فتوح الشام
معركة اجنادين
قال الواقدي: فلما اصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب أصحابه لاهبة
الحرب فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال: يا معاشر العرب أريد
أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين
وحقن الدماء بينهما قال فخرج إليه خالد بن الوليد فقال له الفارس: إن
وردان يريد أن تنتظره حتى تتكلم معه فقال خالد: السمع والطاعة ارجع
واخبره فعند ذلك خرج وردان وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج فقال
خالد: عندما رآه هذه غنيمة للمسلمين أن شاء الله تعالى قال فلما نظر
عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما وقد جعل عدو
الله سيفه على فخذه فقال له خالد: قل: ما تشاء واستعمل الصدق والزم
طريق الحق واعلم إنك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل فقال: ما تريد
فقال وردان يا خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الأمر بيني وبينكم فإن
كنت تطلب منا شيئا فلا نبخل به عليك صدقة منا عليكم لاننا ليس عندنا
امة اضعف منكم وقد علمنا إنكم كنتم في بلاد قحط وجوع تموتون جوعا فاقنع
منا بالقليل وارحل عنا فلما سمع منه خالد هذا الكلام قال له: يا كلب
الروم أن الله عز وجل اغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم
نتقاسهما بيننا وأحل لنا نساءكم واولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا
الله محمد رسول الله وأن ابيتم فالحرب بيننا وبينكم أو الجزية عن يد
وانتم صاغرون وبالله اقسم أن الحرب اشهى لنا من الصلح أما قولك يا عدو
الله لم تكن امة اضعف منا عندكم فانتم عندنا بمنزلة الكلاب وأن الواحد
منا يلقي الفا منكم بعون الله تعالى وما هذا خطاب من يطلب الصلح فإن
كنت ترجو أن تصل إلى بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما تريد.
قال فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن يجرد سيفه
وتشابكا وتقابضا وتعانقا قال فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال
لأصحابه: بادروا الآن الصليب قد مكنني من أمير العرب فما استم كلامه
حتى بادر إليه الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور وقد رموا
النشاب عنهم وجردوا سيوفهم وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه
وهو يزأر كالاسد وأصحابه من ورائه فالتفت عدو الله ونظر إلى القوم وهم
يتسابقون إليه وهو يظن إنهم قومه حتى إنهم وصلوا إليه ونظر.
(1/59)
في أوائلهم
ضرار بن الأزور فقال لخالد سألتك بحق معبودك أن تقتلني أنت بيدك ولا
تدع هذا الشيطان يقتلني فقال خالد: هو قاتلك لا محالة فهز ضرار سيفه
وقال: يا عدو الله اين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال خالد: اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ثم وصل إليه أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فهزوا سيوفهم في وجهه ومرادهم أن يقتلوه ونظر
عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير باصبعه الأمان الأمان
فقال لخالد: يا عدو الله لا نعطي الأمان إلا لاهل الأمان وانت اظهرت
لنا المكر والخديعة {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]
فلما سمع ضرار كلام خالد لم يمهله دون أن ضربه على عاتقه فخرج السيف
يلمع من علائقه ثم أخذ التاج من على رأسه وقال: من سبق إلى شيء كان
أولى به وقد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه اربا اربا وتبادروا إلى سيفه
فأخذوه ثم أن خالدا قال لأصحابه: إني أريد أن تحملوا على الروم لانهم
مشتاقون إلى أصحابهم قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر
الروم فلما وصل خالد الصفوف نادى يا اعداء الله هذا راس صاحبكم وردان
أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه رمى
الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون وحمل أبو عبيدة وقال احملوا يا أهل
القرآن وحفاظ الدين وحماة المسلمين فلما رأى الروم رأس وردان ولوا
الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى
الغروب قال عامر بن الطفيل الدوسي كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع
المنهزمين إلى طريق غزة إذ اشرف علينا خيل فظننا إنها نجدة من عند
الملك هرقل فأخذنا على أنفسنا وإذا بالغبرة قد قربت منا فإذا هي عسكر
من ارسلها أبو بكر الصديق وما رأواأحدا من المنهزمين إلا قتلوه ونهبوا
ما معه.
قال الواقدي: وكان الروم بأجنادين تسعين الفا فقتل منهم في ذلك اليوم
خمسون الفا وتفرق من بقى منهم فمنهم من انهزم إلى دمشق ومنهم من انهزم
إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها واخذوا منهم صلبان
الذهب والفضة فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال
خالد: لست اقسم عليكم شيئا إلا بعد فتح دمشق أن شاء الله تعالى وكانت
الوقعة باجنادين ليلة ست خلت من جمادي الأول سنة ثلاث عشرة من الهجرة
النبوية وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة ثم أن خالدا رضي الله
عنه كتب كتابا إلى أبي بكر يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد
بن الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك
أما بعد فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم وازيد حمدا وشكرا على المسلمين ودمارا على المتكبرين
المشركين وانصداع بيعتهم وأنا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم
وتقاسموا بدينهم أن لا يفروا ولا ينهزموا فخرجنا إليهم واستعنا بالله
عز وجل متوكلين على الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر وكتب الله
على اعدائنا القهر فقاتلناهم في كل واد وسبسب وجملة منأحصيناهم ممن قتل
من المشركون خمسون.
(1/60)
ألفا وقتل من
المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة وخمسون رجلا ختم الله لهم
بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على
عشرون والباقي من اخلاط الناس ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس
لليلتين خلتا من جمادي الاخر ونحن راجعون إلى دمشق أن شاء الله تعالى
فادع لنا بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته
وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الرحمن بن حميد وامره بالمسير إلى المدينة
المنورة على ساكنها افضل الصلاة واتم السلام وسار خالد بالمسلمين طالب
دمشق.
قال الواقدي: رحمة الله عليه ولقد بلغني أن أبا بكر الصديق كان يخرج كل
يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد فلما رآه تسابقت إليه
أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت قال من الشام وأن الله قد نصر المسلمين
فسجد أبو بكر الصديق لله شكرا وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر
وقال: يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك هالمسلمين فرفع
أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهرا
فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس
من كل مكان فقرأه أبو بكر ثاني مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز
واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم
فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر وأقبل إلى المدينة
من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق بن
وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب
بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن
الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم
حقائد وضغائن والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى
وهم على كفرهم وارادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ونحن مع ذلك نقول ليس مع الله غالب فلما أن أعز الله ديننا
ونصر شريعتنا اسلموا خوفا من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا
على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين
والصواب أن لا نقربهم فقال أبو بكر لا أخالف لك قولا ولا أعصى لك أمرا
قال: وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا بجمعهم إلى أبي
بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما
فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره وعلي بن أبي طالب عن
يمينه والناس حوله فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه وجلسوا بين
يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلاما فكان أول من تكلم أبو سفيان بن
حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر كنت لنا مبغضا في الجاهلية
فلما هدانا الله تعالى إلى الإسلام هدمنا ما كان لك في قلوبنا لأن
الإيمان يهدم الشرك وأنت بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن
الخطاب قديما وحديثا أما أن لك أن تغسل ما بقلبك من الحقد.
(1/61)
والتنافر وأنا
لنعلم إنك أفضل منا وأسبق في الإيمان والجهاد ونحن عارفون بمرتبتكم غير
منكرين قال فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا الكلام فقال أبو سفيان
إني اشهدكم إني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات مكة فقال
أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يوملون وأجزهم باحسن ما يعملون وأرزقهم
النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
قال الواقدي: فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن
معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن
الاشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله
وكان مالك يحب سيدنا عليا وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام.
(1/62)
كتاب أبو بكر إلى خالد
قال الواقدي: واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف فلما تم امرهم كتب أبو بكر
كتابا إلى خالد بن الوليد يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد ومن معه من
المسلمين أما بعد فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيكم وآمركم بتقوى الله في السر والعلانية
وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين من النصر وهلاك الكافرين وأخبرك
أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر
إلى حمص وانطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله
وبركاته وقد تقدم إليك ابطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك بن معد يكرب
الزبيدي ومالك بن الاشتر وانزل على المدينة العظمى انطاكية فإن بها
الملك هرقل فإن صالحك فصالحه وأن حاربك فحاربه ولا تدخل الدروب وأقول
هذا وأن الأجل قد قرب ثم كتب: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل
عمران: 185] ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن وقال له: أنت
كنت الرسول من الشام وانت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته
يطوي المنازل والمناهل إلى أن وصل إلى دمشق.
قال حدثني نافع بن عميرة قال لما بعث خالد بن الوليد الكتاب إلى أبي
بكر الصديق ارتحل يريد دمشق وكان أهلها قد سمعوا بقتل بطريقهم وابطالهم
وانهزام جيوشهم ومن أرسلهم الملك بأجنادين فخافوا وتحصنوا بدمشق واعدوا
آلة الحصار ورفعوا السيوف والطوارق وعلوا على الاسوار ونشروا الأعلام
والصلبان فلما أخذوا على أنفسهم اشرف عليهم الأمير خالد بن الوليد
والجيش قد زاد عمرو بن العاص في تسعة.
(1/62)
آلاف ويزيد بن
أبي سفيان في الفين وشرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة في ألفين وأقبل
السواد من ورائهم معاذ بن جبل في الفين فلما رأى أهل دمشق عسكر
المسلمين مثل البحر الزاخر ايقنوا بالهلاك وأقبل خالد في جيش الزحف
فنزل على الدير المعروف به وبينه وبين المدينة أقل من ميل فلما نزل
هناك دعا بالأمراء فاحضرهم فقال لأبي عبيدة: أنت تعلم ما ظهر لنا من
غدر هؤلاء القوم عند انصرافنا عنهم وخروجهم في أثرنا فامض بمن معك من
أصحابك وانزل بهم على باب الجابية ولا تسمح للقوم بالأمان فيأخذوك
بمكرهم ولتكن متباعدا عن الباب وابعث إليهم فوجا بعد فوج واجعل قتال
الناس دولا ولا يضق صدرك من كثرة المقام ولا تبرح من مكانك واحذر من
القوم الكافرين فقال أبو عبيدة: حبا وكرامة ثم إنه خرج حتى نزل بباب
الجابية ونصب له بيتا من الشعر بالبعد من الباب.
