البدء والتاريخ
الفصل الثاني في إثبات البارئ وتوحيد
الصانع بالدلائل البرهانية والحجج الإضطرارية
أقول أن الدلائل التي تدل على إثبات الله عز وجل غير محصاة ولا متناهية
في أوهام الخلائق لأنها بعدد أجزاء أعيان الموجودات من الحيوان والنبات
وغير ذلك مما خفي من الأبصار لأنه ما من شيء وإن صغر جسمه ولطف شخصه
إلا وفيه عدة دلائل تعبر عن ربوبيته وتصرح عن إلهيّته تصريحاً ينتفى مع
أدناها الشبهة ويزاح العلة وإلى هذا المعنى نظر بعض المحدثين وفي كل
شيء له آية تدل على أنه واحد ولن يجوز غير ما قلنا لأنه لما كان هو
خالق الخلق وصانع الصنع ومخترع الأعيان ومخرجها من العدم إلى الوجود لم
نخل من آثار خلقه واختراعه فهي الدلائل المقترنة بها الشاهدة على
صانعها ومنشئها فمن الدليل على إثبات البارئ سبحانه
(1/56)
وتعالى أنه خلاف بين الأوائل والأواخر إن
الأرض منها عامر مسكون معلوم وعامر مسكون غير معلوم وخراب مجهول غير
مسكون وأن عظم المسكون المعلوم منها العرب وفارس والروم والهند وهم ذوو
[1] الآداب والأخلاق من سائر أهل الأرض لهم السير والسنن والآئين
والحكمة والهمة والنظر والخصال المحمودة والعلوم المأثورة من الطبّ
والتنجيم والحساب والخطّ والهندسة والفراسة والكهانة والأديان والكتب
وغير ذلك مما يستعملونها في معاملاتهم وموضوعاتهم وما سواهم رعاع وهمج
سافلو الرتبة عن رتب من قدمنا ذكرهم وناقصوا الحظ من حظوظهم إما بهيمي
الطبع في قلة التمييز والفطنة وإما سبعية في الجفوة والغلظة حتى أن
منهم من ينزو بعضهم على بعض ومنهم من يأكل بعضهم بعضاً لعلل قد ذكرها
القدماء ليس هذا موضع شرحها بقول الله سبحانه وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ 16: 8 [2] ثم إن هذه الأمم [3] المحمودة أخلاقهم مع اختلاف
أصنافهم وافتراق ديارهم وتفاوت آرائهم في المذاهب
__________
[1] . ذوMs.
[2] . الأمّةMs.
Qor. ,ch.XVI ,v.8. [3]
(1/57)
التي ابتجلوا والأديان [12] التي اعتقدوا
لم يختلفوا في وجود آثار الصانع الحكيم في هذا العالم وما يشاهدونه في
أجزائه وأبعاضه واختلاف طباعه وتعاقب أعراضه فإذا صح وجود البارئ
الأزلي القديم الأول السابق ببدائه العقول وشهادة النفوس واضطرار
الفطرة والجاء الخلقة بذلك بني تأسيسهم وعليه بني تركيبهم إلا من شد من
جاهل أو جاحد مئوف في نفسه أو مغلوب على عقله إذ غير مفهوم ولا موهوم
أثر من غير مؤثر ولا صنع من غير صانع ولا حركة من غير محرك كما يجحد
الضرورة وجود كتاب بلا كاتب وبناء بلا بان وصورة بلا مصور فسبحان من لا
انتهاء له إذ لا ابتداء له منه البداية وإليه النهاية مبدع القوى وممدّ
الموادّ وسابق العلل ومنش ئ البسائط ومركب العناصر وحافظ النظام ومدبر
الأفلاك ومحدث الزمان والمكان ومحيل الأركان الحكيم العدل القائم
بالقسط الناظر للخلق البريء من المعايب الغني عن اجتلاب المنافع مدبر
الأمور ومدهر الدهور أرخى على الأوهام ستور ربوبيته وضرب على مطالع
العقول حجب إلهيّته فليس يعرف إلا بما عرف به الخلق نفسه ولا يدرك أحد
(1/58)
من صفاته كنهة الأبصار عن بدائع صنعه خاسئة
والبصائر عن ملاحظتها نابئة والقلوب في آثار الدلائل عليه حائرة
والنفوس مع حيرة القلوب إليه والهة والعقول عند محافطة الأشراف عليه
مضمحلة متلاشية معبود في كل زمان معروف بكل لسان مذكور بكل اللغات
موصوف بتضاد الصفات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ 42: 11 نحمده على ما هدانا ولدينه اجتبانا ونشهد أن لا إله
إلا الله نتميز به عن المشركين ونتزيل عدد الجاحدين ونشهد أن محمداً
عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق غير حادس ولا ساحر ولا كاهن ولا
شاعر ولا محتال ولا متنب كذاب ولا مريد دنيا ولا قائل بالهوى فأبلغ
وأدى وانذر وأهدى وصدع بأمر الله حتى أتاه اليقين فصلوات الله على روحه
غادية وبردات [1] رحمته مترادفة على آله أجمعين، هذا التحميد الذي وجب
أن نصدر به كتابنا أخرناه إلى حيث قدرنا أنه أولى به وأليق، ومن الدليل
على إثبات البارئ سبحانه وله النفوس وفزع القلوب إذا حزبت الحوادث إليه
اضطرارا إذ لا يوجد
__________
[1] ؟ بركات Lisez
(1/59)
مضطرّ وقد عضّته نائبة ولد غته ناكبة يفزع
إلى حجر أو شجر أو مدد أو شيء من الخلائق إلا إليه ويدعوه بما هو معروف
عنده من اسم أو صفة هذا مشاهد عياناً كما تفزع النفس عند المكاره
المخوفة إلى طلب المهرب والنجاة وكما يفزع الطفل إلى ثدي أمه ضرورة
وخلقه كذاك الله في معرفة خلقه إياه لأن أثر الدلالة في الخلق عليه
أعظم من أثر الطبع إلى ما لا يلائمه وينافره ولا يمكن الملحد المنكر
وان غلا وتعمّق في الإلحاد الامتناع [1] في معرفة الله وإجراء ذكره
واسمه على لسانه شاء أم أبى في حال عمده ونسيانه لأن قلبه ولسانه على
ذلك الخلق كما أنّ طبعه على الميل إلى المحبوب والازورار عن المكروه
حبل [13] ومن الدليل على إثبات البارئ جل وعز أنه لا يخلو لسان أمة من
الأمم في أقطار الأرض وآفاقها إلا وهم يسمونه بخواص من أسمائه عندهم
ومستحيل وجود اسم لا مسمى له كاستحالة وجود دليل على غير مدلول عليه بل
المدلول موجب لدليل كذلك المسمى موجب الاسم وما هو في التمثيل إلّا
بمنزلة
__________
[1] . والامتناع Ms.
