فتوح الشام
ذكر فتح قنسرين
قال الواقدي: وبلغ الخبر إلى أهل قنسرين أن الأمير أبا عبيدة يعطي
الأمان من.
(1/102)
قصده فأحبوا أن
يأخذوا الأمان من أبي عبيدة رضي الله عنه واجمعوا رايهم على ذلك وأن
ينفذوا رسولا من غير علم بطريقهم.
قال الواقدي: وكان على قنسرين والعواصم بطريق من بطارقة الملك من أهل
الشدة والبأس وكان أهل قنسرين يخافون منه وكان اسمه لوقا وصاحب حلب
عسكره مثل عسكره وسطوته مثل سطوته وكان الملك هرقل قد دعا بهما إليه
فقالا له أيها الملك ما كنا نترك ملكنا من غير أن نقاتل قتالا شديدا
فشكرهما الملك هرقل على ذلك ووعدهما أن يبعث إليهما جيشا عرمرميا وكانا
منتظرين ذلك من وعد الملك لهما وكان مع كل واحد منهما عشرة آلاف فارس
إلا انهما لا يجتمعان في موضع واحد قال فلما سمع صاحب قنسرين ما قد عزم
عليه أهل قنسرين من الصلح مع ابي عبيدة غضب غضبا شديدا وعزم أن يمكر
بهم فجمع أهل قنسرين إليه وقال لهم: يا بني الأصفر ما تريدون أن اصنع
مع هؤلاء العرب وكأنكم بهم وقد اقبلوا إلينا يفتحون بلادنا كما فتحو
أكثر بلاد الشام فقالوا: أيها السيد قد بلغنا إنهم أصحاب وفاء وذمة وقد
فتحوا أكثر البلاد بالصلح والعدل ومن قاتلهم قاتلوه واستعبدوا اهله
واولاده ومن دخل تحت طاعتهم اقروه في بلده وكان آمنا من سطوتهم والرأي
عندنا أن نصالح القوم ونكون آمنين على أنفسهم وأموالنا فقال لهم
البطريق: لقد اشرتم بالصواب والأمر الذي لا يعاب لأن هؤلاء العرب قوم
منصورون على من قاتلهم وها أنا اعقد لكم الصلح معهم سنة كاملة إلى أن
توافينا جيوش الملك هرقل ونعطف عليهم وهم آمنون فنبيدهم عن آخرهم
فقالوا: افعلوا ما فيه الصلاح.
قال الواقدي: واتفق أهل قنسرين والبطريق على صلح المسلمين وفي قلوبهم
الغدر قال وأن لوقا البطريق دعا برجل من أصحابه اسمه اصطخر وكان قسيسا
عالما بدين النصرانية فصيح اللسان قوي الجنان يعرف العربية والرومية
وقد عرف الدينين إليهودية والنصرانية فقال لوقا يا ابانا سر إلى العرب
وقل لهم يصالحونا سنة كاملة حتى نبعد القوم بالحيلة والخداع ثم كتب
الكتاب إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه فقال بعد كلمة كفره اما بعد
يا معاشر العرب أن بلدنا منيع كثير العدد والرجال فما تأتونا من قبله
ولو اقمتم علينا مائة سنة ما قدرتم علينا وأن الملك هرقل قد استنجد
عليكم من حد الخليج إلى رومية الكبرى ونحن قد بعثنا إليكم نصالحكم سنة
كاملة حتى نرى لمن تكون البلاد ونحن نريد منكم أن تجعلوا بيننا وبينكم
علامة من حد أرض قنسرين والعواصم حتى إذا همت العرب بالغارة بدت
العلامة تريكم حد ارضنا ونحن نصالحكم خفية من الملك هرقل لئلا يعلم
فيقتلنا والسلام ثم خلع على اصطخر خلعة سنية واعطاه بغلة من مراكبه
وعشرة غلمان وسار حتى وصل إلى حمص فرأى الأمير أبا عبيدة رضي.
(1/103)
الله عنه يصلي
بالمسلمين صلاة العصر فوقف اصطخر ينظر ما يفعلون ويعجب من ذلك فلما
فرغوا من صلاتهم ونظروا إلى القسيس وثبوا إليه وقالوا له: من أنت ومن
اين اقبلت فقال أنا رسول ومعي كتاب فمثلوه بين يدي ابي عبيدة فهم
القسيس بالسجود له فمنعه أبو عبيدة رضي الله عنه من ذلك وقال له: نحن
عبيد الله عز وجل فمنا شقي ومنا سعيد: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا
فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خَالِدِينَ فِيهَا مَا
دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 106, 107] فلما سمع اصطخر
ذلك بهت وبقي لا يرد جوابا وهو متعجب مما تكلم به الأمير أبو عبيدة رضي
الله عنه فناداه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال له: ما شأنك أيها
الرجل ورسول من أنت فقال اصطخر اانت أمير القوم فقال خالد: لا بل هذا
اميرنا واشار إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فقال اصطخر أنا رسول صاحب
قنسرين والعواصم ثم اخرج الكتاب ودفعه إلى ابي عبيدة رضي الله عنه
فأخذه وقرأه على المسلمين فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ما في
الكتاب من صفة مدينتهم وكثرة عددهم ورجالهم وتهديدهم بجيوش الملك هرقل
حرك رأسه وقال لأبي عبيدة: وحق من ايدنا بالنصر وجعلنا من امة محمد صلى
الله عليه وسلم الطاهر أن هذا الكتاب من عند رجل لا يريد الصلح بل يريد
حربنا ثم قال لاصطخر: تريدون أن تخدعونا حتى إذا جاءت جنود صاحبكم
ورأيتم القوم وقد جاءتكم نقضتم صلحنا وكنتم أول من يقاتلنا وأن رأيتم
الغلبة لنا هربتم إلى طاغيتكم هرقل فإن أردتم ذلك فنواعدكم الحرب
مواعدة من غير أن يكون صلحا سنة كاملة فإن لحق بكم جيش هذه السنة من
الملك هرقل فلا بد من قتاله فمن اقام في المدينة ولم يقاتل مع الجيش
فهو على صلحنا لا نتعرض له قال اصطخر قد اجبناكم إلى ذلك فاكتبوا لنا
كتابا بذلك فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير اكتب لهم
كتابا بمواعدة الحرب سنة كاملة اولها مستهل شهر ذي القعدة سنة أربع
عشرة من الهجرة النبوية قال فكتب له أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك فلما
فرغ من الكتاب قال له: اصطخر أيها الأمير حد بلادنا معروف وبازائنا
صاحب حلب وبلاده بحد بلادنا ونريد أن تجعل لنا علامة فيما بيننا وبينكم
حتى إذا طلب أصحابكم الغارة لا يتجاوزون ذلك.
قال الواقدي: فرضني أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك وقال أنا ابعث من يحدد
لكم ذلك قال اصطخر أيها الأمير ما نريد معنا أحدا من أصحابك نحن نصنع
عمودا وننصحه ويكون عليه صورة الملك هرقل فإذا رآه أصحابك لا يجاوزنه
فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه افعل ذلك ثم دفع إليه الكتاب ونادى في
عساكر المسلمين وأصحاب الغارات من نظر إلى عمود فلا يتعداه ولا يتجاوزه
بل يشن الغارة على ارض حلب وحدها ولا يتجاوز العمود فليبلغ الشاهد
الغائب.
(1/104)
قال الواقدي:
ورجع اصطخر إلى بطريق قنسرين واعلمه بما جرى له مع خالد بن الوليد رضي
الله عنه ودفع له الكتاب ففرح بذلك وقصد إلى عمود عظيم وصنع عليه صورة
الملك هرقل كأنه جالس على كرسي مملكته.
قال الواقدي: وكانت خيل المسلمين تضرب غارتها إلى اقصى بلاد حلب والعمق
وانطاكية ويحيدون عن حد قنسرين والعواصم إلا يقربون العمود قال عمر بن
عبد الله الغبري عن سالم بن قيس عن ابيه سعد بن عبادة رضي الله عنه قال
كان صلح المسلمين لاهل قنسرين والعواصم على أربعة آلاف دينار ملكية
ومائة اوقية من الفضة والف ثوب من متاع حلب والف وسق من طعام.
قال الواقدي: حدثنا عامر قال كنا في بعض الغارات إذ نظرنا إلى العمود
وعليه صورة الملك هرقل فجئنا عنده وجعلنا نجول حوله بخيولنا ونعلمها
الكر والفر وكان بيد أبي جندلة قناة تامة فقرب به الجواد من الصورة وهو
غير متعمد ذلك ففقأ عين الصورة وكان عندها قوم من الروم وهم غلمان صاحب
قنسرين يحفظون العمود فرجعوا إلى البطريق وأعلموه بذلك فغضب غضبا شديدا
ودفع صليبا من الذهب إلى بعض أصحابه وضم إليه ألف فارس من أعلاج الروم
وعليهم الديباج الرومي وعليهم المناطق المجوفة وأمر اصطخر أن يسير معهم
وقال له: ارجع إلى أمير العرب وقل له غدرتم بنا ولم توفوا بذمامكم ومن
غدر جندل فأخذ اصطخر الصليب وسار مع ألف فارس من الروم حتى اشرف على
ابي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر المسلمون إلى الصليب وهو مرفوع اسرعوا
إليه ونكسوه فاستقبل أبو عبيدة القوم وقال من انتم قال اصطخر أنا رسول
صاحب قنسرين إليك وهو يقول: لك غدرتم ونقضتم العهد الذي بيننا وبينكم
فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
علمت بذلك وسوف اسأل عنه ثم نادى يا معاشر الناس من فقأ عين التمثال
فليخبرنا بذلك فقالوا: أيها الأمير أبو جندلة وسهل بن عمرو صنعا ذلك من
غير أن يتعمداه فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لاصطخر أن صاحبنا فعل ذلك
من غير أن يتعمد فما الذي يرضيك منا فقالت الأعلاج: لا نرضى حتى تفقأ
عين ملككم يريدون بذلك أن يتطرقوا إلى رقاب المسلمين فقال أبو عبيدة:
رضي الله عنه ها أنا فاصنعوا بي مثل ما صنع بصورتكم قالوا: لا نرضى
بذلك إلا بعين ملككم الأكبر الذي يلي أمر العرب كلها فقال أن عين ملكنا
تمنع من ذلك.
قال الواقدي: وغضب المسلمين حين ذكر الأعلاج عين عمر بن الخطاب رضي
الله عنه وهموا بقتل الأعلاج فنهاهم أبو عبيدة رضي الله عنه عن ذلك
فقال المسلمون أيها الأمير نحن دون امامنا فنفديه بأنفسنا ونفقأ عيوننا
دون عينه فقال اصطخر عندما نظر.
(1/105)
إلى المسلمين
وقد هموا بقتله وقتل من معه من الأعلاج لا نفقا عين عمر ولا عيونكم
ولكن نصور صورة اميركم على عمود ونصنع به مثل ما صنعتم بصورة ملكنا
فقالت المسلمون أن صاحبنا فعل ذلك من غير تعمد وانتم تريدون العمد فقال
أبو عبيدة: رضي الله عنه مهلا يا قوم فإذا رضي القوم بصورتي فقد اجبتم
إلى ذلك ولا يتحدث القوم عنا اننا عاهدنا وغدرنا فإن هؤلاء القوم لا
عهد لهم ولا عقل ثم اجابهم إلى ذلك.
قال الواقدي: فصوروا ابي عبيدة رضي الله عنه على عمود وجعلوا له عينين
من زجاج واقبل فارس منهم حنقا ففقأ عين الصورة ثم رجع اصطخر إلى صاحب
قنسرين واخبره بذلك فقال لقومه بهذا نالهم ما يريدون قال واقام أبو
عبيدة على حمص يغير يمينا وشمالا ينتظر خروج السنة لينظر ما بعد ذلك.
قال الواقدي: وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر بن الخطاب رضي الله ولم يرد
عليه شيء من الكتب والفتح فأنكر عمر ذلك وظن به الظنون وحسب إنه قد
داخله خبر وقد ركن إلى القعود عن الجهاد فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن
الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة ابي عبيدة عامر بن الجراح سلام
عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله
عليه وسلم وآمرك بتقوى الله عز وجل سرا وعلانية وأحذركم عن معصية الله
عز وجل وأحذركم وانهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم: {قُلْ إِنْ
كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] الاية وصلى الله على خاتم النبيين وامام
المرسلين والحمد لله رب العالمين فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة رضي
الله عنه قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين عمر يحرضهم على
القتال وندم أبو عبيدة رضي الله عنه على صلح قنسرين ولم يبق أحد من
المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا:
أيها الأمير ما يقعدك عن الجهاد فدع أهل شيزر وقنسرين واطلب بنا حلب
وانطاكية فلعل الله أن يفتحهما على ايدينا وقد انقضى اجل الصلح وما بقي
إلا القليل وما البقاء إلا للملك الجليل فعزم أبو عبيدة على المسير إلى
حلب وعقد راية لسهل بن عمرو وعقد راية اخرى لمصعب بن محارب اليشكري
وامر عياض بن غانم أن يسير على مقدمتهم واتبعه خالد بن الوليد وسار أبو
عبيدة رضي الله عنه إلى أن نزل على الرشين وصالح اهلها وسار الىحماة
فخرج اهلها إليه ومعهم الإنجيل وقد رفعه الرهبان على اكفهم والقسس أمام
القوم يطلبون منه الصلح والذمام فلما رآهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقف
وقال لهم: ما الذي تريدون فقالوا: أيها الأمير نريد أن نكون في صلحكم
وذمامكم فأنتم أحب إلينا.
(1/106)
قال الواقدي:
فصالحهم أبو عبيدة وكتب لهم كتاب الصلح والذمام وخلف رجالا من المؤمنين
وسار حتى نزل إلى شيزر فاستقبلوه فصالحهم وقال لهم: اسمعتم للطاغية
هرقل خبرا فقالوا: ما سمعنا له خبرا غير إنه اتصل بنا الخبر أن بطريق
قنسرين قد كتب إلى الملك هرقل يستنجد عليكم وقد بعث بجبلة بن الأيهم
الغساني من بني غسان والعرب المنتصره ومعه بطريق عمورية في عشرة آلاف
فارس وقد نزلوا على جسر الحديد فكن منهم على حذر أيها الأمير فقال أبو
عبيدة: رضي الله عنه حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الواقدي: واقام الأمير أبو عبيدة على شيزر وبقي مرة يقول: اسير إلى
حلب ومرة يقول: اسير إلى انطاكيه فجمع امراء المسلمين إليه وقال: أيها
الناس قد بلغني أن بطريق قنسرين قد نقض العهد وارسل للملك هرقل والخبر
كذا وكذا فما انتم قائلون فقالوا: أيها الأمير دع أهل قنسرين والعواصم
وسر بنا إلى حلب وانطاكية فقال خذوا اهبتكم رحمكم الله.
