البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب

ابتداء الدولة الصنهاجية بأفريقية
ولاية أبي الفتوح يوسف بن زيري
ابن مناد الصنهاجي بإفريقية
لما خرج أبو تميم من إفريقية إلى المشرق أستخلف يوسف المذكور وأمر الكاتب أن يكتبوا إلى العمال وولاة الأشغال بالسمع والطاعة لأبي الفتوح. ورحل أبو تميم إلى مصر فاحتلها وأمن أهلها وأتخذها دار ملكه وبقى أبو الفتوح أميرا على أفريقية والمغرب كله قال القضاعي لما وصل أبو تميم إلى الإسكندرية توجه إليه من مصر القاضي والشهود وأعيان من أهل البلد منهئين وداعين ومسلمين. ثم أستقر بقصر المعز في السابع لرمضان.

(1/228)


وفي سنة 363 وصل القرمطي إلى الطواحين في جمادى الأول وأنهزم في شعبان في هذه السنة.
وفي سنة 365 توفي أبو تميم المز لدين الله العبيدي في يوم الجمعة الحادي عشر لربيع الأخر، فكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وأياما منها مقامه بمصر سنتان وسبعة أشهر.

ولاية العزيز بالله نزار
فولي الإمار بمصر العزيز بالله نزار، المكنى بأبي المنصور ابن معد المكنى بأبي تميم. ولد بالمهدية في محرم سنة 344 وولى العهد بمصر في العاشر لربيع الأول سنة 365 وسترت وفاة أبيه وسلم عليه بأمير المؤمنين وقد ذكرنا بعض أخباره في أمراء مصر (أخبار المشرق.) وفي جمادى الأخيرة من سنة 365 بعث أبو الفتوح أمير أفريقية إلى العزيز بالله هدية فشيعها وعاد أبو الفتوح إلى رقادة فخرج إليه أهل القيروان فتلقاهم بأحسن قبول وأجملهم أجمل نزول وبعد ذلك عزم أبو الفتوح على الانتقال إلى فحص أبي صالح فخرج لتوديعه القضاة والشيوخ لثلاث بقين من رجب من السنة المؤخرة.
وفي ذي الحجة أمر أبو الفتوح العمل على أفريقية واليه عبد الله بن محمد الكاتب أن يقيم أسطولا بالمهدية معدة من الرجال والسلاح. فخرج عبد الله إلى المهدية وأخذ في حشد البحريين في كل بلدة وأمر أن يأخذ كل من لقي منهم بالقيروان وغيرها وملأ بهم السجون. وأدرك خاصة البلد وعامتها من الخوف ما لزموا له البيوت وأنتها حالهم إلى أنه إذا مات أحد عندهم لا يخرجه إلا النساء.

(1/229)


وفي سنة 366 خرج الأسطول من المهدية في أول محرم، فتعذرت الريح عليها فأقاموا حتى فرغت أزوائهم وعدموا الماء، فهرب جميع من فيها من النواتية والبحرية، وصاروا إلى البر، فنهبوا ما في المراكب من عدة وسلاح وهربوا إلى كل ناحية. فجعل عبد الله الطلب عليهم، فمن ظفر بهم، قتل.
وفي هذه السنة، توفي زيادة الله بن القديم في سجن عبد الله بن محمد الكاتب، وقيل أنه قتل بأنواع من العذاب. وفي هذه السنة، نادى عامل أفريقية والقيروان، وهو عبد الله الكاتب، فاجتمع الناس إليه، فأخذ من أعيانهم نحو الستمائة رجل من أغنيائهم وأغرمهم على الأموال بالتعيين: يأخذ من الرجل الواحد عشرة آلاف دينار، ومن آخر دينار واحدا. فاجتمعت له بالقيروان أموال كثيرة. وعم هذا الغرم سائر أعمال أفريقية ما عدا الفقهاء والصلحاء والأدباء وأولياء السلطان، وكان الذي جبى من القيروان نيفا على أربعمائة ألف دينار عينا. وبقى الأمر كذلك في الطلب، إلى أن وصل الأمر من مصر إلى أبي الفتوح برفع الغرم عن الناس، فأطلقهم عبد الله الكاتب في أواخر شوال.
وفي سنة 367، بعث عبد الله الكاتب عامل أفريقية هذا المال إلى ملك مصر العزيز بالله بأمر أبي الفتوح صاحب أفريقية من قبل العزيز بالله، وكتب على كل صرة أسم صاحبها. فكان خروج هذا المال من المنصورية لخمس بقين من جمادى الأخير. ولما وصل المال إلى مصر، رد العزيز بالله بعض الصرر لأربابها.
وفي هذه السنة، أنعم العزيز بالله على أبي الفتوح بطرابلس ونواحيها. فقدم عليها أبو الفتوح يحيى بن خليفة الملياني، فأقام بها شهورا، ثم عزله.
وفيها، زحف خزرون بن فلفل بن خزر الزنتاني إلى سجلماسة، في عدد عظيم، فخرج إليه المعتز، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل المعتز، لخمس بقين من

(1/230)


رمضان. وملك خزرون سجلماسة، وأخذ فيها أموالا جليلة. وبعث خزرون برأس المعتز إلى الأندلس واستحكم بها ملك زناته وأتباعه.
وفي هذه السنة، وصل أبو الفتوح صاحب أفريقية إلى سبتة، فحاصرها. وبعث إليه ابن أبي عامر برأس جعفر بن علي، أراد أن يرضيه بذلك. وكان ابن أبي عامر قد قتل جعفر بن علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسي. ويأتي خبر قتله في أخبار ابن أبي عامر من الأندلس.
وفي سنة 368، خرج العزيز من مصر إلى الشام في عدد عظيم، ونزل بالرملة. وكان بين يديه ألف بند وخمسمائة طبل. وكان جوهر قائده خرج في العام الفارط إلى الشام، فهزمه أفتكين التركي، ورجع إلى مصر مفلولا. فخرج العزيز بالله في هذه السنة بنفسه. فلما نزل الرملة، خرج إلى التركي. فكانت بينهم حروب عظيمة، فانهزم التركي وأخذ أسيرا، فسيق إلى العزيز بالله بحبل في عنقه. ولما وصل إلى مصر، عفا عنه، ومات بعد ذلك.
وهذه السنة، دخل أبو الفتوح صاحب أفريقية من فبل عبد العزيز بالله بلاد الغرب، واستولى عليها، وهدم مدينة البصرة، ومحا رسمها بعد طول مدتها وكثة عمارتها. وكان رحيل أبي الفتوح من أفريقية إلى الغرب يوم الأربعاء لخمس بقين من شعبان من سنة 368، فوصل بجيوشه الضخمة إلى فاس، فاستولى عليها، وملك سجلماسة وبلاد الهبط كلها، وطرد من جميعها عمال بني أمية، ثم رحل إلى ستة في طلب من لجأ إليها من زناتة. فلما أشرف عليها، نأمل الوصول إليها، فرأى من تحصينها ومنعتها ما لا يستطاع إدراكه إلا بالمراكب البحرية، فرجع عنها، ولم يعوزه من بلاد المغرب غيرها. فرجع يريد البصرة، وكان فيها عمارة عظيمة بالأندلس والبربر. فلما دخلها أمر بهدمها، ونهب ما كان فيها من الأموال والأمتعة وجميع الأسباب. فاستحالت

(1/231)


الجيوش والأمم عليها، فصارت كأن لن تغن بالأمس. فلم تكن بصرة بالمغرب إلى الآن، ودثر رسمها. وكانت قديمة أزيلت. وقد تقدم ذكرها. ثم صار منها إلى أصيلا.

ذكر مدينة أصيلا
وأما أصيلا، فهي محدثة وكان سبب بنائها أن المجوس خرجوا بساحلها، وزعموا أن لهم بها أموال وكنوزا، تركها لهم الأوائل الذين كانوا يسكنون السواحل وأخرجهم منها عامة القبائل. فلما نزلوا في البر لأخذ أموالهم، اجتمع البربر لقتالهم فقالوا: (لم نأت لحرب؛ وإنما لكنوز في هذا الموقع. فكونوا ناحية حتى نستخرجها، ونشارككم فيها) فاعتزل البربر عنهم لما سمعوا ذلك منهم. فحفر المجوس مواضعهم، واستخرجوا دخنا كثيرا عفنا. فلما رآه البربر، ظنوه ذهبا. فبدروا إليهم. وهرب الروم إلى مراكبهم. فأصاب البربر الدخن، فندموا ورغبوا إلى المجوس في الرجوع واستخراج المال، فأبوا وقالوا: (قد نقضتم العهد) وساروا إلى الأندلس، فحينئذ خرجوا بأشبيلية على ما يأتي ذكره في أخبار الأندلس. فاتخذ الناس موضع أصيلا رباطا، وانتابوا إليه من جميع الأمصار. فكانت تقوم في سوق جامعة ثلاث مرات في السنة (في رمضان وفي العواشر، وفي عاشوراء) .
ومما قيدته واختصرته من (كتاب المسالك والممالك) لمحمد بن يوسف القروي قال: ومن المدن القديمة على ساحل بحر الغرب أصيلا، وهي في سهلة من الأرض، كانت مدينة للأول. ثم تغلب عليها البحر ثم بنيت بعد ذلك، وكان سبب بنائها، ان المجوس خرجوا من مرساها مرتين، ما الأولى، فأنهم صدقوا إليها، زاعمين أن لهم بها مالا وكنوزا، فاجتمع البربر لقتالهم حسبما ذكرت ذلك، وأما خروجهم الثاني، فأن الريح قذفت بهم إليها

(1/232)


وعطبت لهم أجفان كثير عليها، حتى كان يعرف ذلك الموضع بباب المجوس. وكان موضعها ملكا لقبائل لواته. فابتناها قوم من كتام. فأول ما ابتدروا به مسجدا. ثم بنى لواتة مسجدا ثانيا، وشاع أمرها، فبنى الناس شيئا بعد شيء، فقصدها التجار من الأمصار بضروب المتاجرة في أوقات معلومات لأسواق الغبار.
فأول من قدم عليها من الملوك القاسم بن إدريس، فأنه ملكها، وقامت دعوته بها إلى أن توفي - رحمه الله - ثم وليها أبنه إبراهيم بن القاسم، فجرت بينه وبين عمر بن حفصون الثائر بببشتر من الأندلس مراسلات ومكاتبات في شأن النفاق على الخليفة بقرطبة الأموي، إلى أن هلك. ثم وليها ابنه الحسين ابن إبراهيم بن القاسم، فأضطرب أمره، وضعفت طاعته، وكانت مدته خمسا وعشرين سنة في قبائل لواتة، وكان أخوه أحمد المتولي لأمر كتامة، وكان يعرف بأبي الأذنين. وكان صاحب البصرة حينئذ أخوهما عيسى بن إبراهيم بن القاسم، إلى أن قتله أبو العيش جنون من بني إدريس - رحمه الله - فتزوج أخوه أحمد الملقب بأبي الأذنين زوجته، وملك مكانه، وقيل أن زوجته سمته فقتلته. فصار أمر كتامة وأمر البصرة إلى يحيى بن إبراهيم بن القاسم المعروف بابن برهوية، فأختلفت عليه كتامة، وكان ذلك سبب دخول بني محمد بلد كتامة وهوارة وتلك الناحية، واستجاشوا بحسن بن محمد المعروف بالحجام، فقام بأمره، وهلك القاسم بن حسن بن القاسم بن إدريس صاحب أصيلا. ودخل بنو محمد من بني إدريس مدينة أصيلا، فاستأثر بها حسن الحجام دون بني عمه، فولى عليها رجلا من خاصته يقال له حجام بن يوسف، فأحسن السيرة فيهم، إلى أن هلك، فطلب ولايتها رجل من أهلها يقال له محمد بن عبد الوارث، فعبدوا طوره فيها، ويقال ن أصاب بأصيلا كنزا بداره، ونهى ذلك إلى حسن المعروف بالحجام، فطمع في ذلك المال، وعزله عن أصيلا.

(1/233)


ثم وليها إبراهيم الغل المكناسي، وكان ساكنا بها، بعدما أعطى مال لحسن الحجام. قلما وصل إلى أصلا، سار محمد بن عبد الوارث إلى الحسن بمال كثير فعزل إبراهيم وأعاد ابن الوارث. فسار إبراهيم بهدية إلى الحسن، فعزل مجمدا وولاه عليها. ثم عزا إبراهيم وولى محمد بن عبد الوارث. وكانت عزلتهما وولايتهما نحو سنتين، إلى أن استقر فيهما محمدا هذا، وسني فار الصهريج، يعنون الكنز الذي أصاب فيه. وتبين لبن عبد الوارث رغبة حسن في ماله، فأعطاه. واستقامت له معه جميع أحواله مدة، ثم عزله، وولى إبراهيم ابن الغل المذكور، فبقى بها إلى ان حصر ابن العافية بني محمد في حجر النسر، فأتاه أهل أصلا، وطلبوا منه واليا من قبله، فولاها سعيد بن الشيخ الإشبيلي. وهرب إبراهيم بن الغل إلى مدين بن موسى بن أبي العافية، فوفد عليه، وهاداه، وانقطع إليه، فولاه أصلا فأحسن السيرة ورفق بالرعية وانصرف إلى تسول، بعدما استخلف على حرب بني محمد رجلا من أصحابه يعرف بأبي قمح، فحاصرهم حصارا شديدا. فلما ضاق عليهم الأمر، هجموا عليه ليلا، فهرب أبو القمح، ومالك بنو محمد محلته. واجتمعت قبائل كتامة بقلعة هناك، فزحف إليهم بنو محمد الأدارسة، فحاربهم حتى دخلوا القلعة، وقتلوا من كان فيها. فكان أول فتح بني محمد بن إدريس الحسني.
وبلغ ذلك إلى أهل أصلا، فكتبوا إلى ابن العافية، وذلك في سنة 322، في حين خروج ميسور إلى أرض المغرب. فجاوبهم موسى بن أبي العافية، وأمرهم أن يتحصنوا في بلدهم، وكتب إلى قبائل كتامة ولواتة وهوارة، وصنهاجة، يأمرهم بمعونتهم على البنيان، فانقسموا على سور المدينة، وبنوه في ستة أشهر. فهرب وجوه القبائل إلى أصلا، واجتمع بها ملأ عظيم منهم، فزحف إليهم بنو محمد الأدارسة بعساكر، فكانت بينهم حرب عظيمة، فاستمدوا ابن أبي العافية، فاعتذر إليهم وقال لهم: اكتبوا إلى أمير المؤمنين! فأنا وانتم

(1/234)


رعيته وتحت طاعته! فكتبوا إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر. وكانت مدينة سبتة تحت طاعته. فبعث إليهم الرماة الأنجاد، واتصل ذلك ببني محمد، فحشدوا الأحشاد، وزحفوا إلى أصلا، فحاربهم أربعين يوما. فخاف وجوه أهلها، فجازوا إلى الأندلس. ودخل بنو محمد أصلا، وذلك سنة 326، وملكوها فأمنوا من بقى بها من أهلها. وعاد من جاز إلى الأندلس إليها.
وحواها من القبائل لواتة في القبلة، ومن هوارة قوم يعرفون ببني زياد بينهم ديكة رمل عالية. قال إبراهيم بن محمد الأصلي من قصيدة له (وافر) .
سقى غربي أرض بنو زياد ... سحائب ما يجف لها غروب
ولا زال النسيم يعلم قوما ... إزائهم من الشرق الكثيب
وحولها من القبائل من جهة الغرب هوارة الساحل.

ذكر من ولى مدينة البصرة
أسست البصرة في الوقت الذي أسست فيه أصلا. وعلى ثمانية أميال منها جبل يقال له صرصر كثير المياه والثمار، يسكنه مصمودة. وأول من ملكها إبراهيم بن القاسم بن إدريس نحو أربعين سنة، ثم وليها ابنه عيسى ابن إبراهيم، ثم أخوه أحمد بن إبراهيم، ثم برهون بن عيسى بن إبراهيم، ثم أحمد بن القاسم بن إدريس، ثم برهون بن عيسى ثانية، ثم سعيد غلام المظفر من قبل مصالة بن حبوس، ثم حسن بن محمد ين الحجام، ثم محمد بن يحيى بن القاسم ولد الجوطي، ثم عيسى بن أحمد المعروف بأبي العيش، ثم أحمد بن القاسم ثانية، ثم وال من قبل ابن أبي العافية، ثم أبو العيش بن أحمد ثالثة، ثم أحمد بن أبي العيش إلى سنة 347.

(1/235)


وكانت مدينة يقال لها كرت في جبل يسمى به إلى وقتنا هذا، خربها بنو محمد، وهي كانت قاعدة أحمد بن القاسم، الذي يقول فيه بكر بن حماد (كامل)
إن السماحة والمروءة والندى ... جمعوا لأحمد بن القاسم
وإذا تفاخرت القبائل وانتمت ... فأفخر بفضل محمد وبفاطم
وبجعفر الطيار في درج العلا ... وعلى العضب الحسام الصارم
لأني لمشتاق إليك وإنما ... يسموا العقاب إذا سمى بقوادم
فأبعث إليّ بمركب أسمو به ... على أكون عليك أول قادم
وأعلك أنك لن تنال محبة ... إلا بعض ملابس ودراهم
فبعث إليه بغلة سنية وصلة جزلة. وكان له فيه أمداح كثيرة.
وكان على وادي ورغة حصن كبير يسكنه البربر فسكن عندهم شخص من الحضر فقال في نفسه (طويل) .
الأهل أتى أهل المدينة أنني ... بورغة بين الأعجمين غريب
إذا قلت شيء قيل: ماذا تريد ... لهم بين أحراز الوجوه قطوب
وكان هناك حصن أيضا يعرف بسوق عكاشة، قريب من ورغة، لحمد بن حسن من بني إدريس - رحمهم الله - وجنيارة حصن كبير في جبل يعرف بالجبل الأشهب، وهي لبني حصين. وفي ذلك الجبل قرى كثيرة. وهو بمقربة من قاس. ومن أصلا إلى مدينة فاس خمسة أيام على طريق البصرة. ويلي أصلا من جهة الشرق مدينة طنجة. وكان صاحب طنجة القاسم بن إدريس. ومن طنجة إلى فاس عدوتان أسست عدوة الأندلسيين سنة 192، من الهجرة، أسسها أهل ربض قرطبة إذ فروا من الحكم الربضي، وأسست عدوة القروين بعدها بسنة. قال: الشاعر (بسيط) .

(1/236)


يا عدوة القرويين التي كرمت ... لا زال جانبك المحبور ممطورا
لا امسك الله عنها صوب نعمته ... أرض تجنبت الآثام والزورا
ولما خرب أبو الفتح يوسف بن زيري الصنهاجي أمير أفريقية مدينة البصرة، رحل بعساكره إلى بلد برغواطة. وكان ملكهم صالح بن عيسى بن أبي الأنصار وكان فصيحا شاعرا، فأطاعوه حتى جعلوه نبيا، وشرع لهم شريعة، فاتبعوه. فضلّ، وأضلهم. فغزاهم أبو الفتوح، فكانت بينهم حروب لم يجر قبلها مثلها كان الظفر فيها لأبو الفتوح. وقتل الله الكافر ابن عيسى وانهزمت عساكر برغواطة، فقتلوا قتلا ذريعا، وسبى من نسائهم وذرياتهم ما لا يحصى عددهم. وأرسل أبو الفتوح سبيهم إلى أفريقية، فلقيهم عامله عبد الله الكاتب، مع أهل القيروان والمصورية. وملك أبو الفتوح بلاد الغرب. فكانت السجلات ترد عليه من مصر، فتصله على البريد إلى فاس أو غيرها، ثم يرجع بها إلى عامل أفريقية، فتقرأ بعد مدة من تاريخها. وأقام أبو الفتوح في بلاد الغرب، وهو قد ملكها، وأهل سبتة منه خائفون، وزناتة مشردون، وذلك من سنة 368 المؤرخة إلى سنة 373.
وفي سنة 3659، توفي أحمد بن أبي ؤ خالد، الطيب الكبير المعروف بابن الجزار.
وفيها كانت الحمرة التي ظهرت في السماء ليلة الأربعاء لخمس خلون من ربيع الأول، فخرج الناس إلى المساجد للضجيج والتضرع إلى الله تعالى وفي غد تلك الليلة هرب كبّاب ومغنين ابن زيري بن مناد من قصر أخيهما السلطان أبي الفتوح الذي كان فيه محبوسين وقد لبسا ثياب النساء، وخرجا في نسوة دخلن إليهما لزيارتهما، فوجدا عبيدهما قد أعدوا لهما خيلا وسلاحا، فركبا ومضيا نحو المشرق حتى وصلا مصر، فأنزلهما العزيز بالله، وخلع عليهما ووصلهما، وبقيا هنالك بقية هذه السنة.

(1/237)


وفي سنة 370، صرف العزيز بالله كبابا ومغنيا أين زيري إلى أبي الفتوح يوسف بن زيري أمير أفريقية وأمر أن يعفوا عنه ويتعرض لهما. ففعل ذلك. وفيها تمكنت حال يعقوب بن يوسف بن كلس مع العزيز بالله، فأدل كتامة وقهرهم، وقدم الترك والإخشيدية، وعزل الوزراء جوهرا وغبرة. .
وفي سنة 371 دخل سبى البرغواطيين إلى المنصورية يوم السبت لثمان خلون من ربيع الأول. فرأى أهل أفريقية من السبي كما لم يره أحد منهم لكثرته. وطيف بهم في المنصورية والقيروان.
وفي هذه السنة وصل باديس بن زيري من مصر برسالة إلى أبو الفتوح يأمره بتخير ألف فارس من أخواته الأبطال صنهاجة منهم حبوس وماكسن وزاوي وحمامة وبنو حمامة بن مناد وزاوي بن مناد، ونظرائهم فكتب إليه من بلاد الغرب يعرف بتغلب بني أمية أمراء الأندلس على البلاد الغرب وأن الدعاء لهم فيه على المنابر وأنه قد خرج لمحاربتهم بهؤلاء الرجال الذين سماهم أمير المؤمنين فأن عزم على بعثهم إليه ترك الغرب وسار بنفسه في جملتهم. فلم يعد إليه جوابا فيهم.
وفي جمادى الأول منم هذه السنة كان بالمهدية زلازل دامت الشهر كله وعشرة أيام بعده تزلزل في كل يوم مرات حتى هرب أكثر أهلها وأسلموا ديارهم وما فيها.
وفي سنة372 قتل أمير صقلية أبو القاسم علي بن حسن في مقابلته مع الإفرنج وكانت ولايته بها إحدى عشر سنة ثم ولى أبنه جابر سنة واحدة.
وفي سنة 373 أشترى عبد الله بن محمد الكاتب عامل إفريقية العبيد السودان وجعل على كل عامل من ثلاثين عبدا إلى ما دون ذلك وكذلك على أصحاب الخراج ووجوه رجاله. فاجتمع له منهم ألوف وأسكنهم بالمنصورية. وفيها عمل عبد الله بيت الحديد وملأه أموالا ثم عمل بيت خشب وملاه أموالا أيضا واستخفاف على المنصورين جعفر بن حبيب وخرج إلى لمهدية على عادته في كل سنة.

(1/238)


ذكر وفاة أبي الفتوح يوسف بن زيري
ابن مناد الصنهاجي
وفي هذه السنة توفي أبو الفتوح قفوله من قتال برغواطة وقد انفصل سجلماسة فمات بموضع قتال له وأركنفو يوم الأحد لتسع بقين من ذي الحجة. وذلك أن ابن خزرون الزناتي ضرب على سجلماسة فدخلها وأخذ ما كان فيها من الأموال وكان بها عامل أبي الفتوح فأتاه الخبر بذلك، فرحل إليها فاعتل في طريقه بقولنج فمات بالموضع المذكور. فأوصى لأبي زعبل ابن هشام وكان من خاصته فأرسل إلى المنصور يعرف بوفاة والده أبي الفتوح.