(1/60)
الحامل والعرض المحمول فكما يستحيل وجود
عرض إلا في جوهر كذلك يستحيل وجود اسم إلا لمسمى فمن ذلك قول العرب له
الله مفرداً من غير أن يشاركوه في هذا الاسم بأحد من معبوداتهم لأنه
خاص لهم عندهم وكانوا يطلقون على غيره على التنكير وأما الرب بالتعريف
والرحمن فلم يكونوا يجيزونه إلا للَّه تعالى وإنما تسمى [1] مسيلمة
الكذاب بالرحمن مضادة للَّه جل وعز ومعاندة لرسوله عليه السلم ذلك
مشهور مستفيض في قوافي أوائلهم قبل قيام الإسلام فمن ذلك قول بعضهم في
الجاهليّة [طويل]
ألاَ ضَرَبَتْ تِلكَ الفَتَاةُ هَجِينَهَا ... ألا قَطَعَ الرَّحمنُ
منها يَمِينَهَا
فأضاف فعل القطع إلى الرحمن لأنه أراد به الدعاء وعلم أنه لا يجيب
الدعاء إلا الله وقول أمية بن ابى الصلت [بسيط]
والحَيَةُ الحَتْفَةُ الرِّقشاء أخرجها ... مِنْ جُحرها آمنات الله
والقَسَمُ
إذا دَعَا باسمه الإنسان أو سَمِعَتْ ... ذَاتَ الإله يُرَى في
سَعْيِهَا زَرَمُ
__________
[1] . [؟] سمّى Ms.
(1/61)
وإنما أتينا بهذا البيت حجة لإثبات اسم
الإلهيّة لا لرقية الحية وقول زيد بن عمرو، [طويل]
إلى الله أهدى مدحتي وثنايايا [1] ... وقولا رضينا لابني الدهر باقيا
إلى المَلِكَ الأعلَى الذي ليس فوقَهُ ... إلهٌ ولا ربٌّ سواه
مُدَانِيا
وقول فارس هرمز وايزد ويزدان ويزعمون أن عبادتهم النار يقرب إلى البارئ
عز وجل لأنها أقوى الإسطقسات وأعظم الأركان كما قال مشركو العرب في
عبادتهم الأوثان ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله 39:
3 زلفى ولا يجوز أن يكون غير هذا حالة من يعبد شيئاً من دون الله لأنه
يعلم أن معبوده من خشب أو حجر أو نحاس أو ذهب أو شيء من الجواهر غير
خالقه ولا صانعه ولا مدبر أمره ولا محوله ولقد دخلت بيت نار خوز وهي
كورة من كور فارس قديمة البناء وسألتهم عن ذكر البارئ في كتابهم
فأخرجوا إلى صحفاً زعموا أنها الأبسطا وهو الكتاب الذي جاءهم به زردشت
فقرءوا علي بلسانهم وفسروه علي بمفهومهم الفارسيّة
__________
[1] . ثناييا Ms.
(1/62)
فيكمازهم بهسته هرمز وبشتاسبندان فيكمازهم
رستخيز قالوا وهرمز هو البارئ بلسانهم وبشتاسبندان الملائكة ومعنى
رستخيز فني فقم وقول الأعاجم بلسان الدرية خذاي وخذاوند وخذايكان وقد
سمعت غير واحد قال في تأويله خذست وخوذ بوذ منعاه أنه هو بذاته لم
يكونه مكون ولا يحدثه محدث وقول الهند والسند شيتاوابت ومهاديو وأسماء
كثيرة غير هذه يصفونه بخواص أفعاله [13] وقول الزنوج ملكوي وجلوي قالوا
معناه الربّ الأعظم وقول الترك بير تنكرى يعنون الرب واحد وزعم بعضهم
أن تنكري اسم لخضرة السماء فإن كان كما ذكروا فإنهم قد ءامنوا بالمعنى
المطلوب من الإلهية وإنما شكوا في الصفة وقال بعضهم تنكري هو السماء
واسم البارئ عندهم بالغ بايات معناه الغنى الأعظم وقول الروم والقبط
والحبشة وما يدانيها من البلدان بالسريانية لأن عامتهم نصارى لاها ربا
قدوسا ولا فرق بين السريانية والعربية إلا في أحرف يسيرة فكأن
السريانية سلخت من العربية والعربية سلخت من السريانية وقول اليهود
بالعبرانية ايلوهيم ادناي اهيا شراهيا
(1/63)
ومعنى ايلوهيم الله وأوّل [1] التوراة
برشيت بارا ايلوهيم يقول أول شيء خلقه الله هذا الذي عليه معظم الأمم
والأجيال من أهل الكتاب وغيرهم فأما أقاطيع الناس في مجاهيل الأقاليم
فمن يحيط بلغاتهم إلا الذي خلقهم وقسم بينهم ألسنتهم وسمعت قوما من
برجان يسمونه ادفوا فسألتهم عن اسم الصنم فقالوا فع وسألت القبط من
صعيد مصر عن اسم البارئ بلغتهم فزعموا أحد شنق كذا ظني والله أعلم، ومن
الدليل على إثبات البارئ سبحانه هذا العالم بما فيه من عجيب النظم
وبديع الترتيب ومحكم الصنع ولطيف التدبير والاتساق والإتقان فلا يخلو
من ثلاثة أوجه إما أنه لم يزل كما هو وإما أنه لم يكن فكان بنفسه وإما
أنه كونه مكون هو غيره فلما استحال أن يكون قديماً لم يزل لمقارنة
الحوادث إياها وإن لم يخل من حادث فحادث مثله واستحال أن يكون الشيء
نفسه لاستحالة الكائن أن يبقى نفسه فكيف يجوز توهم المعدوم من أن يتركب
فيصير عالماً لم يبق غير الوجه الثالث وهو أنّ كوّنه مكوّنٌ هو غيره
غير معدوم ولا محدث وهو
__________
Ms.repetedeuxfois. [1]
(1/64)
البارئ جلّ جلاله واعلم أن البارئ عزّ وجلّ
ليس بمحسوس فيحصره الحواسّ ولا معلوم بالإحاطة فيدرك كيفيّته وكميته
وأينيّته ولا مقيّس بنظير له أو شبيه فُيعلم بأكثر الظنّ والحزر ولا
موهوم بصورة من الصّوَر لكنّه معروف بدلائل أفعاله وآيات آثاره موجود
في العقول لا غير ولا تُوجَدُ آثاره وأفعاله إلاّ في خَلْقه ومن الدليل
على إثبات البارئ سبحانه تفاضل الخلق في الدرجات والطباع والهمم
والإرادات والصُوَر والأخلاق وتمايز الأشخاص والأنواع من أجناس الحيوان
والنبات فلو أنها مكونة [1] بالطباع لاستوت أحوالها وتكافأت أسبابها
وكانت تكون في أنفسها مختارة ولما يُوجَد فيها ناقص ولا عاجز ولا مذموم
ولا متأخّر عن درجة صاحبه فلمّا وجدنا الأمر بخلافه علمنا أنّ مدبّراً
دبّره ومرتّباً رتّبه وهو البارئ سبحانه، وقد قلنا في صدر هذه المقالة
إن عدد الدلائل عليه تعالى وتقدّس غير محصاة ولا متقصّاة لأنّك لو
عمدتَ إلى أصغر شخص من أشخاص الحيوان وأعملت فكرك في تعداد ما يوجدك من
آثار صنع الصانع فيه لرجعت حسيرا عييّا
__________
[1] . مكون Ms.
