البداية والنهاية، ط. دار هجر
[تَخْرِيبُ حِصْنِ بَيْتِ الْأَحْزَانِ]
ِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ صَفَدَ
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي
كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ بَنَوْهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَحَفَرُوا
فِيهِ بِئْرًا عَيْنًا مَعِينًا، وَسَلَّمُوهُ إِلَى الدَّاوِيَّةِ،
فَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ فَحَاصَرَهُ وَنَقَبَهُ مِنْ جَمِيعِ
جِهَاتِهِ، وَأَلْقَى فِيهِ النِّيرَانَ فَجَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّبَهُ
إِلَى الْأَسَاسِ، وَغَنِمَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ،
فَكَانَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ قِطْعَةٍ مِنَ السِّلَاحِ، وَمِنَ
الْمَأْكَلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ سَبْعَمِائَةِ أَسِيرٍ،
فَقَتَلَ بَعْضًا وَأَرْسَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، غَيْرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ
أُمَرَائِهِ عَشَرَةٌ بِسَبَبِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَرِّ
وَالْوَبَاءِ فِي مُدَّةِ الْحِصَارِ، وَكَانَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى زِيَارَةِ مَشْهَدِ يَعْقُوبَ عَلَى
عَادَتِهِمْ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
(16/537)
بِجَدِّكَ أَعْطَافُ الْقَنَا تَتَعَطَّفُ
... وَطَرْفُ الْأَعَادِي دُونَ مَجْدِكَ يَطْرِفُ
شِهَابُ هُدًى فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ ثَاقِبُ ... وَسَيْفٌ إِذَا مَا
هَزَّهُ اللَّهُ مُرْهَفُ
وَقَفْتَ عَلَى حِصْنِ الْمَخَاضِ وَإِنَّهُ ... لَمَوْقِفُ حَقٍّ لَا
يُوَازِيهِ مَوْقِفُ
فَلَمْ يَبْدُ وَجْهُ الْأَرْضِ بَلْ حَالَ دُونَهُ ... رِجَالٌ
كَآسَادِ الشَّرَى وَهْيَ تَزْحَفُ
وَجَرْدَاءُ سَلْهُوبٌ وَدِرْعٌ مُضَاعِفٌ ... وَأَبْيَضُ هِنْدِيٌّ
وَلَدْنٌ مُثَقَّفُ
وَمَا رَجَعَتْ أَعْلَامُكَ الصُّفْرُ سَاعَةً ... إِلَى أَنْ غَدَتْ
أَكْبَادُهَا السُّودُ تَرْجُفُ
كَبَا مِنْ أَعَالِيهِ صَلِيبٌ وَبِيعَةٌ ... وَشَادَ بِهِ دِينٌ
حَنِيفٌ وَمُصْحَفُ
صَلِيبَةُ عُبَّادِ الصَّلِيبِ وَمَنْزِلُ ... النُّزَالِ لَقَدْ
غَادَرْتَهُ وَهْوَ صَفْصَفُ
أَتَسْكُنُ أَوْطَانَ النَّبِيِّينَ عُصْبَةٌ ... تَمِينُ لَدَى
أَيْمَانِهَا وَهْيَ تَحْلِفُ
نَصَحْتُكُمُ وَالنُّصْحُ فِي الدِّينِ وَاجِبٌ ... ذَرُوا بَيْتَ
يَعْقُوبَ فَقَدْ جَاءَ يُوسُفُ
وَقَالَ آخَرُ:
هَلَاكُ الْفِرِنْجِ أَتَى عَاجِلًا ... وَقَدْ آنَ تَكْسِيرُ
صُلْبَانِهَا
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَنَا حَتْفُهَا ... لَمَا عَمَّرَتْ بَيْتَ
أَحْزَانِهَا
(16/538)
وَمِنْ كِتَابٍ فَاضِلِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ
فِي وَصْفِ هَذَا الْحِصْنِ الَّذِي خَرَّبَهُ صَلَاحُ الدِّينِ:
وَقَدْ عَرَّضُوا حَائِطَهُ إِلَى أَنْ زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ
وَقُطِعَتْ لَهُ عِظَامُ الْحِجَارَةِ ; كُلُّ فَصٍّ مِنْهَا مِنْ
سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، إِلَى مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا، وَعِدَّتُهَا
تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ حَجَرٍ، لَا يَسْتَقِرُّ الْحَجَرُ فِي
مَكَانِهِ وَلَا يَسْتَقِلُّ فِي بُنْيَانِهِ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ
دَنَانِيرَ فَمَا فَوْقَهَا، وَفِيمَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ حَشْوٌ
مِنَ الْحِجَارَةِ الضَّخْمَةِ الصُّمِّ، الْمُرْغَمِ بِهَا أُنُوفُ
الْجِبَالِ الشَّمِّ، وَقَدْ جُعِلَتْ سُقْيَتُهُ بِالْكِلْسِ الَّذِي
إِذَا أَحَاطَتْ قَبْضَتُهُ بِالْحَجَرِ مَازَجَهُ بِمِثْلِ جِسْمِهِ
وَصَاحَبَهُ بِأَوْثَقَ وَأَصْلَبَ مِنْ جِرْمِهِ، وَأَوْعَزَ إِلَى
خَصْمِهِ مِنَ الْحَدِيدِ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِهَدْمِهِ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ لِابْنِ أَخِيهِ
عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ ابْنِ أَيُّوبَ
مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ. وَأَغَارَ فِيهَا عَلَى صَفَدَ وَأَعْمَالِهَا،
فَقَتَلَ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ مُقَاتِلِيهَا وَرِجَالِهَا،
وَكَانَ فَرُّوخْشَاهْ مِنَ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ
الْمَشْهُورِينَ الْمَشْكُورِينَ فِي النِّزَالِ.
