البداية والنهاية، ط. دار هجر
[ثُمَّ دَخَلَتْ سنَةُ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِي لَيْلَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا احْتَرَقَ
الْقَصْرُ الَّذِي بَنَاهُ الْمُسْتَرْشِدُ، وَكَانَ فِي غَايَةِ
الْحُسْنِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي قَدِ انْتَقَلَ
بِجَوَارِيهِ وَحَظَايَاهُ إِلَيْهِ ; لِيُقِيمَ فِيهِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَامُوا حَتَّى احْتَرَقَ عَلَيْهِمُ
الْقَصْرُ ; بِسَبَبِ أَنَّ جَارِيَةً أَخَذَتْ فِي يَدِهَا شَمْعَةً
فَعَلِقَ لَهَبُهَا بِبَعْضِ الْأَخْشَابِ ; فَاحْتَرَقَ الْقَصْرُ
وَسَلَّمَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ وَأَهْلَهُ فَأَصْبَحَ فَتَصَدَّقَ
بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَأَطْلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمُحْبَسِينَ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ
مَسْعُودٍ وَاقِعٌ فَبَعْثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْجَوَامِعِ
وَالْمَسَاجِدِ فَأُغْلِقَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى اصْطَلَحَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمُنْتَصَفِ ذِي الْقَعْدَةِ جَلَسَ ابْنُ
الْعَبَّادِيِّ الْوَاعِظُ، فَتَكَلَّمَ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ
حَاضِرٌ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَيْعِ مَكْسًا
فَاحِشًا فَقَالَ فِي جُمْلَةِ وَعْظِهِ: يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ
أَنْتَ تُطْلِقُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِلْمُغَنِّي إِذَا طَرِبْتَ
قَرِيبًا مِمَّا وَضَعْتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْمَكْسِ،
فَهَبْنِي مُغَنِّيًا وَقَدْ طَرِبْتَ فَهَبْ لِي هَذَا الْمَكْسَ،
شُكْرًا لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ فَأَشَارَ السُّلْطَانُ بِيَدِهِ
أَنْ قَدْ فَعَلْتُ فَضَجَّ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَكَتَبَ
بِذَلِكَ سِجِلَّاتٍ وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ
الْمَكْسِ فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
(16/340)
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّ الْمَطَرُ
جِدًّا، وَقَلَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَانْتَشَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ،
وَأَصَابَ النَّاسَ دَاءٌ فِي حُلُوقِهِمْ فَمَاتَ بِذَلِكَ خَلَائِقُ
كَثِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيُّ بْنُ قَسِيمِ
الدَّوْلَةِ آقْ سُنْقُرَ التُّرْكِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَحَلَبَ
وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مُحَاصِرًا
قَلْعَةَ جَعْبَرَ، وَفِيهَا سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ الْعُقَيْلِيُّ
فَبَرْطَلَ بَعْضَ مَمَالِيكِ زَنْكِيٍّ حَتَّى قَتَلُوهُ فِي
اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: كَانَ سَكْرَانَ فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً
وَشَكْلًا، وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا حَازِمًا، خَضَعَتْ لَهُ
مُلُوكُ الْأَطْرَافِ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً عَلَى
نِسَاءِ الرَّعِيَّةِ، وَأَجْوَدِ الْمُلُوكِ مُعَامَلَةً،
وَأَرْفَقِهِمْ بِالْعَامَّةِ وَمَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ بِالْمَوْصِلِ
وَلَدُهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ، وَبِحَلَبَ وَلَدُهُ نُورُ
الدِّينِ مَحْمُودٌ، فَاسْتَعَادَ نُورُ الدِّينِ هَذَا مَدِينَةَ
الرُّهَا وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ فَتَحَهَا. ثُمَّ عَصَوْا فَقَهَرَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ
جَزِيرَةَ الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ.