(1/65)
وأعجزتك حجج الباري جلّ وعز وحيّرتْك آثار
صُنعه وذلك في المثل كناظر في بَعُوضةٍ أو نملةٍ [14] أو ذُباب كيف بنى
البارئ جلّ وعزّ جسمه في لطفه وصغر أجزائه وكيف أطلق له القوائم
والأجنحة وكيف ركّب فيه من الأعضاء ما لو فُرِّقَتْ لما كان الطَرْف
يدركها ولا الوهم يمسّها ولا الحاسّة تحدها وكيف ركّب فيه من الطبائع
ما تمّ به قوام أركانه واستواء نظامه وكيف أودعه معرفة ما فيه صلاحه من
طلب منافعه واجتناب مضارّه وكيف سلك في جوفه مداخل غذائه ومنافذ طعامه
مع خفّة جسمه وقلّة ذاته وكيف حمل عليه الأعراض وصبغه بألوان الصِبْغ
وكيف ركّب الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والصوت والصورة وكيف
ركّب فيه العين بل كيف ركّب في عينه البصر هذا في صغار هوّام ما يتولّد
وإن كان طبع الزمان علّةً لبعثه وإثارته فإنه لم يتركب هذا التركيب
العجيب والنضيد الأنيق إلاّ من تدبير قادر حكيم وكذلك لو نظر إلى أدون
نبت من النبات وما جُمع فيه من اختلاف ألوانه من نوره وورقه وفرقه
وجذعه وعرقه واختلاف طعوم أجزائه ورائحتها ومنافعها ومضارها
(1/66)
لدلّ ذلك على تدبير قادر حكيم وكيف لو رجع
إلى نفسه فنظر إلى كمال صورته وحسن هيئته [1] واعتدال بنيته مع ما
خُصَّ به من الحكمة والعلم والفطنة والبحث والفكرة بلطيف الأُمور
وجليلها وحذقه بأنواع الصناعات وحسن اهتدائه إليها وخبرته بالأمور
الغامضة واستيلائه على جميع الحيوان بفضل عقله وزيادة فطنته ثم هو مع
ما وصفناه به من الكمال والتمام مبني [2] على الضعف والحاجة إلى ما
صغير ما في العالم وكبيره مضمن بالنَصَب والتعب عاجز عن دفع ما يحلّ به
من الآفات جاهل بأسباب كونه وتصرفه في نشوه ونمائه وزيادته ونقصانه
محتاج إلى ما يقيمه ويعينه لدلّه ذلك على تدبير قادر حكيم وكذلك إذا
نظر إلى هذا العالم وما يرى فيه من شواهد التدبير وآثار التركيب في
الهيئة والشكل والصُور مع اتّصال بعضه في بعض وحاجة بعضه إلى بعض من
اعتقاب الحرّ والبرد واختلاف الليل والنهار واتفاق الأركان وتقاومها
على تضادّها وتباينها علم أنّه من تدبير
__________
[1] . هيأتهMs.
[2] . منىّ Ms.
(1/67)
قادر حكيم ولو جاز لمتوّهم أن يتوهّم حدوث
هذا العالم من غير محدث لجاز لغيره أن يتوهّم وجود بناء من غير بانٍ
وكتابةٍ من غير كاتب ونقش من غير نقّاش وصورةٍ من غير مصوّر ولساغ له
إذا نظر إلى قصر مشيّد وبناء وثيق أن يظنّ أنّه انساب إلى كومة من
الترب مجتمعة لم يجمعها جامعٌ فاختلط بها من غير خالط حتّى التفّت
ونديت ثم انسبكت لبنا على أكمل التقدير وآنق التربيع من غير سابق ولا
ضارب ثم تأسّس أساس القصر وتمكنت قواعده وارتفعت ساقاته وأعراقه حتّى
إذا تطاولت حيطانه وتكاملت أركانه وتطايرت اللبن وتراكمت على حواشيها
وتناضدت أحسن التراكم والتناضد ثم تساقطت الجذوع والجوائز من أشجارها
على قدر البيوت والخطط والمحتطّة للأبنية بلا حاصد لها ولا عاضد ثم
انتجرت بلا ناجر [14] وانتشرت بلا ناشر واسفنت بلا سافن فلما تهيّأ منه
الكمال واستقام المائل ترفّعت بأنفسها فانغرزت في مغارزها وتسقفت فوق
بيوتها وفاقت أساطينها تحتها ثم انطبقت عليها صفائحها وانتصبت أبوابها
فانغلقت بذاتها ثم تكلّس القصر وتسيّع وتبلّط وتجصًّص وتنقّش بأنواع
(1/68)
التزاويق والنقوش واستوى أمره وشاد بناؤه
واجتمع متفرّقه على أحسن التقدير وأكمل التدبير حتَّى لا تعرّى منه
ناحية ولا لبنة ولا قصبة إلا ومفهوم للناظر إليه موضع الحكمة والحاجة
إليه من غير فاعل فعله ولا صانع صنعه ولا ساعٍ سعى فيه ولا مدبّر دبّره
وكذلك [1] لو نظر إلى سفينة مشحونة موقّرة بألوان الحمولات وأصناف
السِلَع راكدة في لُجّة البحر أو سائرة أنها تركّبت ألواحها وأعضادها
وتسمّرت مساميرها ودُسُرها وانضمّت حتّى اسفنت بذاتها ثم نقلت الحمولة
إلى نفسها حتّى امتلأَت ثم ركدت في الماء فسافرت عند الحاجة وكذلك لو
نظر إلى ثوب منسوج أو ديباج منقوش أنه انحلج قطنه وخلص قزّه ثم انغزل
وانفتل وانصبغ والتأمت الوشائع [2] وامتدّت الأشراع والتفّت إلى
منوالها وانضمّت الخيوط بعضها إلى بعض فانتسج وانتقش فإذا لم يجُزْ هذا
المتوهّم فكيف يتوّهمه على هذا العالم العجيب النظم الباهر التركيب فإن
ذهب ذاهبٌ إلى الفرق بين تركيب العالم وتركيب
__________
[1] . وذلكMs.
[2] . الوسائغ Ms.
