمَدَ، فَلَكَ السَّابِقَةُ الْأُولَى، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ
وَقَدِمْ عَلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
تُوُفِّيَ الْعَسْكَرِيُّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ.
(15/471)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ
مِهْرَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الشَّاهِدُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الثَّلَّاجِ
لِأَنَّ جَدَّهُ أَهْدَى لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ ثَلْجًا، فَوَقَعَ
مِنْهُ مَوْقِعًا، فَعُرِفَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ بِالثَّلَّاجِ، وَقَدْ
سَمِعَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ
وَابْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدَّثَ عَنِ التَّنُوخِيِّ وَالْأَزْهَرِيِّ
وَالْعَتِيقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحُفَّاظِ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَقَدِ اتَّهَمَهُ الْمُحَدِّثُونَ، مِنْهُمُ
الدَّارَقُطْنِيُّ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُرَكِّبُ
الْإِسْنَادَ، وَيَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى الرِّجَالِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَجْأَةً.
ابْنُ زُولَاقٍ، الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زُولَاقٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ
الْحَافِظُ
صَنَّفَ كِتَابًا فِي قُضَاةِ مِصْرَ، ذَيَّلَ بِهِ عَلَى كِتَابِ
أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْكِنْدِيِّ فِي
ذَلِكَ، انْتَهَى الْكِنْدِيُّ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَذَيَّلَ ابْنُ زُولَاقٍ مِنَ الْقَاضِي بَكَّارٍ
إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، مُبَلِّغًا بِهِ
أَيَّامَ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَاضِي الْعُبَيْدِيِّينَ،
وَأَظُنُّهُ مُصَنِّفَ كِتَابِ " الْبَلَاغِ " الَّذِي انْتَصَبَ فِيهِ
لِلرَّدِّ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ، أَوْ هُوَ
مُصَنِّفُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ النُّعْمَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ ابْنِ زُولَاقٍ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى
(15/472)
وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ابْنُ بَطَّةَ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْعُكْبَرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَطَّةَ، أَحَدُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ،
وَلَهُ الْكُتُبُ وَالتَّصَانِيفُ الْكَثِيرَةُ الْحَافِلَةُ فِي
فُنُونٍ مِنَ الْعِلْمِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ، وَأَبِي
بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَخَلْقٍ فِي أَقَالِيمَ
مُتَعَدِّدَةٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ ; مِنْهُمْ أَبُو
الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ وَالْأَزَجِيُّ وَالْبَرْمَكِيُّ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَكَانَ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِ
اخْتَلَفَتْ عَلَيَّ الْمَذَاهِبُ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِأَبِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَيْهِ
لِيُبَشِّرَهُ بِالْمَنَامِ فَحِينَ رَآهُ ابْنُ بَطَّةَ تَبَسَّمَ
إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُخَاطِبَهُ: صَدَقَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَقَدْ تَصَدَّى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ لِلْكَلَامِ فِي ابْنِ
بَطَّةَ وَالطَّعْنِ فِيهِ ; بِسَبَبِ ادِّعَائِهِ سَمَاعَ " السُّنَنِ
" لِرَجَاءَ بْنِ مُرَجَّى وَ " مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ "، وَأَسْنَدَ
بَعْضَ الْجَرْحِ فِيهِ إِلَى شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْأَسَدِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ بُرْهَانَ اللُّغَوِيِّ،
فَانْتُدِبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ،
وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ أَيْضًا، بِسَبَبِ بَعْضِ مَشَايِخِهِ،
وَالِانْتِصَارِ لِابْنِ بَطَّةَ، فَحَكَى عَنْ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ
عَقِيلٍ أَنَّ ابْنَ بُرْهَانَ كَانَ يَرَى مَذْهَبَ مُرْجِئَةِ
الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ،
وَقَالُوا: لِأَنَّ دَوَامَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَتَشَفَّى لَا مَعْنَى
لَهُ هُنَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ عَقِيلٍ
(15/473)
يَرُدُّ عَلَى ابْنِ بُرْهَانَ. قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَكَيْفَ يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ مِنْ
مِثْلِ هَذَا؟ !