قال الواقدي: وكان بقي من الصلح والعهد الذي بينهم وبين أهل قنسرين شهر
او اقل من ذلك فأقام أبو عبيدة رضي الله عنه ينتظر انفصال العهد قال
وكانت عبيد العرب يأتون بجراثيم الشجر من الزيتون والرمان وغير ذلك من
الاشجار التي تطعم الثمار فعظم ذلك على الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه
فدعا العبيد إليه وقال: ما هذا الفساد فقالوا: أيها الأمير أن الأحطاب
متباعدة منا وهذه الاشجار قريبة فقال الأمير أبو عبيدة عزيمة مني على
كل حر وعبد قطع شجرة لها طعم وثمر لاجازينه ولانكلن به فلما سمع العبيد
ذلك النكال جعلوا يأتون بالأحطاب من اقصى الديار قال سعيد بن عامر وكان
معي عبد نجيب وكان اسمه مهجعا وقد شهد معي الوقائع والحروب وكان جريء
القلب في القتال وكان إذا خرج في غارة او في طلب حطب يتوغل ويبعد فخرج
هو وجماعة من العبيد ممن شهد الوقائع في طلب الحطب فأبطأ خبره على سيده
سعيد بن عامر فركب جواده وخرج في طلبه وجعل يقفو أثره وإذا لاح له شخص
وقد سال دمه على وجهه وصبغ سائر جسده وما كاد يمشي خطوة واحدة إلا
ويهوي على وجهه قال سعيد بن عامر فنزلت إليه وقلت له: ما وراءك من
الأخبار فقال هلكة ودمار يا مولاي فقلت: عليك يا ابن الأسود حدثني
بخبرك قال سعيد فلم يكد يقف حتى سقط على وجهه فنضحت على وجهه ماء فسكن
ما به فقال: يا مولاي انج بنفسك وإلا ادركك القوم يصنعون بك مثل ما
صنعوا بي فقلت: ما القوم الذين صنعوا بك ما أرى فقال خرجت يا مولاي أنا
وجماعة من الموالي لنحطتب حطبا فتباعدنا كثيرا في البر وإذا نحن بكتيبة
من الخيل زهاء عن ألف فارس كلهم عرب وفي اعناقهم صلبان الذهب والفضة
وهم معتقلون بالذهب والفضة.
(1/107)
والرماح فلما
نظروا إلينا اسرعوا نحونا وداروا بنا وعزموا على قتلنا فقلت لأصحابي:
دونكم وإياهم.
فقالوا: ويحك ومن يقاتل وليس لنا طاقة بقتال هذه الكتيبة والخيل وما
لنا إلا أن نلقي بأيدينا إلى الأسر فهو اهون من القتال فقلت: لا والله
ما سلمت نفسي إليهم دون أن اقاتل قتالا شديدا فلما رأوا مني الجد فعلوا
مثل فعلي فقاتلنا القوم وقاتلونا فقتلوا منا عشرة وأسروا عشرة وأما أنا
فأثخنت بالجراح حتى سقطت على وجهي فرجعوا عني وبقيت كما ترى قال سعيد
بن عامر الأنصاري فغمني والله ما نزل بالعبيد فأردفته ورائي ورجعت على
أثري وإذا بالخيل قد طلعت من ورائي كأنها الريح الهبوب او الماء إذا
اندفق من ضيق الأنبوب وإذا بخيل غسان أحدقت بالرماح الطوال وهم يقولون
نحن بنو غسان من حزب الصليب والرهبان قال سعيد بن عامر فناديتهم أنا من
أصحاب محمد المختار صلى الله عليه وسلم فأسرع بعضهم الي وهم أن يعلوني
بالسيف فناديته يا ويلك أتقتل رجلا من قومك فقال من أي الناس أنت قلت:
أنا من الخزرج الكرام فرد السيف وقال أنت طلبة سيدنا جبلة بن الأيهم
وحق المسيح فقلت: ومن اين يعرفني جبلة حتى يطلبني فقال إنه يطلب رجلا
من أهل اليمن من انصار محمد بن عبد الله ثم قال سر بنا طائعا وإلا سرت
كرها قال سعيد بن عامر فسرت والجيش معي حتى اشرفنا على جيش عرمرم وعنده
اعلام وصلبان قد رفعت فلم ازل مع القوم حتى أتوا بي إلى مضرب جبلة بن
الأيهم وإذا به جالس على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي
وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت فلما وقفت بين يديه
رفع رأسه الي وقال من أي عرب أنت قلت: أنا من اليمن قال اكرمت من أيها
فقلت: أنا من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو وبن عامر بن حارثة بن ثعلبة
بن امرىء القيس بن عبد الله بن الأزور بن عوف بن مالك بن كهلان بن سبأ
فقال جبلة من أي الملأ أنت نسبا فقلت: أنا من ولد الخزرج بن حارثة من
انصار محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال جبلة وأنا من قومك من
بني غسان فقلت: أنا من القبيلة التي نسبت إليها فقال أنا جبلة بن
الأيهم الذي رجعت عن الإسلام فما رضي صاحبكم عمر بن الخطاب أن يكون
مثلي لهذا الدين ناصرا حتى يأخذ مني القود لعبد حقير وأنا ملك اليمن
وسيد غسان فقلت: يا جبلة أن حق الله اوجب من حقك وديننا لا يقوم إلا
بالحق والنصفة وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يخاف ولا تأخذه في
الله لومة لائم فقال لي ما اسمك فقلت: سعيد بن عامر الأنصاري فقال
اوطيء يا سعيد قال فجلست فقال الك عهد بحسان بن ثابت الأنصاري فقلت:
شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال فيه المصطفى أنت حسان
ولسانك حسام فقال لي كم لك منذ فارقته فقلت: عهدي به
(1/108)
قريب وقد دعاني
إلى دعوة صنعها وامر مولاته أن تنشد بها شعرا فيك فانشدت:
لله در عصابة نادمتهم
...
يوما بجلق في الزمان الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم
...
لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة انسابهم
...
شم الأنوف من الطراز الأول
الملحقين فقيرهم بغنيهم
...
المشفقين على اليتيم الأرمل
اولاد جفنة حول قبر ابيهم
...
قبر ابن مارية الكريم المفضل
ثم خرجنا إلى الشام وهذا آخر عهدي به قال جبلة بن الأيهم اوحفظ لي هذه
المكرمة قلت: نعم قال فأمر لي بثوب من الكتان الرومي وفيه شيء من الورق
وقال أنا امرت لك بالكتان كي تلبسه ولا تحرمه ثم قال لي بحق ذمة العرب
ما كنت تصنع في المكان الذي اسرت فيه فقلت: إن الصدق اوفى ما استعمله
الرجل أنا من أصحاب الأمير ابي عبيدة بن الجراح وقد قصدنا نريد حلب
وانطاكية فقال جبلة اعلم أن الملك قد بعثني أنا وهذا البطريق صاحب
عمورية حتى ننصر صاحب قنسرين فإنه قد كادكم بصلحه لكم وأنا منتظر أن
يلاقينا بهذا المكان ولكن ارجع إلى صاحبك ابي عبيدة وحذره من اسيافنا
وقل له يرجع من حيث قدم ولا يتعرض لبلاد هرقل وسوف ينزع من ايديكم ما
قد ملكتموه من الشام قال سعيد بن عامر فركبت واردفت غلامي وسرت حتى
أتيت عسكر المسلمين فأسرع الناس الي وقالو ا اين كنت يا ابن عامر فأتيت
خيمة الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وحدثته بقصتي مع جبلة بن الأيهم
فقال لي لقد خلصك الله بذكرك لحسان بن ثابت الأنصاري ثم جمع أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم للمشورة ثم قال: أيها الناس ما ترون من قصة
هذا البطريق وقد وفينا له وكادنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن
البغي مصرعة وأن كادنا كان الله من ورائه بالمرصاد وسوف نكيده اعظم
مكيدة وأنا اسير إلى لقائه بعشرة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال أبو عبيدة: أنت لها يا أبا سليمان ولكل كريهة فخذ من
أحببت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد بن الوليد رضي
الله عنه: اين عياض بن غانم الاشعري اين عمرو بن سعيد اين مصعب بن
محارب اليشكري اين أبو جندلة بن سعيد المخزومي اين سهل بن عمرو العامري
اين رافع بن عميرة الطائي اين المسيب بن نجية الفزازي اين سعيد بن عامر
الأنصاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي اين عاصم بن عمر القيس اين عبد
الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه فاجابوه بالتلبية.
قال الواقدي: وكان ضرار بن الأزور رضي الله عنه رمد العينين لم يحضر
هذه الوقعة فقال لهم خالد بن الوليد: هلموا فوجدوه قد تدرع بدرع مسيلمة
الكذاب الذي.
(1/109)
استلبه منه يوم
اليمامة واشتمل بلامة حربه وركب جواده وقال لعبده همام سر معي حتى ترى
مني عجبا فسار معه وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه والعشرة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو عبيدة يا سعيد أما اخبرك جبلة بن
الأيهم من اين يأتي البطريق صاحب قنسرين إليه فقال: نعم يا أبا سليمان
اخبرني فقال له: خذنا في الطريق إلى جبلة بن الأيهم رضي الله عنه يدعو
لهم بالنصر فأقبل خالد على سعيد بن عامر الأنصاري وقال حتى نكمن له فيه
فإذا أتى البطريق صاحب قنسرين كدناه كما كادنا ودمرناه ومن معه فسار
سعيد أمام القوم يدلهم ويجد السر طالب عسكر جبلة بن الأيهم وكان مسيرهم
ليلا فلما وصلوا إلى قرب النيران وسمعوا اصوات القوم عدل بهم سعيد بن
عامر إلى صوب طريق البطريق وكمن بمن معه من الرجال إلى وقت الصباح فلم
يأت أحد فصلى خالد بأصحابه صلاة الفجر وهم في المكمن فبينما هم في
المكمن إذ اشرف عليهم جيش جبلة بن الأيهم والعرب المتنصرة وصاحب عمورية
وهم طالبون ارض العواصم وقنسرين فقال المسلمون لخالد يا أبا سليمان أما
ترى هذا الجيش الذي قد اشرف علينا في عدد الشوك والشجر فقال خالد بن
الوليد رضي الله عنه: فما يكون من كثرتهم إذا كان النصر لنا والله معنا
فاختلطوا بهم انتم وكونوا في جملتهم كأنكم من جيشهم إلى أن نلتقي
بالبطريق صاحب قنسرين ويفعل الله تعالى ما يشاء ويختار فعند ذلك
اختلطوا بهم وصاروا في جملتهم وهم لا يفترقون قال رافع بن عميرة الطائي
فلما اشرفنا على حد صلحنا ولاح لنا بلد العواصم وقنسرين إذا ببطريقها
قد استقبلنا وقد رفع امامه الصليب واخرج بين يديه القسوس والرهبان وهم
يقرأون الإنجيل وقد ارتفعت اصواتهم بكلمة الكفر ودنا بعضهم من بعض.
وخرج البطريق أمام الصحابة ليأتي إلى جبلة بن الأيهم يسلم عليه
فاستقبله خالد بن الوليد رضي الله عنه مواجها له وحوله أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلما قرب البطريق منهم قال سلمكم المسيح وأبقاكم
الصليب فقال خالد: ويا ويلك ما نحن من عباد الصليب بل نحن من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد الحبيب وكشف خالد بن الوليد رضي
الله عنه وجهه ونادى لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله يا عدو الله أنا خالد بن الوليد أنا المخزومي صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وضرب بيده البطريق وقبض عليه واتنزعه من سرجه وبرز
أصحاب رسول الله عليه وسلم وسلوا السيوف على أصحابه وارتفعت الضجة
والجلبة وأعلن العدو بكلمة الكفر وضج المسلمون بكلمة التوحيد وسمع جبلة
وصاحب عمورية اصوات المسلمين وقد ارتفعت بالتهليل والتبكير فانزعجوا
لذلك ونظروا إلى السيوف وقد جردت والرماح وقد شرعت فبرزوا نحو أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاطوا بهم من كل جانب ومكان فلما نظر
خالد إلى ما دهمه ونزل بأصحابه الذين معه والبطريق صاحب قنسرين لا
يفارقه وقد ملك قياده وهو خائف أن.
(1/110)
ينفلت من يديه
أو تجري عليه حادثة قبل أن يقتله هم خالد أن يقتله ورفع السيف ليعلوه
به فتبسم البطريق من فعاله وعجب خالد من ضحكه وقال ويلك مم ضحكك فقال
البطريق لانك مقتول أنت ومن معك وتريد قتلي وأن أنت ابقيت علي فهو اصوب
فتركه خالد ولم يقتله ثم صاح خالد بأصحابه أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم كونوا حولي واحموا عني واصبروا على ما نزل بكم ولا يكثر
عليكم من أحدق بكم فإن اشد ما تخافون منه القتل والموت منية خالد في
سبيل الله وإني والله اهديت نفسي للقتل مرارا لعلي ارزق الشهادة
واعلموا رحمكم الله أن حجتنا واضحة ومفوضة إلى الله عز وجل وكأني بكم
وقد وصلتم إلى ربكم وسكنتم دارا لا يموت ساكنها ثم قرأ: {لا
يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}
[الحجر:48].
(1/111)
جبلة يحارب خالدا
قال الواقدي: فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد رضي
الله عنه وداروا من حوله وسار عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله
عنه عن يمينه ورافع بن عميرة عن يساره وعبده همام من ورائه وأصحابه
محدقون به وسلم خالد البطريق صاحب قنسرين إلى عبده همام وقال اوثقه إلى
جانبك ولا تبرح من مكانك وأبشر بالنصر من الله عز وجل.
قال الواقدي: واقبلت إليهم العرب المنتصرة يقدمهم جبلة بن الأيهم في
عنقه صليب من الذهب الأحمر وفيه طوق من الجوهر وعليه ثياب الديباح
المزركش ومن فوقه درع مذهب الزرد وعلى رأسه بيضة من الذهب وعلى أعلاها
صليب من الجوهر وفي يده رمح طويل وسنانه يضيء كالقنديل وصاحب عمورية
كالبرج المشيد ومن حوله الأعلاج المدلجة وقد أحدق بهم الجيش من كل جانب
فلما نظر صاحب عمورية إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد ملك صاحب
قنسرين وهو في يده اسير خاف أن يعجل عليه خالد فأقبل إلى جبلة وقال له:
وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا شياطين إلا ترى إلى هذا العربي ومعه وهم
عشرة رجال وقد أحدق بهم هذا الجيش العظيم وما يفكرون فيه وقد ملكوا
صاحبنا وهو معهم اسير ولا يخلص من ايديهم وإني خائف عليه أن يقتلوه وهو
عزيز عند الملك هرقل فاخرج إلى هذا العربي وقل له يخلي صاحبنا ويوصله
إلينا حتى نجود لهم بأنفسهم فإذا اطلقوا صاحبنا حملنا عليهم وقتلناهم
عن آخرهم قال رافع ابن عميرة الطائي فبينما نحن وقوف حول خالد بن
الوليد رضي الله عنه وجيش الروم والعرب المنتصرة محدقون بنا ونحن لا
نفكر في كثرتهم لانا واثقون بالله عز وجل وإذا بجبلة بن الأيهم وهو
ينادي برفيع صوته ويقول: من انتم من أصحاب محمد المعروفين من انتم من
العرب التابعين اخبرونا من قبل أن ينزل بكم.