(1/63)
حول دمشق
قال الواقدي: حدثني مسلمة بن عوف عن سالم بن عبد الله عن حجاج الأنصاري
قال قلت لجدي رفاعة بن عاصم وكان ممن قاتل بدمشق وكان في خيل أبي عبيدة
فقلت: يا جداه ما منع أبا عبيدة أن ينصب له قبة من بعض قبب الروم مما
أخذه من اجنادين ومن بصرى فقد كان عندهم الوف من ذلك فقال: يا بني
منعهم من ذلك التواضع ولم يتنافسوا في زينة الدنيا وملكها حتى ينظر
الروم إنهم لا يقاتلون طلبا للملك وإنما يقاتلون رجاء ثواب الله تعالى
وطلب الاخرة ونصرة للدين ولقد كنا ننزل فننصب خيامنا وخيام الروم
بالبعد قال فلما نزل أبو عبيدة على باب الجابية أمر أصحابه بالقتال ثم
أن خالدا استدعى بيزيد بن أبي سفيان وقال له: يا يزيد خذ صاحبك وانزل
على الباب الصغير واحفظ قومك وأن خرج إليكأحد لا يكون لك به طاقة فابعث
الي حتى انجدك أن شاء الله تعالى ثم استدعى بشرحبيل بن حسنة كاتب وحي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: انزل على باب توما ثم توجه
بقومه واستدعى بعمرو بن العاص وأمره أن يسير إلى باب الفراديس ثم
استدعي بعده بقيس بن هبيرة وقال له: اذهب بقومك إلى باب الفرج ثم نزل
خالد إلى الباب الشرقي ودعا بضرار بن الأزور رضي الله عنه وضم إليه
ألفي فارس وقال له: تطوف حول المدينة بعسكرك وأن دهمك أمر أو لاحت لك
عيون القوم فأرسل إلينا قال ثم سار ضرار واتبعه قومه وبقي خالد على
الباب الشرقي ثم قدم عبد الرحمن بن حميد من المدينة بكتاب أبي بكر
الصديق رضي الله عنه وعدل إلى ناحية خالد بن الوليد على الباب الشرقي
وقد تقدم للقتال طائفة من أصحابه مع رافع بن عميرة فلما رفع إليه
الكتاب فرح بعد أن قرأه على المسلمين واستبشر بقدوم عمرو بن معد يكرب
الزبيدي وأبي سفيان بن حرب قال: وشاع الخبر.
(1/63)
عند جميع الناس
وبعث خالد كتاب أبي بكر إلى كل باب فقرىء على الناس متأهين وبات الناس
متأهبين للحرب يتحارسون إلى الصباح وضرار يطوف حولهم ولا يقف في مكان
واحد مخافة أن يكبس بهم العدو.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن أهل دمشق اجتمعوا إلى كبارهم من البلد
وتشاوروا فيما بينهم فقال بعضهم ما لنا إلا الصلح ونعطي العرب جميع ما
طلبوه منا وقال اخرون ما نحن بأكثر من جموع اجنادين فقال لهم بطريق من
الروم: اطلبوا لنا صهر الملك توما نتشاور في هذا الأمر لنسمع ما يقول:
ونطلب منه أن يكشف عنا ما نحن فيه فاما أن يصالحهم واما أن يحامي عنا
قال فمضى القوم إلى توما وعليه رجال موكلون بالسلاح فقالوا: لهم ما
الذي تريدون فقالوا: نريد صهر الملك توما نشاوره في هذا الأمر قال
فأذنوا لهم فدخلوا عليه وقبلوا الأرض بين يديه فقال لهم: ما الذي
تريدون فقالوا: أيها السيد انظر ما نزل ببلادنا وقد جاءنا ما لا طاقة
لنا به فاما أن نصالح العرب على ما طلبوا واما أن نرسل إلى الملك
فينجدنا أو يمانع عنا فقد أشرفنا على الهلاك فلما سمع ذلك منهم تبسم
ضاحكا وقال: يا ويلكم أطمعتم العرب فيكم وحق راس الملك ما أرى القوم
أهلا للقتال ولا هم خاطرون لي على بال فلو فتح لهم الباب ما جسروا أن
يدخلوا فقالوا: أيها السيد أن أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة والمائة
وصاحبهم داهية لا تطاق فإن كان ولا بد فاخرج بنا لقتالهم فقال لهم
توما: إنكم أكثر منهم ومدينتنا حصينة ولكم مثل هذا العدد والسلاح وأما
القوم فهم حفاة عراة فقالوا له: أيها السيد أن معهم من عددنا واسلحتنا
كثيرا مما أخذوه من واقعة فلسطين ومما أخذوه من بصرى ومن يوم لقائهم
بكلوس وعزازير ومما أخذوه من أجنادين وأيضا أن نبيهم قال لهم: أن من
قتل منا صار إلى الجنة فلاجل ذلك يبقون عراة الأجساد ليصلوا إلى ما قال
لهم: نبيهم قال فضحك من قولهم وقال لهم: لاجل ذلك أطمعتم العرب فينا
ولو صدقتم في الحرب والصدام لقتلتموهم لانكم اضعافهم مرارا.
فقالوا: أيها السيد اكفنا مؤونتهم كيف شئت واعلم إنك أن لم تمنعهم عنا
فتحنا لهم الأبواب وصالحناهم فلما سمع توما كلامهم فكر طويلا وخشي أن
تفعل القوم ذلك فقال أنا أصرف عنكم هؤلاء العرب واقتل اميرهم وأريد
منكم أن تقاتلوا معي قالوا: نحن معك وبين يديك نقاتل حتى نهلك عن أخرنا
فقال لهم: باكروا القوم بالقتال فانصرفوا عنه وهم له شاكرون ولامره
منتظرون وباتوا بقية ليلتهم على الحصن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مواضعهم ولهم ضجة بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير
وخالد بن الوليد عند الدير ومعه النساء والعيال والأموال والغنائم التي
غنموها من أعدائهم ورافع بن عميرة على الباب الشرقي في عسكر الزحف
وغيرهم ولم يزل الناس.
(1/64)
في الحرس إلى
أن برق الصباح وصلى كل أمير بمن معه من قومه وصلى أبو عبيدة بمن معه ثم
أمر أصحابه بالزحف وقال لهم: لا تخلوا عن القتال واركبوا الخيل.
حدثني رفاعة بن قيس قال سألت والدي قيسا وكان ممن حضر فتوح دمشق الشام
فقلت له: أكنتم تقاتلون في دمشق خيالة أو رجالة يوم حصار المسلمين
فقال: ما كان أحد منا فارسا إلا زهاء الفي فارس مع ضرار بن الأزور وهو
يطوف بهم حول العسكر وحول المدينة وكلما أتى بابا من الأبواب وقف عنده
وحرض أهله على القتال وهو يقول: صبرا صبرا لاعداء الله قال: وأقبل توما
صهر الملك هرقل من بابه الذي يدعى باسمه وكان عندهم عابدا راهبا ولم
يكن في بلاد الشرك أعبد منه ولا أزهد في دينهم وكان معظما عند الروم
فخرج ذلك اليوم من قصره والصليب الأعظم على رأسه وعلا به فوق البرج
وأوقف البطارقة حوله والإنجيل تحمله ذوو المعرفة قال: ونصبوه بالقرب من
الصليب ورفع القوم أصواتهم وتقدم توما ووضع يده على أسطر من الإنجيل
وقال اللهم أن كنا على الحق فانصرنا ولا تسلمنا لاعدائنا واخذل الظالم
منا فانك به عليم اللهم اننا نتقرب إليك بالصليب ومن صلب على دينه
وأظهر الايات الربانية والأفعال اللاهوتية انصرنا على هؤلاء الظالمين
قال: وأمن الناس على دعائه قال رفاعة بن قيس هكذا حدثني شرحبيل بن حسنة
كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فسر لنا هذا الكلام روماس
صاحب بصرى وكان في جيش شرحبيل بن حسنة يقاتل على باب توما وكلما قال
الروم شيئا بلغتهم فسره لنا قال ونهض شرحبيل وقصد الباب بحملته وقد عظم
عليه قول توما اللعين وقال له: يا لعين لقد كذبت أن مثل عيسى عند الله
كمثل آدم خلقه من ترابأحياه متى شاء ورفعه متى شاء ثم أن روماس ناوشه
بالقتال فقاتل توما قتالا شديدا وهشم الناس بالحجارة ورمى النشاب رميا
متداركا فجرح رجالا وكان ممن جرح أبان بن سعيد بن العاص أصابته نشابة
وكانت مسمومة فأحس بلهيب السم في بدنه فتأخر وحمله اخوانه إلى أن أتوا
به إلى العسكر فأرادوا حل العمامة فقال: لا تحلوها فإن حللتم جرحي
تبعتها روحي أما والله لقد رزقني الله ما كنت أتمناه قال فلم يسمعوا
قوله وحلوا عمامته فلما حلوها شخص إلى السماء وصار يشير باصبعيه أشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هذا ما وعد الرحمن وصدق
المرسلون فما استتمها حتى توفي إلى رحمة الله تعالى.
(1/65)
بطولة المرأة
وكانت زوجته بنت عمه وكان قد تزوجها باجنادين وكانت قريبة العهد من
العرس ولم يكن الخصاب ذهب من يدها ولا العطر من رأسها وكانت من
المترجلات البازلات من أهل بيت الشجاعة واليراعة فلما سمعت بموت بعلها
أتته تتعثر في أذيالها.