(16/341)
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ، -
لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ وَفِيهَا
اسْتَعَادَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ، وَفِيهَا
الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ مِنْ جِهَةِ زَنْكِيٍّ،
فَسَلَّمَهُ الْقَلْعَةَ وَأَعْطَاهُ إِمْرَتَهُ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاجِبَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
طَغَايُرْكَ وَقَتَلَ عَبَّاسًا صَاحِبَ الرَّيِّ وَأَلْقَى رَأْسَهُ
إِلَى أَصْحَابِهِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَنَهَبُوا خِيَامَ عَبَّاسٍ
هَذَا، وَقَدْ كَانَ عَبَّاسٌ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ،
قَاتَلَ الْبَاطِنِيَّةَ مَعَ مَخْدُومِهِ جَوْهَرٍ فَلَمْ يَزَلْ
يَقْتُلُ مِنْهُمْ حَتَّى بَنَى مِئْذَنَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ
بِمَدِينَةِ الرَّيِّ.
وَفِيهَا مَاتَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ بِبَغْدَادَ مُحَمَّدُ بْنُ
طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ
الزَّيْنَبِيُّ. وَفِيهَا سَقَطَ جِدَارٌ عَلَى ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ،
وَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ مَبَالِغَ النِّسَاءِ فَمَاتَتْ فَحَضَرَ
جِنَازَتَهَا الْأَعْيَانُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ. وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
نِظَامُ الدِّينِ بْنُ جَهِيرٍ الْوَزِيرُ.
[مَنْ تُوَفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَنْكِيُّ بْنُ آقْ سُنْقُرَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ
تَرْجَمَتِهِ فِي الْحَوَادِثِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الشَّيْخُ شِهَابُ
الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " فِي تَرْجَمَتِهِ
وَمَا قِيلَ فِيهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(16/342)
سَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ،
رَحَلَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ إِلَى الصِّينِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَتَفَقَّهَ بِالْغَزَالِيِّ، وَحَصَّلَ كُتُبًا نَفِيسَةً، وَرَوَى
عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ أَوْصَى عِنْدَ
وَفَاتِهِ بِبَغْدَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْغَزْنَوِيُّ، وَأَنْ
يُدْفَنَ عِنْدَ قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ.
شَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّشِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى
إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَعَلَى الْغَزَالِيِّ وَكَانَ يَسْكُنُ
الْكَرْخَ، وَلَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي الرُّوَاقِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكُنْتُ أَحْضُرُ حَلْقَتَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو مُحَمَّدٍ سِبْطُ أَبِي مَنْصُورٍ الزَّاهِدُ، قَرَأَ
الْقِرَاءَاتِ وَصَنَّفَ فِيهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ
وَاقْتَنَى الْكُتُبَ الْحَسَنَةَ وَأَمَّ فِي مَسْجِدِهِ نَيِّفًا
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَعَلَّمَ خَلْقًا الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: مَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ قِرَاءَةً مِنْهُ
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
عَبَّاسٌ شِحْنَةُ الرَّيِّ
تَوَصَّلَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا، ثُمَّ قَتَلَهُ مَسْعُودٌ
(16/343)
كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ
الصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَقَتَلَ مِنَ
الْبَاطِنِيَّةِ خَلْقًا، وَابْتَنَى مِنْ رُءُوسِهِمْ مَنَارَةً
بِالرَّيِّ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ أَخُو
عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الْوَزِيرِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِيهِ
وَعَمِّهِ أَبِي نَصْرٍ وَغَيْرِهِمَا وَقَارَبَ السَّبْعِينَ.
وَجِيهُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ الشَّحَّامِيُّ أَخُو زَاهِرٍ وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ
مِنَ الْحَدِيثِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَكَانَ شَيْخًا
حَسَنَ الْوَجْهِ سَرِيعَ الدَّمْعَةِ كَثِيرَ الذَّكَرِ، صَحِيحَ
السَّمَاعِ صَدُوقَ اللَّهْجَةِ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
(16/344)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ جَزِيرَةِ
الْأَنْدَلُسِ، وَفِيهَا مَلَكَ نُورُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودٍ
زَنْكِيٌّ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ بِالسَّوَاحِلِ
وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا خُطِبَ لِلْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ بِوِلَايَةِ
الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ الْمُقْتَفِي، وَفِيهَا وَلِيَ عَوْنُ
الدِّينِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ كِتَابَةَ دِيوَانِ الزِّمَامِ،
وَوَلِيَ زَعِيمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ صَدْرِيَّةَ
الْمَخْزَنِ الْمَعْمُورِ، وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ
بِإِفْرِيقِيَّةَ فَهَلَكَ بِسَبَبِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ حَتَّى خَلَتِ
الْمَنَازِلُ وَأَقْفَرَتِ الْمَعَاقِلُ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ بِنْتَ صَاحِبِ
مَارْدِينَ حُسَامِ الدِّينِ تَمُرْتَاشَ بْنِ أُرْتُقَ بَعْدَ أَنْ
حَاصَرَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ إِلَى
الْمَوْصِلِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ مَرِيضٌ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى
الْمَوْتِ، فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ
أَخُوهُ قُطْبُ بْنُ مَوْدُودٍ فَتَزَوَّجَهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي صَفَرٍ رَأَى رَجُلٌ فِي الْمَنَامِ
قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: مَنْ زَارَ قَبْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
غُفِرَ لَهُ، قَالَ: فَلَمْ يَبْقَ خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ إِلَّا
زَارَهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَعَقَدْتُ يَوْمَئِذٍ مَجْلِسًا
فَاجْتَمَعَ فِيهِ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْعَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
(16/345)
الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ،
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا صَالِحًا مُمَتَّعًا
بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الْمِائَةَ بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ اللَّخْمِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ
الرُّشَاطِيُّ الْحَافِظُ
مُصَنِّفُ كِتَابِ " اقْتِبَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْتِمَاسِ
الْأَزْهَارِ " فِي أَنْسَابِ الصَّحَابَةِ وَرُوَاةِ الْآثَارِ،
وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ، قُتِلَ شَهِيدًا
صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
بِالْمَرِيَّةِ.
نَصْرُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَوِيِّ
أَبُو الْفَتْحِ اللَّاذِقِيُّ الْمِصِّيصِيُّ الشَّافِعِيُّ،
تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ
بِصُورَ، وَسَمِعَ بِهَا مِنْهُ وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ،
وَسَمِعَ بِبَغْدَادَ وَالْأَنْبَارِ وَكَانَ أَحَدَ مَشَايِخِ
الشَّامِ فَقِيهًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ
أَبُو السَّعَادَاتِ ابْنُ الشَّجَرِيِّ النَّحْوِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ
خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَانْتَهَتْ
إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
(16/346)
النُّحَاةِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ بَيْتًا
فِي الذَّمِّ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِ مَسْكَوَيْهِ:
وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ قَدْ ضَاعَ عِنْدَكُمْ ... يَضِيعُ
وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ يَضُوعُ
(16/347)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا اسْتَغَاثَ مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ أَتَابِكِ دِمَشْقَ
بِالْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَرَكِبَ
سَرِيعًا فَالْتَقَى مَعَهُمْ بِأَرْضِ بُصْرَى فَهَزَمَهُمْ وَرَجَعَ
فَنَزَلَ عَلَى الْكِسْوَةِ وَخَرَجَ مَلِكُ دِمَشْقَ مُجِيرُ الدِّينِ
أَبَقُ فَخَدَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَشَاهَدَ الدَّمَاشِقَةُ حُرْمَةَ
نُورِ الدِّينِ.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ وَهَرَبَ مِنْهَا
صَاحِبُهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ
الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ
بْنِ زِيرِيٍّ بِأَهْلِهِ وَمَا خَفَّ مِنْ أَمْوَالِهِ فَتَمَزَّقَ
فِي الْبِلَادِ، وَأَكَلَتْهُمُ الْأَقْطَارُ، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ
بَنِي بَادِيسَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِهِمْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائةٍ، فَدَخَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا
وَخَزَائِنُهَا مَشْحُونَةٌ بِالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ - وَهُمْ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ
مُقَاتِلٍ، وَمَعَهُمْ مَلِكُ الْأَلْمَانِ فِي خَلْقٍ لَا
يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا
مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ وَأَتَابِكُهُ مَعِينُ الدِّينِ، وَهُوَ
مُدَبِّرُ الْمَمْلَكَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فِي مِائَةِ أَلْفٍ
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا
وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ نَحْوٌ مِنَ
الْمِائَتَيْنِ، وَمِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ
وَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ مُدَّةً، وَأُخْرِجَ مُصْحَفُ عُثْمَانَ
إِلَى وَسَطِ صَحْنِ الْجَامِعِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ
يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ
مُكَشَّفِي الرُّءُوسِ يَدْعُونَ وَيَتَبَاكُونَ، وَالرَّمَادُ
مَفْرُوشٌ فِي الْبَلَدِ فَاسْتَغَاثَ أَبَقُ بِالْمَلِكِ نُورِ
(16/348)
الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ حَلَبَ
وَبِأَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ،
فَقَصَدَاهُ سَرِيعًا فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا بِمَنِ
انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا سَمِعَتِ
الْفِرِنْجُ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - بِقُدُومِ الْجَيْشِ تَحَوَّلُوا
عَنِ الْبَلَدِ فَلَحِقَهُمُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا وَقَتَلُوا فِيمَنْ قَتَلُوا مَعَهُمْ
قِسِّيسًا اسْمُهُ إِلْيَاسُ، وَهُوَ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِدِمَشْقَ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ افْتَرَى مَنَامًا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ وَعَدَهُ
فَتْحَ دِمَشْقَ فَقُتِلَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَادُوا يَأْخُذُونَ
الْبَلَدَ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَحَمَاهَا بِحَوْلِهِ
وَقُوَّتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] وَقَالَ تَعَالَى:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] وَمَدِينَةُ دِمَشْقَ لَا سَبِيلَ
لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا الْمَحَلَّةُ
الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهَا مَعْقِلُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ،
وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَدْ كَانَ الْفِرِنْجُ
قَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ وَمِمَّنْ قَتَلُوا:
الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ الدِّينِ شَيْخُ
الْمَالِكِيَّةِ بِهَا أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ دُونَاسَ
الْفِنْدَلَاوِيُّ بِأَرْضِ النَّيْرَبِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ
الصَّغِيرِ، وَقَدْ صَالَحَ مُعِينُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ عَنْ
دِمَشْقَ بِبَانِيَاسَ فَرَحَلُوا عَنْهَا وَتَسَلَّمُوا بَانِيَاسَ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأُمَرَائِهِ
فَفَارَقُوهُ، وَقَصَدُوا بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْعَامَّةِ
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ،
ثُمَّ اجْتَمَعُوا قُبَالَةَ التَّاجِ
(16/349)
فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ وَاعْتَذَرُوا إِلَى
الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، وَسَارُوا نَحْوَ النَّهْرَوَانِ
فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا أَهْلَهَا ; فَغَلَتِ
الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الدَّامَغَانِيُّ بَعْدَ
وَفَاةِ الزَّيْنَبِيِّ. وَفِيهَا مَلَكَ سُورِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
مَلِكُ الْغُورِ مَدِينَةَ غَزْنَةَ، فَذَهَبَ صَاحِبُهَا بَهْرَامُ
شَاهْ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَوْلَادِ سُبُكْتِكِينَ إِلَى الْهِنْدِ،
فَاسْتَجَاشَ مَلِكَهَا، فَجَاءَ بِجُيُوشٍ عَظِيمَةٍ فَاقْتَلَعَ
غَزْنَةَ مِنْ يَدِ سُورِيٍّ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا فَصَلَبَهُ، وَقَدْ
كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَبْهَانَ بْنِ مُحْرِزٍ
الْغَنَوِيُّ الرَّقِّيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
بِالشَّاشِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
مُصَنَّفَاتِهِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَصَحِبَهُ كَثِيرًا، وَكَانَ
مَهِيبًا كَثِيرَ الصَّمْتِ بَهِيَّ السَّمْتِ، تُوُفِّيَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
شَاهِنْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ،
اسْتُشْهِدَ مَعَ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِدُ السِّتِّ عَذْرَاءَ
وَاقِفَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ وَتَقِيِّ الدِّينِ عَمَرَ وَاقِفِ
التَّقْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(16/350)
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْأَكْمَلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نُورُ الْهُدَى بْنُ
أَبِي الْحَسَنِ نِظَامُ الْحَضْرَتَيْنِ، ابْنُ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ
أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ الْقَاضِي أَبِي تَمَّامٍ الْعَبَّاسِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَ فَقِيهًا رَئِيسًا وَقُورًا، حَسَنَ الْهَيْئَةِ
وَالسَّمْتِ قَلِيلَ الْكَلَامِ سَافَرَ مَعَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ
إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
بَغْدَادَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ
السِّتِّينَ وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
رَحْمَةً وَاسِعَةً.
أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ دُونَاسَ الْفِنْدَلَاوِيُّ
شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، قُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - قَرِيبًا مِنَ الرَّبْوَةِ فِي أَرْضِ
النَّيْرَبِ - هُوَ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَلْحُولِيُّ
أَحَدُ الزُّهَّادِ، قُتِلَا مَعًا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
(16/351)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
بْنِ عِيَاضٍ الْيَحْصُبِيِّ السَّبْتِيِّ، قَاضِيهَا أَحَدُ مَشَايِخِ
الْعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَصَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ
الْمُفِيدَةِ مِنْهَا " الشِّفَا " وَ " شَرْحُ مُسْلِمٍ " وَ "
مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ
وَكَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ كَالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ
وَالْحَدِيثِ وَالْأَدَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ وَقِيلَ: فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا غَزَا الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
صَاحِبُ حَلَبَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا،
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ،
وَفَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ قِلَاعِهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَنْجَدَ بِمُعِينِ الدِّينِ بْنِ
أَتَابِكِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِفَرِيقٍ مِنْ جَيْشِهِ
صُحْبَةَ الْأَمِيرِ مُجَاهِدِ الدِّينِ بْنِ بُزَّانَ بْنِ مَامِينَ
نَائِبِ صَرْخَدَ فَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَقَدْ قَالَ
الشُّعَرَاءُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَشْعَارًا
(16/352)
كَثِيرَةً، مِنْهُمُ ابْنُ
الْقَيْسَرَانِيِّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ سَرَدَهَا أَبُو شَامَةَ فِي "
الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ رَبِيعٍ الْآخَرِ اسْتَوْزَرَ
لِلْخِلَافَةِ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ، وَلُقِّبَ
عَوْنُ الدِّينِ وَخُلِعَ عَلَيْهِ.
وَفِي رَجَبٍ قَصَدَ مَلِكْشَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ بَغْدَادَ وَمَعَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ ; وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ
وَجَمَاعَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرُهُمْ، وَطَلَبُوا مِنَ
الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَكَرَّرَتِ الْمُكَاتَبَاتُ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَحِثُّهُ فِي الْقُدُومِ فَتَمَادَى
عَلَيْهِ، وَضَاقَ النِّطَاقُ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ،
وَكَتَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَسْعُودٍ
يَسْتَحِثُّهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعِ الْمَشْيَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَا
جَاءَ إِلَّا فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ، فَانْقَشَعَتْ تِلْكَ
الشُّرُورُ كُلُّهَا، وَتَبَدَّلَتْ سُرُورًا أَجْمَعُهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالًا شَدِيدًا،
وَتَمَوَّجَتِ الْأَرْضُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَتَقَطَّعَ جَبَلٌ
بِحُلْوَانَ وَانْهَدَمَ الرِّبَاطُ الْبِهْرُوزِيُّ، وَهَلَكَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ بِالْبِرْسَامِ، لَا يَتَكَلَّمُ الْمَرْضَى حَتَّى يَمُوتُوا.
وَفِيهَا مَاتَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ
الْمَوْصِلِ وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ
زَنْكِيٍّ وَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ
بِهَا، الْخَاتُونِ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ
صَاحِبِ مَارِدِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا كُلُّهُمْ مَلَكُوا
الْمَوْصِلَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْخَاتُونُ تَضَعُ خِمَارَهَا
بِحَضْرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَلِكًا.
