الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَسِتِّينَ]
62 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ وَفْدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ
لَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ الْحِجَازَ أَقَامَ يُرِيدُ غِرَّةَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَلَا يَجِدُهُ إِلَّا مُحْتَرِزًا مُمْتَنِعًا، وَثَارَ
نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ النَّخَعِيُّ بِالْيَمَامَةِ حِينَ قُتِلَ
الْحُسَيْنُ، وَثَارَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ، وَكَانَ
الْوَلِيدُ يُفِيضُ مِنَ الْمُعَرَّفِ وَيُفِيضُ مَعَهُ سَائِرُ
النَّاسِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَاقِفٌ وَأَصْحَابُهُ، وَنَجْدَةُ
وَاقِفٌ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ ابْنُ الزُّبَيْرِ
بِأَصْحَابِهِ وَنَجْدَةُ بِأَصْحَابِهِ، وَكَانَ نَجْدَةُ يَلْقَى
ابْنَ الزُّبَيْرِ فَيُكْثِرُ، حَتَّى ظَنَّ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ
سَيُبَايِعُهُ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَمِلَ بِالْمَكْرِ فِي
أَمْرِ الْوَلِيدِ، فَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ: إِنَّكَ بَعَثْتَ
إِلَيْنَا رَجُلًا أَخْرَقَ لَا يَتَّجِهُ لِرُشْدٍ وَلَا يَرْعَوِي
لِعِظَةِ الْحَكِيمِ، فَلَوْ بَعَثْتَ رَجُلًا سَهْلَ الْخُلُقِ
رَجَوْتُ أَنْ يَسْهُلَ مِنَ الْأُمُورِ مَا اسْتَوْعَرَ مِنْهَا،
وَأَنْ يَجْتَمِعَ مَا تَفَرَّقَ.
فَعَزَلَ يَزِيدُ الْوَلِيدَ وَوَلَّى عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي سُفْيَانٍ، وَهُوَ فَتًى غِرٌّ حَدَثٌ لَمْ يُجَرِّبِ الْأُمُورَ
وَلَمْ يُحَنِّكْهُ السِّنُّ، لَا يَكَادُ يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ
سُلْطَانِهِ وَلَا عَمَلِهِ، فَبَعَثَ إِلَى يَزِيدَ وَفْدًا مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ
الْمَلَائِكَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرِجَالًا كَثِيرًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَدِمُوا
عَلَى يَزِيدَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْظَمَ
جَوَائِزَهُمْ، فَأَعْطَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ، وَكَانَ
شَرِيفًا فَاضِلًا عَابِدًا سَيِّدًا، مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَكَانَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ بَنِينَ، فَأَعْطَى كُلَّ وَلَدٍ عَشْرَةَ
آلَافٍ.
فَلَمَّا رَجَعُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ كُلُّهُمْ إِلَّا الْمُنْذِرَ
بْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ قَدِمَ الْعِرَاقَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ،
وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ أَجَازَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا قَدِمَ
أُولَئِكَ النَّفَرُ الْوَفْدُ الْمَدِينَةَ قَامُوا فِيهِمْ
فَأَظْهَرُوا شَتْمَ يَزِيدَ وَعَيْبَهُ وَقَالُوا: قَدِمْنَا مِنْ
عِنْدِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ دِينٌ يَشْرَبُ الْخَمْرَ،
(3/203)
وَيَضْرِبُ بِالطَّنَابِيرِ وَيَعْزِفُ
عِنْدَهُ الْقِيَانُ وَيَلْعَبُ بِالْكِلَابِ وَيَسْمُرُ عِنْدَهُ
الْحُرَّابُ، وَهُمُ اللُّصُوصُ، وَإِنَّا نُشْهِدُكُمْ أَنَّا قَدْ
خَلَعْنَاهُ.
وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ فَقَالَ:
جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا بَنِيَّ
هَؤُلَاءِ لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ، وَقَدْ أَعْطَانِي وَأَكْرَمَنِي
وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ عَطَاءَهُ إِلَّا لِأَتَقَوَّى بِهِ.
فَخَلَعَهُ النَّاسُ وَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ
الْغَسِيلِ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ وَوَلَّوْهُ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى ابْنِ
زِيَادٍ فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ صَدِيقَ زِيَادٍ،
فَأَتَاهُ كِتَابُ يَزِيدَ حَيْثُ بَلَغَهُ أَمْرُ الْمَدِينَةِ
يَأْمُرُهُ بِحَبْسِ الْمُنْذِرِ، فَكَرِهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَيْفُهُ
وَصَدِيقُ أَبِيهِ، فَدَعَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ
لَهُ: إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدِي فَقُمْ وَقُلِ ائْذَنْ لِي
لِأَنْصَرِفَ إِلَى بِلَادِي، فَإِذَا قُلْتُ بَلْ أَقِمْ عِنْدِي
فَلَكَ الْكَرَامَةُ وَالْمُوَاسَاةُ، فَقُلْ إِنَّ لِي ضَيْعَةً
وَشُغْلًا وَلَا أَجِدُ بُدًّا لِي مِنْ الِانْصِرَافِ، فَإِنِّي آذَنُ
لَكَ فِي الِانْصِرَافِ فَتَلْحَقُ بِأَهْلِكَ.
فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ فَعَلَ الْمُنْذِرُ
ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِي الِانْصِرَافِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ،
فَكَانَ مِمَّنْ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى يَزِيدَ، وَقَالَ: إِنَّهُ
قَدْ أَجَازَنِي بِمِائَةِ أَلْفٍ وَلَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ بِي
أَنْ أُخْبِرَكُمْ خَبَرَهُ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَشْرَبُ الْخَمْرَ،
وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَسْكَرُ حَتَّى يَدَعَ الصَّلَاةَ! وَعَابَهُ
بِمِثْلِ مَا عَابَهُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَأَشَدَّ.
فَبَعَثَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ
لَهُ: إِنَّ عَدَدَ النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ قَوْمُكَ، فَإِنَّهُمْ مَا
يَمْنَعُهُمْ شَيْءٌ عَمَّا يُرِيدُونَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ
يَنْهَضُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ لَمْ يَجْتَرِئِ النَّاسُ عَلَى
(خِلَافِي) .
فَأَقْبَلَ النُّعْمَانُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ
الطَّاعَةِ وَخَوَّفَهُمُ الْفِتْنَةَ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَا
طَاقَةَ لَكُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْعَدَوِيُّ: يَا نُعْمَانُ مَا
يَحْمِلُكَ عَلَى فَسَادِ مَا أَصْلَحَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِنَا
وَتَفْرِيقِ جَمَاعَتِنَا؟ فَقَالَ النُّعْمَانُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي
بِكَ لَوْ نَزَلَ بِكَ الْجُمُوعُ وَقَامَتْ لَكَ عَلَى الرُّكَبِ
تَضْرِبُ مَفَارِقَ الْقَوْمِ وَجِبَاهَهُمْ بِالسَّيْفِ وَدَارَتْ
رَحَا الْمَوْتِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ رَكِبْتَ بَغْلَتَكَ إِلَى
مَكَّةَ وَخَلَّفْتَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ،
(3/204)
يَعْنِي الْأَنْصَارَ، يُقْتَلُونَ فِي
سِكَكِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ وَعَلَى أَبْوَابِ دُورِهِمْ.
فَعَصَاهُ النَّاسُ وَانْصَرَفَ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ.
ذِكْرُ وِلَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ إِفْرِيقِيَّةَ ثَانِيَةً
وَمَا افْتَتَحَهُ فِيهَا وَقَتْلِهِ
قَدْ ذَكَرْنَا عَزْلَ عُقْبَةَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ وَعَوْدَهُ إِلَى
الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَعَدَهُ بِإِعَادَتِهِ
إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَتُوُفِّي مُعَاوِيَةُ وَعُقْبَةُ فِي
الشَّامِ، فَاسْتَعْمَلَهُ يَزِيدُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، فَوَصَلَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ
مُجِدًّا، وَقَبَضَ أَبَا الْمُهَاجِرِ أَمِيرَهَا وَأَوْثَقَهُ فِي
الْحَدِيدِ وَتَرَكَ بِالْقَيْرَوَانِ جُنْدًا مَعَ الذَّرَارِيِّ
وَالْأَمْوَالِ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا زُهَيْرَ بْنَ قَيْسٍ
الْبَلَوِيَّ، وَأَحْضَرَ أَوْلَادَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ
بِعْتُ نَفْسِي مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا أَزَالُ أُجَاهِدُ
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ. وَأَوْصَى بِمَا يُفْعَلُ بَعْدَهُ.
ثُمَّ سَارَ فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ حَتَّى دَخَلَ مَدِينَةَ بَاغَايَةَ،
وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ، فَقَاتَلُوهُ
قِتَالًا شَدِيدًا وَانْهَزَمُوا عَنْهُ وَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا
ذَرِيعًا وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَدَخَلَ
الْمُنْهَزِمُونَ الْمَدِينَةَ وَحَاصَرَهُمْ عُقْبَةُ.
ثُمَّ كَرِهَ الْمُقَامَ عَلَيْهِمْ فَسَارَ إِلَى بِلَادِ الزَّابِ،
وَهِيَ بِلَادٌ وَاسِعَةٌ فِيهَا عِدَّةُ مُدُنٍ وَقُرًى كَثِيرَةٌ،
فَقَصَدَ مَدِينَتَهَا الْعُظْمَى وَاسْمُهَا أَرَبَةُ، فَامْتَنَعَ
بِهَا مَنْ هُنَاكَ مِنَ الرُّومِ وَالنَّصَارَى، وَهَرَبَ بَعْضُهُمْ
إِلَى الْجِبَالِ، فَاقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ
مِنَ النَّصَارَى عِدَّةَ دَفَعَاتٍ ثُمَّ انْهَزَمَ النَّصَارَى
وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ، (وَرَحَلَ إِلَى تَاهَرْتَ) .
فَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ خَبَرُهُ اسْتَعَانُوا بِالْبَرْبَرِ
فَأَجَابُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ، فَاجْتَمَعُوا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ
وَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ
(3/205)
تَعَالَى نَصَرَهُمْ فَانْهَزَمَتِ
الرُّومُ وَالْبَرْبَرُ وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ وَكَثُرَ فِيهِمُ
الْقَتْلُ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ.
ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى طَنْجَةَ فَلَقِيَهُ بِطْرِيقٌ مِنَ
الرُّومِ اسْمُهُ يَلْيَانُ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً حَسَنَةً
وَنَزَلَ عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْأَنْدَلُسِ فَعَظُمَ
الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْبَرْبَرِ، فَقَالَ: هُمْ
كَثِيرُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ بِالسُّوسِ
الْأَدْنَى، وَهُمْ كُفَّارٌ لَمْ يَدْخُلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ
وَلَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ.
فَسَارَ عُقْبَةُ إِلَيْهِمْ نَحْوَ السُّوسِ الْأَدْنَى، وَهِيَ
مَغْرِبُ طَنْجَةَ، فَانْتَهَى إِلَى أَوَائِلِ الْبَرْبَرِ،
فَلَقَوْهُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا
وَبَعَثَ خَيْلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ هَرَبُوا إِلَيْهِ، وَسَارَ هُوَ
حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّوسِ الْأَقْصَى، وَقَدِ اجْتَمَعَ لَهُ
الْبَرْبَرُ فِي عَالَمٍ لَا يُحْصَى، فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ
وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ حَتَّى مَلُّوا
وَغَنِمُوا مِنْهُمْ وَسَبَوْا سَبْيًا كَثِيرًا، وَسَارَ حَتَّى
بَلَغَ مَالِيَانَ وَرَأَى الْبَحْرَ الْمُحِيطَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ
لَوْلَا هَذَا الْبَحْرُ لَمَضَيْتُ فِي الْبِلَادِ مُجَاهِدًا فِي
سَبِيلِكَ.
ثُمَّ عَادَ فَنَفَرَ الرُّومُ وَالْبَرْبَرُ عَنْ طَرِيقِهِ خَوْفًا
مِنْهُ، وَاجْتَازَ بِمَكَانٍ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِمَاءِ الْفَرَسِ
فَنَزَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مَاءٌ، فَلَحِقَ النَّاسَ عَطَشٌ
كَثِيرٌ أَشْرَفُوا [مِنْهُ] عَلَى الْهَلَاكِ، فَصَلَّى عُقْبَةُ
رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا (فَبَحَثَ فَرَسٌ لَهُ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ
فَكَشَفَ لَهُ عَنْ صَفَاةٍ) فَانْفَجَرَ الْمَاءُ، فَنَادَى عُقْبَةُ
فِي النَّاسِ فَحَفَرُوا أَحْسَاءَ كَثِيرَةً وَشَرِبُوا، فَسُمِّيَ
مَاءَ الْفَرَسِ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ طُبْنَةَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْقَيْرَوَانِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ
يَتَقَدَّمُوا فَوْجًا فَوْجًا ثِقَةً مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنَ
الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يُبْقِ أَحَدًا يَخْشَاهُ، وَسَارَ إِلَى
تَهُوذَةَ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَلَمَّا رَآهُ
الرُّومُ فِي قِلَّةٍ طَمِعُوا فِيهِ فَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ
وَشَتَمُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ
فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ.
(3/206)
ذِكْرُ خُرُوجِ كُسَيْلَةَ بْنِ لَمْزَمَ
الْبَرْبَرِيِّ عَلَى عُقْبَةَ
هَذَا كُسَيْلَةُ بْنُ لَمْزَمَ الْبَرْبَرِيُّ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ
لَمَّا وَلِيَ أَبُو الْمُهَاجِرِ إِفْرِيقِيَّةَ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْبَرْبَرِ وَأَبْعَدِهِمْ
صَوْتًا، وَصَحِبَ أَبَا الْمُهَاجِرِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُقْبَةُ
عَرَّفَهُ أَبُو الْمُهَاجِرِ مَحَلَّ كُسَيْلَةَ وَأَمَرَهُ
بِحِفْظِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَأَتَى عُقْبَةُ
بِغَنَمٍ فَأَمَرَ كُسَيْلَةَ بِذَبْحِهَا وَسَلْخِهَا مَعَ
السَّلَّاخِينَ.
فَقَالَ كُسَيْلَةُ: هَؤُلَاءِ فِتْيَانِي وَغِلْمَانِي يَكْفُونَنِي
الْمُئُونَةَ.
فَشَتَمَهُ وَأَمَرَهُ بِسَلْخِهَا، فَفَعَلَ، فَقَبَّحَ أَبُو
الْمُهَاجِرِ هَذَا عِنْدَ عُقْبَةَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَقَالَ لَهُ:
أَوْثِقِ الرَّجُلَ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهُ! فَتَهَاوَنَ
بِهِ عُقْبَةُ.
فَأَضْمَرَ كُسَيْلَةُ الْغَدْرَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ وَرَأَى
الرُّومُ قِلَّةَ مَنْ مَعَ عُقْبَةَ أَرْسَلُوا إِلَى كُسَيْلَةَ
وَأَعْلَمُوهُ حَالَهُ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِ عُقْبَةَ مُضْمِرًا
لِلْغَدْرِ، وَقَدْ أَعْلَمَ الرُّومَ ذَلِكَ وَأَطْمَعَهُمْ.
فَلَمَّا رَاسَلُوهُ أَظْهَرَ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ وَجَمَعَ أَهْلَهُ
وَبَنِي عَمِّهِ وَقَصَدَ عُقْبَةَ، فَقَالَ أَبُو الْمُهَاجِرِ:
عَاجِلْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى جَمْعُهُ.
وَكَانَ أَبُو الْمُهَاجِرِ مُوَثَّقًا فِي الْحَدِيدِ مَعَ عُقْبَةَ.
فَزَحَفَ عُقْبَةُ إِلَى كُسَيْلَةَ، فَتَنَحَّى كُسَيْلَةُ عَنْ
طَرِيقِهِ لِيَكْثُرَ جَمْعُهُ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو الْمُهَاجِرِ
ذَلِكَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ:
كَفَى حَزَنًا أَنْ تُمْرَغَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَأُتْرَكَ
مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا
إِذَا قُمْتُ عَنَّانِي الْحَدِيدُ وَأُغْلِقَتْ ... مَصَارِعُ مَنْ
دُونِي تُصِمُّ الْمُنَادِيَا
فَبَلَغَ عُقْبَةُ ذَلِكَ فَأَطْلَقَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْحَقْ
بِالْمُسْلِمِينَ وَقُمْ بِأَمْرِهِمْ وَأَنَا أَغْتَنِمُ
الشَّهَادَةَ. فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا أُرِيدُ
الشَّهَادَةَ.
فَكَسَّرَ عُقْبَةُ وَالْمُسْلِمُونَ أَجْفَانَ سُيُوفِهِمْ
وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْبَرْبَرِ وَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ
الْمُسْلِمُونَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُسِرَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ،
فَخَلَّصَهُمْ صَاحِبُ قَفْصَةَ وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْقَيْرَوَانِ.
فَعَزَمَ زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ الْبَلَوِيُّ عَلَى الْقِتَالِ،
فَخَالَفَهُ حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ وَعَادَ إِلَى
(3/207)
مِصْرَ، فَتَبِعَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ،
فَاضْطَرَّ زُهَيْرٌ إِلَى الْعَوْدِ مَعَهُمْ، فَسَارَ إِلَى بَرْقَةَ
وَأَقَامَ بِهَا.
وَأَمَّا كُسَيْلَةُ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ
إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَصَدَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَبِهَا أَصْحَابُ
الْأَنْفَالِ وَالذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَبُوا
الْأَمَانَ مِنْ كُسَيْلَةَ فَآمَنَهُمْ وَدَخَلَ الْقَيْرَوَانَ
وَاسْتَوْلَى عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ قَوِيَ
أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَاسْتَعْمَلَ عَلَى
إِفْرِيقِيَّةَ زُهَيْرَ بْنَ قَيْسٍ الْبَلَوِيَّ، وَكَانَ مُقِيمًا
بِبَرْقَةَ مُرَابِطًا.
ذِكْرُ وِلَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ إِفْرِيقِيَّةَ وَقَتْلِهِ
وَقَتْلِ كُسَيْلَةَ
لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ
بِالْقَيْرَوَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ
(بِإِنْفَاذِ الْجُيُوشِ إِلَى) إِفْرِيقِيَّةَ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ،
فَكَتَبَ إِلَى زُهَيْرِ بْنِ قَيْسٍ الْبَلَوِيِّ بِوِلَايَةَ
إِفْرِيقِيَّةَ وَجَهَّزَ لَهُ جَيْشًا كَثِيرًا، فَسَارَ سَنَةَ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ.
فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى كُسَيْلَةَ، فَاحْتَفَلَ وَجَمَعَ وَحَشَدَ
الْبَرْبَرَ وَالرُّومَ وَأَحْضَرَ أَشْرَافَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ:
قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرْحَلَ إِلَى مَمْشَ فَأَنْزِلَهَا فَإِنَّ
بِالْقَيْرَوَانِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ
عَلَيْنَا عَهْدٌ فَلَا نَغْدِرُ بِهِمْ وَنَخَافُ إِنْ قَاتَلْنَا
زُهَيْرًا (أَنْ يَثِبَ هَؤُلَاءِ مِنْ وَرَائِنَا، فَإِذَا نَزَلْنَا
مَمْشَ أَمِنَّاهُمْ وَقَاتَلْنَا زُهَيْرًا) ، فَإِنْ ظَفِرْنَا
بِهِمْ تَبِعْنَاهُمْ إِلَى طَرَابُلْسَ وَقَطَعْنَا أَثَرَهُمْ مِنْ
إِفْرِيقِيَّةَ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِنَا تَعَلَّقْنَا بِالْجِبَالِ
وَنَجَوْنَا.
فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ إِلَى مَمْشَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ
زُهَيْرًا فَلَمْ يَدْخُلِ الْقَيْرَوَانَ بَلْ أَقَامَ ظَاهِرَهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَرَاحَ وَاسْتَرَاحَ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِ
كُسَيْلَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهُ نَزَلَ وَعَبَّى أَصْحَابَهُ وَرَكِبَ
إِلَيْهِ، فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ
الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، حَتَّى أَيِسَ النَّاسُ مِنَ
الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ أَكْثَرَ النَّهَارِ، ثُمَّ
نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ كُسَيْلَةُ وَأَصْحَابُهُ
وَقُتِلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ بِمَمْشَ،
وَتَبِعَ الْمُسْلِمُونَ الْبَرْبَرَ وَالرُّومَ فَقَتَلُوا مَنْ
أَدْرَكُوا مِنْهُمْ فَأَكْثَرُوا، وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ذَهَبَ
رِجَالُ الْبَرْبَرِ وَالرُّومِ وَمُلُوكُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ،
وَعَادَ زُهَيْرٌ إِلَى
(3/208)
الْقَيْرَوَانِ.
ثُمَّ إِنَّ زُهَيْرًا رَأَى بِإِفْرِيقِيَّةَ مُلْكًا عَظِيمًا
فَأَبَى أَنْ يُقِيمَ وَقَالَ: إِنَّمَا قَدِمْتُ لِلْجِهَادِ
فَأَخَافُ أَنْ أَمِيلَ إِلَى الدُّنْيَا فَأَهْلِكَ.
وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، فَتَرَكَ بِالْقَيْرَوَانِ عَسْكَرًا
وَهُمْ آمِنُونَ لِخُلُوِّ الْبِلَادِ مِنْ عَدْوٍ (أَوْ ذِي)
شَوْكَةٍ، وَرَحَلَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلَى مِصْرَ.
وَكَانَ قَدْ بَلَغَ الرُّومَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَسِيرُ
زُهَيْرٍ مِنْ بَرْقَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ لِقِتَالِ كُسَيْلَةَ،
فَاغْتَنَمُوا خُلُوَّهَا فَخَرَجُوا إِلَيْهَا فِي مَرَاكِبَ
كَثِيرَةٍ وَقُوَّةٍ قَوِيَّةٍ مِنْ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ وَأَغَارُوا
عَلَى بَرْقَةَ، فَأَصَابُوا مِنْهَا سَبْيًا كَثِيرًا، وَقَتَلُوا
وَنَهَبُوا، وَوَافَقَ ذَلِكَ قُدُومَ زُهَيْرٍ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ
إِلَى بَرْقَةَ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَأَمَرَ الْعَسْكَرَ
بِالسُّرْعَةِ وَالْجِدِّ فِي قِتَالِهِمْ، وَرَحَلَ هُوَ وَمَنْ
مَعَهُ، وَكَانَ الرُّومُ خَلْقًا كَثِيرًا، فَلَمَّا رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ اسْتَغَاثُوا بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ
وَبَاشَرَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ
وَتَكَاثَرَ الرُّومُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا زُهَيْرًا وَأَصْحَابَهُ
وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَعَادَ الرُّومُ بِمَا غَنِمُوا إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِقَتْلِ زُهَيْرٍ
عَظُمَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ ثُمَّ سَيَّرَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ
حَسَّانَ بْنَ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيَّ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ وِلَايَةَ زُهَيْرٍ وَقَتْلَهُ سَنَةَ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَا هُنَا لِيَتَّصِلَ
خَبَرُ كُسَيْلَةَ وَمَقْتَلُهُ، فَإِنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ
وَإِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهَا.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
وَفِيهَا وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ وَالِدُ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ.
(3/209)
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الْهَاشِمِيُّ،
وَلَهُ صُحْبَةٌ.
وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهُ لَمَّا
مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ
سِنِينَ.
وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ، وَقِيلَ تُوُفِّيَ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ.
(مُخَلَّدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ،
وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا) .
(3/210)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ]
63 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ
كَانَ أَوَّلُ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْعِ يَزِيدَ،
فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ أَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَامِلَ يَزِيدَ
وَحَصَرُوا بَنِي أُمَيَّةَ (بَعْدَ بَيْعَتِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
حَنْظَلَةَ، فَاجْتَمَعَ بَنُو أُمَيَّةَ) وَمَوَالِيهِمْ وَمَنْ يَرَى
رَأْيَهُمْ فِي أَلْفِ رَجُلٍ حَتَّى نَزَلُوا دَارَ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ، فَكَتَبُوا إِلَى يَزِيدَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ، فَقَدِمَ
الرَّسُولُ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ وَقَدْ وَضَعَ
قَدَمَيْهِ فِي طَشْتٍ فِيهِ مَاءٌ لِنَقْرَسٍ كَانَ بِهِمَا، فَلَمَّا
قَرَأَ الْكِتَابَ تَمَثَّلَ:
لَقَدْ بَدَّلُوا الْحِلْمَ الَّذِي فِي سَجِيَّتِي ... فَبَدَّلْتُ
قَوْمِي غِلْظَةً بِلِيَانِ
ثُمَّ قَالَ: أَمَا يَكُونُ بَنُو أُمَيَّةَ أَلْفَ رَجُلٍ؟ فَقَالَ
الرَّسُولُ: بَلَى وَاللَّهِ وَأَكْثَرُ.
قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُقَاتِلُوا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ!
فَبَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: قَدْ
كُنْتُ ضَبَطْتُ لَكَ الْأُمُورَ وَالْبِلَادَ، فَأَمَّا الْآنَ إِذْ
صَارَتْ دِمَاءُ قُرَيْشٍ تُهْرَقُ بِالصَّعِيدِ فَلَا أُحِبُّ أَنْ
أَتَوَلَّى ذَلِكَ.
(3/211)
وَبَعَثَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمُحَاصَرَةِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا جَمَعْتَهُمَا
لِلْفَاسِقِ، قَتْلَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ وَغَزْوَ الْكَعْبَةِ.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْتَذِرُ.
فَبَعَثَ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرِّيِّ، وَهُوَ الَّذِي
سُمِّيَ مُسْرِفًا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَرِيضٌ، فَأَخْبَرَهُ
الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَمَا يَكُونُ بَنُو أُمَيَّةَ أَلْفَ رَجُلٍ؟
فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى.
قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُقَاتِلُوا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ!
لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِأَهْلٍ أَنْ يُنْصَرُوا فَإِنَّهُمُ الْأَذِلَّاءُ،
دَعْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُجْهِدُوا أَنْفُسَهُمْ
فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَتَبَيَّنَ لَكَ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى
طَاعَتِكَ وَمَنْ يَسْتَسْلِمُ.
قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ،
فَاخْرُجْ بِالنَّاسِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِيَزِيدَ: إِنَّ لَكَ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ
عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ.
فَلَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَمَرَ مُسْلِمًا بِالْمَسِيرِ
إِلَيْهِمْ، فَنَادَى فِي النَّاسِ بِالتَّجَهُّزِ إِلَى الْحِجَازِ
وَأَنْ يَأْخُذُوا عَطَاءَهُمْ وَمَعُونَةً مِائَةَ دِينَارٍ،
فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَخَرَجَ يَزِيدُ
يَعْرِضُهُمْ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا مُتَنَكِّبٌ قَوْسًا
عَرَبِيَّةً، وَهُوَ يَقُولُ:
أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا اللَّيْلُ سَرَى ... وَهَبَطَ الْقَوْمُ
عَلَى وَادِي الْقُرَى
أَجَمْعَ سَكْرَانَ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى ... أَمْ جَمْعَ يَقْظَانَ
نَفَى عَنْهُ الْكَرَى
يَا عَجَبًا مِنْ مُلْحِدٍ يَا عَجَبَا ... مُخَادِعٍ بِالدِّينِ
يَعْفُو بِالْعَرَى
وَسَارَ الْجَيْشُ وَعَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِنْ
حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ فَاسْتَخْلِفِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ
السَّكُونِيَّ، وَقَالَ لَهُ: ادْعُ الْقَوْمَ ثَلَاثًا، فَإِنْ
أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَقَاتِلْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ
فَانْهَبْهَا ثَلَاثًا، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ دَابَّةٍ
أَوْ سِلَاحٍ أَوْ طَعَامٍ فَهُوَ لِلْجُنْدِ، فَإِذَا مَضَتِ
الثَّلَاثُ فَاكْفُفْ عَنِ النَّاسِ، وَانْظُرْ عَلِيَّ بْنَ
الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ
لَمْ يَدْخُلْ مَعَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتَانِي كِتَابُهُ.
وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا
أَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَامِلَ يَزِيدَ وَبَنِي أُمَيَّةَ فِي
أَنْ يُغَيِّبَ أَهْلَهُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَكَلَّمَ عَلِيَّ
بْنَ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي حُرَمًا
(3/212)
وَحُرَمِي تَكُونُ مَعَ حُرَمِكَ.
فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَبَعَثَ بِامْرَأَتِهِ، وَهِيَ عَائِشَةُ ابْنَةُ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَحُرَمُهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ،
فَخَرَجَ عَلِيٌّ بِحُرَمِهِ وَحُرَمِ مَرْوَانَ إِلَى يَنْبُعَ،
وَقِيلَ: بَلْ أَرْسَلَ حُرَمَ مَرْوَانَ وَأَرْسَلَ مَعَهُمُ ابْنَهُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى الطَّائِفِ.
وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ
سَيَّرَ الْجُنُودَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: لَيْتَ السَّمَاءَ
وَقَعَتْ عَلَى الْأَرْضِ، إِعْظَامًا لِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ ابْتُلِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ وَجَّهَ الْحَجَّاجَ
فَحَصَرَ مَكَّةَ وَرَمَى الْكَعْبَةَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَقَتَلَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ.
وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ أَقْبَلَ بِالْجَيْشِ فَبَلَغَ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ خَبَرَهُمْ، فَاشْتَدَّ حِصَارُهُمْ لِبَنِي أُمَيَّةَ
بِدَارِ مَرْوَانَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَكُفُّ عَنْكُمْ حَتَّى
نَسْتَنْزِلَكُمْ وَنَضْرِبَ أَعْنَاقَكُمْ أَوْ تُعْطُونَا عَهْدَ
اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنْ لَا تَبْغُونَا غَائِلَةً، وَلَا تَدُلُّوا
لَنَا عَلَى عَوْرَةٍ، وَلَا تُظَاهِرُوا عَلَيْنَا عَدُوًّا،
فَنَكُفَّ عَنْكُمْ وَنُخْرِجَكُمْ عَنَّا فَعَاهَدُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ
فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ.
وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ جَعَلُوا فِي كُلِّ مَنْهَلٍ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ زِقًّا مِنْ قَطْرَانٍ وَعُوَّرٍ،
فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ
حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ.
فَلَمَّا أَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَنِي أُمَيَّةَ سَارُوا
بِأَثْقَالِهِمْ حَتَّى لَقُوا مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بِوَادِي
الْقُرَى فَدَعَا بِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَوَّلِ
النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: خَبِّرْنِي مَا وَرَاءَكَ وَأَشِرْ عَلَيَّ،
فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَدْ أُخِذَ عَلَيْنَا الْعُهُودُ
وَالْمَوَاثِيقُ أَنْ لَا نَدُلَّ عَلَى عَوْرَةٍ وَلَا نُظَاهِرَ
عَدُوَّنَا.
فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ ابْنَ عُثْمَانَ
لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، وَايْمُ اللَّهِ (لَا أُقِيلُهَا قُرَشِيًّا)
بَعْدَكَ! فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ،
فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لِابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ: ادْخُلْ
قَبْلِي لَعَلَّهُ يَجْتَزِئُ بِكَ عَنِّي.
فَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَقَالَ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ.
فَقَالَ: نَعَمْ، أَرَى أَنْ تَسِيرَ بِمَنْ مَعَكَ، فَإِذَا
انْتَهَيْتَ إِلَى ذِي نَخْلَةٍ نَزَلْتَ، فَاسْتَظَلَّ النَّاسُ فِي
ظِلِّهِ فَأَكَلُوا مِنْ صَقْرِهِ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ مِنَ الْغَدِ
مَضَيْتَ وَتَرَكْتَ الْمَدِينَةَ ذَاتَ الْيَسَارِ ثُمَّ دُرْتَ بِهَا
حَتَّى تَأْتِيَهُمْ مِنْ قِبَلِ الْحَرَّةِ مُشَرِّقًا ثُمَّ
تَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ، فَإِذَا اسْتَقْبَلْتَهُمْ وَقَدْ أَشْرَقَتْ
عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ طَلَعْتَ بَيْنَ أَكْتَافِ أَصْحَابِكَ فَلَا
تُؤْذِيهِمْ وَيُصِيبُهُمْ أَذَاهَا وَيَرَوْنَ مِنِ ائْتِلَافِ
بَيْضِكُمْ وَأَسِنَّةِ رِمَاحِكُمْ وَسُيُوفِكُمْ وَدُرُوعِكُمْ مَا
لَا تَرَوْنَهُ أَنْتُمْ مَا دَامُوا مُغَرِّبِينَ، ثُمَّ قَاتِلْهُمْ
وَاسْتَعِنِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ.
(3/213)
فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: لِلَّهِ أَبُوكَ
أَيَّ امْرِئٍ وَلَدَ!
ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِيهِ! فَقَالَ:
أَلَيْسَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ عَبْدُ الْمَلِكِ؟ قَالَ: بَلَى،
وَأَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ الْمَلِكِ! قَلَّ مَا كَلَّمْتُ مِنْ رِجَالِ
قُرَيْشٍ رَجُلًا بِهِ شَبِيهًا.
فَقَالَ مَرْوَانُ: إِذَا لَقِيتَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَقَدْ لَقِيتَنِي.
ثُمَّ (إِنَّهُ صَارَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَصْنَعُ) مَا أَمَرَ بِهِ
عَبْدُ الْمَلِكِ، فَجَاءَهُمْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ
دَعَاهُمْ مُسْلِمٌ فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزْعُمُ
أَنَّكُمُ الْأَصْلُ، وَإِنِّي أَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ،
وَإِنِّي أُؤَجِّلُكُمْ ثَلَاثًا، فَمَنِ ارْعَوَى وَرَاجَعَ الْحَقَّ
قَبِلْنَا مِنْهُ وَانْصَرَفْتُ عَنْكُمْ وَسِرْتُ إِلَى هَذَا
الْمَحَلِّ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ كُنَّا قَدْ
أَعْذَرْنَا إِلَيْكُمْ.
فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَا
تَصْنَعُونَ، أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟
فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.
فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا بَلِ ادْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ
وَنَجْعَلُ جِدَّنَا وَشَوْكَتَنَا عَلَى أَهْلِ هَذَا الْمُلْحِدِ
الَّذِي قَدْ جَمَعَ إِلَيْهِ الْمُرَّاقَ وَالْفُسَّاقَ مِنْ كُلِّ
أَوْبٍ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالُوا لَهُ: يَا أَعْدَاءَ
اللَّهِ لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَجُوزُوا إِلَيْهِ مَا تَرَكْنَاكُمْ،
نَحْنُ نَدَعُكُمْ أَنْ تَأْتُوا بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ
فَتُخِيفُوا أَهْلَهُ وَتُلْحِدُوا فِيهِ وَتَسْتَحِلُّوا حُرْمَتَهُ؟
! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ.
وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدِ اتَّخَذُوا خَنْدَقًا وَعَلَيْهِ
جَمْعٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زُهَيْرِ
بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ عَلَى رُبُعٍ آخَرَ،
وَهُمْ قُرَيْشٌ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَعْقِلُ بْنُ
سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَلَى رُبُعٍ
آخَرَ، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَانَ أَمِيرُ جَمَاعَتِهِمْ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ الْأَنْصَارِيَّ فِي أَعْظَمِ
تِلْكَ الْأَرْبَاعِ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ.
وَصَمَدَ مُسْلِمٌ فِيمَنْ مَعَهُ، فَأَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ
الْحَرَّةِ حَتَّى ضَرَبَ فُسْطَاطَهُ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ،
وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَمَرَ فَوُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ بَيْنَ
الصَّفَّيْنِ وَقَالَ يَا أَهْلَ الشَّامِ قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ
وَادْعُوا. فَأَخَذُوا لَا يَقْصِدُونَ رُبُعًا مِنْ تِلْكَ
الْأَرْبَاعِ إِلَّا هَزَمُوهُ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخَيْلَ نَحْوَ ابْنِ
الْغَسِيلِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْغَسِيلِ فِيمَنْ مَعَهُ
فَكَشَفَهُمْ، فَانْتَهَوْا إِلَى مُسْلِمٍ، فَنَهَضَ فِي وُجُوهِهِمْ
بِالرِّجَالِ وَصَاحَ بِهِمْ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا.
(3/214)
ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَاءَ إِلَى ابْنِ
الْغَسِيلِ فَقَاتَلَ مَعَهُ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا
قِتَالًا حَسَنًا، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ الْغَسِيلِ: مَنْ كَانَ مَعَكَ
فَارِسًا فَلْيَأْتِنِي فَلْيَقِفْ مَعِي، فَإِذَا حَمَلْتُ
فَلْيَحْمِلُوا، فَوَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَبْلَغَ مُسْلِمًا
فَأَقْتُلَهُ أَوْ أُقْتَلَ دُونَهُ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ وَجَمَعَ الْخَيْلَ إِلَيْهِ، فَحَمَلَ بِهِمُ
الْفَضْلُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَانْكَشَفُوا، فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ: احْمِلُوا أُخْرَى جُعِلْتُ فَدَاكُمْ، فَوَاللَّهِ
لَئِنْ عَايَنْتُ أَمِيرَهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُ أَوْ أُقْتَلَ دُونَهُ.
إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الصَّبْرِ إِلَّا النَّصْرُ! ثُمَّ حَمَلَ
وَحَمَلَ أَصْحَابُهُ، فَانْفَرَجْتُ خَيْلُ الشَّامِ عَنْ مُسْلِمِ
بْنِ عُقْبَةَ وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ رَاجِلٍ جُثَاةٌ عَلَى
الرُّكَبِ مُشَرِّعِي الْأَسِنَّةِ نَحْوَ الْقَوْمِ، وَمَضَى
الْفَضْلُ كَمَا هُوَ نَحْوَ رَايَةِ مُسْلِمٍ فَضَرَبَ رَأْسَ
صَاحِبِهَا، فَقَطَّ الْمِغْفَرَ وَفَلَقَ هَامَتَهُ وَخَرَّ مَيِّتًا،
وَقَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! وَظَنَّ
أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَ: قَتَلْتُ طَاغِيَةَ الْقَوْمِ وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ! فَقَالَ: أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ!
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ غُلَامًا رُومِيًّا وَكَانَ شُجَاعًا،
فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رَايَتَهُ وَحَرَّضَ أَهْلَ الشَّامِ وَقَالَ:
شُدُّوا مَعَ هَذِهِ الرَّايَةِ.
فَمَشَى بِرَايَتِهِ وَشَدَّتْ تِلْكَ الرِّجَالُ أَمَامَ الرَّايَةِ،
فَصُرِعَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، فَقُتِلَ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَطْنَابِ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ إِلَّا نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ
أَذْرُعٍ، وَقُتِلَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ.
وَأَقْبَلَتْ خَيْلُ مُسْلِمٍ وَرَجَّالَتُهُ نَحْوَ ابْنِ الْغَسِيلِ،
وَهُوَ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ وَيَذُمُّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
وَيُقَدِّمُ الْخَيْلَ إِلَى ابْنِ الْغَسِيلِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ
تَقْدَمْ عَلَيْهِمْ لِلرِّمَاحِ الَّتِي بِأَيْدِهِمْ وَالسُّيُوفِ،
وَكَانَتْ تَتَفَرَّقُ عَنْهُمْ، فَنَادَى مُسْلِمٌ الْحُصَيْنَ بْنَ
نُمَيْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِضَاهٍ الْأَشْعَرِيَّ وَأَمَرَهُمَا
أَنْ يَنْزِلَا فِي جُنْدِهِمَا، فَفَعَلَا وَتَقَدَّمَا إِلَيْهِمْ،
فَقَالَ ابْنُ الْغَسِيلِ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدْ
أَصَابَ وَجْهَ الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلَكُمْ
بِهِ، وَإِنِّي قَدْ ظَنَنْتُ أَلَّا يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً حَتَّى
يَفْصِلَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ إِمَّا لَكُمْ وَإِمَّا
عَلَيْكُمْ، أَمَا إِنَّكُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ
وَمَا أَظُنُّ أَنَّ رَبَّكُمْ أَصْبَحَ عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ
بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضَى مِنْهُ عَنْكُمْ، وَلَا عَلَى
أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الْعَرَبِ بِأَسْخَطَ مِنْهُ عَلَى
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْكُمْ مِيتَةً هُوَ مَيِّتٌ بِهَا لَا مَحَالَةَ، وَوَاللَّهِ مَا
مِنْ مِيتَةٍ أَفْضَلُ مِنْ مَيْتَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ سَاقَهَا
اللَّهُ إِلَيْكُمْ فَاغْتِنَمُوهَا.
(3/215)
ثُمَّ دَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
فَأَخَذَ أَهْلُ الشَّامِ يَرْمُونَهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَالَ ابْنُ
الْغَسِيلِ لِأَصْحَابِهِ: عَلَامَ تُسْتَهْدَفُونَ لَهُمْ! مَنْ
أَرَادَ التَّعْجِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ هَذِهِ
الرَّايَةَ.
فَقَالَ إِلَيْهِ كُلُّ مُسْتَمِيتٍ فَنَهَضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رُؤِيَ لِأَهْلِ هَذَا الْقِتَالِ،
وَأَخَذَ ابْنُ الْغَسِيلِ يُقَدِّمُ بَنِيهِ وَاحِدًا وَاحِدًا،
حَتَّى قُتِلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَضْرِبُ بِسَيْفِهِ وَيَقُولُ:
بُعْدًا لِمَنْ رَامَ الْفَسَادَ وَطَغَى ... وَجَانَبَ الْحَقَّ
وَآيَاتِ الْهُدَى
لَا يُبْعِدُ الرَّحْمَنُ إِلَّا مَنْ عَصَى
ثُمَّ قُتِلَ وَقُتِلَ مَعَهُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ
الدَّيْلَمَ قَتَلُونِي مَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ! وَقُتِلَ مَعَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ. فَمَرَّ بِهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ
فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! رُبَّ سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكُ تُطِيلُ
الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جَنْبِهَا.
وَانْهَزَمَ النَّاسُ، وَكَانَ فِيمَنِ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بَعْدَمَا أَبْلَى.
وَأَبَاحَ مُسْلِمٌ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا يَقْتُلُونَ النَّاسَ
وَيَأْخُذُونَ الْمَتَاعَ وَالْأَمْوَالَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ مَنْ
بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ.
فَخَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حَتَّى دَخَلَ فِي كَهْفِ
الْجَبَلِ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، (فَاقْتَحَمَ
عَلَيْهِ الْغَارَ، فَانْتَضَى أَبُو سَعِيدٍ سَيْفَهُ يُخَوِّفُ بِهِ
الشَّامِيَّ) ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ عَنْهُ، فَعَادَ أَبُو سَعِيدٍ
وَأَغْمَدَ سَيْفَهُ وَقَالَ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ.
فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
قَالَ: صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-؟ قَالَ: نَعَمْ. فَتَرَكَهُ وَمَضَى.
وَقِيلَ: إِنَّ مُسْلِمًا لَمَّا نَزَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ (خَرَجَ
إِلَيْهِ أَهْلُهَا) بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ،
فَهَابَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَكَرِهُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَلَمَّا
رَآهُمْ مُسْلِمٌ، وَكَانَ شَدِيدَ الْوَجَعِ، سَبَّهُمْ وَذَمَّهُمْ
وَحَرَّضَهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ.
(3/216)
فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ
سَمِعُوا تَكْبِيرًا مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ
سَبَبُهُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ أَدْخَلُوا أَهْلَ الشَّامِ
الْمَدِينَةَ فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي
الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ.
وَدَعَا مُسْلِمٌ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ عَلَى
أَنَّهُمْ خَوَلٌ لَهُ يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ مَنْ شَاءَ، فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَتَلَهُ،
وَطَلَبَ الْأَمَانَ لِيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ الْأَسْوَدِ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ
حُذَيْفَةَ، وَلِمَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ، فَأُتِيَ
بِهِمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِيَوْمٍ، فَقَالَ: بَايِعُوا عَلَى
الشَّرْطِ.
فَقَالَ الْقُرَشِيَّانِ: نُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ. فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا.
فَقَالَ مَرْوَانُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَتَقْتُلُ رَجُلَيْنِ مِنْ
قُرَيْشٍ أَتَيَا بِأَمَانٍ؟ فَطَعَنَ بِخَاصِرَتِهِ بِالْقَضِيبِ،
فَقَالَ: وَأَنْتَ وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ بِمَقَالَتِهِمَا
لَقَتَلْتُكَ!
وَجَاءَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ فَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ فَدَعَا
بِشَرَابٍ لِيُسْقَى، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: أَيُّ الشَّرَابِ أَحَبُّ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْعَسَلُ.
قَالَ: اسْقُوهُ، فَشَرِبَ حَتَّى ارْتَوَى، فَقَالَ لَهُ: أَرَوِيتَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: وَاللَّهِ لَا تَشْرَبُ بَعْدَهَا شَرْبَةً إِلَّا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ.
فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ! فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ
الَّذِي لَقِيتَنِي بِطَبَرِيَّةَ لَيْلَةَ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِ
يَزِيدَ فَقُلْتَ: سِرْنَا شَهْرًا، وَرَجَعْنَا شَهْرًا،
وَأَصْبَحْنَا صِفْرًا، نَرْجِعُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَخْلَعُ هَذَا
الْفَاسِقَ ابْنَ الْفَاسِقِ وَنُبَايِعُ لِرَجُلٍ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ (أَوِ الْأَنْصَارِ فِيمَ غَطَفَانُ وَأَشْجَعُ مِنَ
الْخَلْقِ وَالْخِلَافَةِ! إِنَّنِي آلَيْتُ بِيَمِينٍ لَا أَلْقَاكَ
فِي حَرْبٍ أَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى قَتْلِكَ إِلَّا فَعَلْتُ) .
ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.
وَأُتِيَ بِيَزِيدَ بْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ.
قَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
قَالَ: اقْتُلُوهُ.
قَالَ: أَنَا أُبَايِعُكَ! قَالَ: لَا وَاللَّهِ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ
مَرْوَانُ لِصِهْرٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، (فَأَمَرَ بِمَرْوَانَ
فُوُجِئَتْ عُنُقُهُ) ثُمَّ قُتِلَ يَزِيدُ.
ثُمَّ أَتَى مَرْوَانُ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، (فَجَاءَ يَمْشِي
بَيْنَ مَرْوَانَ وَابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ) حَتَّى جَلَسَ
بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ، فَدَعَا مَرْوَانُ بِشَرَابٍ لِيَتَحَرَّمَ
بِذَلِكَ [مِنْ مُسْلِمٍ] ، فَشَرِبَ مِنْهُ يَسِيرًا
(3/217)
ثُمَّ نَاوَلَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ،
فَلَمَّا وَقَعَ فِي يَدِهِ قَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: لَا تَشْرَبْ مِنْ
شَرَابِنَا! فَارْتَعَدَتْ كَفُّهُ وَلَمْ يَأْمَنْهُ عَلَى نَفْسِهِ
وَأَمْسَكَ الْقَدَحَ، فَقَالَ لَهُ: أَجِئْتَ تَمَشِّي بَيْنَ
هَؤُلَاءِ لِتَأْمَنَ عِنْدِي؟ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ إِلَيْهِمَا
أَمْرٌ لَقَتَلْتُكَ! وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي
بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ كَاتَبْتَهُ، فَإِنْ شِئْتَ فَاشْرَبْ.
فَشَرِبَ ثُمَّ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ ثُمَّ قَالَ لَهُ:
لَعَلَّ أَهْلَكَ فَزِعُوا؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ.
فَأَمَرَ بِدَابَّةٍ فَأُسْرِجَتْ لَهُ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا فَرُدَّ
وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِالْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ عَلَى مَا شَرَطَ عَلَى
أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَأُحْضِرَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ لِيُبَايِعَ،
فَقَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ السَّكُونِيُّ: لَا يُبَايِعُ ابْنُ
أُخْتِنَا إِلَّا كَبَيْعَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ
أُمُّ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كِنْدِيَّةً، فَقَامَتْ كِنْدَةُ
مَعَ الْحُصَيْنِ، فَتَرَكَهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَبِي الْعَبَّاسُ قَرْمُ بَنِي قُصَيٍّ ... وَأَخْوَالِي الْمُلُوكُ
بَنُو وَلِيعَهْ
هُمُ مَنَعُوا ذِمَارِي يَوْمَ جَاءَتْ ... كَتَائِبُ مُسْرِفٍ وَبَنُو
اللَّكِيعَهْ
أَرَادُونِي الَّتِي لَا عِزَّ فِيهَا ... فَحَالَتْ دُونَهُ أَيْدٌ
سَرِيعَهْ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ مُسْرِفٌ: مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ
سُمِّي بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ مُسْرِفًا، وَبَنُو وَلَيْعَةَ
بَطْنٌ مِنْ كِنْدَةَ، مِنْهُمْ أُمُّهُ، وَاللَّكِيعَةُ أُمُّ
أُمِّهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمْ يَكُنْ
فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى
مُسْلِمٍ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا:
لَا.
قَالَ: هَذَا الْخَبِيثُ ابْنُ الطَّيِّبِ، هَذَا عَمْرُو بْنُ
عُثْمَانَ، هِيهِ يَا عَمْرُو إِذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قُلْتَ
أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الشَّامِ قُلْتَ أَنَا
ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ.
فَأَمَرَ بِهِ فَنُتِفَتْ لِحْيَتُهُ، (ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ
الشَّامِ إِنَّ أُمَّ هَذَا كَانَتْ تُدْخِلُ الْجُعَلَ فِي فِيهَا
ثُمَّ تَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَاجَيْتُكَ مَا فِي فَمِي؟
وَفِي فَمِهَا مَا شَاهَا وَبَاهَا، وَكَانَتْ مِنْ دَوْسٍ) ثُمَّ
خَلَّى سَبِيلَهُ.
(3/218)
وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ: قَدِمْتُ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ
فَقَالَ لِي رَجُلٌ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ: خَبِيثَةٌ.
فَقُلْتُ: يُسَمِّيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - طَيْبَةَ وَتُسَمِّيهَا خَبِيثَةً! فَقَالَ: إِنَّ لِي
وَلَهَا لَشَأْنًا، لَمَّا خَرَجَ النَّاسُ إِلَى وَقْعَةِ الْحَرَّةِ
رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا اسْمُهُ مُحَمَّدٌ
أَدْخُلُ بِقَتْلِهِ النَّارَ، فَاجْتَهَدْتُ فِي أَنِّي لَا أَسِيرُ
مَعَهُمْ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنِّي، فَسِرْتُ مَعَهُمْ وَلَمْ أُقَاتِلْ
حَتَّى انْقَضَتِ الْوَقْعَةُ، فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فِي الْقَتْلَى
بِهِ رَمَقٌ فَقَالَ: تَنَحَّ يَا كَلْبُ! فَأَنِفْتُ مِنْ كَلَامِهِ
وَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ رُؤْيَايَ فَجِئْتُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ يَتَصَفَّحُ الْقَتْلَى، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَ
الَّذِي قَتَلْتُهُ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، لَا يَدْخُلُ قَاتِلُ هَذَا
الْجَنَّةَ.
قُلْتُ: وَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ،
فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُونَنِي فَلَمْ
يَفْعَلُوا، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ فَلَمْ يَأْخُذُوا.
وَمِمَّنْ قُتِلَ بِالْحَرَّةِ عَبْدُ اللَّهِ (بْنُ عَاصِمٍ
الْأَنْصَارِيُّ، وَلَيْسَ بِصَاحِبِ الْأَذَانِ، ذَاكَ) ابْنُ زَيْدِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ.
وَقُتِلَ أَيْضًا فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ (بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَوْهَبٍ.
وَوَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ.
وَزُبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ) بْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ
الْكُوفِيُّ الزَّاهِدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَكَانَ يُسَمَّى يَوْمَئِذٍ الْعَائِذُ، وَيَرَوْنَ
(3/219)
الْأَمْرَ شُورَى، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ
بِوَقْعَةِ الْحَرَّةِ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ مَعَ [سَعِيدٍ مَوْلَى]
الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، (فَجَاءَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَاسْتَعَدَّ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَعَرَفُوا) أَنَّ مُسْلِمًا نَازِلٌ بِهِمْ.
(3/220)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ]
64 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ مَسِيرِ مُسْلِمٍ لِحِصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَوْتِهِ
فَلَمَّا فَرَغَ مُسْلِمٌ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَنَهْبِهَا، شَخَصَ بِمَنْ مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ يُرِيدُ ابْنَ
الزُّبَيْرِ وَمَنْ مَعَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَوْحَ
بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، وَقِيلَ: اسْتَخْلَفَ عَمْرَو بْنَ
مَخْرَمَةَ الْأَشْجَعِيَّ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمُشَلَّلِ
نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: مَاتَ بِثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَلَمَّا
حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَحْضَرَ الْحُصَيْنَ بْنَ النُّمَيْرِ وَقَالَ:
يَا بْنَ بَرْذَعَةِ الْحِمَارِ! لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيَّ مَا
وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجُنْدَ، وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَلَّاكَ.
خُذْ عَنِّي أَرْبَعًا: اسْرِعِ السَّيْرَ، وَعَجِّلِ الْمُنَاجَزَةَ،
وَعَمِّ الْأَخْبَارَ، وَلَا تُمَكِّنْ قُرَشِيًّا مِنْ أُذُنِكَ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَعْمَلْ قَطُّ بَعْدَ شَهَادَةِ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ قَتْلِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ
وَلَا أَرْجَى عِنْدِي فِي الْآخِرَةِ.
فَلَمَّا مَاتَ سَارَ الْحُصَيْنُ بِالنَّاسِ فَقَدِمَ مَكَّةَ
لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَقَدْ بَايَعَ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَحِقَ بِهِ الْمُنْهَزِمُونَ
مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ
الْحَنَفِيُّ فِي النَّاسِ مِنَ الْخَوَارِجِ يَمْنَعُونَ الْبَيْتَ،
وَخَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى لِقَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَمَعَهُ
أَخُوهُ الْمُنْذِرُ، فَبَارَزَ الْمُنْذِرُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ، فَضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ضَرْبَةً مَاتَ
مِنْهَا، ثُمَّ حَمَلَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً انْكَشَفَ
مِنْهَا أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَثَرَتْ بَغْلَةُ عَبْدِ اللَّهِ
فَقَالَ: تَعْسًا! ثُمَّ
(3/221)
نَزَلَ فَصَاحَ بِأَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ
إِلَيْهِ الْمِسْوِرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا جَمِيعًا،
وَضَارَبَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفُوا
عَنْهُ.
هَذَا فِي الْحَصْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَيْهِ
يُقَاتِلُونَهُ بَقِيَّةَ الْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ كُلَّهُ حَتَّى إِذَا
مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ رَمَوُا الْبَيْتَ بِالْمَجَانِيقِ وَحَرَقُوهُ
بِالنَّارِ وَأَخَذُوا يَرْتَجِزُونَ وَيَقُولُونَ:
خَطَّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ ... نَرْمِي بِهَا أَعْوَادَ
هَذَا الْمَسْجِدِ
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَعْبَةَ احْتَرَقَتْ مِنْ نَارٍ كَانَ يُوقِدُهَا
أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَأَقْبَلَتْ شَرَرَةٌ
هَبَّتْ بِهَا الرِّيحُ فَاحْتَرَقَتْ ثِيَابُ الْكَعْبَةِ وَاحْتَرَقَ
خَشَبُ الْبَيْتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، (لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ
ذَكَرَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَرَكَ الْكَعْبَةَ
لِيَرَاهَا النَّاسُ مُحْتَرِقَةً يُحَرِّضُهُمْ عَلَى أَهْلِ
الشَّامِ) .
وَأَقَامَ أَهْلُ الشَّامِ يُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَتَّى
بَلَغَهُمْ نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ
الْآخَرِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
بِحُوَّارِينَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ
شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً
(فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقِيلَ: تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ) ، وَقِيلَ:
ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَأُمُّهُ مَيْسُونُ بِنْتُ بِحَدْلِ بْنِ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيَّةُ.
(3/222)
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مُعَاوِيَةُ،
وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو لَيْلَى، وَهُوَ
الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ، وَخَالِدٌ وَيُكْنَى أَبَا هَاشِمٍ،
وَيُقَالُ إِنَّهُ أَصَابَ عَمَلَ الْكِيمْيَا، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ
لِأَحَدٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ [أَبِي
هَاشِمِ بْنِ] عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَلَهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يَزِيدَ، كَانَ أَرَمَى الْعَرَبِ، وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، (وَهُوَ الْأُسْوَارُ، وَعَبْدُ اللَّهِ
الْأَصْغَرُ وَعُمَرُ) وَأَبُو بَكْرٍ وَعُتْبَةُ وَحَرْبٌ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ لِأُمَّهَاتٍ شَتًّى.
ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ وَأَخْبَارِهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْعُتْبِيُّ:
نَظَرَ مُعَاوِيَةُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ ابْنَةُ قَرَظَةَ إِلَى
يَزِيدَ وَأُمُّهُ تُرَجِّلُهُ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْهُ قَبَّلَتْهُ،
فَقَالَتِ ابْنَةُ قَرَظَةَ: لَعَنَ اللَّهُ سَوَادَ سَاقَيْ أُمِّكِ!
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا وَاللَّهِ لَمَّا تَفَرَّجَتْ عَنْهُ
وِرْكَاهَا خَيْرٌ مِمَّا تَفَرَّجَتْ عَنْهُ وِرْكَاكِ! وَكَانَ
لِمُعَاوِيَةَ مِنِ ابْنَةِ قَرَظَةَ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ
أَحْمَقَ، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّكَ تُؤْثِرُ هَذَا.
فَقَالَ: سَوْفَ أُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: أَيْ بُنِيَّ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ
أُعْطِيَكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَلَسْتَ بِسَائِلٍ شَيْئًا إِلَّا
أَجَبْتُكَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْتَرِيَ لِي كَلْبًا
فَارِهًا وَحِمَارًا. فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ حِمَارٌ
وَأَشْتَرِي لَكَ حِمَارًا! قُمْ فَاخْرُجْ.
ثُمَّ أَحْضَرَ يَزِيدَ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ لِأَخِيهِ،
فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ
وَأَرَاهُ فِيَّ هَذَا الرَّأْيِ، حَاجَتِي أَنْ تُعْتِقَنِي مِنَ
النَّارِ لِأَنَّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، فَتَعْقِدَ لِيَ الْعَهْدَ
بِعْدَكَ، وَتُوَلِّيَنِي الْعَامَ الصَّائِفَةَ، وَتَأْذَنَ لِي فِي
الْحَجِّ إِذَا رَجَعْتُ، وَتُوَلِّيَنِي الْمَوْسِمَ، وَتَزِيدَ
لِأَهْلِ الشَّامِ كُلَّ رَجُلٍ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، (وَتَفْرِضَ
لِأَيْتَامِ بَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ لِأَنَّهُمْ
حُلَفَائِي) .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ، وَقَبَّلَ وَجْهَهُ.
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ ابْنَةِ قَرَظَةَ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ قَالَتْ:
أَوْصِهِ بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَفَعَلَ.
(3/223)
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ سُبَيْنَةَ: حَجَّ
يَزِيدُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَدِينَةَ جَلَسَ
عَلَى شَرَابٍ لَهُ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحُسَيْنُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنْ وَجَدَ رِيحَ
الشَّرَابِ (عَرَفَهُ، فَحَجَبَهُ وَأَذِنَ لِلْحُسَيْنِ، فَلَمَّا
دَخَلَ وَجَدَ رَائِحَةَ الشَّرَابِ) مَعَ الطِّيبِ فَقَالَ: لِلَّهِ
دَرُّ طِيبِكَ مَا أَطْيَبَهُ! فَمَا هَذَا؟ قَالَ: هُوَ طِيبٌ
يُصْنَعُ بِالشَّامِ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ دَعَا
بِآخِرٍ فَقَالَ: اسْقِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: عَلَيْكَ شَرَابَكَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا
عَيْنَ عَلَيْكَ مِنِّي، فَقَالَ يَزِيدُ:
أَلَا يَا صَاحِ لِلْعَجَبْ ... دَعْوَتُكَ وَلَمْ تُجِبْ
إِلَى الْفَتَيَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ... وَالصَّهْبَاءِ وَالطَّرَبْ
بَاطِيَةٌ مُكَلَّلَهْ ... عَلَيْهَا سَادَةُ الْعَرَبْ
وَفِيهِنَّ الَّتِي تَبِلَتْ ... فُؤَادَكَ ثُمَّ لَمْ تَثِبْ
فَنَهَضَ الْحُسَيْنُ وَقَالَ: بَلْ فُؤَادُكَ يَا ابْنَ مُعَاوِيَةَ
تَبِلَتْ.
وَقَالَ شَفِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ ثَارَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَدَعَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى
بَيْعَتِهِ، فَامْتَنَعَ وَظَنَّ يَزِيدُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ تَمَسُّكٌ
مِنْهُ بِبَيْعَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ
بَلَغَنِي أَنَّ الْمُلْحِدَ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَعَاكَ إِلَى
بَيْعَتِهِ وَأَنَّكَ اعْتَصَمْتَ بِبَيْعَتِنَا وَفَاءً مِنْكَ لَنَا،
فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ ذِي رَحِمٍ خَيْرَ مَا يَجْزِي الْوَاصِلِينَ
لِأَرْحَامِهِمُ الْمُوفِينَ بِعُهُودِهِمْ، فَمَا أَنْسَ مِنَ
الْأَشْيَاءِ فَلَسْتُ بِنَاسٍ بِرَّكَ وَتَعْجِيلَ صِلَتِكَ بِالَّذِي
أَنْتَ لَهُ أَهْلٌ، فَانْظُرْ مَنْ طَلَعَ عَلَيْكَ مِنَ الْآفَاقِ
مِمَّنْ سَحَرَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِلِسَانِهِ فَأَعْلِمْهُمْ
بِحَالِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْكَ أَسْمَعُ النَّاسِ وَلَكَ أَطْوَعُ
مِنْهُمْ لِلْمُحِلِّ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَاءَنِي
كِتَابُكَ، فَأَمَّا تَرْكِي بَيْعَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَوَاللَّهِ
مَا أَرْجُو بِذَلِكَ بِرَّكَ وَلَا حَمْدَكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
بِالَّذِي أَنْوِي عَلِيمٌ، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَاسٍ بِرِّي،
فَاحْبِسْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بِرَّكَ عَنِّي فَإِنِّي حَابِسٌ
عَنْكَ بِرِّي، وَسَأَلْتَ أَنْ أُحَبِّبَ النَّاسَ إِلَيْكَ
وَأُبَغِّضَهُمْ وَأُخَذِّلَهُمْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَا وَلَا
سُرُورَ وَلَا كَرَامَةَ، كَيْفَ وَقَدْ قَتَلْتَ حُسَيْنًا
وَفِتْيَانَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَصَابِيحَ الْهُدَى وَنُجُومَ
الْأَعْلَامِ غَادَرَتْهُمْ خُيُولُكَ بِأَمْرِكَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
مُرَمَّلِينَ بِالدِّمَاءِ، مَسْلُوبِينَ بِالْعَرَاءِ، (مَقْتُولِينَ
بِالظِّمَاءِ، لَا مُكَفَّنِينَ وَلَا
(3/224)
مُوَسَّدِينَ) ، تَسْفِي عَلَيْهِمُ
الرِّيَاحُ، وَيَنْشَى بِهِمْ عَرْجُ الْبِطَاحِ، حَتَّى أَتَاحَ
اللَّهُ بِقَوْمٍ لَمْ يُشْرَكُوا فِي دِمَائِهِمْ كَفَّنُوهُمْ
وَأَجَنُّوهُمْ، وَبِي وَبِهِمْ لَوْ عَزَزْتَ وَجَلَسْتَ مَجْلِسَكَ
الَّذِي جَلَسْتَ، فَمَا أَنَسَ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَسْتُ بِنَاسٍ
اطِّرَادَكَ حُسَيْنًا مِنْ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى حَرَمِ اللَّهِ، وَتَسْيِيرَكَ الْخُيُولَ
إِلَيْهِ، فَمَا زِلْتَ بِذَلِكَ حَتَّى أَشْخَصْتَهُ إِلَى
الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَنَزَلَتْ بِهِ خَيْلُكَ
عَدَاوَةً مِنْكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ
أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا،
فَطَلَبَ إِلَيْكُمُ الْمُوَادَعَةَ وَسَأَلَكُمُ الرَّجْعَةَ،
فَاغْتَنَمْتُمْ قِلَّةَ أَنْصَارِهِ وَاسْتِئْصَالَ أَهْلِ بَيْتِهِ
وَتَعَاوَنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَنَّكُمْ قَتَلْتُمْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ
الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، فَلَا شَيْءَ أَعْجَبُ عِنْدِي مِنْ طِلَبْتِكَ
وُدِّي وَقَدْ قَتَلْتَ وَلَدَ أَبِي وَسَيْفُكَ يَقْطُرُ مِنْ دَمِيَ
وَأَنْتَ أَحَدُ ثَأْرِي وَلَا يُعْجِبُكَ أَنْ ظَفِرْتَ بِنَا
الْيَوْمَ فَلَنَظْفَرَنَّ بِكَ يَوْمًا، وَالسَّلَامُ.
(قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ، وَقَدْ جَرَى عِنْدَهُ ذِكْرُ
يَزِيدَ: أَنَا لَا أُكَفِّرُ يَزِيدَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ
لَا يُسَلِّطَ عَلَى بَنِيَّ أَحَدًا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِي
ذَلِكَ) .