(1/65)
إلى أن وقعت
عليه فلما نظرته صبرت واحتسبت ولم يسمع منها غير قولها هنئت بما أعطيت
ومضيت إلى جوار ربك الذي جمع بيننا ثم فرق ولاجهدن حتى الحق بك فاني
لمتشوقة إليك حرام علي أن يمسني بعدك أحد وإني قد حبست نفسي في سبيل
الله عسى أن الحق بك وأرجو أن يكون ذلك عاجلا ثم حفر له ودفن مكانه
فقبره معروف وصلى عليه خالد بن الوليد فلما غيب في التراب لم تقف على
قبره دون أن أتت إلى سلاحه ولحقت الجيش من غير أن تعلم خالدا بذلك
وقالت: على أي باب قتل بعلي فقيل لها على باب توما والذي قتله هو صهر
الملك قال فسارت إلى أصحاب شرحبيل بن حسنة فاختلطت بهم وقاتلت مع الناس
قتالا لم ير مثله وكانت أرمى الناس بالنبل وكان قد جعل لها قوس وكنانة
قال شرحبيل بن حسنة رايت يوم حصار دمشق رجلا على باب توما يحمل الصليب
وهو أمام توما وهو يشير إليه اللهم انصر هذا الصليب ومن لاذ به اللهم
اظهر له نضرته وأعل درجته قال شرحبيل بن حسنة وأنا دائما أنظر إليه إذ
رمته زوجة ابان بنبلة فلم تخطىء رميتها وإذا بالصليب قد سقط من يده
وهوى إلينا وكأني أنظر لمعان الجوهر من جوانبه فما فينا إلا من بادر
إليه ليأخذه وقد استتر بالدرق وتزاحم بعضنا على بعض كل منا يسبق إليه
ليأخذه ونظر عدو الله توما إلى ذلك من تنكس الصليب الأعظم واهوائه إلى
المسلمين فعند ذلك كفر وعظم عليه الأمر وقال يبلغ الملك أن الصليب
الأعظم أخذ مني وملكته العرب لا كان ذلك أبدا ثم إنه حرم وسطه وأخذ
سيفه وقال من شاء منكم فليتبعني ومن شاء فليقعد فلابد لي من القوم عسى
أن أشفي صدري ثم انحدر مسرعا وأمر بفتح الباب وكان هو أول مبادر فلما
نظرت الروم إلى ذلك لم يكن فيهم إلا من انحدر في أثره لما يعلمون من
شجاعته وخرجوا كالجراد المنتشر هذا والمسلمون محيطون بالصليب فلما خرج
الروم ووقع صياحهم حذر الناس بعضهم بعضا فلما نظر المسلمون إلى الروم
سلموا الصليب إلى شرحبيل بن حسنة وانفردا لاعدائهم وحملوا في أعراضهم
وأخذهم النشاب والحجارة ومن كل مكان من أعلى الباب فصاح شرحبيل بن حسنة
معاشر المسلمين تقهقروا إلى ورائكم لتأمنوا النشاب من أعداء الله
العالين على الباب قال فتقهقر الناس إلى ورائهم إلى أن أمنوا من ضرب
النشاب فاتبعهم عدو الله توما وهو يضرب يمينا وشمالا وحوله أبطال
المشركين من قومه وهو يهدر كالجمل فلما نظر شرحبيل بن حسنة ذلك صرخ
بقومه وقال معاشر الناس كونوا آيسين من آجالكم طالبين جنة ربكم وأرضوا
خالقكم بفعلكم فإنه لا يرضى منكم بالفرار ولا أن تولوا الأدبار فاحملوا
عليهم واقربوا إليهم بارك الله فيكم قال فحمل الناس حملة منكرة واختلط
الناس بعضهم ببعض وعملت بينهم السيوف وتراموا بالنبل وتسامع أهل دمشق
أن توما خرج إلى العرب من بابه وأن صليبه الأعظم سقط إليهم من كف حامله
فجعلوا يهرعون إلى أن تزايد أمرهم وجعل عدو.
(1/66)
الله ينظر
يمينا وشمالا وينظر الصليب فحانت منه التفاتة فنظر فرآه مع شرحبيل بن
حسنة فلما نظر إليه لم يكن له صبر دون أن حمل وصاح هات الصليب لا أم لك
فقد لحقتك بواثقة.
قال ونظر شرحبيل بن حسنة إلى عدو الله وهو مقبل فرمى الصليب من يده
وصادمه فلما رأى عدو الله الصليب مرميا على الأرض صرخ بأصحابه صرخة
هائلة ونظرت زوجة أبان ابن سعيد إلى حملة عدو الله على شرحبيل فقالت:
من هذا قيل هو صهر الملك وهو قاتل بعلك أبان بن سعيد فلما سمعت ذلك
منهم حملت حملة منكرة إلى أن قاربته ورمته بنبلة وكان الروم أرهبوها
فلم تلتفت إليهم دون أن حققت نبلتها على صاحبها وقالت: بسم الله وبركة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أطلقتها وكان عدو الله واصلا إلى
شرحبيل إذ جاءته النبلة فأصابت عينه اليمنى فسكنت النبلة فيها فتقهقر
إلى ورائه صارخا وهمت بأن ترميه بأخرى فتبادرت إليها الرجال واستتروا
بالطوارق وتبادر إليها قوم من المسلمين يحامون عنها فلما أمنت من شر
الأعداء أخذت ترمي بالنبل ثم إنها رمت علجا من الروم فأصابت صدره فسقط
هاويا إلى الأرض وكان عدو الله أول من تقهقر ذلك اليوم هاربا من شدة
حرارة النبلة وصرخ صرخة عظيمة إلى أن دخل الباب ونظر شرحبيل إلى ذلك
فصرخ بأصحابه يا ويلكم دونكم وكلب الروم احملوا على الكلاب عسى أن
تدركوا عدو الله قال فحمل الناس على الروم إلى أن أوصلوهم إلى الباب
فحماهم قومهم من أعلى الباب بالحجارة والنشاب قال فتراجع الناس إلى
مواضعهم وقد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأخذوا أسلابهم وأموالهم
وصليبهم ودخل عدو الله توما إلى المدينة وأغلقوا الأبواب وجاء الحكماء
يعالجون في قلع النبلة من عينه فلم تطلع فجذبوها فلم تنجذب وهو يضج
بالصراخ فلما طال على القوم ذلك ولم يجدوا حيلة في اخراجها نشروها وبقي
النصل في عينه ولم تزل في مكانها وسألوه المسير إلى منزله فأبى وجلس
داخل الباب إلى أن سكن ما به وخف عنه الألم فقالوا له: عد إلى منزلك
بقية ليلتك فقد نكبنا في يومنا هذا نكبتين نكبة الصليب ونكبة عنيك كل
هذا مما وصل إلينا من النبال وقد علمنا أن القوم لا يصطلي لهم بنار وقد
سألناك أن نصالح القوم على ما طلبوه منا قال فغضب توما من قولهم وقال:
يا ويلكم يؤخذ الصليب الأعظم وأصاب بعيني وأغفل عن هذا ويبلغ الملك عني
ذلك فينسبني للوهن والعجز ولا بد من طلبهم على كل حال وآخذ صليبي وآخذ
في عيني ألف عين منهم وسأوقع حيلة أصل بها إلى كبيرهم وآخذ جميع ما
غنموه وبعد ذلك اسير إلى صاحبهم الذي هو في الحجاز وأقطع آثاره وأخرب
دياره وأهدم مساكنه وأجعل بلده مسكنا للوحوش ثم أن الملعون سار إلى
أعلى السور وهو معصوب العين وصار يحرض الناس لكي يزيل عن قلوبهم الرعب
وأقبل يقول لهم: لا تفزعوا ولا تجزعوا مما ظهر.
(1/67)
لكم من العرب
ولا بد للصليب أن يرميهم وأنا الضامن لكم قال فثبت القوم من قومه
وحاربوا حربا شديدا وبعث شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد يخبره بما
صنع مع القوم فقال الرسول أن عدو الله توما قد ظهر لنا منه ما لم يكن
في الحساب ونطلب منك رجالا لأن الحرب عندنا أكثر من كل باب فلما سمع
خالد ذلك الخبر حمدالله وقال كيف أخذتم الصليب من الروم فقال الرسول
كان يحمل صليب الروم رجل وهو أمام توما صهر الملك فرمته زوجة أبان
بنبلة فوقع الصليب إلينا وخرج عدو الله فرمته زوجة أبان بنبلة فاشتبكت
في عين توما اليمنى.
فقال خالد: أن توما عند الملك معظم وهو الذي يمنعهم عن الصلح ونرجو من
الله أن يكفينا شره ثم قال للرسول عد إلى شرحبيل وقل له كن حافظا ما
أمرتك به فكل فرقة مشغولة عنك ولم تؤت من قبلهم وأنا بالقرب منك وهذا
ضرار بن الأزور يطوف حول المدينة وكل وقت عندك قال فرجع الرسول فأخبره
بذلك فصبر وقاتل بقية يومه ووصل الخبر إلى أبي عبيدة بما نزل بشرحبيل
بن حسنة من توما وبما غنم من صليبه فسر بذلك قال ولما أصبح الصباح بعث
توما إلى أكابر دمشق وأبطالهم فلما حضروا بين يديه قال لهم: يا أهل دين
النصراينة إنه قد طاف عليكم قوم لا أمان لهم ولا عهد لهم وقد أتوا
يسكنون بلادكم فكيف صبركم على ذلك وعلى هتك الحريم وسبي الأولاد وتكون
نساؤكم جواري لهم وأولادكم عبيدا لهم وما وقع الصليب إلا غضبا عليكم
مما اضمرتم لهذا الدين من مصالحة المسلمين واذلالكم للصليب وأنا قد
خرجت ولولا إني أصبت بعيني لما عدت حتى أفرغ منهم ولا بد من أخذ ثأري
وأن اقلع ألف عين من العرب ثم لابد أن أصل إلى الصليب وأطالبهم به عن
قريب فلما سمعوا كلامه قالوا له: ها نحن بين يديك وقد رضينا بما رضيت
لنفسك فإن امرتنا بالخروج خرجنا معك وأن أمرتنا بالقتال قاتلنا فقال
توما اعلموا أن من خاض الحروب لم يخف من شيء وإني قد عزمت على أن أهجم
هذه الليلة واكبسهم في أماكنهم فإن الليل مهيب وانتم أخبر بالبلد من
غيركم فلم يبق الليلة فيكم أحد حتى يتأهب للحرب ويخرج من الباب وأرجو
أن لا أعود حتى تنقضي الاشغال فإذا فرغت من القوم أخذت أميرهم اسيرا
وأحمله إلى الملك يأمر فيه بأمره فقالوا: حبا وكرامة فعند ذلك فرق
القوم على الباب الشرقي فرقة وعلى باب الجابية فرقة وعلى كل باب جماعة
وقال لهم: لا تجزعوا فإن أمير القوم متباعد عنكم وليس هناك إلا الأراذل
والموالي فاطحنوهم طحن الحصيد قال ودعا بفرقة أخرى إلى باب الفراديس
إلى عمرو بن العاص وخرج توما من بابه واخذ معه أبطال القوم ولم يترك
بطلا يعرف بالشجاعة إلا أخذه معه ورتب على الباب ناقوسا وقال لهم: إذا
سمعتم الناقوس فهي العلامة التي بيننا فافتحوا الأبواب واخرجوا مسرعين
إلى اعدائكم ولا تجدوا رجالا نياما إلا وتطعون السيف فيهم فإن فعلتم
ذلك فرقتم جمعهم.