(16/353)
وَفِيهَا سَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى
سِنْجَارَ فَفَتَحَهَا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ
مَوْدُودٌ جَيْشًا لِيَرُدَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ اصْطَلَحَا فَعَوَّضَهُ
مِنْهَا الرَّحْبَةَ وَحِمْصَ وَاسْتَمَرَّتْ سِنْجَارُ لِقُطْبِ
الدِّينِ، وَعَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بَلَدِهِ، وَغَزَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْفِرِنْجَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرَ الْبِرِنْسَ
صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ فَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ; مِنْهُمُ الْفَتْحُ
الْقَيْسَرَانِيُّ بِقَصِيدَةٍ طَنَّانَةٍ يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
هَذِي الْعَزَائِمُ لَا مَا تَدَّعِي الْقُضُبُ ... وَذِي الْمَكَارِمُ
لَا مَا قَالَتِ الْكُتُبُ
وَهَذِهِ الْهِمَمُ اللَّاتِي مَتَى خُطِبَتْ ... تَعَثَّرَتْ
خَلْفَهَا الْأَشْعَارُ وَالْخُطَبُ
صَافَحْتَ يَا ابْنَ عِمَادِ الدِّينِ ذُرْوَتَهَا ... بِرَاحَةٍ
لِلْمَسَاعِي دُونَهَا تَعَبُ
مَا زَالَ جَدُّكَ يَبْنِي كُلَّ شَاهِقَةٍ ... حَتَّى بَنَى قُبَّةً
أَوْتَادُهُا الشُّهُبُ
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ أَفَامِيَةَ وَهُوَ قَرِيبٌ
مِنْ حَمَاةَ
وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ مِصْرَ الْحَافِظُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ
الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ
فَقَامَ، بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الظَّافِرُ إِسْمَاعِيلُ،
وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى الْحَافِظِ وَخَطَبَ بِمِصْرَ لِلْقَائِمِ آخِرَ
الزَّمَانِ، وَأَذَّنَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَلِلْحَافِظِ
وُضِعَ طَبْلُ الْقُولَنْجِ الَّذِي إِذَا ضَرَبَهُ مَنْ بِهِ
الْقُولَنْجُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْقُولَنْجُ وَالرِّيحُ الَّذِي بِهِ.
(16/354)
وَخَرَجَ بِالْحَجِيجِ الْأَمِيرُ نَظَرٌ
الْخَادِمُ فَمَرِضَ بِالْكُوفَةِ، فَرَجَعَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ
مَوْلَاهُ قَايْمَازَ وَحِينَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ تُوُفِّيَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَطَمِعَتِ الْعَرَبُ فِي الْحَجِيجِ
فَوَقَفُوا لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَهُمْ رَاجِعُونَ، فَضَعُفَ
قَايْمَازُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ أَمَانًا
وَهَرَبَ وَأَسْلَمَ إِلَيْهِمُ الْحَجِيجَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ
وَأَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ، وَقَلَّ مَنْ سَلِمَ مِمَّنْ نَجَا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ أَنُرُ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ
بِدِمَشْقَ، وَكَانَ أَحَدَ مَمَالِيكِ طُغْتِكِينَ، ثُمَّ كَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ أَتَابِكَ الْمُلُوكِ بِ دِمَشْقَ وَهُوَ وَالِدُ
السِّتِّ عِصْمَةِ الدِّينِ خَاتُونَ زَوْجَةِ الْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الْمُعِينِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَجِ، وَقَبْرُهُ فِي قُبَّةٍ قِبْلِيَّ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ بِمَحَلَّةِ الْعُوَيْنَةِ عِنْدَ دَارِ الْبِطِّيخِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْوَزِيرِ
الرَّئِيسِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ عَلِيِّ بْنِ الصُّوفِيِّ وَأَخِيهِ
زَيْنِ الدَّوْلَةِ حَيْدَرَةَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ
الْمَلِكِ مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ وَحْشَةٌ اقْتَضَتْ أَنَّهُمَا
حَشَدَا مِنَ الْعَامَّةِ وَالْغَوْغَاءِ مَا يُقَاوِمُهُ،
فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ وَقَعَ
الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو نَصْرٍ
الْوَزِيرُ لِلْمُسْتَرْشِدِ
(16/355)
وَالسُّلْطَانُ مَحْمُودٌ، وَقَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَرْجَانِيُّ
قَاضِي تُسْتَرَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ
يَبْتَكِرُ مَعَانِيَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَمَّا بَلَوْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمُ ... أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ
اعْتِرَاضِ الشَّدائِدِ
تَطَمَّعْتُ فِي حَالَيْ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ ... وَنَادَيْتُ فِي
الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ
فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي غَيْرَ شَامِتٍ ... وَلَمْ أَرَ فِيمَا
سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدٍ
تَمَتَّعْتُمَا يَا نَاظِرَيَّ بِنَظْرَةٍ ... وَأَوْرَدْتُمَا قَلْبِي
أَمَرَّ الْمَوَارِدِ
أَعَيْنَيَّ كُفَّا عَنْ فُؤَادِي فَإِنَّهُ ... مِنَ الْبَغْيِ سَعْيُ
اثْنَيْنِ فِي قَتْلِ وَاحِدِ
عِيسَى بْنُ هِبَةِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّقَّاشُ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ ظَرِيفًا خَفِيفَ الرُّوحِ، لَهُ
نَوَادِرُ حَسَنَةٌ، قَدْ رَأَى النَّاسَ، وَعَاشَرَ الْأَكْيَاسَ،
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسِي وَيُكَاتِبُنِي وَأُكَاتِبُهُ، كَتَبْتُ
إِلَيْهِ
(16/356)
مَرَّةً، فَعَظَّمْتُهُ فِي الْكِتَابَةِ،
فَكَتَبَ إِلَيَّ
قَدْ زِدْتِنِي فِي الْخِطَابِ حَتَّى ... خَشِيْتُ نَقْصًا مِنَ
الزِّيَادَهْ
فَاجْعَلْ خِطَابِي خِطَابَ مِثْلِي ... وَلَا تُغَيِّرْ عَلَيَّ
عَادَهْ
وَلَهُ
إِذَا وَجَدَ الشَّيْخُ فِي نَفْسِهِ ... نَشَاطًا فَذَلِكَ مَوْتٌ
خَفِي
أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ ضَوْءَ السِّرَاجِ ... لَهُ لَهَبٌ قَبْلَ أَنْ
يَنْطَفِي
غَازِيُّ بْنُ آقْ سُنْقُرَ
الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَهُوَ أَخُو نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ حَلَبَ ثُمَّ دِمَشْقَ فِيمَا بَعْدُ،
وَقَدْ كَانَ سَيْفُ الدِّينِ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ
وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، وَأَجْوَدِهِمْ سَرِيرَةً، وَأَصْبَحِهِمْ
صُورَةً، شُجَاعًا كَرِيمًا، يَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ لِجَيْشِهِ مِائَةً
مِنَ الْغَنَمِ، وَلِمَمَالِيكِهِ ثَلَاثِينَ رَأْسًا، وَفِي يَوْمِ
الْعِيدِ أَلْفَ رَأْسٍ سِوَى الْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ، وَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ حُمِلَ عَلَى رَأْسِهِ سَنْجَقٌ مِنْ مَلُوكِ الْأَطْرَافِ،
وَأَمَرَ الْجُنْدَ أَنْ لَا يَرْكَبُوا إِلَّا بِسَيْفٍ وَدَبُّوسٍ،
وَبَنَى مَدْرَسَةً بِالْمَوْصِلِ، وَرِبَاطًا لِلصُّوفِيَّةِ،
وَامْتَدَحَهُ الْحَيْصَ بَيْصَ فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا،
وَخِلْعَةً.