ولاية أبي الفتوح المنصور بن أبي الفتوح إفريقية
ولي الإمارة في أوائل سنة 374 أشير وتوفى يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول من سنة 387 فكانت مدته اثنتي عشر سنة ودفن بالمنصورية وكان كريما سحا جوادا صارما عازما. قال الرفيق: وقد ذكرت سيرته وحروبه وعطاياه في كتاب مفرد لأخبار جده وأبيه وأخباره وكان لقبه عدة العزيز بالله بن يوسف العزيز بالله.
وفي هذه السنة وهي سنة 374 بعث المنصور أخاه يطوفت من مدينة أشير، لما بلغت موت أبيه وأمر أن يطوي المراحل إلى القيروان والمنصورية برسم القبض على عبد الله بن محمد الكاتب وكان بالمهدية، ونائباه على المنصورية جعفر بن حبيب وعلى القيروان برهون العامل فصبحهم يطوفت سحر يوم الثلاثاء منتصف المحرم فنظر يطوف إلى الخزائن مغلقة والى البيت المال مقفلا فأخذ المفاتيح وفتح بيت المال وبيت السلاح وفرق على أصحابه وركب من كان مترجلا من الصنهاجيين بالمنصورية. ثم خرج والتقى مع عبد

(1/239)


الله الكاتب في بعض الطريق فوثب عليه وأرجله عن فرسه وانتهت أسبابه وأعتقل بالمنصورية أياما. ثم أمر المنصور بإطلاقه ورفع يده عن البلد ثم عاد الأمر إلى عبد الله فأمره بالقضاء ووجه الناس من شيوخ القيروان وغيرهم وتوجه معهم لرسم التهنئة والتعزية للمنصور فوصلوا إليه وسلموا عليه بمدينة أشير فقال لهم المنصور: (لقد شق على تعبكم في حركتكم غير أن سروري في رؤيتكم.) ثم شكر عبد الله الكاتب وذم فعل أخيه به ثم أمر عبد الله الكاتب أن يدفع للوافدين عليه عشرة آلاف دينار ضيافة. فدعوا له وانصرفوا. ثم استدعاهم بعد ذلك وقال لهم (أن أبي وجدي اخذ الناس بالسيف قهرا وآنا لا آخذهم ألا بالإحسان. وما أنا في هذا الملك ممن يولى بكتاب ويعزل بكتاب لأني ورثته عن آبائي وأجدادي وورثوه عن آبائهم وأجدادهم حمير!) أو كلاما هذا معناه ثم أمرهم بالانصراف مع عبد الله الكاتب فكانت مدة مسيرتهم ورجوعهم خمسة وثلاثين يوما.
وفي رجب قدم المنصور إلى رقادة فتلقاه عبد الله الكاتب في خلق عظيم من أهل القيروان فأظهر للناس الخير ووعدهم بكل جميل. وأتاه العمال بالهدية والأموال وأعطاه عبد الله هدايا جليلة. ثم أخذ المنصور في جهاز هدية بعثها إلى مصر مع زروال بن نصر. فقيل أن قيمة ما كان فيها من الأمتعة والدواب والطرف ألف ألف دينار عينا. وأقام المنصور برقادة فأمر بعمل سرج مكلل بالدر والياقوت فخرج به إلى العيد في أحسن زي وخرج إليه من القيروان خلق عظيم فصلى بالمصلى وخطب القاضي ابن الكومي وانصرف المنصور إلى قصره وولد سماه باديس بن المنصور ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الأول من هذه السنة.
وفيها أعطى المنصور لأخيه يطوفت العساكر ووجهه إلى مدينتي فاس

(1/240)


وسجلماسة يطلب ردهما ورد تلك البلاد الغريبة إذ كانت خرجت عن طاعته صنهاجة عند وفاة أبي الفتوح فوصل إلى مدينة فاس. وكان بها زيري بن عطية الزناتي الملقب بالفرطاس فلما أحس بوفادة بن أبي الفتوح عاجل بالخروج إليه والهجوم عليه فقاتله قتالا شديدا حتى انهزم يطوفت وظفرت زناته بصنهاحة فتبعوهم وتتلوا منهم قوما كثير واسروا كثيرا آخرين وهرب الباقون إلى تيهرت وهزم في هذه الوقعة قائدان له اسمهما ابن شعبان وابن عامل فسمر ابن شعبان على باب فاس وقتل ابن عامل شر قتيلة. وبقى زيري بن عطية مالكا لفاس وما حولها. ولما بلغ المنصور هزيمة أخيه، من المنصورية يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة برسم الغرب. خرج ومعه عبد الله الكاتب، وأستخلف عبد الله على القيروان ابن يوسف ثم رجع عبد الله بعد ذلك بعمالة أفريقية كلها. وبعث المنصور إلى أخيه يطوفت بجيش أخر فتلقاه بتيهرت ولم يتعرض المنصور بعد ذلك إلى بلاد زناتة.
وفي سنة 375 أمر أبو الفتح المنصور أن يعمل بالقيروان أبواب حديد وأمره ببناء قصره الكبير وكان فيها مولد لأبي علي المنصور (قيل: المنصور) ابن نزار العزيز بالله بمدينة القاهرة في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الأول وفي سنة 376 ظهر أبو الفهم الخراساني الداعي واجتمع إليه خلق كثير من كتامة. وكان يوسف بن عبد الله الكاتب قد أعطاه مالا وخيلا فتوجه إلى لبلد كتامة فدعاهم فأجابوه وتقررت أموره عندهم حتى صار يركب الخيل ويجمع العساكر ويعمل البنود ويضرب السكة فعظم أمره وشاع خبره وفيها جد يوسف بن عبد الله الكاتب في بناء المنصور قصر المنصورية للمنصور أبي الفتح فبلغ إنفاقه فيه قبل تمامه مائة ألف دينار.

(1/241)


وفي سنة 377 وصل المنصور أبو الفتح صاحب أفريقية إلى المنصورية، فنزل في قصره الذي بني له وأتى معه عبد الله الكاتب وجميع عساكره ووجوه بني عمه ورجاله. وفي هذه السنة، كان مقتل عبد الله الكاتب وأبنه يوسف وذلك أن عبد الله بن محمد الكاتب بلغ مع المنصور بن أبي الفتوح ما لم يبلغه أحد من قرابته وأهل بيته ودولته، وانحصرت أموره كلها كانت تخت قبضته فجمع الأموال ورتب الأحوال والأعمال وأعطى السياسة والرياسة حقها فحسنه كبراء أهل الدولة والتقى عنه حسن ابن خالته إلى المنصور أمورا من القدح في دولته وأنه كان السبب في خروج الداعي الثائر أبي الفهم بكتامة وأنه كان يصغر خبره حتى تفاقم أمره وغير ذلك من الأسباب المهلكات. وكان عبد الله الكاتب لثقته بنفسه لا يداري أحد من أولاده زيري ولا أكابر الدولة. فلما أحسوا من المنصور بعض التغير عليه أكثروا من (اعتزل عن عمل أفريقية وأقتصر عن الكتابة وكل من تولى متصرف بين يدك وتحت أمرك!) فكان جوابه أن قال (القتلة ولا العزلة) فلما كان يوم الأحد لإحدى ليلة خلت من رجب غدا إلى ديوان كان قد بناه فجلس فيه لانتظار ركوب المنصور وبيده جزء من القران يقرأ فيه حتى قيل له (قد ركب) فأطلقه وركب فرسه برسم لقائه، وهو يقول (طويل) .
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
فلما وصل إليه المنصور، نزل عبد الله إليه سلم عليه ثم وقف، فدار بينهما كلام كثير لم يقف أحد على صحته، ثم طعنه المنصور برمحه، فجعل أكماله على وجهه وقال: على ملة الله وملة رسوله! لم يسمع له غير ذلك. وضربه عبد الله أخو المنصور برمح بين كتفيه فسقط إلى الأرض ميتا. ثم أوتي بابنه يوسف، فرضبه المنصور وماكسن بين زيري، فسقط ميتا. وكان عبد الله لما تنكر له المنصور لا يزال يتمثل بهذا البيت (طويل)

(1/242)


أرى ألف بان لا يقوم لهادم ... فكيف ببان حوله ألف هادم
وكان يتمثل أيضا بقوله (كامل) .
لي مدة لابد أن أبلغها ... حتى إذا قضيتها مت
لو صارعتني الأسد ضارية ... لصرعتها ما لم بج الوقت
ولما مات عبد الله وابنه، دار العسكر على الناس، فانتهبوهم وسلبوهم، وقطعوا الطرق، فأخذوا كل من وجدوا من المسافرين وغيرهم، ومالوا إلى وادي القصارين وإلى باب تونس أحد أبواب القيروان، فنهبوا ما كان عند القصارين، فذهب في ذلك اليوم إلى أموال المسلمين، وقتل خلق ممن دافع عن نفسه ومال. ودفن عبد الله في الإسطبل دون غسل ولا كفن. وولي أعمال أفريقية من قبل أبي الفتح بن أبي محمد وكان عاملا على قفصه فأعطاه البنود والطبول وخلع عليه، وولاه أفريقية مكان عبد الله يوم الخميس لخمس بقين من شعبان من هذه السنة المؤرخة.
وفي سنة 378، تحرك أبو الفتح المنصور بعسكره إلى بلاد كتامة. فمر على ميلة، وأمر بخرابها، وهدم سورها، وأمر أهلها بالمسير منها إلى باغاية، فاجتمعوا وساروا إليها. فلقيهم ماكسن بن زيري بعسكره، فأخذ ما كان معهم من مال وغبره. وكان المنصور في هذه الحركة لا يمر بمنزل ولا قصر ولا دار إلا أمر بهدمه. ولما وصل المنصور إلى كتامة، حاربوه فظفر بهم وقتلهم واستأصلهم. وهرب الثائر أبو الفهم إلى جبل وعر، فأرسل إليه المنصور من أخذه. فلما صار بين يديه، أمر به، فلطم لطما شديدا، ونتفت لحيته: حتى أشرف على الموت.

مقتل الثائر أبي الفهم
وذلك أنه، لما صار بين يديه، وعمل به ما تقدم ذكره، أمر بخروجه وقد

(1/243)


بقيت فيه حشاشة من الروح، فأخذه بعض رجاله، فنحروه وشق بطنه وأخرجت كبده، فشويت وأكلت. وأخذه عبيد المنصور، فشرحوا لحمه وأكلوه، حتى إذا لم يبق إلا عظامه متجردة وذلك يوم الثلاثاء لثلاث خلون من صفر. وقتل بسببه والي ميلة وجماعة من كتامة. ونزل بكتامة الذل والهوان. وبقيت ميلة خرابا. ثم عمرت بعد ذلك. ورحل أبو الفتح المنصور قافلا إلى المنصورية والقيروان، وفي هذه السنة. دخل الوادي إلى المنصورية وهدم دورها.
وفي سنة 379، وصل إلى المنصور سعيد بن خزرون الزناتي من الغرب، فأعطاه وأرضاه وقال له يوما: يا سعيد هل تعرف من هو أكرم مني؟.؟ قال نعم قال: ومن هو؟ قال: أنا! قال له المنصور: ولم ذلك؟ قال: لأنك جدت عليّ بالمال وجدت أنا عليك بنفسي! فولى سعيدا هذا مدينة طبنة. وقدم عليه بعد ذلك جماعة من الزناتيين، وأكرمهم وأعطاهم، وزوج المنصور ابنته من ورو بن سعيد.
وفي هذه السنة، خالف أبو البهار بن زيري، فزحف إليه المنصور إلى تيهرت، ففر أبو الهار إلى الغرب. ودخل عسكر المنصور تبهرت فنهبوا وقتلوا، ثم أمنهم بعد ذلك. ورجع المنصور عن تبع عمه أبو البهار، وآوى على تبهرت أخاه يطوفت ومضى المنصور إلى مدينة أشير وكتب أبو البهار إلى ابن أبي عامر، يسأله الدخول في طاعته، وأن يكتب له إلى زيري بن عطية الزناتي صاحب فاس أن يكون مواليا ومصافيا لابن أبي عامر، فكتب ابن أبي غامر إلى أبي البهار: أن كنت على نية فيما وصفته عن نفسك، فارسل إلى ابنك، يكون رهينة عندي وأفعل عندك ما أحببته! فوجه إليه ابنه في مركب مع ميمون المعروف بابن الدابة كأبيه، فعطب المركب وماتا جميعا في البحر. فوجه إليه ولده الآخر، فوصل إليه فوجه ابن أبي عامر

(1/244)


لأبي البهار أموالا وكسي وكتب إلى زيري بن عطية في زحفه أن يعاضده وينصره، ويكون معه. فلما بلغ ذلك أبا البهار وصل إلى فاس، واتفق مع زيري بن عطية صاحبها.
وأما العامل على أفريقية، يوسف بن أبي محمد المتقدم الذكر فكان مشتغلا بالأكل والشرب فإذا دخل الورد اصطبح عليه، فلا يظهر حتى يفنى الورد وينقطع. وكان يجلس فيه، وينام عليه، فسمي شيخه الورد. وأسلم الأمور لابن البوني، فكان أهل الحاضرة معه في أمن وعافية، وأهل البادية في عذاب وغرامة. وكان جبارا عنيدا، وسمحا جوادا وكان يخرج في كل سنة فيدور على كور أفريقية، ويجبي الأموال، ويأخذ الهدايا من كل بلد ويرجع. قال الرقيق: كنا إذا درنا مع يوسف بن أبي محمد على البدان، واستطاب موضعا وأعجبه حسنه أقام فيه مصطبحا الشهر والشهرين، وأبو الحسن البوني يجبي الأموال ويقبض الهدايا ويقوم بأمور أخلة يوسف وعسكره. وكان يعطي لخاصة يوسف في كل يوم خمسة آلاف درهم، وينفق على يوسف لمطيته وفاكهته نحو هذا المال المذكور.
وفيها توفي عامل صقلية عبد الله بن محمد بن أبي الحسن، وولى ابنه يوسف، فكان الناس في أيامه على أفضل ما يشتهون واستقامت له الأمور، وأداخ بلاد الروم، وظهر من كرمه وجوده وعدله ملهو معدوم في كثير من البلدان.
وفي سنة 380، توفي المرصدي صاحب خراج القيروان. وأمر أبو الفتح المنصور بولاية محمد بن عبد الطاهر بن خلف الخراج مع سلامة بن عيسى؟ فجلسا معا في ديوان خراج المنصورية.
وفي سنة 381 توفي القائد جوهر بمصر وهو الذي فتحها. فلم يبق شاعر بمصر إلا رثاه، وذكر ما فتحه شرقا وغربا. وفيها وصل المنصور إلى

(1/245)


المنصورية ودخل قصره الجديد فخرج إليه أهل القيروان، يتلقون فأدناهم وأثنى عليهم ووعدهم خيرا. ثم رفع له في عبد من عبيده أنه قذف بعض الصحابة، فأمر يقتله وصلب جثته، ونودي على رأسه في مدينة القيروان.
وفي سنة 382، طهر أبو مناد باديس بن أبي الفتح المصور بقصر والده وأهدى إليه جماعة من الناس على قدر أحوالهم، وفيها ترك المنصور البقايا للرعايا. وفيها قبض على البوني وابنه، وطلب منهم إلا كثيرا فأنكراه وكان المنصور قدر أنه يأخذ منهما أموالا يفتخر بها على أضياف كانوا عنده في يوم طلبها، وقال لهم: لو أن عبدا من عبيدي طلب منه بيوت مال لوجد ذلك عنده! فصادف أنكار البوني ذلك المحل، فأمر بذبح البوني. وعزل يوسف بن أبي محمد عن عمالة أفريقية وولى مكانه محمد بن أبي العرب الكاتب. وفيها وصل سجل من العزيز بالله بولاية العهد لأبي مناد باديس بن المنصور، فسر المنصور بذلك، وجاءته الهدايا من البلدان ومن كمل جهة ومكان، وفيها كان وصول سعيد بن خزرون من مدينة طبنة إلى المنصورية، فلقيه المنصور، وعانقه ثم دخل معه إلى قصره، وأنزله وأجرى عليه الأرزاق الواسعة، فاعتل سعيد بن خزرون أياما، ومات في أول رجب، فكفنه المنصور بسبعين ثوبا، وفي هذه السنة وصلت هدية من بلد السودان فيها زرافة، فخرج المنصور حتى دخلت بين يديه. وفيها وصل إلى المنصور فلفل بن سعيد بن خزرون بعد موت أبيه، فأعطاه ثلاثين حملا من المال، وثمانين تختا من أنواع الكسي وخيلا بسروج محلاة، وعشرة من البنود الجدد المذهبة، ورده إلى مدينة طبنة أميرا عليها.
وفي سنة 383 خرج باديس بن المصور إلى مدينة أشير. وفيها وصل إلى المنصور كتاب أخيه يطوفت، يخبره بوصول عمه أبي بهار إليه فكتب إليه

(1/246)


المنصور أن يبعثه فكان أبي البهار إلى المنصورية ليلة الاثنين منتصف شعبان، فأعطاه المنصور كسا وجواري وفرشا وسر به أعظم سرور وأنزله أحسن نزول.
وفي سنة 384، كان دخول أبي مناد باديس بن المنصور إلى المنصورية من جهة الغرب، وهي أول حركة، فتلقاه أبو العساكر وأهل القيروان وغيرهم، وفيها، كان وصول الهدية من مصر مع جعفر بن حبيب ومعه فيل عظيم.
وفي سنة 385، مات الأمير عبد الله بن يوسف بن زيري بم مناد. وفيها، كان خروج القائد يوسف بن أبي محمد عاملا على متيجة. وفي جمادى الأخيرة، وصل قاسم بن حجاج إلى المنصورية من مصر برؤوس الروم الذين قتلهم مارق الكتامي بحلب.
وفي سنة 386، توفي أبو الفتح المنصور عدة العزيز بالله بن زيري بن مناد الصنهاجي في يوم الخميس لثلاث خلون من ربيع الأول، ودفن بقصره الجديد الخارج عن المنصورية. وكانت أيامه أحسن أيام.

إمارة أبي مناد باديس بن أبي الفتح
ابن أبي الفتوح يوسف بن زيري بن مناد
ولما صارت الأمور إليه، أتاه الناس من كل ناحية بأفريقية للعزاء والتهنئة. وكانوا بنو زيري وبنو حمامة قد هموا بأمور، وخالفوا على ما كان معهم على ما عقدوه، فما تركهم عبيد باديس وعبيد أبيه إلى شيء مما أرادواه. ووصل أبو بيباش يطوفت بن أبي الفتوح إلى لمنصورية للعزاء والتهنئة ثم رجع إلى طبنة وجهة الغرب في أواخر شعبان. وفي هذه السنة توفي أبو

(1/247)


المنصور نزار العزيز بالله العبيدي صاحب مصر في حوض الحمام وكانت به علة الحصى، وشرب دواء في الحوض، وأدركه أجله فيه، فمات. وولي مكانه أبو علي ولي عهده الملقب بالحاكم بأمر الله. وكان أبو مناد قد هيأ هدية ليبعثها للعزيز، فبرزت الهدية من المنصورية إلى رقادة مع جعفر بن حبيب لست خلون من رمضان. وكان العزيز بالله قد بعث سجلا إلى أبي مناد يأمره فيه برفع القاضي محمد بن عبد الله بن هاشم إلى مصر، فوصل السجل والقاضي مريض، فأمره أبو مناد بالخروج مع الهدية، فاعتذر بعده، فبعث إلى داره محمد بن أبي العرب وجماعة من رجال الدولة، وذلك لثلاث خلون من ذي القعدة، ووقف العسكر بباب أبي الربيع وظنوا أن أهل القيروان يمنعه منهم ويحولون بينه وبينهم فهجموا عليه، وحملوه ببساطه الذي كان مريض عليه في ثيابه التي يلبسها في داره، لأنهم فاجئوه وخرجوا به محمولا، وقد اجتمع عند داره خلق عظيم ولم ينق أحد منهم، ومشوا به إلى رقادة وخلفه غلام نصراني يمسكه، وأولاده وقرابته يمشون خلفه. واغتم بمسيره سائر الناس وظهر عليهم الحزن والأسف لفقده، وكثر الدعاء له والثناء عيه. ثم جاءت الأخبار بوفاة العزيز بالله، فأمر أبو مناد برجوعه إلى داره مكرما معظما وفي هذه السنة، مات أبو محمد بن أبي زيد - رحمه الله! - وفي سنة 387، توترت الأخبار بموت العزيز بالله. وفيها رجع القاضي إلى داره، وهو مريض، فازداد مقداره عند الناس وفي صفر، عقد أبو مناد ولاية أشير لحماد ابن أبي الفتوح يوسف بن زيري بن مناد، فخرج عاملا عليها وأعطاه خيلا كثيرة وكسا جليلة، ثم اتسعت عمالته وكثرت عساكره وعظم شأنه، وفي ربيع الأخر وصل القاضي الباهري من مصر إلى المنصورية، فبرز أبو مناد بعساكره عليه، وخرج بجميع رجاله إليه، رأى ما لم ير مثله. ووصل المذكور بسجلين، فقرئا بجامع القيروان والمنصورية: أحدهما بولاية أبي مناد

(1/248)


وتلقيبه نصير الدولة، والثاني بوفاة العزيز بالله وخلافة الحاكم بأمر الله والجواب عن وفاة المنصور عدة العزيز بالله. وكان معه سجل ثالث بأخذ العهد على باديس وجماعة بني مناد للحاكم. فجلس أبو مناد ودعا وجوه الصنهاجيين وأخذ عليهم البيعة. ثم رجع القاضي الشريف الباهري إلى مصر، بعد أن وصله أبو مناد بمال جليل. وفي هذه السنة خرج نصير الدولة إلى المصلى بزيّ جليل وهيئة حسنة وبين يديه الفيل وزرافتان، وجمل أبيض ساطع البياض، لم ير الناس مثله قط.
وفي سنة 388، وصلت إلى نصير الدولة هدية من مصر تشتمل على الجوهر والأعلاق النفيسة، فتلقاها، ودخلت بين يديه إلى المنصورية وفيها، كانت وقعة بمصر بين الترك والكتاميين، وكان الظفر للترك عليهم. .
وفي سنة 389، زحف زيري بن عطية صاحب فاس وما والاها من بلاد الغرب إلى مدينة تيهرت، فنزل عليها وحاصرها. وكانت يطوفت بن يوسف بن زيري صاحبها، فكتب إلى ابن أخيه أمير أفريقية، يستمده، فبعث إليه محمد ابن أبي العرب.