(1/69)
ما يركبّه الإنسان بأنّ العادة لم تجوّز
بابتناء الدور وانتساج الأثواب وانصباغ الأواني ولم يوجد مثل ذلك في
الامتحان والطبائع قيل فكيف جوّزتم ما هو أعجب ممّا ذكرنا وأعظم من غير
فاعل مختار ولا حكيم قادر فإن زعم أنّ تركيبّ هذا العالم على هذا النظم
ولتركيب [1] من فعل الطبائع فالطبائع إذاً أحياء قادرة حكيمة عالمة ولم
يبق بيننا وبينه من الخلاف إلى تحويل الاسم وتغيير الصفة وإن أنكر حياة
الطبيعة وحكمتها وقدرتها فكيف يجوز وجود فعل محكم متّقن من غير حكيم
حيٍّ قادر فإن زعم بالحدّ والاتّفاق على هذا الاتّساق غيرُ موهوم
وإنّما وقوعه في النوادر ولو جاز ذلك لجاز أن من له ساحة ولا بناء فيها
ولا عمارة يتّفق اتّفاق ليلة فتُصبح مبنيّة دوراً مغروسة أشجاراً على
أحسن الابنية واعجب التركيب ولا محيص للملحد من حجج الله وآياته فكيف
وهو حجّة بنفسه ولغيره وليس نورد من هذا الباب هاهنا إلا ما يضاهي
الفصل وما يصّح ويجلّ دون ما يغمض ويدقّ لأن من عزمنا أن نبالغ في
الاستقصاء والإيضاح لهذه المسائل في كتاب
__________
[1] . والتي بت Ms.
(1/70)
سمّيناه بالديانة والأمانة شكراً لمن أنعم
علينا بالتوحيد ومناضلةً عن الدين وتبصّراً للمستبصرين ومن عند الله
التوفيق، واعلم أنّه لو جاز أَنْ يُوجَد شيءٌ من الأَجسام لا من خلق
الله لجاز أن يوجد عارياً من دلالة عليه فإذا لم يوجد إلا من خلقه لم
يخلُ من دلالة عليه فإن قيل وكيف يعلم أَنَّه مصنوع مخلوق قيل بآثار
الحدث فيه فإن قيل فما آثار الحدث قيل الأعراض الّتي لا تعرى الجواهر
منها من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون واللون والطعم والرائحة
وغير ذلك فإن أنكر الأعراض وحدوثها كُلّم بما ذكرناه في موضعه [15] من
الفصل الأوّل فبحدوث الأعراض يصحّ حدوث الأجسام وبحدوث الأجسام يصح
وجود المحدث البارئ لها سبحانه ولقد قرأتُ في بعض كتب القدماء إن ملكاً
من ملوكهم سأَل حكيماً من الحكماء ما أدلُّ الأُمور على الله فقال له
الدلائل كثيرة وأوّلها مسألتك [1] عنه لأنّ السؤال لا يقع على لا شيء
قال الملك ثم ماذا قال شكّ الشاكّين فيه فإنّما يشكّ فيما هو لا فيما
لا هو قال الملك ثم ماذا قال وله
__________
[1] . مسألتك Ms.
(1/71)
الفطن [1] إليه الذي لا يستطيع الامتناع
منه قال الملك زدني قال حدوث الأشياء وتنقّلها على غير مشيّتها قال
زدني قال الحياة والموت اللّذان يسمّيهما الفلاسفة النشؤ والبِلَى
فلستَ واجداً أحداً أحيا نفسه ولا حيّاً إلا كارهاً للموت ولن ينلْ [2]
منهم يعني لا ينجو قال زدني قال الثواب والعقاب على الحسنة والسيئة
الجاريان على ألسنة الناس قال زدني قال أّجِدُ مزيداً، وجاء في الأخبار
أن بني إسرائيل اختلفوا في هذا الباب ففزعوا إلى عالم فسألوه بِمَ عرفت
البارئ قال بفسخ العزم ونقض الهمّة وكتب الله المنزّلة مملوءة بدلائل
الإثبات والتوحيد تأكيداً للحجّة لأنّه موضوع في نفس الفطرة وخاصّةً
القرآن وقال الله لرسوله حيث سُئِل عن الدلالة عليه إِنَّ في خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما
أَنْزَلَ الله من السَّماءِ من ماءٍ فَأَحْيا به الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَبَثَّ فِيها من كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ
وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 2: 164
__________
[1] . الفطرMs.
[2] . سل Ms.
(1/72)
[1] فدلّ على نفسه بخواص أفعاله ومعجزات
آثاره التي لا سعى لغيره في شيءٍ منها وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ من سُلالَةٍ من طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ
مَكِينٍ [2] 23: 12- 13 إلى قوله فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ 23: 14 [3] هل ترى أحداً يدّعى فعل شيء من ذلك وقال
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا به حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ
لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها
أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ
حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ الله [4] 27: 60- 61 إلى آخر الآى الخمس وقوله
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخالِقُونَ [5] 56: 58- 59، دلّهم على نفسه بصُنعه بإِعجازهم في آخر
الآيات فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ [6] 56: 86- 87 وتكلّف غير ما
__________
Qor. ,sour.II ,v.159. [1]
Qor. ,sXXIII ,v.12 -13. [2]
Ibid. ,v.14. [3]
Qor. ,XXVII ,v.61 etsuiv. [4]
Qor. ,sour.LVI ,v.58 -59. [5]
Ibid. ,v.85 -86 [6]
(1/73)
في كتاب الله فضل لأنّه معرض ممكن لمن
تدبّره وتأمّله وقال وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ 51: 21 [1]
إنكم توجدوها ولم تحدثوها ولستم تملكون شيئاً من أمرها من الصحة والسقم
والشباب وقال سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ 41: 53 [2] يعني بما
ضمّنها من آثار الصنع وشواهد التدبير ودلائل الحدث ورُوينا في حديث أنّ
رجلاً سأل محمّد بن عليّ أو ابنه جعفر بن محمّد يا ابن رسول الله هل
رأيت ربّك حين عبدته فقال ما كنت لا أعبدُ ربًّا لم أرَه فقال الرجل
وكيف رَأيته قال لم [3] تَرَه العيون بمشاهدة العيان ولكن رأَتْه
القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك بالحواسّ ولا يقاس بالقياس [4] معروف
بالدلالات موصوف بالصفات له الخلق والأمر يُعزّ بالحقّ ويُذلَ [15]
بالعدل وهو على كلّ شَيءٍ قدير وسُئِل عليّ بن الحسين رضى الله عنهما
متى كان ربّك قال ومتى لم يكن ربّنا وحكى عن بعض
__________
Qor. ,LI ,v.21. [1]
Qor. ,XLI ,v.53. [2]
[3] . ألمMs.
[4] . بالناس Ms.
(1/74)
الحكماء أنّه كان يقصّر [1] الناس على هذا
القدر من التوحيد ولم يرخص لهم الخوض في أكثر منه فيقول التوحيد أربعة
أشياء معرفة الوحدانيّة والإقرار بالربوبيّة وإخلاص الالهيّة والاجتهاد
في العبوديّة وكانت حكماء العرب في كفرها وجاهليّتها يُشيرون إليه في
أشعارهم ويمدحونه بالآئهِ ونعمائه فمن ذلك قول زيد بن عمرو بن نفيل
[طويل]
وَأَنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
فقلت له فأذهب وهارون فادعو ... إلى الله فرعون الّذي كان طاغيا
وقولا له أأنت سمكت هذه ... بلا عمد حتى استقرت كما هيا
وقولا له أأنت سوّيت هذه ... بلا وتد حتّى استقرّت كماهيا
وقولا له من يرسل الشمس غدوةً ... فتصبح ما مست من الأرض صاحيا
وقولا له من ينبت الحي والثرى ... فتصبح منه البقل يهتز راسيا
وكان يقول [متقارب]
وأسلمت وجهي لمن اسلمت ... له الأرض يحمل صخرا ثقالا
__________
[1] . [؟] قصير Ms.