(1/111)
الدمار فكان
المكلم له خالد وبادره بالخطاب وقال له: بل نحن من أصحاب محمد المختار
المعروفين بأهل القبلة والإسلام والأكرام والأنعام وأما سؤالك عن
انسابنا فنحن الآن من قبائل شتى وقد جعل الله كلمتنا واحدة ونحن
مجتمعون عليها وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله زاده الله تعالى
شرفا فلما سمع جبلة كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا إذ لم يفكر فيه
ولا فيمن معه.
فقال جبلة يا فتى أنت أمير هؤلاء العرب فقال خالد: لست أميرهم بل اخوهم
في الإسلام وهم اخواني المؤمنون فقال جبلة من أنت من أصحاب محمد بن عبد
الله صلى الله عليه وسلم فقال خالدا أنا المعروف بكبش بني مخزوم أنا
خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الرجل الذي عن
يميني هو عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا الذي عن
شمالي من أهل اليمن من كرام طيء وهو رافع بن عميرة الطائي صهري وفؤادي
وذلك إني أخذت من كل قبيلة شجاعها المعروف وبطلها الموصوف فلا تزدر
بقتلنا ولا تفرح بكثرتهم فما انتم في القتال إلا كطيور وقع عليها
صائدها وهي كامنة في اوكارها فألقى القانص الشبكة عليها فما انفلت منها
إلا النجيب.
قال الواقدي: فزاد غضب جبلة من كلام خالد وقال له: ستعلم أن كلامك عليك
ميشوم إذا دارت بك الاسنة وبقيت أنت ومن معك طعاما للوحوش في هذه
الفلاة تمزقكم بكرة وعشيا فقال له خالد: ذلك لا يكثر علينا وهو سهل
لدينا فأنت من العرب التي قد نسبت لعبادة الصليب فقال أنا سيد بني غسان
ومن ملوك همدان أنا ملك غسان وتاجها أنا جبلة بن الأيهم فقال أنت
المرتد عن دين الإسلام ومن اختار الضلالة على الهدى وسلك سبيل الغي وصل
وغوى فقال جبلة لست كذلك أنا الذي اخترت العز على الذل والهوان فقال
خالد: فانك على ذل نفسك حريص وإنما الكرامة غدا في دار البقاء والبعد
عن دار الشقاء فقال جبلة: يا اخا بني مخزوم لا تفرط علينا في المقال
فإنما بقائي عليك وعلى أصحابك بسبب هذا الأسير الذي في يدك لاني اخاف
أن حملت عليكم قتلته وهو معظم عند الملك هرقل وقريب عنده في النسب
فأطلقه من يدك حتى أجود عليكم بأنفسكم فقال خالد: أما اسيري فلا اطلقه
من يدي حتى اقتله ولا أبالي لما صنع بي بعده وأما قولك تحمل علي وعلى
من معي بهذه الجموع فما انصفت في المقال فإذا أردت النصفة في القتال
فجمعكم عظيم وعددكم كثير ونحن عشرة رجال وقد فارس وهذا اميركم فإن
قتلتمونا فقد خلصتم اسيركم وأن اظفرنا الله أحدقت بنا اعنت خيولكم
واسنة رماحكم وطيال سيوفكم فابرزوا فارسا بكم وما النصر إلا من عند
الله فما يعظم عليكم هلاك اسيركم إذا هلكت أنفسكم قبله.
(1/112)
قال الواقدي:
فعند ذلك نكس جبلة راسه واقبل يحدث صاحب عمورية بجواب خالد بن الوليد
رضي الله عنه فغضب صاحب عمورية غضبا شديدا وانتضى سيفه فلما نظر خالد
بن الوليد إلى البطريق وقد جرد سيفه علم إنه يريد القتال فلما هم صاحب
عمورية بالحملة امسكه جبلة ومنعه عن الحملة واوقفه تحت صليبه واقبل
جبلة على خالد بن الوليد وقال: يا اخا بني مخزوم أن الحرب كما ذكرت
تحتمل النصفة وهؤلاء بنوا الأصفر اعلاج الروم غنم ما يعرفون النصفة في
البراز وقد حدثتهم بحديثك معي وقد رضوا منك بالمبارزة فمن أراد منكم
المبارزة فليبرز قال رافع بن عميرة الطائي فعزم خالد بن الوليد أن يبرز
فمنعه عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وقال: يا أبا سليمان
وحق القبر الذي ضم اعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق شيبة ابي
بكر الصديق رضي الله عنه لا يبرز لهؤلاء القوم غيري وابذل المجهود فيهم
فلعلي الحق بأبي بكر الصديق فتركه خالد وقال اخرج شكر الله مقالك وعرف
لك مفالك قال فخرج عبد الرحمن ابن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على
فرس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان دفعه له من قسمة غنيمة وقعة
اجنادين وكان الجواد من خيل بني لخم وجذام من العرب المتنصرة وكان
كالطود العظيم وعبد الرحمن غارقا في الحديد والزرد النضيد وبيده قناة
تامة الطول فجال عبد الرحمن بجواده بين عساكر الروم والعرب المتنصرة
ودعاهم إلى القتال والبراز والنزال وقال دونكم والقتال فأنا ابن الصديق
ثم جعل يقول:
أنا ابن عبد الله ذي المعالي
...
والشرف الفاضل ذي الكمال
أبي المجيد الصادق المقال
...
أدين هذا الدين بالفعال
ثم طلب البراز قال رافع بن عميرة فخرج إليه خمسة فوارس من شجعان الروم
فما كان يجول عبد الرحمن على الفارس إلا جولة واحدة فيصرعه قتيلا فلما
قتل الخمسة فوارس توقفوا عنه فهم بالحملة على عسكر الروم فخرج إليه
جبلة بن الأيهم وقد اشتد به الغضب فلما قرب من عبد الرحمن قال له: يا
غلام قد تعديت علينا في فعالك وبغيت علينا في قتالك فقال عبد الرحمن
وكيف ذلك وما البغي من شيمتنا قال جبلة لانك قد ملأت الأرض من قتلانا
وما خرجت إليك اقاتلك لانك لست لي كفؤا في القتال وإنما خرجت إليك لأن
رجلا من أصحابك قد خرج يعينك وليس هذا من شيم الأشراف والانصاف قال
فلما سمع عبد الرحمن كلام جبلة تبسم وقال: يا ابن الأبهم تريد أن
تخدعني وأنا تربية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد شهدت معه
الوقائع والقتال فقال جبلة: لست مخادعا وما قلت إلا حقا فقال عبد
الرحمن فأخرج بإزاء من خرج معي فارسا من قومك أن كنت صادقا في مقالتك
واحمل على علي فاني كفء كريم.
(1/113)
قال الواقدي:
فلما نظر جبلة بن الأيهم إلى عبد الرحمن وانه لا يؤتي من قبل الخداع
والحيل قال هل لك يا غلام أن تلقي بيدك إلينا واغمسك في ماء المعمودية
غمسة تخرج منها نقيا من الذنوب كما خرجت من بطن أمك وتكون من حزب
الصليب والإنجيل وتأكل القربان وتأخذ الجائزة العظيمة من الملك هرقل
وازوجك ابنتي واقاسمك نعمتي واتفضل عليك باكرامي وانعامي وأنا الذي
مدحني شاعر نبيكم حيث يقول:
أن ابن جفنة من بقية معشر
...
لم تغذهم آباؤهم باللوم باللوم
يعطي الجزيل ولا يراه بأنه
...
إلا كبعض عطية المذموم
لم ينسني بالشام إذ هو بارح
...
يوما ولا متنصرا بالروم
أن جئته يوما تقر بمنزل
...
تسقي براحته من الخرطوم
فأسرع إلى ما عرضته عليك لتنجو من المهالك وتكون في النعم والعيش
السليم فقال عبد الرحمن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يا ويلك يا
ابن اللئام أتدعوني من الهدى إلى الضلال ومن الإيمان إلى الكفر
والجهالة وأنا ممن وقر الإيمان في قلبه وعرف رشده من غيه وصدق نبي الله
وابغض من كفر بالله فدونك والقتال ودع عنك الخديعة والمحال وتقدم إلى
ما عزمت عليه حتى أضربك ضربة أعجل بها حمامك وارغم بها انفك وتستريح
العرب من أن تنسب إليك لانك كافر بالرحمن وعابد للصلبان قال فغضب ج 4
بلة من كلام عبد الرحمن جعل عليه وهم به ورفع رمحه يريد أن يطعنه فزاع
عبدلارحمن من الطعنة وحمل على جبلة حملة عظيمة وتطاعنا بالرماح حتى كل
عبد الرحمن من حمل قناته فرماها من يده وانتضى سيفه وتعاركا في الحرب
فهجم عبد الرحمن على جبلة وضرب رمحه فبراه فرمى جبلة باقي الرمح من يده
وانتضى سيفه من غمده وكان من سيوف كندة من بقايا كأنه صاعقة بارقة ما
ضرب به شيءا إلا براه وحمل على عبد الرحمن رضي الله عنه حملة عظيمة قال
رافع بن عميرة الطائي: فعجبنا والله من عبد الرحمن وصبره على قتال جبلة
ومنازلته على صغر سنه وقلة أعوانه ثم التقيا بضربتين واصلتين فسبقه عبد
الرحمن بالضربة فأخذها جبلة من حجفته فقطع الدرق ونزل السيف إلى البيضة
فاثنى سيف عبد الرحمن عنها لأنها ذات سقاية عظيمة فجرحه جرحا واضحا
اسأل دمه وضربه جبلة ضربة واصلة فقطع ما كان عليه من الزرد والدروع
والثياب ووصلت الضربة إلى منكبه فجرحته فلما أحسن عبد الرحمن رضي الله
عنه بالضربة قد وصلت إليه ثبت نفسه وارى قرينه كأن الضربة لم تصل وحرك
جواده واطلق عنان فرسه حتى لحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه
فلما وصل إليهم قال له خالد: قد وصل إليك عدو الله بضربته فقال: نعم
وأظهر له ضربته وما لحقه فأخذوه.
(1/114)
عن فرسه وسدوا
جراحه فقال: يا ابن الصديق أن كان جبلة قد وصل إليك بضربته فوحق بيعة
ابيك لافجعنهم في اسيرهم كما فجعوني بك ثم صاح خالد بعبده همام وقال
قدم هذا العلج فقدمه بين يديه فضربه بسيفه فأطاح رأسه عن جسده فلما
نظرت الروم إلى صاحبهم وقد قتله خالد فجعهم ذلك وغضب جبلة وقال أبيتم
إلا الغدر وقتلتم صاحبنا ثم صاح في الروم والعرب المتنصرة وهموا
بالحملة ونظر خالد إليهم وقد حملوا على المسلمين فقال لعبده همام قف
أنت عند عبد الرحمن فامنع عنه من أراده بسوء ثم قال لأصحابه: أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج أحد منكم عن صاحبه وكونوا حولي
فما اسرع الفرج والنصر من الله عز وجل فوقف أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم حول خالد بن الوليد رضي الله عنه كما امرهم وما قصدهم إلا من
آيس من نفسه وحملت الروم والعرب المتنصرة بأجمعهم وثبت لهم المسلمون
الأخيار وعظم بينهم القتال ودارت بهم الأهوال قال ربيعة بن عامر والله
لقد كان خالد بن الوليد كلما كثرت الخيل حولنا وازدحمت علينا يتقيها
بنفسه ويفرقها بسيفه ولم نزل كذلك حتى أخذنا العطش والظما قال رافع بن
عميرة الطائي فلما رايت ذلك قلت لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان لقد
نزل بنا القضاء فقال والله لقد صدقت يا أبا عميرة لاني نسيت القلنسوة
المباركة ولم اصحبها معي.
قال الواقدي: وقد عظم عليهم الأمر وعز منهم الصبر وأخذهم الانبهار
ورأوا من المشركين الدمار والأرض قد ملئت من قتلى المشركين وهم بين
الروم كأنهم أسرى واذ قد نادى بهم مناد وهتف بهم هاتف وهو يقول: خذل
الأمن ونصر الخائف أبشروا يا حملة القرآن جاءكم الفرج من الرحمن ونصرتم
على عبدة الأوثان هذا وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر
ودارت عليهم الحوافر.
قال الواقدي: حدثنا بسرة عن اسحق بن عبد الله قال كنت مع ابي عبيدة رضي
الله عنه فبينما نحن في شيرزة وابو عبيدة في مضربه وإذا به قد خرج في
بعض الليل من مضربه وهو ينادي النفير النفير يا معشر المسلمين لقد أحيط
بفرسان الموحدين قال فأسرعنا إليه من كل جانب ومكان وقلنا له ما نزل بك
أيها الأمير فقال الساعة كنت نائما إذ طرقني رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجرني وقال لي معنفا يا ابن الجراح أتنام عن نصرة القوم الكرام
فقم والحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه فقد أحاط به القوم اللئام وإنك
تلحق به أن شاء الله تعالى رب العالمين.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع المسلمون قول ابي عبيدة رضي
الله عنه تبادروا إلى لبس السلاح والزرد وركبوا خيولهم وساروا يريدون
خالدا ومن معه قال فبينما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على المقدمة
في أوائل الخيل إذ نظر إلى فارس يسرع به جواده وهو أمام الخيل ويكر في
سيره كرا فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه رجالا.
(1/115)
من المسلمين أن
الحقوا به فلم يقدروا على ذلك لسرعة جواده قال فلما كلت الخيل عن
ادراكه نظر أبو عبيدة إليه وظن إنه من الملائكة قد ارسله الله امامهم
غير إنه نادى به الأمير أبو عبيدة على رسلك أيها الفارس المجد والبطل
المكد ارفق بنفسك يرحمك الله فوقف الفارس حين سمع النداء فلما قرب أبو
عبيدة من الفارس إذا هي أم تميم زوجة خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال
لها أبو عبيدة: ما حملت على المسير امامنا فقالت: أيها الأمير إني
سمعتك وانت تصيح وتضج بالنداء وتقول أن خالدا أحاطت به الأعداء فقلت أن
خالدا ما يخذل أبدا ومعه ذؤابة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ حانت مني
التقاتة إلى القلنسوة المباركة وقد نسيها فأخذتها وأسرعت إليه كما ترى
فقال أبو عبيدة: لله درك يا أم تميم سيري على بركة الله وعونه قالت أم
تميم: كنت في جماعة نسوة من مذحج وغيرهم من نساء العرب والخيل تطير بنا
طيرا حتى اشرفنا على الغبرة والقتال ونظرنا الاسنة والصوارم تلوح في
القتال كأنها الكواكب وما للمسلمين حس يسمع قالت: فانكرنا ذلك وقلنا أن
القوم قد وقع بهم عدوهم فعند ذلك كبر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه
وحمل وحملت المسلمون قال رافع بن عميرة فبينما نحن قد أيسنا من أنفسنا
إذ سمعنا التهليل والتكبير فلم تكن إلا ساعة حتى أحاط جيش المسلمين
بعسكر الكافرين ووضعوا السيوف من كل جانب وعلت الأصوات وارتفعت الزعقات
قال مصعب بن محارب اليشكري فرأيت عبدة الصلبان وهم هاربون ورأيت خالد
بن الوليد رضي الله عنه وهو ثابت في سرجه متشوف إلى الأصوات من اين هي
وإذا بفارس قد خرج من الغبار وهو يسوق فرسان الروم بين يديه ويهربون
منه حتى أزاح من حولنا الكتائب والرجال فأسرع خالد بن الوليد إليه وقال
من أنت أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام فقالت: أنا زوجتك أم تميم يا
أبا سليمان وقد أتيتك بالقلنسوة المباركة التي تنصر بها على أعدائك
فخذها إليك فوالله ما نسيتها إلا لهذا الأمر المقدر ثم سلمتها إليه
فلمع من ذؤابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نور كالبرق الخاطف.