(16/357)
وَلَمَّا تُوُفِّيَ بِالْحُمَّى فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُفِنَ فِي مَدْرَسَتِهِ
الْمَذْكُورَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِهِ بَعْدَ أَبِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسِينَ يَوْمًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
نَظَرٌ الْخَادِمُ، أَمِيرُ الْحَاجِّ
مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَرَأَ
عَلَى ابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالصَّدَقَةَ
وَالْبِرَّ، وَكَانَ الْحَاجُّ مَعَهُ فِي غَايَةِ الدَّعَةِ
وَالْأَمْنِ، وَذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ
الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِالرُّصَافَةِ.
(16/358)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ حِصْنَ أَفَامِيَةَ، وَهُوَ
مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَوْسَعِ الْبِقَاعِ وَقِيلَ: فِي
السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا قَصَدَ دِمَشْقَ فَلَمْ يَتَسَنَّ لَهُ أَخْذُهَا، فَخَلَعَ
عَلَى مَلِكِهَا مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ، وَعَلَى وَزِيرِهِ
الرَّئِيسِ ابْنِ الصُّوفِيِّ، وَتَقَرَّرَ الْحَالُ عَلَى الْخُطْبَةِ
لَهُ بِهَا بَعْدَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ
السِّكَّةِ.
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ عِزَازٍ، وَأَسَرَ مَلِكَهَا
ابْنَ جُوسْلِينَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ كَافَّةً، ثُمَّ
أَسَرَ بَعْدَهُ وَالِدَهُ جُوسْلِينَ الْمَلِكَ الْإِفْرِنْجِيَّ،
فَكَانَتِ الْفَرْحَةُ أَعَظَمَ، وَفَتَحَ بَعْدَ أَسْرِهِ مِنْ
بِلَادِهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحُصُونِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ حَضَرَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ تَدْرِيسَ
النِّظَامِيَّةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ،
وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، بَلْ بِمَرْسُومِ
السُّلْطَانِ، وَابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَزِمَ
بَيْتَهُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمَدْرَسَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَلِيَ
بَعْدَهُ الشَّيْخُ
(16/359)
أَبُو النَّجِيبِ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ
وَمَرْسُومِ السُّلْطَانِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بِالْيَمَنِ
مَطَرٌ كُلُّهُ دَمٌ، حَتَّى صَبَغَ ثِيَابَ النَّاسِ.
[مَنْ تُوَفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ ذِي النُّونِ
ابْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، أَبُو الْمَفَاخِرِ
النَّيْسَابُورِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ، وَجَعَلَ يَنَالُ مِنَ
الْأَشْعَرِيَّةِ فَأَحَبَّهُ الْحَنَابِلَةُ، ثُمَّ اخْتَبَرُوهُ،
فَإِذَا هُوَ مُعْتَزِلِيٌّ، فَفَتَرَ سُوقُهُ، وَجَرَتْ بِسَبَبِهِ
فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، مِنْ ذَلِكَ.
مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضُّوا وَمَضَوْا ... وَمَاتَ مِنْ
بَعْدِهِمْ تِلْكَ الْكَرَامَاتُ
وَخَلَّفُونِيَ فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ ... لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ
ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيُّ
الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ، كَانَ يَعْرِفُ مَذْهَبَيْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَيُنَاظِرُ عَنْهُمَا، وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ
وَجَدِّهِ بِقُبُورِ الشُّهَدَاءِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْمَعَالِي
الْجِيلِيُّ
كَانَ فَقِيهًا صَالِحًا
(16/360)
دَيِّنًا مُتَعَبِّدًا فَقِيرًا، لَيْسَ
لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَإِنَّمَا يَبِيتُ بِالْمَسَاجِدِ
الْمَهْجُورَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ، فَأَقَامَ بِفَيْدَ،
فَكَانَ أَهْلُهَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ خَيْرًا.
الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ
الْمَالِكِيُّ، شَارِحُ " التِّرْمِذِيِّ "، كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا،
وَزَاهِدًا عَابِدًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بَعْدَ اشْتِغَالِهِ فِي
الْفِقْهِ، وَصَحِبَ الْغَزَالِيَّ، وَأَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَ
يَتَّهِمُهُ بِرَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ، وَيَقُولُ: دَخَلَ فِي
أَجْوَافِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
(16/361)
|