(1/68)
في هذه الليلة
وانكسروا كسرة لا يجبرون بعدها أبدا قال ففرح القوم بذلك وخرجوا إلى
حيث أمرهم وقعدت كل فرقة على بابها وأقاموا ينتظرون صوت الناقوس
ليبادروا إلى المسلمين قال ودعا توما برجل من الروم قال له: خذ ناقوسا
واعل به على الباب فإذا رأيتنا قد فتحنا الباب فاضرب الناقوس ضربة
خفيفة يسمعها قومنا وقد سار توما بقطعة من جيشه عليهم الدروع وبأيديهم
السيوف وتوما في أوائلهم وبيده صفيحة هندية والقى على رأسه بيضة كسروية
كان هرقل قد أهداها له وكانت لا تعمل فيها السيوف القواطع حتى وصل إلى
الباب ثم وقف حتى تكامل القوم فلما نظر إليهم قال: يا قوم فتحنا لكم
الباب فأسرعوا إلى عدوكم وجدوا في سعيكم إلى أن تصلوا إلى القوم فإذا
وصلتم إليهم فاحملوا ومكنوا السيوف فيهم ومن صاح منهم بالأمان فلا
تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب فليأخذه
فقالوا: حبا وكرامة.
(1/69)
القتال من فوق الاسوار
ثم أمر رجلا من أصحابه أن يسير إلى الذي بيده الناقوس ويأمره أن يضربه
ضربة خفيفة ثم فتح الباب وتبادر الرجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهم في غفلة مما دبر القوم لهم إلا إنهم في يقظة فلما سمعوا
الصوت أيقظ بعضهم بعضا وتواثبت الرجال من أماكنهم كالأسود الضارية فلم
يصل إليهم العدو إلا وهم على حذر وحملوا عليهم وهم في غير ترتيب فتقاتل
القوم في جنح الظلام وعمل السيف وسمع خالد بن الوليد فقام ذاهل العقل
مما سمع من الزعقات فصاح واغوثاه واسلاماه كيد قومى ورب الكعبة اللهم
انظر لهم بعينك التي لا تنام وانصرهم يا أرحم الراحمين وسار خالد ومن
معه وهم أربعمائة فارس من أصحابه وهو بغير درع قد لبس ثوب كتان من عمل
الشام مكشوف الرأس ثم جد في السير والأربعمائة فارس معه كأنهم الليوث
العوابس إلى أن وصلوا إلى الباب الشرقي وإذا بالفرقة التي هناك قد
هاجمت أصحاب رافع بن عميرة الطائي قال وأصوات المسلمين عالية بالتهليل
والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد أشرفوا وتصايحوا عندما استيقظ لهم
المسلمون فحمل خالد بن الوليد على الروم ونادى برفع صوته أبشروا يا
معشر المسلمين أتاكم الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد أنا خالد
بن الوليد وحمل في أوساط الناس بمن معه فجندل أبطالا وقتل رجالا وهو مع
ذلك مشتغل القلب على أبي عبيدة والمسلمين الذين على الأبواب وهو يسمع
اصواتهم وزعقاتهم قال وتصايح الروم والنصارى واليهود.
قال سنان بن عوف قلت لابن عمي: قيس هل كانت إليهود تقاتلكم قال: نعم
يقاتلوننا من أعلى الاسوار ويرمون بالسهام وخشى خالد على شرحبيل ابن
حسنة مما وصل إليه من عدو الله توما لانه ملازما الباب وقال لقي شرحبيل
بن حسنة من عدو الله.
(1/69)
توما أمرا
عظيما لم يلق أحد مثله وذلك إنه هجم عليه توما في تلك اليلة وكان أول
من وصل إلى المسلمين عدو الله توما قال فصبروا له صبر الكرام وقاتل عدو
الله قتالا شديدا وهو ينادي أين أميركم الذميم الذي أصابني أنا ركن
الملك الرحيم أنا ناصر الصليب قال فلما سمع شرحبيل صوته قصد جهته وقد
جرح رجالا من المسلمين وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ
صليبكم أنا كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه توما عطفة
الاسد ورأى من شرحبيل بن حسنة أمرا هائلا ولم يزالوا كذلك إلى أن زال
من الليل شطره وكل قرن مع قرنه وكانت زوجة ابان مع شرحبيل وكانت في تلك
الليلةأحسن الناس صبرا ورمت بنبالها وكانت لا تقع نبلة من نبالها إلا
في رجل من المشركين إلى أن قتلت من الروم مقتلة عظيمة بالنبال والروم
يتحايدون عنها إلى أن لاح رجل من الروم فرمته بنبلة فبقيت معلقة في
نحره قال فصرخ بالروم فهاجموها وأخذوها أسيرة ومات عدو الله الذي رمته
قال ولقي شرحبيل من الروم مالا يلقاهأحد وانه ضرب توما ضربة هائلة
فتلقاها الملعون بدرقته فانكسر سيف شرحبيل فطمع عدو الله فيه وحمل عليه
وظن إنه يأخذه اسيرا وإذا بفارسين قد أشرفا من ورائهما مع كبكبة من
الفرسان فهجموا على الروم ونظروا وإذا بزوجة ابان قد خلصت وهجمت على
الروم وهتفت فلحقها فارسان فبرز لهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي
الله عنه وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلا الرجلين ورجع عدو
الله توما هاربا إلى المدينة.
قال حدثني تميم بن عدي وكان ممن شهد الفتوحات قال كنت في خيمة أبي
عبيدة وذلك أن أبا عبيدة كان يصلي فيها إذ سمع الصياح فقال: لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم ثم لبس سلاحه ورتب قومه ودنا من القوم فنظر
إليهم وهم في المعمعة والحرب وعدل عنهم ميسرة وميمنة إلى أن جاوزهم
وعطف نحو الباب وكبر وكبر المسلمون فلما سمع المشركون تكبيرهم ظنوا أن
المسلمين قد دهموهم من ورائهم في جمع كثير فولوا راجعين فتلقاهم أبو
عبيدة وقومه واخذوا عليهم المجاز وبذل أبو عبيدة السيف فيهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني إنه ما سلم من الروم تلك الليلةأحد من الذين
هم غرماء أبي عبيدة ولقد قتلوا عن آخرهم فبينما هم في القتال إذ أشرف
عليهم ضرار بن الأزور وهو ملطخ بالدماء فقال له خالد: ما وراءك يا ضرار
فقال أبشر أيها الأمير ما جئتك حتى قتلت في ليلتي هذه مائة وخمسين رجلا
وقتل قومي ما لايعد ولا يحصى وقد كفيتكم مؤنة من خرج من الباب الصغير
إلى يزيد بن أبي سفيان ثم عطفت إلى سائر الأبواب فقتلت خلقا كثيرا قال
فسر بذلك خالد بن الوليد ثم ساروا جميعا حتى أتوا.
(1/70)
شرحبيل بن حسنة
وشكروا فعله وكانت ليلة مقمرة ولم يلق مثلها الناس فقتلوا في تلك
الليلة ألوفا من الروم قال فاجتمع كبار أهل دمشق إلى توما وقالوا له:
أيها السيد أنا قد نصحناك فلم تسمع لقولنا وقد قتل منا أكثر الناس وهذا
أمير لا يطاق يعني خالد بن الوليد فصالح فهو أصلح لك ولنا وأن لم تصالح
صالحنا وأنت وشأنك فقال: يا قوم أمهلوني حتى أكتب إلى الملك واعلمه بما
نزل بنا فكتب من وقته وساعته كتابا يقول فيه: إلى الملك الرحيم من صهرك
توما أما بعد فإن العرب محدقون بنا كاحداق البياض بسواد العين وقد
قتلوا أهل اجنادين ورجعوا إلينا وقد قتلوا منا مقتلة عظيمة وقد خرجت
إليهم وأصيبت عيني وقد عزمت على الصلح ودفع الجزية للعرب فاما أن تسير
بنفسك واما أن ترسل لنا عسكرا تنجدنا بهم واما أن تأمرنا بالصلح مع
القوم فقد تزايد الأمر علينا ثم طوى الكتاب وختمه وبعث به قبل الصباح.
فلما أصبح الصباح باكرهم المسلمون بالقتال وبعث خالد لكل أمير أن يزحف
من مكانه فركب أبو عبيدة ووقع القتال واشتد الأمر على أهل دمشق فبعثوا
لخالد أن أمهلنا فأبى إلا القتال ولم يزل كذلك إلى أن ضاق بهم الحصار
وهم ينتظرون أمر الملك واجتمع أهل البلد وقالوا: لبعضهم ما لنا صبر على
ما نحن فيه من الأمر وأن هؤلاء أن قاتلناهم نصروا علينا وأن تركناهم
أضر بنا الحصار فاطلبوا من القوم صلحا على ما طلبوه منكم فقال لهم شيخ
كبير من الروم وقد قرأ الكتب السالفة: يا قوم والله إني أعلم إنه لو
أتى الملك في جيشه جميعا لما منعوا عنكم هؤلاء لما قرأت في الكتاب أن
صاحبهم محمدا خاتم المرسلين سيظهر دينه على كل دين فأطيعوا القوم
وأعطوهم ما طلبوا منكم فهو وافق لكم فلما سمع القوم مقالات الشيخ ركنوا
إليه لما يعلمون من علمه ومعرفته بالاخبار والملاحم فقالوا: كيف الرأي
عندك فنحن نعلم أن هذا الأمير الذي على باب شرقي رجل سفاك للدماء فقال
لهم: أن أردتم تقارب الأمر فامضوا إلى الذي على باب الجابية وليتكلم
رجل يعرف بالعربية ويقول بصوت رفيع: يا معاشر العرب الأمان حتى ننزل
إليكم ونتكلم مع صاحبكم قال أبو هريرة رضي الله عنه وكان أبو عبيدة قد
انفذ رجالا من المسلمين مكثرا بالقرب من الباب مخافة الكبسة مثل الليلة
التي خلت وكانت النوبة تلك الليلة لبني دوس والأمير عليها عامر بن
الطفيل الدوسي قال فبينما نحن جلوس في مواضعنا من الباب إذ سمعنا اصوات
القوم وهم ينادون قال أبو هريرة فلما سمعت بادرت إلى أبي عبيدة قال
وبشرته بذلك فاستبشر وقال أمض وكلم القوم وقل لهم لكم الأمان قال فأتيت
القوم وبشرتهم بالأمان فقالوا: من أنت.
فقلت: أنا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن عبيدا
أعطوكم الأمان والذمام ونحن في الجاهلية لما غدرنا فكيف وقد هدانا الله
إلى دين الإسلام قال فنزل القوم.