قال الواقدي: وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وضع خالد
القلنسوة على رأسه وحمل على الروم إلا قلب أوائلهم على أواخرهم وحملت
المسلمون حملة عظيمة فما كان غير بعيد حتى ولت الروم الأدبار وركنوا
إلى الفرار ولم يكن في القوم إلا قتيل وجريح واسير وكان جبلة أول من
انهزم والعرب المتنصرة أثره فلما رجع المسلمون من اتباعهم اجتمعوا حول
راية الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وأتباعه وسلموا على الأمير أبي
عبيدة رضي الله عنه وعن المسلمين وشكروا الله على سلامتهم ونظر أبو
عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وأصحابه وهم كأنهم قطعة ارجوان
فصافحه وهنأه بالسلامة وقال لله درك يا أبا سليمان قد أشفيت الغليل
وأرضيت الملك الجليل ثم قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر
الناس قد رأيت أن نسير من وقتنا هذا ونغير.
(1/116)
على قنسرين
والعواصم ونقتل الرجال وننهب الأموال فقال المسلمون: نعم ما رأيت يا
أمين الأمة.
قال الواقدي: فانتخب أبو عبيدة رضي الله عنه فرسانا فجعلهم في المقدمة
عياض بن غانم الاشعري وساروا حتى اشرفوا على قنسرين والعواصم فقال
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: شنوا الغارات فشنوا الغارات
عليهم وسبوا الذراري وقتلوا الرجال فلما نظر أهل قنسرين إلى ذلك غلقوا
مدينتهم واذعنوا بالصلح وأداء الجزية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه
إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح وفرض على كل رأس منهم أربعة دنانير وبذلك
أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الواقدي: لما فتح أبو عبيدة رضي الله عنه قنسرين والعواصم قال
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشيروا علي برأيكم رحمكم الله
فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} الآية فهل اسير
إلى حلب وقلاعها وانطاكية وملوكها وعساكرها او نرجع إلى ورائنا فقالوا:
أيها الأمير كيف نرجع إلى حلب وانطاكية وهذه ايام انقضاء الصلح الذي
بيننا وبين أهل شيزر وأرمين وحمص وجوسية ولا شك إنهم قد أخذوا الحصار
وقووا بلادهم بالأطعمة والرجال ونخاف أن يتغلبوا علينا فيما أخذناه من
البلاد ويغيروا علينا لا سيما بعلبك وحصنها فانهم اولو شدة وعديد ونرى
من الرأي أنا نرجع إليهم ونقاتلهم فلعل الله عز وجل أن يفتح على ايدينا
قال فاستصوب ورجع على طريقه فوجدوا البلاد كما قالوا: قد تحصنت بالعدد
والرجال والطعام ولم يكن لابي عبيدة قصد إلا حمص فوجدها قد تحصنت
بالعدد والعديد وقد بعث إليها الملك هرقل بطريقا من أهل بيته وكان من
أهل الشدة والبأس ومعه جيش عرمرم وكان اسم البطريق هربيس فلما نظر أبو
عبيدة إلى ذلك ترك على حمص خالد بن الوليد رضي الله عنه وسار هو إلى
بعلبك فلما قرب منها وإذا بقافلة عظيمة فيها جمع من الناس ومعهم البغال
والدواب وعليها من انواع التجارات وقد اقبلت من الساحل يريدون بعلبك
فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى سوادها قال لمن حوله من الفرسان
ما هذا إلا جمع كثير أمامنا فقالوا: لا علم لنا بذلك فقال علي بخبرهم
فسارت الخيل إليهم وأخذت اخبارهم ورجع بعضهم بخبرها والقافلة من قوافل
الروم محملة متاعا قال شداد بن عدي وكانت أحمال القافلة أغلبها سكر
وكانت لاهل بعلبك فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال أن بعلبك لنا حرب وليس
بيننا وبينهم عهد فخذوا ما قد ساقه الله إليكم فإنها غنيمة من عند
الله.
قال الواقدي: فاحتوينا على القافلة وكان فيها أربعمائة حمل من السكر
والفستق والتين وغير ذلك وأخذنا أهلها اسارى فقال أبو عبيدة: رضي الله
عنه كفوا عن القتل.
(1/117)
واطلبوا منهم
الفداء فابتعناهم أنفسهم بالذهب والفضة والثياب والدواب وصنعنا من
السكر العصيدة والفالوذج بالسمن والزيت ودعس المسلمون دعبنا وبتنا حيث
حوتنا القافلة فلما اصبح الصباح أمرنا أبو عبيدة رضي الله عنه بالمسير
إلى بعلبك والنزول عليها وكان قد هرب قوم من القافلة وأخبروا أهل بعلبك
بالقافلة.
قال الواقدي: وكان على بعلبك بطريق عظيم يقال له هربيس: وكان شديد
البأس شجاع القلب فلما أتاه الخبر بقدوم عساكر المسلمين جمع رجاله وأهل
الحرب وأمرهم بلبس السلاح والعدد وخرج بعسكره وجعل يسير وهو يعلم أن
الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه سائر إليهم بجيوش المسلمين فلما انتصف
النهار وتراءى الجمعان وكان هربيس معه سبعة آلاف فارس سوى من اتبعه من
سواد بلده ونظر طوالع جيش أبي عبيدة رضي الله عنه ونظر المسلمون إلى
ذلك نادوا النفير فعندها تبادرت الفرسان وتقدمت الشجعان وشرعوا رماحهم
وجردوا سيوفهم وصف هربيس رجاله وعباهم تعبيئة الحرب فقال له بعض
بطارقته: ما الذي تريد أن تصنع مع العرب فقال اقاتلهم لئلا يطمعوا فينا
فينزلوا على مدينتنا فقالوا له: الرأي عندي أن لا تقاتل العرب وارجع
سالما أنت ورجالك فإن أهل دمشق الشام ما قدروا عليهم ولا ردهم عساكر
اجنادين ولا جيوش فسلطين وقد بلغك ما فيه كفاية مما جرى لهم بالأمس مع
صاحب قنسرين وصاحب عمورية والعرب المتنصرة وكيف ردهم هؤلاء العرب على
أعقابهم منهزمين والصواب إنك تفوز بنفسك وبمن معك وأرجع.
فقال هربيس لست أفعل ذلك ولا أنهزم أمام العرب وقد بلغني أن عسكرهم
الكبير على حمص مع الأمير ابي عبيدة الذي كان فيها خالد بن الوليد وهذه
غنيمة ساقها المسيح لنا فقال ذلك البطريق الناصح أما أنا فلست أبتع
رأيك ولا أقاتل العرب ثم لوى عنان فرسه راجعا إلى بعلبك واتبعه خلق
كثير من القوم واما هربيس فإنه صف رجاله وزحف يريد القتال فلما نظر أبو
عبيدة رضي الله عنه ذلك وإنهم قد عولوا على الحرب صف رجاله وعساكره
وقال: أيها الناس اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله قد وعدكم وأيدكم
بالنصر حتى هزم أكثر هؤلاء القوم وهذه المدينة التي أنتم قاصدون إليها
وسط ما فتحتموه من البلاد وأهلها قد أكثروا من الزاد والعدد والقوة
فإياكم والعجب وانتصروا وأغزوا أعداء الدين وانصروا الله ينصركم
وأعلموا أن الله معكم ثم حمل الأمير أبو عبيدة وحمل المسلمون قال عامر
بن ربيعة وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ما
كان بيننا وبينهم إلا جولة الجائل حتى ولوا الأدبار وطلبوا الاسوار
ودخل هربيس المدينة مع أصحابه وفيه سبع جراحات فتلقاه الذي أشار عليه
لا تقاتل العرب وقال له: وأين غنائم العرب التي غنمتوها فقال هربيس
قبحك المسيح أتهزأ بي وقد.
(1/118)
قتلت العرب
رجالي وقد جرحت هذه الجراحات فقال له البطريق: ألم أقل لك إنك مهلك
نفسك ورجالك.
قال الواقدي: ثم أن الأمير أبا عبيدة سار حتى نزل على بعلبك فنظر إلى
مدينة هائلة وحصن حصين والقوم قد اغلقوا الأبواب وقد أحرزوا أموالهم
ومواشيهم في جوفها واطلع المسلمون على الأموال كأنها الجراد المنتشر
قال فلما نظر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه إلى البلد وتحصينه
وامتناعه وكثرة رجاله وشدة برده وذلك إنه بلد لا يزايله البرد في
الشتاء والصيف فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه لخواص أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما الرأي في ذلك فاجتمع رأيهم على شورى واحدة
وهو أن يحاصروا القوم ويضيقوا عليهم فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه
أصلح الله الأمير إني أعلم أن الروم أزدحم بعضهم ببعض من كثرتهم وأظن
أن المدينة لا تسعهم وأن طاولناهم رجونا من الله النصر وأن يفتحها الله
على أيدينا فقال الأمير يا ابن جبل من أين علمت أن القوم يتضايقون في
مدينتهم فقال: أيها الأمير إني كنت أول من اسرع بجواده قبل واشرفت على
هذه المدينة والقلعة البيضاء ورجوت أن نلحق سوابق الخيل فرأيت القوم
يدخلون المدينة من جميع الأبواب مثل السيل المنحدر والمدينة مشحونة
بأهل السواد والقرى والمواشي ودوابهم فيها وقد ضاقت بهم وهذه اصوات
القوم في المدينة كانهم النحل من كثرتهم فقال أبو عبيدة: صدقت يا معاذ
ونصحت وايم الله ما عرفتك إلا مبارك الرأي سديد المشورة.
قال الواقدي: وبات المسلمون تلك الليلة يحرس بعضهم بعضا إلى الصباح ثم
كتب أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أهل بعلبك كتابا يقول فيه: بسم الله
الرحمن الرحيم من أمير جيوش المسلمين بالشام وخليفة أمير المؤمنين فيهم
أبو عبيدة بن الجراح إلى أهل بعلبك من المخالفين والمعاندين أما بعد
فإن الله سبحانه وتعالى وله الحمد أظهر الدين وأعز أولياءه المؤمنين
على جنود الكافرين وفتح عليهم البلاد وأذل أهل الفساد وأن كتابنا هذا
معذرة بيننا وبينكم وتقدمة إلى كبيركم وصغيركم لانا قوم لا نرى في
ديننا البغي وما كنا بالذين نقاتلكم حتى نعلم ما عندكم وأن دخلتم فيما
دخل فيه المدن من قبلكم من الصلح والأمان صالحناكم وأن أردتم الذمام
ذممناكم وأن ابيتم إلا القتال استعنا عليكم بالله وحاربناكم فأسرعوا
بالجواب والسلام على من اتبع الهدى ثم كتب: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ
إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]
وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وأمره أن يسير به إلى أهل
بعلبك ويأتيه بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وأتى به إلى السور وخاطبهم
بلغتهم وقال: إني رسول إليكم من هؤلاء العرب فدلوا حبلا فربطه في وسطه
وأخذه القوم إليهم وأتوا به إلى بطريقهم هربيس فناوله الكتاب فجمع.
(1/119)
هربيس أهل
الحرب والبطارقة وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وقال: أشيروا
علي برأيكم فقال له بطريق: من بطارقته وهو صاحب مشورة الرأي.
عندي أن لا نقاتل العرب لانا ليس لنا طاقة بقتالهم ومتى صالحناهم كنا
في أمن وخصب ودعة كما قد صار أهل أركه وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وأن
نحن قاتلناهم وأخذونا في الحرب قتلوا رجالنا واستعبدونا وسبوا حريمنا
والصلح خير من الحرب فقال هربيس لا رحمك المسيح فما رأيت اجبن منك ولا
أقل جلدا يا ويلك كيف تأمرنا أن نسلم مدينتنا إلى أوباش العرب ولا سيما
وقد عرفت حربهم وقتالهم واختبرت نزالهم وإني في هذه النوبة لو حملت في
ميسرتهم كنت هزمتهم فقال له البطريق: نعم كانت الميسرة والقلب يخافون
منك ثم تخاصما وتشاتما وافترق أهل بعلبك فرقتين فرقة يطلبون الصلح
وفرقة يطلبون القتال ورمى هربيس الكتاب إلى المعاهد بعد أن مزقه وأمر
غلمانه أن يدلوه إلى ظاهر المدينة ففعلوا ذلك ووصل المعاهد إلى عسكر
المسلمين وأتى أبا عبيدة رضي الله عنه وحدثه بما كان من القوم وقال:
أيها الأمير أن أكثر القوم عولوا على القتال فقال أبو عبيدة: رضي الله
عنه للمسلمين شدوا عليهم واعلموا أن هذه المدينة في وسط اعمالكم
وبلادكم فإن بقيت كانت وبالا على من صالحتم ولا تقدرون على سفر ولا على
غيره قال: فلبس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والعدد
ورجعوا إلى الاسوار وعطف أهل بعلبك عليهم وتراموا بالسهام والأحجار وأن
هربيس قد نصب كرسيه وسريره على برج من أبراج القلعة من ناحية النملة
وقد عصب جراحته ولبس سلاحه ولامته ولبس على رأسه صليبا من الجواهر
وحوله البطارقة والديرجانية بالدروع المذهبة والعدد الكاملة وفي
اعناقهم صلبان الذهب والجوهر وبأيديهم القسى والسهام قال عامر بن وهب
اليشكري شهدت حرب بعلبك وقد زحفت المسلمون إلى سورها قال ونشاب الروم
كالجراد المنتشر وكان أناس من العرب بلا سلاح فأصابهم سهام القوم قال:
ورأيت القوم يتساقطون علينا من السور تساقط الطير على الحب فذهبت إلى
رجل سقط لاضرب عنقه فصاح الغوث الغوث وكنا قد عرفنا من الحرب أن من قال
الغوث يعني الأمان فقلت له: يا ويلك لك الأمان فما الذي القاك إلينا من
سوركم فجعل يكلمني بالرومية وأنا لا أدري ما يقول: قال عامر ابن وهب
اليشكري فسحبته إلى خيمة أبي عبيدة وقلت له: أيها الأمير اطلب من يعرف
لغة هذا العلج فاني رايتهم يرمي بعضهم بعضا فقال أبو عبيدة: رضي الله
عنه لمن حضر من المترجمة اخبرنا بخبر هذا العلج وما قضيته ولم يرمي
بعضهم بعضا فقال له الترجمان: يا ويلك قد اعطيناك الأمان فاصدقنا في
الكلام قل لنا: لم يرمي بعضكم بعضا قال أن بعضنا لا يرمي بعضا ولكنا من
أهل والقرى فلما سمعنا بمسيركم ورجوعكم عن أهل قنسرين التجأنا إلى هذه
المدينة من جميع الرساتيق لنتحصن فيها لما نعلم من كثرة ما بها من
الجيش فضيق بعضنا.