ذِكْرُ بَيْعَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ
بِالْخِلَافَةِ بِالشَّامِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
بِالْحِجَازِ، وَلَمَّا هَلَكَ يَزِيدُ بَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْحُصَيْنُ
بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسْكَرِ الشَّامِ، وَكَانَ
الْحِصَارُ قَدِ اشْتَدَّ مِنَ الشَّامِيِّينَ عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَنَادَاهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَهْلُ مَكَّةَ:
عَلَامَ تُقَاتِلُونَ وَقَدْ هَلَكَ طَاغِيَتُكُمْ؟ فَلَمْ
يُصَدِّقُوهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَ الْحُصَيْنَ خَبَرُ مَوْتِهِ بَعَثَ إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَوْعِدُ مَا بَيْنَنَا اللَّيْلَةَ الْأَبْطَحِ،
فَالْتَقَيَا وَتَحَادَثَا، فَرَاثَ فَرَسُ الْحُصَيْنِ، فَجَاءَ
حَمَامُ الْحَرَمِ يَلْتَقِطُ رَوْثَ الْفَرَسِ، فَكَفَّ الْحُصَيْنُ
فَرَسَهُ عَنْهُنَّ وَقَالَ: أَخَافَ أَنْ يَقْتُلَ فَرَسِي حَمَامَ
الْحَرَمِ.
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَتَحَرَّجُونَ مِنْ هَذَا وَأَنْتُمْ
تَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ؟ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُ
الْحُصَيْنُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ، هَلُمَّ
فَلْنُبَايِعْكَ ثُمَّ اخْرُجْ مَعَنَا إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّ هَذَا
الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعِي هُمْ وُجُوهُ الشَّامِ وَفُرْسَانُهُمْ،
فَوَاللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ وَتُؤَمِّنُ النَّاسَ
وَتُهْدِرُ هَذِهِ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ
وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرَمِ.
فَقَالَ لَهُ: أَنَا لَا أُهْدِرُ الدِّمَاءَ، وَاللَّهِ لَا
(3/225)
أَرْضَى أَنْ أَقْتُلَ بِكُلِّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ عِشْرَةً مِنْكُمْ.
وَأَخْذَ الْحُصَيْنُ يُكَلِّمُهُ سِرًّا، وَهُوَ يَجْهَرُ وَيَقُولُ:
وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ.
فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَعُدُّكَ بَعْدُ
(دَاهِيًا وَأَرِيبًا) قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ لَكَ رَأْيًا،
وَأَنَا أُكَلِّمُكَ سِرًّا وَتُكَلِّمُنِي جَهْرًا، وَأَدْعُوكَ إِلَى
الْخِلَافَةِ (وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ إِلَّا) الْقَتْلَ وَالْهَلَكَةَ.
ثُمَّ فَارَقَهُ وَرَحَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ،
وَنَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَا صَنَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ:
أَمَّا الْمَسِيرُ إِلَى الشَّامِ فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنْ بَايِعُوا
لِي هُنَاكَ فَإِنِّي مُؤَمِّنُكُمْ وَعَادِلٌ فِيكُمْ.
فَقَالَ الْحُصَيْنُ: إِنْ لَمْ تَقْدَمْ بِنَفْسِكَ لَا يَتِمُّ
الْأَمْرُ، فَإِنَّ هُنَاكَ نَاسًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يَطْلُبُونَ
هَذَا الْأَمْرَ.
وَسَارَ الْحُصَيْنُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاجْتَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَكَانَ لَا يَنْفَرِدُ مِنْهُمْ
أَحَدٌ إِلَّا أُخِذَتْ دَابَّتُهُ، فَلَمْ يَتَفَرَّقُوا، وَخَرَجَ
مَعَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَلَوْ
خَرَجَ مَعَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
فَوَصَلَ أَهْلُ الشَّامِ دِمَشْقَ وَقَدْ بُويِعَ مُعَاوِيَةُ بْنُ
يَزِيدَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى هَلَكَ،
وَقِيلَ: بَلْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمَاتَ.
وَعُمُرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ إِمَارَتِهِ أَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ
جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي ضَعُفْتُ عَنْ أَمْرِكُمْ
فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ
اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَابْتَغَيْتُ سِتَّةً
مِثْلَ [سِتَّةِ] الشُّورَى فَلَمْ أَجِدْهُمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى
بِأَمْرِكُمْ فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ أَحْبَبْتُمْ.
ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ مَسْمُومًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ
عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ أَصَابَهُ الطَّاعُونُ مِنْ
يَوْمِهِ فَمَاتَ أَيْضًا، وَقِيلَ: لَمْ يَمُتْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ
أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِالنَّاسِ حَتَّى
يَقُومَ لَهُمْ خَلِيفَةٌ، وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: لَوِ اسْتَخْلَفْتَ؟
فَقَالَ: لَا أَتَزَوَّدُ مَرَارَتَهَا وَأَتْرُكُ لِبَنِي أُمَيَّةَ
حَلَاوَتَهَا.
(3/226)
ذِكْرُ حَالِ ابْنِ زِيَادٍ بَعْدَ مَوْتِ
يَزِيدَ
لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَأَتَى الْخَبَرُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ
مَعَ مَوْلَاهُ حُمْرَانَ، وَكَانَ رَسُولُهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ إِلَى يَزِيدَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ
الْخَبَرُ أَسَرَّهُ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي
الشَّامِ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ
النَّاسُ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَنَعَى يَزِيدَ (وَثَلَّبَهُ، فَقَالَ
الْأَحْنَفُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِيَزِيدَ فِي أَعْنَاقِنَا
بَيْعَةٌ، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَعْرَضَ عَنْ ذِي فَنَنٍ،
وَأَعْرَضَ عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ) ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ
الْبَصْرَةِ إِنَّ مُهَاجِرَنَا إِلَيْكُمْ وَدَارَنَا فِيكُمْ،
وَمَوْلِدِي فِيكُمْ، وَلَقَدْ وَلِيتُكُمْ وَمَا يُحْصِي دِيوَانُ
مُقَاتَلَتِكُمْ إِلَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَلَقَدْ أَحْصَى الْيَوْمَ
مِائَةَ أَلْفٍ، وَمَا كَانَ يُحْصَى دِيوَانُ عُمَّالِكُمْ إِلَّا
تِسْعِينَ أَلْفًا، وَلَقَدْ أَحْصَى الْيَوْمَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ
أَلْفًا، وَمَا تَرَكْتُ لَكُمْ ذَا ظِنَّةٍ أَخَافُهُ عَلَيْكُمْ
إِلَّا وَهُوَ فِي سِجْنِكُمْ، وَإِنَّ يَزِيدَ قَدْ تُوُفِّيَ وَقَدِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ بِالشَّامِ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ النَّاسِ
عَدَدًا وَأَعْرَضُهُمْ فَنَاءً وَأَغْنَاهُمْ عَنِ النَّاسِ
وَأَوْسَعُهُمْ بِلَادًا، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ رَجُلًا
تَرْضَوْنَهُ لِدِينِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمْ، فَأَنَا أَوَّلُ رَاضٍ مَنْ
رَضِيتُمُوهُ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى رَجُلٍ
تَرْضَوْنَهُ لِدِينِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمْ دَخَلْتُمْ فِيمَا دَخَلَ
فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ عَلَى
جَدِيلَتِكُمْ حَتَّى تُعْطُوا حَاجَتَكُمْ، فَمَا بِكُمْ إِلَى أَحَدٍ
مِنْ أَهْلِ الْبُلْدَانِ حَاجَةٌ وَلَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ
عَنْكُمْ.
فَقَامَ خُطَبَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا
مَقَالَتَكَ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَقْوَى عَلَيْهَا مِنْكَ،
فَهَلُمَّ فَلْنُبَايِعْكَ.
فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ.
فَكَرَّرُوا عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا، ثُمَّ بَسَطَ
يَدَهُ فَبَايَعُوهُ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَمَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ
بِالْحِيطَانِ وَقَالُوا: أَيُظَنُّ ابْنُ مَرْجَانَةَ أَنَّنَا
نَنْقَادُ لَهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرْقَةِ!
فَلَمَّا بَايَعُوهُ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ عَمْرِو
بْنِ مِسْمَعٍ وَسَعْدِ بْنِ الْقَرْحَاءِ التَّمِيمِيِّ يُعْلِمُ
أَهْلَ الْكُوفَةِ مَا صَنَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى
الْبَيْعَةِ لَهُ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى الْكُوفَةِ،
(3/227)
وَكَانَ خَلِيفَتُهُ عَلَيْهَا عَمْرُو
بْنُ حُرَيْثٍ، جَمَعَ النَّاسَ وَقَامَ الرَّسُولَانِ فَخَطَبَا
أَهْلَ الْكُوفَةِ وَذَكَرَا لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَامَ يَزِيدُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ ابْنُ رُوَيْمٍ،
فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَنَا مِنِ ابْنِ سُمَيَّةَ!
أَنَحْنُ نُبَايِعُهُ؟ لَا وَلَا كَرَامَةَ! وَحَصَبَهُمَا أَوَّلَ
النَّاسِ ثُمَّ حَصَبَهُمَا النَّاسُ بَعْدَهُ، فَشَرَّفَتْ تِلْكَ
الْفَعْلَةُ يَزِيدَ بْنَ رُوَيْمٍ فِي الْكُوفَةِ وَرَفَعَتْهُ.
وَرَجَعَ الرَّسُولَانِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَعْلَمَاهُ الْحَالَ،
فَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: أَيَخْلَعُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ
وَنُوَلِّيهِ نَحْنُ! فَضَعُفَ سُلْطَانُهُ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ
يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَلَا يُقْضَى، وَيَرَى الرَّأْيَ فَيُرَدُّ
عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُ بِحَبْسِ الْمُخْطِئِ فَيُحَالُ بَيْنَ
أَعْوَانِهِ وَبَيْنَهُ.
ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْبَصْرَةِ سَلَمَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْحَنْظَلِيُّ
التَّمِيمِيُّ فَوَقَفَ فِي السُّوقِ وَبِيَدِهِ لِوَاءٌ وَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَيَّ، إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا
لَمْ يَدْعُكُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَائِذِ
بِالْحَرَمِ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ.
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ وَجَعَلُوا يُصَفِّقُونَ عَلَى يَدَيْهِ
يُبَايِعُونَهُ.
فَبَلَغَ الْخَبَرُ ابْنَ زِيَادٍ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ
وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرَهُ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى مَنْ
يَرْتَضُونَهُ، فَبَايَعَهُ مِنْهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَنَّهُمْ
أَبَوْا غَيْرَهُ، وَقَالَ: إِنِّي بَلَغَنِي أَنَّكُمْ مَسَحْتُمْ
أَكُفَّكُمْ بِالْحِيطَانِ وَبَابِ الدَّارِ وَقُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ،
وَإِنِّي آمِرٌ بِالْأَمْرِ فَلَا يَنْفُذُ وَيُرَدُّ عَلَيَّ رَأْيِي
وَيُحَالُ بَيْنَ أَعْوَانِي وَبَيْنَ طِلْبَتِي، ثُمَّ إِنَّ هَذَا
سَلَمَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ يَدْعُو إِلَى الْخِلَافِ عَلَيْكُمْ
لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ وَيَضْرِبَ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ
بِالسَّيْفِ.
فَقَالَ الْأَحْنَفُ وَالنَّاسُ: نَحْنُ نَأْتِيكَ بِسَلَمَةَ،
فَأَتَوْهُ بِسَلَمَةَ فَإِذَا جَمْعُهُ قَدْ كُثِفَ وَالْفَتْقُ قَدِ
اتَّسَعَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَعَدُوا عَنِ ابْنِ زِيَادٍ فَلَمْ
يَأْتُوهُ.
فَدَعَا عُبَيْدُ اللَّهِ رُؤَسَاءَ مُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ
وَأَرَادَهُمْ لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ، قَالُوا: إِنْ أَمَرَنَا
فُؤَادُنَا فَعَلْنَا.
فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: مَا مِنْ خَلِيفَةٍ فَتُقَاتِلُ عَنْهُ
فَإِنْ هُزِمْتَ رَجَعْتَ إِلَيْهِ فَأَمَدَّكَ، وَلَعَلَّ الْحَرْبَ
تَكُونُ عَلَيْكَ (وَقَدِ اتَّخَذْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ
أَمْوَالًا) فَإِنْ ظَفِرُوا بِنَا أَهْلَكُونَا وَأَهْلَكُوهَا فَلَمْ
تَبْقَ لَكَ بَقِيَّةٌ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
صَهْبَاءَ الْجَهْضَمِيِّ الْأَزْدِيِّ فَأَحْضَرَهُ، وَقَالَ لَهُ:
يَا حَارِثُ إِنَّ أَبِي أَوْصَانِي أَنِّي إِنِ احْتَجْتُ إِلَى
الْهَرَبِ يَوْمًا أَنْ أَخْتَارَكُمْ.
فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنْ قُومِي قَدِ اخْتَبَرُوا أَبَاكَ، فَلَمْ
يَجِدُوا عِنْدَهُ مَكَانًا، وَلَا عِنْدَكَ مُكَافَأَةً، وَلَا
أَرُدُّكَ
(3/228)
إِذَا اخْتَرْتَنَا، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ
أَمَانِي لَكَ، إِنْ أَخْرَجْتُكَ نَهَارًا أَخَافُ أَنْ تُقْتَلَ
وَأُقْتَلَ، وَلَكِنِّي أُقِيمُ مَعَكَ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ
أُرْدِفُكَ خَلْفِي لِئَلَّا تُعْرَفَ.
فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ.
فَأَقَامَ عِنْدَهُ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ حَمَلَهُ خَلْفَهُ.
وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَفَرَّقَ
ابْنُ زِيَادٍ بَعْضَهَا فِي مَوَالِيهِ وَادَّخَرَ الْبَاقِي فَبَقِيَ
لِآلِ زِيَادٍ.
وَسَارَ الْحَارِثُ بِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَكَانَ يَمُرُّ
بِهِ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَحَارَسُونَ مَخَافَةَ الْحَرُورِيَّةِ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ يَسْأَلُهُ: أَيْنَ نَحْنُ؟ وَالْحَارِثُ
يُخْبِرُهُ، فَلَمَّا كَانُوا فِي بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: أَيْنَ
نَحْنُ؟ قَالَ: فِي بَنِي سُلَيْمٍ.
قَالَ: سَلِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَمَّا أَتَى بَنِي نَاجِيَةَ قَالَ: أَيْنَ نَحْنُ؟ قَالَ: فِي
بَنِي نَاجِيَةَ. قَالَ: نَجَوْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَقَالَ بَنُو نَاجِيَةَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ،
وَكَانَ يَعْرِفُ رَجُلٌ مِنْهُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ
مَرْجَانَةَ! وَأَرْسَلَ سَهْمًا فَوَقَعَ فِي عِمَامَتِهِ.
وَمَضَى بِهِ الْحَارِثُ فَأَنْزَلَهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ فِي
الْجَهَاضِمِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: يَا حَارِثُ إِنَّكَ
أَحْسَنْتَ فَاصْنَعْ مَا أُشِيرُ بِهِ عَلَيْكَ، قَدْ عَلِمْتَ
مَنْزِلَةَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْمِهِ وَشَرَفِهِ وَسِنَّهُ
وَطَاعَةَ قَوْمِهِ لَهُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَذْهَبَ بِي إِلَيْهِ
فَأَكُونَ فِي دَارِهِ فَهِيَ فِي وَسَطِ الْأَزْدِ، فَإِنَّكَ إِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فُرِّقَ عَلَيْكَ أَمْرُ قَوْمِكَ.
فَأَخَذَهُ الْحَارِثُ فَدَخَلَا عَلَى مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ
وَهُوَ جَالِسٌ يُصْلِحُ خُفًّا لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمَا عَرَفَهُمَا
فَقَالَ الْحَارِثُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرٍّ طَرَقْتَنِي بِهِ!
قَالَ: مَا طَرَقْتُكَ إِلَّا بِخَيْرٍ، (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ قَوْمَكَ
أَنْجَوْا زِيَادًا وَوَفَوْا لَهُ فَصَارَتْ مَكْرَمَةً يَفْتَخِرُونَ
بِهَا عَلَى الْعَرَبِ) ، وَقَدْ بَايَعْتُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ
بَيْعَةَ الرِّضَى عَنْ مَشُورَةٍ وَبَيْعَةٍ أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ،
يَعْنِي بَيْعَةَ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ مَسْعُودٌ: أَتُرَى لَنَا أَنْ نُعَادِيَ أَهْلَ مِصْرِنَا فِي
عُبَيْدِ اللَّهِ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ أَبِيهِ مُكَافَأَةً وَلَا
شُكْرًا فِيمَا صَنَعْنَا مَعَهُ؟ قَالَ الْحَارِثُ: إِنَّهُ لَا
يُعَادِيكَ أَحَدٌ عَلَى الْوَفَاءِ عَلَى بَيْعَتِكَ حَتَّى
تُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ، أَفَتُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِكَ بَعْدَمَا
دَخَلَهُ عَلَيْكَ؟
وَأَمَرَهُ مَسْعُودٌ فَدَخَلَ بَيْتَ أَخِيهِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ
عَمْرٍو، ثُمَّ رَكِبَ مَسْعُودٌ مِنْ لَيْلَتِهِ وَمَعَهُ الْحَارِثُ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَطَافُوا فِي الْأَزْدِ فَقَالُوا: إِنَّ
ابْنَ زِيَادٍ فُقِدَ وَإِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ
(3/229)
تَلْحَظُوا بِهِ. فَأَصْبِحُوا فِي
السِّلَاحِ. وَفَقَدَ النَّاسُ ابْنَ زِيَادٍ فَقَالُوا: مَا هُوَ
إِلَّا فِي الْأَرْضِ.
وَقِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ لَمْ يُكَلِّمْ مَسْعُودًا بَلْ أَمَرَ
عُبَيْدُ اللَّهِ فَحَمَلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَأَتَى بِهَا أُمَّ
بِسِطَامٍ امْرَأَةَ مَسْعُودٍ، (وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ، وَمَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا
فَأَذِنَتْ لَهُ فَقَالَ لَهَا: قَدْ أَتَيْتُكِ بِأَمْرٍ تَسُودِينَ
بِهِ نِسَاءَ الْعَرَبِ وَتَتَعَجَّلِينَ بِهِ الْغِنَى.
وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تُدْخِلَ ابْنَ زِيَادٍ
الْبَيْتَ وَتُلْبِسَهُ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِ مَسْعُودٍ، فَفَعَلَتْ،
وَلَمَّا جَاءَ مَسْعُودٌ أَخَذَ بِرَأْسِهَا يَضْرِبُهَا، فَخَرَجَ
عُبَيْدُ اللَّهِ وَالْحَارِثُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ
أَجَارْتَنِي وَهَذَا ثَوْبُكَ عَلَيَّ وَطَعَامُكَ فِي بَطْنِي.
وَشَهِدَ الْحَارِثُ وَتَلَطَّفُوا بِهِ حَتَّى رَضِيَ، فَلَمْ يَزَلِ
ابْنُ زِيَادٍ فِي بَيْتِهِ حَتَّى قُتِلَ مَسْعُودٌ فَسَارَ إِلَى
الشَّامِ.
وَلَمَّا فُقِدَ ابْنُ زِيَادٍ بَقِيَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي غَيْرِ
أَمِيرٍ فَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُؤَمِّرُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ
تَرَاضَوْا بِقَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيِّ وَبِالنُّعْمَانِ
بْنِ سُفْيَانَ الرَّاسِبِيِّ الْحَرَمِيِّ لِيَخْتَارَا مَنْ
يَرْضَيَانِ لَهُمْ، وَكَانَ رَأْيُ قَيْسٍ فِي بَنِي أُمَيَّةَ،
وَرَأْيُ النُّعْمَانِ فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: مَا
أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ، لِرَجُلٍ مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: بَلْ ذَكَرَ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْأَسْوَدِ الزُّهْرِيَّ، وَكَانَ هَوَى قَيْسٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا
قَالَ النُّعْمَانُ ذَلِكَ خَدِيعَةً وَمَكْرًا بِقَيْسٍ، فَقَالَ
قَيْسٌ: قَدْ قَلَّدْتُكَ أَمْرِي وَرَضِيتُ مَنْ رَضِيتَ، ثُمَّ
خَرَجَا إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ قَيْسٌ: قَدْ رَضِيتُ مَنْ رَضِيَ
النُّعْمَانُ.
ذِكْرُ وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْبَصْرَةَ
لَمَّا اتَّفَقَ قَيْسٌ وَالنُّعْمَانُ وَرَضِيَ قَيْسٌ بِمَنْ
يُؤَمِّرُهُ النُّعْمَانُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ النُّعْمَانُ بِذَلِكَ
وَأَخَذَ عَلَى قَيْسٍ وَعَلَى النَّاسِ الْعُهُودَ بِالرِّضَى، ثُمَّ
أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَسْوَدِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَاشْتَرَطَ
عَلَيْهِ (حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ بَايَعَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ
وَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُلَقَّبِ بِبَبَّةَ
وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ) مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ وَذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَحَقَّ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا
تَنْقِمُونَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَمِّ نَبِيِّكُمْ وَأُمُّهُ
هِنْدُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِمْ، فَهُوَ
ابْنُ أُخْتِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: رَضِيتُ لَكُمْ
بِهِ، فَنَادَوْهُ: قَدْ رَضِينَا، وَبَايَعُوهُ وَأَقْبَلُوا بِهِ
إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ حَتَّى نَزَلَهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ جُمَادَى
الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي بَيْعَتِهِ:
(3/230)
وَبَايَعْتُ أَقْوَامًا وَفَيْتُ
بِعَهْدِهِمْ ... وَبَبَّةُ قَدْ بَايَعَتْهُ غَيْرَ نَادِمِ
ذِكْرُ هَرَبِ ابْنِ زِيَادٍ إِلَى الشَّامِ
ثُمَّ إِنَّ الْأَزْدَ وَرَبِيعَةَ جَدَّدُوا الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَمَاعَةِ، وَأَنْفَقَ ابْنُ زِيَادٍ مَالًا
كَثِيرًا فِيهِمْ حَتَّى تَمَّ الْحِلْفُ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ
بَيْنَهُمْ كِتَابَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ مَسْعُودِ بْنِ
عَمْرٍو. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَحْنَفُ أَنَّ الْأَزْدَ طَلَبَتْ إِلَى
رَبِيعَةَ ذَلِكَ، قَالَ: لَا يَزَالُونَ لَهُمْ أَتْبَاعًا إِذَا
أَتَوْهُمْ.
فَلَمَّا تَحَالَفُوا اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَرُدُّوا ابْنَ زِيَادٍ
إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، فَسَارُوا، وَرَئِيسُهُمْ مَسْعُودُ بْنُ
عَمْرٍو، وَقَالُوا لِابْنِ زِيَادٍ: سِرْ مَعَنَا، فَلَمْ يَفْعَلْ
وَأَرْسَلَ مَعَهُ مَوَالِيَهُ عَلَى الْخَيْلِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا
تَتَحَدَّثُوا بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ إِلَّا أَتَيْتُمُونِي بِهِ،
فَجَعَلَ مَسْعُودٌ لَا يَأْتِي سِكَّةً وَلَا يَتَجَاوَزُ قَبِيلَةً
إِلَّا أَتَى بَعْضُ أُولَئِكَ الْغِلْمَانِ ابْنَ زِيَادٍ
بِالْخَبَرِ، وَسَارَتْ رَبِيعَةُ، وَعَلَيْهِمْ مَالِكُ بْنُ
مِسْمَعٍ، فَأَخَذُوا سِكَّةَ الْمِرْبَدِ، وَجَاءَ مَسْعُودٌ فَدَخَلَ
الْمَسْجِدَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ
فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَسْعُودًا وَأَهْلَ
الْيَمَنِ وَرَبِيعَةَ قَدْ سَارُوا وَسَيُهَيَّجُ بَيْنَ النَّاسِ
شَرٌّ، فَلَوْ أَصْلَحْتَ بَيْنَهُمْ أَوْ رَكِبْتَ فِي بَنِي تَمِيمٍ
عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، لَا وَاللَّهِ لَا أُفْسِدَنَّ نَفْسِي
فِي إِصْلَاحِهِمْ! وَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مَسْعُودٍ يَقُولُ:
لَأُنْكِحَنَّ بَبَّهْ جَارِيَةً فِي قُبَّهْ ... تَمْشُطُ رَأْسَ
لُعْبَهْ
هَذَا قَوْلُ الْأَزْدِ، وَأَمَّا قَوْلُ مُضَرَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ
أُمَّهُ كَانَتْ تُرَقِّصُهُ وَتَقُولُ هَذَا.
وَصَعِدَ مَسْعُودٌ الْمِنْبَرَ وَسَارَ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ نَحْوَ
دُورِ بَنِي تَمِيمٍ حَتَّى دَخَلَ سِكَّةَ بَنِي الْعَدَوِيَّةِ
فَحَرَّقَ دُورَهُمْ لِمَا فِي نَفْسِهِ لِاسْتِعْرَاضِ ابْنِ خَازِمٍ
رَبِيعَةَ بِهَرَاةَ. وَجَاءَ بَنُو
(3/231)
تَمِيمٍ إِلَى الْأَحْنَفِ فَقَالُوا: يَا
أَبَا بَحْرٍ، إِنَّ رَبِيعَةَ وَالْأَزْدَ قَدْ تَحَالَفُوا وَقَدْ
سَارُوا إِلَى الرَّحْبَةِ فَدَخَلُوهَا.
فَقَالَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِالْمَسْجِدِ مِنْهُمْ.
فَقَالُوا: قَدْ دَخَلُوا الدَّارَ.
فَقَالَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِالدَّارِ مِنْهُمْ.
فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِمِجْمَرٍ وَقَالَتْ لَهُ: مَا لَكَ
وَلِلرِّيَاسَةِ، إِنَّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ تَتَجَمَّرُ! فَقَالَ:
اسْتُ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ بِالْمِجْمَرِ، فَمَا سُمِعَ مِنْهُ
كَلِمَةٌ أَسْوَأُ مِنْهَا، ثُمَّ أَتَوْهُ فَقَالُوا: إِنَّ امْرَأَةً
مِنَّا قَدْ سُلِبَتْ خَلْخَالَهَا، وَقَدْ قَتَلُوا الصَّبَّاغَ
الَّذِي عَلَى طَرِيقِكَ وَقَتَلُوا الْمُقْعَدَ الَّذِي عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ، وَقَدْ دَخَلَ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ سِكَّةَ بَنِي
الْعَدَوِيَّةِ فَحَرَّقَ.
فَقَالَ الْأَحْنَفُ: أَقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا، فَفِي دُونِ
هَذَا مَا يُحِلُّ قِتَالَهُمْ.
فَشَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَالَ الْأَحْنَفُ: أَجَاءَ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ؟ قَالُوا:
لَا، وَهُوَ عَبَّادُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
أَوْسٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، ثُمَّ قَالَ: أَجَاءَ
عَبَّادٌ؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ: أَهَاهُنَا عَبْسُ بْنُ طَلْقِ بْنِ رَبِيعَةَ الصُّرَيْمِيُّ
مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ،
فَدَعَاهُ فَانْتَزَعَ مِعْجَرًا فِي رَأْسِهِ فَعَقَدَهُ فِي رُمْحٍ
ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: سِرْ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ:
اللَّهُمَّ لَا تُخْزِهَا الْيَوْمَ فَإِنَّكَ لَمْ تُخْزِهَا فِيمَا
مَضَى، وَصَاحَ النَّاسُ: هَاجَتْ زَبْرَاءُ! وَهِيَ أَمَةٌ
لِلْأَحْنَفِ كَنَّوْا بِهَا عَنْهُ.
فَسَارَ عَبْسٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا سَارَ عَبْسٌ جَاءَ
عَبَّادٌ فَقَالَ: مَا صَنَعَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: سَارَ بِهِمْ عَبْسٌ.
فَقَالَ: لَا أَسِيرُ تَحْتَ لِوَاءِ عَبْسٍ، وَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ
وَمَعَهُ سِتُّونَ فَارِسًا.
فَلَمَّا وَصَلَ عَبْسٌ إِلَى الْمَسْجِدِ قَاتَلَ الْأَزْدُ عَلَى
أَبْوَابِهِ، وَمَسْعُودٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يُحَضِّضُ النَّاسَ،
فَقَاتَلَ غَطَفَانُ بْنُ أُنَيْفٍ التَّمِيمِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
يَالَ تَمِيمٍ إِنَّهَا مَذْكُورَهْ ... إِنْ فَاتَ مَسْعُودٌ بِهَا
مَشْهُورَهْ
فَاسْتَمْسِكُوا بِجَانِبِ الْمَقْصُورَهْ
(3/232)
أَيْ لَا يَهْرُبُ [فَيَفُوتَ] .
وَأَتَوْا مَسْعُودًا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَنْزَلُوهُ
فَقَتَلُوهُ، وَذَلِكَ أَوَّلُ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ،
وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَهَرَبَ أَشْيَمُ بْنُ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ
فَطَعَنَهُ أَحَدُهُمْ فَنَجَا بِهَا، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
لَوْ أَنَّ أَشْيَمَ لَمْ يَسْبِقْ أَسِنَّتَنَا ... وَأَخْطَأَ
الْبَابَ إِذْ نِيرَانُنَا تَقِدُ
إِذًا لَصَاحَبَ مَسْعُودًا وَصَاحِبَهُ ... وَقَدْ تَهَافَتَتِ
الْأَعْفَاجُ وَالْكَبِدُ
وَلَمَّا صَعِدَ مَسْعُودٌ الْمِنْبَرَ أَتَى ابْنُ زِيَادٍ فَقِيلَ
لَهُ ذَلِكَ، فَتَهَيَّأَ لِيَجِيءَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ،
فَأَتَوْهُ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ قُتِلَ مَسْعُودٌ، فَرَكِبَ
وَلَحِقَ بِالشَّامِ.
فَأَمَّا مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ فَأَتَاهُ مِنْ مُضَرَ فَحَصَرُوهُ فِي
دَارِهِ وَحَرَّقُوا دَارَهُ.
وَلَمَّا هَرَبَ ابْنُ زِيَادٍ تَبِعُوهُ فَأَعْجَزَهُمْ فَنَهَبُوا
مَا وَجَدُوا لَهُ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ وَاقَدُ بْنُ خَلِيفَةَ
التَّمِيمِيُّ:
يَا رُبَّ جَبَّارٍ شَدِيدِ كَلْبُهْ ... قَدْ صَارَ فِينَا تَاجُهُ
وَسَلَبُهْ
مِنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ يَوْمَ نَسْلُبُهْ ... جِيَادَهُ وَبَزَّهُ
وَنَنْهَبُهْ
يَوْمَ الْتَقَى مِقْنَبُنَا وَمِقْنَبُهْ ... لَوْ لَمْ يُنَجِّ ابْنَ
زِيَادٍ هَرَبُهْ
وَقَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ مَسْعُودٍ وَمَسِيرِ ابْنِ زِيَادٍ غَيْرُ مَا
تَقَدَّمَ، هُوَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَجَارَ ابْنُ زِيَادٍ بِمَسْعُودِ
بْنِ عَمْرٍو أَجَارَهُ، ثُمَّ سَارَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى الشَّامِ
وَأَرْسَلَ مَعَهُ مَسْعُودٌ مِائَةً مِنَ الْأَزْدِ حَتَّى قَدِمُوا
بِهِ إِلَى الشَّامِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَالَ:
قَدْ ثَقُلَ عَلَيَّ رُكُوبُ الْإِبِلِ فَوَطِّئُوا لِي عَلَى ذِي
حَافِرٍ، فَجَعَلُوا لَهُ قَطِيفَةً عَلَى حِمَارٍ، فَرَكِبَهُ ثُمَّ
سَارَ وَسَكَتَ طَوِيلًا.
قَالَ مُسَافِرُ بْنُ شُرَيْحٍ الْيَشْكُرِيُّ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي:
لَئِنْ كَانَ نَائِمًا لَأُنَغِّصَنَّ عَلَيْهِ نَوْمَهُ، فَدَنَوْتُ
مِنْهُ فَقُلْتُ: أَنَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، كُنْتُ أُحَدِّثَ
نَفْسِي.
قُلْتُ: أَفَلَا
(3/233)
أُحَدِّثُكَ بِمَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ
نَفْسَكَ؟ قَالَ: هَاتِ.
قُلْتُ: كُنْتَ تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَقْتُلْ حُسَيْنًا.
قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ قَتَلْتُ
مَنْ قَتَلْتُ.
قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ بَنَيْتُ
الْبَيْضَاءَ.
قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي لَمْ أَكُنِ
اسْتَعْمَلْتُ الدَّهَاقِينَ.
قَالَ: وَمَاذَا؟ قُلْتُ: تَقُولُ: لَيْتَنِي كُنْتُ أَسْخَى مِمَّا
كُنْتُ.