(1/71)
وفتحوا الباب
واذ هم مائة رجل من كبرائهم وعلمائهم فلما قربوا من عسكر أبي عبيدة
تبادر إليهم وأزلوا عنهم الصلبان إلى أن وصلوا خيمة أبي عبيدة فرحب بهم
وأجلسهم وقال أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتاكم عزيز
قوم فأكرموه وتكلموا في أمر الصلح" وقالوا: أنا نريد منكم أن تتركوا
كنائسنا ولا تنقضوا علينا منها كنيسة وهي الجامع الآن بدمشق فقال لهم
أبو عبيدة: جميع الكنائس لا يؤمر بهدمها قال وكان في دمشق كنائس واحدة
تسمى كنيسة مريم وكنيسة حنا وكنيسة سوق الليل وكنيسة انذار وهي عند دار
عبد الرحمن ذرة فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان ولم يسم فيه
اسمه ولا اثبت شهودا وذلك لانه لم يكن أمير المؤمنين فلما كتب لهم
الكتاب تسلموه منه وقالوا له: قم معنا إلى البلد قال فقام أبو عبيدة
وركب معه أبو هريرة ومعاذ بن جبل ونعيم بن عمرو وعبد الله بن عمرو
الدوسي وذو الكلاع الحميري وحسان بن النعمان وجرير بن نوفل الحميري
وسيف بن سلمة ومعمر بن خليفة وربيعة بن مالك والمغيرة بن شعبة وأبو
لبابة بن المنذر وعوف بن ساعدة وعامر بن قيس وعبادة بن عتيبة وبشر بن
عامر وعبد الله بن قرط الاسدي وجملتهم خمسة وثلاثون صحابيا من اعيان
الصحابة رضي الله عنهم وخمسة وستون من أخلاط الناس فلما ركبوا وتقدموا
نحو الباب قال أبو عبيدة: أريد منكم رهائن حتى ندخل معكم فأتوه برهائن
وقيل أن أبا عبيدة رأى في منامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
له: تفتح المدينة أن شاء الله تعالى في هذه الليلة فقلت: يا رسول الله
أراك على عجل قال: لاحضر جنازة أبي بكر الصديق قال فاستيقظت من المنام.
قال الواقدي: وقد بلغني أن أبا عبيدة لما دخل دمشق بأصحابه سارت القسس
والرهبان بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الإنجيل والمباخر بالند
والعود ودخل أبو عبيدة من باب الجابية ولم يعلم خالد بن الوليد لانه شد
عليهم بالقتال قال وكان هناك قسيس من قسس الروم اسمه يونس بن مرقص
وكانت داره ملاصقة للسور مما يلي باب شرقي الذي عنده خالد وكان عنده
ملاحم دانيال عليه السلام وكان فيها أن الله تعالى يفتح البلاد على يد
الصحابة ويعلو دينهم على كل دين فلما كانت تلك الليلة نقب يونس من داره
وحفر موضعا وخرج على حين غفلة من أهله واولاده وقصد خالدا وحدثه إنه
خرج من داره وحفر موضعا والآن أريد أمانا لي ولاهلي ولاولادي قال فأخذ
خالد عهده على ذلك وانفذ معه مائة رجل من المسلمين أكثرهم من حمير وقال
لهم: إذا وصلتم المدينة فارفعوا أصواتكم بأجمعكم واقصدوا الباب واكسروا
الأقفال وأزيلوا السلاسل حتى تدخلوا أن شاء الله تعالى قال ففعل القوم
ما أمرهم به خالد رضي الله عنه وساروا ومضى أمامهم يونس بن مرقص حتى
دخل بهم من حيث خرج فلما حطوا في داره تدرعوا واحترسوا ثم خرجوا وقصدوا
الباب واعلنوا بالتكبير قال فلما سمع.
(1/72)
المشركون
التكبير ذهلوا وعلموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حطوا معهم
في المدينة وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدوا الباب وكسروا
الأقفال وقطعوا السلاسل ودخل خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين
ووضعوا السيف في الروم وهم مختلفون بين يديه إلى أن وصل إلى كنيسة مريم
وخالد بن الوليد يأسر ويقتل.
قال الواقدي: والتقي الجمعان عند الكنيسة جيش خالد وجيش أبي عبيدة
وأصحابه سائرون والرهبان سائرون بين ايديهم وما أحد من أصحاب أبي عبيدة
جرد سيفه فلما نظر خالد إليهم ورأى أن لا أحد منهم جرد سيفه بهت وجعل
ينظر إليهم متعجبا قال فنظر إليه أبو عبيدة وعرف في وجهه الإنكار فقال
أبا سليمان قد فتح الله على يدي المدينة صلحا وكفى الله المؤمنين
القتال.
قال الواقدي: ما خاطب أبو عبيدة خالدا يوم الفتح بدمشق إلا بالأمارة
فقال: أيها الأمير قد تم الصلح فقال خالد: وما الصلح لا أصلح الله
بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وقد خضبت سيوف المسليمن من
دمائهم وأخذت الأولاد عبيدا وقد نهبت الأموال فقال أبو عبيدة: أيها
الأمير اعلم إني ما دخلتها إلا بالصلح فقال له خالد بن الوليد: إنك لم
تزل مغفلا وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف
صالحتهم قال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير والله لقد صالحت القوم
ونفذ السهم بما هو فيه وكتب لهم الكتاب وهو مع القوم فقال خالد: وكيف
صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم
حتى افنيهم عن آخرهم فقال أبو عبيدة: والله ما ظننت أن تخالفني إذا
عقدت عقدا ورأيت رأيا فالله الله في أمري فوالله لقد حقنت دماء القوم
عن آخرهم واعطيتهم الأمان من الله جل جلاله وامان رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد رضي من معي من المسلمين والغدر ليس من شيمنا قال وارتفع
الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وخالد مع ذلك لا يرجع عن مراده
ونظر أبو عبيدة إلى ذلك فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
خالد وهم جيش البوادي من العرب مشتبكون على قتال الروم ونهب أموالهم
قال فنادى أبو عبيدة واثكلاه خفرت الله ونقض عهدى وجعل يحرك جواده
ويشير إلى العرب مرة يمينا ومرة شمالا وينادي معاشر المسلمين اقسمت
عليكم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تمدوا ايديكم نحو الطريق
الذي جئت منه حتى نرى ما نتفق أنا وخالد عليه فلما دعاهم بذلك سكتوا عن
القتل والنهب واجتمع إليهما فرسان المسلمين والأمراء وأصحاب الرايات
مثل معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وعمرو
ابن العاص رضي الله عنه وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه وربيعة بن عامر
رضي الله عنه وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجمعين ونظرائهم
والتقوا عند الكنائس.
(1/73)
واجتمع هناك
فرسان للمشورة والمناظرة فقالت طائفة من المسلمين: منهم معاذ بن جبل
ويزيد بن أبي سفيان الرأي أن تمضي إلى ما أمضاه أبو عبيدة بن الجراح
وتكفوا عن القتال للقوم فإن مدن الشام لم تفتح ابدا وهرقل في انطاكية
كما تعلمون وأن علم أهل المدن صالحتهم وغدرتم لم تفتح لكم مدينة صلحا
ولأن تجعلوا هؤلاء الروم في صلحكم خير من قتلهم ثم قالوا: لخالد أمسك
عليك ما فتحت بالسيف ويعينك أبو عبيدة بجانبه واكتبا إلى الخليفة
وتحاكما إليه فكل ما أمر به فعلناه فقال لهم خالد بن الوليد: قد أجبت
إلى ذلك وقبلت مشورتكم فأما أهل دمشق فقد امنتهم إلا هذين اللعينين
توما وهربيس وكان هربيس هو المؤمر على نصف البلدة ولاه توما حين رجع
الأمر إليه فقال أبو عبيدة: أن هذين أول من دخل في صلحي فلا تخفر ذمتي
رحمك الله تعالى فقال خالد: والله لولا ذمامك لقتلتهما جميعا ولكن
يخرجان من الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول: إلا الصدق
قال فانطلق توما إلى المدينة فلعنهما الله حيث سارا.
قال أبو عبيدة: وعلى هذا صالحتهما قال ونظر توما وهربيس إلى خالد وهو
يتنازع مع أبي عبيدة فخافا الهلاك فأقبلا على أبي عبيدة ومعهما من
يترجم عنهما وقالا له ما يقول: هذا يعني خالدا قال الترجمان لأبي عبيدة
ما نقول أنت وصاحبك فيه من المشاورة أن صاحبك هذا يريد غدرنا فنحن واهل
المدينة دخلنا في عهدكم ونقض العهد ما هو من شيمكم وإني أسألكم أن
تدعوني أن أخرج أنا وأصحابي واسلك أي طريق أردت فقال أنت في ذمتنا
فاسلك أي طريق شئت فإذا صرت في أرض تملكونها فقد خرجت من ذمتنا أنت ومن
معك فقال توما وهربيس نحن في ذمتكم وجواركم ثلاثة أيام أي طريق سلكنا
فاذ كان بعد ثلاثة أيام فلا ذمة لنا عندكم فمن لقينا منكم بعد ثلاثة
أيام وظفر بنا فنحن لهم عبيد أن شاء اسرنا وأن شاء قتلنا فقال خالد: قد
اجبناك إلى ذلك لكن لا تحملوا معكم من هذا البلد إلا الزاد الذي
تتقوتون به قال أبو عبيدة لخالد: هذا كلام داع لنقض العهد والصلح إنما
وقع بيننا إنهم يخرجون برجالهم وأموالهم فقال خالد: سمحت لهم بذلك إلا
الحلقة يعني السلاح فاني لا أطلق لهم شيئا من ذلك فقال توما لا بد لنا
من السلاح نمنع به عن أنفسنا في طريقنا أن طرقنا طارق حتى نصل إلى
بلدنا وإلا فنحن بين ايديكم فاحكموا فينا بما أردتم فقال أبو عبيدة:
اطلق لكل واحد قطعة من السلاح أن أخذ سيفا فلا يأخذ رمحا وأن أخذ رمحا
فلا يأخذ سيفا وأن أخذ قوسا فلا يأخذ سكينا فقال توما لما سمع منهم ذلك
الكلام قد رضينا بذلك وما يريد كل واحد منا إلا قطعة من السلاح لا غير
ثم قال توما لأبي عبيدة إني خائف من هذا الرجل اعني خالد بن الوليد
فليكتب لي بذلك قال أبو عبيدة: ثكلتك امك أنا معاشر العرب لا نغدر ولا
نكذب وأن الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول: إلا الصدق
قال فانطلق توما وهربيس يجمعان قومهما.