(1/120)
على بعض وسددنا
طرقات المدينة ومضى بعضنا إلى السور فإذا ليس لنا موضع ناوي إليه ولا
مسكن نسكن فيه فجعلنا الأبراج والأسوار مسكنا لنا فلما زحفتم إلى
القتال برز إليكم أهل الحرب والنزال من هذه المدينة فجعلوا يدوسوننا
بأرجلهم وإذا اشتد الحرب عليهم والقتال يدفع الرجل منهم الرجل منا
فيلقيه إليكم.
قال الواقدي: فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك فرح فرحا
شديدا وقال ارجو من الله أن يجعلهم غنيمة لنا قال وأخذت الحرب مأخذها
وطحنت رجالها وعلا الضجيج و حمى الروم أسوارهم فلم يقدر أحد من
المسلمين أن يصل إليها من كثرة السهام والحجارة قال غياث بن عدي الطائي
حاربنا أهل بعلبك في أول يوم فأصيب من المسلمين اثنا عشر رجلا وأصيب من
الروم على السور خلق كثير من أهل الحرب وغيرهم وانصرف المسلمون إلى
رحالهم وما لهم همة إلى الطعام ولا الشراب ولا يريد أحد منا إلا
الإصطلاء بالنار من شدة البرد قال فبينما نحن ليلتنا نوقد النار
ونتناوب في الحرس إلى الصباح فلما صلينا الفجر نادى مناد من قبل أبي
عبيدة رضي الله عنه يقول: عزيمة مني على كل رجل من المسلمين لا يبرز
إلى حرب هؤلاء القوم حتى ينفذ إلى رحله ويصلح له طعاما حارا يأكله
ليكون بذلك شديدا على لقاء العدو قال فابتدرنا لاصلاح أمورنا فلما نظر
أهل بعلبك إلى تأخرنا عن حربهم وقتالهم طمعوا فينا وظنوا أن ذلك فشل
منا وعجز فصاح هربيس في الروم وقال اخرجوا لهم بارك المسيح فيكم قال
غياث بن عدي فلم يشعر المسلمون إلا والأبواب قد فتحت والخيل والرجال قد
طلعت إلينا كالجراد المنتشر قال وكان بعضنا قد مد يده إلى الطعام
وبعضنا ينضج له القرص وإذا بمناد ينادي يا خيل الله اركبي وللجهاد
تأهبي فدونكم والقوم قبل أن يدهموكم قال حمدان بن اسيد الحضرمي وكان لي
قرص خبزته وقدمت شيئا من الزيت لاجعله ادامى للقرص وإذا بالمنادي ينادي
النفير النفير قال فوالله ما راعني ذلك حتى أخذت قطعة وغمستها في الزيت
وهويت بها إلى فمي سمعت النفير فقمت مسرعا وركبت جوادي عريانا من دهشتي
لسرعة الإجابة وضربت يدي على عمود من أعمدة الخيام وحملت على القوم
فوالله ما شعرت بما صنعت ولا عقلت: على نفسي حتى صرت في الروم فجعلت
أحطمهم حطما واهبرهم بالسيف هبرا قال: فنظرت إلى خيل الروم متفرقة
والأمير أبو عبيدة قد نصب رايته والناس يهرعون إليها وأن أبا عبيدة رضي
الله عنه ينادي برفيع صوته اليوم يوم له ما بعده قال ونظر أبو عبيدة
إلى شدة ضرب الروم وصبرهم على قتال المسلمين فحمل عليهم بالخيل العربية
وأحاط بالروم من كل جانب ومكان وكان في جملة خيله عمرو بن معد يكرب
الزبيدي وعبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وربيعة بن عامر
ومالك بن الاشتر وضرار بن الأزور رضي الله عنه وذو الكلاع الحميري فلله
درهم فلقد قاتلوا قتالا شديدا.
(1/121)
وابلوا بلاء
حسنا فلما نظرت الروم إلى فعلهم رجعوا إلى أعقابهم طالبين الاسوار
وغلقوا الأبواب ورجع المسلمون إلى عسكرهم وأضرموا نيرانهم ودفنوا من
استشهد منهم وأقبلت رؤساء المسلمين إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه
وقالوا: أيها الأمير ما الذي قد عزمت عليه وما عندك من الرأي يرحمك
الله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه اعلموا أن من الرأي أن نتأخر عن
المدينة مقدار شوط فرسخ ليكون ذلك مجالا نحيلكم ومنعة لحريمكم والنصر
من عند الله تعالى.
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعقد له
راية وامره على خمسمائة فارس وثلثمائة راجل وأمرهم أن يهبطوا إلى
الوادي وأن يقاتلوا القوم على الأبواب وأن يشغلوهم عن المسلمين ثم دعا
ضرار بن الأزور وعقد له راية وأمره على خمسمائة فارس ومائة راجل سرحه
إلى باب الشام وقال: يا بن الأزور اظهر شجاعتك على بني الأصفر فقاتل من
هناك من الروم فقال حبا وكرامة قال ومضت كل فرقة إلى جهة من الجهات
فلما أصبح الصباح فتحت الروم الأبواب وخرجوا في خلق كثير إلى أن
تكاملوا حول بطريقهم هربيس فقال لهم البطريق: اعلموا يا معاشر
النصرانية أن أهل هذا الدين من قبلكم قد فشلوا عن قتال هؤلاء العرب
وعجزوا عن قتالهم ونزالهم فقالوا: أيها السيد طب نفسا وقر عينا فانا
كنا نخاف من العرب قبل أن نختبرهم ونعلم قتالهم وقد علمنا إنهم إذا
لاقوا حربنا لم يكونوا أصبر منا على الحرب لأن أحدهم يلقي الحرب وعليه
ثوب خلق خام أو فروة خلقة ونحن علينا الدروع والزرد وقد وهبنا أنفسنا
للمسيح.
قال الواقدي: فلما نظر أبو عبيدة إلى كثرتهم نادى برفيع صوته يا معاشر
المسلمين لا تفشلوا فتذهب ريحكم واصبروا أن الله مع الصابرين قال وأن
الروم داخلهم الخوف لما كانوا قد نالوه من غرة المسلمين بالأمس فحملوا
حملة عظيمة قال سهل بن صباح العبسي شهدت قتال أهل بعلبك وقد خرج إلينا
أهلها في اليوم الثاني وهم أطمع مما كانوا في اليوم الأول وقد حملوا
علينا حملة عظيمة شديدة منكرة وكنت في ذاك اليوم اصابني جرح في عضدي
الإيمن وما أطيق أن أحرك يدي ولا أحمل سيفا فترجلت عن جوادي وجريت بين
أصحابي وقلت في نفسي: إذا قصدني أحد من هؤلاء الأعلاج لم يكن لي غنى
ادفع عن نفسي فطلعت إلى ذروة الجبل فعلوته واشرفت على العسكرين وجعلت
انظر إلى حربهم وقتالهم وقد طمعت الروم في العرب والمسلمون ينادون
بالنصر وأبو عبيدة يدعو لهم بالنصر والتحمت القبائل وافتخرت العشائر
قال سهل بن صباح وأنا على الجبل من وراء حجر انظر إلى ضرب السيوف على
البيض والحجف والشرر يطير من شعاعها وقد التقى الفريقان واختلط الجمعان
فقلت في نفسي: ويحي وما.
(1/122)
عسى أن ينفع
المسلمين مقام سعيد بن زيد وضرار بن الأزور على الأبواب والأمير أبو
عبيدة في مثل هذا الحرب وإنهم والله على وجل أن ينكشفوا من عظم شدتهم
وحربهم وهول ما يلقونه قال فأسرعت إلى جراثيم الشجر فجعلت أكسرها وأعبي
الحطب بعضه على بعض وعمدت إلى زناد كان معي فأوقدت النار واضرمتها فيه
وعبيت عليه حطبا اخضر ويابسا حتى علا منه دخان عظيم وكانت علامتنا إذا
أردنا أن يجتمع بعضنا إلى بعض بأرض الشام في الليل وقود النار واثارة
الدخان قال فما هو إلا أن علا الدخان وتصاعد إلى الافق حتى نظراليه
سعيد بن زيد وأصحابه وضرار بن الأزور وأصحابه فنادى بعضهم بعضا الحقوا
الأمير أبا عبيدة رحمكم الله فإن هذا الدخان ما هو إلا من شيء عظيم
والصواب أن نكون بخيلنا في موضع واحد فأسرعوا بخيلهم وساروا حتى أشرفوا
على المسلمين وهم في شدة الحرب وأعظم الكرب وقد بلغت القلوب الحناجر
وعملت السيوف البواتر وإذا بمناد هتف بهم يا حملة القرآن جاءكم النصر
من الرحمن ونصرتم على عبدة الصلبان وإذا قد اشرف عليهم سعيد بن زيد
وضرار بن الأزور في أوائل خيلهم وقد شرعا سنانهما وحملا في الروم وقد
أيقن الروم إنهم الغالبون إذ ظهرت عليهم رايات المسلمين وكتائب
المواحدين فالتفتوا ينظرون ما الخبر وإذا بالمسلمين من ورائهم وقد
حالوا بينهم وبين مدينتهم فنادوا بالويل والخراب وظنوا إنه قد أتى
للمسلمين نجدة ومدد وقد غرر بهم البطريق فلما نظر البطريق إلى تبلدهم
زعق فيهم وقال: يا ويلكم لا ترجعوا إلى المدينة قد حيل بينكم وبينها
وهذه مكيدة من مكايد العرب فلما سمعت الروم ذلك أحاطوا ببطريقهم
كالحلقة المستديرة يحمي بعضهم بعضا فعدل بهم البطريق نحو الجبل ذات
الشمال وكان سعيد بن زيد وضرار بن الأزور قد اقبلا بجيشهما عن يمين
الحصن وشماله فحملوا عليهم واتبعوا آثارهم حتى طلعوا إلى الجبل والتجأت
الروم إلى ضيعة في الجبل حصينة خالية من أهلها فاستند الروم إليها
وتحصنوا فيها وتبعهم سعيد بن زيد في الخمسمائة فارس الذين كانوا معه
وذلك أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى هزيمة الروم نادى
في المسلمين معاشر الناس لا يتبعهم أحد ولا يفترق جمعكم لاني اخشى أن
تكون هزيمة القوم مكيدة لكم حتى إذا تفرق جمعكم زحفوا عليكم قال وأن
سعيد بن زيد لم يكن يسمع النداء ولو سمع النداء ما تبع القوم.
قال الواقدي: لما تحصنت الروم في الضيعة قال سعيد بن زيد هذه طائفة قد
أراد الله هلاكها فدوروا بهم وحاصروا في كل مكان ولا تدعوا أحدا يطلع
رأسه إلى أن تلحق بكم المسلمون ويأتي إليكم أمر من الأمير أبي عبيدة ثم
اقبل إلى رجل من عظماء المسلمين وقال له: اخلفني في قومي حتى انظر رأى
الأمير ابي عبيدة ومن معه ثم أخذ معه زهاء من عشرين فارسا من أصحابه
وسار حتى لحق بجيش المسلمين فلما نظر إليه.
(1/123)
الأمير أبو
عبيدة ومن معه قال: يا سعيد اين رجالك وما صنعت بهم قال ابشر أيها
الأمير فإن المسلمين في خير وسلامة وقد حاصروا اعداء الله في ضيعة في
هذا الجبل ثم اخبره بالقصة من اولها إلى آخرها فقال أبو عبيدة: الحمد
لله الذي هزمهم عن اوطانهم وجعلهم اشتاتا ثم اقبل أبو عبيدة على سعيد
بن زيد وعلى ضرار بن الأزور وقال لهما ما هذه المخالفة رحمكم الله الم
آمركم بالإقامة على أبواب المدينة والمشاغلة للقوم فما الذي ردكم الي
وقد ارعبتم قلبي وقلب من كان معي وظننت أن أهل المدينة كادوكم وهو الذي
منعنا أن نتبع المنهزمين فقال سعيد بن زيد أيها الأمير والله ما عصيت
لك امرا ولا خالفتك في قول وإني قد وقفت حيث أمرتني إذ رأينا دخانا قد
علا قتامه ولاح لنا بيانه فقلنا والله ما هذه إلا داهية من دواهي الروم
أو نفير قد استدعانا به المسلمون فأسرعنا نحوك فعندما نادى الأمير أبو
عبيدة في المسلمين معاشر الناس ايكم اوقد نارا أو دخن دخانا في هذا
الجبل فليجب الأمير أبا عبيدة قال سهل بن صباح فلما سمعت النداء اجبت
المنادي وأتيت الأمير أبا عبيدة فقال: ما الذي جراك على ذلك فقصصت عليه
قصتي فقال أبو عبيدة: لقد وفقك الله تعالى إلى الجنة فإياك بعدها أن
تحدث حديثا من غير اذن أميرك.
قال الواقدي: فبينما الأمير كذلك يحدث سهل بن صباح وإذا برجل من
المسلمين منحدر من الجبل وهو ينادي النفير النفير يا امة البشير النذير
ادركوا اخوانكم المسلمين فقد أحاط بهم الروم وهم في اشد ما يكون من
القتال وانه قد دنا البطريق من المسليمن ونادى بأصحابه ورجاله وقال: يا
عباد المسيح إليكم هذه الشرذمة اليسيرة والعصابة الحقيرة التي قد أحاطت
بكم فاقتلوهم وادخلوا المدينة فانكم أن قتلتم القوم كسرتم بذلك حدة
العرب وانصرفوا عنكم قال مصعب بن عدي وكنت في بعلبك من أصحاب سعيد بن
زيد وقد جعلنا محاصرين البطريق والروم في الضيعة ونحن دون الخمسمائة
رجل فما شعرنا إلا والبطريق والروم قد تبادروا إلينا من كل مكان فنادى
بعضنا عضا واجتمعنا قال والله لقد كبوا علينا الخيل واحاطوا بنا بعد ما
كنا أحطنا بهم وكان شعارنا في ذلك اليوم الصبر الصبر قال فبينما نحن
كذلك في اشد الحرب واعظم الكرب إذ سمعنا صوتا عاليا قد ملأ الجبل
ومناديا ينادي ويقول: أما من رجل يهب نفسه في الله ويسنفر المسلمين
فانهم بالقرب منا ولا يعلمون ما نزل بنا قال مصعب بن عدي فلما سمعت
الصوت همزت جوادي بكعبي وكان جواد عتيقا يسبق الريح الهبوب او الماء إذ
انسكب من ضيق الأنبوب وكأنه الطود العظيم والله لقد خرج من تحتي كأنه
البرق ولم تلحق منه الروم إلا الغبار بعد ما قتلت منهم رجلين ولقد نظرت
إلى فرسي وهو يشب الصخرة ويسلك الوعرة حتى اشرفت على عساكر المسلمين
فناديت النفير النفير يا أمة البشير النذير.