ذكر هزيمة عسكر أفريقية واستيلاء زيري بن عطية عليه
وظهور زناتة على صنهاجة
لما وصل كتاب يطوفت إلى باديس نصير الدولة، أمر نصير الدولة محمد ابن أبي العرب الكاتب بالخروج بالعساكر إلى زناتة، فكان تبريزه في منتصف صفر من هذه السنة، ونهض بالعساكر حتى بلغ أشير، وبها حماد بن يوسف بن زيري عاملا عليها، ومعه عسكر عظيم، فأقام بها يسيرا، ثم رحل ورحل حماد معه بعسكره، حتى وصلا إلى تيهرت، فاجتمعا بيطوفت، ومعه أيضا عسكر عظيم وكان اجتماعهم بتيهرت غرة جمادى الأولى. وكان بتيهرت زيري بن

(1/249)


عطية نازلا بموضع يقال له امسار، على مرحلتين من يتهرت، فزحفوا إليه. فكانت بينهم حرب شديدة وكان معظم عسكر حماد الوتلكاتيين، وكان قد أساء عشرتهم. فلما حمى الوطيس واشتد البأس، ولوا منهزمين، فاتبعهم جميع العساكر الأفريقية. فرام ابن أبي العرب رد الناس فلم يقدر فولت الهزيمة على الجميع، حتى وصلوا إلى أشير وقد أسلموا محلاتهم ومضاربهم، وكل ما فيها من الأموال والسلاح وغير ذلك، فاحتوى زيري بن عطية وإخوانه على جميع ما ذكرنا. وقتل منهم خلق كثير، وأخذ أسرى كثيرة، فوعدهم بجميل، ثم أطلقهم عند وصوله إلى تيهرت، فمضوا حتى وصلوا إلى أشير. وبقى ابن أبي العرب وحماد ويطوفت بأشير وبقى زيري ابن عطية الزناتي على تيهرت. وكانت هذه الوقعة والهزيمة يوم السبت لأربع خلون من جمادى الأولى منن هذه السنة. ووصل الخبر إلى المنصورية لعشر بقين منها، فخرج نصير الدولة صاحب أفريقية من المنصورية للقاء زيري بن عطية يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الآخرة، ورحل حتى وصل إلى طينة، فبعث في طلب فلفل بن سعيد بن خزرون الزناتي، وكان على طبنة، فخاف منه، وبعث يعتذر له، ويسأله أن يكتب له سجلا بولاية طبنة، فكتبه له، وبعث به إليه، ورحل عنه نصير الدولة باديس وتمادى في رحيله. فلما بلغ فلفلا أنه قد أبعد عنه ضرب على جهة من جهاته، فأكل ما حولها ونهب وافسد ومضى إلى باعاية، فحاصرها، وأفسد تلك الجهات كلها، واكل ما والاها، ونصير الدولة في هذا كله متماد على سيره حتى وصل أشير. ولما وصل إلى المسيلة، رحل زيري بن عطية عن تيهرت. فصمم إليه نصير الدولة. ثم وصله الخبر أنه توجه إلى ناحية فاس فعند ذلك رجع نصير الدولة إلى تيهرت وأشير، واستخلف يطوفت على تيهرت ابنه أيوب في أربعة آلاف فارس. وبلغ نصير الدولة ما فعل فلفل ابن سعيد، فأرسل من أشير عساكر تقدمت إليه، ثم رحل بعدهم ومعه أبو

(1/250)


البهار بن زيري حتى وصل إلى المسيلة فعيد بها عيد الفطر. ووصل إلى أبي البهار فيه الخبر بأن أخوته ماكسن وزاوي ومغنين نافقوا بأشير، وأنه قد قبضوا على يطوفت، فرحل أبو البهار هاربا في بنيه ورجاله وعياله. ورحل نصير الدولة ثالث شوال إلى أفريقية. فلما بلغ إلى يلزمة، بلغه أن فلفل بن سعيد تمادى إلى القيروان، فرحل إلى باغاية، فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل وأنه حاصرهم خمسة وأربعين يوما، فرحل من باغاية في طلب فلفل، فاتقى معه لعشر خلون من ذي القعدة، فكانت بينهم حروب لم يسمع بمثلها. وكلن قد اجتمع لفلفل من البربر مل لا يحصى عددا وكثرة، فانهزم فلفل إلى جبل الحناش، حسبما ذكروه، واتبعته صنهاجة والعبيد. فلما رأوه تمادى منهزما، رجعوا عنه ونهبوا محلته. وقتل في ذلك اليوم نحو سبعة آلاف من زناتة. وأرسل نصير الدولة كتاب الفتح إلى مدينة القيروان.
وفي سنة 390، خرج نصير الدولة في طلب فلفل بن سعيد. فلما علم فلفل أنه لا طاقة له بلقائه، هرب إلى الرمال، وافترق جمعه فرجع نصير الدولة إلى أفريقية، ومعه أبو البهار بن زيري وقد أعتذر له مما فعل إخوانه، فقيل عذره. ثم رجع فلفل إلى طرابلس، وتمادى نصير الدولة إلى أن وصى إلى قصر الأفريقي، فبلغه حينئذ أن بني زيري رجعوا إلى الغرب خوفا منه وأنه لم يبقى مع فلفل سوى ماكس وابنه محسن، فرجع نصير الدولة إلى المنصورية حضرته. وفي أول رجب من هذه السنة، خرج نصير الدولة إلى رقادة، متوجها لقتال زيري بن عطية الزناتي أمير الغرب، لما بلغه أنه أتى إلى أشير. ثم جاء الخبر برحيل زيري بن عطية إلى الغرب، فرجع نصير الدولة إلى المنصورية.
وفي سنة 391، خرج نصير الدولة في طلب فلفل ثانية، ووصل كتاب يوسف بن عامر عامل قابس، يذكر فيه أن فلفلا رحل إلى طرابلس من على قابس، لست بقين من رجب، ولما وصل فلفل إلى طرابلس خرج إليه فتوح

(1/251)


ابن علي وجماعة أهلها، فقتلوه وأدخلوه البلد، فاستوطنها من ذلك الوقت. وفي هذه السنة، وصل رسول حماد بن يوسف العزيز بالله يذكر أنه زحف إلى عمه ماكسن بن زيري ومن معه، فقتل ماكسن وولداه محسن وباديس بعد حروب شديدة ن وذلك بعد ثلاث خلون لرمضان المعظم. وفيها توفي زيري بن عطية الزناتي، صاحب فاس والغرب كله وذلك في الثاني عشر من رمضان المذكور من السنة المؤرخة، بعد قتل ماكسن بتسعة أيام.

بعض أخبار زناتة ودولتهم بالغرب إلى حين ظهور المرابطين
وذلك أن زناتة كانت تقوم بدعوة الأمويين، لما تقدم لهم من هجرة جدهم خزر بن صولات وإسلامه على يد عثمان بن عفان، وكان صنهاجة تقوم بدعوة العبيديين. ووقع بينهم حروب كثيرة وقام ببلاد الغرب زيري بن عطية الخزري المغراوي، وملك فاسا وغيرها، وصار أمير زناتة كلها في ذلك الوقت. وكان يدعوا لبني أمية في دولة هشام المؤيد، إذ كان المقيم لها ابن أبي عامر حاجبه، وهو يحارب أعدائه وأضداده صنهاجة أمراء أفريقية. قال بن حمادة: وكان قد وصل إلى قرطبة، واجتمع مع ابن أبي عامر سنة 379، وكان بأرض الغرب في خدمته من تلك السنة وموالاته مع سعة ملكه وبعد صيته إلى أن فسد ما بينهما سنة 387، ووقع بينه وبين المظفر حروب يطول ذكرها.
قال ابن حيان: ثم أن زيري بن عطية الراوي نكث على علي ابن أبي عامر بعد الحب الشديد والوفاء الأكيد، وطعن علي بن أبي عامر سلبه الملك هشام وامتعض لهشام المؤيد، وغلية ابن أبي عامر عليه، فانفذ له ابن أبي عامر واضحا فتاه بجيش كثيف، فقاومه بالمغرب. ودارت بينهم حروب عظيمة، ثم أردفه ابن أبي عامر بولده عبد الملك، وهبط هو إلى الجزيرة الخضراء يمدهم بالقواد

(1/252)


والأجناد. وبرز عبد الملك من طنجة إلى زيري، ودارت بينهم حروب لم يسمع بمثلها في الحروب الغابرة. أجلت عن هزيمة زيري واستئصال رجاله وحاله. ونجا هو مثخنا بالجراح. وانبسط ملك عبد الملك بن أبي عامر على الغرب وما والاه إلى سلجماسة، وعلى تلمسان وتيهرت. وقفل إلى الأندلس سنة 389، واستخلف على بلاد الغرب واضحا الغازي، فأقام بفاس مدة وانصرف إلى الأندلس، وخلف على فاس عبد الله بن أبي عامر، ابن أخي المنصور، ثم تلاه إسماعيل بن البوري، ثم تلاه أبو الأحوص معن بن عبد العزيز، وبقي فيها إلى أن توفى محمد بن أبي عامر، فصرفها ابنه عبد الملك المظفر إلى المعز بن زيري بن عطية، وقد استحكمت ثقته به وحسن رأيه فيه فولاه على فاس سنة 397، على أن يعطيه المعز عدة من الخيل والسلاح يحملها كل سنة إلى قرطبة، وقبض على ابنه المسمى معتصر رهينة. فاستقامت طاعة المعز، وأقام ابنه بقرطبة إلى أن نشأت الفتنة وانقرضت الدولة العامرية، فانصرف معتصر إلى أبيه ومضى مع أبوه على رأيه في موالاة من ظهر بالأندلس من المروانية، إلى أن هلك بعد صدر من الفتنة، وأورث ولده حمامة ملك فاس وما والها.
وقد ذكر الوراق ذلك، وشرحه شرحا كافيا وقال: توفي زيري بن عطية في سنة 391، أقام بنو عمه ابنه المعز مكانه. وذكر استجداء المعز للمظفر ابن أبي عامر، وأرسله إليه، وتقليد المظفر له ولاية المغرب على ما تضمنه من خيل وسلاح وغير ذلك، ورهنه المعز ولديه حمامة ومعنصر، وذكر موت المظفر، وتقديم أخيه عبد الرحمن لحجابة هشام المؤيد وبلغ المعز بن زيري ذلك، فاحتفل في هدية عظيمة يهديها له، وذلك سبعمائة من الخيل وأحمال كثيرة من درق اللمط وجملة كبيرة من المال والسلاح، وسائر ما بالمغرب من الطرف، ووصل قرطبة مع هذه الهدية فتيان من بني عمه وجملة من شيوخ

(1/253)


القبائل ووجوه فاس، فسر عبد الرحمن بذلك وشكر المعز وسرح ابنيه إليه بعد أن كساهما وأرضاهما وكتب للمعز عهدة بتحديد ولاية الغرب كله إلا مدينة سجلماسة فأنه كان قد عقد ولايتها لواضح الفتى قبل ذلك وولاها واضح وانودين بن خزرون اليفرني وأبن عمه زيري فلفل على ما ضمناه إليه وعده من الخيل والدرق معلومة وجملة من المال في كل سنة. ورهنه كل واحد منها أبه. فامتثل النعز بين زيري وما أمره بن عبد الرحمن بن أبي عامر. وبقي المعز أمير الغرب إلى أن انقرضت الدولة العامرية ثم انقرضت الدولة المروانية وانشقت عصى الأمة ومرج أمر الناس بالأندلس وصار المسلمون شيعا متفرقون يقتل بعضهم بعضا وينهب. وفعل أهل المغرب مثل ذلك فكثر فيه الشتات وشن الغارات بعضهم على بعض. وأقام المعز بن زيري يدارى أمره إلى أن حانت وفاته سنة 416. وولى مكانه أبنه أبو العطاف حمامة بن المعز بن زيري بن عطية وكان له حظ من المعرفة والأدب وحسن السياسة، فكانت مدينة فاس في أيامه هادئة راخية، وكان الشعراء يقصدونه من الأندلس. وجرت له حروب كثيرة إلى أن حانت وفاته في سنة 433. وولى ابنه دوناس بن حمامة فقام عليه بنو عمه، ولم يزل أمره يضعف، ودولتهم تدبر إلى أن قام بمدينة فاس أميران بالعدوتين وكانت الحرب تدور بينهما. وجرت بين ذلك أمور وخطوب، ولا يحسن ذكرها لشناعتها، إذ للدول، إذا أدبرت كل ما يجري فيها يقبح ذكره، إلى أن شاع خبر خروج لمتونة من الصحراء، واستيلاءهم على بلاد المصامد وخلعهم لملوكهم وناموس عدلهم، ودخل عبد الله بن ياسين مدينة أغمات وما يليها، فخافت زناة وأجفلت عن جهة الشرق حيث مستقرها، ولما قتل عبد الله بن ياسين، رجعت زناة إلى المغرب، وقتلوا كل من اتهموه بالميل إلى أصحاب اللثام، فحاربهم الصحراويون. ووجه أبو بكر بن عمر يوسف بن تاشفين، فحارب رؤساء القبائل، واستفتح بلاد كثيرة.

(1/254)


وفي خلال ذلك كان الجوع الشديد الذي يعرف بسنة أو قبة بدرهم من الدراهم الخندوسية، وذلك في سنة 444. ورجع الفتوح بن معنصر الزناتي من المشرق وكسر عسكر مدينة فاس في سنة 454. وفيها كسرة مكناسة ولواة: كسرها قائد أبي بكر بن همر اللمتوني.
وفي سنة 454، وطئ بليجين بن محمد بن حماد الصنهاجي جميع الغرب ودوخه بجيوش عظيمة.
وفي سنة 459، دخل إبراهيم بن مليح الجزنائي مدينة فاس، وأخرج منها معنصر بن حماد إلى بيت الشرق. ثم رجع إلى فاس، وقتل كل من اتهمه بالميل في الملثمين. ثم رجع يوسف إلى المغرب وهرب معنصر. وقتل يوسف سدراة ودخل مدينة فاس، واستولى عليها وعلى أكثر الغرب. هكذا ذكر أبو مروان عبد الملك بن موسى الوراق في كتابه (المقباس في أخبار فاس) . وأما يوسف الجزنائي، صاحب مكناسة فتولى سنة 412. وأما توالي، فتوفي بالقلعة، وولي ابنه مهدي في هذه السنة. وأما ابن أبي العافية إبراهيم، فتوفي في سنة 450، وولي ابنه عبد الله وكان بنو أبي العافية أصحاب تسول وملوية ونكور، وهي لمزمة، وتوفي عبد الله 460، وولي ابنه محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية وأما تلمسان والزاب، فكان فيها يعلى الزناتي، وما في هذا التاريخ أو قريبا منه وقام فيها بنوه. وما وراء الزاب من بلاد الغرب، لم يملكه العباسيون قط، أما تلمسان وأنظارها، فوليها محمد بن سلمان ابن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - ومن ولده أبو العيش عيسى بن إدريس بن محمد المذكور. وأما فاس وأنظارها فكان فيها شيعة ثم آل أمرها إلى إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - وأما تلمسان، فكان فيها أولاد صالح بن طريف على ضلالتهم. وأما سجلماسة، فنزلها عيسى بن سمغون، رئيس الصفرية. فهذه هي البلاد المتفق عليها، وأما المختلف

(1/255)


فيها، بأفريقية: قيل أنه كان فيها عبد الرحمن بن حبيب ثائرا، وبالأندلس يوسف الفهري أميرا.
رجع الخبر إلى نسق التاريخ. وفي سنة 392، توفي أبو طالب شيخ المعتزلة ولسانهم، وله تسع وستون سنة. وفي هذه السنة كان خروج يحبى بن علي بن الأندلسي من مصر بالعسكر، فمان وصوبه إلى طرابلس يوم الجمعة لتسع خلون من ربيع الأول وكان متولي التدبير في الوقت زيدان الصقلي، فاختلفت عليه أمور العسكر مع سوء عقله وضعف تدبيره ووصل إلى فلفل، فاستخلف به، واحتقره. وفيها ن في رمضان المعظم، توفي المنصور بن أبي العامر على ما يأتي في موضعه.
وفي سنة 393، وصل يحيى بن علي بن الأندلسي، ومعه فلفل بن سعيد وفتوح بن علي إلى مدينة قابس، فحصروا عطية بن جعفر وخرج في تلك الأيام إلى قابس عشرون رجلا من الناشبة، فعرف بهم فلفل فبعث في طلبهم فلما أتى بهم ن ضرب أعناقهم، وكان وصولهم إليها يوم الاثنين لأربع عشرة خلون من شعبان من هذه السنة.. ثم انصرفوا راجعين إلى طرابلس ولما رأى يحيى بن علي اختلال الحال عليه، ولم يجد ما يعطي لرجاله عاد ببقيتهم إلى مصر، بعد ما أخذ فلفل وأصحابه ما أحبوه من خيولهم بين شراء وغصب فلما وصل إلى صاحب مصر الحاكم بأمر الله، أراد الإيقاع به، وبعد ذلك عفا عنه وقبل عذره.
وفي سنة 394، قتل الحاكم بأمر الله منجمه البكري بمصر، وكان ضعيف العقل أحمق وكان له بصر بالقضايا. وفيها قتل الحاكم جماعة كبيرة من وجوه رجاله وأحرقهم بالنار. وفيها، قتل المعروف بابن خريطة. وفيها، قتل ابن الغازي المنجم.
وفي سنة 395، كانت بأفريقية شدة عظيمة أنكشف فيها الستور، وهلك فيها الفقير، وذهب مال الغنى، وغلت الأسعار، وعدم القوات. وجلى أهلها

(1/256)


البادية عن أوطانهم وخلت أكثر المنازل فلم يبقى لها وارث وع هذه الشدة وباء طاعون هلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج فلا ترى متصرفا إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت أو تشيع جنازة أو انصرف من دفن. وكان الضعفاء يجمعون إلى باب سالم فتحفر لهم أخاديد ويدفن المائة والأكثر في الأخدود الواحد فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا يحصى عددهم إلا خالقهم تعالى وخلت المساجد بمدينة القيروان وتعطلت الأفران والحمامات. وكان الناس يوقدون أبواب بيوتهم وخشب سقوفهم. وجاء خلق من أهل الحاضرة والبادية إلى جزيرة صقلية. وكانت الرمانة بدرهمين للمريض في ذلك الوقت والفروج بثلاثين درهما وقيل أن أهل البادية أكل بعضهم بعضا. كذا ذكر أبو إسحاق الرقيق.
وفي سنة 396، كثر الخصب بأفريقية ورخصت الأسعار وأرتفع الوباء عن الناس وفيها ثار ببرقة الوليد بن هشام وأدعى أنه من بني أمية من ولد المغيرة وكان ظهوره في العام الفارط عن هذه كان معلما ببرقة فرأى في أهل برقة فرصة فانتسب لهم وعرفهم أم عنده روايات وعلما وأنه هو الذي يملك مصر ويقتل الجبابرة وأعانه على ذلك قوم من لواتة وزناتة فنصبوه إماماً واجتمعوا عليه. ثم أقبل البربر من كل ناحية إليه فزحف إلى برقة وحاصرها حتى فتحها وذلك في رجب من العام الفارط ثم قوى أمره في هذه السنة، فأخرج الحاكم إليه جيشا فكان بينهم قتال شديد إلى أن هزم عسكر مصر وقتل قائده. وفيها توفي عامل أفريقية محمد بن أبي العرب. وفيها قتل الحاكم قاضيه وأحرقه بالنار على أكله أموال الأيتام. وفي سنة 397 استحلف أمر الثائر ببرقة الوليد بن هشام وكثرت جموعه

(1/257)


وأتباعه فأخذ الحاكم بالحيلة فدعا وجوه رجاله وقواده وأمرهم أم يكاتموه ويعرفوه أنه على مذهبه وهو أن قرب منهم صاروا في جملته. فلما تواتر ذلك عليه وثق به وزحف بكل من معه من قبائل البربر إلى مصر فخرجت إليه عساكر مصر فهزموه ولحق بأراضي السودان. ثم أخذ أسيرا ودخل إلى مصر على جمل فطيف به بثياب مشهورة ثم قتل شر قتلة في النصف من شوال. وفيها ولي العمالة بأفريقية إلى القاسم بن محمد بن أبي العرب بعد موت أبيه فأفر رجاله على مراتبهم واستعان بهم.
وفي سنة 398 توفى صاحب المظالم بأفريقية محمد بن عبد الله وكانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد بالضرب والقتل وقطع الأيد والأرجل لا تأخذ فيها لومة لائم.
وفي سنة 399، هرب أولاد محمد بن أبي العرب من المنصورية يريدون فلفل بن سعد بن خزرون الزناتي بإطرابلس، فأرسل نصير الدولة إلى صاحب قابس يأمره أن يقطع بهم فلحق بهم المذكور، وأخذ منهم عليا ويوسف فقطع رؤوسهما وتوجه بها المنصورية منسلخة المحرم ووصل القاسم بعد ذلك فعفا عنه.
وفي سنة 400، توفي فلفل بأطرابلس بلة أصابته. وولي أخاه ورو وأطاعته زناتة وفيها رحل أبو مناد صاحب الدولة بعساكر إلى إطرابلس ليوم الاثنين خلون من شعبان فتلقاه أهلها مسرورين داعين مستبشرين فضربت له فساطيط الديباج والقباب الجليلة ونزل فأخذ الناس ريح عظيمة خرق جميع المضارب ومزقها وذهب بها. ودخل نصير الدولة إلى قصر فلفل. وجاءت رسل ورو بن سعيد أخي فلفل راعية في الأمان والعفو فعفى عنهم وشهد بذلك على نفسه، ثم صدر إلى المنصورية ظافرا. ووصل النعيم بن كنون وطائفة

(1/258)


معه إلى المنصورية، فأعطاهم نصير الدولة، وأفضل عليهم أتم الأفضال وأمر للنعيم والبنود والطبول والبراذين والسروج وصرف إلى البلاد التي أعطاه وقاعدتها قصطيلية فأقام بها ملك بالطبول والبنود والجيش. وفي سنة 401، كان موت عزم بن زيري بن مناد بالقيروان. وفيها، توفي القائد جعفر بن حبيب. وفيها أمر الحاكم بأمر الله بن الحسين بن جوهر قائد القواد وصره القاضي على مصر عبد العزيز بن محمد بن النعمان فقتلا جميعا في وقت واحد. وفي شوال من هذه السنة خالف ابن الجراح على الحاكم بأمر الله، وبعث رسالة إلى أمير مكة يستدعيه للخلاف عليه معه فخالفه وتسمى بأمير المؤمنين. وتابعه على ذلك أهل مكة وبنو عمه وغيرهم وتمادى أمرهم على ذلك بقية هذه السنة. وفيها، وجعل أهل مصر ومن كان معهم من المغاربة وغيرهم برسم التوجه إلى مكة - زادها الله تكريما وتشريفا! - وذلك عند وصولهم للقزم بلغهم ما فيعل ابن الجراح وأبو الفتوح أبو الحسن بن جعفر بن محمد فمل يحج منهم أحد، ولم يحج أحد هذه السنة من الشام ولا العراق ولا خراسان ولا سائر الآفاق ألا أهل اليمن ونفر يسير ممن كان بمكة مجاورا.
وفي سنة 302 تقدم المنصورية خزرون بن سعيد بن خزرون الزناتي أخو فلفل المتقدم ذكره. وكان سبب وصوله اختلاف بينه وبين أخيه ورو فقصد إلى نصير الدولة فقبله أحسن قبول وكان معه نحو سبعين فارسا من زناتة فأنزلهم وأحسن إليهم ثم بعد ذلك بأيام أعطاه مديمة، فخرج إليها بالبنود والطبول.
وفي سنة 403 وصل إلى المهدية مركب فيه هدية جليلة من الحاكم إلى نصير الدولة باديس صاحب أفريقية، وإلى ولده منصور عزيز الدولة فتلقاها المنصور مع أهل القيروان على قصر الماء بالبنود والطبول، ووصلت سجلات منه إلى نصير الدولة بإضافته وأعمال برقة إليه. وفيها توفى أبو الحسن القابسي

(1/259)