ثُمَّ رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ بَطَّةَ أَنَّهُ
سَمِعَ " الْمُعْجَمَ " مِنَ الْبَغَوِيِّ، قَالَ: وَالْمُثْبِتُ
مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، قَالَ الْخَطِيبُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ بُرْهَانَ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
الْفَوَارِسِ: رَوَى ابْنُ بَطَّةَ عَنِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ أَبِي
مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «طَلَبُ الْعِلْمِ
فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا بَاطِلٌ
مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَالْحَمْلُ فِيهِ عَلَى ابْنِ بَطَّةَ. قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَجَوَابُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ وُجِدَ بِخَطِّ ابْنِ بُرْهَانَ أَنَّ مَا حَكَاهُ عَنْهُ
الْخَطِيبُ مِنَ الْقَدْحِ فِي ابْنِ بَطَّةَ بَاطِلٌ، وَهُوَ شَيْخِي
أَخَذْتُ عَنْهُ الْعِلْمَ فِي الْبِدَايَةِ، الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ
بُرْهَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْحُ فِيهِ بِمَا خَالَفَ فِيهِ
الْإِجْمَاعَ، فَكَيْفَ قَبِلْتَ الْقَوْلَ فِي رَجُلٍ قَدْ حَكَيْتَ
عَنْ مَشَايِخِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مُجَابُ
الدَّعْوَةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْهَوَى.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُدْرَكٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْبَرْذَعِيُّ
رَوَى عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ،
فَتَرَكَ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ،
وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ.
فَخْرُ الدَّوْلَةِ عَلِيُّ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ
الدَّيْلَمِيُّ
مَلِكُ بِلَادِ الرَّيِّ وَنَوَاحِيهَا، وَحِينَ مَاتَ أَخُوهُ
مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ، كَتَبَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ
بِالْإِسْرَاعِ إِلَيْهِ،
(15/474)
فَوَلَّاهُ الْمَلِكُ بَعْدَ أَخِيهِ،
وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ عَبَّادٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ
أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ. تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، مِنْهَا مُدَّةَ مُلْكِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةُ
أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ
شَيْئًا كَثِيرًا ; مِنْ ذَلِكَ مِنَ الذَّهَبِ مَا يُقَارِبُ
ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ نَحْوًا مِنْ
خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ قِطْعَةٍ، يُقَارِبُ قِيمَتُهَا ثَلَاثَ آلَافِ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ زِنَتُهُ
أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْفِضَّةِ زِنَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ الثِّيَابِ ثَلَاثَةُ آلَافِ حِمْلٍ،
وَخِزَانَةُ السِّلَاحِ أَلْفَا حِمْلٍ، وَمِنَ الْفُرُشِ أَلْفٌ
وَخَمْسُمِائَةِ حِمْلٍ، وَمِنَ الْأَمْتِعَةِ مَا يَلِيقُ
بِالْمُلُوكِ، وَمَعَ هَذَا لَيْلَةَ تُوُفِّيَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
وَصُولٌ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ كَفَنٌ
إِلَّا ثَوْبُ رَجُلٍ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ فِي الْمَسْجِدِ،
وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ بِالْمُلْكِ حَتَّى تَمَّ لِوَلَدِهِ رُسْتُمَ
مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْتَنَ الْمَلِكُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنَ
الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَرَبَطُوهُ فِي حِبَالٍ وَجَرُّوهُ عَلَى دَرَجِ
الْقَلْعَةِ، فَتَقَطَّعَ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
ابْنُ سَمْعُونَ الْوَاعِظُ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ الْوَاعِظُ
أَحَدُ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: النَّاطِقُ
بِالْحِكْمَةِ، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ
وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْوَعْظِ وَالتَّدْقِيقِ
فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، كَانَ
يَوْمًا يَعِظُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَتَحْتَهُ أَبُو
الْفَتْحِ بْنُ الْقَوَّاسِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ
الْمَشْهُورِينَ، فَنَعَسَ ابْنُ الْقَوَّاسِ، فَأَمْسَكَ ابْنُ
سَمْعُونَ عَنِ الْوَعْظِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَحِينَ اسْتَيْقَظَ
(15/475)
قَالَ ابْنُ سَمْعُونَ: رَأَيْتَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِكَ هَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِهَذَا أَمْسَكْتُ عَنِ الْوَعْظِ حَتَّى لَا
أُزْعِجَكَ عَمَّا كُنْتَ فِيهِ.