(1/74)
ويأمرانهم
بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج وهربيس يجمعان قومهما ويأمرانهم
بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج في دمشق فيها زهاء من ثلاثمائة
حمل ديباج وحل مذهبة فعزم على اخراجها وامر توما فضربت له خيمة من القز
ظاهر دمشق وأقبلت الروم تخرج الأمتعة والأموال والأحمال حتى اخرجوا
شيئا عظيما فنظر خالد بن الوليد إلى كثرةأحمالهم فقال: ما اعظم رحالهم
ثم قرأ قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ
فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] الاية ثم نظر
خالد إلى القوم كانهم حمر مستنفرة ولم يلتفتأحد إلى أخيه من شدة عجلتهم
فلما نظر خالد إلى ذلك رفع يديه إلى السماء وقال اللهم جعله لنا وملكنا
إياه واجعل هذه الأمتعة قوتا للمسلمين آمين إنك سميع الدعاء ثم اقبل
على أصحابه وقال لهم: إني رأيت أنا رأيا فهل انتم تتبعوني عليه فقالوا:
نتبعك ولا نخالف لك امرا فقال خالد: قوموا بخيولكم حق القيام واحسنوا
إليها ما استطعتم وانجزوا سلاحكم فاني اسير بكم بعد ثلاثة أيام في مطلب
هؤلاء القوم وارجو من الله أن يغنمنا هذه الغنيمة والأموال التي
رأيتموها وأن نفسي تحدثني أن القوم ما تركوا في دمشق متاعا ولا ثوبا
حسنا إلا وقد أخذوه معهم.
فقالوا: افعل ما تريد فما نخالف لك أمرا ثم أخذوا في اصلاح شأنهم وتوما
وهربيس قد جمعوا مال الرساتيق وجميع المال فلما جمعوه جاءوا به إلى أبي
عبيدة فقال لهم: وفيتم بما عليكم فسيروا حيث شئتم فلكم الأمان منا
ثلاثة أيام قال يزيد ابن ظريف فلما سلموا المال لأبي عبيدة ارتحلوا
سائرين كأنهم سواد مظلم وكان قد خرج مع القوم خلق كثير من أهل دمشق
بأولادهم وكرهوا أن يكونوا في جوار المسلمين قال واشتغل خالد عن
اتباعهم بخلاف ما وقع بينهم وبين أهل دمشق في حنطة وشعير وجدوا في
المدينة منه شيئا كثيرا فقال أبو عبيدة: هو للقوم دخل في صلحهم فكادت
القتنة أن تثور بين أصحاب خالد وبين أصحاب أبي عبيدة واتفق رأيهم أن
يكتبوا كتابا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك وليس عندهم خبر
إنه مات يوم دخولهم دمشق.
قال عطية بن عامر كنت واقفا على باب دمشق في اليوم الذي سارت فيه الروم
مع توما وهربيس ومعهم ابنة الملك هرقل قال فنظرت إلى ضرار بن الأزور
وهو ينظر إلى القوم شزرا ويتحسر على ما فاته منهم فقلت له: يا ابن
الأزور مالي اراك كالمتحسر أما عند الله أكثر من ذلك فقال والله ما
أعني مالا وإنما أنا متأسف على بقائهم وانفلاتهم منا ولقد أساء أبو
عبيدة فيما فعل بالمسلمين فقلت: يا بان الأزور ما أراد أمين الأمة إلا
خيرا للمسلمين أن يحقن دمائهم وازواجهم من تعب القتال فإن حرمة رجل
واحد خير مما طلعت عليه الشمس وأن الله سبحانه وتعالى اسكن الرحمة في
قلوب المؤمنين وأن الرب يقول في بعض الكتب المنزلة: إن الرب لا يرحم من
لا يرحم.
(1/75)
وقال تعالى:
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فقال ضرار لعمري إنك لصادق ولكن
اشهدوا علي إني لا ارحم من يجعل له زوجة وولدا.
قال حدثني عمر بن عيسى عن عبد الواحد بن عبد الله البصري عن وائلة بن
الاسقع قال كنت مع خالد بن الوليد في جيش دمشق وكان قد جعلني مع ضرار
بن الأزور في الخيل التي تجوب من باب شرقي إلى باب توما إلى باب
السلامة إلى باب الجابية إلى باب الصغير إلى باب قيان إذ سمعنا صرير
الباب وذلك قبل فتوح الشام وإذا به قد خرج منه فارس فتركناه حتى قرب
منا فأخذنا قبضا بالكف وقلنا أن تكلمت قتلناك فسكت وإذا قد خرج فارس
اخر قام على الباب وجعل ينادي بالذي قد أخذناه فقلنا له كلمه حتى يأتي
قال فرطن له بالرومية أن الطير في الشبكة فعلم إنه قد اسر فرجع وأغلق
الباب قال فاردنا قتله فقال بعضنا لا تقتلوه حتى نمضي به إلى خالد
الأمير قال فأتينا به خالدا فلما نظر إليه قال له: من أنت قال له: أنا
من الروم وإني تزوجت بجارية من قومي قبل نزولكم عليهم وكنت أحبها فلما
طال علينا حصاركم سألت أهلها أن يزفوها علي فأبوا ذلك وقالوا: إن بنا
شغلا عن زفافك وكنتأحب أن القاها ولنا في المدينة ملاعب نلعب فيها
فوعدتها أن نخرج إلى الملاعب فخرجت وتحدثنا فسألتني أن اخرج بها إلى
خارج المدينة ففتحنا الباب وخرجت انظر اخباركم فأخذني أصحابك فنادتني
فقلت: إن الطير وقع في الشبكة احذرها منكم مخافة عليها ولو كان غيرها
لهان علي ذلك فقال خالد: ما تقول في الإسلام فقال: أشهد أن لا إله إلا
الله واشهد أن محمدا رسول الله فكان يقاتل معنا قتالا شديدا فلما دخلنا
المدينة صلحا أقبل يطلب زوجته فقيل له إنها لبست ثياب الرهبانية فأقبل
إليها وهي لا تعرفه فقال لها: ما حملك على الرهبانية قالت: حملني على
ذلك إني غررت بزوجي حتى أخذته العرب وترهبنت حزنا عليه قال أنا زوجك
وقد دخل في دين العرب قال فلما سمعت ذلك قالت: وما تريد قال أن تكوني
في الذمة فقال وحق المسيح لا كان ذلك ابدا ومالي إلى ذلك سبيل وخرجت مع
البطريق توما فلما نظر إلى امتناعها أقبل إلى خالد بن الوليد فشكا له
حاله.
فقال له خالد: إن أبا عبيدة فتح المدينة صلحا ولا سبيل لك إليها ولما
علم أن خالدا يسير وراء القوم فقال أسير معه لعلي اقع بها وأقام خالد
بدمشق إلى اليوم الرابع ثم اقبل إليه يونس الدمشقي زوج الجارية وقال:
أيها الأمير قد عزمت على المسير في طلب هذين العينين توما وهربيس واخذ
ما معها قال بلى فقال له: وما الذي اقعدك عن ذلك قال بعد القوم وبيننا
وبينهم أربعة أيام بلياليها وهم يسيرون سير الخوف وما يمكن اللحاق بهم
فقال يونس أن كان تخلفك لبعد المسافة بيننا وبينهم فأنا.
(1/76)
أعرف الديار
وأسلك طريقا فنلحقهم إن شاء الله تعالى ولكن البسوا زي لخم وجذام وهو
العرب المتنصرة وخذوا الزاد وسيروا قال فسار خالد واخذ عساكر الزحف وهم
أربعة آلاف فارس فامرهم أن يسيروا ويخففوا حمل الزاد ففعلوا ذلك وخالد
ومن معه قد ساروا ويونس الدليل امامهم وهو يتبع آثار القوم وقد أوصى
خالد أبا عبيدة على المدينة والمسلمين قال زيد بن طريف وكان يونس
دليلنا قال فرأى آثار القوم وإنهم إذا سقط منهم حمل جمل تركوه وسار
خالد ومن معه كلما دخلوا بلدا من بلاد الروم يظنون إنهم من العرب
المتنصرة من لخم وجذام حتى أشرف بهم الدليل على ساحل البحر ونوى أن
يطلب الأثر وإذا بالقوم قد عدوا انطاكية ولم يدخلوها خيفة الملك قال
فوقع للدليل عند ذلك حيرة في امره فعدل إلى قرية هناك وسأل بعضا من
الناس فاخبروه أن الخبر قد أتصل إلى الملك بأن توما وهربيس قد سلما
دمشق للعرب فنقم عليهما ولم يدعهما يأتيان إليه وذلك إنه جمع الجيوش
وأرسلها إلى اليرموك فخاف أن يتحدثوا بشجاعة العرب أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتضعف قلوبهم فبعث إلى توما ومن معه أن يسيروا إلى
القسطنطينية فلما علم يونس أن القوم عدلوا واخذوا في طلب التحيز فكر في
ذلك وغاب عن المسلمين قوقف خالد وصلى بالناس وإذا بيونس قد اقبل وقال:
أيها الأمير إني والله قد غررت بكم وبلغت الغاية في الطلب قال خالد:
وكيف الأمر قال: أيها الأمير تبعثني في آثارهم في هذا المكان رجاء أن
الحقهم وأن الملك منعهم من الدخول إلى انطاكية لئلا يرعبوا عسكره
وامرهم أن يطلبوا القسطنطينية وقد قطع بينكم وبينهم هذا الجبل العظيم
وانتم في جبل هرقل وهو يجمع عسكره ويسير إلى حربكم وإني خائف عليكم أن
تركتم هذا الجبل خلف ظهوركم هلكتم وبعد هذا فالأمر إليك وكل ما أمرتني
به فعلت قال ضرار بن الأزور فرأيت خالدا وقد انتقع لونه كالخضاب وكان
ذلك منه جزعا وما عهدت به ذلك فقلت: يا أمير على ماذا عولت فقال: يا
ضرار والله ما فزعت من الموت ولا من القتل وإنما خفت أن يؤتى المسلمون
من قبلي وإني رأيت قبل فتح دمشق مناما افزعني وأنا منتظر تاويله وارجو
أن يجعل الله لنا خيرا وينصرنا على عدونا فقال ضرار خيرا رأيت وخيرا
يكون أن شاء الله تعالى فما الذي رايت قال رايت المسلمين في برية قفرة
ونحن سائرون فبينما نحن كذلك وإذا بقطيع من حمر الوحش كثيرة عظيمة
اجسامها مهزولة اخفافا وهي لا تكدم برماحنا ونحن نضربها بأسيافنا وهي
لا تكترث فيما نزل بها من الأذى ولا تهلع مما ينزل فلم نزل مثل ذلك حتى
اجتهدنا واجتهدت خيولنا وإني اقبلت على أصحابي وفرقتهم عليها من أربعة
جوانب البرية وحملت عليهم فجفلت من أيدينا إلى مضايق وتلال واودية خصبة
فلم نأخذ منها إلا اليسير فبينما نحن نطبخ ونشوي لحومها وإذا هي قد
رجعت تطلب الحرب منا فلما نظرت إليها وقد طرحت المضايق والأجام صحت
بالمسلمين اركبوا في طلبها بارك الله.