الفقيه العالم. وفيها، عزل أمير نصير الدولبو يوسف ابن حبوس السنهاجي عن أمر الجيوش وغيرها. وفيها توفى مفرج بن الجراح ببلاد الشام وبقي أولاده مكانه. وفيها، عاد صاحب مكة إلى طاعة الحاكم وهو جعفر بن الحسن المتقدم الذكر الذي قام بها ودعا لنفسه وتسمى بأمير المؤمنين الراشد بالله ثم تاب مما فعل في هذه السنة وصعد المنبر وتبرأ مما كان ادعاه وكتب بذلك إلى الحاكم بأمر الله فقبل منه وأنفذ إليه أموالا عظيمة وأمر الناس أن يسافروا إلى مكة بالطعام وسائر المرافق.
وفي هذه السنة ظهر بأفريقية ثائر أسمه عبد الله بن الوليد بن المغيرة وكان خاملا مشتغلا بالتعليم ثم دعا إلى نفسه فأخذ وسيق إلى القيروان مع صاحب له وحملا على جملين وطيف بهما ثم ضربت أعناقهم ورفعا فصلبا. ووجت عنه خريطة فيها كتاب بخط يده لبعض الأشياخ القبائل يقول فيها: (من عبد الله أبي محمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى فلان) ثم يذكر أن تام أمره وظهوره يكون بكتامة ويأمره لأن يتلاقاه في أول صفر من سنة 404 فإنها آخر دولة صنهاجية وبها تنقطع دولتهم. فتمكن منه صنهاجة كما ذكرنا.
وفي سنة 404 وصل سجل من الحاكم إلى نصير الدولة يذكر فيه أنه جعل ولاية العهد في حياته لأبن عمه أبي القاسم عبد الرحمن بن ألياس فقرأ بجامع القيروان والمنصورية وأثبت اسمه مع اسم الحاكم في البنود والسكة. فعظم ذلك عند نصير الدولة وقال: (لولا أن الإمام لا يتعرض على تدبير، لكتبته ألا يصرف هذا الأمر من ولده إلى ابن عمه!) وفي سنة 405 أخرج نصير الدولة هدية جليلة إلى الحاكم وشيعها بالبنود والطبول عن المنصورية فوصلت إلى المهدية وركب بها البحر يعلى بن فرج. وكان فيها مائة فرس ولها سروج محلاة شدت في ثمانية عشر حملا أقفاصا

(1/260)


وكان فيها ثمانية وعشرون حملا من الخزف السمور والمتاع السوسي المذهب النفيس وعشرون وصيفة بارعة الجمال وعشرة من الصقالبة وغير ذلك. ووجهت السيدة أم ملال أخت نصير الدولة إلى أخت السيدة أخت الحاكم هدية أيضا. ولما وصلت تلك الهدايا إلى جهة برقة أخذ العرب وهرب يعلى ابن فرج وأسلمها بجميع ما فيها.
وفيها نادى مناد القيروان بانتقال من كان يسكن فيها من الصنهاجيين إلى المنصورية. ثم نادى مناد آخر بعد ذلك بإغلاق الحوانيت بالقيروان وفنادقها فأغلقت ولم يبق بها إلا بعض حوانيت الأحباس ويبلغ كراء حانوت بالمنصورية مائتي درهم لبيع الكتان وما سمع ذلك بكراء حانوت بالقيروان فكان ذلك أول أسباب خرابها.
وكان الحاكم لقب المنصور بن نصير الدولة بعزيز الدولة وقرى سجله بذلك فأراد نصير الدولة أن يرشح ويضيف فيه أعمالا يستخدم فيها أتباعه وصنائعه. وكان نصير الدولة اتصل به عن إبراهيم بن سيف العزيز بالله هانت إنكاره عليه فأراد اختبارها فكتب كتاب إلى حماد يأمره فيه بتسليم عمل أبي زعبل قصر الإفريقي ومدينة القسطنطينة إلى مستخلف عزيز الدولة وقد كان قد خلع على هاشم بن جعفر وأعطاه البنود والطبول وأمره بالخروج إلى هذا لعمل فخرج بخزائن وعدد جليلة وبعث نصير الدولة إلى إبراهيم بن سيف العزيز بالله يشاوره على من يمضي بكتابه إلى حماد فتسرع إبراهيم إلى المسير بالكتاب نفسه وقال يجد مولانا عبدا من عبيده أنهض بخدمته مني!) وتضمن ذلك وأخذ على نفسه المواثيق أنه لا يقيم في مضيه ألا أقل من عشرين يوما فأسار على نصير الدولة من يقرب منه بأن يعتقل إبراهيم، ولا يدعه لما يرد من السفر حتى يرى ما يكون من طاعة أخيه حماد ومسارعته إلى ما يأمره به نصير الدولة من ذلك وقال لإبراهيم: (امض إلى

(1/261)


أخيك حماد. فأن صدقت فيما قلت، ووفيت بما وعت، وإلا فأفعل ما أردتما) وخرج إبراهيم بن يوسف العزيز بالله بماله ورجاله وجميع ذخائره، ولم يعقه في ذلك من نصير الدولة وإلا فقد بأثقال وجملة رجاله دليلا على ما خالف ما أظهر، وكان خروجه من شوال، وصبحه هاشم بن جعفر، ثم أحس هاشم أنه سيغدره إذا قرب من أخيه، فاعتذر له أن حاجة بقيت له بباجة، وعدل إلى طريقها، ووعده أن يلحقه سريعا. فنجاه الله من غدره. ومضى إبراهيم حتى وصل تامديت، وكتب إلى أخيه، فنهض إليه حماد في عساكر عظيمة، واجتمعت كلماتها، وخلعا أيديهما من الطاعة.
وانتهى ذلك إلى نصي الدولة، فرحل في أواخر من ذي الحجة، ونزل برقادة، ووضع العطاء لعساكره، وأخرج عياله وأثقاله وأخته السيدة أم ملال، وأولاده، وعبيد إلى المهدية، ورحل في السابع منه. وأمر بالقبض على يوسف بن أبي حبوس وأخته، فقبض عليه. وكان نصير الدولة لم يمض له يوم من الأيام إلا جدد عليه كرامة وإحسانا، ولا كان يهدى إليه فرس أو ثوب من ثياب الخلافة إلا أثره بذلك على نفسه، ومع ما حمل له من الضياع والرباع بكل كورة من كور أفريقية. وما زال يرفع من قدره، ويزيد في التنويه بذكره، حتى نال من أعلى المراتب، ما لم ينله بعيد ولا قريب، وسما من رفيع الدرجات ما لم يسم له حميم ولا نسيب. وكان - والله أعلم - تسول له نفس الفتك بالأمير نصير الدولة. وأنه هم بذلك مدة من الزمان، فلم يعنه الله عليه، بل خيب سعيه، ورد في نحره بغيه. فتقرر ذلك عند نصير الدولة، فقبض عليه. وكان في قبضه عليه ما أوهن الله به كيد الأعداء، وخيب آمالهم، وأضل أعمالهم. ورحل نصير الدولة ثاني عيد الأضحى بعسكره لحماد المذكور.
وفي سنة 406، في صدر محرم، وصل عزم وفلفل حنون بن سنون،

(1/262)


وماكسن بن بلقين، وعدنان بن معصم في عدة من الفرسان من عسكر حماد. فخلع عليهم، وأحسن إليهم. ومازال نصير الدولة يرحل مرحلة بعد مرحلة إلى أن وصل إلى تامديت. ثم ورد عليه الأخبار بوفاة ولده المنصور عزيز الدولة، وذلك أنه كان في حين حركته إلى المهدية عرضت له حمى، وظهر به جدري، فأقام سبعة عشر يوما. وتوفى. فكتم من نصير الدولة أمره خوفا أن يبدو من جزع. يكون فيه وهنا على الدولة فيما هو بسبيله من مقابلة عدوه. فبلغ خبره إبراهيم وحمادا، فبعثا إليه، وقالا له: (إن ولدك، الذي طلبت له ما طلبت، قد توفي) فما ضعضعه ذلك، ولا أوهنه، وكتب إلى السيدة يسألها عن ذلك. فورد كتابها بوفاته والتعزية عنه، ونصف سلامة المعتز حسن حاله، فكان من صبر نصير الدولة وحسن عزائه ما كثر التعجب به. وجلس مجلسا عاما للعزاء، فكان لا يرى من أحد جزعا وبكاء إلا سلاه وهون عليه، فزاد ذلك سرورا لأوليائه وكمدا لحسدته وأعدائه.
ثم رحل من تامديت لست خلون من صفر، وتمادى رحيله إلى أن وصل المحمدية، وهي مدينة المسيلة، فتلقاه أهلها داعين شاكرين على ما منحهم من العدل والأمان، وكثف عنهم من الجور والعدوان. فأقام بها ستة أيام. ثم رحل، فعبر وادي شلف، ثم تمادى مشيه حتى قرب من عساكر حماد وحشوده من زناتة وغيرها في العدوة الأخرى في الوادي. فبات على تحفظ واحتراس. ولما كان في غد نزوله، برز في عساكره، ومشى عليها، ورتبها، وأقام كل قائد من قواده في مركزه. وقد تقارب الفريقان، وتراءى الجمعان، فهزم حماد، وانتهب عسكره. فقيل أن الذي انتهب من الدرق عشرة آلاف درقة. وكان اشتغال العساكر النصيرية برفع الغنائم والأموال والأثقال سببا لنجاة حماد المذكور، لتركهم أتباعه. وأخذ الناس من الأموال والغنائم ما لا يحصى عددا وكثرة، ووجد رقعتان فيهما: (أن الذي عند القائد فلان صندوق فيه

(1/263)


خمسون ألف دينار وسبعمائة، ومن الورق ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ومن الأمتعة خمسون صندوقا) غير ما كان في بيت حماد وخزائنه. قال أبو إسحاق: وجد رجل بين يديه بغل يسوقه، ففتشه بعض الوصفان بين أيدينا، فوجد في حشو برذعته وصوفها ثماني آلاف دينار، ومثل هذا ما لا يحصى كثرة وعرضت لي أبيات بعد أن صعدنا من الوادي، وقد لقينا به مشقة شديدة، غير أن حلاوة الظفر والفوز بالسلامة أنسى ذلك، وهي (بسيط) :
لم أبس يوما بشلف راع منظره ... وقد تضايق فيه ملتقى الحدق
والخيل تعبر بالهامات خائضة ... من سافح الدم مجرى قاني الفلق
والبيض في ظلمات النقع بارقة ... مثل النجوم تهاوت في دجي الغسق
وقد بدأ معلما باديس مشتهرا ... كالشمس في الجو لا يخفى عن الحدق
وإن راحته لو فاض نائلها ... وبأسها في الورى أشفوا على الغرق
تجلوا عمامته الحمراء غرته ... كأنه قمر في حمر الشفق
لو صور الموت شخصا ثم قيل له ... (أبو مناد تبدى) مات من فرق
وأصبح نصير الدولة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى، فبعث في طلب حماد بن يوسف العزيز بالله، وقد تحصن في القلعة من أخيه، فأقاما بها ثلاثة أيام حتى استراحا وأراحا دوابهما ومن كان معهما. فعرفه إبراهيم بحاجته إلى الازدياد من الطعام والملح، فخرج حماد في جميع من كان معه ومع أخيه، فسار بهم حتى دخل مدينة دكمة، وقد كان نقد على أهلها، وكان نصير الدولة في أثره، فتصايح أهل الموضع بساقته، فاعترضهم بالسيف، وقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل. فخرج إليهم أحمد بن أبي توبة فقيه هذه المدينة وصالحها، فخوفه بالله، ووعظه، وقال له (يا حماد إذا لاقيت الجموع هربت منها أوأن قاربتك الجيوش فررت عنها! لا وإنما قدرتك وسلطانك على

(1/264)


أسير يكون في يديك، ولا ناصر له عليك) فلما سمع كلامه، أمر بضرب عنقه. ووفق إليه شيخ صالح منها، فقال له: (يا حماد أتق الله! فأني حججت حجتين!) فقال له (أنا أزيدك عليهما الشهادة!) وأمر به، فضربت عنقه. ووقف إليه جماعة من التجار المسافرين، فقالوا له: (نحن قوم غرباء، ولا ندري ما جنى أهل هذه المدينة عليك) فقال لهم: (اجتمعوا وأنا أعرفكم) ودخل معهم غيرهم ممن طمع في الخلاص معهم. فلما وصلوا إليه، أمر بهم فضربت رقابهم أجمعين. وأخذ الجميع ما كان بتلك المدينة من طعام وملح، وعاد به إلى قلعته.
وأما نصير الدولة، فيوم هزيمة حماد، أخرج بكار بن جولالة الوتلكاتي، وكان قد أخذه أسيرا، وكان بكار كثير ما ينطلق به لسانه. وكان يوسف بن أبي حبوس معتقلا أيضا عند نصير الدولة، فأخرج بكار بمحضر يوسف، وحلقت لحيته، ويوسف ينظر إليه، ثم أمر: فحلقت لحية يوسف، فصارا مثلة في العالم. وقال الرقيق: لما عاينا يوسف، وقد حلقت لحيته، تحدثنا سرا بيننا، وقلنا: (وقد كنا نرجو ليوسف الحياة، لأن الملوك تعفو بعد العقوبة! وأما المثلة، فما نرى أن بعدها إبقاء) فلحنا نصير الدولة وقال: (ما خضتما فيه؟) فصدقناه سرا، فقال: (ما ابتعتما) وبعد ثلاث، أمر بإحضاره، فعدد عليه تساوي أفعاله وقبائح أعماله، ثم أمر به، فجذع أنفه، وقطعت أذنه، ورفع من بين يديه. ثم أعيد إليه، فقطعت يداه جميعا. ثم أمر به إلى موضع اعتقاله، فبات مشحطا في دمائه. فحكى بعض الحرس انه سمعه يرغب أخاه أن يذبحه ويرحه خيفة أن يخرج من الغد ويزاد في عذابه أمام أعدائه، فقال له أخوه: (أصبر على قضا الله وقدره) فقال لبعض الحرس (خذ بيدي وأخرج لقضاء الحاجة) فأخذ بيده ووقف، فضربه ضربة عظيمة بجبهته في عمود، فذرت منها عيناه، وجرى دماغه، وخر إلى الأرض ميتا

(1/265)


ورحل نصير الدولة من وادي شلف. قال الرقيق: ومن عجيب ما سمعناه عن مناخ وادي شلف أن شيخا كبيرا من البربر حدثنا أنه يعرف بزادي المحن، وأخذ يذكر لنا من هزم فيه ومن قتل فيه من ملوك زناتة. وكنا على ظهر الطريق، فبم نكتب ذلك، إلى أن قال: آخر من مات فيه زيري بن عطية، وآخر من هزم فيه حماد، وبه قتل يوسف بن أبي حبوس، وحمل منه معادلا لأخيه باديتان، ثم أمر به فدفن هناك.
وفي هذه السنة، مات ورد بن سعيد في شوال، فاختلفت كلمة الزناتيين ومالت فرقة مع خليفة بن ورو وفرقة مع خزرون، ابن عمه، وأرفع الله فيهم الشتات ذكر وفاة نصير الدولة باديس بن المنصور أنه لما كان يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي القعدة، أمر بالتمييز فبرز كل قائد في عسكره. وجلس نصير الدولة في القبة وأمر أيوب بن يطوفت بالطواف على العسكر وحسابه، وانتظره حتى فرغ من حابها وعدها، فجاءه فعرفه بما سره وأبهجه، وانصرف إلى قصره. ثم ركب عشية هذا اليوم، وهو قد تناهى إقبالا، واستولى حسنا وجمالا. فلعبوا بين يديه. فكلما هز رمحا كسره وأخذ غيره. ثم عاد إلى قصره أفسح ما كان أملا، واشتد سرورا وجذلا، فطعم وشرب مع خاصته وقرابته، فعاينوا من طربه ما لم يعهدوه منه. فلما مضي نحو النصف من ليلة الأربعاء انقضاء ذي القعدة، قضى نحبه رحمه الله! وبعث في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن حمامة، وأيوب بن يطوفت. فأعلموا بوفاته خاصة من بين جميع صنهاجة وغيرهم، فانصرفوا على أن يكتموا أمره حتى يجتمع رأيهم، وأصبح وجوه العساكر للسلام على عادتهم وليس عندهم خبر وقد عزموا أن يعرفوا أنه أخذ دواء، وتقدموا إلى

(1/266)


سائر قواد العساكر أن يحضروا بعدتهم، فقد بلغهم أن حمادا يضرب في المحلة فما شعروا أن خرج الخبر من مدينة المحمدية بوفاة السلطان، وأنهم أغلقوا أبوابهم، وصعدوا على أسوارهم. فظهر ما لم يستطيعوا إخفاءه، فكأنما نودي في الناس بإشاعته، فاضطربت العساكر، وماج بعض في بعض، وخشوا من اختلاف الكلمة، فاجتمع رأيهم على تقديم كرامة، فأخذ عليهم العهود، وأمر بالكتب إلى بعض البلاد. فلما رأى ذلك عبيد نصير الدولة، ومن انضاف إليهم من سائر الحشم، أنكروا ذلك، وقالوا: إنما قدمناه ليحوط الرجال ويحفظ الأموال، حتى يدفع ذلك إلى مستحقه المعز ابن مولانا نصير الدولة! ومشى بعضهم إلى بعض ليلا، وتحالفوا على بيعة المعز فلما تم لهم ما عقدوه أعلنوا به يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة. وتحالفت العساكر على ذلك طائفة بعد طائفة، واتفقت آراؤهم على خروج كرامة إلى أشير ليحشد قبائل صنهاجة وتلكانة، ويعود بهم إلى المحمدية. ثم رحلت العساكر بتابوت نصير الدولة.

ولاية المعز بن باديس أفريقية
كانت ولايته بالمهدية في يوم السبت المذكور من سنة 406، وسنة ثماني سنين وأربعة أشهر، وولايته بالمهدية بها لتسع بقين من ذي الحجة. ذلك لما وصل الخبر بوفاة أبيه، والسيدة أم ملال بالمهدية، خرج إليها المنصور بن رشيق، وقاضي القيروان والمنصورية، وشيوخها، ومن كان بها من الصنهاجيين. فعزوها في أخيها. وخرج المعز بالبنود والطبول، فنزل إليه الناس يهنئونه جميعا، وبايعوه وهنئوه وعزوه وابتهلوا بالدعاء له. وعاد إلى قصره. ودخل الناس يهنئون السيدة بولايته، فصرف أهل القيروان والمنصورية. وبقي المعز بالمهدية يركب في كل يوم، ويعود إلى قبة السلام، ويتطعم الناس بين يديه، وينصرف إلى قصره.

(1/267)


وفي يوم السبت بموافقة عيد الأضحى رحلت العساكر من المحمدية بعد أن أضرموا النار في الأبنية والبيوت والزروب، وتقدموا أمام البيود والطبول. فأشرف حماد على العساكر، وهي تمر كالسيل بين يدي التابوت، فقال لأخيه وخاصته: مثل هؤلاء يخدم الملوك! وصلت أنا إلى أفريقية في ثلاثين ألف فارس، ما منهم إلا من أحسنت إليه، وأنعمت عليه. فعدت إلى القلعة وما بقي معي منهم إلا أقل من ستمائة، وأنا بين أظهرهم أرجى! وهذا ميت أطاعه هؤلاء كما كان حيا! وكان وصول العساكر إلى المهدية لثمان بقين من ذي الحجة، وبرزت العساكر على باب المهدية. وركب المعز، فوقف ونزل الناس إليه فوجاً فوجا حتى كمل سلامهم.
وفي سنة 407، رحل المعز بن باديس من المهدية فكان دخوله المنصورية يوم الجمعة للنصف من محرم فدخل أجمل دخول، وبين يديه البنود والطبول. واحتل بقصره أفضل حلول، وقد سر به الخاص والعام.
وكان بمدينة القيروان قوم بحومة تعرف بدرب المعلى، يتسترون بمذهب الشيعة، من شرار الأمة، فانصرف العامة إليهم من نورهم، فقتلوا منهم خلقا رجالا ونساء، وانبسطت أيدي العامة على الشيعة، ونهبت دورهم وأموالهم وتفاقم الأمر، وانتهى إلى البلدان، فقتل منهم خلق كثير. وقتل من لم يعرف مذهبه بالشهية لهم. ولجأ من بقى بالمهدية منه إلى المسجد الجامع، فقتلوا به عن آخرهم رجالا ونساء. واجتمعت العامة على أبي البهار بن خلوف لشدته عليهم وقهره لسفهائهم، فلجأ إلى المنصورية، فانتهبوا داره. وبلغ ذلك عساكر ابن أخيه، فركب لينصر عمه أبا البهار، فقتلته العامة ومثلوا به، وقتلوا كل من كان معه، وزحفوا إلى المنصورية فهدموها. واجتمع بدار محمد بن عبد الرحمن نحو ألف وخمسمائة رجل من الشيعة، فإذا خرج أحد منهم لشراء قوته قتل حتى قتل أكثرهم. ثم أخرجوا إلى قصر السلطان بعيالهم وأطفالهم. فسر المسلمون بما رأوه فيهم، وذلك لما ظهرت الكتب التي وجدت في ديار المسالمة، كان

(1/268)


فيها من الكفر والتعطيل للشريعة وإباحة المحارم شيء كثير، فتحصنوا في هذا لقصر أواخر جمادى الأولى وجمادى الثانية. وفي أواخر هذه السنة وصل المعز ابن باديس سجل من الحاكم، خاطبه فيه بشرف الدولة، وركب المعز بالينود والطبول وفي سنة 408، كانت حروب عظيمة بين عساكر شرف الدولة والمعز بن باديس وبين عساكر حماد، وذلك شيء يطول ذكره.
وفي سنة 409، خرجت طائفة من الشيعة نحو مائتي فارس بعيالهم وأطفالهم يريدون المهدية للركوب منها إلى صقلية، وبعث معهم خيل تشيعهم فلما وصلوا إلى قرية كامل، وباتوا بها، تنافر أهل المنازل عليهم، فقتلوهم وفحوا بعض شواب النساء ومن كان منه جمال، ثم قتلوهن. وفيها كان بأفريقية غلاء كثير وحروب كثيرة.
وفي سنة 410، وصل زاويبن زيري الصنهاجي من الأندلس إلى أفريقية في أهله وولده وحشمه بعد أن اغترب بها اثنين وعشرين سنة، وقاسى حروبها وفتنها واحتوى على نعم ملوكها وذخائرهم. فخرج إليه في يوم وصوله شرف الدولة المعز بن باديس بزي عظيم، فترجل له الشيخ زاوي، ونزل شرف الدولة وسلم عليه، وسار معه حتى أنزله بالمنصورية.
وفي سنة 411، ورد على المعز بن باديس أبو القاسم بن اليزيد، رسولا من الحاكم إليه، بسيف مكلل بنفيس الجوهر، وخلعه من لباسه لم ير الناس مثلها، فلقيه المعز في أجمل زي وأكمل هيئة. فقرئ عليه سجل فيه من التشريف ما لم يصل لأحد قبله، فسر بذلك. وفيها ورد أيضا محمد ابن عبد العزيز بن أبي كدية بسجل آخر من الحاكم، جوابا للمعز عما كان فيه من أخبار الأندلس، وانقراض الدولة الأموية منها، وقيام القاسم بن محمد فيها فشكره على ذلك، وبعث إليه خمسة عشر علما منسوجة بالذهب. وركب

(1/269)


المعز بن باديس الأعلام المذكورة بين يديه يوم الأحد لليلتين بقيتا من ربيع الآخر وجاءت سحابة شديدة الرعد، فأمطرت حجرا لم ير أهل أفريقية مثله كبرا وكثرة، ووقعت معه صاعقتان. وفيها وصل الخبر بوفاة الحاكم أمير مصر وولي الظاهر بعده.
وفي سنة 412، توفي باديس بن سيف العزيز بالله، وصلى عليه شرف الدولة، وكان له مشهد عظيم. وفيها توفيت السيدة زوجة نصير الدولة، وكفنت فيما لم يذكر أن ملكا من الملوك كفن في مثله، فحكى من حضره من التجار أن قيمته مائة ألف دينار، وجعلت في تابوت من عود هندي قد رصع بالجوهر. وكانت لها جنازة لم ير مثلها، ودفنت بالمهدية. وكانت مسامير التابوت بألفي دينار.
وفي سنة 413، تعرض المعز شرف الدواة. فكان له عرس ما تهيأ قط لأحد من ملوك الإسلام. وقد شرح الرقيق في كتابه. وتركناه اختصارا.
وفي سنة 414، وردت الأخبار وتتابعت بأفريقية بأن خليفة بن ورو ومن معه رموا في البحر مراكب كثيرة، وأنهم رحلوا من طرابلس في طلب الفتوح بن القائد، وقد كان كاتب شرف الدولة المعز بن باديس في الانحياش إليه والدخول في طاعته، فأعطاه مدينة نفطة من عمل قصطيلية. فخرج شرف الدولة، فاجتاز بسوسة، ثم إلى المهدية، وذلك يوم الخميس لأربع خلون من المحرم. وأمر بالنداء في حشد البحرين وكتب أن يلحق به كل من يتخلف عنه من عساكره ليكون رحيله من المهدية إلى سفاقس، ثم إلى قابس، قاصدا إلى طرابلس. وأمر بالاحتفاز في إصلاح القطائع وعمارة دار الصناعة، وأخذ في إنشاء العدد الحربية، فأنشئ منها في المدة القريبة ما لم يتم مثله في الزمن البعيد. ثم رأى الوصول إلى المنصورية ليأخذ الناس عددهم وما يحتاجون إليه فكان وصوله يوم الاثنين لست بقين من المحرم من العام.