وَكَانَ لِرَجُلٍ ابْنَةٌ مَرِيضَةٌ مُدْنِفَةٌ، فَرَأَى أَبُوهَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ
وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ سَمْعُونَ لِيَأْتِيَ
مَنْزِلَكَ فَيَدْعُوَ لِابْنَتِكَ وَهِيَ تَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ
تَعَالَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَى ابْنِ سَمْعُونَ لِيَأْتِيَ،
فَلَمَّا رَآهُ، نَهَضَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَخَرَجَ مَعَهُ، فَظَنَّ
الرَّجُلُ أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى مَجْلِسِ وَعْظِهِ، فَقَالَ: أَقُولُ
لَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا مَرَّ بِدَارِ الرَّجُلِ
دَخَلَ إِلَيْهَا الشَّيْخُ، فَأَحْضَرَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ، فَدَعَا
لَهَا وَانْصَرَفَ، فَبَرِأَتْ مِنْ سَاعَتِهَا.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ مَنْ أَحْضَرَهُ
وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَخِيفَ عَلَى ابْنِ سَمْعُونَ مِنْهُ، فَلَمَّا
جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ فِي الْوَعْظِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا
أَوْرَدَهُ مِنْ كَلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَبَكَى
الْخَلِيفَةُ حَتَّى سُمِعَ شَهِيقُهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَهُوَ مُكْرَمٌ، فَقِيلَ لِلْخَلِيفَةِ: رَأَيْنَاكَ
طَلَبْتَهُ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ
يَتَنَقَّصُ عَلِيًّا، فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَاقِبَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ
أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ عَلَيٍّ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ، قَدْ
كُوشِفَ بِمَا كَانَ فِي خَاطِرِي عَلَيْهِ.
وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَانِبِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي الْأَحْبَارُ؟
أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي الرُّهْبَانُ؟ أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي
أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ؟ فَبَيْنَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ ابْنُ
سَمْعُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَفِي أُمَّتِكَ مِثْلُ هَذَا؟ فَسَكَتَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
كَانَ مَوْلِدُ ابْنِ سَمْعُونَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ
(15/476)
ذِي الْقَعْدَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدُفِنَ بِدَارِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ أُخْرِجَ بَعْدَ
سِنِينَ إِلَى مَقْبَرَةِ أَحْمَدَ، وَأَكْفَانُهُ لَمْ تَبْلَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
آخِرُ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ نُوحُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ نُوحِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو الْقَاسِمِ
السَّامَانِيُّ
مَلِكُ خُرَاسَانَ وَغَزْنَةَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلِيَ
الْمُلْكَ وَلَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاسْتَمَرَّ فِي الْمُلْكِ
إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَبَضَ
عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ، وَأَجْلَسُوا أَخَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ
مَكَانَهُ، فَقَصَدَهُمْ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، فَانْتَزَعَ
الْمُلْكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي الْمُلْكِ
مِائَةُ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ وَشُهُورًا، فَبَادَ مُلْكُهُمْ فِي هَذَا
الْعَامِ، وَلِلَّهِ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ.
أَبُو الطِّيبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ سُلَيْمَانَ الصُّعْلُوكِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
إِمَامُ أَهْلِ نَيْسَابُورَ وَشَيْخُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، كَانَ
يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِهِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ مَحْبَرَةٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ
الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ فِي " الْإِرْشَادِ ": إِنَّهُ
مَاتَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
(15/477)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
سَقَطَ فِي بَغْدَادَ بَرَدٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ جَمَّدَ الْمَاءَ فِي
الْحَمَّامَاتِ وَبَوْلِ الدَّوَابِّ فِي الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا جَاءَتْ رُسُلُ أَبِي طَالِبٍ رُسْتُمَ بْنِ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ فَبَايَعَهُ الْخَلِيفَةُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى
مُعَامَلَتِهِ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَلَقَّبَهُ مَجْدَ الدَّوْلَةِ
وَكَهْفَ الْأُمَّةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ،
وَكَذَلِكَ لِبَدْرِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ، وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدِّينِ
وَالدَّوْلَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ.