وَفِيهَا حَجَّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَعَادَ إِلَى
مِصْرَ، فَقَاسَى فِي الطَّرِيقِ أَهْوَالًا، وَلَقِيَ بَرْحًا
وَتَعَبًا وَكَلَالًا، وَكَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ حَجَّ مِنْ
مِصْرَ وَعَادَ إِلَى الشَّامِ وَلَكِنْ كَانَ أَمْرُهُ فِيهِ أَسْهَلَ
مِنْ هَذَا الْعَامِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ انْهَدَمَ بِسَبَبِهَا قِلَاعٌ
وَقُرًى، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِيهَا مِنَ الْوَرَى، وَسَقَطَ مِنْ
رُءُوسِ الْجِبَالِ صُخُورٌ كِبَارٌ، وَصَادَمَتْ بَيْنَ الْجِبَالِ
فِي الْبَرَارِي وَالْقِفَارِ، مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الْجِبَالِ مِنَ
الْأَقْطَارِ. وَفِيهَا أَصَابَ النَّاسَ غَلَاءٌ
(16/539)
شَدِيدٌ وَفَنَاءٌ شَرِيدٌ وَجُهْدٌ
جَهِيدٌ، فَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَائِقِ بِهَذَا وَهَذَا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفَاةُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَشَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ فَأَرَادَتْ زَوْجَتُهُ أَنْ تَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَمْ
يُمْكِنْهَا، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَنَهَبَتِ
الْعَوَامُّ دُورًا كَثِيرَةً، وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ خُطِبَ
لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ،
وَهُوَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا نُثِرَ الذَّهَبُ فِيهِ عَلَى الْخُطَبَاءِ
وَالْمُؤَذِّنِينَ وَمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ، عِنْدَ ذِكْرِهِ عَلَى
الْمِنْبَرِ وَالتَّنْوِيهِ بِاسْمِهِ فِي الْعَشْرِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ سَلْخُ شَوَّالٍ مَاتَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِالْحُمَّى
ابْتَدَأَ بِهَا فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ
يَتَزَايَدُ بِهِ حَتَّى اسْتَكْمَلَ فِي مَرَضِهِ شَهْرًا، فَمَاتَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ سَلْخَ شَوَّالٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعَ سِنِينَ
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ. وَدُفِنَ بِدَارِ النَّصْرِ الَّتِي بَنَاهَا،
وَذَلِكَ عَنْ وَصِيَّتِهِ الَّتِي
(16/540)
أَوْصَاهَا، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدَيْنِ ; أَحَدُهُمَا وَلِيُّ عَهْدِهِ وَهُوَ عُدَّةُ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ،
وَالْآخَرُ أَبُو مَنْصُورٍ هَاشِمُ، وَقَدْ وَزَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ، أَمَّارًا
بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَعَ عَنِ النَّاسِ
الْمُكُوسَاتِ وَالضَّرَائِبِ، وَدَرَأَ عَنْهُمُ الْبِدَعَ
وَالْمَصَائِبَ، وَكَانَ حَلِيمًا وَقُورًا كَرِيمًا، فَرَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَبَلَّ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ النَّاصِرِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ الْفَرَّاءِ، الْأُمَوِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ
فَقِيهًا بَارِعًا فَاضِلًا مُنَاظِرًا فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا
مُطَبِّقًا، تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَوْهُوبِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ، أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
الْجَوَالِيقِيِّ، الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ أَحَدُ أَئِمَّةِ
اللُّغَةِ فِي زَمَانِهِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ
أَقْرَانِهِ بِحُسْنِ الدِّينِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، وَعِلْمِ
اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَخُلُوصِ النِّيَّةِ،
وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي مُرَبَّاهُ وَمَنْشَاهُ وَمُنْتَهَاهُ، وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَفَهِمَ الْأَثَرَ وَاتَّبَعَ سَبِيلَهُ
وَمَغْزَاهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
(16/541)
الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الطَّبَّاخِ، الْبَغْدَادِيُّ، نَزِيلُ مَكَّةَ
وَمُجَاوِرُهَا، وَحَافِظُ الْحَدِيثِ بِهَا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ
بِالْعِلْمِ فِيهَا. كَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
[خِلَافَةُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
بْنِ الْمُسْتَضِيءِ]
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، بَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ
وَالْكُبَرَاءُ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَكَانَ قَدْ خُطِبَ لَهُ
عَلَى الْمَنَابِرِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ،
فَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا عَهِدَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ،
وَقِيلَ: بِأُسْبُوعٍ. وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ،
أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ اثْنَانِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ،
وَلُقِّبَ بِالْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَلِ
الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ قَبْلَهُ أَطْوَلَ مُدَّةً
مِنْهُ، فَإِنَّ خِلَافَتَهُ امْتَدَّتْ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ فِي
سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ; وَكَانَ ذَكِيًّا
شُجَاعًا مَهِيبًا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سِيرَتِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ صَاحِبُ
الْمَخْزَنِ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَطَّارِ،
وَأُهِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقُتِلَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ، وَشُهِّرُوا فِي الْبَلَدِ، وَتَمَكَّنَ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ
النَّاصِرِ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ فِي الْبِلَادِ وَفِي قُلُوبِ
الْعِبَادِ وَقَامَ
(16/542)
بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ عَلَى مَا
يَنْبَغِي فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَشُئَونِهِمْ. وَلَمَّا حَضَرَ عِيدُ
الْأَضْحَى أُقِيمَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(16/543)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا هَادَنَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ، وَسَارَ
إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَأَصْلَحَ بَيْنَ مُلُوكِهَا، مِنْ بَنِي
أُرْتُقَ، وَكَرَّ عَلَى بِلَادِ الْأَرْمَنِ فَأَهَانَ مَلِكَهَا،
وَفَتَحَ بَعْضَ حُصُونِهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ غَنَائِمَ كَثِيرَةً
جِدًّا، مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
غَدَرَ بِقَوْمٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ أَوَوْا إِلَى بِلَادِهِ، ثُمَّ
صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ وَأُسَارَى يُطْلِقُهُمْ
مِنْ أَسْرِهِ، وَآخَرِينَ يَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ،
ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَدَخَلَ حَمَاةَ فِي
أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى
ذَلِكَ.
وَمَاتَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ مَوْدُودِ
بْنِ زَنْكِيٍّ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا، مَلِيحَ الشَّكْلِ، تَامَّ
الْقَامَةِ، مُدَوَّرَ اللِّحْيَةِ، مَكَثَ فِي الْمُلْكِ عَشْرَ
سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا فِي
نَفْسِهِ، مَهِيبًا وَقُورًا، لَا يَلْتَفِتُ إِذَا رَكِبَ وَلَا إِذَا
جَلَسَ، غَيُورًا لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْخُدَّامِ يَدْخُلُ عَلَى
النِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يَقْدَمُ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُنْسَبُ
إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْبُخْلِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي ثَالِثِ صَفَرٍ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ
الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عِزِّ الدِّينِ سَنْجَرَ شَاهْ،
فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْأُمَرَاءُ خَوْفًا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ
لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَخِيهِ، فَأُجْلِسَ
مَكَانَهُ فِي الْمَمْلَكَةِ أَخُوهُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ،
وَجُعِلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ نَائِبَهُ وَمُدَبِّرَ
مَمْلَكَتِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ يَلْتَمِسُونَ مِنْ
صَلَاحِ الدِّينِ
(16/544)
أَنْ يُبْقِيَ سَرُوجَ وَالرُّهَا
وَالرَّقَّةَ، وَحَرَّانَ وَالْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ فِي يَدِهِ،
كَمَا كَانَتْ فِي يَدِ أَخِيهِ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ
ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذِهِ الْبِلَادُ هِيَ حِفْظُ ثُغُورِ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ تَرَكْتُهَا فِي يَدِهِ
لِيُسَاعِدَنَا عَلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ
فِي كَوْنِهَا بِيَدِهِ.
وَفَاةُ تُورَانْشَاهْ أَخِي السُّلْطَانِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَخُو السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ الْمَلِكُ
الْمُعَظَّمُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ، الَّذِي
افْتَتَحَ بِلَادَ الْيَمَنِ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ،
فَمَكَثَ فِيهَا حِينًا وَاقْتَنَى مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
ثُمَّ اسْتَنَابَ فِيهَا، وَأَقْبَلَ نَحْوَ أَخِيهِ إِلَى الشَّامِ
شَوْقًا إِلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
شِعْرًا عَمِلَهُ لَهُ شَاعِرُهُ ابْنُ الْمُنَجِّمِ، وَكَانُوا قَدْ
وَصَلُوا إِلَى تَيْمَاءَ
فَهَلْ لِأَخِي بَلْ مَالِكِي عِلْمُ أَنَّنِي ... إِلَيْهِ وَإِنْ
طَالَ التَّرَدُّدُ رَاجِعُ
وَإِنِّي بِيَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ لِقَائِهِ ... لَمُلْكِي عَلَى عُظْمِ
الْمَزِيَّةِ بَائِعُ
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دُونَ عِشْرِينَ لَيْلَةً ... وَتَجْنِي الْمُنَى
أَبْصَارُنَا وَالْمَسَامِعُ
لَدَى مَلِكٍ تَعْنُو الْمُلُوكُ إِذَا بَدَا ... وَتَخْشَعُ
إِعْظَامًا لَهُ وَهْوَ خَاشِعُ
(16/545)
كَتَبْتُ وَأَشْوَاقِي إِلَيْكَ
بِبَعْضِهَا ... تَعَلَّمَتِ النَّوْحَ الْحَمَامُ السَّوَاجِعُ
وَمَا الْمُلْكُ إِلَّا رَاحَةً أَنْتَ زَنْدُهَا ... تَضُمُّ عَلَى
الدَّنْيَا وَنَحْنُ الْأَصَابِعُ
وَكَانَ قُدْومُهُ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعَيْنِ، فَشَهِدَ
مَعَهُ مَوَاقِفَ مَشْهُودَةً وَغَزَوَاتٍ مَحْمُودَةً، وَاسْتَنَابَهُ
عَلَى دِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَاسْتَنَابَهُ
عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَلَمْ تُوَافِقْهُ، وَكَانَ يَعْتَرِيهِ
الْقُولَنْجُ فَمَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ فِيهَا، ثُمَّ نَقَلَتْهُ
أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ فَدَفَنَتْهُ بِتُرْبَتِهَا
الَّتِي بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَقَبْرُهُ الْقِبْلِيُّ،
وَالْوَسْطَانِيُّ قَبْرُ زَوْجِهَا وَابْنِ عَمِّهَا نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدَّيْنِ شِيرَكَوهْ، صَاحِبِ حِمْصَ
وَالرَّحْبَةِ، وَالْمُؤَخَّرُ قَبْرُهَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَأَجْزَلَ ثَوَابَهَا. وَالتُّرْبَةُ الْحُسَامِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ
إِلَى وَلَدِهَا حُسَامِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، وَهِيَ إِلَى
جَانِبِ الْمَدْرَسَةِ مِنْ غَرْبِهَا، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ
تُورَانْشَاهْ كَرِيمًا جَوَادًا شُجَاعًا بَاسِلًا عَظِيمَ
الْهَيْبَةِ كَبِيرَ النَّفْسِ، وَاسِعَ الصَّدْرِ، قَالَ فِيهِ ابْنُ
سَعْدَانَ الْحَلَبِيُّ:
هُوَ الْمَلْكُ إِنْ تَسْمَعْ بِكِسْرَى وَقَيْصَرٍ ... فَإِنَّهُمَا
فِي الْجُودِ وِالْبَأْسِ عَبْدَاهُ
وَمَا حَاتِمٌ مِمَّنْ يُقَاسُ بِمِثْلِهِ ... فَخُذْ مَا رَأَيْنَاهُ
وَدَعْ مَا رَوَيْنَاهُ
وَلُذْ بِذُرَاهُ مُسْتَجِيرًا فَإِنَّهُ ... يُجِيرُكَ مِنْ جَوْرِ
الزَّمَانِ وَعَدْوَاهُ
وَلَا تَتَحَمَّلْ لِلسَّحَائِبِ مِنَّةً ... إِذَا هَطَلَتْ جُودًا
سَحَائِبُ جَدْوَاهُ
وَيُرْسِلُ كَفَّيْهِ بِمَا اشْتَقَّ مِنْهُمَا ... فَلِلْيُمْنِ
يُمْنَاهُ وَلِلْيُسْرِ يُسْرَاهُ
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ
الدِّينِ وَهُوَ مُخَيِّمٌ
(16/546)
بِظَاهِرِ حِمْصَ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا
شَدِيدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ بَابَ الْمَرَاثِي مِنَ الْحَمَاسَةِ،
وَكَانَتْ مَحْفُوظَةً.