(1/270)


ووردت من الأخبار من المشرق، بأن أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أمر بإحضار سيف الدولة ذي المجدين حسين بن على بن دواس الكتامي. فلما دخل القصر، ولم يكن يدخل قبل ذلك حذرا على نفسه، أخرج من ساعته مقتولا، فأقام ثلاثة أيام، ومناد ينادي عليه: هذا جزاء من غدر مواليه! ثم دفع إلى عبيده، فدفنوه.
ثم جاء الخبر في الوقت بوفاة السيدة الشريفة بنت العزيز بالله. وصلى عليها الظاهر لإعزار دين الله بمصر. وكانت قد ضبطت الملكة وقومت الأمور بحسن رأي وتدبير. وكان الوزير عمار فوض إليه الأمر في النظر في الدواوين والأموال والكتابة وغير ذلك من خدمة الخلافة، فأمرت بقتله فقتل. وباشرت تدبير المملكة، فلا ينفذ أمر جل أو قل إلا بتوقيع يخرج عنها بخط أبي البيان الصقلي عبدها.
وفي هذه السنة، وصل محمد بن عبد العزيز من قبل الظاهر أمير مصر بتشريف عظيم لشرف الدولة. فقرئت به سجلات ما وصل قبلها مثلها أجل حالا ولا مقالا. وزاده لقبا إلى لقيه، فسماه شرف الدولة وعضدها، وبشره بمولودين ولدا له: أبو الطاهر، وعبد الله أبو محمد، وبعث إليه مع ذلك ثلاثة أفراس من خيل ركوبه بسروج جليلة وخلعة نفيسة من نفيس ثيابه، ومنجوقين منسوجين بالذهب على قصب فضة، ما دخل أفريقية مثلها قط، وعشرين بندا مذهبة ومفضضة. فلقيها شرف الدولة وعضدها أجمل لفاء وأعطاها حقها من الإكرام والاعتناء وقرئت السجلات بين يديه ثم قرئت بجامع القيروان، وأمر بنسخها، وأنفذت إلى الآفاق، فكان لها من السرور ما لم يوصف. وبعد ذلك، في هذه السنة، وصله سجل آخر بزيادة لقب آخر

(1/271)


تشريفا لشرف الدولة، وأمر أن يكاتب: من الأمير شرف الدولة وعضدها! ويخاطب بمثل ذلك فلقيه أحسن لقاء، وخلع عليه وحله. وجرت المكاتبة من ذلك الوقت بهذا التشريف الجليل.
وفي هذه السنة، اعتلت السيدة أم ملال بنت عدة العزيز بالله أياما وأمير شرف الدولة يصل إليها في كل يوم عائدا ومتفقدا، فجلس عندها ويأذن لرجاله وعبيده يدخلون إليها، ثم ينصرفون. فلما كان ليلة الخميس منسلخ رجب، قبضها الله. وصلى على جنازتها بالبنود والطبول والعماريات والسيدتان الجليلتان الوالدة والأخت بحال من التشريف لهذه الجنازة، لم ير لملك ولا لسوقة مثلها.
وفوض الأمير شرف الدولة جباية الأموال، وولاية العمال، والنظر في العساكر وسائر الأشغال لأبي البهار بن خلوف يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأولى، فحسنت الأمور وضبطت الأطراف والثغور. واستقام التدبير ورأى الأمير شرف الدولة من حزمه وعزمه وشهامته، ما لا لم يقم به غيره ولا وجد عند سواه بوجه.
وفي سنة 415، في صفر منه، ولد للأمير شرف الدولة ولد سماه كبابا وفي شهر رجب، تزوجت السيدة أم العلو، بنت نصير الدولة، أخت شرف الدولة. فلما كان يوم الأربعاء غرة شعبان المكرم، زين الإيوان المعظم للسيدة الجليلة أم العلو ن ودخل الناس خاصة وعامة، فنظروا من صنوف الجوهر والأسلاك والأمتعة النفيسة وأواني الذهب والفضة ما لم يعمل مثله، ولا سمع لأحد من الملوك قبله. قال أبو أساق الرقيق، فبهر عيون الخلق حال ما عاينوه، وأبهتهم عظيم ما شاهدوه، وحمل جميع ذلك إلى الموضع الذي ضربت

(1/272)


فيه الأبنية والأخبية، وحمل المهر في عشرة أحمال على البغل على كل حمل جارية حسناء، وجملته مائة ألف دينار عينا. وذكر بعض حذاق التجار أنه قوم ما هو لها، فكان زائد على ألف ألف دينار وهذا ما لم ير قط لامرأة قبلها بأفريقية. وزفت العروس في يوم الخميس، ومضى بين يديها عبيد أخيها شرف الدولة وأبيها نصير الدولة وجدها عدة العزيز بالله، ووجوه رجال الدولة، فكان يوما سارت الركبتان بمحاسن آثاره، وامتلأت البلدان بعجائب أخباره.
وفي هذه السنة، وقف شرف الدولة لهدية صندل والي يسكرة، فعرضت عليه، وهي ثلاثمائة حصان، ومائة فرس أثنى وبغلات منها عشرون بسروج محلاة، مائة حمل من المال. فخلع عليه وجدد له الولاية على بسكرة. وفي سنة 416، توفي أيوب بن يطوفت. وحضر جنازته شرف الدولة وعضدها، وهو المعز بن باديس، بالينود والطبول.
وفي سنة 417، ولد للأمير شرف الدولة وعضدها مولود سماه نزارا وكتب إلى سائر عماله بذلك.

ذكر قيام المعز شرف الدولة بالإمارة
وقطعه الدعوة العبيدية الشيعية من أفريقية
كان المعز بن باديس صغيرا إذ ولي، وهو ابن ثمانية أعوام، وقيل ابن سبعة أعوام، ربي في حجر وزيره أبي الحسن بن أبي الرجال، وكان ورعا زاهدا. وكانت أفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة وعلى خلاف السنة والجماعة، من وقت نملك عبيد الله المهدي بن أبي الرجال المعز ابن باديس، وأدبه، ودله على مذهب مالك وعلى السنة والجماعة، والشيعة

(1/273)


لا يعلمون ذلك، ولا أهل القيروان. فخرج المعز في بعض الأعياد إلى المصلى في زينته وحشوده، وهو غلام فكبا به فرسه، فقال عند ذلك: أبو بكر وعمر! فسمعته الشيعة التي كانت في عسكره، فبادروا إليه ليقتلوه، فجاء عبيده ورجاله ومن كان يكتم السنة من أهل القيروان، ووضع السف في الشيعة، فقتل منهم ما ينيف على ثلاثة آلاف، فسمي ذلك الموضع بركة الدم إلى الآن. قال أبو الصلت: وصاح بهم في ذلك الوقت صائح الموت، فقتلوا في سائر بلاد أفريقية. فوافق ذلك ما قاله الشعراء فيهم على وجه التطهير لهم، كقول القاسم بن مروان (وافر) .
وسوف يقتلون في كل أرض ... كما قتلوا بأرض القيروان
وكقول الآخر (رمل) .
يا معز الدين عش في رفعة ... وسرور واغتباط وجذل
أنت أرضيت النبي المصطفى ... وعتيقا في الملاعين السفل
وجعلت القتل فيهم سنة ... بأقاصي الأرض في كل الدول
وكقول آخر (طويل) .
وكانت لهم بالشرق نار فأطفئت ... فما ملكوا بالكفر شرقا ولا غربا
وحكي في قتل الروافض حكايات كثيرة مما رآه المعز في منامه، وتأويل ذلك وغيره ألغيناه هنا عن ذكره. ولم يزل المعز يعمل فكره في قطع الدعوة لهم إلى أن كانت سنة 440.
وفي سنة 420، وجفت جموع زناتة تريد حضرة القيروان، طمعا منها في الملك. فلما بلغ ذلك المعز، خرج إليهم بجنوده، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت زناتة، وقتل منهم خلق كثير، وفر باقيهم إلى الغرب.

(1/274)


وفي سنة 421، وقعت في القيروان بين الأجناد والعامة فتنة، فقتل من العامة نحو المائتين.
وفي سنة 422، كثر الخصب والرخاء وأمان في أفريقية.
وفي سنة 423، وصلت من ملك السودان إلى المعز هدية جليلة، فيها رقيق كثير وزرافات، وأنواع من الحيوان غريبة.
وفي سنة 425 كانت بأفريقية مجاعة شديدة. وفيها خرج أبو عمران الفاسي إلى الحجاز. وفيها مات الظاهر بمصر، وولي ابنه المستنصر.
وفي سنة 426، وصلت إلى المعز بن باديس من ملك الروم هدية لم ير مثلها في كثرة ما اشتملت عليه من أمتعة الديباج الفاخر وغير ذلك. وفي سنة 427، زحفت زناتة في جيوش عظيمة وجموع كثيفة تريد المنصورية. فلقيتها جيوش المعز، فظهرت زناتة عليها، فانهزمت، ووصلت إلى ما بين المنصورية والقيروان. ثم تلاقوا في الغد من ذلك اليوم، فثبتت صنهاجة وثبتت زناتة.
وفي سنة 428، كسر المعز زناتة، وهزكهم وقتل منهم خلق ركثيرا.
وفي سنة 429، خرج عسكر المعز من القيروان إلى الزاب، فقتل من البربر خلقا كثيرا.
وفي سنة 430، كثر الخصب ببلاد أفريقية وفيها مات أبو عمران الفاسي بعد عوده من المشرق. وفي سنة 431، دخلت جيوش مالطة جزيرة جربة، ففتحها وقتلت كثيرا من أهلها.
وفي سنة 432 خرج العز إلى قلعة حماد زحاصرها مدة سنتين، وأخذ بمخنق حماد فيها.
وفي سنة 433 أظهر المعز الدولة العباسية. وورد عليه عهد القائم بأمر

(1/275)


الله، نكب محمد بن محمود بن السكاك، وكان المتولي لأشغال أم المعز، واستولى على دولته. وفي هذه السنة، وصل الأمير نزار بن المعز إلى الحضرة، قافلا من سفره الذي هزم فيه زناتة، فأنشده بن شرف قصيدته التي أولها (كامل) .
طاعت من الغرب شمس الدين ... بالسعد والإقبال والتمكين
وفي سنة 436، مات الجرجرائي بمصر وكان الحاكم بأمر الله العبيدي قطع يديه جميعا، لجنية جناها، فلم يجزع لما أصابه. فقيل أنه عصب يديه إثر قطعهما، وانصرف من وقته إلى ديوانه، وجلس لخدمته على عادته. فلما تعجب منه قال: إن أمير المؤمنين لم يعزلني، وإنما عاقبني بجنايتي،! فلما بلغ ذلك الحاكم، أقره على عمله.
وفي سنة 437، وردت رسل المعز إلى القيروان، بخبر أنه أوقع بلواتة وقتل منهم عددا، وغنم أموالا فضربت الطبول على ذلك. وفي ذلك يقول ابن شرف من قصيدة أولها (منسرح) :
باليمن والسعد عد وبالظفر ... موفق الورد غانم الصدر
وفيها بني سور المنصورية وفيها، ريح عاصف بأفريقية قصفت ما مرت به من الشجر لقوتها وشدتها.
وفي سنة 438 كانت وفاة نزار بن المعز بن باديس في رجب، وكان عمره إحدى وعشرين سنة وأشهرا. وفيها ولي المعز ولده الآخر أبا القاسم وكناه العزيز بالله وهو إذ ذاك ابن ثمانية أشهر، وتوفي بعد ذلك، وهو ابن سنة واحدة وثلاثة أشهر.
وفي سنة 439، نكب حبوس بن حميد الصنهاجي والي نفطة، وطولب بمال

(1/276)


كثير ونيل بالمكروه والهوان. وفيها، نكب أحمد بن حجاج قاضي قفصة، فبادر بعشرة آلاف دينار، وكان متصاوتا.
وفي سنة 440، قطعت الخطبة لصاحب بمصر، وأحرقت بنوده. قال ابن شرف: وأمر المعز بن باديس بأن يدعى على منابر أفريقية للعباس بن عبد المطلب ويقطع دعوة الشيعة العبيديين، فدعا الخطيب للخلفاء الأربعة وللعباس، ولبقية العشرة - رضي الله عنهم -! ذكر السبب في قطع الدعوة العبيدية مالخطبة بالقيروان وغيرها لما رحل بنز عبيد إلى مصر لم تزل ملوك صنهاجة يخطبون لهم بأفريقية ويذكرون أسمائهم على المنابر. وتمادى الأمر على ذلك حتى قطع أهل القيروان صلاة الجمعة فرارا من دعوتهم، وتبديعا لإقامتها بأسمائهم، فكان بعضهم، إذا بلغ المسجد قال سرا: اللهم أشهد! اللهم أشهد! ثم ينصرف فيصلي ظهرا أربعة، إلى أن تتناهى الحال حتى لم يحضر الجمعة من لأهل القيروان أحد فتعطلت الجمعة دهراً. وأقام ذلك مدة إلى أن رأى المعز بن باديس قطع دعوتهم، فكان بالقيروان لذلك سرور عظيم.
ذكر وقوع التصريح بلعنتهم في الخطب بجميع أفريقية وخلعهم قال بن شرف، وأمر المعز بلعنهم في الخطب وخلعهم. ولمنا كان عيد الأضحى أمر الخطيب أن يسب بني عبيد، فقال: اللهم! والعن الفسقة الكبار المارقين الفجار أعداء الدين وأنصار الشيطان، المخافين لأمرك والناقضين لعهدك، المتبعين غير سبيلك، المبدلين لكتابك! اللهم! والعنهم لعنا وبيلا، واخزهم خزيا عريضا طويلا! اللهم وإن سيدنا أبا تميم المعز

(1/277)


ابن باديس بن المنصور القائم لدينك، والناصر لسنة نبيك، والرافع للواء أوليائك، يقول مصدقا لكتابك، وتابعا لأمرك، مدافعا لمن غير الدين وسلك غير سبيل الراشدين المؤمنين: يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون:! هكذا ذكر بإسقاط (قل) وآخرها. قال: وأمر أمير أبو تميم المعز بن باديس للخطيب أن يسبهم على منبر القيروان بأشنع من هذا السب. فلما كان في الجمعة الأخرى أبلغ في ذلك بما فيه شفاء لنفوس المؤمنين.
وفي سنة 441، تحرك الأمير أبو تميم إلى بلاد المغرب الأقصى، وترك ولده أبا الطاهر نميم بن المعز على حضرة القيروان بالمنصورية، وفيها بنيت المصلى بالمنصورية. وفيها، ضرب الدينار المسمى بالتجاري. وفيها، ركب المعز بن باديس المذكور في أحفل جمع وأحسن زي، وخرج إلى ظاهر مدينة القيروان، وأخرجت السباع بين يديه فأفلت منها سبع فانهزم الناي أمامه ووقع بعضهم فوق بعض، فمات نحو المائتين، ووثب السبع على رجل من كتاب باب الغنم يدعى بالكرامي، فقتله.

ذكر تبديل السكة عن أسماء بني عبيد
قال ابن شرف: وفي هذه السنة، أمر المعز ين باديس بتبديل السكة في شهر شعبان، فنقش على الأزواج في الوجه الواحد: ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وفي الوجه الثاني: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وضرب منها دنانير كثيرة. وأمر أيضا بسك ما كان عنده من الدنانير التي عليها أسماء بني عبيد، فسبكت وكانت أموالا عظيمة. ثم بث في الناس قطع سكتهم. وزوال أسمائهم مكن جميع الدنانير والدراهم بسائر عمله. وقد كان قطع أسمائهم من الرايات والبنود. وكان

(1/278)


مبتدأ ضرب السكك بأسماء بني عبيد الله ورسيمها في الرايات والطرز سنة 296، إلى أن قطعها المعز المذكور سنة 441 المذكورة، وذلك مائة سنة وخمسة وأربعين سنة.
وفي شوال من هذه السنة نادى مناد بأمر السلطان أبي تميم: إنه من تصرف بمال عليه أسماء بني عبيد نالته العقوبة الشديدة، فضاقت الحال بالفقراء والضعفاء وغلت الأسعار بالقيروان وكان الدبنا القديم بأربعة دنانير ودرهمين، وكان صرف الدينار الجديد خمسة وثلاثين درهما. وفي هذه السنة، نكب القائد عباد بن مروان الملقب بسيف الملك، وكان من الخاصة، ودفع إلى أعدائه، وأمر باستخراج أمواله، والقبض على جميع من استعمله في أعماله، وبعد ذلك، ألقي في سرداب مظلم حتى مات فيه، وفيها، وردت الأخبار بالقيروان بموت القائد حماد بقلعته، فقال ابن شرف من قصيدة (خفيف) .
لا جنود إلا جنود السعيد ... مغنيات عن عدة وعديد
وفي سنة 442، اصطلح أهل القيروان وأهل سوسة، وقد كانت جرت بينهم وحشة، فصنع القيروانيون للسوسيين دعوات غسلت فيها الأيدي بماء الورد ومسحت بمناديل الشرب. وفي هذه السنة، ولي الأمير أبو تميم ولده أبا الظاهر بن المعز عهده.

ذكر ولاية العهد لتميم بن المعز بن باديس
قال ابن شرف: وخطب الخطيب يوم الجمعة على جامع القيروان، فدعا للسلطان المعز بن باديس ولولده أبي الطاهر ولى عهده ثم قال: اللهم! أصلح عبدك ووليك أبا الطاهر تميم بن المعز الطاهر من كفر معد بن الظاهر! يعني صاحب مصر وفيها، كان خروج الفقيه الزاهد الواعظ أبي عبد الله بن عبد الصمد من القيروان في شهر رجب، ووكلوا به رجالا وتوجهوا معه إلى

(1/279)


مدينة قابس. وكانت الرفقة خارجة من القيروان إلى مصر، فأمر أن ينتظرها بمدينة قابس إلى أن يصحبها. وكوتب عامل قابس بأن لا يترك من يدخل إليه ولا من سلم عليه ولا يخرج من موضع نزوله إلا في يوم سفره، فيخرج وهو غير آمن على نفسيه، ثم قتل في طريقه ذلك، وكان رجلا عظيما يعظ الناس، فيجمعون إليه، ويسمعون كلامه، وكان له لسان وحدة فحذره المعز واجتمع عليه بعض فقراء القيروان واستشيعوا ألفاظا ذكرها، فرفعوا رقاعهم إلى المعز بذلك، فكان سبب نفيه وحتفه. وكان أبوه يعض بجامع مصر في ذلك الوقت، إلى نعى له ابنه هذا، فحج في تلك السنة، فقيل أنه كان يطوف بالكعبة ويصيح ويقول: (يا رب! العز عليك به! يا رب عليك بابن باديس!) فكانت الهزيمة على المعز في اليوم الثاني من دعائه، وكان ذلك سبب لخراب ملكه ودمار القيروان حضرته. فلم يشك أحد في إجابة دعوته.
وفي سنة 443، كان لباس السواد بالقيروان، والدعاء لبني العباس. قال ابن شرف: وفي جمادى الثانية، أمر المعز بن باديس بإحضار جماعة من الصباغين، وأخرج لهم ثيابا بيضاء من فندق الكتان، وأمرهم أن يصبغوها سودا، فصبغوها بأحلك السواد، وجمع الخياطين، فقطعوها أثوابا، ثم جمع الفقهاء والقضاة إلى قصره، وخطيب القيروان وجميع المؤذنين، وكساهم ذلك السواد ونزلوا بأجمعهم. وركب السلطان بعدهم حتى وصل إلى جامع القيروان، ثم صعد الخطيب المنبر وخطب خطبة أتى فيها على جميع الأمر بأجزل لفظ وأحسن معنى، ثم دعا لأبي جعفر عبد الله القائم بأمر الله العباسي، ودعا للسلطان المعز بن باديس ولولده أبا الطاهر تميم ولي عهده من بعده، ثم أخزى بني عبيد الشيعة ولعنهم.