(1/77)
فيكم فاستوى
المسلمون على خيولهم وركبت معهم وطلبناها حتى وقعت بها وتصيدت منها
بعيرا عظيما فقتلته فجعل المسلمون يقتلون ويتصيدون فما بقي منها إلا
اليسير فبينما أنا فرح وأنا أريد الرجوع بالمسلمين إلى وطنهم إذ عثرت
فرسي فطارت عمامتي من على رأسي فهويت لاخذها فانتبهت من منامي وأنا فزع
مرعوب فهل فيكمأحد يفسره فاني اقول الرؤيا ما نحن فيه قال فصعب ذلك على
القوم وجعل خالد يراود نفسه على الرجوع.
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تفسير الوحوش
فهؤلاء الأعاجم الذين نحن في طلبهم وأما سقوطك عن فرسك فإنه أمر تنحط
عليه من رفعه إلى خفضة واما سقوط العمامة عن رأسك فالعمائم تيجان العرب
وهي معرة تلحقك فقال خالد: اسأل الله العظيم أن كان ذلك تأويل ما رأيته
أن يجعله من أمر الدنيا ولا يجعله من أمر الاخرة وبالله استعين وعليه
أتوكل في كل الأمور قال ثم سار خالد والدليل امامهم حتى قطعوا الجبل
فلما كانت الليلة التي أردنا أن نصبح فيها القوم أتى مطر كافواه القرب
وكان من توفيق الله عز وعلا أن حبس القوم عن المسير قال روح بن طريف
رضي الله عنه ولقد رايتنا ونحن نسير والمطر ينزل علينا كافواه القرب
طول ليلتنا فلما اصبح الصباح وطلعت الشمس قال يونس أيها الأمير قف حتى
أنظر القوم لانهم لا شك بالقرب منا وقد سمعت صياحهم فقال له خالد بن
الوليد: أحقا سمعت صياحهم يا يونس قال: نعم أيها الأمير واريد منك أن
تاذن لي بالمسير إليهم وآتيك بخبرهم قال فعند ذلك التفت خالد بن الوليد
إلى رجل اسمه المفرط بن جعدة قال له: يا مفرط سر مع يونس وكن له مؤنسا
واحذر أن يأخذ خبركما القوم فقال المفرط السمع والطاعة لله ولك أيها
الأمير ثم انطلقا إلى أن صعدا على جبل يقال له الأبرش: والروم تسمه جبل
باردة قال المفرط فلما علونا عليه وجدنا مرجا واسعا كثير الجنبات كثير
النبات وفيه خضرة عظيمة وأن القوم قد اصابهم المطر حتى بل رحالهم وقد
حميت عليهم الشمس فخافوا اتلافها فاخرجوها واخرجوا الديباج ونشروها في
طول المرج وقد نام أكثرهم من شدة السير والتعب والمطر الذي اصابهم قال
المفرط بن جعدة فلما رأيت ذلك فرحت فرحا شديدا ورجعت إلى خالد بن
الوليد وتركت صاحبي يونس فلما رآني خالد وحدي اسرع الي وظن أن صاحبي
كيد فقال: ما وراءك يا ابن جعدة اخبرني وعجل بالخير فقلت: الخبر
والغنيمة يا أمير القوم خلف هذا الجبل وقد اصابهم المطر وقد وجدوا
الراحة بطلوع لشمس وقد نشروا امتعتهم فقال بشرك الله بالخير ثم ظهر لي
من وجهه الخير والفرح والسرور فبينما نحن كذلك وإذا بيونس قد اقبل فقال
له خالد: خيرا فقال له: ابشر أيها الأمير فإن القوم امنوا على أنفسهم
ولكن اوصى أصحابك أن كل من وقع بزوجتي فليحفظها فما أريد من الغنيمة
سواها فقال له خالد:
(1/78)
هي لك إن شاء
الله تعالى ثم أن خالدا قسم أصحابه أربع فرق فأمر ضرار بن الأزور على
ألف فارس وعلى الألف الثاني رافع بن عميرة الطائي وعلى الألف الثالث
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبقي هو في الفرقة الرابعة وقال سيروا
على بركة الله تعالى وإياكم أن تخرجوا إليهم دفعة واحدة بل يخرج كل
أمير منكم بينه وبين صاحبه قدر ساعة ثم افترق القوم وحمل ضرار بن
الأزور والروم مطمئنون وحمل من بعده رافع بن عميرة الطائي ثم عبد
الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم خالد بن الوليد سار في اخر القوم حتى
وصلوا المرج قال عبيد ابن سعيد لقد كدنا أن نفتنه من حسن منظره فزعق
فينا خالد بن الوليد وقال عليكم باعداء الله ولا تشتغلوا بالغنائم ولا
بالنظر إلى المرج فإنها لكم أن شاء الله تعالى.
ثم عطف خالد بن الوليد رضي الله عنه على الروم وقد نظرت الروم إلى
الخيل وقد خرجت عليهم وخالد امامهم فعلموا إنها خيول المسلمين فبادروا
إلى السلاح وركبوا الخيل وقال بعضهم لبعض إنها خيل قليلة ساقها المسيح
إليكم وجعلها غنيمة لكم فبادروا إليها قال فتبادر الروم وهم يظنون أن
ليس وراء خالدأحد وإذا بضرار بن الأزور قد خرج عليهم في ألف فارس وطلع
رافع بن عميرة الطائي بعده وطلع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعدهم
وطلبت كل كتيبة فرقة من الروم وتفرقوا من حولهم وطلبوا ما في ايديهم
وقد رفعوا اصواتهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصبت خيل
المسلمين على الروم كأنها السيل المنحدر ونادى هربيس برجاله قاتلوا عن
نعمكم فما لهؤلاء القوم حيلة ولا يخلصون من هذا المكان ابدا فانقسمت
الروم طائفة معه وطائفة مع توما فكان من طلب خالدا توما وقد أحدق به
خمسمائة فارس وقد رفع بين عينيه صليبا من الجوهر مقمعا بالذهب الأحمر
فعدل خالد وحمل عليه وقال: يا عدو الله اظننتم إنكم تفلتون منا والله
تعالى يطوي لنا البلاد وكان توما أعور عورته امرأة ابان قال فحمل عليه
وطعنه في عينه الأخرى ففقأها وارداه عن جواده وحمل أصحابه على رجال
توما ولله در عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لما نظر
إلى توما وقد سقط عن جواده نزل وجلس على صدره واحتز رأسه ورفعها على
السنان ونادى قد قتل والله توما اللعين فاطلبوا هربيس.
قال الواقدي: ففرح العرب بذلك قال رافع بن عميرة الطائي كنت في الميمنة
مع خالد بن الوليد إذ نظر الي فارس زيه زي الروم وقد نزل عن جواده وهو
يقاتل علجة مع نساء الروم وهي تظهر عليه مرة فدنوت انظرها فإذا هو يونس
الدليل وهو يقاتل زوجته ويصارعها صراع الاسد قال رافع فدنوت أن أتقدم
إليهما فاعينه فقصد الي عشرة من النساء يرمين قومي بالحجارة فخرج حجر
كبير من امرأة حسناء عليها ثياب
(1/79)
الديباج قال
فوقع الحجر في جبهة جوادي فانكب على رأسه وكان جوادا شهدت عليه اليمامة
فسقط الجواد ميتا قال فأسرعت في طلبها فهربت من بين يدي كأنها ظبية
القناص وهربت النساء من وراءها فلحقتهن وقصدت قتلهن وزعقت عليهن وكنت
أريد قتلهن ومالي قصد إلا الجارية التي قتلت حصاني فدنوت منها وعلوت
بالسيف على رأسها فجعلت تقول الغوث الغوث فرجعت عن قتلها وأقبلت إليها
وإذا عليها ثياب الديباج وعلى رأسها شبكة من اللؤلؤ فاخذتها اسيرة من
النساء وأوثقتها كتافا ورجعت على أثري فركبت جوادا من خيل الروم ثم
قلت: والله لامضين وانظر ما كان من أمر يونس فوجدته وهو جالس وزوجته
بجانبه وقد تلطخت بدمائها وهو يبكي عليها فلما رأيتها قلت لها: اسلمي
فقال: لا وحق المسيح لا اجتمعت أنا وانتم ابدا ثم اخرجت سكينا كانت
معها فقتلت بها نفسها فقلت: إن الله عز وجل ابدلك ما هي اعظم منها
وعليها ثياب الديباج وشبكة من اللؤلؤ وهي كأنها القمر فخذها لك بدلا عن
زوجتك فقال: أين هي فقلت: ها هي معي.
قال فلما نظر إليها والى ما عليها من الحلى والزينة وتبين حسنها
وجمالها راطنها بالرومية وسألها عن امرها فرطنت عليه وهي تبكي فالتفت
الي وقال لي أتدري من هذه قلت: لا فقال هذه ابنة الملك هرقل زوجة توما
وما مثلى يصلح لها ولا بد لهرقل من طلبها ويفديها بماله قال وافتقد
المسلمون خالدا فلم يجدوا له أثرا فقلقوا عليه قلقا عظيما وخالد رضي
الله عنه غائص في المعركة وقصد اللعين هربيس بعد قتل توما فبينما هو
يحمل يمينا وشمالا إذ نظر علجا من علوج الرومان عظيم الخلقةأحمر اللون
فظن خالد إنه اللعين فأطلق جواده نحوه وطلبه طلبا شديدا ليقتله فلما
نظر إليه العلج والى حملته فر هاربا من بين يديه فوكزه خالد بالرمح
وإذا هو واقع على الأرض على أم رأسه فانقض عليه خالد كالاسد وهو يقول:
ويلك يا هربيس أطننت إنك تفوتني وذلك العلج يعرف العربية فقال: يا عربي
ما أنا هربيس أطننت إنك فابق علي ولا تقتلني فقال خالد: مالك من يدي
خلاص إلا إذا كنت تدلني على هربيس فإذا دللتني عليه اطلقتك فقال له
العلج: إنذا دللتك عليه تطلقني فقال خالد: نعم لك ذلك فقال العلج يا
أخا العرب قم من علي صدري حتى ادلك عليه فقام خالد من على صدره فوثب
العلج ونظر يمينا وشمالا قال ثم قال لخالد أترى هذا الجبل وهذه الخيل
الصاعدة اقصدها فإن هربيس فيها قال فوكل خالد بالعلج واحدا وهو ابن
جابر ثم اطلق خالد عنان جواده حتى لحق بهم وصرخ عليهم وقال: يا ويلكم
إني لكم مني خلاص فلما سمع هربيس ذلك ظنه من بعض العرب فزعق فيه ورجع
ورجعت البطارقة بالسلاح فقال لهم خالد: يا ويلكم ظننتم أن الله لا
يمكننا منكم أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد ثم طعن فارسا فرماه
واخر فأرداه فما سمع هربيس كلام خالد قال.