قَالَ: أَمَّا قَتْلِي الْحُسَيْنَ فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَيَّ يَزِيدُ
بِقَتْلِهِ أَوْ قَتْلِي فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ، وَأَمَّا الْبَيْضَاءُ
فَإِنِّي اشْتَرَيْتُهَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ
الثَّقَفِيِّ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ يَزِيدُ بِأَلْفِ أَلْفٍ
فَأَنْفَقَهَا عَلَيْهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ فَلِأَهْلِي، وَإِنْ
هَلَكْتُ لَمْ آسَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الدَّهَاقِينِ
فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ (وَزَاذَانَ فَرُّوخٍ
وَقَعَا فِيَّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ [حَتَّى ذَكَرُوا قُشُورَ
الْأَرُزِّ] فَبَلَغَا بِخَرَاجِ الْعِرَاقِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ،
فَخَيَّرَنِي مُعَاوِيَةُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالضَّمَانِ، فَكَرِهْتُ
الْعَزْلَ، فَكُنْتُ إِذَا اسْتَعْمَلْتُ الْعَرَبِيَّ كَسَرَ
الْخَرَاجَ، فَإِنْ أَغْرَمْتُ عَشِيرَتَهُ أَوْ طَالَبْتُهُ
أَوْغَرْتُ صُدُورَهُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُهُ تَرَكْتُ مَالَ اللَّهِ
وَأَنَا أَعْرِفُ مَكَانَهُ، فَوَجَدْتُ الدَّهَاقِينَ أَبْصَرَ
بِالْجِبَايَةِ وَأَوْفَى بِالْأَمَانَةِ وَأَهْوَنَ بِالْمُطَالَبَةِ
مِنْكُمْ، مَعَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُكُمْ أُمَنَاءَ عَلَيْهِمْ
لِئَلَّا يَظْلِمُوا أَحَدًا، وَأَمَّا قَوْلُكَ فِي السَّخَاءِ فَمَا
كَانَ لِي مَالٌ فَأَجُودَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شِئْتُ لَأَخَذْتُ
بَعْضَ مَالِكُمْ فَخَصَصْتُ بِهِ بَعْضَكُمْ دُونَ بَعْضٍ
فَيَقُولُونَ مَا أَسْخَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ قَتَلْتُ مَنْ قَتَلْتُ فَمَا
عَمِلْتُ بَعْدَ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ عَمَلًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى
اللَّهِ عِنْدِي مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُ مِنَ الْخَوَارِجِ،
وَلَكِنِّي سَأُخْبِرُكَ بِمَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي، قُلْتُ:
لَيْتَنِي كُنْتُ قَاتَلْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ
بَايَعُونِي طَائِعِينَ، وَلَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ
بَنِي زِيَادٍ قَالُوا: إِنْ قَاتَلْتَهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْكَ لَمْ
يُبْقُوا مِنَّا أَحَدًا، وَإِنَّ تَرَكْتَهُمْ تَغَيَّبَ الرَّجُلُ
مِنَّا عِنْدَ أَخْوَالِهِ وَأَصْهَارِهِ فَوَقَعْتُ بِهِمْ، فَكُنْتُ
أَقُولُ: لَيْتَنِي أَخْرَجْتُ أَهْلَ السِّجْنِ فَضَرَبْتُ
أَعْنَاقَهُمْ، وَأَمَّا إِذْ فَاتَتْ هَاتَانِ فَلَيْتَنِي أَقْدَمُ
الشَّامَ وَلَمْ يُبْرِمُوا أَمْرًا.
قَالَ: فَقَدِمَ الشَّامَ وَلَمْ يُبْرِمُوا أَمْرًا، [فَكَأَنَّمَا]
كَانُوا مَعَهُ صِبْيَانًا، وَقِيلَ: بَلْ قَدِمَ وَقَدْ أَبْرَمُوا
فَنَقَضَ عَلَيْهِمْ مَا أَبْرَمُوا.
فَلَمَّا سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ اسْتَخْلَفَ مَسْعُودًا عَلَيْهَا،
فَقَالَ بَنُو تَمِيمٍ وَقَيْسٌ: لَا نَرْضَى بِهِ،
(3/234)
وَلَا نُوَلِّي إِلَّا رَجُلًا تَرْضَاهُ
جَمَاعَتُنَا.
فَقَالَ مَسْعُودٌ: قَدِ اسْتَخْلَفَنِي وَلَا أَدَعُ ذَلِكَ أَبَدًا.
وَخَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَصْرِ وَدَخَلَهُ، وَاجْتَمَعَتْ
تَمِيمٌ إِلَى الْأَحْنَفِ فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّ الْأَزْدَ قَدْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ.
قَالَ: إِنَّمَا هُوَ لَهُمْ وَلَكُمْ.
قَالُوا: قَدْ دَخَلُوا الْقَصْرَ وَصَعِدَ مَسْعُودٌ الْمِنْبَرَ،
وَكَانَتْ خَوَارِجُ قَدْ خَرَجُوا فَنَزَلُوا نَهْرَ الْأَسَاوِرَةِ
حِينَ خَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّامِ، فَزَعَمَ النَّاسُ
أَنَّ الْأَحْنَفَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي
قَدْ دَخَلَ الْقَصْرَ هُوَ لَنَا وَلَكُمْ عَدُوٌّ فَمَا يَمْنَعُكُمْ
عَنْهُ! فَجَاءَتْ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ
وَمَسْعُودٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يُبَايِعُ مَنْ أَتَاهُ، فَرَمَاهُ
عِلْجٌ يُقَالُ لَهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، دَخَلَ الْبَصْرَةَ
فَأَسْلَمَ (ثُمَّ دَخَلَ فِي الْخَوَارِجِ، فَأَصَابَ قَلْبَهُ)
فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ، فَخَرَجَتِ
الْأَزْدُ إِلَى تِلْكَ الْخَوَارِجِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَجَرَحُوا
فَطَرَدُوهُمْ عَنِ الْبَصْرَةِ.
ثُمَّ قِيلَ لِلْأَزْدِ: إِنَّ تَمِيمًا قَتَلُوا مَسْعُودًا،
فَأَرْسَلُوا يَسْأَلُونَ، فَإِذَا نَاسٌ مِنْ تَمِيمٍ تَقُولُهُ،
فَاجْتَمَعَتِ الْأَزْدُ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَأَّسُوا عَلَيْهِمْ زِيَادَ
بْنَ عَمْرٍو أَخَا مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ
مِسْمَعٍ فِي رَبِيعَةَ، وَجَاءَتْ تَمِيمٌ إِلَّا الْأَحْنَفَ
يَقُولُونَ: قَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ، وَهُوَ يَتَمَكَّثُ لَا يَخِفُّ
لِلْفِتْنَةِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِمِجْمَرٍ فَقَالَتُ: اجْلِسْ
عَلَى هَذَا، أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ.
فَخَرَجَ الْأَحْنَفُ فِي بَنِي تَمِيمٍ وَمَعَهُمْ مَنْ بِالْبَصْرَةِ
مِنْ قَيْسٍ فَالْتَقَوْا، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ،
فَقَالَ لَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ: اللَّهَ اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ
فِي دِمَائِنَا وَدِمَائِكُمْ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ
وَمَنْ شِئْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا
بَيِّنَةً، فَاخْتَارُوا أَفْضَلَ رَجُلٍ فِينَا فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ لَكُمْ بَيِّنَةٌ فَإِنَّا نَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا
قَتَلْنَا وَلَا أَمَرْنَا وَلَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلًا، وَإِنْ لَمْ
تُرِيدُوا ذَلِكَ فَنَحْنُ نَدِي صَاحِبَكُمْ بِمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ.
وَأَتَاهُمُ الْأَحْنَفُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا قِيلَ،
وَسَفَرَ بَيْنَهُمْ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَطَلَبُوا عَشْرَ
دِيَاتٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بَبَّةُ فَإِنَّهُ أَقَامَ
يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى عُمَرَ بِعَهْدِهِ عَلَى
الْبَصْرَةِ، فَأَتَاهُ الْكِتَابُ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى
الْعُمْرَةِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ
يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ
عُمَرُ، فَبَقِيَ عُمَرُ أَمِيرًا شَهْرًا حَتَّى قَدِمَ
(3/235)
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ بِعَزْلِهِ وَوَلِيَهَا الْحَارِثُ، وَهُوَ
الْقُبَاعُ.
وَقِيلَ: اعْتَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بَبَّةُ أَهْلَ
الْبَصْرَةِ بَعْدَ قَتْلِ مَسْعُودٍ بِسَبَبِ الْعَصَبِيَّةِ
وَانْتِشَارِ الْخَوَارِجِ، فَكَتَبَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ
أَنْ أُصْلِحَ النَّاسَ بِفَسَادِ نَفْسِي، وَكَانَ يَتَدَيَّنُ.
وَفِي أَيَّامِهِ سَارَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ إِلَى الْأَهْوَازِ
مِنَ الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَدُّوا رُسُلَ ابْنِ
زِيَادٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَزَلُوا خَلِيفَتَهُ
عَلَيْهِمْ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ
وَقَالُوا: نُؤَمِّرُ عَلَيْنَا رَجُلًا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ
النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ،
فَجَاءَتْ نِسَاءُ هَمْدَانَ يَبْكِينَ الْحُسَيْنَ، وَرِجَالُهُمْ
مُتَقَلَّدُو السُّيُوفِ، فَأَطَافُوا بِالْمِنْبَرِ، فَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ: جَاءَ أَمْرٌ غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ.
وَكَانَتْ كِنْدَةُ تَقُومُ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لِأَنَّهُمْ
أَخْوَالُهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ
أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ الْجُمَحِيِّ،
فَخَطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَقَالَ: إِنْ لِكُلِّ قَوْمٍ أَشْرِبَةً
وَلَذَّاتٍ فَاطْلُبُوهَا فِي مَظَانِّهَا، وَعَلَيْكُمْ بِمَا يَحِلُّ
وَيُحْمَدُ، وَاكْسِرُوا شَرَابَكُمْ بِالْمَاءِ، وَتَوَارَوْا عَنِّي
بِهَذِهِ الْجُدْرَانِ، فَقَالَ ابْنُ هَمَّامٍ:
اشْرَبْ شَرَابَكَ وَانْعَمْ غَيْرَ مَحْسُودِ وَاكْسِرْهُ بِالْمَاءِ
لَا تَعْصِ ابْنَ مَسْعُودِ إِنَّ الْأَمِيرَ لَهُ فِي الْخَمْرِ
مَأْرَبَةٌ فَاشْرَبْ هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ مَرْصُودِ مَنْ ذَا
يُحَرِّمُ مَاءَ الْمُزْنِ خَالَطَهُ فِي قَعْرِ خَابِيَةٍ مَاءُ
الْعَنَاقِيدِ إِنِّي لَأَكْرَهُ تَشْدِيدَ الرُّوَاةِ لَنَا فِيهَا
وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودِ وَلَمَّا بَايَعَهُ أَهْلُ
الْكُوفَةِ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَقَرَّهُ
عَلَيْهَا، وَكَانَ يُلَقَّبُ
(3/236)
دُحْرُوجَةَ الْجُعَلِ، وَكَانَ قَصِيرًا،
فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ مَهْلِكِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ
الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
طَلْحَةَ عَلَى الْخَرَاجِ مِنْ عِنْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
وَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَبِ بْنَ قَيْسٍ عَلَى
الْمَوْصِلِ، فَاجْتَمَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَهْلُ الْكُوفَةِ
وَالْبَصْرَةِ، وَمَنْ بِالْقِبْلَةِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ
الْجَزِيرَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ إِلَّا أَهْلَ الْأُرْدُنِّ فِي
إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ.
وَكَانَ طَاعُونُ الْجَارِفِ بِالْبَصْرَةِ، فَمَاتَتْ أُمُّهُ فَمَا
وُجِدَ لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا حَتَّى اسْتَأْجَرُوا لَهَا أَرْبَعَةَ
أَعْلَاجٍ فَحَمَلُوهَا.
ذِكْرُ خِلَافِ أَهْلِ الرَّيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ خَالَفَ أَهْلُ الرَّيِّ،
وَكَانَ عَلَيْهِمُ الْفَرُّخَانُ الرَّازِيُّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ
عَامِرُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، مُحَمَّدَ بْنَ
عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسِ
التَّمِيمِيَّ، فَلَقِيَهُ أَهْلُ الرَّيِّ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَامِرٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ
التَّمِيمِيَّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَقُتِلَ
الْفَرُّخَانُ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ هَذَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَيْرٍ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ عَلَى تَمِيمِ الْكُوفَةِ،
ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ
فَارَقَهَا وَسَارَ إِلَى الشَّامِ لِكَرَاهَتِهِ وِلَايَةَ
الْحَجَّاجِ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِالشَّامِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ وَلَّى عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْمَدِينَةَ،
وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ الْفِهْرِيَّ مِصْرَ، وَأَخْرَجَ
بَنِي أُمَيَّةَ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَى الشَّامِ، وَعَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ
سَنَةً، فَلَمَّا قَدِمَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ
إِلَى الشَّامِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ لَهُ وَلِبَنِي أُمَيَّةَ: نَرَاكُمْ فِي
اخْتِلَاطٍ فَأَقِيمُوا أَمِيرَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ
شَأْمَكُمْ فَتَكُونَ فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ. وَكَانَ
(3/237)
مِنْ رَأْيِ مَرْوَانَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى
ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُبَايِعَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَقَدِمَ ابْنُ
زِيَادٍ مِنَ الْعِرَاقِ، وَبَلَغَهُ مَا يُرِيدُ مَرْوَانُ أَنْ
يَفْعَلَ، فَقَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ، أَنْتَ
كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا تَمْضِي إِلَى أَبِي خُبَيْبٍ
فَتُبَايِعُهُ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُكْنَى
بِابْنِهِ خُبَيْبٍ! فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَامَ مَعَهُ
بَنُو أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ وَتَجَمَّعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ
فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ،
فَقَدِمَ دِمَشْقَ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُهَا
عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ وَيُقِيمَ لَهُ أَمْرَهُمْ حَتَّى
يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ سِرًّا.
وَكَانَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ بِقَنْسَرِينَ يُبَايِعُ
لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِحِمْصَ يُبَايِعُ
لَهُ أَيْضًا، وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بِحَدْلٍ
الْكَلْبِيُّ بِفِلَسْطِينَ عَامِلًا لِمُعَاوِيَةَ وَلِابْنِهِ
يَزِيدَ وَهُوَ يُرِيدُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ إِلَى الْأُرْدُنِّ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ،
فَثَارَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِرَوْحٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ فِلَسْطِينَ
وَبَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ حَسَّانُ فِي الْأُرْدُنِّ يَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ،
فَقَالَ لِأَهْلِ الْأُرْدُنِّ: مَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ وَقَتْلَى الْحَرَّةِ؟ قَالَ: نَشْهَدُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ
وَأَنَّ قَتْلَى الْحَرَّةِ فِي النَّارِ.
قَالَ: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى يَزِيدَ وَقَتْلَاكُمْ بِالْحَرَّةِ؟
قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ قَتْلَانَا فِي
الْجَنَّةِ.
قَالَ: فَأَنَا أَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ يَزِيدُ وَشِيعَتُهُ عَلَى حَقٍّ
إِنَّهُمُ الْيَوْمَ عَلَى حَقٍّ، وَلَئِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَشِيعَتُهُ عَلَى بَاطِلٍ إِنَّهُمُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ.
قَالُوا لَهُ: صَدَقْتَ، نَحْنُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ
خَالَفَكَ وَأَطَاعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى أَنْ تُجَنِّبَنَا
هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ، يَعْنُونَ ابْنَيْ يَزِيدَ عَبْدَ اللَّهِ
وَخَالِدًا، فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَنَا النَّاسُ بِشَيْخٍ
وَنَأْتِيَهُمْ بِصَبِيٍّ.
وَكَتَبَ حِسَانُ إِلَى الضَّحَّاكِ كِتَابًا يُعَظِّمُ فِيهِ حَقَّ
بَنِيَ أُمَيَّةَ وَحُسْنَ بَلَائِهِمْ عِنْدَهُ وَيَذُمُّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ وَأَنَّهُ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ
كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ، وَكَتَبَ كِتَابًا آخَرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى
الرَّسُولِ، وَاسْمُهُ بَاغِضَةُ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قَرَأَ كِتَابِي
عَلَى النَّاسِ وَإِلَّا فَاقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ.
وَكَتَبَ حَسَّانُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا
ذَلِكَ، فَقَدَمَ بَاغِضَةُ فَدَفَعَ كِتَابَ الضَّحَّاكِ إِلَيْهِ
وَكِتَابَ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ
صَعِدَ الضَّحَّاكُ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ لَهُ بَاغِضَةُ لِيُقْرَأْ
كِتَابُ حَسَّانَ عَلَى النَّاسِ.
فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: اجْلِسْ، فَقَامَ
(3/238)
إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ
وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ، فَأَخْرَجَ بَاغِضَةُ الْكِتَابَ
وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ: صَدَقَ حَسَّانُ وَكَذَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ،
وَشَتَمَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْوَلِيدُ قَدْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
يَزِيدَ وَقَامَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي الْغِمْسِ الْغَسَّانِيُّ
وَسُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فَصَدَّقَا حَسَّانَ
وَشَتَمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَامَ عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ
الْحَكَمِيُّ فَشَتَمَ حَسَّانَ وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَأَمَرَ الضَّحَّاكُ بِالْوَلِيدِ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي الْغِمْسِ
فَحُبِسُوا، وَجَالَ النَّاسُ وَوَثَبَتْ كَلْبٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ
يَزِيدَ الْحَكَمِيِّ فَضَرَبُوهُ وَمَزَّقُوا ثِيَابَهُ، وَقَامَ
خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ فَصَعِدَ مِرْقَاتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ
وَسَكَنَ النَّاسُ، وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ
وَدَخَلَ الْقَصْرَ.
فَجَاءَتْ كَلْبٌ فَأَخْرَجُوا سُفْيَانَ، وَجَاءَتْ غَسَّانُ
فَأَخْرَجُوا يَزِيدَ، وَجَاءَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ وَأَخُوهُ عَبْدُ
اللَّهِ مَعَهُمَا أَخْوَالُهُمَا مِنْ كَلْبٍ فَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ
بْنَ عُتْبَةَ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يُسَمُّونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ
يَوْمَ جَيْرُونَ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ خَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ فِيهِ وَذَكَرَ
يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَسَبَّهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ
كَلْبٍ فَضَرَبَهُ بِعَصَا، فَقَامَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
فَاقْتَتَلُوا، قِيسٌ تَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُصْرَةِ
الضَّحَّاكِ، وَكَلْبٌ تَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ إِلَى
خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِمْ.
وَدَخَلَ الضَّحَّاكُ دَارَ الْإِمَارَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْغَدِ
إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَبَعَثَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَاعْتَذَرَ
إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَا يَكْرَهُونَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَكْتُبُوا إِلَى حَسَّانَ وَيَكْتُبَ مَعَهُمْ لِيَسِيرَ مِنَ
الْأُرْدُنِّ إِلَى الْجَابِيَةِ وَيَسِيرُونَ هُمْ مِنْ دِمَشْقَ
فَيَجْتَمِعُونَ مَعَهُ بِالْجَابِيَةِ وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ، فَرَضُوا وَكَتَبُوا إِلَى حَسَّانَ، وَسَارَ
الضَّحَّاكُ وَبَنُو أُمَيَّةَ نَحْوَ الْجَابِيَةِ، فَأَتَاهُ ثَوْرُ
بْنُ مَعْنٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: دَعَوْتَنَا إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ فَبَايَعْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى هَذَا
الْأَعْرَابِيِّ مِنْ كَلْبٍ تَسْتَخْلِفُ ابْنَ أُخْتِهِ خَالِدَ بْنَ
يَزِيدَ! قَالَ الضَّحَّاكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ
تُظْهِرَ مَا كُنَّا نَكْتُمُ وَتَدْعُوَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ.
فَرَجَعَ الضَّحَّاكُ وَمِنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَنَزَلَ بِمَرْجِ
رَاهِطٍ وَدِمَشْقَ بِيَدِهِ، وَاجْتَمَعَ بَنُو أُمَيَّةَ وَحَسَّانُ
وَغَيْرُهُمْ بِالْجَابِيَةِ، فَكَانَ حَسَّانُ يُصَلِّي بِهِمْ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالنَّاسُ يَتَشَاوَرُونَ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ
هُبَيْرَةَ السَّكُونِيُّ يَهْوَى خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ،
(وَالْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ يَمِيلُ إِلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ
مَالِكٌ لِلْحُصَيْنِ: هَلْ نُبَايِعُ هَذَا الْغُلَامَ الَّذِي نَحْنُ
وَلَدْنَا أَبَاهُ وَقَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَنَا)
(3/239)
مِنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَحْمِلُنَا عَلَى
رِقَابِ الْعَرَبِ غَدًا؟ يَعْنِي خَالِدًا.
فَقَالَ الْحُصَيْنُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَأْتِينَا الْعَرَبُ بِشَيْخٍ
وَنَأْتِيهَا بِصَبِيٍّ.
فَقَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَخْلَفْتَ مَرْوَانَ
لَيَحْسُدُكَ عَلَى سَوْطِكَ وَشِرَاكِ نَعْلِكَ وَظِلِّ شَجَرَةٍ
تَسْتَظِلُّ بِهَا، إِنَّ مَرْوَانَ أَبُو عَشِيرَةٍ وَأَخُو عَشِيرَةٍ
فَإِنْ بَايَعْتُمُوهُ كُنْتُمْ عَبِيدًا لَهُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ
بِابْنِ أُخْتِكُمْ، فَقَالَ الْحُصَيْنُ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي
الْمَنَامِ قِنْدِيلًا مُعَلَّقًا مِنَ السَّمَاءِ وَأَنَّ مَنْ يَلِي
الْخِلَافَةَ يَتَنَاوَلُهُ فَلَمْ يَنَلْهُ أَحَدٌ إِلَّا مَرْوَانَ،
وَاللَّهِ لَنَسْتَخْلِفَنَّهُ.
وَقَامَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
وَصُحْبَتَهُ وَقِدَمَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَمَا تَذْكُرُونَ،
وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ بِصَاحِبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ
الضَّعِيفُ، وَتَذْكُرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ كَمَا تَذْكُرُونَ
أَنَّهُ ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ ابْنُ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، وَلَكِنَّهُ
مُنَافِقٌ قَدْ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ يَزِيدَ وَابْنَهُ مُعَاوِيَةَ
وَسَفَكَ الدِّمَاءَ وَشَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ
الْمُنَافِقُ بِصَاحِبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ صَدْعٌ إِلَّا كَانَ
مِمَّنْ يُشَعِّبُهُ، وَهُوَ الَّذِي قَاتَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَإِنَّا نَرَى لِلنَّاسِ أَنْ يُبَايِعُوا
الْكَبِيرَ وَيَسْتَشِيرُوا الصَّغِيرَ، يَعْنِي بِالْكَبِيرِ
مَرْوَانَ، وَبِالصَّغِيرِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ.
فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ،
ثُمَّ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، ثُمَّ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ مِنْ بَعْدِ خَالِدٍ، عَلَى أَنَّ إِمْرَةَ دِمَشْقَ
لِعَمْرٍو وَإِمْرَةَ حِمْصَ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ.
فَدَعَا حَسَّانُ خَالِدًا فَقَالَ: يَا بْنَ أُخْتِي؛ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ أَبَوْكَ لِحَدَاثَةِ سِنِّكَ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ
هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ وَمَا أُبَايِعُ
مَرْوَانَ إِلَّا نَظَرًا لَكُمْ.
فَقَالَ خَالِدٌ: بَلْ عَجَزْتَ عَنَّا.
قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَجَزْتُ عَنْكُمْ وَلَكِنَّ الرَّأْيَ لَكَ مَا
رَأَيْتُ.
ثُمَّ بَايَعُوا مَرْوَانَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَالَ مَرْوَانُ حِينَ بُويِعَ لَهُ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا نَهْبَا ... يَسَّرْتُ غَسَّانَ
لَهُمْ وَكَلْبَا
وَالسَّكْسَكِيِّينَ رِجَالًا غُلْبَا ... وَطِيِّئًا تَأْبَاهُ إِلَّا
ضَرْبَا
(3/240)
وَالِقِينُ تَمْشِي فِي الْحَدِيدِ نُكْبَا
وَمِنْ تَنُوخَ مُشَمْخِرًّا صَعْبَا ... لَا يَأْخُذُونَ الْمُلْكَ
إِلَّا غَصْبَا
فَإِنْ دَنَتْ قَيْسٌ فَقُلْ لَا قُرْبَا
(خُبَيْبٌ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَآخِرُهُ
بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ) .
ذِكْرُ وَقْعَةِ مَرْجِ رَاهِطٍ وَقَتْلِ الضَّحَّاكِ وَالنُّعْمَانِ
بْنِ بَشِيرٍ
ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ سَارَ مِنَ
الْجَابِيَةِ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ، وَبِهِ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ
وَمَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَمَدَّ الضَّحَّاكُ
النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ وَهُوَ عَلَى حِمْصَ فَأَمَدَّهُ
بِشُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكُلَاعِ، وَاسْتَمَدَّ أَيْضًا زُفَرَ بْنَ
الْحَارِثِ وَهُوَ عَلَى قِنَّسْرِينَ فَأَمَدَّهُ بِأَهْلِ
قِنَّسْرِينَ، وَأَمَدَّهُ نَاتِلُ بِأَهْلِ فِلَسْطِينَ،
فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، وَاجْتَمَعَ عَلَى مَرْوَانَ كَلْبٌ
وَغَسَّانُ وَالسَّكَاسِكُ وَالسَّكُونُ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ
عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ وَعَلَى مَسِيرَتِهِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
يَزِيدَ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي الْغِمْسِ الْغَسَّانِيُّ
مُخْتَفِيًا بِدِمَشْقَ لَمْ يَشْهَدِ الْجَابِيَةَ، فَغَلَبَ عَلَى
دِمَشْقَ وَأَخْرَجَ عَامِلَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَغَلَبَ عَلَى
الْخَزَائِنِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَبَايَعَ لِمَرْوَانَ وَأَمَدَّهُ
بِالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، فَكَانَ أَوَّلَ فَتْحٍ
عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ.
وَتَحَارَبَ مَرْوَانُ وَالضَّحَّاكُ بِمَرْجِ رَاهِطٍ عِشْرِينَ
لَيْلَةً وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ،
قَتَلَهُ دِحْيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقُتِلَ مَعَهُ ثَمَانُونَ
رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الشَّامِ، وَقُتِلَ أَهْلُ الشَّامِ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقُتِلَتْ قَيْسٌ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ
مِثْلَهَا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ هَانِئُ بْنُ
قَبِيصَةَ النُّمَيْرِيُّ سَيِّدُ قَوْمِهِ، كَانَ مَعَ الضَّحَّاكِ،
قَتَلَهُ وَازِعُ بْنُ ذُؤَالَةَ الْكَلْبِيُّ، (فَلَمَّا سَقَطَ
جَرِيحًا قَالَ:
تَعِسْتَ ابْنَ ذَاتِ النَّوْفِ أَجْهِزْ عَلَى ... فَتًى يَرَى
الْمَوْتَ خَيْرًا مِنْ فِرَارٍ وَأَلْزَمَا
وَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْحُشَاشَةِ إِنَّنِي ... صَبُورٌ إِذَا [مَا]
النِّكْسُ مِثْلُكَ أَحْجَمَا
فَعَادَ إِلَيْهِ وَازِعٌ فَقَتَلَهُ) .
(3/241)
وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي الْمُحَرَّمِ
سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ فِي آخِرِ سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.
وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ رَأْسَ الضَّحَّاكِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَقَالَ:
الْآنَ حِينَ كَبِرَتْ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي وَصِرْتُ فِي مِثْلِ
ظِمْءِ الْحِمَارِ، أَقْبَلْتُ بِالْكَتَائِبِ أَضْرِبُ بَعْضَهَا
بَعْضًا! وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ مِنَ الْمَرْجِ لَحِقُوا
بِأَجْنَادِهِمْ، فَانْتَهَى أَهْلُ حِمْصَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا
النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ خَرَجَ
هَارِبًا لَيْلًا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ نَائِلَةُ بِنْتُ عُمَارَةَ
الْكَلْبِيَّةُ وَثَقَلُهُ وَأَوْلَادُهُ، فَتَحَيَّرَ لَيْلَتَهُ
كُلَّهَا، وَأَصْبَحَ أَهْلُ حِمْصَ فَطَلَبُوهُ، وَكَانَ طَلَبَهُ
عَمْرُو بْنُ الْجَلِيِّ الْكَلَاعِيُّ، فَقَتَلَهُ وَرَدَّ أَهْلَهُ
وَالرَّأْسَ مَعَهُ، وَجَاءَتْ كَلْبٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ فَأَخَذُوا
نَائِلَةَ وَوَلَدَهَا مَعَهَا.
وَلَمَّا بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِلَابِيَّ
بِقِنِّسْرِينَ هَرَبَ مِنْهَا فَلَحِقَ بِقَرْقِيسْيَا وَعَلَيْهَا
عِيَاضٌ الْحَرَشِيُّ، وَكَانَ يَزِيدُ وَلَّاهُ إِيَّاهَا، فَطَلَبَ
مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ، وَيَحْلِفَ لَهُ بِالطَّلِاقِ
وَالْعِتَاقِ عَلَى أَنَّهُ حِينَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَمَّامِ لَا
يُقِيمُ بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَهَا فَغَلَبَ عَلَيْهَا
وَتَحَصَّنَ بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ حَمَّامَهَا، فَاجْتَمَعَتْ
إِلَيْهِ قِيسٌ.
وَهَرَبَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ الْجُذَامِيُّ عَنْ فِلَسْطِينَ فَلَحِقَ
بِابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرْوَانُ بَعْدَهُ
عَلَى فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ وَاسْتَوْثَقَ الشَّامُ
لِمَرْوَانَ وَاسْتَعْمَلَ عُمَّالَهُ عَلَيْهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ إِنَّمَا جَاءَ إِلَى
بَنِي أُمَيَّةَ وَهُمْ بِتَدْمُرَ، وَمَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ
إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيُبَايِعَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْأَمَانَ
لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ
بِأَهْلِ تَدْمُرَ إِلَى الضَّحَّاكِ فَيُقَاتِلَهُ، وَوَافَقَهُ
عَمْرُو بْنَ سَعِيدٍ وَأَشَارَ عَلَى مَرْوَانَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ
أُمَّ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ
فَتَزَوَّجَهَا، وَهِيَ فَاخِتَةُ ابْنَةُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ
عُتْبَةَ، ثُمَّ جَمَعَ بَنِي أُمَيَّةَ فَبَايَعُوهُ وَبَايَعَهُ
أَهْلُ تَدْمُرَ، وَسَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ،
فَخَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَيْهِ فَتَقَاتَلَا فَانْهَزَمَ الضَّحَّاكُ
وَمَنْ مَعَهُ وَقُتِلَ الضَّحَّاكُ.