(1/75)
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى
عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سوقت إلى بلدة ... أطاعت فصبّت عليها سجالا
فجعل يصفه بالصفات الّتي يَعجز عنها المخلوقون معرفةً منه باستحالة فعل
لا من فاعل وأذكُر أَنّي سألتُ بعضَ الأَعاجم بنواحي سنجار على نواحي
المزاح والمهازلة إذ كنت أراه جلف الجثّة ثقيل اللهجة ما الدليل على
أنّ لك خالقاً قال عجزي عن خلق نفسي فكأنما ألقمت حجراً وما شبّهتُه
إلاّ بخبر عامر بن عبد قيس إذ خرج عليه عثمان بن عفّان رضى الله عنه
وهو في شملّة اشعث اغبر في زي الأعاريب فقال أين ربّك يا اعرابي قال
بالمرصاد فهال ذلك عثمان فارعد له ومن ذلك قول صرمة بن انس بن قيس قبل
الإسلام [خفيف]
وله الراهبُ الحبيس تراه ... رهن يونس وكان ناعم بال
وله هودت يهود وكانت ... كل دين وكل أمر عضال
وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيدٍ لهم وكل احتفال
(1/76)
وله الوحش في الجبال تراه ... في حقاف وفي
ظلال الرمال
[16] يعني أنّ من مخافته هُوِدّت اليهود وحبست الرهبان أنفسها في
الصوامع ومن دلائله عرفت الوحوش منافعها ومناكحها وليست بذات عقول
مميّزة وإنَما يعرفه كلّ واحد بمقدار فهمه وكيفيّة استدلاله وأنشدني
النهريبندي في جامع البصرة [طويل]
ولو حل أقطار السماوات عاقلٌ ... أو احتل في أقصى بلاد تباعد
ولم ير مخلوقاً يدل على هدىً ... ولم يأته وحى من الله قاصد
ولم ير إلاّ نفسه كان خلقها ... دليلاً على بار له لا يعاند
دليلاً على إبداعها واختراعها ... منيراً على مرّ الدهور يشاهد
وفي هذا المقدار مقنَعٌ وبلاغ لمن ناصَح نفسَه وأعطى النَصفة وجانب
الجحود والعنود وَمن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من
نُورٍ 24: 40 وإذا صحّ إثبات الباري ووجود الصانع فلنقل الآن في صفاته
القول في جواب من يقول من هو وما هو وكيف
هو
(1/77)
أقول أن السؤال عن المائيّة والمنيّة
والهويّة محالٌ من وجه التفتيش عن ذاته لأنّ الإشارة إلى هذه الأشياء
تصوّرها في الوهم ولا يتصوّر في الوهم غير محدود أو نظير محسوس وهذه من
صفات الحدث فإمّا أن أراد السؤال عن إثباته وإثبات صفاته فلا وذلك
كقائل يزعم أنه قد ثبت عندي وجود البارئ سبحانه فما هو فالجواب الصواب
أنه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ 57: 3 القديم
الخالق حتى يُعدُّ جميع أسمائه وصفاته فإن زعم أنه سأل عن هويّة ذاته
قيل غير محسوسة ولا موهومة ولا معلومة بالإدراك والإحاطة فإن زعم أن
هذا من صفاته الاشيّة والبطلان فهذا من وساوس الجهل وهذيان الخطل
ويكلّم في إيجاب الصنعة الصانع والفعل الفاعل بما قد سبق ذكره فإن طلب
نظيراً أو شبيهاً بهذه الصفات فهذا يكلّفنا أن نتّخذ إلهين [1] اثنين
محسوساً وغير محسوس ثمّ نشبّه الغائب بالشاهد ليتحقّقه وما من إلهٍ
إلّا إله واحد وليس يجب علم ما تيقّنّاه لجهل ما جهلنا ألا ترى أنّا
إذا آنَسْنا شخصاً في السواد ولم نعلم ما هو ومن هو لم يجب ان
__________
[1] . الاهين Ms.
(1/78)
نُبطِل علمنا في ذات الشخص بما خفي علينا
من بعض هيئاته كذلك لمّا قامت الدلالة أن يستحيل وجود فعل لا من فاعل
ثم وجدنا فعلاً لم نشاهد فاعله لم يجب أن نُبطل علمنا البديهيّ بجهلنا
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هويّته فنزل الجواب في صفاته
قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 1- 4 [1] فأخبر أنّه أحد لا
كأحدٍ وصَمَد لا كصمد لم يلد ولم يولد يعني الملائكة وسائر الناس من
الخلائق الروحانيّين بقوله ولم يكن له كفؤاً أحد فنفى النظير والشبيه
عنه وقال الرسول عليه السلم فيما رُوِيَ لرجل من الأعراب سأله عنه هو
الذي إذا مسّك ضرٌّ فدعوتَه أجابك وإذا أصابتك سنةً فدعوتَه امطر
السحاب وأنبت النبات [16] وإذا ضلَّتْ راحلتُك بفلاةٍ من الأرض فدعوتَه
ردّها إليك فجعل يدلّ على ربّه بدلالة فعله وشهادة الكتاب تُغْنِيْ [2]
عن طلب الأسانيد لمثل هذه الأخبار بقول الله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ 27: 62
__________
Qor. ,sour.CXII. [1]
[2] . يغنى Ms.