(1/124)
فلما سمع أبو
عبيدة ذلك صاح بالرماة فأجابه خمسمائة رام من أصحاب القسي العربية
فضمهم إلى سعيد بن زيد وقال له: اسرع يرحمك الله والحق بأصحابك قبل أن
يأتي العدو إليهم ثم نادى بضرار بن الأزور وأصحابه وقال له: أدرك أخاك
سعيد بن زيد قال فسار المسلمون مثل الجراد المنتشر حتى علوا على قلة
الجبل واشرفوا على الروم وهم محدقون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال أبو زيد بن ورقة بن عامر الزبيدي وكنت ممن شهد القتال على
الضيعة مع أصحاب سعيد بن زيد وقد أحاطت بنا الروم وقد صبرنا لهم صبر
الكرام وقد صرع منا سبعون رجلا مابين جريح وقتيل ونحن في اشد ما يكون
من القتال والجراح وقد طمعت الروم فينا حتى سمعنا التهليل والتكبير
ولحقنا النفير فلما اشرفت علينا راية المسلمين رجعت الروم على أعقابهم
مدبرين إلى الضيعة راجعين ولحقنا من تأخر منهم وكثر فيهم القتل والجراح
لكثرتهم وتحصن القوم في الضيعة فأحطنا بهم من كل جانب وما تركنا منهم
أحدا يخرج رأسه من كثرة النبل وورد الخبر إلى الأمير ابي عبيدة رضي
الله عنه بمن استشهد من المسلمين ومن قتل من الكافرين وأن القوم قد
لزمهم الحصار وأن لا زاد عندهم ولا ماء فقال أبو عبيدة: الحمد لله ثم
قال للمسلمين معاشر الناس ارجعوا إلى أموالكم واضربوا خيامكم حول
المدينة فإن الله عز وجل كاد عدوكم وهو منجز لنا ما وعدنا من نصره قال
فعندنا رجع المسلمون إلى أموالهم ومواضعهم التي كانوا فيها أول مرة
وضربوا خيامهم وانفذوا طوالعهم وارسلوا إلى المرعى خيولهم وابلهم
وسرحوا إلى الحطب عبيدهم واضرموا النيران في عسكرهم وذهب منهم الخوف
وأتاهم الأمان وأن أهل بعلبك افترقوا على السور وجعلوا يضربون على
وجوههم ويصيحون بلغتهم فقال الأمير أبو عبيدة لبعض التراجمة ما يقول:
هؤلاء فقال له الترجمان: أيها الأمير إنهم يقولون يا ويلهم ويا عظم ما
أصابهم ويا خراب ديارهم ويا فناء رجالهم حتى ظفرت العرب ببلادهم.
قال الواقدي: فلما دنا المساء ارسل الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد
يقول له: يا بن زيد الحذر الحذر على من معك من المسلمين واجتهد رحمك
الله أن لا يفوتك من الروم أحد ولا تفسح لهم قدما واحدا فيخرج منهم
واحدا فيتبع اولهم آخرهم فتكون كمن حصل في يده شيء فاضاعه فلما وصل
الرسول إلى سعيد بن زيد بهذه الرسالة أمر المسلمين أن يحيطوا بالضيعة
من كل جانب وأن لا يخرجوا إلى الحطب إلا مائة بالسلاح ففعلوا ذلك
واضرموا نيرانهم وباتوا طول ليلتهم يهللون ويكبرون وبالضيعة يطوفون
فلما نظر البطريق هربيس إلى ذلك اقبل على أصحابه ورجاله وقال لهم: يا
ويلكم لقد ايسنا من التدبير وأخطأنا الرأي وما لنا مدد ولا نجدة ولا
نصير ولو اجتهدنا لما اجتهدت العرب على أن يحبسونا في هذه الضيعة والآن
قد حبسنا أنفسنا في.
(1/125)
حبس ليس فيه
طعام ولا شراب وأن دام علينا هذا يوما ثانيا أو ثالثا ضعف قوينا ومات
ضعيفنا وبطلت حيلتنا وسلمنا أنفسنا كارهين فنقتل عن آخرنا فقالت
البطارقة: فما الذي ترى أيها السيد فقال قد رأيت من الرأي أن اخدع
العرب واحتال عليهم واسألهم الصلح لنا ولاهل مدينتنا كما قد طلبوا
وأضمن أن افتح لهم المدينة ونكون في ذمامهم فإذا دخلنا المدينة
حاربناهم على سورنا ولعلنا نرسل إلى صاحب عين الجوز والى صاحب جوسية
فلعلهما يقدمان إلى نصرتنا فيكونان لقتال العرب من خارج المدينة ونحن
من اعلى الاسوار ويكفينا المسيح هذه النوبة.
فقالت البطارقة: اعلم أيها السيد أن صاحب جوسية لا يجيبك إلى نجدة ابدا
لانه مشتغل بنفسه وربما يكون محاصرا مثل حصارنا هذا فلقد بلغنا قبل
نزول هؤلاء العرب علينا إنهم صالحوهم القدرة وألقوه أن يقاتلوا العرب
واما أصحاب عين الجوز فانهم في تجارتهم متفرقون في اقصى الشام وما اظن
إلا إنهم في صلح العرب فانظر لنفسك ورعيتك ما فيه الصلاح فلما سمع
البطريق هربيس قولهم اجابهم إلى ذلك فلما اصبح الصباح طلع البطريق على
جدار الضيعة ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب أما فيكم رجل يعرف كلامي
أنا هربيس البطريق فلما سمعه بعض التراجمة اقبل على سعيد بن زيد وقال
له: يا مولاي أن هذا العلج هو هربيس صاحب القوم وهو يستدعي كلامك فقال
له سعيد بن زيد: ادن منه وانظر ماذا يريد وما يقول: قال فدنا الترجمان
منه فقال له: ما الذي تريد قال أريد أن يؤمنني أميركم هذا في ذمامه
وذمام أصحابه ويدنو مني حتى أخاطبه بما يعود صلاحه على الفريقين فقال
الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال سعيد بن زيد لا كرامة له حتى أدنو منه
وأمشي إليه حتى يخاطبني فإن كان له حاجة فليأت الي خاضعا ذليلا صاغرا
حتى أسمع كلامه وأعلم مراده قال فأعلم الترجمان هربيس بكلام سعيد بن
زيد فقال هربيس فكيف انزل إليه وأنا محارب له فأنا اخاف أن يقتلني فقال
له الترجمان: أنا أخذ لك منه الذمام فإن العرب لا تخون إذا أمنت فقال
البطريق: نعم قد تناهت إلينا أخبارهم ولكني أريد أن استوثق لنفسي
ولأصحابي واهل بلدي لانهم قوم قد لحقهم الحقد علينا وقد اصبنا منهم دما
كثيرا وإني أريد أن ارسل له شخصا يأخذ لي منه أمانا فقال الترجمان أنا
أعرفه ذلك ثم اقبل الترجمان على سعيد بن زيد وقال له: إن البطريق هربيس
يريد أن يوجه إليك رجلا من أصحابه يأخذ له منك أمانا فقال سعيد بن زيد
دعه يوجه من يريد وأعلمه أن رسوله منا في أمان حتى يرجع إليه قال
فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل البطريق على رجل من عظماء أصحابه وقال له:
ترى ما قد نزل بنا وكيف قد ملك العرب علينا الطريق وأن بلاد الشام قد
أذن المسيح بخرابها وقد نصرت العرب علينا وأنا في شدة شديدة وأن لم
نأخذ من القوم الأمان وإلا هلكنا وهلكت خيلنا وبعد ذلك يتحكمون في
اولادنا.
(1/126)
وحريمنا
ويقتسمون أموالنا وذرارينا وليس لنا نجدة لأن كل بلدة مشتغل بنفسه عن
نصرتنا فأنزل إلى هؤلاء العرب وخذ لنا منهم أمانا واستوثق لنا منهم حتى
أنزل أنا إليهم فلعلنا نجري بينهم صلحا ولعلي أمكر بهم حتى نرجع إلى
المدينة ولعلي ارغب صاحبهم في شيء من المال فلعله يرغب وينصرف عنا إلى
أن نرى ما يكون بينهم وبين الملك هرقل.
قال الواقدي: فنزل الرجل ووقف أمام الأمير سعيد بن زيد وهم الرجل أن
يسجد له فمنعه من ذلك وتبادرت إليه المسلمون فأمسكوه ففزع الرجل وقال
لم تمنعوني أن أعظم صاحبكم فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال انما
أنا وهو عبدان لله تعالى ولا يجوز السجود والتعظيم إلا لله الملك
المعبود القديم فقال الرجل بهذا نصرتم علينا وعلى غيرنا من الأمم فقال
سعيد بن زيد فما الذي جاء بك قال جئت لآخذ منك أمانا لبطريقنا أن لا
تنقض لنا عهدا فقال سعيد بن زيد ليس من اخلاق الأمراء ومن يقود الجيوش
أن يغدر بعد الأمان ولسنا بحمدالله ممن ينقض عهدا وقد أعطيت صاحبك
أمانا ولمن معه ممن القى السلاح وخرج يطلب الأمان مستسلما فقال الرجل
نريد منك الأمان ومن أميرك وممن معك فقال سعيد لكم ذلك فعند ذلك رجع
الرجل إلى البطريق وأعلمه بجواب سعيد وقال له: اخرج وإياكم والغدر فإنه
يهلك صاحبه وأن هؤلاء العرب لا يخونون أمانهم وعهدهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن البطريق هربيس خلع ما كان عليه من الثياب
والديباج والقى السلاح ولبس ثياب الصوف وخرج حافيا حاسرا ذليلا ومعه
رجال من قومه حتى وقف بين يدي سعيد بن زيد فخر سعيد لله ساجدا وقال:
الحمد لله الذي أزال عنا الجبابرة وملكنا بطارقتهم وملوكهم ثم اقبل
عليه وقال له: ادن مني فدنا إلى أن جلس إلى جانبه وقال له: أهذا لباسك
دائما أم غيرته فقال: لا وحق المسيح والقربان ما لبست الصوف ابدا غير
الحرير والديباج وما لبست هذا إلا في وقتي هذا فاني ما أريد حربكم ولا
قتالكم ثم قال لسعيد هل لك أن تصالحني على أصحابي هؤلاء وعلى أهل
المدينة ومن فيها فقال سعيد أما أصحابك هؤلاء فاني أوفيهم على شرط أن
من دخل في ديننا فله ما لنا ومن اختار الإقامة على دينه والقى السلاح
كان آمنا من القتل وعليه العهد إنه لا يحمل علينا سلاحا ولا يكون لنا
حربا ابدا واما المدينة فالأمير أبو عبيدة عليها وقد فتحها أن شاء الله
تعالى ثم قال: أن أحببت أن تسير معي إلى أبي عبيدة حتى يسمع كلامك
وتصالح عن قومك فسر وانت في ذمامي فإن اتفق بينكما الأمر وإلا رددتك
إلى موضعك هذا ومن أراد الرجوع معك من رجالك إلى أن يحكم الله وهو خير
الحاكمين فقال البطريق أنا أفعل ذلك فعندها دعا سعيد بن زيد سعد بن ابي
وقاص بن عوف العدوى.
(1/127)
وقال: يا ابن
أبي وقاص كن بشيرا للأمير أبي عبيدة بما سمعت واسرع بالجواب قال فأسرع
ابن أبي وقاص بن عوف وركب جواده وكان حصانا شديد العدو وجعل يسير سيرا
حثيثا حتى اشرف على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ووقف بين يديه وسلم
عليه وقال: أصلح الله تعالى شأن الأمير أبشرك بأن البطريق هربيس قد أخذ
الأمان من سعيد بن زيد وهو يريد أن يقبل به عليك يسألك الصلح والأمان
له ولاهل مدينته فلما سمع الأمير ذلك سجد لله شكرا ورفع رأسه وقال:
أيها الناس تقدموا الآن إلى قتال أهل المدينة وأظهروا أسلحتكم عليها
وكبروا تكبيرة واحدة لكي ترعبوا بها القوم قال ففعل المسلمون ذلك
فارتجت المدينة وفزع أهل بعلبك وتداعوا للقتال وأحاط المسلمون بالمدينة
من كل جانب وكان أول من سبق إلى المدينة واعطاهم خبر البطريق المرقال
ابن عتبة وقال حصنوا أنفسكم وأولادكم وأموالكم بالصلح فإن ابيتم ذلك
فقد وعدنا الله تبارك وتعالى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أن يفتح لنا بلادكم وأمصاركم وغيرها وأن الله تعالى منجز أمره فلما سمع
أهل بعلبك ذلك فزعوا فزعا شديدا واغبرت وجوههم ورعبت قلوبهم وكلت من
الحرب أيديهم وقالوا: أهلكنا البطريق وأهلك نفسه ولو كنا صالحنا العرب
من قبل أن يوجد بنا هذا الحصار لكان خير لنا قال وشدد المسلمون عليهم
القتال.
قال الواقدي: فلما علم أبو عبيدة أن نيران الحرب قد اضرمت على المدينة
أرسل إلى سعيد بن زيد يقول له: أسرع بالبطريق إلينا وله الأمان الذي
أمنت أنت فنحن لا ننقض لك عهدا فلما ورد رسول أبي عبيدة على سعيد بن
زيد استخلف على الضيعة رجلا من أصحابه وسار سعيد مع البطريق حتى وردا
على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فلما وقف البطريق بين يديه ونظر إلى
زيه وزي من معه وشهد قتالهم وعظم ما تلقى المدينة من حربهم وقتالهم حرك
البطريق رأسه وعض على أنامله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لترجمانه ما
لهذا يحرك رأسه ويعض أنامله كأنه يتأسف على شيء فاته قال فأعلمه
الترجمان بذلك فأقبل على الترجمان وقال له: وحق المسيح وما مسح وحق
البيعة والمذبح لقد ظننت إنكم أكثر عددا من الحصى وأكثر مددا ولقد كان
يخيل لنا عند حربكم وشدة ما نلقى منكم إنكم على عدد الحصى والرمل من
كثرتكم ولقد كنا نرى خيلا شهبا وعليها رجال وبأيديهم رايات صفر وعليهم
ثياب خضر فلما صرت بينكم لم أر من ذلك شيئا وما أراكم إلا في قلة عدد
وما ادري ما فعل جمعكم أبعثتموه إلى عين الجوز او إلى جوسيه أو مكان
آخر فأخبر الأمير الترجمان بذلك فقال أبو عبيدة: للترجمان قل له: يا
ويلك نحن معاشر المسلمين يكثرنا الله تعالى في أعين المشركين ويمدنا
بالملائكة كما فعل بنا يوم بدر وبذلك فتح الله تعالى بلادكم وحصونكم
علينا وأذل ملوككم فلما سمع البطريق كلام أبي عبيدة رضي الله عنه على
لسان الترجمان.