وَفِي رَجَبٍ قَدِمَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ وَخِلَعُهُ
وَهَدَايَا إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَبِسَ
السُّلْطَانُ خِلْعَةَ الْخَلِيفَةِ بِدِمَشْقَ، وَزُيِّنَتْ لَهُ
الْبَلَدُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي رَجَبٍ أَيْضًا مِنْهَا سَارَ السُّلْطَانُ مِنَ الشَّامِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا، وَيَصُومَ
بِهَا رَمَضَانَ، وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَحُجَّ عَامَهُ ذَلِكَ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الشَّامِ ابْنَ أَخِيهِ
عِزَّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بْنَ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَكَانَ عَزِيزَ الْمَثَلِ غَزِيرَ الْفَضْلِ.
فَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ
نَائِبِ مِصْرَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْبَقِيعِ وَمَكَّةَ
يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ السُّلْطَانِ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ
; لِيَتَأَهَّبُوا لِلْمَلِكِ وَيَهْتَمُّوا بِهِ، وَاسْتَصْحَبَ
السُّلْطَانُ مَعَهُ صَدْرَ الدِّينِ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ
الرَّحِيمِ شَيْخَ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، الَّذِي قَدِمَ فِي
الرُّسْلِيِّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ ; لِيَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَفِي صُحْبَتِهِ إِلَى الْحِجَازِ
الشَّرِيفِ، فَدَخَلَ السُّلْطَانُ دِيَارَ مِصْرَ، وَتَلَقَّاهُ
الْجَيْشُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَمَّا صَدْرُ الدِّينِ
فَإِنَّهُ لَمْ يُقِمْ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَوَجَّهَ إِلَى
الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي الْبَحْرِ، فَأَدْرَكَ الصِّيَامَ
بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ التَّقَوِيُّ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ
فَحَاصَرَ قَابِسَ وَقِلَاعًا كَثِيرَةً حَوْلَهَا، وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى أَكْثَرِهَا، فَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ أَسَرَ مِنْ بَعْضِ
الْحُصُونِ غُلَامًا أَمَرَدَ
(16/547)
فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ
الْحِصْنِ: لَا تَقْتُلْهُ وَخُذْ لَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ،
فَأَبَى فَوَصَلُوهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فَأَبَى إِلَّا
قَتْلَهُ، فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ نَزَلَ صَاحِبُ الْحِصْنِ
وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَالَ:
خُذْ هَذِهِ فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَحْفَظُهُ
مِنْ أَجْلِ هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي قَتَلْتَهُ، وَلِي أَوْلَادُ
أَخٍ أَكْرَهُ أَنْ يَمْلِكُوهُ بَعْدِي. فَأَقَرَّهُ فِيهِ، وَأَخَذَ
مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ سِلَفَةَ، الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْمُعَمَّرُ، أَبُو
طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ
لِجَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ: سِلَفَةُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَشْقُوقَ إِحْدَى
الشَّفَتَيْنِ، فَكَانَ لَهُ ثَلَاثُ شِفَاهٍ فَسَمَّتْهُ الْأَعَاجِمُ
بِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَانَ السِّلَفِيُّ
يُلَقَّبُ بِصَدْرِ الدِّينِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَرَدَ
بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَأَخَذَ
اللُّغَةَ عَنِ الْخَطِيبِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ
التَّبْرِيزِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فِي
طَلَبِهِ إِلَى الْآفَاقِ، ثُمَّ نَزَلَ ثَغْرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبَنَى لَهُ الْعَادِلُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ السَّلَّارِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ
الظَّافِرِ مَدْرَسَةً، وَفَوَّضَ أَمْرَهَا إِلَيْهِ، فَهِيَ
مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَأَمَالِيهِ
وَتَعَالِيقُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِيمَا ذَكَرَ
الْمِصْرِيُّونَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ
(16/548)
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَنَقَلَ الْحَافِظُ
عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَذْكُرُ
مَقْتَلَ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَأَنَا ابْنُ عَشَرٍ تَقْرِيبًا.