وَفِيهَا هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْوَثَّابِ، الْمُنْتَسِبُ إِلَى جَدِّهِ الطَّائِعِ - مِنَ السِّجْنِ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَآوَاهُ صَاحِبُهَا
مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ ثُمَّ أَرْسَلَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فَجِيءَ
بِهِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فَاعْتَقَلَهُ، ثُمَّ هَرَبَ مِنَ
الِاعْتِقَالِ أَيْضًا، فَذَهَبَ إِلَى بِلَادِ كِيلَانَ، فَادَّعَى
أَنَّهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ فَصَدَّقُوهُ
(15/478)
وَبَايَعُوهُ، وَأَدُّوا إِلَيْهِ
الْعُشْرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَجِيءُ
بَعْضِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ فَسَأَلُوا عَنِ الْأَمْرِ، فَإِذَا لَيْسَ
لَهُ أَصْلٌ وَلَا حَقِيقَةٌ، فَرَجَعُوا عَنْهُ، وَاضْمَحَلَّ
أَمْرُهُ، وَفَسَدَ حَالُهُ، فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ،
وَالْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو سُلَيْمَانَ حَمْدُ - وَيُقَالُ: أَحْمَدُ - بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ
أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ الْأَعْيَانِ، وَالْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ
الْمُكْثِرِينَ، لَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ " مَعَالِمُ السُّنَنِ " وَ
" شَرْحُ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ
النَّافِعَةِ الْمُفِيدَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ ... فَإِنَّمَا أَنْتَ
فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ
مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى ... عَمَّا
قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَدِينَةِ بُسْتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ بُكَيْرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
(15/479)
الصَّيْرَفِيُّ الْحَافِظُ الْمُطَبِّقُ
سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارَ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَالنَّجَّادَ
وَالْخُلْدِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ الشَّافِعِيَّ، وَعَنْهُ ابْنُ شَاهِينَ
وَالْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّهُ
دَخَلَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَجْزَاءٌ كِبَارٌ، فَجَعَلَ إِذَا
سَاقَ إِسْنَادًا أَوْرَدَ مَتْنَهُ مِنْ حِفْظِهِ، وَإِذَا سَرَدَ
مَتْنًا سَاقَ إِسْنَادَهُ، قَالَ: وَفَعَلْتُ هَذَا مَعَهُ مِرَارًا،
كُلُّ ذَلِكَ يُورِدُ الْحَدِيثَ إِسْنَادًا وَمَتْنًا كَمَا فِي
كِتَابِهِ. قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً، فَحَسَدُوهُ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَحَكَى الْخَطِيبُ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْفَوَارِسِ اتَّهَمَهُ
بِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي سَمَاعِ الشُّيُوخِ وَيُلْحِقُ رِجَالًا فِي
الْأَسَانِيدِ، وَيَصِلُ الْمَقَاطِيعَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا عَنْ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً.
صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسَ خَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو نَصْرِ
بْنُ بَخْتِيَارَ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَلَجَأَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأَكْرَادِ، فَلَمَّا وَغَلُوا بِهِ فِي بِلَادِهِمْ نَهَبُوا
خَزَائِنَهُ وَحَوَاصِلَهُ، وَلَحِقَهُ أَصْحَابُ ابْنِ بَخْتِيَارَ،
فَقَتَلُوهُ وَحَمَلُوا رَأْسَهُ فِي طَسْتٍ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ
يَدَيِ ابْنِ بَخْتِيَارَ قَالَ: هَذِهِ سُنَّةٌ سَنَّهَا أَبُوكَ،
وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ
عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ
مُلْكِهِ مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهَرٌ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يُوسُفَ الْجَكَّارُ أَبُو الْقَاسِمِ
كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ
(15/480)
ثُمَّ وَزَرَ لِابْنِهِ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ. تُوُفِّيَ
فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْفَرَجِ
الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ الشَّنَبُوذِيِّ، كَانَ عَالِمًا
بِالْقِرَاءَاتِ وَتَفْسِيرِهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ
خَمْسِينَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ، شَوَاهِدَ لِلْقُرْآنِ.
وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ
شَنَبُوذَ، وَأَسَاءَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ. تُوُفِّيَ
فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
ثَلَاثِمِائَةٍ.
(15/481)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَصَدَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ
خُرَاسَانَ فَاسْتَلَبَ مُلْكَهَا مِنْ أَيْدِي السَّامَانِيَّةِ،
وَوَاقَعَهُمْ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا
قَبْلَهَا، حَتَّى أَزَالَ اسْمَهُمْ وَرَسْمَهُمْ عَنِ الْبِلَادِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ
صَمَدَ لِقِتَالِهِمْ إِيلَكُ مَلِكُ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ - وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْخَانِ الْكَبِيرِ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ: فَائِقٌ - وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ فَارِسٍ
وَخُوزِسْتَانَ.
وَفِيهَا أَرَادَتِ الشِّيعَةُ أَنْ تَعْمَلَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَهُ مِنَ الزِّينَةِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وَهُوَ الْيَوْمُ
الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ،
فَقَاتَلَهُمْ جَهَلَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلسُّنَّةِ،
فَادَّعَوْا أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ حُصِرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فِي الْغَارِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا
جَهْلٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَائِلِ
شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ أَوَّلِ سِنِي الْهِجْرَةِ،
فَإِنَّهُمَا أَقَامَا فِيهِ ثَلَاثًا، وَحِينَ خَرَجَا مِنْهُ قَصَدَا
الْمَدِينَةَ فَدَخَلَاهَا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أَوْ
نَحْوِهَا، وَكَانَ دُخُولُهُمَا الْمَدِينَةَ فِي
(15/482)
الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَمَرٌ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ، وَلَمَّا كَانَتِ
الشِّيعَةُ يَصْنَعُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا يُظْهِرُونَ
فِيهِ الْحُزْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَابَلَتْهُمْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَهَلَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَادَّعَوْا أَنَّ
فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ مُصْعَبُ
بْنُ الزُّبَيْرِ فَعَمِلُوا لَهُ مَأْتَمًا كَمَا تَعْمَلُ الشِّيعَةُ
لِلْحُسَيْنِ، وَزَارُوا قَبْرَهُ كَمَا يُزَارُ قَبْرُ الْحُسَيْنِ،
وَهَذَا مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ بِبِدْعَةٍ مِثْلِهَا،
وَلَا يَرْفَعُ الْبِدْعَةَ إِلَّا السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ،
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَعَ غَيْمٍ مُطْبِقٍ وَرِيحٍ
قَوِيَّةٍ جِدًّا، بِحَيْثُ أَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
النَّخِيلِ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ يَتَرَاجَعْ حَمْلُهَا إِلَى
عَادَتِهَا إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ.
وَحَجَّ بِرَكْبِ الْعِرَاقِ الشَّرِيفَانِ الرَّضِيُّ وَالْمُرْتَضِي،
فَاعْتَقَلَهُمَا أَمِيرُ الْأَعْرَابِ ابْنُ الْجَرَّاحِ،
فَافْتَدَيَا مِنْهُ بِتِسْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ مِنْ أَمْوَالِهِمَا
فَأَطْلَقَهُمَا.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى السَّرَخْسِيُّ
الْمُقْرِئُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ
شَيْخُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ
وَتَفَقَّهَ بِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِمَامِ
الشَّافِعِيَّةِ، وَأَخَذَ عِلْمَ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَالنَّحْوِ
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
(15/483)
الْأَنْبَارِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
مُخَلَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حَبَابَةَ
رَوَى عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
دَاوُدَ وَطَبَقَتِهِمَا، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا مُسْنِدًا، وُلِدَ
بِبَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
تِسْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وَدُفِنَ فِي مُقَابِلِ
جَامِعِ الْمَنْصُورِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(15/484)
|