(1/128)
قال: لقد وطئتم
الشام الذي عجزت عنه ملوك الفرس والترك والجرامقة وما ظننا أن يكون ذلك
ابدا وأما مدينتنا فهي حصينة لا تعبأ بالحصار لانها مدينة ليس بالشام
مثلها بناها سليمان بن داود عليهما السلام لنفسه وعملها دار مقامه
وخزانة لملكه ولولا ما سبق من تفريطنا وخروجنا عنها إليكم وانحرافنا
عنها ما صالحناكم ابدا ولا هالنا حربكم ولو اقمتم علينا مائة سنة والان
فقد كان ذلك فهل لكم أن تصالحونا حتى نصالحكم فتعدل فينا فهو اقرب رشدا
لنا ولكم فوحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن فتحنا لكم هذه المدينة لا
يصعب عليكم في الشام حصن ولا مدينة قال فلما أخبر الترجمان الأمير أبا
عبيدة رضي الله عنه بما قاله قال أبو عبيدة للترجمان: قل له: الحمد لله
تعالى الذي ملكنا أرضكم ودياركم فلا بد أن تؤدوا الجزية وقد ظننت لنفسك
أمانا كاذبا حتى أراك الله الذل والصغار بعد العز والإقتدار ولا بد لنا
أن نملك مدينتكم أن شاء الله تعالى ونقتل الرجال ونأسر الأبطال فمن
أراد حربنا وقتالنا فلا يدخل في صلحنا أبدا ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم فقال البطريق لما سمع ذلك على لسان الترجمان لقد تيقنت أن
المسيح قد غضب على أهل هذه المدينة إذ بعث بكم إليها وملككم عليها وقد
اجتهدت في حربكم ومكرت بكم وما نفع مكرى واجتهادي لانكم قوم مسلطون
وإنما طلبت منكم السلم وألقيت يدي في أيديكم بعد جهد مني لا شفقة مني
على نفسي ولا بقاء مني على ملكي ولكن أردت صلاح البلاد لأن الله تعالى
لا يحب الفساد والان فهل لكم أن تصالحوا على المدينة وما فيها وعلى
أصحابي هؤلاء فقال له الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: فما الذي تبذل
لنا في صلحك قال له البطريق: أيها الأمير انظر ما الذي تريد فقال
الأمير أبو عبيدة لو أن الله فتح على المسلمين من الصلح على هذه
المدينة بملئها ذهبا وفضة ما كان أحب الي من سفك دم رجل واحد لكن الله
تعالى اعطى الشهداء في الآخرة أكثر من ذلك فقال البطريق أنا أصالحكم
على ألف أوقية من الفضة البيضاء وألف ثوب من الديباج.
قال الواقدي: فتبسم الأمير أبو عبيدة من كلامه واقبل على المسلمين وقال
لهم: أما تسمعون ما يقول: هذا البطريق قالوا: نعم قال فما رأيكم فيما
شرط على نفسه فقالوا: يزيد عليه وشرطه يرضينا فأقبل الأمير على البطريق
وقال له: أنا أصالحكم على ألفي أوقية من الذهب الأحمر وألفي أوقية من
الفضة البيضاء وألفي ثوب من الديباج وخمسة آلاف سيف من مدينتكم وسلاح
أصحابك الذين هم في الضيعة محاصرون ولنا عليكم خراج أرضكم في العام
الآتي واداء الجزية في كل عام وأنتم بعد ذلك لا تحملون علينا سلاحا ولا
تكاتبون ملكا ولا تحدثون حدثا ولا كنيسة وترون النصح للمسلمين فلما سمع
البطريق ذلك من شرط الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه قال لك ذلك كله
علينا إلا إني أريد أن أشرط عليك وعلى أصحابك شرطا فقال له الأمير أبو
عبيدة: وما.
(1/129)
شرطك فقال: لا
يدخل إلينا من أصحابك أحد وتنزل صاحبك الذي تستخلفه علينا خارج المدينة
بأصحابه ويكون له الخراج والجزية وتدعني أنا من داخل المدينة من قبل
الإصلاح بين الناس والنظر في أحوالهم ونحن نخرج إلى من تخلفه علينا من
أصحابك سوقا يكون فيه من جميع ما في مدينتنا ولا يدخلون إلينا مخافة أن
يغلظوا بكلامهم على كبرائنا ويفسد الأمر بيننا وبينكم ويكون سببا للغدر
ونقض العهد قال أبو عبيدة: فإذا صالحناكم نجاهد عدوكم لانكم تصيرون في
ذمتنا ويكون الرجل الذي نخلفه عليكم مثل الواسطة والسفير بيننا وبينكم
قال البطريق هربيس يكون خارج المدينة ويفعل ما يشاء أن يفعله من
المحاماة فقال أبو عبيدة: لكم ذلك وما لنا في الدخول إلى مدينتكم من
حاجة فقال البطريق تم الصلح على ذلك ثم سار البطريق إلى المدينة وأبو
عبيدة معه فلما وصل إلى الباب حسر البطريق عن رأسه ورطن عليهم بلغه
الروم فعرفوه عند ذلك فقالوا له: وأين أصحابك ورجالك فقص عليهم قصته
وأخبرهم بخبره وخبر أصحابه وأعلمهم بالصلح فبكى القوم وقالوا: تلفت
النفوس وذهبت الأموال فقال لهم البطريق: يا قوم وحق المسيح ما صالحتم
ولي وجه غير الصلح فقالوا له: اذهب أنت وصالح عن نفسك وأما نحن فلن
نصالح العرب أبدا ولن ندع أحدا منهم يملكنا ولا يدخل بلادنا ومدينتنا
وهي أحصن مدينة في الشام وكان الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد أعلم
المسلمين بمصالحة البطريق وأمرهم أن يكفوا عن القتال والحرب فلما سمع
الترجمان كلام أهل بعلبك لبطريقهم أخبر الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه
بذلك فأقبل البطريق فقال له أبو عبيدة: هات ما عندك وإلا نرد الحرب كما
كان فقال البطريق دعني والقوم فوحق الإنجيل الصحيح وعيسى المسيح لو لم
يقبلوا مني لادخلنك بالكثرة إليهم فتضع السيف فيهم وتقتل رجالهم وتسبي
نساءهم وتنهب أموالهم لاني خبير بعورات بلدهم وبطرقاتها قال أبو عبيدة
رضي الله عنه: ما شاء الله كان قال وكان الروم على سورهم يسمعون كلام
البطريق لابي عبيدة رضي الله عنه فدخل الرعب في قلوبهم فعند ذلك اقبل
البطريق على الروم وقال لهم: ما تقولون في صلح العرب فاني اسير في
أيديهم ورجالهم وبنو عمكم في قبضتهم فإن لم تصالحوا العرب وإلا
يقاتلونا جميعا ويرجعوا إليكم من بعدنا.
فقالوا: أيها السيد أنا لا نطيق هذا المال فقالوا: يا ويلكم علي وحدي
ربع ما طلبوا فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أنا لا نفتح الباب إلا لك وحدك
ولا يدخل معك أحد من العرب حتى نصلح مدينتنا ونرفع رحالنا ونخفي حريمنا
فقال البطريق ويحكم فإني قد صالحت القوم على أن لا يدخل مدينتكم أحد
منهم وأن الرجل الذي يخلفونه عليكم يكون هو وأصحابه خارج المدينة
وتخرجون إليه سوقا يتسوقون منه قال ففرحت الروم بذلك وفتحوا له الباب
فدخل إليهم وبعث الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد أن يخلي.
(1/130)
عن الرجال
الذين هم في الضيعة يحاصرون فخلى سعيد بن زيد سبيلهم وجاء بهم عند
الأمير ابي عبيدة وأخذ سلاحهم وتركهم عنده رهائن على المال الذي عندهم
لانه خاف أن تركهم أن يرجعوا إلى المدينة ويغدروا بالمسلمين فتركهم
عنده في عساكره هذا والبطريق في المدينة يجبي المال بعد اثني عشر يوما
وهم مع ذلك يحملون إلى عسكر المسلمين الزاد والميرة والعلوفة حتى كملت
الأموال والثياب والسلاح وحملها البطريق إلى ابي عبيدة رضي الله عنه
وقال له: تسلم الأموال على ما وافقتك عليه وخل عن الرجال وانظر إلى من
تخلفه علينا من أصحابك فأحضره لنا حتى نشرط عيله بحضرتك أن لا يجوز
علينا ولا يطالبنا بما لا نطيق ولا يدخل مدينتا قال فدعا أو عبيدة برجل
من سادات قريش اسمه رافع ابن عبد الله السهمي وقال له: يا رافع بن عبد
الله استعملتك على هذه المدينة وضم إليك خمسمائة فارس من بني عمك
وعشيرتك وأربعمائة فارس من اخلاط المسلمين وإني آمرك بما أمرك الله به
فاتق الله حق تقاته ولا تكن إلا من الولاة العادلين وإياك والظلم
والجور فتحشر مع الظالمين واعلم أن الله تعالى سائلك عنهم ومطالبك بما
تصنع بغير الحق واعلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن
الله تبارك وتعالى أوحي إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى لا
تظلم عبادي أخرب بيتك من نفسك" فأقم الأرصاد في أطراف البلاد فانك بين
أعدائك وبعد هذا ما عرفتك إلا استيقاظا وأحذرك من السواحل وشن الغارة
عليهم ولتكن غارتك في المائة والمائتين ولا تمكن أحدا من المدينة يختلط
بأصحابك في غارة حتى يطمع عدوكم فيه وأحسن معاملة من ساعدك وأصلح بينهم
وأمرهم بالعدل وكن بينهم كأحدهم وأمر أصحابك ومن معك أن يكفوا أيديهم
عن الفساد والظلم للرعية والله تعالى خليفتي عليك والسلام عليك.
(1/131)
ذكر حديث نزول المسلمين على حمص
قال الواقدي: ثم هم أبو عبيدة رضي الله عنه بالرحيل إلى حمص واذ قد ورد
عليه صاحب عين الجوز يطلب منه الصلح فصالحه على نصف ما صالحه عليه أهل
بعلبك وولى عليهم سالم بن ذؤيب السلمي وأوصاه بمثل ما أوصي به رافع بن
عبد الله ورحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب حمص فلما وصل إلى
بين الرأس والكفيلة لاقاه صاحب الجوسية ومعه هدية كثيرة فقبلها منه
وجدد معه صلحا وسار الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه حتى نزل على حمص.
قال الواقدي: حدثنا حبان بن تميم الثقفي قال كنت فيمن اقام مع رافع بن
عبد الله السهمي في جملة أصحابه وذلك اننا نصبنا بيوت الشعر على العمد
واقمنا خارج المدينة لا يدخل إليها أحد منا ونحن مع ذلك نشن الغارة على
سواحل الروم
(1/131)
ونكبس على
العرب التي لم تكن في صلحنا وكنا إذا خرجنا في سرية نبيع الغنائم في
بعلبك ففرح أهلها ببيعنا وشرائنا ووجدونا قوما ليس فينا كذب ولا خيانة
ولانريد ظلم أحد وطابت قلوبهم وربحوا في تلك المدة اليسيرة مالا عظيما
فلما نظر البطريق هربيس إلى ما ربح أهل بعلبك منا في تجارتهم ورخص ما
يشترونه منا جمعهم إليه في كنيسة المدينة وهي الجامع اليوم وكان ذلك
بميعاد وعدهم فيه الاجتماع فلما اجتمعوا عنده اقبل عليهم وقال للتجار
والباعة والسوقة لقد علمتم إني قد اجتهدت في أموركم واحرصت على سلامة
نفوسكم واهاليكم واولادكم وانتم تعلمون ما ذهب مني من المال وأنا اليوم
واحد منكم وقد سلمت مالي وسلاحي وقتل أكثر غلماني ورجالي وبنو عمي
وأنتم قوم قد أصبتم مع هؤلاء العرب خيرا كثيرا في هذه التجارات وقد
أديت وحدي ربع المال فقالوا: صدقت أيها البطريق وقد عرفنا كل ما وصفت
فما الذي تريد الآن فقال: يا قوم انما كنت قبل هذا اليوم بطريقكم وأنا
اليوم واحد منكم وأريد أن تردوا علي بعض ما بذلت من المال للعرب
فقالوا: أيها البطريق وإني لك بذلك فقال البطريق يا قوم الست أكلفكم أن
تخرجوا من أموالكم ولا مما حوته منازلكم شيئا وإنما أريد أن تجعلوا في
هذه البيوع والأشربة العشر مما تأخذون وتعطون قال فاضطرب القوم اضطرابا
شديدا لذلك وعظم عليهم واقبل بعضهم على بعض وقالوا: يا قوم هذا رجل منا
وصاحب ملكنا وقد اجتهد في امورنا وحامى بماله ونفسه عنا وما عسى يصيب
منا في مالنا قال فأجابوه إلى ذلك وجعلوا له عليهم العشر فنصب عليهم من
قبله عشارا يأخذ منهم أعشارهم ويجمعها ويحملها إليه فأقام على ذلك
أربعين يوما فلما نظر هربيس إلى كثرة ما قد اجتمع له من المال العشر
قال أنا أعلم أن هذه المدينة في كسب عظيم وتجارة رابحة ما رأى أهل
بعلبك مثل هذا أبدا ثم جمعهم في الكنيسة مرة ثانية وقال لهم: يا قوم قد
علمتم ما بذلت من المال على صلحكم وهذا الذي تعطوني إياه من العشر ليس
يحزنني فإن أردتم أن تردوا علي مالي وتجعلوني كأحدكم فاجعلوا إلى الربع
في أموالكم حتى يرجع الي مالي سريعا وإلا فمتى أخلف من هذا العشر مالي
وسلاحي وغلماني.
قال الواقدي: فأبى القوم وضجوا عليه واشهروا عددهم ووقفوا في الطريق
بغلمانه فقطعوهم اربا اربا وارتفع ضجيجهم فجزع المسلمون لذلك وهم لا
يعلمون بالقصة فاجتمعوا إلى أميرهم رافع بن عبد الله السهمي وقالوا:
أيها الأمير أما تسمع اصوات هؤلاء القوم في مدينتهم فقال: يا قوم قد
سمعت كما سمعتم فما عسى أن أصنع بهم ولا يحل لنا الدخول إليهم وبهذا
جرى الشرط بيننا وبينهم ونحن أحق بمن أوفى بعهد الله تعالى فإن هم
خرجوا إلينا وأعلمونا بأمرهم صالحنا بينهم ونظرنا في أمورهم.
(1/132)
قال الواقدي:
فما استتم الأمير رافع بن عبد الله كلامه حتى خرج أهل بعلبك يهرعون
إليه فلما وقفوا بين يديه قالوا: أنا بالله وبك أيها الأمير ثم اعلموه
بقصتهم وما فعل البطريق بهم أول مرة وما فعل بهم ثاني مرة قال رافع بن
عبد الله أنا لا نمكنه من ذلك فقالوا: أيها الأمير أنا قد قتلناه وجميع
غلمانه فصعب ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم
رافع: فما الذين تريدون فقالوا: نريد أن تدخلوا إلى المدينة فإنا
قدأطلقنا لكم الدخول إليها فقال رافع بن عبد الله أنا لا أقدر أن ادخل
المدينة إلا باذن الأمير أبي عبيدة لانه ما أذن لي بذلك ثم كتب رافع بن
عبد الله إلى الأمير ابي عبيدة يعلمه بالقصة وبحديث البطريق وبحديثهم
الذي قالوه فكتب له بالدخول إلى المدينة كما قد أذنوا له فدخل رافع
وأصحابه.