(3/242)
وَسَارَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى
قَرْقِيسْيَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قَيْسٌ، وَصَحِبَهُ فِي
هَزِيمَتِهِ إِلَى قَرْقِيسْيَا شَابَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ،
فَجَاءَتْ خَيْلُ مَرْوَانَ تَطْلُبُهُمْ، فَقَالَ الشَّابَّانِ
لِزُفَرَ: انْجُ بِنَفْسِكَ فَإِنَّا نَحْنُ نُقْتَلُ، فَمَضَى زُفَرُ
وَتَرَكَهُمَا فَقُتِلَا، (وَقَالَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ:
أَرِينِي سِلَاحِي لَا أَبَا لَكِ إِنَّنِي ... أَرَى الْحَرْبَ لَا
تَزْدَادُ إِلَّا تَمَادِيَا
أَتَانِي عَنْ مَرْوَانَ بِالْغَيْبِ أَنَّهُ ... مُقَيِّدٌ دَمِي أَوْ
قَاطِعٌ مِنْ لِسَانِيَا
فَفِي الْعِيسِ مَنْجَاةٌ وَفِي الْأَرْضِ مَهْرَبٌ ... إِذَا نَحْنُ
رَفَّعْنَا لَهُنَّ الْمَثَانِيَا
فَلَا تَحْسَبُونِي إِنْ تَغَيَّبْتُ غَافِلًا ... وَلَا تَفْرَحُوا
إِنْ جِئْتُكُمْ بِلِقَائِيَا
فَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى ... لَهُ وَرَقٌ
مِنْ تَحْتِهِ الشَّرُّ بَادِيَا
وَنَمْضِي وَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ دِمْنَةٌ ... وَتَبْقَى
حَزَازَاتُ النُّفُوسِ كَمَا هِيَا
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ وَقِيعَةُ رَاهِطٍ ... لِحَسَّانَ صَدْعًا
بَيِّنًا مُتَنَائِيَا
فَلَمْ تُرَ مِنِّي نَبْوَةٌ قَبْلَ هَذِهِ فِرَارِي ... وَتَرْكِي
صَاحِبَيَّ وَرَائِيَا
عَشِيَّةَ أَدْعُو فِي الْقِرَانِ فَلَا أَرَى ... مِنَ النَّاسِ
إِلَّا مَنْ عَلَيَّ وَلَا لِيَا
أَيَذْهَبُ يَوْمٌ وَاحِدٌ إِنْ أَسَأْتُهُ ... بِصَالِحِ أَيَّامِي
وَحُسْنِ بَلَائِيَا
فَلَا صُلْحَ حَتَّى تَنْحِطَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَتَثْأَرَ
مِنْ نِسْوَانِ كَلْبٍ نِسَائِيَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي. هَلْ تُصِيبَنَّ غَارَتِي ... تَنُوخًا
وَحَيَّيْ طَيِّئٍ مِنْ شِفَائِيَا
(3/243)
فَأَجَابَهُ جَوَّاسُ بْنُ الْقَعْطَلِ:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ وَقِيعَةُ رَاهِطٍ ... عَلَى زُفَرٍ مُرًّا
مِنَ الدَّاءِ بَاقِيَا
مُقِيمًا ثَوَى بَيْنَ الضُّلُوعِ مَحَلُّهُ ... وَبَيْنَ الْحَشَا
أَعْيَا الطَّبِيبَ الْمُدَاوِيَا
تَبْكِي عَلَى قَتْلَى سُلَيْمٍ وَعَامِرٍ ... وَذُبْيَانَ مَعْذُورًا
وَتُبْكِي الْبَوَاكِيَا
دَعَا بِالسِّلَاحِ ثُمَّ أَحْجَمَ إِذْ رَأَى ... سُيُوفَ جَنَابٍ
وَالطَّوَالَ الْمُذَاكِيَا
عَلَيْهَا كَأُسْدِ الْغَابِ فِتْيَانُ نَجْدَةٍ ... إِذَا شَرَعُوا
نَحْوَ الطِّعَانِ الْعَوَالِيَا
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْجَلِيِّ الْكَلْبِيُّ:
بَكَى زُفَرُ الْقَيْسِيُّ مِنْ هُلْكِ قَوْمِهِ ... بِعَبْرَةِ عَيْنٍ
مَا يَجِفُّ سُجُومُهَا
يَبْكِي عَلَى قَتْلَى أُصِيبَتْ بِرَاهِطٍ ... تُجَاوِبُهُ هَامُ
الْقِفَارِ وَبُومُهَا
أَبَحْنَا حِمًى لِلْحَيِّ قِيسٍ بِرَاهِطٍ ... وَوَلَّتْ شِلَالًا
وَاسْتُبِيحَ حَرِيمُهَا
يُبَكِّيهِمْ حَرَّانَ تَجْرِي دُمُوعُهُ ... يُرَجِّي نِزَارًا أَنْ
تَئُوِبَ حُلُومُهَا
فَمُتْ كَمَدًا أَوْ عِشْ ذَلِيلًا مُهَضَّمًا ... بِحَسْرَةِ نَفْسٍ
لَا تَنَامُ هُمُومُهَا
فِي أَبْيَاتِ.
(يَزِيدَ بْنِ أَبِي الْغِمْسِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ
بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ
(3/244)
عَنِ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ الرُّومَ مَعَ
جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ ثُمَّ عَاوَدَ الْإِسْلَامَ وَشَهِدَ
صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَعَاشَ إِلَى أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ.
وَنَاتِلُ: بِالنُّونِ، وَالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقَ
بِاثْنَتَيْنِ) .
ذِكْرُ فَتْحِ مَرْوَانَ مِصْرَ
فَلَمَّا قُتِلَ الضَّحَّاكُ وَأَصْحَابُهُ وَاسْتَقَرَّ الشَّامُ
لِمَرْوَانَ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَقَدِمَهَا وَعَلَيْهَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ الْقُرَشِيُّ يَدْعُو إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَخَرَجَ إِلَى مَرْوَانَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَبَعَثَ
مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى دَخَلَ مِصْرَ،
فَقِيلَ لِابْنِ جَحْدَمٍ ذَلِكَ، فَرَجَعَ وَبَايَعَ النَّاسُ
مَرْوَانَ وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ.
فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ بَعَثَ
إِلَيْهِ أَخَاهُ مُصْعَبًا فِي جَيْشٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ
عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ، فَقَتَلَهُ،
فَانْهَزَمَ مُصْعَبٌ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ مُصْعَبٌ شُجَاعًا.
ثُمَّ عَادَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ وَاسْتَقَرَّ بِهَا.
وَقَدْ كَانَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ
قَدِ اشْتَرَطَا عَلَى مَرْوَانَ شُرُوطًا لَهُمَا وَلِخَالِدِ بْنِ
يَزِيدَ، فَلَمَّا تَوَطَّنَ مُلْكَهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَمَالِكٌ
عِنْدَهُ: إِنَّ قَوْمًا يَدَّعُونَ شُرُوطًا، مِنْهُمْ عَطَّارَةٌ
مُكَحَّلَةٌ، يَعْنِي مَالِكًا وَكَانَ يَتَطَيَّبُ وَيَتَكَحَّلُ،
فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا وَلَمَّا تَرِدِي تِهَامَةَ وَيَبْلُغَ
الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ.
فَقَالَ مَرْوَانُ: مَهْلًا يَا أَبَا سُلَيْمَانَ، إِنَّمَا
دَاعَبْنَاكَ! فَقَالَ: هُوَ ذَاكَ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ وَأَمْرِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ
وَلَمَّا بَلَغَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ، وَهُوَ بِخُرَاسَانَ، مَوْتُ
يَزِيدَ كَتَمَ (ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَرَادَةَ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُغَلِّقُ بَابَهُ ... حَدَثَتْ أُمُورٌ
شَأْنُهُنَّ عَظِيمُ
قَتْلَى بِحَرَّةَ وَالَّذِينَ بِكَابُلٍ ... وَيَزِيدُ أُعْلِنَ
شَأْنُهُ الْمَكْتُومُ
أَبَنِي أُمَيَّةَ إِنَّ آخِرَ مَلْكِكُمْ ... جَسَدٌ بِحُوَّارِينَ
ثُمَّ مُقِيمُ
طَرَقَتْ مَنِيَّتُهُ وَعِنْدَ وِسَادِهِ ... كُوبُ وَزِقٌّ رَاعِفٌ
مَرْثُومُ
(3/245)
وَمُرِنَّةٌ تَبْكِي عَلَى نَشْوَانِهِ ...
بِالصُّبْحِ تَقْعُدُ مَرَّةً وَتَقُومُ
فَلَمَّا أَظْهَرَ شِعْرَهُ أَظْهَرَ سَلْمٌ مَوْتَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ وَدَعَا النَّاسَ
إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى الرِّضَى حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ
عَلَى خَلِيفَةٍ، فَبَايَعُوهُ ثُمَّ نَكَثُوا بِهِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ،
وَكَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ مَحْبُوبًا فِيهِمْ، فَلَمَّا خُلِعَ
عَنْهُمُ اسْتُخْلِفَ عَلَيْهِمُ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ،
وَلَمَّا كَانَ بِسَرَخْسَ لَقِيَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مَرْثَدٍ، أَحَدُ
بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ لَهُ: ضَاقَتْ
عَلَيْكَ نِزَارٌ حَتَّى خَلَّفْتَ عَلَى خُرَاسَانَ رَجُلًا مِنَ
الْيَمَنِ؟ يَعْنِي الْمُهَلَّبَ، وَكَانَ أَزْدِيًّا وَالْأَزْدُ مِنَ
الْيَمَنِ، فَوَلَّاهُ مَرْوَ الرُّوذِ وَالْفَارَيَابَ
وَالطَّالَقَانَ وَالْجُوزَجَانَ، وَوَلَّى أَوْسَ بْنَ ثَعْلَبَةَ
بْنَ زُفَرَ، وَهُوَ صَاحِبُ قَصْرِ أَوْسٍ بِالْبَصْرَةِ، هَرَاةَ،
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ لِقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
خَازِمٍ فَقَالَ: مَنْ وَلَّيْتَ خُرَاسَانَ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:
أَمَا وَجَدْتَ فِي الْمِصْرِ مَنْ تَسْتَعْمِلُهُ حَتَّى فَرَّقْتَ
خُرَاسَانَ بَيْنَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَالْيَمَنِ؟ اكْتُبْ لِي
عَهْدًا عَلَى خُرَاسَانَ.
فَكَتَبَ لَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَسَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى مَرْوَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ الْمُهَلَّبَ
فَأَقْبَلَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، فَلَمَّا وَصَلَهَا ابْنُ خَازِمٍ
مَنَعَهُ الْجُشَمِيُّ وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاوَشَةٌ، فَأَصَابَتِ
الْجُشَمِيَّ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ فِي جَبْهَتِهِ، وَتَحَاجَزُوا،
وَدَخَلَهَا ابْنُ خَازِمٍ، وَمَاتَ الْجُشَمِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ
بِيَوْمَيْنِ.
ثُمَّ سَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مَرْثَدٍ بِمَرْوِ
الرُّوذِ فَقَاتَلَهُ أَيَّامًا فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ سَارَ
إِلَى عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ وَهُوَ بِالطَّالَقَانِ فَاقْتَتَلُوا
طَوِيلًا فَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ مَرْثَدٍ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ
فَلَحِقُوا بِهَرَاةَ بِأَوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَرَجَعَ ابْنُ
خَازِمٍ إِلَى مَرْوَ وَهَرَبَ مَنْ كَانَ بِمَرْوِ الرُّوذِ مِنْ
بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ إِلَى هَرَاةَ وَانْضَمَّ إِلَيْهَا مَنْ كَانَ
بِكُوَرِ خُرَاسَانَ مِنْ بَكْرٍ وَكَثُرَ جَمْعُهُمْ وَقَالُوا
لِأَوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَسِيرَ إِلَى ابْنِ
خَازِمٍ وَتُخْرِجَ مُضَرَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ،
فَقَالَ لَهُ بَنُو صُهَيْبٍ، وَهُمْ مَوَالِي بَنِي جَحْدَمٍ: لَا
نَرْضَى أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَمُضَرُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ وَقَدْ
قَتَلُوا سُلَيْمَانَ وَعَمْرًا ابْنِي مَرْثَدٍ، فَإِمَّا أَنْ
تُبَايِعَنَا عَلَى هَذَا وَإِلَّا بَايَعْنَا غَيْرَكَ.
فَأَجَابَهُمْ، فَبَايَعُوهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ ابْنُ خَازِمٍ
فَنَزَلَ عَلَى وَادٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
(3/246)
هَرَاةَ، فَأَشَارَ الْبَكْرِيُّونَ
بِالْخُرُوجِ مِنْ هَرَاةَ وَعَمَلِ خَنْدَقٍ، فَقَالَ أَوْسٌ: بَلْ
نَلْزَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ وَنُطَاوِلُ ابْنَ خَازِمٍ
لِيَضْجَرَ وَيُعْطِيَنَا مَا نُرِيدُ.
فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَخَرَجُوا وَخَنْدَقُوا خَنْدَقًا، وَقَاتَلَهُمُ
ابْنُ خَازِمٍ نَحْوَ سَنَةٍ، وَقَالَ لَهُ هِلَالٌ الضَّبِّيُّ:
إِنَّمَا تُقَاتِلُ إِخْوَتَكَ وَبَنِي أَبِيكَ، فَإِنْ نِلْتَ
مِنْهُمُ الَّذِي تُرِيدُ فَمَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ، فَلَوْ
أَعْطَيْتَهُمْ شَيْئًا يَرْضَوْنَ بِهِ وَأَصْلَحْتَ هَذَا الْأَمْرَ.
قَالَ: وَاللَّهُ لَوْ خَرَجْنَا لَهُمْ مِنْ خُرَاسَانَ مَا رَضُوا.
قَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُ مَعَكَ أَنَا وَلَا رَجُلٌ
أَوْ تُطِيعُنِي حَتَّى تَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ رَسُولِي إِلَيْهِمْ فَأَرْضِهِمْ.
فَأَتَى هِلَالٌ أَوْسَ بْنَ ثَعْلَبَةَ فَنَاشَدَهُ اللَّهَ
وَالْقَرَابَةَ فِي نِزَارٍ وَأَنْ يَحْفَظَ وَلَاءَهَا.
فَقَالَ: هَلْ لَقِيتَ بَنِي صُهَيْبٍ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَالْقَهَمُ.
قَالَ: فَخَرَجَ فَلَقِيَ جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ
فَأَخْبَرَهُمْ مَا أَتَى لَهُ.
فَقَالُوا لَهُ: هَلْ لَقِيتَ بَنِي صُهَيْبٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَظُمَ
أَمْرُ بَنِي صُهَيْبٍ عِنْدَكُمْ، فَأَتَاهُمْ، فَقَالُوا: لَوْلَا
أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْنَاكَ.
قَالَ: فَهَلْ يُرْضِيكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: وَاحِدَةٌ مِنِ
اثْنَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ خُرَاسَانَ، وَإِمَّا أَنْ
تُقِيمُوا وَتَخْرُجُوا لَنَا عَنْ كُلِّ سِلَاحٍ وَكُرَاعٍ وَذَهَبٍ
وَفِضَّةٍ.
فَرَجَعَ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، فَقَالَ: مَا عَنْكَ؟ فَأَخْبَرَهُ.
فَقَالَ: إِنَّ رَبِيعَةَ لَمْ تَزَلْ غِضَابًا عَلَى رَبِّهَا مُنْذُ
بَعَثَ نَبِيَّهُ مِنْ مُضَرَ.
وَأَقَامَ ابْنُ خَازِمٍ يُقَاتِلُهُمْ، فَقَالَ يَوْمًا
لِأَصْحَابِهِ: قَدْ طَالَ مُقَامُنَا، وَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ
رَبِيعَةَ أَرَضِيْتُمْ مِنْ خُرَاسَانَ بِخَنْدَقِكُمْ!
فَأَحْفَظَهُمْ ذَلِكَ، فَتَنَادَوْا لِلْقِتَالِ، فَنَهَاهُمْ أَوْسُ
بْنُ ثَعْلَبَةَ عَنِ الْخُرُوجِ بِجَمَاعَتِهِمْ وَأَنْ يُقَاتِلُوا
كَمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ، فَعَصَوْهُ.
فَقَالَ ابْنُ خَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ: اجْعَلُوهُ يَوْمَكُمْ فَيَكُونُ
الْمُلْكُ لِمَنْ غَلَبَ، وَإِذَا لَقِيتُمُ الْخَيْلَ فَاطْعَنُوهَا
فِي مَنَاخِرِهَا.
فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً وَانْهَزَمَتْ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ حَتَّى
انْتَهَوْا إِلَى خَنْدَقِهِمْ وَتَفَرَّقُوا يَمِينًا وَشِمَالًا
وَسَقَطَ النَّاسُ فِي الْخَنْدَقِ وَقُتِلُوا قَتْلًا ذَرِيعًا
وَهَرَبَ أَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ إِلَى سِجِسْتَانَ فَمَاتَ بِهَا أَوْ
قَرِيبًا مِنْهَا، وَقُتِلَ مِنْ بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةُ
آلَافٍ، وَغَلَبَ ابْنُ خَازِمٍ عَلَى هَرَاةَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا
ابْنَهُ مُحَمَّدًا وَضَمَّ إِلَيْهِ شَمَّاسَ بْنَ دِثَارٍ
الْعُطَارِدِيَّ، وَجَعَلَ بُكَيْرَ بَنَ وَسَّاجٍ الثَّقَفِيَّ عَلَى
شُرْطَتِهِ وَرَجَعَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى مَرْوَ.
وَأَغَارَتِ التُّرْكُ عَلَى قَصْرِ اسْغَادَ، وَابْنُ خَازِمٍ عَلَى
هَرَاةَ، وَكَانَ فِيهِ نَاسٌ مِنَ الْأَزْدِ، فَحَصَرُوهُمْ،
فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ زُهَيْرَ بْنَ
حَيَّانَ فِي بَنِي تَمِيمٍ وَقَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَمُنَاوَأَةَ
التُّرْكِ، إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ.
فَوَافَاهُمْ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ، فَلَمَّا الْتَقَوْا حَمَلَ
(3/247)
عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتِ التُّرْكُ
وَاتَّبَعُوهُمْ حَتَّى مَضَى عَامَّةُ اللَّيْلِ، فَرَجَعَ زُهَيْرٌ
وَقَدْ يَبَسَتْ يَدُهُ عَلَى رُمْحِهِ مِنَ الْبَرْدِ، فَجَعَلُوا
يُسَخِّنُونَ الشَّحْمَ فَيَضَعُهُ عَلَى يَدِهِ وَدَهَنُوهُ
وَأَوْقَدُوا لَهُ نَارًا فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
هَرَاةَ، (فَقَالَ فِي ذَلِكَ ثَابِتُ قُطْنَةَ:
فَدَتْ نَفْسِي فَوَارِسَ مِنْ تَمِيمٍ ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ
ضَنْكِ الْمُقَامِ
بِقَصْرِ الْبَاهِلِيِّ وَقَدْ أَرَانِي ... أُحَامِي حِينَ قَلَّ بِهِ
الْمُحَامِي
بِسَيْفِي بَعْدَ كَسْرِ الرُّمْحِ فِيهِمْ ... أَذُودُهُمُ بِذِي
شَطَبٍ حُسَامِ
أَكُرُّ عَلَيْهِمُ الْيَحْمُومَ كَرَّا ... كَكَرِّ الشُّرْبِ آنِيَةَ
الْمُدَامِ
فَلَوْلَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَضَرْبِي قَوْنَسَ
الْمَلِكِ الْهُمَامِ
إِذَا فَاظَتْ نِسَاءُ بَنِي دِثَارٍ ... أَمَامَ التُّرْكِ بَادِيَةَ
الْخِدَامِ
)
ذِكْرُ أُمِّ التَّوَّابِينَ
قِيلَ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَرَجَعَ ابْنُ زِيَادٍ مِنْ
مُعَسْكَرِهِ بِالنُّخَيْلَةِ وَدَخَلَ الْكُوفَةَ تَلَاقَتِ
الشِّيعَةُ بِالتَّلَاوُمِ وَالتَّنَدُّمِ، وَرَأَتْ أَنْ قَدْ
أَخْطَأَتْ خَطَأً كَبِيرًا بِدُعَائِهِمُ الْحُسَيْنَ وَتَرْكِهِمْ
نُصْرَتَهُ وَإِجَابَتَهُ حَتَّى قُتِلَ إِلَى جَانِبِهِمْ، وَرَأَوْا
أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ عَارَهُمْ وَالْإِثْمَ عَلَيْهِمْ إِلَّا قَتْلُ
مَنْ قَتَلَهُ أَوِ الْقَتْلُ فِيهِمْ، فَاجْتَمَعُوا بِالْكُوفَةِ
إِلَى خَمْسَةِ نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الشِّيعَةِ: إِلَى سُلَيْمَانَ
بْنِ صُرَدٍ الْخُزَاعِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَإِلَى
الْمُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ الْفَزَارِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
عَلِيٍّ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ
الْأَزْدِيِّ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَالٍ التَّيْمِيِّ، تَيْمِ
بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَإِلَى رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ الْبَجَلِيِّ،
وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَاجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِ
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ الْخُزَاعِيِّ، فَبَدْأَهُمُ الْمُسَيَّبُ
بْنُ نَجَبَةَ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا ابْتُلِينَا بِطُولِ الْعُمُرِ وَالتَّعَرُّضِ
لِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ، فَنَرْغَبُ إِلَى رَبِّنَا أَنْ لَا
يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَقُولُ لَهُ غَدًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ، فَإِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ
(3/248)
عَلِيًّا قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي
أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إِلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً، وَلَيْسَ
فِينَا رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَهُ، وَقَدْ كُنَّا مُغْرَمِينَ
بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِنَا فَوَجَدَنَا اللَّهُ كَاذِبِينَ فِي كُلِّ
وَطَنٍ مِنْ مَوَاطِنِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَلَغَنَا قَبْلَ ذَلِكَ كُتُبُهُ
وَرُسُلُهُ وَأَعْذَرَ إِلَيْنَا فَسَأَلَنَا نَصْرَهُ عَوْدًا
وَبَدْءًا وَعَلَانِيَةً فَبَخِلْنَا عَنْهُ بِأَنْفُسِنَا حَتَّى
قُتِلَ إِلَى جَانِبِنَا لَا نَحْنُ نَصَرْنَاهُ بِأَيْدِينَا وَلَا
جَادَلْنَا عَنْهُ بِأَلْسِنَتِنَا وَلَا قَوَّيْنَاهُ بِأَمْوَالِنَا
وَلَا طَلَبْنَا لَهُ النُّصْرَةَ إِلَى عَشَائِرِنَا، فَمَا عُذْرُنَا
عِنْدَ رَبِّنَا وَعِنْدَ لِقَاءِ نَبِيِّنَا وَقَدْ قُتِلَ فِينَا
وَلَدُ حَبِيبِهِ وَذُرِّيَّتُهُ وَنَسْلُهُ؟ لَا وَاللَّهِ لَا عُذْرَ
دُونَ أَنْ تَقْتُلُوا قَاتِلَهُ وَالْمُوَالِينَ عَلَيْهِ، أَوْ
تُقْتَلُوا فِي طَلَبِ ذَلِكَ، فَعَسَى رَبُّنَا أَنْ يَرْضَى عَنَّا
عِنْدَ ذَلِكَ، (وَلَا أَنَا بَعْدَ لِقَائِهِ لِعُقُوبَتِهِ بِآمِنٍ)
.
أَيُّهَا الْقَوْمُ وَلُّوا عَلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ فَإِنَّهُ لَا
بُدَّ لَكُمْ مِنْ أَمِيرٍ تَفْزَعُونَ إِلَيْهِ وَرَايَةٍ تَحِفُّونَ
بِهَا.
وَقَامَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ
اللَّهَ قَدْ هَدَاكَ لِأَصْوَبِ الْقَوْلِ وَبَدَأْتَ بِأَرْشَدِ
الْأُمُورِ بِدُعَائِكَ إِلَى جِهَادِ الْفَاسِقِينَ وَإِلَى
التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، فَمَسْمُوعٌ مِنْكَ
مُسْتَجَابٌ إِلَى قَوْلِكَ، وَقُلْتَ: وَلُّوا أَمْرَكُمْ رَجُلًا
تَفْزَعُونَ إِلَيْهِ وَتَحِفُّونَ بِرَايَتِهِ وَقَدْ رَأَيْنَا
مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتَ، فَإِنْ تَكُنْ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ
تَكُنْ عِنْدَنَا مَرْضِيًّا، وَفِينَا مُنْتَصِحًا، وَفِي
جَمَاعَتِنَا مَحْبُوبًا، وَإِنْ رَأَيْتَ وَرَأَى أَصْحَابُنَا ذَلِكَ
وَلَّيْنَا هَذَا الْأَمْرَ شَيْخَ الشِّيعَةِ وَصَاحِبَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَا السَّابِقَةِ
وَالْقَدَمِ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ الْخُزَاعِيَّ، الْمَحْمُودَ فِي
بَأْسِهِ وَدِينِهِ، الْمَوْثُوقَ بِحَزْمِهِ.
(3/249)
وَتَكَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ
بِنَحْوِ ذَلِكَ وَأَثْنَيَا عَلَى الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ.
فَقَالَ الْمُسَيَّبُ: قَدْ أَصَبْتُمْ فَوَلُّوا أَمْرَكُمْ
سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ.
فَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ
فَإِنِّي لَخَائِفٌ أَلَّا يَكُونَ آخِرُنَا إِلَى هَذَا الدَّهْرِ
الَّذِي نَكِدَتْ فِيهِ الْمَعِيشَةُ وَعَظُمَتْ فِيهِ الرَّزِيَّةُ
وَشَمِلَ فِيهِ الْجَوْرُ أُولِي الْفَضْلِ مِنْ هَذِهِ الشِّيعَةِ
لِمَا هُوَ خَيْرٌ، إِنَّا كُنَّا نَمُدُّ أَعْنَاقَنَا إِلَى قُدُومِ
آلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نُمَنِّيهِمُ النَّصْرَ وَنُحِثُّهُمْ عَلَى الْقُدُومِ، فَلَمَّا
قَدِمُوا وَنَيْنَا وَعَجَزْنَا وَأَدْهَنَّا وَتَرَبَّصْنَا حَتَّى
قُتِلَ فِينَا وَلَدُ نَبِيِّنَا وَسُلَالَتُهُ وَعُصَارَتُهُ
وَبَضْعَةٌ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ إِذْ جَعَلَ يَسْتَصْرِخُ
وَيَسْأَلُ النَّصَفَ فَلَا يُعْطَى، اتَّخَذَهُ الْفَاسِقُونَ غَرَضًا
لِلنَّبْلِ وَدَرِيئَةً لِلرِّمَاحِ حَتَّى أَقْصَدُوهُ، وَعَدَوْا
عَلَيْهِ، (فَسَلَبُوهُ أَلَا) انْهَضُوا، فَقَدْ سَخِطَ عَلَيْكُمْ
رَبُّكُمْ وَلَا تَرْجِعُوا إِلَى الْحَلَائِلِ وَالْأَبْنَاءِ حَتَّى
يَرْضَى اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّهُ رَاضِيًا دُونَ أَنْ
تُنَاجِزُوا مَنْ قَتَلَهُ، أَلَا لَا تَهَابُوا الْمَوْتَ فَمَا
هَابَهُ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا ذُلَّ، وَكُونُوا كَبَنِي إِسْرَائِيلَ
إِذْ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]
فَفَعَلُوا وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَمَدُّوا الْأَعْنَاقَ حِينَ
عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَظِيمِ الذَّنْبِ إِلَّا
الْقَتْلُ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ دُعِيتُمْ إِلَى مَا دُعُوا!
أَحِدُّوا السُّيُوفَ وَرَكِّبُوا الْأَسِنَّةَ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:
60]
(3/250)
حَتَّى تُدْعَوْا وَتُسْتَنْفَرُوا.
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ
لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْجِينِي مِنْ ذَنْبِي وَيُرْضِي رَبِّي
عَنِّي قَتْلِي نَفْسِي لَقَتَلْتُهَا، وَأَنَا أُشْهِدُ كُلَّ مَنْ
حَضَرَ أَنَّ كُلَّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُهُ سِوَى سِلَاحِي الَّذِي
أُقَاتِلُ بِهِ عَدُوِّي صَدَقَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أُقَوِّيهِمْ
بِهِ عَلَى قِتَالِ الْفَاسِقِينَ.
قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ بْنُ حَنَشِ بْنِ رَبِيعَةَ الْكِنَانِيُّ
مِثْلَ ذَلِكَ.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: حَسْبُكُمْ، مَنْ أَرَادَ مِنْ هَذَا شَيْئًا
فَلْيَأْتِ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ التَّيْمِيَّ، فَإِذَا
اجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ مَا تُرِيدُونَ إِخْرَاجَهُ جَهَّزْنَا بِهِ
ذَوِي الْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ مِنْ أَشْيَاعِكُمْ.
وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ يُعْلِمُهُ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُ إِلَى
مُسَاعَدَتِهِمْ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّيعَةِ بِالْمَدَائِنِ،
فَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ الْكِتَابَ عَلَى مَنْ بِالْمَدَائِنِ
مِنَ الشِّيعَةِ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِلَى
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ يُعْلِمُونَهُ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَرَكَةِ
إِلَيْهِ وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُ.
وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ أَيْضًا كِتَابًا إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ
مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيِّ بِالْبَصْرَةِ مِثْلَ مَا كَتَبَ إِلَى
سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَأَجَابَهُ الْمُثَنَّى: إِنَّنَا مَعْشَرَ
الشِّيعَةِ حَمِدْنَا اللَّهَ عَلَى مَا عَزَمْتُمْ عَلَيْهِ وَنَحْنُ
مُوَافُوكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلْأَجَلِ الَّذِي ضَرَبْتَ. وَكَتَبَ
فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ:
تَبَصَّرْ كَأَنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ مُعْلِمًا ... عَلَى أَتْلَعِ
الْهَادِي أَجَشَّ هَزِيمِ
طَوِيلِ الْقَرَا نَهْدِ الشَّوَاةِ مُقَلَّصٍ ... مُلِحٍّ عَلَى
فَأْسِ اللِّجَامِ أَزُومِ
بِكُلِّ فَتًى لَا يَمْلَأُ الرَّوْعُ قَلْبَهُ ... مِحَشٍّ لِنَارِ
الْحَرْبِ غَيْرِ سَئُومِ
أَخِي ثِقَةٍ، يَنْوِي الْإِلَهَ بِسَعْيِهِ ... ضَرُوبٍ بِنَصْلِ
السَّيْفِ غَيْرِ أَثِيمِ
)
فَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتَدَءُوا بِهِ أَمْرَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ
الْحُسَيْنِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَمَا زَالُوا بِجَمْعِ
(3/251)
آلَةِ الْحَرْبِ وَدُعَاءِ النَّاسِ فِي
السِّرِّ إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، فَكَانَ يُجِيبُهُمُ
النَّفَرُ، وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ هَلَكَ يَزِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ
جَاءَ إِلَى سُلَيْمَانَ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: قَدْ هَلَكَ هَذَا
الطَّاغِيَةُ وَالْأَمْرُ ضَعِيفٌ، فَإِنْ شِئْتَ وَثَبْنَا عَلَى
عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، وَكَانَ خَلِيفَةَ ابْنِ زِيَادٍ عَلَى
الْكُوفَةِ، ثُمَّ أَظْهَرْنَا الطَّلَبَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ
وَتَتَبَّعْنَا قَتَلَتَهُ وَدَعَوْنَا النَّاسَ إِلَى أَهْلِ هَذَا
الْبَيْتِ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِمُ الْمَدْفُوعِينَ عَنْ حَقِّهِمْ.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: لَا تُعَجِّلُوا، إِنِّي قَدْ
نَظَرْتُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ فَرَأَيْتُ أَنَّ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ
هُمْ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ وَفُرْسَانُ الْعَرَبِ وَهُمُ
الْمُطَالَبُونَ بِدَمِهِ، وَمَتَى عَلِمُوا مَا تُرِيدُونَ كَانُوا
أَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْكُمْ، وَنَظَرْتُ فِيمَنْ تَبِعَنِي مِنْكُمْ
فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا لَمْ يُدْرِكُوا ثَأْرَهُمْ وَلَمْ
يَشْفُوا نُفُوسَهُمْ وَكَانُوا جُزُرًا لِعَدُوِّهِمْ، وَلَكِنْ
بُثُّوا دُعَاتَكُمْ وَادْعُوا إِلَى أَمْرِكُمْ.
فَفَعَلُوا وَاسْتَجَابَ لَهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ بَعْدَ هَلَاكِ يَزِيدَ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَخْرَجُوا عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ
وَبَايَعُوا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ
يَدْعُونَ النَّاسَ.
فَلَمَّا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ هَلَاكِ يَزِيدَ قَدِمَ
الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْكُوفَةَ فِي النِّصْفِ مِنْ
رَمَضَانَ وَقَدِمَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ
أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِثَمَانٍ
بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ) ، وَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
طَلْحَةَ مَعَهُ عَلَى خَرَاجِ الْكُوفَةِ.
فَأَخَذَ الْمُخْتَارُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى قِتَالِ قَتَلَةِ
الْحُسَيْنِ وَيَقُولُ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَزِيرًا أَمِينًا.
فَرَجَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَكَانَ يَقُولُ:
إِنَّمَا يُرِيدُ سُلَيْمَانُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ
وَمَنْ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَصَرٌ بِالْحَرْبِ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ
بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقِيلَ لَهُ لِيَحْبِسَهُ،
وَخُوِّفَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ إِنْ تَرَكَهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنْ هُمْ قَاتَلُونَا قَاتَلْنَاهُمْ، وَإِنْ
تَرَكُونَا لَمْ نَطْلُبْهُمْ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَطْلُبُونَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ، فَرَحِمَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، إِنَّهُمْ آمِنُونَ،
فَلْيَخْرُجُوا ظَاهِرِينَ وَلْيَسِيرُوا إِلَى مَنْ قَاتَلَ
الْحُسَيْنَ، فَقَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ،
وَأَنَا لَهُمْ ظَهِيرٌ، هَذَا ابْنُ زِيَادٍ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ
وَقَاتِلُ أَخْيَارِكُمْ وَأَمَاثِلِكُمْ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ،
وَقَدْ فَارَقُوهُ
(3/252)
عَلَى لَيْلَةٍ مِنْ جِسْرِ مَنْبِجَ،
فَقِتَالُهُ وَالِاسْتِعْدَادُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَجْعَلُوا
بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ فَيَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَيَلْقَاكُمْ
عَدُوُّكُمْ وَقَدْ ضَعُفْتُمْ، وَتِلْكَ أُمْنِيَتُهُ، وَقَدْ قَدِمَ
عَلَيْكُمْ أَعْدَى خَلْقِ اللَّهِ لَكُمْ، مَنْ وَلِيَ عَلَيْكُمْ
هُوَ وَأَبُوهُ سَبْعَ سِنِينَ لَا يُقْلِعَانِ عَنْ قَتْلِ أَهْلِ
الْعَفَافِ وَالدِّينِ، (هُوَ الَّذِي قَتَلَكُمْ) ، وَمِنْ قِبَلِهِ
أُتِيتُمْ، وَالَّذِي قَتَلَ مَنْ تُنَادُونَ بِدَمِهِ قَدْ جَاءَكُمْ
فَاسْتَقْبِلُوهُ بِحَدِّكُمْ وَشَوْكَتِكُمْ وَاجْعَلُوهَا بِهِ وَلَا
تَجْعَلُوهَا بِأَنْفُسِكُمْ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ.