(1/79)
[1] وفي رواية المَقْبريّ عن أبى هريرة رضى
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] أنّ الشيطان يأتي أحدكم
فلا يزال يقول له مَنْ خَلَقَ هذا فتقول الله حتّى يقول فمن خلق اللهَ
فإذا سمعتم ذلك فافزعوا إلى سورة الإخلاص فقال أبو هريرة رضى الله عنه
فبينا أنا قاعد إذ أتاني آتٍ فقال مَن خلق السماء فقلت الله قال فمن
خلق الأرض قلت الله قال فمن خلق الخلق قلتُ الله قال فمن خلق الله
فقُمْتُ وقلت صدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ
الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ 112: 1- 4 ولهذا نهى عن التفكّر فيه إذ لا مطلع للوهم والفكر
عليه من طلب ما لا سبيل إليه رجع بأحد الأمرَيْن إِمّا شاكًّا وإمّا
جاحداً والجحود والشكّ فيه كُفْر وقد قيل تفكروا في الخلق ولا تتفكروا
في الخالق لأنّ الخلق يدلّ عليه والخالق لا يُدْرَك ولا أَعلمُ أحداً
من أصناف الخلق والأمم إلاّ وهو مقرّ بوجود شيء في الغائب خلاف الحاضر
فمن ذلك قول الفلاسفة الهيولي وإنه خلاف الأجرام العلويّة والسُّفليّة
ومنهم من يقول بحيٍّ ناطق لا يجوز عليه
__________
Qor. ,sour.XXVII ,v.63. [1]
(1/80)
الموت وهو لم يشاهده حيًّا ناطقاً إلاّ
ميتاً ومنهم من قال بأنّ جوهرَ الأفلاك من غير الطبائع الأربع وهو لم
يشاهد شيئا من عين الطبائع ومن قال بمواضع من الأرض يبلغ طول النهار
بها أربعة وعشرين ساعة ومواضع يغيب الشمس عنها ستّة أشهر وهو لم
يشاهدها ومن قال بأنّ النطفة تنقلب علقةً والعلقة تنقلب مضغةً ولم
يشاهدها عياناً ومن قال بأرض لا بتركب منها حيوان ولا نبات ومن قال من
الثنويّة بنور خالصٍ في الغائب وظلمة خالصة غير مماسَّيْن ولا
ممتزجّيْن وهو لم يشاهد جسماً إلاّ مؤلّفاً مركّباً في أَشْباهٍ لهذا
يطول الكلام بذكرها حتّى تعلم ان قول القائل لا شيء غير ما يعاينه [1]
ولا شيء غاب عنه إلاّ كما يشاهده محال باطل وبعد فانّا نجدُ الحركة
والسكون والاجتماع والافتراق والفَرَح والحُزْن واللذّة والكراهية
والحبّ والبُغض وغير ذلك من كثير من الأعراض ولا يمكن صفتها بطول ولا
لون ولا عَرْضٍ ولا ريح ولا طعم أو صفة من الصفات ثمّ لم يجب إبطالها
لعدم صفاتها وكذلك العقل والفهم والنفس والروح
__________
[1] . يعانيه Ms.
(1/81)
والنوم لا شكّ أنّها أشياء ثابتة ولها ذوات
قائمة من الأعراض ثم لا يُحاط بكميتها ولا بكيفيتها غير وجودها فإذا
كانت هذه الأشياء قُربها منّا وتمكّنها فينا ونعجز عن الاحاطة بها ولم
يجز إنكارها لوجوهها وكيف بمُبْدِعها ومُنْشئها ومُقيمها على مراتبها
وكلّ صانع لا شكّ أَعْلى رتبةً من مصنوعاته وأَرفع درجةً فإن قال قائل
سَوَّيْتَ بين صفات العقل والروح والنفس وسائر ما ذكرت وبين البارئ
الذي يدعونا إليه وتساوي الصفات يوجب تساوي الموصوفات فما ينكر ممّن
يزعم أنه هو النفس أو العقل لا من الناس من يقول هو نفس [17] الخلائق
ومنهم من يقول هو عقولهم قيل إنما يجب تساوي الموصوفات إذا تساوت حدود
الصفات فأمّا الألفاظ فمشتركة والمعاني مختلفة ألا ترى أنّا نقول له هو
ولغيره هو ونقول هو واحد ولغيره ممّا يتميّز من الأعداد واحد ونقول
ذاته ولغيره من الحيوان والنبات ذواتها ونقول قال الله وفعل الله فقال
فلان وفعل فلان لأنّ الألفاظ سِمَاتٌ للمعاني لا يمكن العبارة إلاّ بها
فإذا جِئْنا إلى التفصيل قلنا فِعْلُ الإِنسان بجارحةٍ وفِعْله ليس
بجارحة وفعل
(1/82)
الإنسان بآلةٍ وفِعْله ليس بآلةٍ وفعل
الإنسان في زمان ومكان وفعل الله قبل الزمان والمكان فهَلْ بقى بين
الفعلَيْن من التشابه غير سمة اللفظ وهكذا سائر الأوصاف ثمّ من الدلائل
على أنّ البارئ جلّ جلاله ليس بالنفس ولا بالعقل ولا بالروح كما ذهب
إليه من ذهب أن الأنفس متجزّئة قد فرّقت بينها الهياكل والأشخاص
والتجزّي تفرُّق والتفرُّق عارض ولا متفرّق إلاّ ومتوهّم تجمعه
والتجمّع عارض وقد يعيش عائش ويموت مائت ولا يخلو [1] من أن تبطُل نفسٌ
بموت صاحبها أو ترجع إلى كلّيتها أو تنتقل إلى غيره والبطلان والرجوع
كلّها أعراض وقد أَوضَحْنا الدلالة على حدث الأعراض وهكذا القول في
الأرواح على السواء وكذلك تفاوت العقول واختلافها وما يعرِضُ فيها من
الخلل والنقص والسهو والغلط كلّها من دليل الحدث وما العقل في قصور
المعرفة إلاّ بمنزلة سَمْع الأذن وبصر العين وشمّ الأنف كلّها موجودة
غير معلومة الكيفيّة والكميّة فإن قيل أَلَهُ هُويّة وإن لم نعلمها قيل
الهويّة إضافة هو الى
__________
[1] . [؟] لي Ms.
(1/83)
معناه [1] وهو إشارة فإما معنى الهويّة
فالذات وأي لعمري له ذات عالمة سميعة بصيرة قادرة حيّة غير معلومة
كيفيّتها فإن قيل فهو عالم بذاته قيل له ليس هو غير ذاته فتكون معلومة
له غير علمه ويكون له من ذاته علم ومعلوم وقد قال قوم أنه هو الطبائع
ومنه حّدّثُ العالم وتركّبه فالطبائع أشياء متنافرة متضادّة مقهورة
مجبورة وهذه هي علامات الحدث ثمّ هي غير حيّة ولا عالمة ولا مختارة ولا
قادرة فيصحّ منها هذه الأفعال المحكمة المُتْقَنَة فإن أطلقوا عليها
هذه الصفات فهي البارئ بزعمهم وإنّما غلطوا في التسمية وإن أَبَوْا في
الفعل لا يصحّ إلاّ ممّن هذه صفاتُه واختلف أهل الإسلام في أشياء من
هذا الباب فأنكر كثير منهم القول بالأَيْنيّة والمائيّة ولا يخلوان من
أن يكونا إياه أو غيره أو بعضه فإن كانا غيره أو بعضه انتقض التوحيد
وإن كانا إيّاه فهو إذاً أشياء كثيرة وقال ضرار بن عمرو وأبو حنيفة رضى
الله عنهما له أينيّة ومائيَة لأنّه لا يكون شيء موجود إلاّ وله أينيّة
ومائيّة وعلّة الأينيّة غير علّة
__________
[1] . معناها Corr.marg. ,ms.