قال الواقدي: حدثنا موسى بن عامر قال حدثنا يونس بن عبد الله قال حدثنا
سالم بن عدي عن جده عبد الرحمن بن مسلم الربيعي وكان ممن حضر فتوح
الشام اوله وآخره قال لما فتح الله بعلبك على يد المسلمين وترك أبو
عبيدة رافع بن عبد الله وتوجه إلى حمص للحوق بخالد بن الوليد فلما قرب
من حمص موضع يقال له الزراعة: وجه على مقدمة جيشه ميسرة بن مسروق
العبسي وعقد له راية سوداء معلمة بالبياض وضم إليه خمسة آلاف فارس من
المسلمين فلما سار ميسرة حتى وصل إلى حمص خرج خالد بن الوليد رضي الله
عنه إلى لقائه وسلم عليه وعلى من معه من المسلمين ثم بعث أبو عبيدة
بعده ضرار بن الأزور في خمسة آلاف فارس وبعث بعده عمرو بن معد يكرب
الزبيدي وقدم أبو عبيدة رضي الله عنه ببقية الجيش فلما اشرف أبو عبيدة
على حمص قال اللهم عجل علينا فتحها وأخذل من فيها من المشركين
واستقبلهم المسلمون فلما استقر به القرار كتب إلى أهل حمص وبطريقها
الجديد وهو هربيس كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة
عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام وقائد جيوشه
أما بعد فإن الله تعالى قد فتح علينا بلادكم ولا يغرنكم عظم مدينتكم
وتشييد بنيانكم وكثرة رجالكم فما مدينتكم عندنا إذا أتاكم الحرب إلا
كالبرمة قد نصبناها في وسط عسكرنا والقينا اللحم فيها وجميع العساكر
يتوقع الأكل منها وقد داروا بها ينتظرون نضجها واكل ما فيها ونحن
ندعوكم إلى دين ارتضاه لنا ربنا عز وجل فإن اجبتم إلى ذلك ارتحلنا عنكم
وخلفنا عندكم رجالا منا يعلمونكم أمر دينكم وما فرض الله تعالى عليكم
وأن أبيتم الإسلام قررناكم على اداء الجزية وأن أبيتم الإسلام والجزية
فهلموا إلى الحرب والقتال حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ثم طوى
الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وكان ذلك الرجل يحفظ بالعربية
والرومية وقال له: انطلق إلى حمص وائتنا بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب
وسار حتى وصل إلى.
(1/133)
السور فهم أهل
حمص أن يرموه بالسهام والحجارة فقال لهم بالرومية: يا قوم أمسكوا عليكم
فأنا رجل معاهد وقد جئتكم بكتاب من هؤلاء العرب.
قال الواقدي: فدلوا له حبلا فربط وسطه به وشالوه إليهم وأتوا به إلى
بطريقهم فلما وقف بين يديه خضع له وناوله الكتاب فقال له البطريق:
ارجعت عن دينك إلى دين هؤلاء العرب قال: لا ولكن في ذمتهم وعهدتهم أنا
واولادي وأهلي ومالي وما رأينا من القوم إلا خيرا والصواب عندي أن لا
تقاتلوهم فإن القوم اولو بأس شديد لا يخافون ولا يرهبون الموت قد
تمسكوا بدينهم والموت عندهم أفضل من الحياة وقد اقسم بدينهم لا يبرحون
عن مدينتكم حتى تسلموها إليهم أو يفتحها الله على أيديهم وحق ديني إنكم
أحب الي من العرب وأريد النصر لكم دون القوم ولكني خائف عليكم من بأسهم
وسطوتهم فسلموا تسلموا ولا تخالفوا تندموا.
قال الواقدي: فلما سمع البطريق هربيس كلامه غضب غضبا شديدا وقال وحق
المسيح والإنجيل الصحيح لولا إنك رسول لامرت بقطع لسانك على جراءتك
علينا فلما قرأ الكتاب وعلم ما فيه أمر كاتبه أن يكتب إلى الأمير أبي
عبيدة بجواب كتابه فكتب كلمة الكفر ثم قال: يا معاشر العرب إنه وصل
إلينا كتابكم وعلمنا ما فيه من التهديد والوعد والوعيد ولسنا كمن
لاقيتم من أهل الشام ولم يزل الملك هرقل يستنصر بنا على من عاداه وعلى
من قصد إليه من العساكر والآن فلا بد لنا من الحرب والقتال فإن سورنا
شديد وأبوابنا حديد وحربنا عتيد والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى المعاهد
وأمر غلمانه أن يدلوه بالحبال من السور وسار حتى وصل إلى الأمير أبي
عبيدة وسلمه الكتاب ففضه وقرأه فلما سمع المسلمون ما فيه عولوا على
الحرب والقتال وقسم الأمير أبو عبيدة عسكر المسلمين أربع فرق فبعث فرقة
مع المسيب بن نجية الفزاري فنزل بهم على باب الجبل مما يلي باب الصغير
وبعث فرقة أخرى مع المرقال بن هشام بن عقبة بن أبي وقاص فنزل بهم على
باب الرستق وبعث فرقة أخرى مع يزيد بن أبي سفيان فنزل على باب الشام
ونزل الأمير أبو عبيدة وخالد بن الوليد على باب الصغير وزحف المسلمون
إليهم من كل مكان وقاتلوهم بقية يومهم هذا وسهام الروم تصل إليهم
فيتلقونها بالحجف ونبال العرب تصل إليهم والى من بأعلى السور فأثرت
لاجل ذلك ضرا فانفضوا عند المساء فلما كان الغد جمع خالد بن الوليد كل
عبد كان في عسكر المسلمين وأمرهم أن يتقلدوا بالسيوف ويتنكبوا بالحدف
ويزحفوا إلى سور حمص ويضربوا السور بأسيافهم ويتلقوا السهام بحجفهم
فقال الأمير أبو عبيدة وما عسى أن يغني عنا هذا يا أبا سليمان فقال
خالد رضي الله عنه: على رسلك أيها الأمير ولا تخالفني فيما صنعت فاني
عزمت أن أقاتلهم بالعبيد ونعلمهم أن ليس لهم عندنا من القدر
(1/134)
شيء فما
نقاتلهم بأنفسنا إلا أن يخرجوا إلينا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه:
افعل ما شئت فالله تعالى يوفقك فعند ذلك أمرهم خالد بن الوليد رضي الله
عنه بالزحف على الأسوار وكانوا أربعة آلاف عبد وأمر خالد الفا من العرب
أن تترجل معهم ففعلوا ذلك وزحفوا على السور وقد استتروا بالحجف والعرب
من ورائهم فرموا بالنبل وضربوا بسيوفهم فمنها ما تثلم ومنها ما إنكسر.
قال الواقدي: واشرف عليهم هربيس صاحب حمص وقد دارت بطارقته وأصحاب
الرتب فجعلوا يتأملون إلى أفعالهم فقال هربيس يا معاشر البطارقة وحق
المسيح ما ظننت أن العرب بهذه الصفة وإذا هم كلهم سودان فقال له بعض من
لحقه بأجنادين وسائر المواطن: لا أيها السيد بل هؤلاء عبيدهم وهذه من
بعض مكايد العرب في الحرب وقد قدم هؤلاء السودان والعبيد إلى حربنا
وقتالهم معنا وأن ليس لنا عندهم من القدر أن يلقونا بأنفسهم أو نخرج
إليهم فقال هربيس وحق المسيح أن هؤلاء أشد من العرب بأسا وأقوى مراسا
واعلموا إنه ما لزق قوم بسور مدينتنا ولا دنوا منها إلا وقد هان عليهم
أمرها واقترب على ايديهم فتحها.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن العبيد قاتلوا يومهم قتالا شديدا وهجموا
على الأبواب مرارا ولم يزالوا بقية يومهم حتى اقبل الليل ورجعت الموالي
إلى عسكر المسلمين وبعث هربيس من ليلته رسولا إلى الأمير أبي عبيدة رضي
الله عنه فأقبل الرسول والظلام معتكر فأحس جيوش المسلمين به فهموا به
فقال أنا رسول من البطريق هربيس صاحب حمص وأريد الجواب عن هذا الكتاب
فسلم إليهم كتاب هربيس فأخذه أبو عبيدة رضي الله عنه وقرأه فإذا فيه يا
معاشر العرب أنا ظننا أن عندكم عقلا تدبرون به الحرب وتستعينون به على
الأمور وإذا انتم بخلاف ذلك لانكم في أول حربكم لنا تفرقتم على الأبواب
فقلنا هذا اشد ما يكون من الحصار وأعظم ما يقدرون عليه من الأضرار.
فلما كان الغد تأخرتم عن حربنا وبعثتم هؤلاء المساكين إلى حربنا يقطعون
أسيافهم ويكسرون سلاحهم فيا ليت شعري هل تصبر سوفهم على فساد سورنا وقد
بان لنا عجز رايكم وتدبيركم في القتال وملاقاة الرجال والآن فأنا اشير
عليكم بأمر فيه الصلاح لنا ولكم وهو أن تسيروا إلى الملك هرقل وتفتحوا
ما بين أيديكم كما فتحتم ما وراءكم وإياكم واللجاج والبغي فانهما
قاتلان لمن أتبعهما وراجعان على من بدأ بهما أو نحن نخرج إليكم صبيحة
هذه الليلة والله ينصر من يشاء منا ومنكم ممن على الحق قال فلما قرأ
الأمير أبو عبيدة كتاب هربيس صاحب حمص استشار المسلمين فيما يصنع وكان
قد حضر عنده رجل كبير من أكابر خثعم وسيد من ساداتهم اسمه عطاء بن عمرو
الخثعمي وكان كبير السن قديم الهجرة سديد الرأي قد قاد الرجال وولى أمر
الجيش وحزم
(1/135)
العساكر فلما
سمع كتاب هربيس وثب قائما على قدميه وقال للأمير أبي عبيدة رضي الله
عنه اقسمت عليك أيها الأمير برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما سمعت
مقالي فإن فيه صلاحا للمسلمين فالله وفقني لمقالة أريد المسلمين بها
قال أبو عبيدة رضي الله عنه: قل: يا أبا عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين
قال فدنا من الأمير ابي عبيدة وسارره وقال له: اصلح الله الأمير اعلم
أن خبرك عند هؤلاء منذ نزلت على هؤلاء اللئام وهذا البطريق اشد منعة
واعظم جولة ممن كان قبله وقد علم بفتوح بعلبك وإنك لا بد أن تنزل على
حصارها وقد استدعى بالطعام والعلوفة وآلة الحصار وقد شحنا بالرجال وما
ترك في رساتيقها وقراها طعاما إلا وقد خزنوه عندهم ما يكفيهم أعواما
وأن نحن حاصرناهم يطول الأمر كما طال أمرنا على دمشق والرأي عندي أن
تخدعهم بخديعة وتحتال عليهم بحيلة فإن تمت لنا عليهم الحيلة فتحنا
المدينة عن قريب أن شاء الله تعالى قال أبو عبيدة رضي الله عنه: وما
الحيلة عندك يا ابن عمرو فقال الرأي عندي أن نكتب إلى هولاء القوم أن
يجبرونا بالزاد والعلوفة ونضمن لهم أن نرتحل عنهم إلى أن يفتح الله
تعالى عليك غير مدينتهم ونرجع إليهم وقد قل: زادهم وانتشروا في سوادهم
وتفرقوا في امصارهم وتجاراتهم ونشن عليهم غارة فنملك ما ظهر منهم ويهون
عليك أمر من بقي في حمص مع قلة الزاد والعلوفة فقال أبو عبيدة: اصبت
بالرأي يا ابن عمرو إني سوف افعل ما ذكرته ونرجوا من الله التوفيق
والعون.
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بدواة وبياض وكتب جواب الكتاب يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاني رأيت في قولك صلاحا لنا ولكم
ولسنا نريد البغي على أحد من عباد الله عز وجل وقد علمت أن عسكرنا كثير
وخيلنا وابلنا كثير فإن أردتم أن نرتحل عنكم فابعثوا لنا ميرة خمسة
ايام وانتم تعلمون أن الطريق الذي امامنا بعيد وما نلقي بعدكم إلا كل
حصن منيع وابواب حديد فإذا مونتمونا رحلنا عنكم إلى بعض مدائن الشام
فإذا فتح الله علينا بعض مدائن الشام رجعنا عنكم كما زعمتم فإن فعلتم
ذلك كان صلاحا لكم وطوى الكتاب وسلمه إلى الرسول وسار إلى حمص فلما قرأ
هربيس الكتاب فرح بذلك وجمع الرؤساء والرهابين وقال لهم: اعلموا أن
العرب قد بعثوا يطلبون منكم الزاد والميرة حتى يرحلوا عنكم فإن العرب
مثلهم كمثل السبع إذا وجد فريسته لم يرجع إلى غيرها وهم قد لحقهم الجوع
في مدينتكم وإذا اشبعناهم انصرفوا عنا فقالوا: أيها الأمير نخاف من
العرب أن يأخذوا الزاد والعلوفة ولا يرحلوا عنا فقال أنا نأخذ لكم
عليهم العهود والمواثيق إنكم إذا امرتموهم يرحلون عنكم فقالوا: افعل ما
بدا لك واستوثق لنا ولك قال فبعث هربيس واحضر القسوس والرهبان وامرهم
أن يخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ويأخذوا عليهم العهود
والمواثيق إذا أمرناهم يرحلون عنا.
(1/136)
قال فخرجوا وقد
فتح لهم باب الرستن فساروا حتى وصلوا إلى الأمير ابي عبيدةة وأخذوا
عليهم ميثاقا وعهدا أن يرحلوا عنهم إذا هم ماروهم ولا يرجع عليهم حتى
يفتح الله على يديه مدينة من مدائن الشام شرقا او غربا سهلا كان او
جبلا فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد رضيت بذلك وتم الصلح على
ذلك وأخرج لهم أهل حمص مما كانوا قد ادخروه من الزاد والعلوفة شيئا
عظيما له ولعسكره ما يكفيهم مدة خمسة أيام فأقبل أبو عبيدة عليهم وقال:
يا أهل حمص قبلنا ما حملتموه لنا من الزاد والعلوفة فإذا رأيتم الآن أن
تبيعوا من الزاد والعلوفة فقالوا: نحن نفعل ذلك فعندها نادى الأمير أبو
عبيدة بشراء الزاد والعلوفة ولتكثروا من ذلك فإن قدامكم طريقا واسعا
قليل الزاد والعلوفة فقالوا: أيها الأمير بماذا نشتري الزاد وعلى أي شي
نحمله فقال أبو عبيدة: من كان معه شيء من الذي غنمتموه من الروم فليشتر
به الزاد والعلوفة قال حسان بن عدي الغطفاني خفف الله عن أبي عبيدة
الحساب كما خفف عنا ما كنا نحمله من البسط والطنافس مما كان قد أثقلنا
واثقل دوابنا فأخذنا به الزاد والعلوفة من القوم وكانت العرب تسمح لهم
في البيع والشراء ويشتري منهم أهل حمص ما يساوي عشرين دينارا بدينارين
ورغب أهل حمص في شراء الرخيص ولم يزل أهل حمص كذلك ثلاثة أيام وأهل حمص
فرحون برحيل العرب عنهم قال وكان للروم في عسكر العرب جواسيس وعيون
يأخذون لهم الأخبار فلما نظرت الجواسيس إلى أهل حمص وقد فتحوا مدينتهم
وهم يميرون العرب ظنوا إنهم دخلوا في طاعتهم فسارت الجواسيس إلى
انطاكية طالبين وجعلوا كلما اجتازوا ببلد من البلد أو حصن من الحصون
يقولون أن أهل حمص قد دخلوا في طاعة العرب وفتحوا مدينتهم صلحا فكان
يعظم ذلك على الروم ويزيدهم خوفا ورعبا وكان ذلك توفيقا من الله عز وجل
للمسلمين وكانت الجواسيس أربعين رجلا فدخل ثلاثة رجال منهم إلى شيزر
فأشاعوا ذلك وأشيع فيها ذلك.
(1/137)
|