(1/280)


ذكر ما قيل من أخبار بني زيري
قال أبو عبد الله محمد بن سعدون بن علي في تأليفه في (تعزية أهل القيروان بما جرى على البلدان من هيجان الفتن وتقلب الأزمان) قال: فيه باب أذكر فيه من وضع هذه الدعوة التي شرع فيها عبيد الله وذريته والسبب الذي دعاهم لذلك، وباب أذكر فيه تسييرهم الركبان، بدعوتهم ودعاتهم إلى البلدان، وباب أذكر فيه عبيد الله ونسبه وانتمائه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كاذبا، وسبب ملكه المغرب كله قتال: وأول من نصب هذه الدعوة، جد عبيد الله وهو عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي - لعنه الله - وكان أبوه ميمون تنتسب إليه فرقة من أصحاب أبي الخطاب، تعرف بالميمونية. وذكر من جملة كلامه قال: وكان عبد الله ادعى لنفسه النبوة، فقصد لسفك دمه، فاختفى، ثم هرب من وطنه، وفر على وجهه متنقلا في البلاد، مستترا، يستر اسمه ومذهبه لئلا يقتل إن عرف، إلى أن وافته منيته بأقبح علة في الشام وأراح الله منه. وأخذ جماعة كمن أصحابه، فقتلوا عن آخرهم ثم ذكر داعيتهم، وما كان منهم مع غواتهم، قال: فمنهم رجلان، أحدهما يعرف بالنجار الكوفي فخرجا من الشام، وتغلبا على اليمن فأنزل الله عليه الأكلة، فتقطع قطعا حتى مات وخلف ابنا له، فكان يكتب إلى أصحابه: (من ابن رب العالمين) - تعالى الله عن قوله - فسار إليه ابن نصير فأظفره الله به، فقتله ودخل مدينته فانتهبها وسباها. وأما الكوفي فرماه الله تعالى بداء في جوفه فكانت تخرج من دبره حتى مات وأما بالسام، فذكر جماعة أبادهم الله تعالى، وكذلك بالبحرين أيضا. ثم قال: وإنما دعاهم لهذا الكفر عبد الله ابن ميمون القداح لأنه صحب قرمطا ودعاه إلى مذهبه، فطاوعه على ذلك وقد اشتهر استخفافهم بالدين، وكثرت به الأخبار وأحاديث وكان ممن

(1/281)


أظهر مذهبهم، وأعلن به: أبو عبيد الجنابي، وقت تغلبه على البحرين، فإنه وضع عنهم جميع الفرائض، وأعلن بالزناء واللواط والكذب وشرب الخمر وترك الصلاة وكذلك صنع الأصبهاني وحرم على الغلمان الامتناع ممن أراد أن بفعل بهم وجعل حد من امتنع منهم الذبح - لعنه الله - وكانت له ليلة تسمى الأمامية يجمع فيها نساءه ونسائهم فمن ولد من تلك الليلة يسمى ولد الأخوان.
قال: وقد ادعى الحاكم من بني عبيد الله الربوبية، وجعل رجلا سماه بالهادي يدعوا الناس إلى ذلك، وادعى معد منهم النبوة وجعل من نادى فوق صومعة جامع القيروان: (أشهد أن معد رسول الله!) فارتج البلد لذلك وداخل أهله الرعب، فأرسل من سكن الناس، وكل من كانوا يرسلونه إلى بلد فإنما يأمرونه بإظهار الإسلام والخير حتى ينمكن مما يريد.
وأما نسب عبيد الله الذي تسمى بالمهدي، فإن اسمه سعيد وإنما تسمى بعبيد الله ليخفي أمره، لأنه كان عبيه الطلب من الحسين بن أحمد بن محمد وكان لمحمد هذا ولد يلقب بأبي السلعلع بن عبد الله بن ميمون القداح فبعث بداعيين أخوين إلى المغرب، فنزلا في قبيلة تعرف بكتامة، فدعوا أهلها، فاستجابوا لهما: أحدهما حسين يكنى بأبي عبد الله الشيعي وسموه المعلم، والآخر سموه المحتسب وهو أبو العباس المخطوم المتقدم ذكرهما. فأظهرا من أنفسهما الزهد والورع حتى افتتحا بالكذب والخربة في بلاد أفريقية. وسار أبو عبد الله إلى سلجماسة، فأخرج عبيدا الله من حبسها فلما اجتمع به سلم الأمر إليه وانسلخ الأمر منه، فلم يلبث يسيرا وقتله بنو أخيه. ولما وصل عبيد الله - لعنه الله - إلى رقادة أرسل إلى القيروان من أتاه بأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المعروف بابن البرذون وبابن هذيل وكانا من

(1/282)


العلماء الخاشعين لله، فلنا وصلا إليه وجداه على سرير ملكه جالسا، وعن يمينه أبو عبد اله الشيعي الذي ولاه الملك وسلم له فيه، وعن يساره أبو العباس أخوه، فقال لهما أبو عبد الله وأخزه: أشهد أن هذا رسول اله! فقالا جميعا بلفظ واحد: (والله الذي لا إله إلا هو لو جاءنا هذا والشمس على يمينه والقمر على يساتره، وينطقان فيقولان إنه رسول الله، ما قلنا أنه هو) . فأمر عبيد الله - لعنه الله - عند ذلك بذبحهما وربطهما في أذناب الخيل، وأن يشق بهما سماط القيروان ففعل ذلك بهما - رحمة الله عليهما - وقال أبو عبد الله الشيعي يوما لأبي عثمان سعيد بن الحداد العالم: (القرآن يخبر أن محمدا ليس بخاتم النبيين في قوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) فخاتم النبيين غير رسول الله. فقال أبو عثمان: (هذه الواو ليست من واوات الابتداء وإنما هي من واوات العطف مثل قوله تعالى: " هو الأول والآخر والظاهر والباطن " وقال له مرة أخرى: (أن الله أخبر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يرتدون لقوله: " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " فقال أبو عثمان: (هذا إنما على الاستفهام، كقوله سبحانه: " أفإن مت فهم الخالدون "!) ولما تمكن عبيد الله الشيعي من الملك، قتل أبا عبد الله الداعي وأخاه وانتقم الله منهما على يدى من سعيا له وقتلا الخلق بسببه، حتى أخرجاه من حبس سلجماسة، وسلما له في الملك، ولم يقيما معه إلا سنة أو نحوها، ثم سلطه الله على كبار كتامة الذين سعوا في إقامة ملكه، فقتل جميعهم، ثم تمادت دولة أبنائه نحو ثلاثمائة سنة، ملكوا من مضيق سبتة إلى مكة - شرفها الله - لأن عماله كانوا يصلون إلى مضيق سبتة فيعاينوها، ومن هناك يرجعون. وهذا دليل على أن هوان الدنيا على الله وصغر قدرها عنده إذ

(1/283)


مكن فيها لهؤلاء الكفرة الفجار يسومون أولياء الله سوء العذاب والعماد والقيامة، والحاكم الله،!
وخرج في دولة عبيد الله شيخ للسفر، ومعه خيل فباتوا في مسجد بخيولهم فقيل لهم: (كيف تدخلون خيولكم المسجد؟) فقال لهم الشيخ وأصحابه: (إن أرواثها وأبوالها طاهرة لأنها خيل المهدي) فقال لهم القيم في المسجد: (إن الذي يخرج من المهدي نجس فكيف الذي يخرج من خيله؟) فقالوا له: (طعنت على المهدي) وأخذوه وذهبوا به إلى إليه، فأخرجه عشية جمعة فقتله. فلما قرب للموت، دعا عليه فأجاب دعاءه فامتحنه بعلة قبيحة يقال لها حب القرع وهي دود على صورة حب القرع في آخر مخرجه، تأكل أحشائه وما والاها فكان يؤتى بإذناب الكباش العظيمة فيدخلها في نفسه لتشتغل عنه الدود بها، فيجد لذلك بعض راحة لشغلها بالأذناب ثم يخرج الأذناب، وقد هتكتها الدود، يدخل أخرى في دبره، ثم لم تزل الدود تأكل حتى انقطعت مذاكره وهلك، ولما هلك أوتي بابن أخت الغساني المقرئ ليقرأ عند رأسه وكان من أطيب الناس قراءة وحل عبيد الله أبناءه يبكون عليه. فقال البغدادي للغساني: (أقرأ) قال: فطلبت ما أقرأ من القرآن فلم أتذكر منه إلا قوله تعالى::يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " إلى آخر الآية قال: فطلبت غير هذه الآية أقرأه فلم أقدر فكنت أرددها حتى خشيت على نفسي أن يفيقوا من بكائهم فيتأملون قراءتي فيقتلوني، فتسللت وخرجت.
وذكر أن الحجر الأسود أرسله العين الجنابي إلى عبيد اله بالمهدية فلم يلبث إلا أياما وهلك كما ذكرنا. فلما دفن طرحنه الأرض، ثم دفن فطرحته الأرض ثلاثا. فقيل لابنه أبا القاسم (إن هذا لأجل الحجر

(1/284)


فأردده حيث كان!) فأمر بإخراجه ورده إلى موضعه، فعند ذلك استقر عبيد الله في قبره.
ثم ولي ولده أبو القاسم من بعده. فلم يزل في شغل وحزن وبعث الله عليه أبا يزيد مخلد بن كيداد فقهره وخرج عليه وقتل جنوده وقام المسلمون معه عليه كما تقدم ذكره. ولما كان يوم الجمعة طلع الإمام على المنبر، وهو أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن أبي الوليد فخطب خطبة بليغة، وحرض الناس على جهاد الشيعة ثم قال: (اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بعبيد ادعى الربوبية من دون الله جاحدا لنعمتك كافرا بربوييتك! فانصرنا اللهم عليه وأرحنا منه ومن دولته، واصله جهنم وساءت مصيرا، بعد أن تجعله في دنياه عبرة للسائلين وأحاديث للغابرين، واهلك الهم سيعته وشتت كلمته) ومات أبو القاسم بن عبيد الله محصورا وفي نفسه مقهورا.
ثم ولي بعده ابنه إسماعيل، فأظهر للعامة الجميل. فلما استفحل أمره وقوت شوكته، أراد أن ينتقم من المسلمين فيما تقدم لهم من حربه وحرب أبي القاسم والده، فحال الله - عز وجل - بينه ونبين ما أراد، وأجاب المؤمنين فيه فأهلكه الله بالعطش حتى مات.
ثم ولي ابنه معد فادعى النبوة، وصوت المؤذن بذلك فوق صومعة القيروان بأمره، فضج المسلمون لذلك. فلما بلغه ذلك، داخل الرعب وأرسل إلى الناس يهدنهم، إلى أن خرج إلى مصر، فدخلها بالمنكر والبغي، فابتلاه الله بعلة الاستسقاء، فكان الذي يقعد عند رأسه لا يرى رجليه، وسالت عيناه وسقطت أسنانه، واراه الله العبرة في نفسه. ثم مات.
وولي بعده نزار المكنى بأبي المنصور، فحدث في أيامه في سب الصحابة، ما حدث ثم تشوفت نفسه مع أحواله الدنية إلى أن يستحضر

(1/285)


العلماء من أهل القيروان. ثم حدث عليه بالشام ما أشغله، فخرج إليها فلما وصل السبر مات في مرحاض الحمام.
ثم ولي بعده الحاكم، فأظهر أكثر مذهبهم، فكان مما أحدث أنه بنى دارا وجعل لها أبوابا وأطباقا، وجعل فيها قيودا وأغلالا وسماها جهنم، فمن جنى جناية عنده قال (ادخلوه جهنم) وأمر أن يكتب في الشوارع والجوامع بسب الصحابة، أجمعين. ثم أرسل داعيا إلى مكة، فلما طلع المنبر وذكر ما ذكر، اقتحم عليه بنو هذيل فقطع قطعة قطعة وكسر المنبر وفتت حتى لم يجمع منه شيئا. ثم أرسل رجلا خراسانيا من بني عمه، فضرب الحجر الأسود بدبوس، فقتل في حينه وأخذه الناس قطعة قطعة وأحرق بالنار وأرسل - لعنه الله - إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ينبش القبر المعظم فسمع الناس صائحا يقول: القبر ينبش! ففتشه الناس فوجدوه وأصحابه فقتلوهم ثم أنه ادعى الربوبية من دون الله، وجعل داعيا يدعوا الناس إلى عبادته، وسماه المهدي. فكتب داعيه الكتاب، وكان اسمه حمزة، وذلك في سنة 410 وقرئ بحضرة الحاكم - لعنه الله - على أهل مملكته، ذكر فيه - تعالى الله عن إبطال المبطلين علوا كبيرا! - الحمد لمولاي الحاكم وحده باسمك اللهم الحاكم بالحق! ثم تمادى فقال: توكلت على إلهي أمير المؤمنين، جل ذكره وبه نستعين في جميع الأمور! ثم طوّل بالكتاب بالتخليط مرة يجعله أمير المؤمنين ومرة يجعله إله، وقال فيه: (وأمرني بإسقاط ما يلزمكم اعتقاده من الأديان الماضية والشرائع الدارسة) وذكر أشياء يطول ذكرها. وكانت له راية حمراء تحت قصره فاجتمع إليه خلق نحو خمسة عشر ألف رجل فيما قيل، ثم إن رجلا من الترك كاتبه حمزة فأظهر الحاكم أنه أمر يقتله. وكان الحاكم كثير التصرف بالليل إلى جبل المقطم على حمار، فخرج ليلا فقتل هو وحماره.

(1/286)


ثم ولي بعده علي الملقب بالظاهر، فكان مشتغلا بالشرب منهمكا فيه يلابس ثياب النساء، حتى يظنه الناس إذا مشى معهن امرأة ثم أصابه الاستسقاء حتى صار كالعدل فمات.
ثم ولي بعد معد الملقب بالمستنصر، فمرة يظهر السب ومرة يكف ويسكن الناس، فإذا مشى في جنوده كان بين يديه الشبابة ومن ينشد الشعر. وذكر أنه أرسل من كتب السب في أستار الكعبة في ليلة ظلماء، فأصبح الناس فوجدوه، فضج المسلمون لذلك، وأكثروا البكاء لسب الصحابة، قال ابن سعدون: وعلى هذا بنو أصل مذهبهم، أنهم يظهرون الدين والخير حتى يتمكنوا قال المؤلف: انتهى ما لخصته من كتاب ابن سعدون.
وذكر ابن القطان عنهم أنهم قوم الرافضة، يدعون النسب إلى علي - رضي الله عنه - وأكثر اعتقاداتهم كفرا، ولما مات المستنصر بن الظاهر ولى بعده ولده الملقب بالمستعلي، وكان أشبه من غيره سياسة لا دينا. فلما توفي هو ووزيره الأفضل، استبد ولده وتسمى بالآمر بحكم الله، وكان جبارا عنيدا ظالما جائرا وكثر في زمانه دعوى الباطل، ونصر الظالم على المظلوم، وأعانته على ظلمه. واستخلص لنفسه فتيين من الفتيان الوضاء الوجوه، اتخذهما للفاحشة، كان رزق كل واحد منهما ألف دينار في كل يوم، وكان يعمل النزاهة، ويبيح للناس فيها المحضورات، فلا يشاء مؤمن أن يعاين منكرا مباحا إلا عاينه.
ثم ولي بعد عبد المجيد، الملقب بالحافظ لدين الله، ابن المستنصر، بويع في اليوم الذي قتل فيه الآمر، وخطب له على المنابر، وزر له أبو علي أحمد ابن الأفضل أمير الجيوش. أبو علي على الأمر وجملة الحال من سنة 526 إلى سنة 532: كانت لهم فيها محاولات شنيعة وأمور فظيعة منها قتل الأمير، وانتنزاء قاتله حرز الملوك، وقتله، واستيلاء ابن الأفضل وقتله،

(1/287)


وظهور عبد المجيد، وما كان من الأسقف من النفر، والأمر بعبادة عبد المجيد وقتله ثم استيلاء حسين بن عبد المجيد، والقيام عليه إلى أن قتل نفسه بسم، ورجوع عبد المجيد إلى الولاية.
رجع الخبر، وفي سنة 443 وردت الأخبار أن محمد بن جعفر الكومي ولي القضاء بمصر ولقب قاضي القضاة وداعي الدعاة. قال ابن شرف: فنعوذ بالله من سوء العاقبة! لأن قاضي القوم منهم وعلى مذهبهم يعني الشيعة وفيها وصلت إلى القيروان مكاتبة من الأمير جبارة بن مختار العربي من برقة بالسمع والطاعة للمغز بن باديس، وأخبره أنه وأهل برقة قد أحرقوا المنابر التي كان يدعى عليها للعبيدية، وأحرقوا راياتهم وتبرؤوا منهم ولعنوهم على منابرهم ودعوا للقائم بأمر الله العباسي.
وفي هذه السنة كان أول الفتنة بأفريقية.

ذكر طرف الفتنة العظيمة ودمار القيروان
قال ابن شرف: لما آل الأمر إلى التصريح بلعنة بني عبيد على المنابر وأمر المعز بن باديس بقتل أشياعهم، أباح بنو عبيد للعرب مجاز النيل وكان قبل ذلك ممنوعا، لا يجوزه أحد من العرب. ثم أمر لكل جائز منم بدينار، فجاز منهم خلق عظيم، من غير أن يأمرهم بشيء لعلمهم أنهم لا يحتاجون لوصية. فجازوا أفواجا، ولقاموا بناحية برقة. ومضت الأيام على ذلك مدة. ثم قدموا منهم مونس بن يحيى الرياحي على المعز. وكان المعز كارها لإخوانه صنهاجة، محبا للاستبدال بهم حاقدا عليهم ولم يكن يظهر ذلك لهم. فلطف عنده محل مونس هذا، وكان سيدا في قومه، شجاعا، عاقلا، فشاوره المعز في اتخاذ بني عمه رياح جندا فأشار عليه بأن لا يفعل ذلك وعرفه بقلة اجتماع القوم على الكلمة وعدم انقيادهم إلى الطاعة، فألح عليه في ذلك، إلى

(1/288)


أن قال له المعز: إنما تريد انفرادك، حسدا منك لقومك! فعزم مونس على الخروج إليهم، بعدما قدم العذر وأشهد بعض رجال السلطان. ثم رحل متوجها نحوهم، فنادى في القوم وحشدهم ووعدهم وغبطهم ووصف لهم كرامة السلطان والإحسان لهم، ثم قدم في ركب منهم، لم يعهدوا نعمة. ولا طالعوا حاضرة، فلما انتهوا إلى قرية، تنادوا (هذه القيروان) ونهبوها من حينها.
فلما ورد الخبر على القيروان، عظم الأمر على المعز بن باديس وقال: إنما فعل مونس هذا ليصحح قوله، فأمر بثقاف أولاده وعياله، وختم على داره حتى يعلم ما يكون من أمره. فلما بلغ مونسا ما فعل بأهله وولده اشتدت نكايته، وعظم بلاءه وقال: قدمت النصيحة، فحاق الأمر بي، ونسبت الخطيئة إليّ! فكان أشد إضرارا من القوم. وكان قد علم عورات القيروان. ثم أخرج السلطان إليهم بعض الفقهاء، ومهم مكاتبات وشروط ووصايا، وأعلموهم أن السلطان قد دفع عيالاتهم لهم، ولخذوا عليهم العهود والمواثيق بالرجوع إلى الطاعة، وأرسلوا شيوخا منهم بذلك، ثم بعد ذلك نكثوا على السلطان، واستولوا على الفساد في كل جهة ومكان.

ذكر هزيمة العرب للمعز بن باديس
لما كان ثاني عيد الأضحى من هذه السنة كانت الداهية العظمى والمصيبة الكبرى وذلك أن السلطان عبد بوم الاثنين ومشى صباح هذا اليوم إلى ناحية قرية تعرف بني هلال، فلما كان نصف النهار، أتته الأخبار أن القوم قد قربوا منه بأجمعهم. فأمر بالنزول في أوعار وأودية، فلم يستتم النزول حتى حمل العرب عليهم حماة رجل واحد. فانهزم العسكر، وصبر العز صبرا عظيما، إلى أن وصلت رماح العرب إليه، ومات بين يديه خلق

(1/289)


عظيم فدوه بأنفسهم، وأما بنو مناد وجميع صنهاجة وغيرهم من القبائل، فإنهم فروا، وانتهبت العرب معسكر العز السلطان فحازوه، وفيه من الذهب والفضة والأمتعة والأسباب والأثاث والخف والكراع ما ل يعلم عدده إلا اله. وكان فيه من الأخبية وغيرها ما يتجاوز عشرة آلاف ومن الجمال نحو خمسة عشر ألفا، ومن البغال ما لا يحصيه قول. فما خلص لأحد من الجند عقال فما فوقه، وسلك أكثر الناس الجبل المعروف بحيدران فافترقوا فيه. ثم رجع بعضهم على بعض وليس عند أهل القيروان خبر بذلك إلا أنهم كانوا تحت نوقع وتشوف. فلما كان ثالث العيد، قدم فارسان مع ابن البواب، وهم قد غلبت عليهم الكآبة وكسوف البال، وحالهم تغنى عن السؤال وكثر أيضا سؤال الناس عن السلكان، فذكروا أنه في حيز السلامة، فلم تك إلا ساعة حتى دخل قصره هو وولده. ثم تساقط الناس بعده آحادا وجموعا وتخلف عن الوصول خلق عظيم فمنهم من علم خبره ومنم من لم يعلم. ثم ذكر أن العرب أخذوا خلقا كثيرا من الصنهاجيين وغيرهم.
قال ابن شرف: وكان العسكر المهزوم ثمانين ألف فارس، ومن الرجالة ما يليق بذلك وكان خيل العرب ثلاثة آلاف فارس، ومن الرجالة ما يليق بذلك. وفي ذلك يقول علي بن رزق من قصيدة له في ذلك أولها (طويل) :
لقد زارنا من أميم وهنا خيال ... وأيدي المطايا بالذميل عجال
وفيها:
ثلاثون ألفا منكم هزمتهم ... ثلاث آلاف أن ذا لنكال
ووصل العرب إلى نواحي القيروان، وجل كل من شبق إلى قرية يسمى نفسه لهم ويؤمنهم ويعطيهم قلنسوة أو رقعة يكتبها لهم علامة ليعلم غيره

(1/290)


أنه سبقه وبات الناس ليلتين بالقيروان تحت ما لا يعلمه إلا الله تعالى من الخوف لا يدرون ما ينزل بساحتهم. وأقام الناس يومين لا يدخل إليهم داخل ولا خارج، وخيل العرب تسرح حول القيروان في كل جهة ومكان، والناس يرونهم عيانا وبيانا، وخرج السلطان سابع عيد الأضحى بجنوده وخرج عامة القيروان معه، فلم يتعد بهم المصلى ورجع العرب في أمانهم الذي أعطوا أهل البوادي، وانتهبوا جميعا، وانتقل أهلها إلى القيروان. وأمر السلطان كافة الناس بانتهاب الزروعات المحيطة بالقيروان وصبرة، وهي المنصورية، فسر المسلمون بذلك، وحسبوها من أرزاقهم. وكان مصيرها إلى ما قدر الله من فساد واكل البهائم لها.
وفي السابع عشر لذي حجة ظهرت خيل العرب على ثلاثة أميال من القيروان. فنزل السلطان يمشي فيها ويوصي أهلها بالاحتفاظ والبناء وأخذ الناس في بناء دورهم. وأمر السلطان المعز أن ينتقل عامة أهل صبرة وسوقها إلى القيروان ويخلوا الحوانيت كلها بصبرة وأمر الجميع من بالقيروان من الصنهاجين وغيرهم من العسكر أن ينتقلوا الى صبرة وينزلوا في حوانيتها وأسواقها فأرتج البلد لذلك وعظم الخطب واشتد الكرب. ومد العبيد ورجال صنهاجة أيديهم إلى خشب الحوانيت وسقائفها واقتلعوها. وخربت العمارة العظيمة في ساعة واحدة. وبات الناس على خوف عظيم ثم أصبحوا فعاينوا خيول العرب فأمر السلطان ألا يخرج العسكر على سور صبرة. أين ابن شرف: أخبرني من أثق به، قال: خرجت من القيروان وسرت ليلا، فكنت أكمن النهار، فلم أمر بقرية إلا وقد سحقت وأكلت، أهلها عراة أمام حيطانها من رجل وامرأة وطفل، يبكي جميعهم جوعا وبردا وانقطعت المير عن القيروان، وتعطلت الأسواق، وأمسك العرب جميع من أسوره، فلم يطلقوا أحدا إلا بالفداء مثل أسرى الروم، وأما الضعفاء والمساكين فامسكوهم لخدمتهم

(1/291)


نبذ من وقعة باب تونس أحد أبواب القيروان
وذلك أن العرب دفعت إلى هذا الباب، فخرج إليهم العامة منهم بسلاح، ومنهم من بيده عصا لا يدفع بها أضعف الكلاب، فحملت عليهم فرسان العرب وتمكنت منهم سيوفهم ورماحهم، فتساقطوا على وجوههم وجنوبهم، وسطحوهم من حد أفران الآجر إلى هذا الباب ولم يبق منهم إلا من حصنه أجله، ولم يتركوا على حي ولا ميت خرقه تواريه. وخرج أهل القتلى عند انصراف العرب، فرفعوا قتلاهم، فقامت النوائح والنوادب بكل جهة ومكان من أزقة القيروان، تنصدع لمناظرهم وسماعها الجبال. وبقى خلق من الغرباء في المقتلة، وجرح من الناس خلق كثير، ورأى الناس ما أذهلهم من قبيح تلك الجراحات، فتفتتت الأكباد، وذابت القلوب والأجساد، لبنيات قد سودن وجوههن وحلقن ورؤوسهن على أبنائهن وإخوانهن. فكان هذا يوم مصائب وأنكاد ونوائب. ولم ير الناس مثله في سائر الأمصار، فيما مضى من الأعصار. وبات الناس في هم وغم. تم كلام ابن شرف مختصرا.