(1/84)
المائية وذلك أنك تسمع الصوت فتعلم أنّ له
مُصوّتاً وتجهل ما هو ثمّ تراه بعد ذلك فتعلم ما هو فعِلْمُك ما هو غير
علمك بأينيّته ومعنى المائية عندهما أنه يعلم نفسَه بالمشاهدة لا بدليل
كما نعلمه واختلف المُشبّهة فزعمت النصارى أنه جوهر قديم وزعم هشام بن
الحكم وابو جعفر الأحول الملقّب بشيطان الطاق انه جسم محدود متناهٍ
وقال هشام هو جسم مُصْمَتٌ له قدر من الأقدار من العَرْض كأنه [17]
سبيكة تلأْلأْ كالدُرّة من جميع أطرافها واحدة ليس بمجوّف ولا متخلخل
وحُكى عن مُقاتل أنه قال على صورة إنسان لحمٍ ودمٍ وسُئل هشام كيف
معبودُك فأوقد سراجاً وقال هكذا إلاّ أنّه لا ذُبالة له وقال قومٌ جسم
فضاء مكان الأشياء كلّها وأكبر من كلّ شيء وقال قوم هو الشمس بعينها
وزعم قوم إنه المسيح وقال قوم هو علي بن أبي طالب وذهب قومٌ إلى أشياء
كثيرة متبعّضة مختلفة القوى والفعل إلاّ أنّ بعضها متّصل ببعض وبعضها
أعلى من بعض فأعلاها البارئ سبحانه ويزعمون أنه لا جسم له ولا صفة ولا
يُعرف ولا يعلم ولا يجوز أن يُذْكَر ودونه العقل
(1/85)
ودون العقل النفس ودون النفس الهيولي ودون
الهيولي الأثير ثم الطبائع ويرون كلّ حركة أو قُوّة حسّاسة أَو نَامية
منه وسيمرّ بك النقض عليهم مجملاً في باب التوحيد إن شاء الله وأحسن ما
أختاره في هذا الفصل أَلاّ يخوض الإنسان في شيء منه إلاّ بإثبات الذات
بدلائل الصفات فإمّا ما سِوَى ذلك فيسكت عنه وليقتَدِ نبيّ الله موسى
حيثُ قال له الكافر وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قال رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ 26: 23- 24 [1]
هذا طريق السلامة فإن سأل بعضُ مَنْ لا يعلم كيف هو وأين هو وكم هو
فإنّ كيف يوجب التشبيه ولا شبه له وكم استخبار عن العدد وهو واحد وأين
طلب المكان وليس بجسم فيُشْغِل الأماكن،
القول في أن البارئ واحد لا غير
أقولُ أنّه لما صحّ وجود البارئ بالدلائل العقليّة وجب ان ينظر أواحد
هو أم أكثر لأنّ الفعل قد يفعله الواحد والاثنان وقد يشترك الجماعة في
بناء دار ورفع منار ونظرنا فإذا الدلائل على وحدانيّته بإذاء الدلائل
على إثباته وذلك أنّه
__________
Qor. ,sour.XXVI ,v.22 -23. [1]
(1/86)
لو كانا اثنّيْن لم يخلُ من أن يكونا
متساوِيَيْن في القوّة والقُدرة والعِلم والإرادة والقِدَم والمشيَّة
حتَّى لا يُفْرق بينهما بصفةٍ من الصفات فإن كانا كذلك فهذه صفة الواحد
لا يثبت في العقول غيره أو يكون أحدُهما أَقْدم من الآخر وأَقدر
فَالإِْلَهُ إِذاً القديمُ القادر إِذ العاجز الحادث لا يستحقّ
الإلهيّة أو يكونا معا متقاومين مُتضادَّيْن فأذَنْ لا يجوز وجود خَلقٍ
ولا أمرٍ لأنّه لو كانا كذلك لم يخلُقْ أَحدُهما خَلْقاً إلاّ أفناه
الآخر ولم يُحْيِ حيّاً إلاّ أماته الآخر فلمّا وجدنا الأمر بخلافه
علمنا أنّه واحد قدير وهذا ضمْنُ قول الله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ (إِلَّا الله) لَفَسَدَتا 21: 22 ف سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ 43: 82 [1] وقال قُلْ
لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي
الْعَرْشِ سَبِيلًا 17: 42 [2] ولو كانا اثنين لكانا قادرَيْن على
التمانع والتقاوم أو عاجزَيْن عن ذلك فإن كانا قادرَيْن لم يتّصل تدبير
ولم يتم وجود خَلْق وإنْ كانا عاجزَيْن فوجود الخَلْق عن العاجز
__________
Qor. ,sour.XXVI ,v.22. [1]
[2] . سبيلا Qor. ,sour.XXVII ,v.44.Lisez
(1/87)
مُحالٌ أَو كان أحدهما عاجزاً والآخر
قادراً فهو كما قلناه آنفاً ولو جاز القول باثنين لوجود الشيء وضدّه
لجاز القول بعدد أعيان الموجودات لاختلاف أجناسها وأنواعها وأنّها تمام
القُدرة جوازها على الشيء وضدّه ففاعل الشيء إذا كان عاجزاً عن ضدّه
غير كامل القُدرة والبارئ عزّ وجلّ دلّ على كمال قُدرته بإيجاد الشيء
وضدّه ومن هاهنا تفرّقت المجوس والثنويّة والدَهْرية وسائر فرق الضلالة
فزعمت المجوس بأنّ فاعل الخير لا يفعل الشرّ وأنّ الشرّير لا يفعل
الخير لأنّ الجنس الواحد لا يَقَعُ منه إلا الفعل الواحد كالنّار لا
يكون منها إلاّ التسخين والثلج لا يكون منه إلّا التبريد [18] فسمّوا
الإله الخير هرمز والشرّير الخبيث آهرمَن وأَضافوا كلّ حُسْنٍ وجميل
وفعل حميد إلى الخير [1] وكل قبيح وذميم إلى الشرّير الخبيث المضادّ له
ثمّ اختلفوا بعد إجماعهم على أنّ الخير منهما قديم لم يزل وزعم بعضهم
أن الشرّير قديم أيضاً كقول الثنويّة بقدم الكونين من النور والظلمة
وزعمت طائفةٌ أُخرى انّه حادث ثم اختلف الذين قالوا بحدوث الشرير
الخبيث كيف
__________
[1] . الخير Ms.
(1/88)
كان حدوثه فزعمت فرقة منهم أنّ القديم
الخير تفكّر فكرةً رديئة فاسدة فحدث من فكرته هذا الخبيث الشرير وهذا
نقض أصلهم بأنّ جوهر القديم جوهرٌ خير لا يشوبه شيء من الشرور والآفات
وزعم آخرون أنّ الخير هفا هَفْوةً فحدث منه هذا الضدّ بلا إرادةٍ منه
ولا مشيّة فجعلوا الخير كالمغود الجاهل الذي لا يملك نفسه وأمره وقد
أقرّ هذان الصنفان بوقوع الشرّ من الخير المحمود ووجود جنسَيْن
مختلفَيْن منه فما حاجتهما إلى إثبات فاعلَيْن مختلفَيْن فإذا جاز وقوع
الشرّ من هذا الخير المحمود فما يؤمنهم وقوع الخير من هذا الشرّير
المذموم وزعمت فرقة ثالثة منهم أنه لا يدري كيف حدث هذا الشرّير
المنازع [1] للخير القديم فأفصحوا بالحَيْرة ونادوا على أنفسهم بالشبهة
وبم ينفصون ممّن يعارضهم إذا جاز حدوث شرير فاعل للشرّ لِمَ لَمْ يُجْز
حدوث خير فاعل للخير حتّى يكون خالقهم اثنين حادثَيْن وقد زعموا جميعاً
أنّ هذا الشرير كايدَ الخير ونازعه الأمر وجمع الخير جنوده من النور
والشرير جنوده من أبعاض الظلمة فاقتتلا مدَةً من
__________
[1] . والمنازع Ms.