وَنَقَلَ أَبُو الْحَافِظِ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفْرَاوِيُّ أَنَّهُ
قَالَ: مَوْلِدِي بِالتَّخْمِينِ لَا بِالْيَقِينِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَسَبْعَيْنِ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ عُمْرِهِ ثَمَانِيًا وَتِسْعِينَ
سَنَةً ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَبِيعٍ
الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِثَغْرِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدُفِنَ بِوَعْلَةَ، وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ
الصَّالِحِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ
خَلِّكَانَ قَوْلَ الصَّفْرَاوِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا مِنْ
نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ أَنَّ أَحَدًا جَاوَزَ الْمِائَةَ إِلَّا
الْقَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ
تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " تَرْجَمَةً
حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ بِخَمْسِ سِنِينَ،
فَذَكَرَ رِحْلَتَهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَدَوَرَانَهُ فِي
الْأَقَالِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَصَوَّفُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَقَامَ
بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ذَاتَ يَسَارٍ،
فَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ مَدْرَسَةً هُنَاكَ، وَذَكَرَ
طَرَفًا مِنْ أَشْعَارِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى:
أَنَأْمَنُ إِلْمَامَ الْمَنِيَّةِ بَغْتَةً ... وَأَمْنُ الْفَتَى
جَهْلٌ وَقَدْ خَبَرَ الدَّهْرَا
وَلَيْسَ يُحَابِي الدَّهْرُ فِي دَوَرَانِهِ ... أَرَاذِلَ أَهْلِيهِ
وَلَا السَّادَةَ الزُّهْرَا
وَكَيْفَ وَقَدْ مَاتَ النَّبِيُّ وَصَحْبُهُ ... وَأَزْوَاجُهُ طُرًّا
وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَا
(16/549)
وَمِنْ شِعْرِ الْحَافِظِ السِّلَفِيِّ
الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ قَوْلُهُ:
يَا قَاصِدًا عِلْمَ الْحَدِيثِ يَذُمُّهُ ... إِذْ ضَلَّ عَنْ طُرُقِ
الْهِدَايَةِ وَهْمُهُ
إِنَّ الْعُلُومَ كَمَا عَلِمْتَ كَثيرَةٌ ... وَأَجَلُّهَا فِقْهُ
الْحَدِيثِ وَعِلْمُهُ
مَنْ كَانَ طَالِبَهُ وَفِيهِ تَيَقُّظٌ ... فَأَتَمُّ سَهْمٍ فِي
الْمَعَالِي سَهْمُهُ
لَوْلَا الْحَدِيثُ وَأَهْلُهُ لَمْ يَسْتَقِمْ ... دِينُ النَّبِيِّ
وَشَذَّ عَنَّا حُكْمُهُ
وَإِذَا اسْتَرَابَ بِقَوْلِنَا مُتَحَذْلِقٌ ... فَأَكَلُّ فَهْمٍ فِي
الْبَسِيطَةِ فَهْمُهُ
(16/550)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
اسْتُهِلَّتْ وَالْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ مُقِيمٌ
بِالْقَاهِرَةِ، مُوَاظِبٌ عَلَى سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ، وَجَاءَ
كِتَابٌ مِنْ نَائِبِهِ بِالشَّامِ عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بِمَا
مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ كَثْرَةِ وِلَادَةِ
النِّسَاءِ بِالتَّوَائِمِ ; جَبْرًا لِمَا كَانَ أَصَابَهُمْ فِي
الْعَامِ الْمَاضِي مِنَ الْوَبَاءِ وَالْفَنَاءِ، وَأَنَّ الشَّامَ
مُخْصِبٌ بِإِذْنِ اللَّهِ ; جَبْرًا لِمَا كَانَ أَصَابَهُمْ مِنَ
الْجَدْبِ وَالْغَلَاءِ.
وَفِي شَوَّالٍ تَوَجَّهَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَشَاهَدَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحْصِينِ
سُورِهَا وَعِمَارَةِ أَبْرَاجِهَا وَقُصُورِهَا، وَسَمِعَ " مُوَطَّأَ
الْإِمَامِ مَالِكٍ " عَلَى الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ
الطَّرْطُوشِيِّ، وَسَمِعَ مَعَهُ الْعِمَادَ الْكَاتِبَ، وَأَرْسَلَ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ إِلَى السُّلْطَانِ رِسَالَةً يُهَنِّئُهُ
بِهَذَا السَّمَاعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ وَمَا جَرَى بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ بِقَلْعَةِ حَلَبَ
(16/551)
وَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ
- فِيمَا قِيلَ - أَنَّ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ
جَنْدَرٍ سَقَاهُ سُمًّا فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ فِي الصَّيْدِ، وَقِيلَ:
بَلْ سَقَاهُ يَاقُوتُ الْأَسَدِيُّ فِي شَرَابٍ. وَقِيلَ: فِي
خُشْكَنَانْجَةَ. فَاعْتَرَاهُ قُولَنْجٌ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى
مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ، بَهِيُّ
الْمَنْظَرِ، وَلَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَعِفِّ
الْمُلُوكِ، وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَصَفَ لَهُ
الْأَطِبَّاءُ فِي مَرَضِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَاسْتَفْتَى بَعْضَ
الْفُقَهَاءِ فِي شُرْبِهَا تَدَاوِيًا، فَأَفْتَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ: أَيُزِيدُ شُرْبُهَا فِي أَجَلِي، أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ شَيْئًا؟
قَالَ: لَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا فَأَلْقَى اللَّهَ
وَقَدْ شَرِبْتُ مَا حَرَّمَهُ عَلَيَّ. وَلَمَّا يَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ
اسْتَدْعَى الْأُمَرَاءَ، فَحَلَّفَهُمْ لِابْنِ عَمِّهِ عِزِّ
الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ ; لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ
وَتُمَكُّنِهِ ; لِيَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَخَشِيَ أَنْ
يُبَايِعَ لِابْنِ عَمِّهِ الْآخَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ،
صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ وَتَرْبِيَةُ وَالِدِهِ،
فَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا مَاتَ
اسْتَدْعَى الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ قُطْبِ
الدِّينِ، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَ حَلَبَ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَذَلِكَ فِي
الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَتَسَلَّمَ خَزَائِنَهَا
وَحَوَاصِلَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ السِّلَاحِ، وَكَانَ تَقِيُّ
الدِّينِ عَمُّهُ بِمَدِينَةِ مَنْبِجَ فَهَرَبَ إِلَى حَمَاةَ،
فَوَجَدَ أَهْلَهَا قَدْ نَادَوْا بِشِعَارِ عِزِّ الدِّينِ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ وَأَطْمَعَ الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي
أَخْذِ دِمَشْقَ ; لِغَيْبَةِ صَلَاحِ الدِّينِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَأَعْلَمُوهُ مَحَبَّةَ أَهْلِ الشَّامِ لِهَذَا
الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ، فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَيْمَانٌ
وَعُهُودٌ، وَأَنَا أَغْدِرُ بِهِ! فَأَقَامَ بِحَلَبَ شُهُورًا،
وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ
(16/552)
الْمَلِكِ الصَّالِحِ فِي شَوَّالٍ، ثُمَّ
سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَنَزَلَهَا، وَجَاءَتْهُ رُسُلُ أَخِيهِ
عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَايِضَهُ مِنْ
حَلَبَ إِلَى سِنْجَارَ، وَأَلَحَّ فِي ذَلِكَ، وَتَمَنَّعَ أَخُوهُ
ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ
وَسَلَّمَهُ عِمَادُ الدِّينِ سِنْجَارَ وَالْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ
وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ.
وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ
رَكِبَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي عَسَاكِرِهِ، فَسَارَ
حَتَّى أَتَى الْفُرَاتَ فَعَبَرَهَا، وَخَامَرَ إِلَيْهِ بَعْضُ
أُمَرَاءِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ فَتَقَهْقَرَ عَنْ لِقَائِهِ،
فَاسْتَحْوَذَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ
بِكَمَالِهَا، وَهُمْ بِمُحَاصَرَةِ الْمَوْصِلِ فَلَمْ يَتَّفِقْ
ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ عِمَادِ
الدِّينِ زَنْكِيٍّ ; لِضِعْفِهِ عَنْ مُمَانَعَتِهَا ; لِقِلَّةِ مَا
تَرَكَ فِيهَا عِزُّ الدِّينِ مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَآلَاتِ الْقِتَالِ،
وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ الْكَرَكِ لَعَنَهُ
اللَّهُ، عَلَى قَصْدِ تَيْمَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ;
لِيَتَوَصَّلَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَجُهِّزَتْ
لَهُ سَرِيَّةٌ مِنْ دِمَشْقَ تَكُونُ حَاجِزَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْحِجَازِ، فَصَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ قَصْدِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ سَيْفَ
الْإِسْلَامِ ظَهِيرَ الدِّينِ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ نِيَابَةَ
الْيَمَنِ فَمَلَّكَهُ عَلَيْهَا، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ
لِاخْتِلَافِ نُوَّابِهَا وَاضْطِرَابِ أَصْحَابِهَا، بَعْدَ وَفَاةِ
الْمُعَظَّمِ تُورَانْشَاهْ أَخِي السُّلْطَانِ الَّذِي كَانَ
افْتَتَحَهَا، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ بِهَا، وَكَثُرَ
التَّخْلِيطُ وَالتَّخْبِيطُ، سَمَتْ نَفْسُ أَخِيهِ طُغْتِكِينَ
إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَهُ أَخُوهُ إِلَيْهَا وَوَلَّاهُ عَلَيْهَا،
فَسَارَ فَوَصَلَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، فَسَارَ فِيهَا
أَحْسَنَ سِيرَةٍ، وَأَكْمَلَ بِهَا الْمَعْدَلَةَ وَالسَّرِيرَةَ،
وَاحْتَاطَ عَلَى أَمْوَالِ حَطَّانِ بْنِ مُنْقِذٍ نَائِبِ زَبِيدَ
وَكَانَتْ تُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَمَّا
نَائِبُ عَدَنَ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ الزَّنْجِيلِيُّ فَإِنَّهُ
خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ قُدُومِ طُغْتِكِينَ
(16/553)
فَسَكَنَ الشَّامَ وَلَهُ أَوْقَافٌ
مَشْهُورَةٌ بِالْيَمَنِ وَمَكَّةَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَدْرَسَةُ
الزَّنْجِيلِيَّةُ، خَارِجَ بَابِ تُومَا، تُجَاهَ دَارِ الطَّعْمِ،
وَكَانَ قَدْ حَصَّلَ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا.
وَفِيهَا غَدَرَتِ الْفِرِنْجُ وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ، وَقَطَعُوا
السُّبُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَسِرًّا وَجَهْرًا،
فَأَمْكَنَ اللَّهُ مِنْ بُطْسَةٍ عَظِيمَةٍ لَهُمْ فِيهَا نَحْوٌ مِنْ
أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ نَفْسٍ مِنْ رِجَالِهِمُ الْمَعْدُودِينَ
فِيهِمْ، أَلْقَاهَا الْمَوْجُ إِلَى ثَغْرِ دِمْيَاطَ قَبْلَ خُرُوجِ
السُّلْطَانِ مِنْ مِصْرَ، فَأُحِيطَ بِهَا فَغَرِقَ بَعْضُهُمْ
وَحَصَلَ فِي الْأَسْرِ نَحْوُ أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ مِنْهُمْ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَفَتَحَ
بِلَادًا كَثِيرَةً، وَقَاتَلَ عَسْكَرَ ابْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ هُنَاكَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِ
تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ
بِأَنْ يُتِمَّ السُّورَ الْمُحِيطَ بِالْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ، وَذَلِكَ
قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ
عَهْدِهِ بِهَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَ أَنْ
أَرَاهُ اللَّهُ مُنَاهُ قَبْلَ حُلُولِ الْوَفَاةِ، فَأَقَرَّ
عَيْنَهُ مِنْ أَعْدَاهُ، وَفَتَحَ عَلَى يَدِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
وَمَا حَوْلَهُ وَمَا حَوَاهُ، وَلَمَّا خَيَّمَ بَارِزًا مِنْ مِصْرَ،
أَحْضَرَ أَوْلَادَهُ حَوْلَهُ فَجَعَلَ يَشُمُّهُمْ وَيُقَبِّلُهُمْ
وَيَضُمُّهُمْ، فَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ ... فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ
مِنْ عَرَارِ
فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَمْ يَعُدْ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَذَا
الْعَامِ، بَلْ كَانَ مُقَامُهُ بِالشَّامِ.