هزيمة صنهاجة أيضا بجبل حيدران
وهزيمة المعز بن باديس من وجه آخر
قال أبو الصلت: ثم برز المعز إلى لقاء العرب الواصلة من المشرق، وجرد عساكره، وقدم عليه أبو سلبون، وزكنون بن واعلان، وزيري الصنهاجي، وعاد هو إلى القيروان. فلما كان عيد النحر، انهزمت صنهاجة، وقتل منها كثير، فخرج هو بنفسه إليهم، وانتشبت الحرب بينه وبين العرب، فهزمته العرب، وثبت المعز طائفة من عبيده، ثم عاد إلى المنصورية. فأحصى من

(1/292)


قتل من صنهاجة في هذه الوقعة: فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة. ثم أقبلت العرب حتى نزلت على القيروان، ووقعت الحرب هنالك، فقتل بين رقادة والمنصورية خلق كثير.
وفي سنة 444، ذهب المعز بن باديس إلى رفع الحرب بينه وبين العرب، وأباح لهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء. وبقى هو مستوطنا المنصورية من بقي من عسكره. فلما دخلوها، استطالت العامة عليهم، وأوسعتهم إهانة وشتما، فقتل العرب منهم خلقا كثيرا. وكان عدد العرب الواصلين من المشرق سبعة آلاف فارسا وخمسمائة. وقدر المعز أن العرب عائدون من حيث أتوا فخرج له الأمر بخلاف ظنه.
وفي هذه السنة، بنى المعز سور القيروان، وسور زويلة، وجعل السور مما يلي صبره كالفيل: حائطان متصلان إلى صبره، وبينهما نحو نصف ميل.
وأما القيروان، فهي في بسيط من الأرض، ممدودة في الجوف منها نحو تونس، وفي الشرق نحو سوسة والمهدية وفي القبلة نحو سفاقس، ويقرب منها البحر الشرقي: فبينها وبين البحر مسيرة يوم، وسائر جوانبها أرض طيبة. ولا سبيل الموارد أن تدخل القيروان إلا بعد جوازه على صبرة. وأما صبرة فبناها إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي المتلقب بالمنصور وسماها المنصورية واستوطنها سنة 337 ثم كانت منزل الولاة بالقيروان إلى حين خرابها.
وفي سنة 445، ولى المعز بن باديس ابنه تميم مدينة المهدية. وفيها، نافق على المعز بن باديس أهل سوسة. وهي مدينة منيعة حاصرها أبو يزيد شهورا ثم انهزم عنها وكان عليها في ثمانين ألفا. وفي ذلك يقول سهل ابن إبراهيم كامل:
إن الخوارج صدها عن سوسة ... أبدا طعان السمر والإقدام
وفي سنة 446 حاصرت العرب مدينة القيروان وضيقة عليها تضيقا

(1/293)


شديدا يطول ذكره. وفيها أخذ مؤنس بن يحيى سلطان العرب مدينة باجة وأطاعه أهلها.
وفي سنة 447 تولى بلقين الصنهاجي قلعة حماد. وفيها نافق ابن أب زمان على المعز بن باديس. وفيها، كانت بأفريقية مجاعة عظيمة وجهد مفرط.
وفي سنة 448، وقع بين عبيد المعز الساكنين بالمهدية وبين عبيد تميم أبنه منازعة أدت إلى الاقتتال والمحاربة فقامة عامة زولية وسائر من كان من البحريين وغيرهم معاضدة لعبيد تميم فهزموهم وأخرجوهم من المهدية وقتلوا منهم عددا كثيرا. وسار الذين بقوا منهم يردون اللحاق بالقيروان، فدس تميم خبرهم إلى العرب، فقتل منهم في الطريق خلق كثير، وسبب هذه المقاتلة قتل تميم عبيد أبيه بالمهدية، ويقال أن الذي قتله منهم سبعمائة. وذكر أن المحرك لقتلهم واستئصالهم قصيد محمد بن حبيب التي أولها (بسيط) :
السيف يسبق قبل الحادث العذلا ... لا تغمد السيف حتى تقتل السفلى
نقل عداتك من دنيا لآخرة ... فكلهم ظن هذا الملك منتقلا
وفي سنة 449، خرج المعز بن باديس من المنصورية منتقلا إلى المهدية، الميلتين بقيتا من شعبان. وفي أول يوم من رمضان، انتهبت العرب مدينة القيروان وخربتها. وكانت من أعظم مدن الدنيا. وذكر أبو عبيد أنه انتهى ما ذبح منها من البقر خاصة في اليوم الواحد سبعمائة رأس وخمسين رأسا. وقال: في سنة 52 بنيت القيروان وأخليت.
وفي سنة 450 خرج بلقين ومعه الأذبج ودعي لحرب زناتة، فكسرها وقتل منها عددا كثيرا.
وفي سنة 451 قتل منصور البرغواطي صاحب سفاقس قتله غدرا حمو ابن ومليل البرغواطي، وولى مكانه وذلك يوم السبت الثاني لشوال.
وفي سنة 452 وقعت بين العرب والقيروان وبين هوارة حرب كان الغلب فيها للعرب. وقتلت هوارة بباب الصوم أحد أبوابها.

(1/294)


وفي سنة 453، قتل أهل تقيوس مائتين وخمسين من العرب. وكان سبب ذلك أن العرب دخلت إلى تقيوس متشوفة، فسمع رجل منهم رجلا من أهل المدينة يذكر المعز بخير، ويثني عليه، فقتله العربي، وكان مقدما في المدينة، فقام عليه أهل البلد، فغزوهم وقتلوا من العرب العدد المذكور.
وفي سنة 454 ن غدر الناصر بن علناس لبلقين بن محمد الصنهاجي صاحب القلعة، وكان ذلك أول يوم من رجب وولى مكانه. وفيها، توفي المعز ابن باديس.

بعض أخبار المعز بن باديس
كنيته: أبو تميم. ولقبه: أولا شرف الدولة بن أبي مناد باديس نصير الدولة بن أبي الفتح المنصور عبد العزيز بالله بن أبي الفتوح بلقين سيف العزيز بالله بن زيري بن مناد بن منقوش الصنهاجي. وفي هذه الأسماء والكنى يقول ابن شرف (خفيف) :
شرف الدولة المعز بن باديس ... النصير المظفر المقدام
من له في العلا ثلاثة آباء ... نصير وعدة وحسام
وابن زيري أبو الفتوح الذي أعدى ... أعاديه في الورى الإحجام
وأبو الفتح بعده السيد المنصور ... من صوب راحتيه سجام
مولده سنة 399. وللي الملك سنة 407، وسنة سبعة أعوام وشهران. وتوفي سنة 455، وعمره ثماني وخمسون سنة. فكانت مملكته سبعا وأربعين سنة. وفي سنه وتاريخ ولايته يقول ابن شرف (رجز) :
لما انقضت من المئين أربع ... وبعدها ست سنين تتبع
وأول العام الشريف السابع ... دار إليها أيمن طوالع

(1/295)


باسم المعز الملك الميمون ... مذل كفر ومعز الدين
فقلد الأمر الشديد المنعة ... منتهضا بحمله ابن سبعه
صفته: أسمر جميل الوجه جهير الصوت حسن الخلق بعيد الغور في الأمور قتل الشيعة وقط دعوتهم من أفريقية، ولغن أمراءهم بني عبيد على سائر منابر أفريقية ووفى كل واحد من الصحابة حقه، وأقام السنة، وكانت متروكة منذ مائة وأربعين سنة.

حكاية في ابتداء دولة صنهاجة
لما تغلب أل عبيد الله على مصر وأراد معد بن إسماعيل الرحيل أليها من إفريقية دعا زيري بن مناد وكان له عشرة أولاد، فقال له: (ادع إلي بنيك. فقد عملت رأي فيهم وفيك) وكان أصغرهم سنا بلقين. فدعا أولاده ما دعاه، والقدر لا يريد سواه. وكانت عند معد بن إسماعيل أثارة من علم الحدثان، قد عرف بها بصائر أحوالها وأهل الغناء من أعيان رجاله. وكانت عنده لخليفته على أفريقية والمغرب، إذا صار إليه ملك مصر، علامة. فنظر في وجوه بني زيري، فلم يرها، فقال لزيري: (هل غادر من بنيك أحدا؟) فقال له: (غلاما صغيرا) فقال المعز: (لا أراك حتى أراه! فلست أريد سواه!) فلما رآه عرفه، وفوض إليه من حينه، واستخلفه، فاستولى من وقته على الأمور وزاحمت مهابته الأهواء في الصدور، وبعدت أسفاره واشتهرت أخباره، وبلغ بغزاوته سبتة في خبر طويل. ثم أجاب صوت مناديه وخلعها على أعطاف بنيه حتى أنتها أمره إلى المعز بن باديس شرف العشيرة، وآخر ملوكها المشهورة. ومن العجب أنهما راقا في الاسم والكنية، أعني المعز ابنا تميم معد بن إسماعيل العبيدي صاحب الحدثان، والمعز أبا تميم هذا.

(1/296)


فأول ما افتتح به شأنه، وثبت به ما زعم سلطانه قتل الرافضة ومراسلة أمير المؤمنين العباسي يومئذ ببغداد، فكتب إليه بعهده وجاءته الخلعة واللقب من عنده رأيا اغتر ببادئه، وذهل عن عواقبه وبواديه. واتصل ذلك بالعبيدي بمصر، وأمره يومئذ يدور على الجرجرائي، فاسطنعها عليه، وفوق سهام مكروهه إليه. وكان بطون من عامر بن صعصعة: زغبة، وعدي، والأثبج ورياح وغيرهم، تنزل الصعيد لا يسمح بالرحيل ولا بإيجازه النيل، فأجازهم الجرجرائي، وأذن لهن في المعز أمينة طالما تخلت إليهم أطماعهم وعكفت عليها أبصارهم، فغشاه منها سير العرم، ورماه بذلول ابنة الرقم فشغل المعز بعضهم أولا بخدمته، وحملهم أعباء نعمتهم، وهم في خلال ذلك يتمرسون بجهاته وبون إلى حماته، ويطلعون على عوراته، حتى بان لهم شأنه، وهان عليه سلطانه، فجاهروه بالعداوة حتى جرت بينهم تلك الحروب، التي تقدم ذكرها مختصرا فأورثته البوار، وضربت عليه الحصار.
وفي أثناء ذلك، أعطاهم الدنيا، وناشدهم التقية، واشترط المهدية، وزف إلى أحد زعمائهم من بناتهم، فأصبحوا له أصهارا، وقاموا دونه أنصارا. فما استحكم باسمه، وأهمته بنفسه، واستجاش من قبله، وأحتمل أهله وثقله وخلا الملك لمن حماه وحمله، وجاء أصهاره يمنعونه ممن عسى أن يكيده، حتى بلغ المهدية، فأقام بها أسقط من الشمس بالميزان، وأهون من الفقير القيان، ولم يكن أحد في زمانه أشد بأسا في الملاحم، ولا أطول يدا بالمكارم ولا أعني بالسان العرب ولا أحنى على أخل الأدب ومن مشهور كرمه أنه أعطى المنتصر بن خزرون في دفعة مائة ألف دينار إلي ما وصله من مركب أثيل، وزي حفيل وكان متوقد الذهن حاضر الخاطر حاذقا بطرائف الألحان عالما بالمنثور والمنظوم من الكلام. ومدح كثير من الشعراء، فأجزل لهم العطاء: منهم على بن يوسف التونسي، ويعلا ابن إبراهيم الأركشي، وأبو علي بن رشيق، والقرشي وابن شرف، وغيرهم يطول

(1/297)


الكتاب بذكرهم، لا سيما لا ذكرت من نظمهم ونثرهم. وذكر أبو الحسم الخذلاني المعروف بالحداد: اشتملت على الكثير من أيامه ووقائعه وصفت حاله في خروجه من القيروان، وتسليمه للعرب معظم ملكه، في قصيدة أولها (طويل) :
سرت تتهادى بعد ما رحل الركب ... وقد قلدت جيدا الدجا الأنجم الشهب
ومنها
وإن خانني صبري علي به ... فقد خان مولانا العشائر والصحب
ولو شاء تأليف الجنود وجمعها ... لجاءته من أقطارها العجم والعرب
ولكنة أغذى الجفون لعلمه ... بما سطرت فيه الملاحم والكتب.
ولم يمكث بالمهدية إلا نحو سنتين، وانقضت أيامه، ووافاه أجله، وتوفى يوم السبت لخمس بقين من شعبان سنة 454 هكذا ذكر أبو الصلت، وقد تقدم قول ابن شرف أنه توفى في سنة 455. أولاده: تميم، ونزار، وعبد الله، وعلو، وحماد، وبلقين، وحمامة، والمنصور.

دولة الأمير تميم بن المعز
ونبذ من أخبارها
مولده بالمنصورية في رجب سنة 422. وأبرزه والده للناس ابن سنتين وركب، والعسكر وراءه، وطاف مدينتي القيروان والمنصورية، وولي المهدية سنة 445، وعمره ثلاث وعشرون سنة. وأقام بها إلى أن خرج والده من المنصورية متجها نحوها، فلما دنا منها، خرج إليه فيمن معه، وترجل عند رؤيته له، وقبل الأرض بين يديه، ومشى راجلا أمامه، وأظهر من طاعته له ما أبان كذب ما نسب إليه، وزور من النفاق عليه، فدعا له والده، وأمره

(1/298)


بالركوب، فركب وسار معه إلى المهدية فنزل المعز القصر وأقام ابنه تميم متكفلا بأمر الدولة.
وفي سنة 455 فتح مدينة سوسة. وكان أهلها قد نافقوا على أبيه، فعفا عنهم، وفي سنة 456، زحف إلى المهدية حمو بن ومليل البرغواطي الثائر بمدينة سفاقس، بمن استعان بالعرب، فورد خبره على تميم فسار إليه ومعه طائفة كثيرة من زغبة ورياح. وكان مع حمو طائفة من عدي والأثبج، فاقتتل الفريقان. ثم ولت طائفة حمو أدبارها، فأخذتها السيوف، وتولتها الحتوف وفي سنة 457، كسر عسكر الناصر بن حماد وكان قد خرج في عدد كثير من صنهاجة وزناتة وعدي والأثيج، فلقيتهم رياح وزغبة وسليم، فانهزم الناصر وقتل من أصحابه خلق كثير ونهبت أمواله ومضاربه، وقتل أخوه القاسم بن علناس. وكان من أعظم الأسباب في ذلك ما أبرمه تميم في أمره.
وفي 458، جرد تميم عسكرا كبيرا إلى مدينة تونس، فأقام محاصرا لها، آخذا بمخنقها أربعة عشر شهرا، حتى رقع الاتفاق بينه وبين ابن خراسان صاحبها، على ما اقتضاه إقلاع العسكر عنها.
وفي سنة 459 قام بالمغرب، الأقصى محمد بن إدريس بن يحيى بن علي ابن حمود الحسني، المستدعى من ميلية، فعبر إليها، وقال به جماعة بني ورتدي في ميلية ونواحيها. وكان قد خطب له بالخلافة بمالقة، وتسمى بالمستعلي، فأقام بها إلى، تغلب عليه باديس بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة سنة 447، فانقرضت دولة بني حمود يومئذ بالأندلس، واختفى بالمرية إلى أن استدعي.
وفي سنة 460 حاصر الناصر بن علناس بن حماد مدينة الأربس، وكان معه الأثيج من العرب، وبقي عليها حتى افتتحها وأمن أهلها، وقتل عاملها ابن مكراز. وفيها، وصل الناصر المذكور إلى القيروان مع العرب ودخلها.

(1/299)


وفيها، استبد أمير لمتونة على زناتة المستوطنين هنالك.
وفي سنة 461، عاد الناصر بن علناس بن حماد من القيروان إلى قلعته، خوفا من جموع العرب، وفيها، شرع أبو بكر بن عمر اللمتوني في بناء مراكش على ما يأتي في موضعه.
وفي سنة 465، وصلت إلى سفاقس مراكب شرقية، فأخرج إليها السلطان تميم بن المعز أسطوله من المهدية، فأفسدها.
وفي سنة 466، وقيل 467 طردت زغبة من أفريقية: طردتهم رياح منها، وباعت القيروان بن الناصر بن علناس بن حماد الصنهاجي صاحب القلعة.
وفي سنة 468، وصلت إلى أفريقية عرب برقة ونزلت حول القيروان وما والاها. وفي سنة 469، كانت بأفريقية مجاعة عظيمة ووباء عظيم، مات فيه من الناس خلق كثير.
وفي سنة 470 اصطلح تميم بن المعز والناصر ابن عمه وزجه بنته بلارة وجزها إليه من المهدية في عساكر عظيمة ومال وأسباب وذخائر. وفي سنة 474، حاصر تميم مدينة سفاقس. وعاث عسكره في أجنتها المعروفة بالغابة وأفسدها، وولى تميم ابنه مقلدا مدينة طرابلس سنة 470.
وفي سنة 476، حوصرت المهدية، نزل عليها مالك بن علوي في جموع عظيمة من العرب، فخرج إليه السلطان تميم فهزمه، وأقلع عنها منهزما، ودخل اقيروان.
وفي سنة 479، حاصر تميم مدينة قابي وسفاقس معا في زمن واحد، مما لم يسمع مثله.

(1/300)


وفي سنة 480، كسفت الشمس كسوفا كليا. وجرى فيها ما جرى من نزول الروم على المهدية في ثلاثمائة مركبا حربية، على ظهورها ثلاثون ألف مقاتل.

ذكر دخول النصارى مدينة المهدية
وسبب ذلك، مع قدر الله تعالى غيبة عسكر سلطانها عنها ومفاجأة الروم قبل استقدامه إليها وأخذ الأهبة للقائهم، وخلوا كافة الناس من الأسلحة والعدد وقصر الأسوار وتهدمها. وتكذيب تميم بخبرهم وسوء تدبير عبد الله بن منكور متولي أمور الدولة في قصده مخالفة قائد الأسطول في الخروج إليهم للقائهم في الماء ومنعهم من النزول في البر. فكا كل ذلك سبب تغلبهم على المدينتين المهدية وزويلة، ونهبهم أياهما، وقتلهم الناس فيهما، وإحراقهم بالنار ما هو مشهور بالمهدية إلى الآن. وقد استوعب ذلك ابو الحسن الحداد في قصيدته التي أولها (منسرح) .
أنى يلم الخيال أو يقف ... وبين أجفان ثوى الدنف
غزا حمانا العدو في عدد ... هما الدما كثرة أو اللّعف
عشرون ألفا ائتلفوا ... من كل أوب وليت ما اتلفوا
جاءوا على غرة إلى نفر ... قد جهلوا في الحروب ما عرفوا
وهي طويلة.
وفي سنة 481، مات الناصر بن علناي بن حناد الصنهاجي، وولي ابنه المنصور.
وفي سنة 482، عزا مالك بن علوي مدينة سوسة، ودخلها في طائفة من أصحابه، ولم يتمكن له شيء من مراده فيها فخرج منها منهزما، وقتل جماعة من رجاله وأسر بعضهم.

(1/301)


وفي سنة 483، غلت الأسعار في أفريقية، وكانت بها مجاعة شديدة.
وفي سنة 484، صلحت أحوال أفريقية في الخصب والرخاء.
وفي سنة 486، حاصر عسكر تميم مدينة قابس وأقام عليها حتى فتح ربضها. 488، كان ما كان من غدر شاه مالك الغزي ليحيى بن السلطان تميم بن المعز، وسبب ذلك أن تميما خاف الغزيّ وأوحش منه نفسه ونفس أصحابه لكلام قاله، فأضمر ذلك شاه مالك في نفسه، وكان داهية مكرا، وخرج يحيى بن تميم أثناء ذلك متصيدا، وفي صحبته نفر من أهل مؤانسته ومنادمته. وكان شاه مالك مع كثير من أصحابه، فظفر به وقبض عليه وعلى جماعة من أصحابه. ولما بلغ تميما ذلك، أنفذ الخيل في الغزيّ فوجدوه قد فات وسار إلى سفاقس ودخلها. فركب صاحبها حمو بن ومليل وتلقى يحيى بم تميم مع الغزيّ الذي قبض عليه، فأقام عنده أياما، وكتب إلى السلطان تميم يلتمس منه عيال الغزّ وأولادهم، فأمر تميم بإنفاذهم إليهم، ودعا يحيى وأصحابه إلى المهدية. وفي سنة 489 فتح تميم مدينة قابس، وأخرج منها عمر بن المعز أخاه وقد كان ولاه أهلها، وفي سنة 491، كانت بأفريقية مجاعة شديدة. وفي هذه السنة، فتح تميم مدينة قرنقة ومدينة تونس. وخرج عدى من أفريقية أمام رياح.
وفي سنة 493، فتح تميم مدينة سفاقس وخرج منها حمو بن ومليل هاربا إلى قابس فقبله صاحب مجن بن كامل الدهماني وآواه حتى مات وفي سنة 498 مات المنصور بن ناصر بن علسان، صاحب القلعة والباجية وما والاهما وولى ابنه باديس وأقام قليلا ومات. ثم ولى أخيه العزيز بالله بن المنصور. وفيها وصل المرمانيون إلى المهدية بأجفان كثيرة حربية، تسمى الشزاني ومعهم ثمانية وعشرون مركبا. وكان قصدهم أن يجدوا فرصة

(1/302)


كما وجدها الروم المتقدم ذكرها. فقصدوا إلى باب دار الصناعة ليمنعوا أسطول المهدية إليهم فخاب ظنهم وخرجت أسطول المهدية إليهم فهزموا وقتلوا كثيرا منهم. وفي سنة 499 وجه السلطان تميم أبا الحسن النهري إلى جزيرة جربة في عدد جم وأسطول كثير فوجد أهلها قد أخوا الأهبة له، واستعدوا واستمدوا فلم يتم له شيء من أمرها.
وفي سنة 500 غدرت مدينة باجة وقتل خلق كثير. وفيها رحل المهدي بن تومرت القائم بدعوة من البربر المسمين بالموحدين بجبل هرغة بأقصى المغرب إلى المشرق في طلب العلم فجاز إلى الأندلس وصل قرطبة وسار منها إلى المرية ومها دخل في مركب إلى الشرق وفاب في مركب خمسة عشر عاما.
وفي سنة 501 ظهر في أفق المغرب كوكب عظيم من ذوات الذوائب وأقام ليلي كثيرة. وفيها مات السلطان تميم بن المعز فكانت مدته سبع وأربعين سنة.

بعض أخبار تميم بن المعز
كان رحمه الله شهما شجاعا حازما عازما، يستصغر صعاب الأمور ويستسهل عظام الخطوب ويغلب عليه شدة البطش والمبادرة. وهو أحد فحول شعراء الملوك وذو السبق والتقدم في معانيه وبدائعه حوى فيه الجودة والكثرة. وله ديوان كبير من شعره؛ فمن قوله (وافر) :
فإما الملك في شرف وعز ... على التاج في أعلى السرير
وأما الموت ببين ظبا العوالي ... فلست بخالد أبدا الدهور
وله في غلام اسمه مدام من قصيدة طويلة (متقارب) :

(1/303)


مدام يطوف بكاس المدام ... فلم أدر أيهما أشرب
فهذا الصديق وهذى الرحيق ... وهذا الهلال وذي الكوكب
وهذا يجود بألحاظه لي ... وهذى بألبابنا تلعب
وما البدر والنجم من ذا وذاك ... ولكنه مثل يضرب
وكان تميم بن المعز جميلا وسيم مدير القامة دري اللون أشم ابلج. وكان يكثر من استغفار بدنه ويرى ذلك أنه تمم صحته. وكان يستعمل كل حار من الأغذية والأدوية ويكثر الاصطلاء بالنار ويدخل الحمام الحر ويكثر الجماع ويشرب الأدوية القوية كالمحمودة وغيرها، ويجاوز في ذلك المقدار حتى جف لحمه وفسدت حركاته الطبيعية. وأقعد ثم مات في منتصف رجب من سنة 501 فكان عمره تسعا وسبعين سنة وولايته من وفاة جاوز عددهم المائة. وقيل أنه كان له من الولد وولد الولد نحو ثلاثمائة.