وَكَانَ مَرْوَانُ قَدْ سَيَّرَ ابْنَ زِيَادٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ،
ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنْهَا سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ.
فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا
يَغُرَّنَّكُمْ مِنَ السَّيْفِ وَالْغَشْمِ مَقَالَةُ هَذَا
الْمُدَاهِنِ، وَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ
لَنَقْتُلَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَيْقَنَّا أَنَّ قَوْمًا يُرِيدُونَ
الْخُرُوجَ عَلَيْنَا لَنَأْخُذَنَّ الْوَالِدَ بِوَلَدِهِ
وَالْمَوْلُودَ بِوَالِدِهِ وَالْحَمِيمَ بِالْحَمِيمِ وَالْعَرِيفَ
بِمَا فِي عَرَافَتِهِ حَتَّى يَدِينُوا لِلْحَقِّ وَيَذِلُّوا
لِلطَّاعَةِ.
فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ فَقَطَعَ عَلَيْهِ
مَنْطِقَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ النَّاكِثِينَ! أَنْتَ تُهَدِّدُنَا
بِسَيْفِكَ وَغَشْمِكَ! أَنْتَ وَاللَّهِ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ! إِنَّا
لَا نَلُومُكَ عَلَى بُغْضِنَا وَقَدْ قَتَلْنَا أَبَاكَ وَجَدَّكَ،
وَأَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَقَدْ قُلْتَ قَوْلًا سَدِيدًا.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَاللَّهِ لُتُقْتَلَنَّ وَقَدْ أَدْهَنَ هَذَا،
يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ: مَا اعْتِرَاضُكَ فِيمَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَمِيرِنَا؟ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِأَمِيرٍ
إِنَّمَا أَنْتَ أَمِيرُ هَذِهِ الْجِزْيَةِ، فَأَقْبِلْ عَلَى
خَرَاجِكَ، وَلَئِنْ أَفْسَدْتَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَدْ
أَفْسَدَهُ وَالِدَاكَ وَكَانَتْ عَلَيْهِمَا دَائِرَةُ السَّوْءِ!
فَشَتَمَهُمْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ فَشَاتَمُوهُ،
فَنَزَلَ الْأَمِيرُ مِنْ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَتَهَدَّدَهُ
إِبْرَاهِيمُ بِأَنَّهُ يَكْتُبُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَشْكُوهُ،
فَجَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَنْزِلِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ
فَقَبْلَ عُذْرَهُ.
ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ خَرَجُوا يَنْشُرُونَ السِّلَاحَ
ظَاهِرِينَ وَيَتَجَهَّزُونَ.
(3/253)
ذِكْرُ فِرَاقِ الْخَوَارِجِ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَارَقَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَانُوا
قَدِمُوا مَكَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانُوا قَدْ
قَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ.
وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ
عَلَيْهِمُ ابْنُ زِيَادٍ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي بِلَالٍ اجْتَمَعُوا
فَتَذَاكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ، وَفَرَضَ عَلَيْكُمُ
الْجِهَادَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْكُمْ بِالْبَيَانِ، وَقَدْ جَرَّدَ
أَهْلُ الظُّلْمِ فِيكُمُ السُّيُوفَ فَاخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَذَا
الَّذِي قَدْ ثَارَ بِمَكَّةَ فَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْيِنَا جَاهَدْنَا
مَعَهُ، وَإِنْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِ رَأْيِنَا دَافَعْنَاهُ عَنِ
الْبَيْتِ. وَكَانَ عَسْكَرُ الشَّامِ قَدْ سَارَ نَحْوَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ. فَسَارَ الْخَوَارِجُ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَسُرَّ بِمَقْدَمِهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَلَى
مِثْلِ رَأْيِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْتِيشٍ.
فَقَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ حَتَّى مَاتَ يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ وَانْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ.
ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي صَنَعْتُمْ
أَمْسِ لَغَيْرُ رَأْيٍ، تُقَاتِلُونَ مَعَ رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ
لَعَلَّهُ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكُمْ، وَقَدْ كَانَ أَمْسِ
يُقَاتِلُكُمْ هُوَ وَأَبُوهُ وَيُنَادِي: يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ!
فَأْتُوهُ وَاسْأَلُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنْ بَرِئَ مِنْهُ كَانَ
وَلِيَّكُمْ، وَإِنْ أَبَى كَانَ عَدُوَّكُمْ.
فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ، فَنَظَرَ فَإِذَا أَصْحَابُهُ حَوْلَهُ
قَلِيلٌ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَتَيْتُمُونِي حِينَ أَرَدْتُ
الْقِيَامَ، وَلَكِنْ رَوِّحُوا إِلَيَّ الْعَشِيَّةَ حَتَّى
أُعْلِمَكُمْ.
فَانْصَرَفُوا، وَبَعَثَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَجَمَعَهُمْ حَوْلَهُ
بِالسِّلَاحِ، وَجَاءَتِ الْخَوَارِجُ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ وَعَلَى
رَأْسِهِ وَبِأَيْدِيهِمُ الْعَمَدُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ
لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ أَزْمَعَ خِلَافَكُمْ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ وَعُبَيْدَةُ بْنُ
هِلَالٍ فَقَالَ عُبَيْدَةُ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَى
عِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، فَدَعَا إِلَى ذَلِكَ
فَأَجَابَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَعَمِلَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ
حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ
وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَكِلَاهُمَا عَمِلَ بِكِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، ثُمَّ إِنِ النَّاسَ اسْتَخْلَفُوا
عُثْمَانَ، فَحَمَى الْأَحْمَاءَ، وَآثَرَ الْقُرْبَى، وَاسْتَعْمَلَ
الْفَتَى وَرَفَعَ الدِّرَّةَ وَوَضَعَ السَّوْطَ وَمَزَّقَ الْكِتَابَ
وَضَرَبَ مُنْكَرَ الْجَوْرِ، وَآوَى طَرِيدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبَ السَّابِقِينَ بِالْفَضْلِ
وَحَرَمَهُمْ، وَأَخَذَ فَيْءَ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْهِمْ
فَقَسَمَهُ فِي فُسَّاقِ
(3/254)
قُرَيْشٍ وَمُجَّانِ الْعَرَبِ، فَسَارَتْ
إِلَيْهِ طَائِفَةٌ فَقَتَلُوهُ، فَنَحْنُ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَمِنَ
ابْنِ عَفَّانَ وَأَوْلِيَائِهِ بُرَآءُ، فَمَا تَقُولُ أَنْتَ يَا
ابْنَ الزُّبَيْرِ؟ فَقَالَ: قَدْ فَهِمْتُ الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فَوْقَ مَا
ذَكَرْتَ وَفَوْقَ مَا وَصَفْتَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ بِهِ أَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَدْ وُفِّقْتَ وَأَصَبْتَ، وَفَهِمْتُ الَّذِي
ذَكَرْتَ بِهِ عُثْمَانَ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ الْيَوْمَ أَعْلَمَ بِابْنِ عَفَّانَ وَأَمْرِهِ
مِنِّي، كُنْتُ مَعَهُ حَيْثُ نَقَمَ [الْقَوْمُ] عَلَيْهِ
وَاسْتَعْتَبُوهُ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا إِلَّا أَعْتَبَهُمْ، ثُمَّ
رَجَعُوا إِلَيْهِ بِكِتَابٍ لَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَتَبَهُ
يَأْمُرُ فِيهِ بِقَتْلِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا كَتَبْتُهُ فَإِنْ
شِئْتُمْ فَهَاتُوا بَيِّنَتَكُمْ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَلَفْتُ لَكُمْ،
فَوَاللَّهِ مَا جَاءُوهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا اسْتَحْلَفُوهُ وَوَثَبُوا
عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا عَتَبْتَهُ بِهِ، فَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِكُلِّ خَيْرٍ أَهْلٌ، وَأَنَا أُشْهِدُكُمْ
وَمَنْ حَضَرَنِي أَنِّي وَلِيٌّ لِابْنِ عَفَّانَ وَعَدُوُّ
أَعْدَائِهِ فَبَرِئَ اللَّهُ مِنْكُمْ.
وَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَأَقْبَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ
الْحَنْظَلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّفَّارِ السَّعْدِيُّ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبَاضٍ وَحَنْظَلَةُ بْنُ بَيْهَسٍ وَبَنُو
الْمَاحُوزِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ مِنْ
بَنِي سَلِيطِ بْنِ يَرْبُوعٍ، وَكُلُّهُمْ مِنْ تَمِيمٍ، حَتَّى
أَتَوُا الْبَصْرَةَ، وَانْطَلَقَ أَبُو طَالُوتَ، مِنْ بَنِي بَكْرِ
بْنِ وَائِلٍ، وَأَبُو فُدَيْكٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْرِ بْنِ
قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَعَطِيَّةُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْيَشْكُرِيُّ
إِلَى الْيَمَامَةِ، فَوَثَبُوا بِهَا مَعَ أَبِي طَالُوتَ، ثُمَّ
أَجْمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْحَنَفِيِّ
وَتَرَكُوا أَبَا طَالُوتَ.
فَأَمَّا نَافِعٌ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّهُمْ قَدِمُوا الْبَصْرَةَ
وَهُمْ عَلَى رَأْيِ أَبِي بِلَالٍ، وَاجْتَمَعُوا وَتَذَاكَرُوا
فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، فَخَرَجَ نَافِعٌ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ،
وَذَلِكَ عِنْدَ وُثُوبِ النَّاسِ بِابْنِ زِيَادٍ وَكَسْرِ
الْخَوَارِجِ بَابَ السِّجْنِ، وَخَرَجُوا وَاشْتَغَلَ النَّاسُ
عَنْهُمْ بِحَرْبِ الْأَزْدِ وَرَبِيعَةَ وَتَمِيمٍ، فَلَمَّا خَرَجَ
نَافِعٌ تَبِعُوهُ، وَاصْطَلَحَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، فَتَجَرَّدَ النَّاسُ لِلْخَوَارِجِ
وَأَخَافُوهُمْ، فَلَحِقَ نَافِعٌ بِالْأَهْوَازِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَخَرَجَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْبَصْرَةِ
إِلَى ابْنِ الْأَزْرَقِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ يَوْمَهُ
ذَلِكَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّفَّارِ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ إِبَاضٍ، وَرِجَالٌ مَعَهُمَا عَلَى رَأْيِهِمَا، وَنَظَرَ
نَافِعٌ فَرَأَى أَنَّ وِلَايَةَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مِنَ
الَّذِينَ قَعَدُوا مِنَ الْخَوَارِجِ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَأَنَّ مَنْ
تَخَلَّفَ عَنْهُ لَا نَجَاةَ لَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ
وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَحِلُّ
لَهُمْ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ،
(3/255)
وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ
وَأَخْذُ عِلْمِ الدِّينِ عَنْهُمْ، وَلَا يَحِلُّ مِيرَاثُهُمْ،
وَرَأَى قَتْلَ الْأَطْفَالِ وَالِاسْتِعْرَاضَ، وَأَنَّ جَمِيعَ
الْمُسْلِمِينَ كُفَّارٌ مِثْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ، لَا يُقْبَلُ
مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ.
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَفَارَقَهُ بَعْضُهُمْ،
وَمِمَّنْ فَارَقَهُ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَارَ إِلَى
الْيَمَامَةِ، فَأَطَاعَهُ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ بِهَا وَتَرَكُوا
أَبَا طَالُوتَ، فَكَتَبَ نَافِعٌ إِلَى ابْنِ إِبَاضٍ وَابْنِ
الصَّفَّارِ يَدْعُوهُمَا وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، فَقَرَأَ
ابْنُ الصَّفَّارِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَى أَصْحَابِهِ
خَشْيَةَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا، فَأَخَذَهُ ابْنُ إِبَاضٍ
فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ أَيَّ رَأْيٍ رَأَى! صَدَقَ
نَافِعٌ، لَوْ كَانَ الْقَوْمُ مُشْرِكِينَ كَانَ أَصْوَبَ النَّاسِ
رَأْيًا وَكَانَتْ سِيرَتُهُ كَسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَذَبَ
فِيمَا يَقُولُ، إِنَّ الْقَوْمَ بُرَآءُ مِنَ الشِّرْكِ وَلَكِنَّهُمْ
كُفَّارٌ بِالنِّعَمِ وَالْأَحْكَامِ وَلَا يَحِلُّ لَنَا إِلَّا
دِمَاؤُهُمْ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الصَّفَّارِ: بَرِئَ اللَّهُ مِنْكَ فَقَدْ
قَصَّرْتَ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنِ ابْنِ الْأَزْرَقِ فَقَدْ غَلَا.
فَقَالَ الْآخَرُ: بَرِئَ اللَّهُ مِنْكَ وَمِنْهُ.
فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَاشْتَدَّتْ شَوْكَةُ ابْنِ الْأَزْرَقِ
وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَأَقَامَ بِالْأَهْوَازِ يَجْبِي الْخَرَاجَ
وَيَتَقَوَّى بِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ الْبَصْرَةِ حَتَّى دَنَا
مِنَ الْجِسْرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ
مُسْلِمَ بْنَ عُبَيْسِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ.
(عُبَيْسٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ، وَالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ،
وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَعُبَيْدَةُ بْنُ بِلَالٍ بِضَمِّ
الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ) .
ذِكْرُ قُدُومِ الْمُخْتَارِ الْكُوفَةَ
كَانَتِ الشِّيعَةُ تَسُبُّ الْمُخْتَارَ وَتَعِيبُهُ لِمَا كَانَ
مِنْهُ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ طُعِنَ فِي سَابَاطَ
وَحُمِلَ إِلَى أَبْيَضِ الْمَدَائِنِ، حَتَّى [إِذَا] كَانَ زَمَنُ
الْحُسَيْنِ، بَعَثَ الْحُسَيْنُ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ إِلَى
الْكُوفَةِ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ فِي قَرْيَةٍ لَهُ تُدْعَى لَفَغَا،
فَجَاءَهُ خَبَرُ ابْنِ عَقِيلٍ عِنْدَ الظُّهْرِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ،
وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُ عَنْ مِيعَادٍ كَمَا سَبَقَ، فَأَقْبَلَ
الْمُخْتَارُ فِي مَوَالِيهِ فَانْتَهَى إِلَى بَابِ الْفِيلِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ، وَقَدْ أَقْعَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَمْرَو
بْنَ حُرَيْثٍ بِالْمَسْجِدِ وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَوَقَفَ الْمُخْتَارُ
لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ عَمْرًا فَاسْتَدْعَاهُ
وَآمَنَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ.
(3/256)
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ ذَكَرَ عُمَارَةُ
بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ أَمْرَهُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ،
فَأَحْضَرَهُ فِيمَنْ دَخَلَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُقْبِلُ فِي
الْجُمُوعِ لِتَنْصُرَ ابْنَ عَقِيلٍ؟ قَالَ: لَمْ أَفْعَلْ وَلَكِنِّي
أَقْبَلْتُ وَنَزَلْتُ تَحْتَ رَايَةِ عَمْرٍو، فَشَهِدَ لَهُ عَمْرٌو،
فَضَرَبَ وَجْهَ الْمُخْتَارِ فَشَتَرَ عَيْنَهُ وَقَالَ: لَوْلَا
شَهَادَةُ عَمْرٍو لَقَتَلْتُكَ! ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى قُتِلَ
الْحُسَيْنُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ تَزَوَّجَ أُخْتَ الْمُخْتَارِ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي
عُبَيْدٍ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ يَشْفَعُ فِيهِ،
فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى زِيَادٍ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ،
فَأَطْلَقَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ غَيْرَ ثَلَاثٍ.
فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْحِجَازِ، فَلَقِيَهُ ابْنُ الْعِرْقِ
وَرَاءَ وَاقِصَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ عَيْنِهِ،
فَقَالَ: خَبَطَهَا ابْنُ الزَّانِيَةِ بِالْقَضِيبِ فَصَارَتْ كَمَا
تَرَى، ثُمَّ قَالَ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْطَعْ أَنَامِلَهُ
وَأَعْضَاءَهُ إِرَبًا إِرَبًا! ثُمَّ سَأَلَهُ الْمُخْتَارُ عَنِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ: فَقَالَ: إِنَّهُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ وَإِنَّهُ
يُبَايَعُ سِرًّا وَلَوِ اشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ وَكَثُرَتْ رِجَالُهُ
لَظَهَرَ.
فَقَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّهُ رَجُلُ الْعَرَبِ الْيَوْمَ وَإِنِ
اتَّبَعَ رَأْيِي أَكْفِهِ أَمْرَ النَّاسِ.
إِنَّ الْفِتْنَةَ أَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَكَأَنْ قَدِ انْبَعَثَتْ،
فَإِذَا سَمِعْتَ بِمَكَانٍ قَدْ ظَهَرَتْ بِهِ [فَقُلْ إِنَّ
الْمُخْتَارَ] فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُ بِدَمِ
الشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ الْمَقْتُولِ بِالطَّفِّ، سَيِّدِ
الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ بِنْتِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَابْنِ
سَيِّدِهَا، الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَوَرَبِّكَ لَأَقْتُلَنَّ
بِقَتْلِهِ عِدَّةَ مَنْ قُتِلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ.
ثُمَّ سَارَ وَابْنُ الْعِرْقِ يَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ ابْنُ
الْعِرْقِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مَا ذَكَرَهُ وَحَدَّثْتُ بِهِ
الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، فَضَحِكَ وَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّهُ أَيَّ
رَجُلٍ دِينًا، وَمِسْعَرَ حَرْبٍ، وَمُقَارِعَ أَعْدَاءٍ كَانَ!
ثُمَّ قَدِمَ الْمُخْتَارُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَمَ عَنْهُ
ابْنُ الزُّبَيْرِ أَمْرَهُ، فَفَارَقَهُ وَغَابَ عَنْهُ سَنَةً، ثُمَّ
سَأَلَ عَنْهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ إِنَّهُ بِالطَّائِفِ
وَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْغَضَبِ وَمُسَيِّرُ
الْجَبَّارِينَ.
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ؟ لَقَدِ
انْبَعَثَ كَذَّابًا مُتَكَهِّنًا، إِنْ يُهْلِكِ اللَّهُ
الْجَبَّارِينَ يَكُنِ الْمُخْتَارُ أَوَّلَهُمْ.
فَهُوَ فِي حَدِيثِهِ إِذْ دَخَلَ الْمُخْتَارُ الْمَسْجِدَ فَطَافَ
وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ، فَأَتَاهُ
(3/257)
مَعَارِفُهُ يُحَدِّثُونَهُ، وَلَمْ يَأْتِ
ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَوَضَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ عَبَّاسَ بْنَ
سَهْلِ بْنِ مِسْعَرٍ، فَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ ثُمَّ قَالَ
لَهُ: مِثْلُكَ يَغِيبُ عَنِ الَّذِي قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
الْأَشْرَافُ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَثَقِيفٍ! لَمْ تَبْقَ
قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَتَاهُ زَعِيمُهَا فَبَايَعَ هَذَا
الرَّجُلَ.
فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُهُ الْعَامَ الْمَاضِي وَكَتَمَ عَنِّي
خَبَرَهُ، فَلَمَّا اسْتَغْنَى عَنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَهُ أَنِّي
مُسْتَغْنٍ عَنْهُ.
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: الْقَهُ اللَّيْلَةَ وَأَنَا مَعَكَ.
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
بَعْدَ الْعَتَمَةِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ: أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا
تَقْضِيَ الْأُمُورَ دُونِي، وَعَلَى أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ دَاخِلٍ،
وَإِذَا ظَهَرْتَ اسْتَعَنْتَ بِي عَلَى أَفْضَلِ عَمَلِكَ.
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
فَقَالَ: وَشَرُّ غِلْمَانِي تُبَايِعُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَا
أُبَايِعُكَ أَبَدًا إِلَّا عَلَى ذَلِكَ.
فَبَايَعَهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ وَشَهِدَ مَعَهُ قِتَالَ الْحُصَيْنِ
بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبْلَى أَحْسَنَ بَلَاءٍ وَقَاتَلَ أَشَدَّ قِتَالٍ،
وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ.
فَلَمَّا هَلَكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَأَطَاعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ
ابْنَ الزُّبَيْرِ أَقَامَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا رَآهُ
لَا يَسْتَعْمِلُهُ جَعَلَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ إِلَّا سَأَلَهُ عَنْ حَالِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ هَانِئُ
بْنُ جُبَّةَ الْوَدَاعِيُّ بِاتِّسَاقِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى
طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا أَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ هُمْ
عَدَدُ أَهْلِهَا لَوْ كَانَ لَهُمْ مَنْ يَجْمَعُهُمْ عَلَى
رَأْيِهِمْ أَكَلَ بِهِمُ الْأَرْضَ إِلَى يَوْمٍ [مَا] .
فَقَالَ الْمُخْتَارُ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَا وَاللَّهِ لَهُمْ
أَنْ أَجْمَعَهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأُلْقِيَ بِهِمْ رُكْبَانَ
الْبَاطِلِ، وَأُهْلِكَ بِهِمْ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ نَحْوَ الْكُوفَةِ فَوَصَلَ إِلَى نَهْرِ
الْحِيرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ ثُمَّ
رَكِبَ فَمَرَّ بِمَسْجِدِ السَّكُونِ وَجَبَّانَةِ كِنْدَةَ، لَا
يَمُرُّ عَلَى مَجْلِسٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ وَقَالَ:
أَبْشِرُوا بِالنُّصْرَةِ وَالْفَلْجِ، أَتَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ.
وَمَرَّ بِبَنِي بَدَاءَ فَلَقِيَ عُبَيْدَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبَدِّيَّ
مِنْ كِنْدَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ بِالنَّصْرِ
وَالْفَلْجِ، إِنَّكَ أَبَا عَمْرٍو عَلَى رَأْيٍ حَسَنٍ، لَنْ يَدَعَ
اللَّهُ لَكَ مَعَهُ إِثْمًا إِلَّا غَفَرَهُ لَكَ، وَلَا ذَنْبًا
إِلَّا سَتَرَهُ.
وَكَانَ عُبَيْدَةُ مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ وَأَشْعَرِهِمْ
وَأَشَدِّهِمْ تَشَيُّعًا وَحُبًّا لِعَلِيٍّ، وَكَانَ لَا يَصْبِرُ
عَنِ الشَّرَابِ، فَقَالَ لَهُ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ! فَهَلْ
أَنْتَ مُبَيِّنٌ لَنَا؟ قَالَ نَعَمِ، الْقَنِي اللَّيْلَةَ.
ثُمَّ سَافَرَ بِبَنِي هِنْدٍ فَلَقِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ كَثِيرٍ
فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: الْقَنِي أَنْتَ وَأَخُوكَ
(3/258)
اللَّيْلَةَ فَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِمَا
تُحِبُّونَ.
وَمَرَّ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: قَدْ قَدِمْتُ
عَلَيْكُمْ بِمَا يَسُرُّكُمْ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ وَاسْتَشْرَفَ
لَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَى سَارِيَةٍ فَصَلَّى عِنْدَهَا حَتَّى
أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ ثُمَّ صَلَّى مَا بَيْنَ
الْجُمُعَةِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِهِ، وَاخْتَلَفَ
إِلَيْهِ الشِّيعَةُ، وَأَتَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ وَأَخُوهُ
وَعُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَ
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَأَنَّهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ
اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ ابْنَ الْوَصِيِّ بَعَثَنِي
إِلَيْكُمْ أَمِينًا وَوَزِيرًا وَمُنْتَخَبًا وَأَمِيرًا وَأَمَرَنِي
بِقَتْلِ الْمُلْحِدِينَ وَالطَّلَبِ بِدَمِ أَهْلِ بَيْتِهِ
وَالدَّفْعِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، فَكُونُوا أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ
إِجَابَةً.
فَضَرَبُوا عَلَى يَدِهِ وَبَايَعُوهُ، وَبَعَثَ إِلَى الشِّيعَةِ
وَقَدِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَقَالَ لَهُمْ
نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ سُلَيْمَانَ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ
بِالْحَرْبِ وَلَا تَجْرِبَةٌ بِالْأُمُورِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ فَيَقْتُلَكُمْ وَيَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَأَنَا أَعْمَلُ
عَلَى مِثَالٍ مُثِّلَ لِي وَأَمْرٍ بُيِّنَ لِي عَنْ وَلِيِّكُمْ،
وَأَقْتُلُ عَدُوَّكُمْ وَأَشْفِي صُدُورَكُمْ، فَاسْمَعُوا قَوْلِي
وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثُمَّ انْتَشِرُوا.
وَمَا زَالَ بِهَذَا وَنَحْوِهِ حَتَّى اسْتَمَالَ طَائِفَةً مِنَ
الشِّيعَةِ وَصَارُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ وَيُعَظِّمُونَهُ،
وَعُظَمَاءُ الشِّيعَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ لَا يَعْدِلُونَ بِهِ
أَحَدًا، وَهُوَ أَثْقَلُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ
يَنْظُرُ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُ سُلَيْمَانَ.
فَلَمَّا خَرَجَ سُلَيْمَانُ نَحْوَ الْجَزِيرَةِ قَالَ عَمْرُو بْنُ
سَعْدٍ وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
رُوَيْمٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْحَطَمِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ
مِنْ سُلَيْمَانَ، إِنَّمَا خَرَجَ يُقَاتِلُ عَدُوَّكُمْ، وَإِنَّ
الْمُخْتَارَ يُرِيدُ أَنْ يَثِبَ عَلَيْكُمْ فِي مِصْرِكُمْ،
فَأَوْثِقُوهُ وَاسْجُنُوهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ.
فَأَتَوْهُ فَأَخَذُوهُ بَغْتَةً، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَا لَكُمْ؟
فَوَاللَّهِ مَا ظَفِرَتْ أَكُفُّكُمْ! فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: شُدَّهُ كِتَافًا وَمَشِّهِ حَافِيًا.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ هَذَا بَرْجَلٍ لَمْ
يَظْهَرْ لَنَا غَدْرُهُ، إِنَّمَا أَخَذْنَاهُ عَلَى الظَّنِّ.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ هَذَا بِعُشِّكِ فَادْرُجِي. مَا هَذَا
الَّذِي بَلَغَنَا عَنْكَ يَا ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ؟
فَقَالَ: مَا بَلَغَكَ عَنِّي إِلَّا بَاطِلٌ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ
غِشٍّ كَغِشِّ أَبِيكَ وَجَدِّكَ!
(3/259)
ثُمَّ حُمِلَ إِلَى السِّجْنِ غَيْرَ
مُقَيَّدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَكَانَ يَقُولُ فِي
السِّجْنِ: أَمَا وَرَبِّ الْبِحَارِ، وَالنَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ،
وَالْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ،
وَالْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ،
بِكُلِّ لَدْنٍ خَطَّارٍ، وَمُهَنَّدٍ بَتَّارٍ، بِجُمُوعِ
الْأَنْصَارِ، لَيْسُوا بِمِيلٍ أَغْمَارٍ، وَلَا بِعُزَّلٍ أَشْرَارٍ،
حَتَّى إِذَا أَقَمْتُ عَمُودَ الدِّينِ، وَزَايَلْتُ شَعْبَ صَدْعِ
الْمُسْلِمِينَ، وَشَفَيْتُ غَلِيلَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَ النَّبِيِّينَ، لَمْ يَكْبُرْ عَلَيَّ زَوَالُ
الدُّنْيَا، وَلَمْ أَحْفِلْ بِالْمَوْتِ إِذَا أَتَى.
وَقِيلَ فِي خُرُوجِ الْمُخْتَارِ إِلَى الْكُوفَةِ وَسَبَبِهِ غَيْرُ
مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ
وَهُوَ عِنْدَهُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ قَوْمًا لَوْ أَنَّ لَهُمْ رَجُلًا
لَهُ فِقْهٌ وَعِلْمٌ بِمَا يَأْتِي وَيَذَرُ لَاسْتَخْرَجَ لَكَ
مِنْهُمْ جُنْدًا تُقَاتِلُ بِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ.
قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: شِيعَةُ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ.
قَالَ: فَكُنْ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
فَبَعَثَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ نَاحِيَةً مِنْهَا يَبْكِي
عَلَى الْحُسَيْنِ وَيَذْكُرُ مُصَابَهُ حَتَّى لَقُوهُ وَأَحَبُّوهُ
فَنَقَلُوهُ إِلَى وَسَطِ الْكُوفَةِ وَأَتَاهُ مِنْهُمْ بَشَرٌ
كَثِيرٌ، فَلَمَّا قَوِيَ أَمْرُهُ سَارَ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِيهَا أَخُوهُ عُبَيْدَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
الْحَطَمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ التَّيْمِيُّ،
وَعَلَى خُرَاسَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ.
(3/260)
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي
حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ بِمَكَّةَ فِي
الْيَوْمِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ خَبَرُ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فِلْقَةُ
حَجَرِ مَنْجَنِيقٍ فِي جَانِبِ وَجْهِهِ فَمَرِضَ أَيَّامًا وَمَاتَ.
(وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ بِخُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي
قَوْلٍ.
وَفِي أَيَّامِ يَزِيدَ مَاتَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، وَقِيلَ:
مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، لَهُ صُحْبَةٌ.
وَفِي أَيَّامِهِ أَيْضًا مَاتَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ
بِالْبَصْرَةِ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ) .
وَفِي أَيَّامِ ابْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ مَاتَ قَيْسُ بْنُ
خَرَشَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَخَبَرُ مَوْتِهِ عَجِيبٌ مَعَ ابْنِ
زِيَادٍ لِأَنَّهُ كَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ.
(وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو
الدُّئِلِيُّ.
وَفِي أَيَّامِهِ) مَاتَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ
أُحُدًا، وَذِكْرُهُ فِي تَبُوكَ مَشْهُورٌ.
وَفِي أَيَّامِهِ مَاتَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَقِيقُ بْنُ ثَوْرٍ السُّدُوسِيُّ.
(3/261)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ]
65 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ مَسِيرِ التَّوَّابِينَ وَقَتْلِهِمْ
لَمَّا أَرَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ الشُّخُوصَ
سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بَعَثَ إِلَى رُءُوسِ أَصْحَابِهِ
فَأَتَوْهُ، فَلَمَّا أَهَلَّ رَبِيعٌ الْآخِرُ خَرَجَ فِي وُجُوهِ
أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا تَوَاعَدُوا لِلْخُرُوجِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ،
فَلَمَّا أَتَى النُّخَيْلَةَ دَارَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ
عَدَدُهُمْ، فَأَرْسَلَ حَكِيمَ بْنَ مُنْقِذٍ الْكِنْدِيَّ
وَالْوَلِيدَ بْنَ عُصَيْرٍ الْكِنَانِيَّ، فَنَادَيَا فِي الْكُوفَةِ:
يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! فَكَانَا أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ دَعَوْا:
يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ.
فَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ أَتَاهُ نَحْوٌ مِمَّا فِي عَسْكَرِهِ،
ثُمَّ نَظَرَ فِي دِيوَانِهِ فَوَجَدَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا
مِمَّنْ بَايَعَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا وَافَانَا مِنْ
سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا إِلَّا أَرْبَعَةُ آلَافٍ.
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمُخْتَارَ يُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْكَ، إِنَّهُ
قَدْ تَبِعَهُ أَلْفَانِ.
فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ عَشَرَةُ آلَافٍ، أَمَا هَؤُلَاءِ بِمُؤْمِنِينَ؟
أَمَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَالْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ؟ فَأَقَامَ
بِالنُّخَيْلَةِ ثَلَاثًا يَبْعَثُ إِلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ.
فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ فَقَالَ: رَحِمَكَ
اللَّهُ! إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ الْكَارِهُ وَلَا يُقَاتِلُ مَعَكَ
إِلَّا مَنْ أَخْرَجَتْهُ النِّيَّةُ، فَلَا تَنْتَظِرْ أَحَدًا
وَجِدَّ فِي أَمْرِكَ.
قَالَ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ.
ثُمَّ قَامَ سُلَيْمَانُ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ
مَنْ كَانَ خَرَجَ يُرِيدُ بِخُرُوجِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالْآخِرَةَ
فَذَلِكَ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْهُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَيًّا
وَمَيِّتًا، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ الدُّنْيَا فَوَاللَّهِ مَا
نَأْتِي فَيْئًا نَأْخُذُهُ وَغَنِيمَةً نَغْنَمُهَا مَا خَلَا
رِضْوَانَ [اللَّهِ] ، وَمَا مَعَنَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَا
(3/262)
فِضَّةٍ وَلَا مَتَاعٍ، وَمَا هِيَ إِلَّا
سُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَزَادٌ قَدْرُ الْبُلْغَةِ، فَمَنْ
كَانَ يَنْوِي غَيْرَ هَذَا فَلَا يَصْحَبُنَا.