(1/89)
الدهر طويلة ثمّ توسّطت الملائكة بينهما
ودعَوهما إلى الهُدْنة والموادعة إلى أن يضع بينهما مدّة سبعة آلاف سنة
وهي مدّة قوام العالم فاصطلحا على أنْ يكون أكثر الأمر والحكم والغلبة
في هذه المدّة المضروبة للجوهر الشرّير فإذا انقضت المدّة أفضى الأمر
إلى القديم الخير فأخذ الشرّير يستوثق منه إلى أن ينقضي عالم الشرّ
والفتنة والفساد ويصير الحكم إلى الخير المحض وهذا ظاهر الانتقاض
والاختلاف وكيف تطمئن النفس إلى عبادة عاجز مغلوب على أمر وكيف يؤمن
الشرير الخبيث على الوفاء بالعهود والمواثيق وهل هي منه ألا أفضل الخير
وأتم الإحسان فقد وجد من جوهره الخير وهو من غير جنسه كما وجد من جوهر
الخير العجز والغلبة وهو شر وليس من جنسه واختلفت الثنوية فزعم ماني
وابن أبي العوجاء أن النور خالق الخير والظلمة خالق الشر وأنهما قديمان
حيان حساسان وأن فعلهما في الخلق اجتماعهما وامتزاجهما بعد أن لم يكونا
ممتزجين فحدث هذا العالم من نفس الامتزاج فأقرّا بحادث حدث في القديم
من غير سبب أوجبه ولا إرادة منه فضاهيا المجوس في قولهم أن الخير حدث
منه الشر بلا
(1/90)
إرادة منه ولا مشية وزعم ديصان أن النور
حىّ والظلمة موات فأحال أشدّ الإحالة إذ أجاز من الموات الفعل في خلق
الشرور والآفات فناقضوا بأجمعهم في نفس الامتزاج لأنه لو كان بدأبه
النور فقد أساء في مخالطة الظلام وإن كان بدوه من الظلام فقد غلب النور
وأفسده وعندهم أن النور لا يكون منه ألا الخير والظلمة لا يكون منها
[1] إلا الشر فكل خير منسوب إلى النور وكل شر منسوب إلى الظلمة واكتفى
من جوابهم بما يومض عن مناقضاتهم كفاء ما يشاكل [18] كتابنا هذا بعد أن
نستقصيه في كتاب المعدلة ونشبع القول فيه بمشية الله وقد سألهم جعفر بن
حرب عن مسألة قليلة الحروف عظيمة الخطر فقال لهم أخبرونا عن رجل قتل
رجلا ظلما فسئل أقتلته قال نعم من القائل نعم قالوا النور قال فقد كذب
النور والنور عندكم لا يفعل الشر قالوا فهو الظلمة قال فقد صدقت
والظلمة لا تفعل الخير وقال هل اعتذر أحد من شيء قط قالوا نعم
والاعتذار حسن جميل قال فمن المعتذر قالوا
__________
[1] . منه Ms.
(1/91)
النور قال فصنع شيئاً يجب الاعتذار منه
قالوا فالظلمة قال فقد أحسنت إذا اعتذرت فقطعهم واستعظم قوم القول
بإيجاد أعيان لا من سابق فقالوا بقدم البارئ وشيء قديم معه أم الأشياء
وآخر الهويات ومادة العالم والأصل الذي حدثت منه الأجسام والأشخاص فأنه
جوهر بسيط عار من الأعراض ثم أحدث الصانع فيه أعراضاً من الحركة
والسكون والاجتماع والافتراق فتركب من حركاته العالم بأجزائه فهولاء قد
أجبوا شيئين قديمين مختلفين إلى الذات والصفة أحدهما حي والآخر ميت
ودخلوا في مذاهب الثنوية وناقضوا أصلهم بأن البارئ لم يزل يصنع فيه
فأبطلوا قولهم بأنه علة والعلة لا تفارق المعلول وجملة القول في
الإعتقاد في المعدوم والموجود أن الموجود ما يعقل أو يعلم أو يحس أو
يعرف أو يصح منه تأثير أو فيه أو معه أو به فإذا خلا من هذه المعاني
فهو المعدوم ولولا ذلك لكان كيف يعتقد المعتقد المعدوم من الموجود فإن
قيل فقد اعتقدتم القديم أفعدم هو وأنتم لا تصفونه بشيء من الحدوث
والأعراض قيل افتسوون أنتم بينه وبين الهيولى في المعنى أم لا وأنتم لا
تصفونها بشيء من
(1/92)
الحدود والأعراض ونحن إنما نعتقد وجود
البارئ بدلائل صنعه وآثاره وليس يصح الهيولى أثر ويوجب اعتقاده موجوداً
بل لو وصفتموه بأفعال خاصية وجب اعتقاده وسنزيد إيضاحا لهذه المسألة في
فصل ابتداء الخلق إن شاء الله تعالى،
القول بإبطال التشبيه
أقول أن التشبيه يوجب الاتفاق في الحكم والمعنى على قدر المواقع من
الاشتباه وذلك يزعم أن حد الجسم أنه طويل عريض عميق يلزمه أن يقتضي على
كل ذي طول وعرض وعمق بالتجسيم لأن الاشتباه بينهما واقع في جميع الوجوه
فإذا قال جسم لا كالأجسام وأراد أن يبطل الحدود المضروبة فيه فكأنه
يقول جسم لا جسم ويلزمه أن يحكم على كل ذي طول بحد من حدود الجسم لأنه
من حيث استحق بعض أوصافه استحق الحكومة به كما أنه إذا حد العرض بأنه
لا يقوم بنفسه لزمه القول بأن كل ما لا يقوم بنفسه فهو عرض فإن قيل
أليس قلتم أنه شيء لا كالأشياء فما تنكرون من يقول أنه جسم لا كالأجسام
أو له وجه لا كالوجوه وجارحة لا كالجوارح فإن الشيء اسم عام
(1/93)
للموجود والمعدوم والقديم والمحدث وحده ما
قد ذكرناه في موضعه فإذا سمع السامع به لم يذهب به إلى جسم دون عرض ولا
إلى قديم دون محدث حتى يفرق به إلى التفسير ما يدل [19] على المراد
فإذا سمع بالجسم لم يعقل منه إلا المؤلف المركب فلذلك لم يجز إطلاق
أسماء المحدثات عليه لأن استواء أحكام المثلين من حيث تماثلا وإلى هذا
المعنى ذهب الناشي في قوله [بسيط]
لو كان للَّه شبه من خليقته ... كانت دلائله من خلقه فيه
قد كان مقتضياً من نشو صانعه ... ما يقتضي النشو من آثار ناشيه
لكنه جل عن أوهام واصفه ... فالحس يعدمه والعقل يبديه
(1/94)
|