دولة يحيى بن تميم بن المعز
ونبذ من أخباره وسيرته
مولده بالمهدية سنة 457. وولى سنة 501 وعمره إذ ذاك ثلاثة وأربعون سنة. وكان حاذقا بتدبير دولته ساهرا في سياسة رعيته كثير المطالعة لكتب السيرة والأخبار أديبا شاعرا ذا حظ في اللغة العربية صالح. وكان حسن الوجه أشهل العينين أهجر الصوت. وتوفى ثاني عيد النحر من سنة 509 فجأة مقتولا في قصره بالمهدية فكانت مدة ملكه ثماني سنين وستة أشهر، وخلف من الأولاد ثلاثين ولدا ذكور. ومما حدث في أيامه من الوقائع ما أذكرها ملخصا، مؤرخة بأوقاته. وفي سنة 503 فتح يحيى بن تميم قلعة أقبلية. قال ابن القطانم كان لتميم بن المعز من الولد ثلاثمائة فنفى يحيى أكبرهم إلى المشرق والمغرب

(1/304)


والأندلس. وكانت أيام يحيى هادنه ووادعه. وكان يطلب عمل الكيمياء وجعل لها دارا تردها الطلبة وأجرى عليها الإنفاق ومكنهم من الآلات.
وفي سنة 503 جرد يحيى بن تميم كمن أسطوله خمسة عشر غرابا للغزو في بلاد الروم فأصيب منها ستة وعادة البقية إلى المهدية.
وفي سنة 504 كان بالمغرب زلازل عظيمة دامت شهر شوال كله.
وأمير أفريقية يحيى بن تميم بن المعز.
وفقي سنة 505 وصل سوار صاحب مصر بهدية إلى أمير أفريقية يحيى بن تميم فتلقاه بغاية الإكرام والاهتمام وأقام عنده حتى صرفه وأصحبه من الذخائر والألطاف ما لا يحيط به الوصف.
وفي سنة 507 وصلت أسطول المهدية بسبي كثير من بلاد الروم في ربيع الآخر فسر بذلك يحيى بن تميم والمسلمين.
وفي سنة 508 ولى يحيى ابنه عليا مدينة سفاقس وولى أخاه عيسى مدينة سوسة. وفيها حجم الروم على مدينة ميورقة وهي بيد مبشر الفتى مولى ابن مجاهد ودخلها عنوة وقتلوا رجالها وسبوا ذراريها ونساءها وذلك بعد حصار شديد ثم استرجعها علي بن يوسف من أيدي الروم.
وفي سنة 509 وصل إلى المهدية رجلان أو ثلاثة ذكروا أنهم طلبة المصامدة عارفين بصناعة الكيمياء فأبيح لهما بالدخول إلى دار العمل. فما أحكما ما أرادا استأذنا على السلطان يحيى بن تميم. فقال لهما: (أوقفاني على الطرح وحقيقة السر!) فقال: (على أن لا يحظر إلا أنت ووزيرك!) فحظر هو ووزيره وعبده أبو خموس فصنعا البوط وألقيا الرصاص وأحميا عليه وجعلا كنهما يخرجان الإكسير. فأخرجا خناجيرهما وقتلا الوزير وأبا خنوس وأكثر في السلطان الجراحات. فبقى يعاني جراحه حتى مات وقالا له حين جرحاه: (أيها الكلب تعجب نحنو أخواك فلان وفلان نفيتنا وبقيت في الملك!) وثارت الصيحة إذ ذاك فدخل العبيد وقتلا الرجلان للحين.

(1/305)


ومات يحيى يوم العيد الأضحى من سنة 509، وكان الأمير يحيى، مدة مرضه إثر هذه النوبة والغدر، ونفي ابنه الفتوح إلى قصر زيادة، وأظهر اتهامه في القضية. فأقام هناك إلى حين وفاة أبيه وولاية على أخيه. ثم نفاه علي أيضا إلى المشرق، فتوفى هنالك. وفي هذه السنة، عقد الأمير يحيى نكاح العزيز بالله بن المنصور، صاحب القلعة وبجاية، على بنته بدر الدجا، وجهزها إليه.

دولة علي بن يحيى بن تميم بن المعز
بالمهدية وبعض بلاد أفريقية
لما توفي الأمير يحيى، أجتمع أهل الدولة على نفاذ كتاب إلى علي على لسان أبيه، وكان علي يلي سفاقس، فكتبه الكاتب، وكتب علامة يحيى كانت: (الحمد لله وحده!) فوصل الخبر إلى علي ليلا، فخرج لوقته، فوصل إلى المهدية ثالث عيد النحر، ودخل الناس إليه معزين ومهنئين، وعمره ثلاثون سنة، فاستأبت له الأمر، واستوسق له الملك. وكان كريما جوادا، يركن إلى الراحة واللذات، واتكل على قوم فوض إليهم تدبير دولته، فعاجلته منيته في ربيع الآخر من سنة 515، فكانت دولته خمس سنين وأربعة أشهر وأثنى عشر يوما. وخلف من الولد الذكور أربعة: الحسن، والعزيز، وباديس، واله (؟) .
وفي سنة 510، أمر بعمارة الأسطول إلى جرية، فحاصرها إلى أن أقر أهلا بالطاعة له، ونزلوا على حكمه.
وفي سنة 511، أرجف العوام بأنه سيكون في رمضان حادث كبير، وأن السلطان يموت فيه. وفشا القول بذلك، وانتشر. فأكذب الله أحاديثهم. وقال الشعراء في ذلك كثيرا. فمنه طويل:

(1/306)


وأشاعوا أباطيل وبثوا زاخارفا ... دعتهم لها آمالهم والمطامع
فلو يستطيع الناس من فرط حبهم ... لضمتك أحشاء لهم وأضالع
ومنها:
أصبح قول المبطلين مكذبا ... ومد لك الرحمن في أمد العمر
فأين الذي حد المنجم كونه ... إذا مر للصوام عشر من الشهر
وفيها، وصل رسول صاحب مصر بهدية إلى المهدية. وفيها، حاصر علي ابن يحيى مدينة قابس، ودون بعض قبائل العرب، فلما بلغ ذلك رافعا صاحبها، خرج متطارحا على وجوه الجيش، راغبا في الصلح، فلم يجيبه علي إلى ذلك، وفي أثناء ذلك، نزل على المهدية بيوته، ومن ساعده من عشيرته، فخرج من كان بالمهدية، فهجموا على بيوته، فتصايحن نساء العرب، فغارت العرب لذلك، وقعت الحرب بين الفريقين، والأمير على باب زويلة. أن عليا دون على رافع ثلاثة أخماس العرب من جيشه، فصمد رافع نحوهم، والتقى الجمعان. ثم ولى رافع قاصدا إلى القيروان. واجتمعت شيوخ دهمان، واقتسموا البلاد بينهم، فأعطوا رافعا مدينة القيروان. ووصلت العرب المدونة إلى الأمير علي بن يحيى، فوهبها أموالا جمة وأمره بالمسير إلى القيروان. فوقع بينهم وبين رافع قتال شديد، وكان الظهور فيه لحزب علي بن يحيى، في خبر طويل.
وفي سنة 512، وصل إلى الأمير علي بن يحيى، من قبل صاحب صقلية رجار، رسول له يلتمس تجديد العقود، وتأكيد العهود ويطلب أموالا كانت له موقفة بالمهدية وذلك بعنف وغلظة. فرد على رسوله جواب وجبهه بالقول. فتزايدت الوحشة بينه وبين رجال، فأوسع شرا، وحال بعد ذلك مكرا قال ابن القطان: وكان في هذه السنة غلاء عظيم، ووباء، وبلغ ربع الدقيق بتلسمان عشرين درهما.
وفي سنة 513 أغزى إبراهيم بن يوسف أخو علي بن يوسف بن تاشفين

(1/307)


ملك الغرب، قورية بالأندلس ففتحها الله عليه. وأمير أفريقية علي ابن يحيى ابن تميم.
وفي سنة 514 كانت وقعة بالأندلس انهزم فيها المسلمون وهي وقعة قتندة، قال ابن القطان: مات فيها نحو عشرين ألفا وفيها، كان حلول ابن تومرت المتلقب بالمهدي بأغمات، محرضا على الخروج على السلطان وتفريق الكلمة المنتظمة.
وفي سنة 515، خرج علي بن يوسف من مراكش إلى الأندلس، فوصلها في ربيع الأول وأخر ابن رشد عن القضاء، وولى أبا القاسم بن حمدين، ثم رجع إلى مراكش. وفيها، توفي أمير أفريقية علي بن يحيى بن تميم.

دولة الأمير الحسن بن علي
ابن يحيى بن المعز بأفريقية
كان أبوه فوض إليه الأمر في حياته وعمره أثنتا عشرة سنة وتسعة أشهر، ومولده بمدينة سوسة في رجب سنة 502. فلما مات أبوه، دخل الناس أليه مهنئين ومعزين بالملك والوفاة، وانشده الشعراء وتكفل بأمر دولته صندل الخادم، لا لمعرفة ولا سياسة.
وفي سنة 516، غزى أبو عبد الله بن ميمون قائدا علي بن يوسف ن ملك البرين، جزيرة صقلية، فافتتح بها مدينة نقوطرة من عمل رجار صاحب صقلية، وسبى نساءها وأطفالها، وقتل شيوخا، وسلب جميع ما وجد فيها. فلم يشك صاحب صقلية أن المحرك والمسبب له هو أمير أفريقية الحسن بن علي، لما تقدم بينه وبين أبيه من الوحشة العظيمة فاستنفر أهل بلاد الروم قاطبة فالتأم له ما لم يعهد مثله كثرة فعلم بذلك الحسن بن علي، فأمر بتشييد الأسوار واتخاذ الأسلحة وحشد القبائل واستقدام العرب. فجاءت الحشود من كل وجه ومكان والناس متأهبون لما يطرقهم منهم.

(1/308)


وفي سنة 517، في أواخر جمادى الأولى، وصلت أسطول الإفرنج إلى جزيرة الأحاسي، وخرج منهم إلى البر خلق كثير وابسطوا حتى بعدوا عن البحر أميالا. وفي اليوم الثاني، خاء إلى المهدية ثلاثة وعشرين شينيا، فعينوا العساكر والحشود ثم انصرفوا إلى الجزيرة، فوجدوا العرب قد انكشفوا من كان بها من الروم عن مواضعهم، ومزقوا مضاربهم فقويت نفوس المسلمين بذلك. وكان رجار قد أمر أسطوله أن يدخل تلك الجزيرة، ويأخذ قصر الديماس، وأن يسير الخيل والرجال من هنالك على تعبئة في البر إلى المهدية، لليلتين خلتا من جمادى الأولى، في أخر ليلة منه كبر المسلمون ودخلوا الجزيرة فانهزم الروم إلى أجفانهم، بعد ما قتلوا بأيديهم كثيرا من خيولهم. وأخذ المسلمون فيما يحتاجونه إليه نحو أربع مائة فرس، وآلات كثيرة وأسلحة. وأحاطت العساكر بقصر الديماس، تقاتله، وأهل الأسطول في البحر يعاينون ذلك، إلى أن طلب الروم الأمان من السلطان الحسن بن على بن يحيى بن تميم، فلم تساعد العرب على ذلك. وخرجوا من منتصف جمادى الآخرة ن فأخذتهم السيوف، وقتلوا عن أخرهم. وكان عدد الأجفان نحو ثلاثمائة، وعدد لخيل فيها نحو ألف فارس.
أخبر أبو الصلت قال: أخبرني عبد الرحمن عبد العزيز قال: رأيت على باب رجار بصقلية رجرا من الإفرنجة طويل الحية يتناول طرف لحيته بيده، ويقسم بالإنجيل أنه لا يأخذ منها شعرة حتى يأخذ ثأره من أهل المهدية فسألت عنه، فقيل لي أنه لما انهزم، جذب بها حتى أدمته. إلى أن انتهى كلام ابن الصلت في أخبار المهدية وأميرها الحسن بن علي بن يحيى ابن تميم إلى سنة 517 وبقى الحسن بن علي ملكا للمهدية وبلاد تلك الجهات إلى سنة 543. ثم خرج باستيلاء صاحب صقلية عليها.
وفي سنة 518، استفحل أمر المهدية والموحدين بالمغرب وأمير أفريقية الحسن بن علي بن يحيى. ومات في هذه السنة العزيز بالله صاحب بجاية، وولى

(1/309)


ابن يحيى. وكان لبني الناصر بن علناس بن حماد ببجاية والقلعة وتلك البلاد وزراء يعرفون ببني حمدون، وتوارثوا وزرارتهم، منهم ميمون بن حمدون عند يحيى هذا، فنشأ ليحيى ولد ولاه الأمر بعده وفوض الأمور إليه في حياته، فجعل الولد يستنقص الوزير ميمونا، ويقبح أفعاله، ويسميه الشيخ الكذاب. فخاف منه ميمونا على نفسه، وخاطب أبا محمد عبد المؤمن وفي سنة 519، كان أمير أفريقية الحسن بن علي على حاله. وخرج الطاغية ابن ردمير إلى بلاد المسلمين، فدوخها بلدا بلدا، وضيق عليها.
وفي سنة 520 اجتمعت عساكر المسلمين بالأندلس، فتلاقوا مع عدو الله ابن ردمير، وكان قد أذاق المسلمين شرا منذ سنين، فدارت بين الفريقين حرب عظيمة كان الظفر فيها للمسلمين. ثم أخبر الناس أن تميما رجع فارا بنفسه، فانهزم المسلمون، وركبهم النصارى بالقتل واحتووا على المحل بما فيها وسار تميم إلى غرناطة، وانبسطت خيل النصارى على المسلمين يقتلونهم كيف شاءوا وتفرق الناس أيدي سبا ولجئوا إلى المعاقل، وكانت قريبا منهم، فوافاهم الله شرهم.
وفي سنة 521، وقيل في سنة 520 نهض أبو الوليد بن رشد إلى مراكش للاجتماع بعلي بن يوسف في المصالح، وعز تميم عن غرناطة.
وفي سنة 523، أشر ابن رشد ببناء سور مراكش فبناه علي بن يوسف وأنفق فيه سبعين ألف دينار وفيها، بعث العزيز بالله بن المنصور صاحب بجاية عسكرا إلى المهدية قود عليه ابن المهلب فنزل عليها ثم انصرف ناكصا على عقبه وفيها، وصل مطرف بن علي بن خزرون الزناتي إلى تونس وأخرج منها احمد بن عبد العزيز بن عبد الحق بن خرسان، وقفل إلى الحجاز وبها مات على ما يأتي. وولي تونس في هذه السنة كرامة بن المنصور الصنهاجي من قبل صاحب بجاية.

(1/310)


وفي سنة 523 كان الأمير بأفريقية حسن بن علي على ما كان عليه في السنة قبلها، وصاحب بجاية يحيى بن العزيز بالله، ووزيره ميمون بن حمدون.
وفي سنة 524 قتل أمير مصر الملقب بالأمر، وكان جبارا عنيدا، قتله الغلام الذي أسمه حرز الملوك، وكان الأمر ولي عهده عبد المجيد.
وفي سنة 527، قال الوراق في (مقابسه) : بعث الله قوما تحالفوا على قتل الجبار العنيد بمصر الملقب بالأمر. قيل أنه قصدوا إليه من بلاد الشام احتسابا وكانوا عشرة أناس، فأقاموا بمصر، وعلموا بيوم ركوبه، وكان إذا ركب سدة الحوانيت والديار في ممره ولا يمر في طريقه أحد سواه ويجعل نصف عسكره أمامه، ونصفه ورائه، وفي وسط تلك المسافتين التي أمامه وخلفه فارسان، بينهما وبينه ما بينهما وبين العسكر وحمله أربعة من عبيده فقصد هؤلاء القوم إلى طريقة وفيه فرن، فقصدوا إلى الفران، ومعهم دقيق وقالوا له: (نريد منك أن تخبز لنا هذا الدقيق، فأنا قوم غرباء مسافرون) فاعتذر لهم بالسلطان فرغبوه، وشارط عليهم العجلة، ثم أشغلوه بالحديث إلى أن مر عليه مقدم العسكر الأول فأعنف عليهم في الخروج فلما رأوا ذلك ادخلوه داخل الفرن وسدوا فمه بغطائه وغلقوا باب الفرن عليهم إلى أن سمعوا حوافر فرسه. فأول من خرج من الفرن كلها منهم، فجعل يسجد إلى الأرض، وينادي: (أنا بالله وبعدل مولانا) وسجد مرة بعد أخرى إلى أن ألقى بيده في شكائم الفرس، وأخرج سكينا وضرب بها بطن الفرس فسقط إلى الأرض وخرج أصحابه من الفرن مبادرين، فضربوه بسكاكينهم إلى أن فرغوا من قتله. وقتلوا في الحين أجمعين وأراح الله من الفاجر الطاغي وهو الذي أكثر في زمانه دعوى الباطل ونصرة الظالم وعمل

(1/311)


جهنم يعذب فيها الناس، وأباح المحظورات جهارا في النزهات، وغير ذلك من قبائحهم - لعنهم الله - أعني الشيعة العبيدية.
وفي سنة 528 كان ولاة أفريقية على ما كانوا عليه في السنة قبلها.
وفي سنة 529، صرخ الموحدون بموت المهدي، وسموا عهد المؤمن بأمير المؤمنين، وفيها، ولي القضاة قاضي عبد الحق بن عبد الله بن معيشة، فأراق الخمر وكسر الدنان، وشدد على أهلها، وزاد في الجامع الكبير فكان البناء فيه في أخر هذه السنة.
وفي سنة 530 نزل على حمود على المهدية، بعسكر من قبل صاحب بجاية العزيز بن المنصور ومال برسم العرب فنزل بظاهر زويلة وناشب القتال برا وبحرا، فأخرج إليهم صاحب المهدية أسطوله فأخذوا من أسطول بجاية غرابي أمر بسجن قائدهما، فأما الواحد فمات بسهم أصابه ثم وصلت العرب لنصرة المهدية فرحل عسكر بجاية عن المهدية بعد أقامته سبعين يوما. وأمر الحسن بن علي قائده بقتل القائدين فقتل أحدهما بين يديه ووجد الآخر قد مات من سهم كان أصابه. وفيها جهز رجار صاحب صقلية أسطولا، فقصدوا جزيرة جربة، واستولوا عليها وسبوا أهلها. وفي سنة 533، كان موت عبد المجيد صاحب مصر وكان للشيعة في تولية خليفة عليهم خبر طريف يذكره في موضعه ز وفي سنة 536 توفى أبو عبد الله المازري وأبو الصلت. وفيها أخذ صاحب المهدية المركب الذي أنشأه صاحب بجاية، وبعثة بهدية إلى صاحب مصر، وسبب ذلك أنه كان في الإسكندرية مركب للحسن صاحب المهدية عطله عن السفر صاحب الديوان لأنه سعى في الشتاة بين الحسن وبين صاحب مصر، وقصد المواصدة بين صاحب مصر وصاحب بجاية، فأقلعت المراكب وبقى هو محبوسا. واقلع في جملتها المركب البجائي ببضائع عظيمة لها شأن وأثمان للتجار وهدية إلى صاحب بجاية. فعمل عليه الحسن، وأخذه، وأمر

(1/312)


بتفريغه. وبقي المركب فارغا حتى جاءت صدمة أكتوبر، فأنكسر وفي هذه السنة، خرج جرجي من صقلية في خمسة وعشرين غرابا، وضرب على مرسى المهدية ن فأخذ جميع ما كان فيه من المراكب وفيه مركب جديدا أنشأه الحسن من خشب المركب الذي انكسر لصاحب مصر.
وفي سنة 537، خرج أسطول صاحب صقلية، فضرب على مدينة أطرابلس، فخيبه الله.
وفي سنة 538، دخل مدينة سفاقس ودخلت في عمل رجار صاحب صقلية.
وفي سنة 543، كان تغلب الروم على مدينة المهدية، وخرج منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بسلجين ابن زبرى بن مناد بن منقوش صنهاجي بحملته وحاشيته. وتبعه أهل البلد فارين بإهليهم. وكان قائد رجار صاحب صقلية جرحى بن ميخايل الأنطاكي وكان أبوه علجا من علوج أبيه تميم. فكان هذا اللبعين عارفا بعورات المسلمين بالمهدية وغيرها فلم يزل رجار وقائده جرجا بحيلان على المهدية بحيلهما إلى أن استولوا عليها في هذه السنة. وتعرف هذه الكائنة الشنعاء بكائنة يوم الاثنين فبقيت بأيد الروم حتى أفتتحها الموحدون، على ما أذكر في دولتهم، ولما استولى صاحب صقلية على هذه المدينة كانت بأفريقية مجاعة عظيمة، فخاف أهل تونس من أهل هذه السواحل من النصارى. وكان صاحب صقلية افتتح سفاقس ودخل بونة، وسبى أهلها، فأخذ أهل تونس في الاستعداد والأهبة والوقوف بجماعاتهم وقتا بعد وقت عند باب البحر، بمحضر واليهم معد بن المنصور وهو من الديوان الذي على الباب فخرجوا يوما من أيام عرضهم، فوجوا قاربا يسوق زرعا، فأبكرت العامة خروج الزرع من بلدهم في تلك الشدة إلى موضع تحت مملكة الروم، واجتمعوا على منعهم، وضجت العامة وارتفع صياحهم، فتعرض لهم رجال معد بن المنصور، فوضعوا السلاح

(1/313)


فيهم وفي عبيد معد واليهم وقتلوهم قتلة الشيعة وأطلقوا النار تحت برج الديوان، فنزل معد عنه، واستسلم للعامة، فوقفوا عنه، فكانوا يأخذون رجاله وعبيده من تحت ركابه، ويقتلوهم. وبقى معد ذلك بتونس على حال قهر من العامة، وكتب إلى بجاية، فجاءه غراب منها، فطلع فيه مع بنيه، وسار إلى بجاية، ورجع النظر في تونس لقائد من قواد صنهاجة مدة يسيرة، ثم انصرف، وبقى البلد في حكم العامة، فكانت الفتنة المشهورة فيهم، والقتال بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة، ومدبرهم في تلك المدة قاضيهم أبو محمد عبد المنعم بن الأمام أبي الحسن - رحمه الله - ولما اشتد خوف أهل تونس من صاحب صقلية ومما سمعوه من غضب بجاية واستعداده لهم، أخذوا في تمليك محمد بن زياد العربي بإرادة قاضيهم. فلما عزموا على ذلك، ووصل ابن زياد إلى تونس، وخرج القاضي والأشياخ إلى لقائه، صاح رجل من العامة: (لا طاعة لعربي ولا غزيّ) وقامت الفتنة. فرجع ابن زياد إلى القلعة، وأراد القاضي الرجوع إلى المدينة، فمنعه العامة وأخرجته، فسار مع ابن زياد إلى القلعة، ولأقام بها مدة طويلة، إلى أن مات - رحمه الله - فيقال أنه كان راقدا في الصيف في طلق علو، فوقع منها ومات، ويقال أنه رمي منها، ثم إن العامة وجهوا إلى أبي بكر إسماعيل بن عبد الحق بن خراسان، فوصل إلى تونس بالليل، فرفع قفي قفة من السور وولي تونس، فأقام عليها نحو سبعة أشهر، ثم غدر به عبد اله ابن أخيه عبد العزيز، على ما يأتي، وإذ قد وقع ذكر بني خراسان، ولايتهم تونس على النسق ومن وليها من غيرهم إلى دخول الموحدين إليها، بحول الله تعالى.

(1/314)