(1/80)
لأصحابه: يا
ويلكم هذا الذي قلب الشام على أصحابه هذا صاحب بصرى وحوران ودمشق
وأجنادين دونكم وإياه قال فطمع القوم فيه لانفراده عن أصحابه وكان
المسلمون في قتال الروم ونهب الأموال وكل منهم مشتغل بنفسه قال فترجلت
البطارقة حول خالد لانهم في جبل كثير الوعر واحاطوا بخالد بن الوليد
فعندها ترجل عن جواده واخذ سيفه وجحفته وصبر لقتالهم قال حدثني شداد بن
أوس وكان ممن حضر وقعة مرج الديباج وقال خالد: قد صحت الرؤيا فلما ترجل
اقبل يقاتل بنفسه واقبل إليه هربيس وهو مشتغل بالقتال وأتاه من ورائه
وضرب خالدا بالسيف فوقع السيف على البيضة فقدها وقد عمامته وانقض السيف
من يد هربيس وخاف خالد أن يلتفت إلى ورائه فتهجم عليه الروم وخاف أن
يفلت هربيس من بين يديه فعند ذلك صاح بالتهليل والتكبير والصلاة على
البشير النذير كأنه مستبشر بشيء اغاثه أو ادركه وذلك خديعة منه وحيلة
يريد بها أن يتمكن من الأعلاج فبينما هو كذلك إذ سمع من المسلمين زعقات
وقد أخذت الروم من ورائهم وهم يصيحون بالتهليل والتكبير وقائل يقول: لا
إله إلا الله محمد رسول الله أتاك النصر من رب العالمين أنا عبد الرحمن
بن أبي بكر الصديق فلما سمع خالد صوته لم يلتفت إلى عبد الرحمن ولا إلى
من معه ومضى يفرق الأعلاج ذات اليمين وذات الشمال وما أن سمع اللعين
هربيس اصوات المسلمين أراد الهرب فلحقه سيدنا خالد وضربه ضربة فأرداه
قتيلا وعجل الله بروحه إلى النار واستطال أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم على أصحاب هربيس ونزلوا فيهم بالسيف حتى ابادوهم عن اخرهم
وكان أكثرهم قتلا من يد ضرار بن الأزور فلما إنكشف الكرب عن خالد ونظر
إلى ما فعل ضرار قال افلح وجهك يا ابن الأزور فما زلت مباركا في كل
افعالك انجح الله اعمالك واصلح ربي حالك ثم سلم على عبد الرحمن بن ابي
بكر الصديق رضي الله عنه وعلى المسلمين وقال من اين علمتم مكاني هذا
فقال عبد الرحمن يا امين بينما نحن في قتال الروم وقد نصرنا الله عليهم
والمسلمون قد اشتغلوا بالغنائم إذا سمعنا هاتفا من الهواء يقول:
اشتغلتم بالغنائم وخالد قدأحاطت به الروم فلما سمعنا ذلك لم ندر أي
مكان أنت فيه وفقدنا شخصك فدلنا عليك علج كان بيد رجل من أصحابك وقال:
إن صاحبكم أنا الذي دللته على هربيس وانه معه في هذا الجبل فسرنا إليك.
فقال خالد: لقد دلنا على عدونا ودل علينا المسلمين وقد وجب له الحق
علينا ورجع خالد وأصحابه إلى المسلمين فلما رأوه بادروا وسلموا عليه
فرد عليهم السلام ثم أن خالدا رضي الله عنه دعا بذلك العلج الذي دله
على هربيس وقال له: إنك وفيت لنا ونريد أن نوفي لك بما وعدناك لانك
نصحت لنا فهل لك أن تكون من أصحاب دين الصلاة والصيام وملة محمد عليه
الصلاة والسلام فتكون من أهل الجنة فقال: ما أريد بديني بدلا فأطلق
خالد سبيله قال نوفل بن عمرو فرأيته قد استوى على ظهر جواده.
(1/81)
يطلب بلاد
الروم وحده ثم أن خالد رضي الله عنه أمر بجمع الغنائم والاسارى فجمع
ذلك إليه فلما رأى كثرته حمد الله تعالى وشكره واثنى عليه ودعا بدليله
يونس النجيب ثم قال له: ما فعلت بزوجتك فحدثه معها وما كان من امرها
فعجب من ذلك فقال رافع بن عميرة أيها الأمير إني أسرت ابنة الملك هرقل
وقد سلمتها إليه بدلامن زوجته فقال خالد: وأين ابنة الملك هرقل فمثلت
بين يديه فنظر إلى حسنها وجمالها وما منحها الله به من الجمال فصرف
وجهه عنها وقال سبحانك اللهم وبحمدك تخلق ما تشاء وتختار ثم قرأ قوله
تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] ثم
قال ليونس أتريدها بدلا من زوجتك قال: نعم ولكني اعلم أن الملك هرقل لا
بدله أن يفديها بالأموال او يخلصها بالقتال فقال خالد: خذها لك الآن
فإن لم يطلبها فهي لك وأن طلبها فالله يعوضك خيرا منها فقال يونس أيها
الأمير إنك في مكان ضيق ومكان صعب فاعزم على الخروج قبل أن يلحق نفير
القوم فقال خالد: الله لنا ومعنا وعطف راجعا يجد في مسيره والغنائم
امامه والمسلمون في أثره فرحين بالغنيمة والسلامة والنصر.
قال روح بن عطية فقطعنا الطريق كلها وما عرض لنا من الرومأحد ونحن نخوض
في وسط ديار القوم خوضا فلما وصلنا مرج الصغير عند قنطرة أم حكيم نظرنا
إلى غبرة من وراءنا فلما عايناها إنكرنا ذلك فاسرع رجال من المسلمين
إلى خالد يخبرونه بالغبرة قال: أيكم يأتيني بخبرها فبادر بالأجابة رجل
من غفار يقال له صعصعة بن يزيد الغفاري: قال: أنا أيها الأمير ثم نزل
عن جواده وكان بجريه يسبق الفرس الجواد لقوة عزمه فورد الغبرة واختبرها
ورجع على عقبه وهو ينادي أيها الأمير ادركنا الصلبان من ورائنا وهم
مصفدون في الحديد لم يبن منهم غير حماليق الحدق فدعا خالد بيونس الدليل
عندما قاربته الخيل وقال: يا يونس اقصد نحو الخيل وانظر ما يريدون فقال
السمع والطاعة ثم دنا من الخيل وقاربهم ثم رجع إلى خالد وقال له: ألم
أقل لك أيها الأمير أن هرقل لا يغفل عن طلب ابنته وقد انفذ هذه الخيل
يريدون أن يأخذوا الغنيمة من أيدي المسلمين فلما لحقوك ههنا قريبا من
دمشق بعثوا رسولا يسألك في الجارية أما بيعها واما هدية فبينما خالد
يتحدث إذ أقبل إليه شيخ عليه لبس المسوح فأقبل حتى دنا من المسلمين
فاوقفوه أمام خالد وقال له: قل: ما نشاء فقال الشيخ أنا رسول الملك
هرقل وانه يقول: لك بلغني ما فعلت برجالي وقتلت توما زوج ابنتي وهتكت
حرمتي وقد ظفرت وسلمت فلا تفرط بمن معك والان ما أن تبيع ابنتي أو
تهديها الي فالكرم شيمتكم وطبعكم ولا يرحم من يرحم وإني ارجو أن يقع
بيننا الصلح فلما سمع خالد ذلك قال للشيخ قل لصاحبك: والله لا رجعت عنه
وعن أهل ملته حتى أملك سريره وما تحت قدميه كما في علمك واما ابقاؤك
علينا فلو وجدت.
(1/82)
إلى ذلك من
سبيل فما قصرت وأما ابنتك فهي لك هدية منا ثم أن خالدا اطلق ابنة الملك
هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول إلى
الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول
إلى الملك هرقل قال لعظماء الروم هذا الذي اشرت عليكم فلم تقبلوه
واردتم قتلي وسيكون الأمر اعظم ولكن ليس هذا منكم بل هو من رب السماء.
قال الواقدي: فبكت الروم بكاء شديدا وسار خالد حتى أتى دمشق وكان
المسلمون وابو عبيدة قد أيسوا من خالد ومن معه فهم في أعظم القلق
والاياس إذ قدم عليهم خالد رضي الله عنه والمسلمون فخرجوا إلى لقائه
وهنئوه بالسلامة وسلم المسلمون بعضهم على بعض ووجد خالد في دمشق عمرو
بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الاشتر النخعي ومن كان معهما واقبل خالد
إلى جانب ابي عبيدة وهو يحدثه بما لاقى في غزوته وابو عبيدة بتعجب من
شجاعته وجسارته فلما استقر بخالد مكانه أخذ الخمس من الغنائم وفرق
الباقي على المسلمين ثم أن خالدا اعطى من ماله ليونس وقال خذ هذا فتزوج
به او اشتر به جارية لك من بنات الروم قال يونس والله لا أتزوج في هذا
الدار الدنيا زوجة ابدا وما أريد إلا أن أتزوج في الأخرة بعيناء من
الحور لعين قال رافع بن عميرة الطائي فشهد معنا القتال إلى يوم اليرموك
فما كنت أراه في حرب إلا ويجاهد جهادا عظيما وقد أبلى في الروم بلاء
حسنا فأتاه سهم في لبته فخر ميتا رحمه الله تعالى قال رافع فحزنت عليه
واكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي رجليه نعلان
من ذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له: ما فعل الله بك قال غفر لي
واعطاني بدلا من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن فى الدنيا لكف
ضوء وجهها نور الشمس والقمر فجزاكم الله خيرا فقصصت الرؤيا على خالد
فقال ليس والله سوى الشهادة طوبى لمن رزقها.
(1/83)
|