(16/554)
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ
لِلسُّلْطَانِ وَلَدَانِ ; وَهُمَا الْمُعَظَّمُ تُورَانْشَاهْ،
وَالْمَلِكُ الْمُحْسِنُ أَحْمَدُ، وَكَانَ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا
سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ وَاسْتَمَرَّ الْفَرَحُ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ كَمَالُ الدَّيْنِ أَبُو الْبَرَكَاتِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّعَادَاتِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ
النَّحْوِيُّ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ الْخَاشِعُ
الْوَرِعُ، كَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا
وَلَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يَحْضُرُ نَوْبَةَ الصُّوفِيَّةِ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ جَوَائِزِ الْخَلِيفَةِ
لَهُمْ وَلَا فَلْسًا. وَكَانَ صَابِرًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَلَهُ
تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ لَهُ كِتَابُ " أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ " مُفِيدٌ جِدًّا،
وَكِتَابُ " طَبَقَاتِ النُّحَاةِ " مُفِيدٌ جِدًّا أَيْضًا، وَكِتَابُ
" الْمِيزَانِ فِي النَّحْوِ " أَيْضًا.
(16/555)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ كَانَ بُرُوزُ السُّلْطَانِ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ ; لِمُنَاجَزَةِ
الْأَعْدَاءِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ
آخِرَ عَهْدِهِ بِمِصْرَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ
أَغَارَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى أَطْرَافِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِأَرْضِ
الْكَرَكِ وَجَعَلَ أَخَاهُ تَاجَ الْمُلُوكِ بُورِي بْنَ أَيُّوبَ
عَلَى الْمَيْمَنَةِ يَسِيرُ نَاحِيَةً عَنْهُ ; لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ
بِلَادِ الْعَدُوِّ فَالْتَقَوْا عَلَى الْأَزْرَقِ بَعْدَ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ، وَقَدْ أَغَارَ نَائِبُ دِمَشْقَ عِزُّ الدِّينِ
فَرُّوخْشَاهْ عَلَى بِلَادِ طَبَرِيَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَافْتَتَحَ
حُصُونًا جَيِّدَةً، وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَلْفًا، وَغَنِمَ عِشْرِينَ
أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ الْأَنْعَامِ، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَكَانَ
دُخُولُ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ ثُمَّ
خَرَجَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلَ
مَعَ الْفِرِنْجِ فِي نَوَاحِي طَبَرِيَّةَ وَبَيْسَانَ تَحْتَ حِصْنِ
كَوْكَبٍ، فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنْ كَانَتِ
الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ وَعَسَاكِرِهِ قَاصِدًا
حَلَبَ وَبِلَادَ الشَّرْقِ لِيَأْخُذَهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَوَاصِلَةَ وَالْحَلَبِيِّينَ قَدْ كَاتَبُوا الْفِرِنْجَ حَتَّى
يَغْزُوَا عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ ; لِيَشْغَلُوا النَّاصِرَ
بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، فَكَانَ مَسِيرُهُ عَلَى بِلَادِ الْبِقَاعِ
ثُمَّ إِلَى حَمَاةَ ثُمَّ إِلَى حَلَبَ فَحَاصَرَهَا ثَلَاثًا،
وَرَأَى الْعُدُولَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا أَوْلَى بِهِ،
(16/556)
فَسَارَ حَتَّى قَطَعَ الْفُرَاتَ،
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَالْخَابُورَ وَحَرَّانَ
وَالرُّهَا وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَخَضَعَتْ
لَهُ الْمُلُوكُ هُنَالِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا
مِنْ صَاحِبِهَا عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ وَقَدْ كَانَ قَايَضَ
أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا بِهَا إِلَى سِنْجَارَ، كَمَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَاسْتَوْسَقَتْ لَهُ
الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبُعْدًا وَقُرْبًا، وَتَمَكَّنَ
حِينَئِذٍ مِنْ قِتَالِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ - وَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ، فَلَهُ الْحَمْدُ
عَلَى مَا أَوْلَاهُ.
فَصْلٌ
وَلَمَّا عَجَزَ إِبْرَنْسُ الْكَرَكِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - عَنْ
إِيصَالِ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْبَرِّ، عَمِلَ مَرَاكِبَ فِي
بَحْرِ الْقُلْزُمِ ; لِيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى التُّجَّارِ
وَالْحُجَّاجِ، فَوَصَلَتْ أَذِيَّتُهُمْ إِلَى عَيْذَابَ، وَخَافَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَأَمَرَ
الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ - نَائِبُ مِصْرَ الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينِ
- لُؤْلُؤًا صَاحِبَ الْأُسْطُولِ أَنْ يَعْمَلَ مَرَاكِبَهُ فِي
بَحْرِ الْقُلْزُمِ لِمُحَارَبَةِ أَصْحَابِ إِبْرَنْسَ، فَفَعَلَ
ذَلِكَ فَظَفِرُوا بِهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
وَحَرَّقُوا وَغَرَّقُوا وَسَبَوْا وَقَهَرُوا وَأَسَرُوا فِي
مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَمَوَاقِفَ هَائِلَةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَمِنَ
الْبَرُّ وَالْبَحْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ
وَالضُّرُّ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى أَخِيهِ يَشْكُرُ مِنْ
مَسَاعِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ يُعَرِّفُهُمْ
بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفُتُوحَاتِ بَرًّا وَبَحْرًا،
وَبِمَا هُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهِ مِنْ أَنْعُمِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ
سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(16/557)
فَصْلٌ فِي وَفَاةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
عِزِّ الدِّينِ
فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ
وَنَائِبِ دِمَشْقَ لِعَمِّهِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ
وَالِدُ الْمَلِكِ الْأَمْجَدِ بَهْرَامْ شَاهْ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ
أَيْضًا بَعْدَ أَبِيهِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَدْرَسَةُ
الْفَرُّوخْشَاهِيَّةُ بِالشَّرْقِ الشَّمَالِيِّ، وَإِلَى جَانِبِهَا
التُّرْبَةُ الْأَمْجَدِيَّةُ لِوَلَدِهِ، وَهُمَا وَقْفٌ عَلَى
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فَرُّوخْشَاهْ شَهْمًا
شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا ذَكِيًّا فَاضِلًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا،
امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ لِجُودِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَكَانَ
مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي الْيُمْنِ
الْكِنْدِيِّ، عَرَفَهُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ لَهُ،
وَلِلْعِمَادِ الْكَاتِبِ فِيهِ مَدَائِحُ بَدَائِعُ، وَلَهُ هُوَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، شِعْرٌ رَائِقٌ لَطِيفٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
أَنَا فِي أَسْرِ السِّقَامِ ... مِنْ هَوَى هَذَا الْغُلَامِ
رَشَأٌ تَرْشُقُ عَيْنًا ... هُ فُؤَادِي بِسِهَامِ
كُلَّمَا أَرْشَفَنِي فَا ... هُ عَلَى حَرِّ الْأُوَامِ
ذُقْتُ مِنْهُ الشَّهْدَ فِي الثَّلْ ... جِ الْمُصَفَّى فِي
الْمُدَامِ
وَكَانَ ابْنُهُ الْمَلِكُ الْأَمْجَدُ شَاعِرًا جَيِّدًا أَيْضًا،
وَقَدْ وَلَّاهُ عَمُّ أَبِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ بَعْدَ
أَبِيهِ، وَاسْتَمَرَّ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَمِنْ مَحَاسِنِ
الْمَنْصُورِ عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ صُحْبَتُهُ لِتَاجِ
الدَّيْنِ الْكِنْدِيِّ، وَلَهُ فِي الْكِنْدِيِّ مَدَائِحُ، وَقَدْ
أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْتَقْصًى فِي "
الرَّوْضَتَيْنِ " ; وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا
(16/558)
إِلَى الْحَمَّامِ فَرَأَى رَجُلًا كَانَ
يَعْرِفُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْحَالُ
حَتَّى إِنَّهُ تَسَتَّرَ بِبَعْضِ يَدَيْهِ حَتَّى لَا يَبْدُوَ
جِسْمُهُ، فَرَقَّ لَهُ وَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَنْقُلَ بَقُجَّةً
وَبِسَاطًا إِلَى مَوْضِعِ الرَّجُلِ، وَأَحْضَرَ بِهِ بَغْلَةً
وَأَلْفَ دِينَارٍ وَتَوْقِيعًا لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِعِشْرِينَ
دِينَارًا، فَدَخَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَفْقَرِ النَّاسِ، وَخَرَجَ
وَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْأَجْوَادِ
الْأَكْيَاسِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّفَاعِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرِّفَاعِيِّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ
الْأَحْمَدِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ الْبَطَائِحِيَّةِ لِسُكْنَاهُ
أُمَّ عَبِيدَةَ مِنْ قُرَى الْبَطَائِحِ وَهِيَ بَيْنَ الْبَصْرَةِ
وَوَاسِطٍ، كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَرَبِ فَسَكَنَ هَذِهِ الْبِلَادَ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ حَفِظَ "
التَّنْبِيهَ " فِي الْفِقْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِأَتْبَاعِهِ أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ مِنْ
أَكْلِ الْحَيَّاتِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَالنُّزُولِ فِي التَّنَانِيرِ
وَهِيَ تَضْطَرِمُ، فَيُطْفِئُونَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ فِي
بِلَادِهِمْ يَرْكَبُونَ الْأُسْوَدَ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلشَّيْخِ
أَحْمَدَ عَقِبٌ، وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِأَخِيهِ، وَذُرِّيَّتُهُ
يَتَوَارَثُونَ الْمَشْيَخَةَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ. وَقَالَ: وَمِنْ
شِعْرِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ، عَلَى مَا قِيلَ:
إِذَا جَنَّ لَيْلِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِكُمْ ... أَنُوحُ كَمَا
نَاحَ الْحَمَامُ الْمُطَوَّقُ
(16/559)
وَفَوْقِي سَحَابٌ يُمْطِرُ الْهَمَّ
وَالْأَسَى ... وَتَحْتِي بِحَارٌ بِالْأَسَى تَتَدَفَّقُ
سَلُوا أُمَّ عَمْرٍو كَيْفَ بَاتَ أَسِيرُهَا ... تُفَكُّ الْأُسَارَى
دُونَهُ وَهْوَ مُوثَقُ
فَلَا هُوَ مَقْتُولٌ فَفِي الْقَتْلِ رَاحَةٌ ... وَلَا هُوَ
مَمْنُونٌ عَلَيْهِ فَيُطْلَقُ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا ... وَمِنْ كُلِّ مَنْ
يَدْنُو إِلَيْهَا وَيَنْظُرُ
وَأَحْذَرُ لِلْمِرْآةِ أَيْضًا بِكَفِّهَا ... إِذَا نَظَرَتْ مِنْكِ
الَّذِي أَنَا أَنْظُرُ
قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
خَلَفُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ بَشْكُوَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْقُرْطُبِيُّ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ
الْمُؤَرِّخُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، لَهُ كِتَابُ " الصِّلَةِ "
جَعَلَهُ ذَيْلًا عَلَى تَارِيخِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ الْفَرَضِيِّ،
وَلَهُ كِتَابُ " الْمُسْتَغِيثِينَ بِاللَّهِ "، وَلَهُ مُجَلَّدٌ فِي
تَعْيِينِ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فِي الرِّوَايَاتِ عَلَى
طَرِيقَةِ الْخَطِيبِ، وَأَسْمَاءِ مَنْ رَوَى " الْمُوَطَّأَ "، عَلَى
حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، بَلَغُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ.
(16/560)
الْعَلَّامَةُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو
الْمَعَالِي
مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ النَّيْسَابُورِيُّ،
تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى صَاحِبِ الْغَزَالِيِّ، قَدِمَ
دِمَشْقَ وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ وَالْمُجَاهِدِيَّةِ،
وَبِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ نُورِ الدِّينِ وَأَسَدِ الدِّينِ، ثُمَّ
بِهَمَذَانَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ وَدَرَّسَ
بِالْغَزَّالِيَّةِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمَذْهَبِ،
وَمَاتَ بِهَا فِي سَلْخِ رَمَضَانَ يَوْمَ الْعِيدِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
وَعَنْهُ أَخَذَ الْفَخْرُ بْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي
صَلَّى عَلَى الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
(16/561)
|