فَتَنَادَى أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: إِنَّا لَا نَطْلُبُ
الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهَا خَرَجْنَا إِنَّمَا خَرَجْنَا نَطْلُبُ
التَّوْبَةَ وَالطَّلَبَ بِدَمِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ
نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَلَمَّا عَزَمَ سُلَيْمَانُ عَلَى الْمَسِيرِ قَالَ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا إِنْ
يَكُنْ صَوَابًا فَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ
صَوَابًا فَمِنْ قِبَلِي، إِنَّا خَرَجْنَا نَطْلُبُ بِدَمِ
الْحُسَيْنِ، وَقَتَلَتُهُ كُلُّهُمْ بِالْكُوفَةِ، مِنْهُمْ عُمَرُ
بْنُ سَعْدٍ وَرُءُوسُ الْأَرْبَاعِ وَالْقَبَائِلِ، فَأَيْنَ نَذْهَبُ
هَا هُنَا وَنَدَعُ الْأَوْتَارَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ:
هَذَا هُوَ الرَّأْيُ.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَكِنْ أَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ، إِنَّ الَّذِي
قَتَلَهُ وَعَبَّأَ الْجُنُودَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَا أَمَانَ لَهُ
عِنْدِي دُونَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ فَأُمْضِي فِيهِ حُكْمِي، هَذَا
الْفَاسِقُ ابْنُ الْفَاسِقِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَسِيرُوا
إِلَيْهِ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَإِنْ يُظْهِرْكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ
رَجَوْنَا أَنْ يَكُونَ مَنْ بَعْدَهُ أَهْوَنَ عَلَيْنَا مِنْهُ،
وَرَجَوْنَا أَنْ يَدِينَ لَكُمْ أَهْلُ مِصْرِكُمْ فِي عَافِيَةٍ
فَيَنْظُرُونَ إِلَى كُلِّ مَنْ شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ
فَيَقْتُلُونَهُ وَلَا يَغْشِمُوا، وَإِنْ تُسْتَشْهَدُوا فَإِنَّمَا
قَاتَلْتُمُ الْمُحِلِّينَ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ، إِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَجْعَلُوا جِدَّكُمْ بِغَيْرِ
الْمُحِلِّينَ، وَلَوْ قَاتَلْتُمْ أَهْلَ مِصْرِكُمْ مَا عَدَمَ
رَجُلٌ أَنْ يَرَى رَجُلًا قَدْ قَتَلَ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَحَمِيمَهُ
وَرَجُلًا يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَاسْتَخِيرُوا اللَّهَ وَسِيرُوا.
وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ طَلْحَةَ خُرُوجُ ابْنِ صُرَدٍ، فَأَتَيَاهُ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَلَمْ يَصْحَبْهُمْ مَنْ شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ
خَوْفًا مِنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ
يَبِيتُ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ خَوْفًا مِنْهُمْ.
فَلَمَّا أَتَيَاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّ
الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَغُشُّهُ،
وَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَأَهْلُ بَلَدِنَا وَأَحَبُّ أَهْلِ مِصْرٍ
خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا، فَلَا تَفْجَعُونَا بِأَنْفُسِكُمْ وَلَا
تَنْقُصُوا عَدَدَنَا بِخُرُوجِكُمْ مِنْ جَمَاعَتِنَا، أَقِيمُوا
مَعَنَا حَتَّى نَتَهَيَّأَ، فَإِذَا سَارَ عَدُّونَا إِلَيْنَا
خَرَجْنَا إِلَيْهِ بِجَمَاعَتِنَا فَقَاتَلْنَاهُ.
وَجَعَلَ لِسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ خَرَاجَ جُوخَى إِنْ أَقَامُوا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ
لَهُمَا: قَدْ مَحَّضْتُمَا النَّصِيحَةَ وَاجْتَهَدْتُمَا فِي
الْمَشُورَةِ، فَنَحْنُ بِاللَّهِ وَلَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ
الْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَلَا نَرَانَا إِلَّا سَائِرِينَ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَقِيمُوا حَتَّى (نُعَبِّي مَعَكُمْ
جَرِيدًا كَثِيفًا) فَتَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيفٍ. وَكَانَ
قَدْ بَلَغَهُمْ إِقْبَالُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
(3/263)
زِيَادٍ مِنَ الشَّامِ فِي جُنُودٍ.
فَلَمْ يُقِمْ سُلَيْمَانُ، فَسَارَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ
مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَوَصَلَ
دَارَ الْأَهْوَازِ وَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، (فَقَالَ:
مَا أُحِبُّ أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ [عَنْكُمْ] مَعَكُمْ، {لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] ، إِنَّ اللَّهَ
كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، وَاخْتَصَّكُمْ بِفَضْلِ ذَلِكَ)
.
ثُمَّ سَارُوا فَانْتَهَوْا إِلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا
وَصَلُوا صَاحُوا صَيْحَةً وَاحِدَةً، فَمَا رُئِيَ أَكْثَرَ بَاكِيًا
مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ وَتَابُوا عِنْدَهُ
مِنْ خِذْلَانِهِ، وَتَرْكِ الْقِتَالِ مَعَهُ وَأَقَامُوا عِنْدَهُ
يَوْمًا وَلَيْلَةً يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ
عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، (وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ
ضَرِيحِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ حُسَيْنًا الشَّهِيدَ ابْنَ الشَّهِيدِ،
الْمَهْدِيَّ ابْنَ الْمَهْدِيِّ، الصِّدِّيقَ ابْنَ الصِّدِّيقِ،
اللَّهُمَّ إِنَّا نُشْهِدُكَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ
وَأَعْدَاءُ قَاتِلِيهِمْ وَأَوْلِيَاءُ مُحِبِّيهِمُ، اللَّهُمَّ
إِنَّا خَذَلْنَا ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَاغْفِرْ لَنَا مَا مَضَى مِنَّا وَتُبْ عَلَيْنَا
وَارْحَمْ حُسَيْنًا وَأَصْحَابَهُ الشُّهَدَاءَ الصِّدِّيقِينَ،
وَإِنَّا نُشْهِدُكَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ وَعَلَى مَا قُتِلُوا
عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ! وَزَادَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ حَنَقًا) .
ثُمَّ سَارُوا بَعْدَ أَنْ كَانَ الرَّجُلُ يَعُودُ إِلَى ضَرِيحِهِ
كَالْمُوَدِّعِ لَهُ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنِ
ازْدِحَامِهِمْ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ أَخَذُوا عَلَى
الْأَنْبَارِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
كِتَابًا، مِنْهُ: يَا قَوْمَنَا لَا تُطِيعُوا عَدُوَّكُمْ، أَنْتُمْ
فِي أَهْلِ بِلَادِكُمْ خِيَارٌ كُلُّكُمْ، وَمَتَى يُصِبْكُمْ
عَدُوُّكُمْ يَعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَعْلَامُ مِصْرِكُمْ،
فَيُطْمِعُهُمْ ذَلِكَ فِيمَنْ وَرَاءَكُمْ، يَا قَوْمَنَا {إِنَّهُمْ
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي
مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] ، يَا
قَوْمِ إِنَّ أَيْدِيَنَا وَأَيْدِيَكُمْ وَاحِدَةٌ وَعَدُوَّنَا
وَعَدُوَّكُمْ وَاحِدٌ وَمَتَى تَجْتَمِعُ كَلِمَتُنَا عَلَى
عَدُوِّنَا نَظْهَرُ عَلَى عَدُوِّنَا وَمَتَى تَخْتَلِفُ تَهُنْ
شَوْكَتُنَا عَلَى مَنْ خَالَفْنَا، يَا قَوْمَنَا لَا تَسْتَغِشُّوا
نُصْحِيَ، وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرِي وَأَقْبِلُوا حِينَ يُقْرَأُ
كِتَابِي عَلَيْكُمْ. وَالسَّلَامُ.
(3/264)
فَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: قَدْ
أَبَيْنَا هَذَا وَنَحْنُ فِي مِصْرِنَا، فَحِينَ وَطَّنَا أَنْفُسَنَا
عَلَى الْجِهَادِ وَدَنَوْنَا مِنْ أَرْضِ عَدُوِّنَا، مَا هَذَا
بِرَأْيٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ يَشْكُرُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ
وَيَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَبْشَرُوا بِبَيْعِهِمْ
أَنْفُسَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَإِنَّهُمْ قَدْ تَابُوا مِنْ عَظِيمِ
ذَنْبِهِمْ وَتَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ
وَرَضُوا بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اسْتَمَاتَ
الْقَوْمُ، أَوَّلُ خَبَرٍ يَأْتِيكُمْ عَنْهُمْ قَتْلُهُمْ، وَاللَّهِ
لَيُقْتَلُنَّ كِرَامًا مُسْلِمِينَ.
ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى قَرْقِيسْيَا عَلَى تَعْبِيَةٍ،
وَبِهَا زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا
مِنْهُمْ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ
سُوقًا، فَأَتَى الْمُسَيَّبُ إِلَى بَابِ قَرْقِيسْيَا فَعَرَّفَهُمْ
نَفْسَهُ وَطَلَبَ الْإِذْنَ عَلَى زُفَرَ، فَأَتَى هُذَيْلَ بْنِ
زُفَرَ أَبَاهُ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ اسْمُهُ
الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ.
فَقَالَ أَبُوهُ: أَمَا تَدْرِي يَا بُنَيَّ مَنْ هَذَا؟ هَذَا فَارِسُ
مُضَرَ الْحَمْرَاءِ كُلِّهَا، إِذَا عُدَّ مِنْ أَشْرَافِهَا عَشْرَةٌ
كَانَ أَحَدَهُمْ هُوَ، وَهُوَ بَعْدُ رَجُلٌ نَاسِكٌ لَهُ دِينٌ،
إِيذَنْ لَهُ.
فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ
وَسَأَلَهُ، فَعَرَّفَهُ الْمُسَيَّبُ حَالَهُ وَمَا عَزَمُوا
عَلَيْهِ، فَقَالَ زُفَرُ: إِنَّا لَمْ نُغْلِقْ أَبْوَابَ
الْمَدِينَةِ إِلَّا لِنَعْلَمَ إِيَّانَا تُرِيدُونَ أَمْ غَيْرَنَا،
وَمَا بِنَا عَجْزٌ عَنِ النَّاسِ وَمَا نُحِبُّ قِتَالَكُمْ، وَقَدْ
بَلَغَنَا عَنْكُمْ صَلَاحٌ وَسِيرَةٌ جَمِيلَةٌ.
ثُمَّ أَمَرَ ابْنَهُ فَأَخْرَجَ لَهُمْ سُوقًا، وَأَمَرَ
لِلْمُسَيَّبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفَرَسٍ، فَرَدَّ الْمَالَ وَأَخَذَ
الْفَرَسَ وَقَالَ: لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنَّ عَرَجَ فَرَسِي.
وَبَعَثَ زُفَرُ إِلَيْهِمْ بِخُبْزٍ كَثِيرٍ وَعَلَفٍ وَدَقِيقٍ
حَتَّى اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنِ السُّوقِ، إِلَّا أَنَّ الرَّجُلُ
كَانَ يَشْتَرِي سَوْطًا أَوْ ثَوْبًا.
ثُمَّ ارْتَحَلُوا مِنَ الْغَدِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ
يُشَيِّعُهُمْ وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: إِنَّهُ قَدْ سَارَ خَمْسَةُ
أُمَرَاءَ مِنَ الرَّقَّةِ هُمُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ،
وَشُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ،
وَجَبَلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ، فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِثْلِ الشَّوْكِ وَالشَّجَرِ،
فَإِنْ شِئْتُمْ دَخَلْتُمْ مَدِينَتَنَا وَكَانَتْ أَيْدِينَا
وَاحِدَةً، فَإِذَا جَاءَنَا هَذَا الْعَدُوُّ قَاتَلْنَاهُمْ
جَمِيعًا.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ طَلَبَ أَهْلُ مِصْرِنَا ذَلِكَ مِنَّا
فَأَبَيْنَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ زُفَرُ: فَبَادِرُوهُمْ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ وَهِيَ رَأْسُ
عَيْنٍ فَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ فِي
(3/265)
ظُهُورِكُمْ وَيَكُونُ الرُّسْتَاقُ
وَالْمَاءُ وَالْمَادَّةُ فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ مِنْهُ، فَاطْوُوا الْمَنَازِلَ،
فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ جَمَاعَةً قَطُّ أَكْرَمَ مِنْكُمْ، فَإِنِّي
أَرْجُو أَنْ تَسْبِقُوهُمْ، وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ فَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ فِي فَضَاءٍ تُرَامُونَهُمْ وَتُطَاعِنُونَهُمْ
فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْكُمْ، وَلَا آمَنُ أَنْ يُحِيطُوا بِكُمْ،
فَلَا تَقِفُوا لَهُمْ فَيَصْرَعُوكُمْ، وَلَا تَصِفُّوا لَهُمْ،
فَإِنِّي لَا أَرَى مَعَكُمْ رَجَّالَةً وَمَعَهُمُ الرَّجَّالَةُ
وَالْفُرْسَانُ بَعْضُهُمْ يَحْمِي بَعْضًا، وَلَكِنِ الْقُوهُمْ فِي
الْكَتَائِبِ وَالْمَقَانِبِ ثُمَّ بُثُّوهَا فِيمَا بَيْنَ
مَيَمَنَتِهِمْ وَمَيْسَرَتِهِمْ وَاجْعَلُوا مَعَ كُلِّ كَتِيبَةٍ
أُخْرَى إِلَى جَانِبِهَا، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى إِحْدَى
الْكَتِيبَتَيْنِ رَحَلَتِ الْأُخْرَى فَنَفَّسَتْ عَنْهَا، وَمَتَى
شَاءَتْ كَتِيبَةٌ ارْتَفَعَتْ، وَمَتَى شَاءَتْ كَتِيبَةٌ انْحَطَّتْ،
وَلَوْ كُنْتُمْ صَفًّا وَاحِدًا فَزَحَفَتْ إِلَيْكُمُ الرَّجَّالَةُ
فَدَفَعْتُمْ عَنِ الصَّفِّ انْتَقَضَ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ.
ثُمَّ وَدَّعَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ وَدَعَوْا لَهُ وَأَثْنَوْا
عَلَيْهِ.
ثُمَّ سَارُوا مُجِدِّينَ فَانْتَهَوْا إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ
فَنَزَلُوا غَرْبَيَّهَا وَأَقَامُوا خَمْسًا فَاسْتَرَاحُوا
وَأَرَاحُوا.
وَأَقْبَلَ أَهْلُ الشَّامِ فِي عَسَاكِرِهِمْ حَتَّى كَانُوا مِنْ
عَيْنِ الْوَرْدَةِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَقَامَ
سُلَيْمَانُ فِي أَصْحَابِهِ وَذَكَرَ الْآخِرَةَ وَرَغَّبَ فِيهَا
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَاكُمْ عَدُوُّكُمُ الَّذِي
دَأَبْتُمْ إِلَيْهِ فِي السَّيْرِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ،
فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْدُقُوهُمُ الْقِتَالَ وَاصْبِرُوا، إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَا يُوَلِّيَنَّهُمُ امْرُؤٌ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، وَلَا
تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا
تَقْتُلُوا أَسِيرًا مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِكُمْ إِلَّا أَنْ
يُقَاتِلَكُمْ بَعْدَ أَنْ تَأْسِرُوهُ، فَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ
سِيرَةُ عَلِيٍّ فِي أَهْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنَا قُتِلْتُ فَأَمِيرُ النَّاسِ مُسَيَّبُ بْنُ
نَجَبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
نُفَيْلٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ،
فَإِنْ قُتِلَ فَالْأَمِيرُ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، رَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً صَدَقَ مَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ بَعَثَ الْمُسَيَّبَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ ثُمَّ قَالَ:
سِرْ حَتَّى تَلْقَى أَوَّلَ عَسَاكِرِهِمْ فَشُنَّ عَلَيْهِمُ
[الْغَارَةَ] ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَا تُحِبُّهُ وَإِلَّا رَجَعْتَ،
وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِلَ [أَوْ تَدَعَ] أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ
يَنْزِلُ أَوْ يَسْتَقْبِلُ آخِرَ ذَلِكَ، حَتَّى لَا تَجِدَ مِنْهُ
بُدًّا.
فَسَارَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ ثُمَّ نَزَلَ السَّحَرَ. فَلَمَّا
أَصْبَحُوا أَرْسَلَ أَصْحَابَهُ فِي الْجِهَاتِ لِيَأْتُوهُ بِمَنْ
يَلْقَوْنَ، فَأَتَوْهُ بِأَعْرَابِيٍّ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَدْنَى
الْعَسَاكِرِ مِنْهُ، فَقَالَ: أَدْنَى عَسْكَرٍ مِنْ عَسَاكِرِهِمْ
مِنْكَ عَسْكَرُ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ، وَهُوَ مِنْكَ عَلَى
رَأْسِ مِيلٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْحُصَيْنُ، ادَّعَى
الْحُصَيْنُ أَنَّهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَأَبَى شُرَحْبِيلُ ذَلِكَ،
وَهُمَا يَنْتَظِرَانِ أَمْرَ ابْنِ زِيَادٍ.
(3/266)
فَسَارَ الْمُسَيَّبُ وَمَنْ مَعَهُ
مُسْرِعِينَ فَأَشْرَفُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَحَمَلُوا فِي
جَانِبِ عَسْكَرِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ وَأَصَابَ الْمُسَيَّبُ
مِنْهُمْ رِجَالًا، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْجِرَاحَ وَأَخَذُوا
الدَّوَابَّ، وَخَلَّى الشَّامِيُّونَ عَسْكَرَهُمْ وَانْهَزَمُوا،
فَغَنِمَ مِنْهُ أَصْحَابُ الْمُسَيَّبِ مَا أَرَادُوا ثُمَّ
انْصَرَفُوا إِلَى سُلَيْمَانَ مَوْفُورِينَ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ ابْنَ زِيَادٍ فَسَرَّحَ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ
مُسْرِعًا حَتَّى نَزَلَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَخَرَجَ
أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ،
وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، وَسُلَيْمَانُ فِي
الْقَلْبِ، وَجَعَلَ الْحُصَيْنُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ جَمَلَةَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ رَبِيعَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ
الْغَنَوِيَّ، فَلَمَّا دَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ دَعَاهُمْ أَهْلُ
الشَّامِ إِلَى الْجَمَاعَةِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
وَدَعَاهُمْ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ إِلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَتَسْلِيمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ
يُخْرِجُونَ مَنْ بِالْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ثُمَّ
يُرَدُّ الْأَمْرُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَأَبَى كُلٌّ مِنْهُمْ، فَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ سُلَيْمَانَ عَلَى
مَيْسَرَةِ الْحُصَيْنِ، وَالْمَيْسَرَةُ أَيْضًا عَلَى الْمَيْمَنَةِ،
وَحَمَلَ سُلَيْمَانُ فِي الْقَلْبِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، فَانْهَزَمَ
أَهْلُ الشَّامِ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَمَا زَالَ الظَّفَرُ
لِأَصْحَابِ سُلَيْمَانَ إِلَى أَنْ حَجَزَ بَيْنِهِمُ اللَّيْلُ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَبَّحَ الْحُصَيْنَ جَيْشٌ مَعَ ابْنِ ذِي
الْكَلَاعِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، أَمَدَّهُمْ بِهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ، وَخَرَجَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا
لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْهُ جَمِيعَ النَّهَارِ، لَمْ يَحْجِزْ
بَيْنَهُمْ إِلَّا الصَّلَاةُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا تَحَاجَزُوا وَقَدْ
كَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَطَافَ الْقُصَّاصُ عَلَى
أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ يُحَرِّضُونَهُمْ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الشَّامِ أَتَاهُمْ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ
الْبَاهِلِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ،
فَاقْتَتَلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى ارْتِفَاعِ
الضُّحَى، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَثَّرُوهُمْ وَتَعَطَّفُوا
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَرَأَى سُلَيْمَانُ مَا لَقِيَ
أَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ وَنَادَى: عِبَادَ اللَّهِ مَنْ أَرَادَ
الْبُكُورَ إِلَى رَبِّهِ وَالتَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ فَإِلَيَّ!
ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَةَ سَيْفِهِ وَنَزَلَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ
وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ وَمَشَوْا مَعَهُ، فَقَاتَلُوهُمْ،
فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَجَرَّحُوا
فِيهِمْ فَأَكْثَرُوا الْجِرَاحَ.
فَلَمَّا رَأَى الْحُصَيْنُ صَبْرَهُمْ وَبَأْسَهُمْ بَعَثَ
الرَّجَّالَةَ تَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ وَاكْتَنَفَتْهُمُ الْخَيْلُ
وَالرِّجَالُ، فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رَمَاهُ
يَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ ثُمَّ
وَقَعَ.
(3/267)
فَلَمَّا قُتِلَ سُلَيْمَانُ أَخَذَ
الرَّايَةَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ وَتَرَحَّمَ عَلَى سُلَيْمَانَ
ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ بِهَا سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ ثُمَّ حَمَلَ،
فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بَعْدَ أَنْ
قَتَلَ رِجَالًا.
فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
نُفَيْلٍ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ قَرَأَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] . وَحَفَّ بِهِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ
الْأَزْدِ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ أَتَاهُمْ فُرْسَانٌ
ثَلَاثَةٌ مِنْ سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ يُخْبِرُونَ بِمَسِيرِهِمْ فِي
سَبْعِينَ وَمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَيُخْبِرُونَ أَيْضًا
بِمَسِيرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ
الْعَبْدِيِّ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، (فَسُرَّ النَّاسُ) فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: ذَلِكَ لَوْ جَاءُونَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ.
فَلَمَّا نَظَرَ الرُّسُلُ إِلَى مُصَارِعِ إِخْوَانِهِمْ سَاءَهُمْ
ذَلِكَ وَاسْتَرْجَعُوا وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، قَتَلَهُ ابْنُ أَخِي رَبِيعَةَ بْنِ
مُخَارِقٍ، وَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ عَلَى قَاتِلِ
أَخِيهِ فَطَعَنَهُ بِالسَّيْفِ، وَاعْتَنَقَهُ الْآخَرُ فَحَمَلَ
أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ فَخَلَّصُوهُ بِكَثْرَتِهِمْ وَقَتَلُوا
خَالِدًا، وَبَقِيَتِ الرَّايَةُ لَيْسَ عِنْدَهَا أَحَدٌ، فَنَادَوْا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ فَإِذَا هُوَ قَدِ اصْطَلَى الْحَرْبَ فِي
عِصَابَةٍ مَعَهُ، فَحَمَلَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ فَكَشَفَ أَهْلَ
الشَّامِ عَنْهُ، فَأَتَى فَأَخَذَ الرَّايَةَ وَقَاتَلَ مَلِيًّا
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ الَّتِي لَيْسَ
بَعْدَهَا مَوْتٌ (وَالرَّاحَةَ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا نَصَبٌ،
وَالسُّرُورَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ حُزْنٌ) ، فَلْيَتَقَرَّبْ إِلَى
اللَّهِ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْمُحِلِّينَ، وَالرَّوَاحِ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَحَمَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
فَقَتَلُوا رِجَالًا وَكَشَفُوهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ تَعَطَّفُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ،
وَكَانَ مَكَانُهُمْ لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا
كَانَ الْمَسَاءُ تَوَلَّى قِتَالَهُمْ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ
الْبَاهِلِيُّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي خَيْلِهِ وَرَجْلِهِ، فَوَصَلَ
ابْنُ مُحْرِزٍ إِلَى ابْنِ وَالٍ وَهُوَ يَتْلُو: {وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169]
الْآيَةَ، فَغَاظَ ذَلِكَ أَدْهَمَ بْنَ مُحْرِزٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ
فَضَرَبَ يَدَهُ فَأَبَانَهَا ثُمَّ تَنَحَّى عَنْهُ وَقَالَ: إِنِّي
أَظُنُّكَ وَدِدْتَ أَنَّكَ عِنْدَ أَهْلِكَ.
قَالَ ابْنُ وَالٍ: بِئْسَ مَا ظَنَنْتَ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ
يَدُكَّ مَكَانَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِي مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا
فِي يَدِي لِيَعْظُمَ وِزْرُكَ وَيَعْظُمَ أَجْرِي.
فَغَاظَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ وَطَعَنَهُ
(3/268)
فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ مَا يَزُولُ.
وَكَانَ ابْنُ وَالٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْعُبَّادِ، فَلَمَّا قُتِلَ
أَتَوْا رِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجَلِيَّ وَقَالُوا: لِتَأْخُذِ
الرَّايَةَ. فَقَالَ: ارْجِعُوا بِنَا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُنَا
لِيَوْمِ شَرِّهِمْ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْمَرِ: هَلَكْنَا
وَاللَّهِ، لَئِنِ انْصَرَفْتَ لَيَرْكَبُنَّ أَكْتَافَنَا فَلَا
نَبْلُغُ فَرْسَخًا حَتَّى نَهْلِكَ عَنْ آخِرِنَا، وَإِنْ نَجَا
مِنَّا نَاجٍ أَخَذَتْهُ الْعَرَبُ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِمْ
فَقُتِلَ صَبْرًا، هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ قَارَبَتِ الْغُرُوبَ
فَنُقَاتِلُهُمْ عَلَى خَيْلِنَا، فَإِذَا غَسَقَ اللَّيْلُ رَكِبْنَا
خُيُولَنَا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَسِرْنَا حَتَّى نُصْبِحَ وَنَسِيرُ
عَلَى مَهَلٍ، وَيَحْمِلُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَجَرِيحَهُ وَنَعْرِفُ
الْوَجْهَ الَّذِي نَأْخُذُهُ.
فَقَالَ رِفَاعَةُ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ! وَأَخَذَ الرَّايَةَ
وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَامَ أَهْلُ الشَّامِ
إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ اللَّيْلِ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ
لِشِدَّةِ قِتَالِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُزَيْزٍ
الْكِنَانِيُّ فَقَاتَلَ أَهْلَ الشَّامِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ مُحَمَّدُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، فَنَادَى بَنِي كِنَانَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَسَلَّمَ وَلَدَهُ إِلَيْهِمْ لِيُوصِلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ،
فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْأَمَانَ، فَأَبَى ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى
قُتِلَ.
وَتَقَدَّمَ كَرِبُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْيَرِيُّ عِنْدَ الْمَسَاءِ فِي
مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَعَرَضَ
عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ
الْأَمَانَ، قَالَ: قَدْ كُنَّا آمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا
خَرَجْنَا نَطْلُبُ أَمَانَ الْآخِرَةِ. فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى
قُتِلُوا.
وَتَقَدَّمَ صَخْرُ بْنُ هِلَالٍ الْمُزَنِيُّ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ
مُزَيْنَةَ فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا.
فَلَمَّا أَمْسَوْا رَجَعَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ،
وَنَظَرَ رِفَاعَةُ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ قَدْ عُقِرَ بِهِ فَرَسُهُ
وَجُرِحَ فَدَفَعَهُ إِلَى قَوْمِهِ ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ
لَيْلَتَهُ، وَأَصْبَحَ الْحُصَيْنُ لِيَلْتَقِيَهُمْ فَلَمْ يَرَهُمْ،
فَلَمْ يَبْعَثْ فِي آثَارِهِمْ، وَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا
قَرْقِيسْيَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ زُفَرُ الْإِقَامَةَ، فَأَقَامُوا
ثَلَاثًا، فَأَضَافَهُمْ ثُمَّ زَوَّدَهُمْ وَسَارُوا إِلَى
الْكُوفَةِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي أَهْلِ
الْمَدَائِنِ فَبَلَغَ هِيتَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ، فَرَجَعَ فَلَقِيَ
الْمُثَنَّى بْنَ مُخَرِّبَةَ الْعَدَوِيَّ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ
بِصَنْدَوْدَاءَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَقَامُوا حَتَّى أَتَاهُمْ رِفَاعَةُ
فَاسْتَقْبَلُوهُ، وَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَقَامُوا
يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ تَفَرَّقُوا، فَسَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى
بَلَدِهِمْ.
وَلَمَّا بَلَغَ رِفَاعَةُ الْكُوفَةَ كَانَ الْمُخْتَارُ مَحْبُوسًا،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَمَرْحَبًا بِالْعُصْبَةِ
(3/269)
الَّذِينَ عَظَّمَ اللَّهُ لَهُمُ
الْأَجْرَ حِينَ انْصَرَفُوا وَرَضِيَ فِعْلَهُمْ حِينَ قُتِلُوا،
أَمَا وَرَبِّ الْبَيْتِ مَا خَطَا خَاطٍ مِنْكُمْ خُطْوَةً وَلَا
رَبَا رَبْوَةً إِلَّا كَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ مِنَ
الدُّنْيَا! إِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَتَوَفَّاهُ
اللَّهُ (وَجَعَلَ وَجْهَهُ مَعَ أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) ، وَلَمْ يَكُنْ
بِصَاحِبِكُمُ الَّذِي بِهِ تُنْصَرُونَ، إِنِّي أَنَا الْأَمِيرُ
الْمَأْمُورُ، وَالْأَمِينُ الْمَأْمُونُ، وَقَاتِلُ الْجَبَّارِينَ،
وَالْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ، الْمُقَيَّدُ مِنَ
الْأَوْتَارِ، فَأَعِدُّوا وَاسْتَعِدُّوا وَأَبْشِرُوا، أَدْعُوكُمْ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَالطَّلَبِ بِدَمِ
أَهْلِ الْبَيْتِ، وَالدَّفْعِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، وَجِهَادِ
الْمُحِلِّينَ، وَالسَّلَامُ.
(وَكَانَ قَتْلُ سُلَيْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ
الْآخِرِ) .
وَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِقَتْلِ سُلَيْمَانَ
وَانْهِزَامِ أَصْحَابِهِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ (قَدْ
أَهْلَكَ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُلْقِحَ فِتْنَةٍ وَرَأْسَ
ضَلَالَةٍ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، أَلَا وَإِنَّ السُّيُوفَ تَرَكْنَ
رَأْسَ الْمُسَيَّبِ خَذَارِيفَ، وَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ) مِنْهُمْ
رَأْسَيْنِ عَظِيمَيْنِ ضَالَّيْنِ مُضِلَّيْنِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
سَعْدٍ الْأَزْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ الْبَكْرِيَّ،
وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُمْ مَنْ عِنْدَهُ امْتِنَاعٌ، وَفِي هَذَا
نَظَرٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ حَيًّا، قَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي
ذَلِكَ، وَهِيَ مِمَّا يُكَتَّمُ ذَلِكَ الزَّمَانَ:
أَلَمَّ خَيَالٌ مِنْكِ يَا أُمَّ غَالِبِ ... فَحُيِّيتِ عَنَّا مِنْ
حَبِيبٍ مُجَانِبِ
وَمَا زِلْتُ فِي شَجْوٍ وَمَا زِلْتُ مُقْصَدًا ... لِهَمٍّ عَرَانِي
مِنْ فِرَاقِكِ نَاصِبِ
فَمَا أَنَسَ لَا أَنَسَ انْفِتَالَكِ فِي الضُّحَى ... إِلَيْنَا مَعَ
الْبِيضِ الْحِسَانِ الْخَرَاعِبِ
(3/270)
تَرَاءَتْ لَنَا هَيْفَاءَ مَهْضُومَةَ
الْحَشَا ... لَطِيفَةَ طَيِّ الْكَشْحِ رَيَّا الْحَقَائِبِ
مُبَتَّلَةً غَرَّاءَ رُؤْدٌ شَبَابُهَا ... كَشَمْسِ الضُّحَى
تَنْكَلُّ بَيْنَ السَّحَائِبِ
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا السَّحَابُ وَحَوْلَهُ بَدَا ... حَاجِبٌ مِنْهَا
وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ
فَتِلْكَ الْهَوَى وَهْيَ الْجَوَى لِي وَالْمُنَى ... فَأَحْبِبْ
بِهَا مِنْ خُلَّةٍ لَمْ تُصَاقِبِ
وَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ الشَّبَابَ وَذِكْرَهُ ... وَحُبَّ تَصَافِي
الْمُعْصِرَاتِ الْكَوَاعِبِ
وَيَزْدَادُ مَا أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِتَابِنَا ... لُعَابًا وَسُقْيًا
لِلْخَدِينِ الْمُقَارِبِ
فَإِنِّي وَإِنْ لَمْ أَنْسَهُنَّ لَذَاكِرٌ ... رَزِيئَةَ مِخْبَاتٍ
كَرِيمِ الْمَنَاصِبِ
تَوَسَّلَ بِالتَّقْوَى إِلَى اللَّهِ صَادِقًا ... وَتَقْوَى
الْإِلَهِ خَيْرُ تِكْسَابِ كَاسِبِ
وَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا فَلَمْ يَلْتَبِسْ بِهَا ... وَتَابَ إِلَى
اللَّهِ الرَّفِيعِ الْمَرَاتِبِ
تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا وَقَالَ اطَّرَحْتُهَا ... فَلَسْتُ
إِلَيْهَا مَا حَيِيتُ بِآيِبِ
وَمَا أَنَا فِيمَا يَكْرَهُ النَّاسُ فَقْدَهُ ... وَيَسْعَى لَهُ
السَّاعُونَ فِيهَا بِرَاغِبِ
فَوَجَّهَهُ نَحْوَ الثَّوِيَّةِ سَائِرًا ... إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فِي
الْجُمُوعِ الْكَتَائِبِ
بِقَوْمٍ هُمْ أَهْلُ التَّقِيَّةِ وَالنُّهَى ... مَصَالِيتُ
أَنْجَادٌ سَرَاةُ مَنَاجِبِ
مَضَوْا تَارِكِي رَأْيِ ابْنِ طَلْحَةَ حِسْبَةً ... وَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لِلْأَمِيرِ الْمُخَاطِبِ
فَسَارُوا وَهُمْ مَا بَيْنَ مُلْتَمِسِ الْتُقَى ... وَآخَرَ مِمَّا
جَرَّ بِالْأَمْسِ تَائِبِ
فَلَاقَوْا بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ الْجَيْشَ فَاصِلًا ... إِلَيْهِمْ
فَحَسُّوهُمْ بِبِيضٍ قَوَاضِبِ
يَمَانِيَةٍ تَذَرِي الْأَكُفَّ وَتَارَةً ... بَخِيلٍ عِتَاقٍ
مُقْرَبَاتٍ سَلَاهِبِ
(3/271)
فَجَاءَهُمُ جَمْعٌ مِنَ الشَّامِ بَعْدَهُ
... جُمُوعٌ كَمَوْجِ الْبَحْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
فَمَا بَرِحُوا حَتَّى أُبِيدَتْ سُرَاتُهُمْ ... فَلَمْ يَنْجُ
مِنْهُمْ ثَمَّ غَيْرُ عَصَائِبِ
وَغُودِرَ أَهْلُ الصَّبْرِ صَرْعَى فَأَصْبَحُوا ... تَعَاوَرَهُمْ
رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ
فَأَضْحَى الْخُزَاعِيُّ الرَّئِيسُ مُجَدَّلًا ... كَأَنْ لَمْ
يُقَاتِلْ مَرَّةً وَيُحَارِبِ
وَرَأْسُ بَنِي شَمْخٍ وَفَارِسُ قَوْمِهِ ... شَنُوءَةَ
وَالتَّيْمِيُّ هَادِي الْكَتَائِبِ
وَعَمْرُو بْنُ بِشْرٍ وَالْوَلِيدُ وَخَالِدٌ ... وَزَيْدُ بْنُ
بَكْرٍ وَالْحُلَيْسُ بْنُ غَالِبِ
وَضَارِبُ مِنْ هَمْدَانَ كُلَّ مُشَيِّعٍ ... إِذَا شَدَّ لَمْ
يَنْكِلْ كَرِيمُ الْمَكَاسِبِ
وَمِنْ كُلِّ قَوْمٍ قَدْ أُصِيبَ زَعِيمُهُمْ ... وَذُو حَسَبٍ فِي
ذُرْوَةِ الْمَجْدِ ثَاقِبِ
أَبَوْا غَيْرَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَقْعُهُ ... وَطَعْنٍ
بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ صَائِبِ
وَإِنَّ سَعِيدًا يَوْمَ يَدْمُرُ عَامِرًا ... لَأَشْجَعُ مِنْ لَيْثٍ
بِدَرْبٍ مُوَاثِبِ
فَيَا خَيْرَ جَيْشٍ بِالْعِرَاقِ وَأَهْلِهِ ... سَقَيْتُمْ رَوَايَا
كُلِّ أَسْحَمَ سَاكِبِ
فَلَا يَبْعَدَنْ فُرْسَانُنَا وَحُمَاتُنَا ... إِذَا الْبِيضُ
أَبْدَتْ عَنْ خِدَامِ الْكَوَاعِبِ
وَمَا قُتِلُوا حَتَّى أَثَارُوا عِصَابَةً ... مُحِلِّينَ نُورًا
كَالشُّمُوسِ الضَّوَارِبِ
وَقِيلَ: قُتِلَ سُلَيْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ
الْآخَرِ.
الْخُزَاعِيُّ الَّذِي هُوَ فِي هَذَا الشِّعْرِ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ
صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ. وَرَأْسُ بَنِي شَمْخٍ هُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ
نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ. وَرَأْسُ شَنُوءَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيُّ، أَزِدُ
(3/273)
شَنُوءَةَ. وَالتَّيْمِيُّ هُوَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَالٍ التَّيْمِيُّ مِنْ تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.
وَالْوَلِيدُ [هُوَ] ابْنُ عُصَيْرٍ الْكِنَانِيُّ. وَخَالِدٌ هُوَ
خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ.
(نَجَبَةُ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ
الْمَفُتُوحَاتِ) .
ذِكْرُ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنَيْ
مَرْوَانَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِالْبَيْعَةِ
لِابْنَيْهِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ لَمَّا هَزَمَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ وَجَّهَهُ
أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى فِلَسْطِينَ رَجَعَ إِلَى مَرْوَانَ
وَهُوَ بِدِمَشْقَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، فَبَلَغَ
مَرْوَانَ أَنَّ عَمْرًا يَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ لِي بَعْدَ
مَرْوَانَ، فَدَعَا مَرْوَانُ حَسَّانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بِحَدْلٍ
فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنَيْهِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ
عَمْرٍو، فَقَالَ: أَنَا أَكْفِيكَ عَمْرًا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ
النَّاسُ عِنْدَ مَرْوَانَ عَشِيًّا قَامَ حَسَّانُ فَقَالَ: إِنَّهُ
قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رِجَالًا يَتَمَنَّوْنَ أَمَانِيَّ، قَوْمُوا
فَبَايِعُوا لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ بَعْدِهِ،
فَبَايَعُوا عَنْ آخِرِهِمْ.
ذِكْرُ بَعْثِ ابْنِ زِيَادٍ وُحُبَيْشٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بَعْثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ
وَمُحَارَبَةِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ بِقَرْقِيسْيَا وَاسْتَعْمَلَهُ
عَلَى كُلِّ مَا يَفْتَحُهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْجَزِيرَةِ
تَوَجَّهَ لِقَصْدِ الْعِرَاقِ وَأَخْذِهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَلَمَّا كَانَ بِالْجَزِيرَةِ بَلَغَهُ مَوْتُ مَرْوَانَ وَأَتَاهُ
كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَا
اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَيَحُثُّهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى
الْعِرَاقِ.
وَالْبَعْثُ الْآخَرُ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دَلَجَةَ
الْقَيْنِيِّ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ
وَعَلَيْهَا جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفِ ابْنُ أَخِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَهَرَبَ
مِنْهُ جَابِرٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهُوَ أَخُو عَمْرِو
بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَجَّهَ جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ
وَالِيًا عَلَيْهَا، لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ
الْحُنَيْفَ بْنَ النَّحَفِ التَّيْمِيِّ لِحَرْبِ
(3/273)
حُبَيْشٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ حُبَيْشٌ
سَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ إِلَى
الْمَدِينَةِ أَمِيرًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ فِي طَلَبِ حُبَيْشٍ
حَتَّى يُوَافِيَ الْجُنْدَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الَّذِينَ
عَلَيْهِمُ الْحُنَيْفُ، فَأَقْبَلَ عَبَّاسٌ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى
لَحِقَهُمْ بِالرَّبَذَةِ، فَقَاتَلَهُمْ حُبَيْشٌ، فَرَمَاهُ يَزِيدُ
بْنُ سِنَانٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ يُوسُفُ
بْنُ الْحَكَمِ وَابْنُهُ الْحَجَّاجُ، وَهَمَّا عَلَى جَمَلٍ وَاحِدٍ،
وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَتَحَرَّزَ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ
بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ: انْزِلُوا عَلَى
حُكْمِي، فَنَزَلُوا، فَقَتَلَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّ حُبَيْشٍ إِلَى
الشَّامِ، وَلَمَّا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الْمَدِينَةَ كَانَ
عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ فَاسْوَدَّتْ مِمَّا مَسَحَهُ النَّاسُ
وَمِمَّا صَبُّوا عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ.
ذِكْرُ مَوْتِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ
الْمَلِكِ
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ.
وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ لَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا، وَكَانَ حَسَّانُ
بْنُ بِحَدْلٍ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فِي
أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ صَغِيرًا، وَحَسَّانُ خَالُ
أَبِيهِ يَزِيدَ، فَبَايَعَ حَسَّانُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ
يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ لِخَالِدٍ، فَلَمَّا
بَايَعَهُ هُوَ وَأَهْلُ الشَّامِ قِيلَ لِمَرْوَانَ تَزَوَّجْ أُمَّ
خَالِدٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، حَتَّى يَصْغُرَ
شَأْنُهُ فَلَا يَطْلُبُ الْخِلَافَةَ، فَتَزَوَّجَهَا، فَدَخَلَ
خَالِدٌ يَوْمًا عَلَى مَرْوَانَ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ يَمْشِي
بَيْنَ صَفَّيْنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ!
تَعَالَ يَا ابْنَ الرَّطْبَةِ الِاسْتِ! يُقَصِّرُ بِهِ لِيُسْقِطَهُ
مِنْ أَعْيُنِ أَهْلِ الشَّامِ.
فَرَجَعَ خَالِدٌ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: لَا
يَعْلَمَنَّ ذَلِكَ مِنْكَ إِلَّا أَنَا، أَنَا أَكْفِيكَهُ. فَدَخَلَ
عَلَيْهَا مَرْوَانُ فَقَالَ لَهَا: هَلْ قَالَ لَكِ خَالِدٌ فِيَّ
شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا، إِنَّهُ أَشَدُّ لَكَ تَعْظِيمًا مِنْ أَنْ
يَقُولَ فِيكَ شَيْئًا. فَصَدَّقَهَا وَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ إِنَّ
مَرْوَانَ نَامَ عِنْدَهَا يَوْمًا، فَغَطَّتْهُ بِوِسَادَةٍ حَتَّى
قَتَلَتْهُ، فَمَاتَ بِدِمَشْقَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتِّينَ.
وَأَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَتْلَ أُمِّ خَالِدٍ، فَقِيلَ لَهُ:
يَظْهَرُ عِنْدَ الْخَلْقِ أَنَّ امْرَأَةً قَتَلَتْ أَبَاكَ،
فَتَرَكَهَا.
(3/274)
وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَرْوَانُ قَامَ
(بِأَمْرِ الشَّامِ) بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، (وَكَانَ
بِمِصْرَ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِطَاعَةِ أَخِيهِ عَبْدِ
الْمَلِكِ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ) وُلِدَ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، فَكَانَ
النَّاسُ يَذُمُّونَهُ لِذَلِكَ، قِيلَ: إِنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ
قَوْمٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ
بْنِ ظَبْيَانَ الْبَكْرِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَا تُشْبِهُ أَبَاكَ،
فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ
بِالْمَاءِ وَالْغُرَابِ بِالْغُرَابِ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ
أَخْبَرْتُكَ بِمَنْ لَمْ تُنْضِجْهُ الْأَرْحَامُ، وَلَمْ يُولَدْ
بِالتَّمَامِ، وَلَمْ يُشْبِهِ الْأَخْوَالَ وَالْأَعْمَامَ.
قَالَ: مَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: سُوِيدُ بْنُ مَنْجُوفٍ، فَلَمَّا خَرَجَ
عُبَيْدُ اللَّهِ وَسُوِيدٌ قَالَ لَهُ سُوِيدٌ: مَا سَرَّنِي
بِمَقَالَتِكَ لَهُ حُمْرُ النَّعَمِ.
فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَمَا سَرَّنِي وَاللَّهِ بِاحْتِمَالِكَ
إِيَّايَ وَسُكُوتِكَ سُودُهَا.
ذِكْرُ صِفَتِهِ وَنَسَبِهِ وَأَخْبَارِهِ
هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَأُمُّهُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ مِنْ كِنَانَةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَيْنِ مِنَ
الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ،
وَنَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِلَى الطَّائِفِ لِأَنَّهُ يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِ، وَرَآهُ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا يَمْشِي وَيَتَخَلَّجُ
فِي مَشْيِهِ كَأَنَّهُ يَحْكِيهِ، فَقَالَ لَهُ: كُنْ كَذَلِكَ، فَمَا
زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَلَّمَ عُثْمَانُ أَبَا بَكْرٍ فِي رَدِّهِ، لِأَنَّهُ
عَمَّهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَوَلِيَ
عُمَرُ كَلَّمَهُ أَيْضًا فِي رَدِّهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَمَّا
وَلِيَ عُثْمَانُ رَدَّهُ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَنِي أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ.
وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَدْ
رُوِيَتُ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي لَعْنِهِ وَلَعْنِ مَنْ فِي
صُلْبِهِ، رَوَاهَا الْحَافِظُ، فِي أَسَانِيدِهَا كَلَامٌ.
وَكَانَ مَرْوَانُ قَصِيرًا أَحْمَرَ أَوْقَصَ، يُكَنَّى أَبَا
الْحَكَمِ، وَأَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَعْتَقَ
(3/275)
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةَ رَقَبَةٍ،
وَوَلِيَ الْمَدِينَةَ لِمُعَاوِيَةَ مَرَّاتٍ، فَكَانَ إِذَا وَلِيَ
يُبَالِغُ فِي سَبِّ عَلِيٍّ، وَإِذَا عُزِلَ وَوَلِيَ سَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ كَفَّ عَنْهُ، (فَسُئِلَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْبَاقِرُ وَعَنْ سَعِيدٍ، فَقَالَ: كَانَ مَرْوَانُ خَيْرًا لَنَا
فِي السِّرِّ، وَسَعِيدٌ خَيْرًا لَنَا فِي الْعَلَانِيَةِ.
وَقَدْ أُخْرِجَ حَدِيثُ مَرْوَانَ فِي الصَّحِيحِ، وَكَانَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ يُصَلِّيَانِ خَلْفَهُ وَلَا يُعِيدَانِ الصَّلَاةَ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ
وَقَبْلَ الصَّلَاةِ.
وَلَمَّا مَاتَ بُويِعَ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ
بَنُو الزَّرْقَاءِ، يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يُرِيدُ ذَمَّهُمْ
وَعَيْبَهُمْ، وَهِيَ الزَّرْقَاءُ بِنْتُ مَوْهَبٍ، جَدَّةُ مَرْوَانَ
بْنِ الْحَكَمِ لِأَبِيهِ، وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الرَّايَاتِ الَّتِي
يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى بُيُوتِ الْبِغَاءِ، فَلِهَذَا كَانُوا
يُذَمُّونَ بِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ أُمَيَّةَ وَالِدُ الْحَكَمِ،
فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، لَا يَكُونُ هَذَا مِنِ
امْرَأَةٍ لَهُ وَهِيَ عِنْدُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حُبَيْشُ بْنُ دَلَجَةَ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ
الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، ثُمَّ الْيَاءِ مِنْ تَحْتُ،
وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَدَلَجَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَاللَّامِ)
.
ذِكْرُ مَقْتَلِ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ،
وَهُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ الْأَزَارِقَةُ مِنَ الْخَوَارِجِ.
وَكَانَ سَبَبُ قُوَّتِهِ اشْتِغَالُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
وَاخْتِلَافُهُمْ بِسَبَبِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو وَقَتْلِهِ،
وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَأَقْبَلَ نَحْوَ الْجِسْرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ مُسْلِمَ بْنَ عُبَيْسِ بْنِ كُرَيْزِ
بْنِ رَبِيعَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَرَفَعَهُ عَنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ
حَتَّى بَلَغَ دُولَابَ مِنْ أَرْضِ الْأَهْوَازِ، فَاقْتَتَلُوا
هُنَاكَ، وَجَعَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ
الْحَجَّاجَ بْنَ بَابٍ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى مَسِيرَتِهِ حَارِثَةَ
بْنَ بَدْرٍ الْغُدَانِيَّ وَجَعَلَ ابْنُ الْأَزْرَقِ عَلَى
مَيْمَنَتِهِ عُبَيْدَ بْنَ هِلَالٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرَ
بْنَ الْمَاحُوزِ التَّمِيمِيَّ، وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ، فَقُتِلَ
مُسْلِمٌ أَمِيرُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقُتِلَ نَافِعُ بْنُ
الْأَزْرَقِ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّرَ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَيْهِمُ الْحَجَّاجَ بْنَ بَابٍ الْحِمْيَرِيَّ،
وَأَمَّرْتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَاحُوزِ
التَّمِيمِيَّ، وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَجَّاجُ،
فَأَمَّرَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَلَيْهِمْ رَبِيعَةَ بْنَ الْأَجْرَمِ
التَّمِيمِيَّ، وَأَمَّرَتِ الْخَوَارِجُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
الْمَاحُوِزِ التَّمِيمِيَّ، ثُمَّ عَادُوا فَاقْتَتَلُوا حَتَّى
أَمْسَوْا وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَمَلُّوا الْقِتَالَ.
فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ مُتَوَاقِفُونَ مُتَحَاجِزُونَ إِذْ جَاءَتِ
الْخَوَارِجُ سَرِيَّةٌ مُسْتَرِيحَةٌ لَمْ تَشْهَدِ الْقِتَالَ،
فَحَمَلَتِ عَلَى النَّاسِ مِنْ نَاحِيَةِ عَبْدِ الْقَيْسِ،
فَانْهَزَمَ النَّاسُ وَقُتِلَ أَمِيرُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَبِيعَةُ
بَعْدَ أَنْ قُتِلَ أَيْضًا دُغْفُلُ بْنُ حَنْظَلَةَ الشَّيْبَانِيُّ
النَّسَّابَةُ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، فَقَاتَلَ
سَاعَةً، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ عَنْهُ، فَقَاتَلَ وَحَمَى النَّاسَ
وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى
نَزَلَ بِالْأَهْوَازِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ
فَأَفْزَعَهُمْ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ (بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَارِثَ
بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ) وَعَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ،
فَأَقْبَلَتِ الْخَوَارِجُ نَحْوَ الْبَصْرَةِ.
ذِكْرُ مُحَارِبَةِ الْمُهَلَّبِ الْخَوَارِجَ
لَمَّا قَرُبَتِ الْخَوَارِجُ مِنَ الْبَصْرَةِ أَتَى أَهْلُهَا
الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَتَوَلَّى حَرْبَهُمْ،
فَأَشَارَ بِالْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ لِمَا يَعْلَمُ فِيهِ
مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ
قَدْ قَدِمَ مِنْ عِنْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدْ وَلَّاهُ
خُرَاسَانَ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: مَا لِهَذَا الْأَمْرِ غَيْرُ
الْمُهَلَّبِ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَكَلَّمُوهُ،
فَأَبَى، فَكَلَّمَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَاعْتَذَرَ
بِعَهْدِهِ عَلَى خُرَاسَانَ، فَوَضَعَ الْحَارِثُ وَأَهْلُ
الْبَصْرَةِ كِتَابًا إِلَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُهُ
بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَأَتَوْهُ بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ
قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسِيرُ إِلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَجْعَلُوا لِي
مَا غُلِبْتُ عَلَيْهِ وَتُقْطِعُونِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا
أُقَوِّي بِهِ مَنْ مَعِي. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَكَتَبُوا لَهُ
بِهِ كِتَابًا، وَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَمْضَاهُ،
فَاخْتَارَ الْمُهَلَّبُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِمَّنْ يَعْرِفُ
نَجْدَتَهُ وَشَجَاعَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ
بْنُ وَاسِعٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِيَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو عِمْرَانَ
الْجَوْنِيُّ، وَخَرَجَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْخَوَارِجِ وَهُمْ عِنْدَ
الْجِسْرِ الْأَصْغَرِ، فَحَارَبَهُمْ وَهُوَ فِي وُجُوهِ النَّاسِ
وَأَشْرَافِهِمْ، فَدَفَعَهُمْ عَنِ الْجِسْرِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ
إِلَّا أَنْ يَدْخُلُوا، فَارْتَفَعُوا إِلَى الْجِسْرِ الْأَكْبَرِ
إِلَيْهِمْ فِي الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ.
فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ قَارَبَهُمُ ارْتَفَعُوا فَوْقَ ذَلِكَ.
(3/276)
وَلَمَّا بَلَغَ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ
تَأْمِيرُ الْمُهَلَّبِ عَلَى قِتَالِ الْأَزَارِقَةِ قَالَ لِمَنْ
مَعَهُ [مِنَ] النَّاسِ:
كَرْنِبُوا وَدَوْلِبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ فَاذْهَبُوا
فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْبَصْرَةِ فَرَدَّ الْحَارِثَ بْنَ
أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَرَكِبَ حَارِثَةُ فِي سَفِينَةٍ
فِي نَهْرِ دُجَيْلٍ يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ
تَمِيمٍ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَالْخَوَارِجُ وَرَاءَهُ، فَصَاحَ
التَّمِيمِيُّ بِحَارِثَةَ يَسْتَغِيثُ بِهِ لِيَحْمِلَهُ مَعَهُ،
فَقَرَّبَ السَّفِينَةَ إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، وَهُوَ جُرْفٌ،
فَوَثَبَ التَّمِيمِيُّ إِلَيْهَا فَغَاصَتْ بِجَمِيعِ مَنْ فِيهَا
فَغَرِقُوا.
وَأَمَّا الْمُهَلَّبُ فَإِنَّهُ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بِالْخَوَارِجِ
وَهُمْ بِنَهْرِ تِيرَى وَتَنَحَّوْا عَنْهُ إِلَى الْأَهْوَازِ،
وَسَيَّرَ الْمُهَلَّبُ إِلَى عَسْكَرِهِمُ الْجَوَاسِيسَ تَأْتِيهِ
بِأَخْبَارِهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُ خَبَرُهُمْ سَارَ نَحْوَهُمْ
وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ الْمُعَارِكَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى نَهْرِ
تِيرَى، فَلَمَّا وَصَلَ الْأَهْوَازَ قَاتَلَتِ الْخَوَارِجُ
مُقَدِّمَتَهُ، وَعَلَيْهِمُ ابْنُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، فَجَالَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ عَادُوا.
فَلَمَّا رَأَى الْخَوَارِجُ صَبْرَهُمْ سَارُوا عَنْ سُوقِ
الْأَهَاوِزِ إِلَى مَنَاذِرَ، فَسَارَ يُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا
قَارَبَهُمْ سَيَّرَ الْخَوَارِجُ جَمْعًا عَلَيْهِمْ وَاقَدٌ مَوْلَى
أَبِي صُفْرَةَ إِلَى نَهْرِ تِيرَى وَبِهَا الْمَعَارِكُ فَقَتَلُوهُ
وَصَلَبُوهُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَسَيَّرَ ابْنَهُ
الْمُغِيرَةَ إِلَى نَهْرِ تِيرَى، فَأَنْزَلَ عَمَّهُ الْمُعَارِكَ
وَدَفَنَهُ وَسَكَنَ النَّاسُ وَاسْتَخْلَفَ بِهَا جَمَاعَةً وَعَادَ
إِلَى أَبِيهِ وَقَدْ نَزَلَ سُولَافَ.
وَكَانَ الْمُهَلَّبُ شَدِيدَ الِاحْتِيَاطِ وَالْحَذَرِ، لَا يَنْزِلُ
إِلَّا فِي خَنْدَقٍ وَهُوَ عَلَى تَعْبِيَةٍ وَيَتَوَلَّى الْحَرَسَ
بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا نَازَلَ الْخَوَارِجَ بِسُولَافَ رَكِبُوا
وَوَقَفُوا لَهُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا صَبَرَ فِيهِ
الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ حَمَلَتِ الْخَوَارِجُ حَمْلَةً صَادِقَةً عَلَى
الْمُهَلَّبِ وَأَصْحَابِهِ فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَثَبَتَ
الْمُهَلَّبُ وَأَبْلَى ابْنُهُ الْمُغِيرَةَ يَوْمَئِذٍ بَلَاءً
حَسَنًا ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُهُ، وَنَادَى الْمُهَلَّبُ أَصْحَابَهُ
فَعَادُوا إِلَيْهِ مَعَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافِ
فَارِسٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرَادَ الْقِتَالَ بِمَنْ مَعَهُ
فَنَهَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لِضَعْفِهِمْ وَكَثْرَةِ الْجِرَاحِ
فِيهِمْ، فَتَرَكَ الْقِتَالَ وَسَارَ وَقَطَعَ دُجَيْلَ وَنَزَلَ
بِالْعَاقُولِ لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، (وَفِي
يَوْمِ سُولَافَ يَقُولُ ابْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
(3/278)
أَلَا طَرَقَتْ مِنْ آلِ مَيَّةَ طَارِقَهْ
... عَلَى أَنَّهَا مَعْشُوقَةُ الدَّلِّ عَاشِقَهْ
تَمِيسُ وَأَرْضُ السُّوسِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَسُولَافُ
رُسْتَاقٌ حَمَتْهُ الْأَزَارِقَهْ
إِذَا نَحْنُ شَتَّى صَادَفَتْنَا عِصَابَةٌ ... حَرُورِيَّةٌ أَضْحَتْ
مِنَ الدِّينِ مَارِقَهْ
أَجَازَتْ إِلَيْنَا الْعَسْكَرَيْنِ كِلَيْهِمَا ... فَبَاتَتْ لَنَا
دُونَ اللِّحَافِ مُعَانِقَهْ
وَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الْخَوَارِجِ:
وَكَائِنْ تَرَكْنَا يَوْمَ سُولَافَ مِنْهُمُ ... أُسَارَى وَقَتْلَى
فِي الْجَحِيمِ مَصِيرُهَا
وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ.
فَلَمَّا وَصَلَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْعَاقُولِ نَزَلَ فِيهِ
وَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ ارْتَحَلَ وَسَارَ نَحْوَ
الْخَوَارِجِ، وَهُمْ بِسِلَّى وَسِلَّبْرَى، فَنَزَلَ قَرِيبًا
مِنْهُمْ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُ أَشْيَاءَ يُحَدِّثُ بِهَا
النَّاسَ لِيَنْشَطُوا إِلَى الْقِتَالِ فَلَا يَرَوْنَ لَهَا أَثَرًا،
حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنْتَ الْفَتَى كُلُّ الْفَتَى ... لَوْ كُنْتَ تَصْدُقُ مَا تَقُولُ
وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمُ الْكَذَّابَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ
كَذَّابٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ مَكَايَدَةً لِلْعَدُوِّ.
فَلَمَّا نَزَلَ الْمُهَلَّبُ قَرِيبًا مِنَ الْخَوَرِاجِ وَخَنْدَقَ
عَلَيْهِ، وَضَعَ الْمَسَالِحَ وَأَذْكَى الْعُيُونَ وَالْحَرَسَ
وَالنَّاسَ عَلَى رَايَاتِهِمْ وَمَوَاقِفِهِمْ، وَأَبْوَابُ
الْخَنْدَقِ مَحْفُوظَةٌ، فَكَانَ الْخَوَارِجُ إِذَا أَرَادُوا
بَيَاتَهُ وَغِرَّتَهُ وَجَدُوا أَمْرًا مُحْكَمًا فَرَجَعُوا، فَلَمْ
يُقَاتِلْهُمْ إِنْسَانٌ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ أَرْسَلُوا عُبَيْدَةَ بْنَ هِلَالٍ
وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ فِي عَسْكَرٍ لَيْلًا إِلَى عَسْكَرِ
الْمُهَلَّبِ لِيُبَيِّتُوهُ، فَصَاحُوا بِالنَّاسِ عَنْ يَمِينِهِمْ
وَيَسَارِهِمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى تَعْبِيَةٍ قَدْ
(3/279)
حَذِرُوا، فَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ
شَيْئًا، وَأَصْبَحَ الْمُهَلَّبُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي تَعْبِيَةٍ،
وَجَعَلَ الْأَزْدَ وَتَمِيمًا مَيْمَنَةً، وَبَكْرَ بْنَ وَائِلٍ
وَعَبْدَ الْقَيْسِ مَيْسَرَةً، وَأَهْلَ الْعَالِيَةِ فِي الْقَلْبِ،
وَخَرَجَتِ الْخَوَارِجُ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ عُبَيْدَةُ بْنُ
هِلَالٍ الْيَشْكُرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمُ الزُّبَيْرُ بْنُ
الْمَاحُوزِ، وَكَانُوا أَحْسَنَ عُدَّةً وَأَكْرَمَ خَيْلًا مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ لِأَنَّهُمْ مَخَرُوا الْأَرْضَ وَجَرَّدُوهَا مَا
بَيْنَ كَرْمَانَ إِلَى الْأَهْوَازِ. فَالْتَقَى النَّاسُ
وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ عَامَّةَ
النَّهَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ شَدَّتْ عَلَى النَّاسِ شَدَّةً
مُنْكَرَةً، فَأَجْفَلُوا وَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى
أَحَدٌ، حَتَّى بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ الْبَصْرَةَ، وَخَافَ أَهْلُهَا
السِّبَاءَ.
وَأَسْرَعَ الْمُهَلَّبُ حَتَّى سَبَقَ الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى مَكَانٍ
مُرْتَفِعٍ، ثُمَّ نَادَى: إِلَيَّ عِبَادِ اللَّهِ! فَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ أَكْثَرُهُمْ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَزْدِ،
فَلَمَّا رَآهُمْ رَضِيَ عِدَّتَهُمْ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى
الْقِتَالِ وَوَعَدَهُمُ النَّصْرَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ أَحْجَارٍ، وَقَالَ: سِيرُوا بِنَا نَحْوَ
عَسْكَرِهِمْ فَإِنَّهُمُ الْآنَ آمِنُونَ وَقَدْ خَرَجَتْ خَيْلُهُمْ
فِي طَلَبِ إِخْوَانِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا
يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى تَسْتَبِيحُوا عَسْكَرَهُمْ
وَتَقْتُلُوا أَمِيرَهُمْ. فَأَجَابُوهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ رَاجِعًا،
فَمَا شَعَرَتِ الْخَوَارِجُ إِلَّا وَالْمُهَلَّبُ يُقَاتِلُهُمْ فِي
جَانِبِ عَسْكَرِهِمْ، فَلَقِيَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَاحُوزِ
وَالْخَوَارِجُ، فَرَمَاهُمْ أَصْحَابُ الْمُهَلَّبِ بِالْأَحْجَارِ
حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ ثُمَّ طَعَنُوهُمْ بِالرِّمَاحِ وَضَرَبُوهُمْ
بِالسُّيُوفِ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمَاحُوزِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَغَنِمَ الْمُهَلَّبُ
عَسْكَرَهُمْ، وَأَقْبَلَ مَنْ كَانَ فِي طَلَبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
رَاجِعًا، وَقَدْ وَضَعَ لَهُمْ خَيْلًا وَرِجَالًا تَخْطَفُهُمْ
وَتَقْتُلُهُمْ، وَانْكَفَئُوا رَاجِعِينَ مَذْلُولِينَ، فَارْتَفَعُوا
إِلَى كَرْمَانَ وَجَانِبَ أَصْبَهَانَ.
(قَالَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ لَمَّا رَأَى قِتَالَ أَصْحَابِ
الْمُهَلَّبِ بِالْحِجَارَةِ:
أَتَانَا بِأَحْجَارٍ لِيَقْتُلَنَا بِهَا ... وَهَلْ تُقْتَلُ
الْأَقْرَانُ وَيْحَكَ بِالْحَجَرِ!
وَلَمَّا فَرَغَ الْمُهَلَّبُ مِنْهُمْ أَقَامَ مَكَانَهُ حَتَّى
قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَصْرَةِ أَمِيرًا،
وَعَزَلَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، (وَفِي هَذَا الْيَوْمِ
يَقُولُ الصَّلَتَانِ الْعَبْدِيُّ:
بِسِلَّى وَسِلَّبْرَى مَصَارِعُ فِتْيَةٍ ... كِرَامٍ وَقَتْلَى لَمْ
تُوَسَّدْ خُدُودُهَا
(3/280)
فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمَاحُوزِ) اسْتَخْلَفَ الْخَوَارِجُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ:
وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ
يُعَرِّفُهُ ظَفَرَهُ، فَأَرْسَلَ الْحَارِثُ الْكِتَابَ إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ لِيَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ هُنَاكَ، وَكَتَبَ
الْحَارِثُ إِلَى الْمُهَلَّبِ:
(أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ نَصْرَ
اللَّهِ وَظَفَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَنِيئًا لَكَ يَا أَخَا الْأَزْدِ
شَرَفُ الدُّنْيَا وَعِزُّهَا وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَفَضْلُهَا.
فَلَمَّا قَرَأَ الْمُهَلَّبُ كِتَابَهُ ضَحِكَ وَقَالَ: أَمَا
يَعْرِفُنِي إِلَّا بِأَخِي الْأَزْدِ! مَا هُوَ إِلَّا أَعْرَابِيٌّ
جَافٍ) .
وَقِيلَ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ قَاتَلَ
الْخَوَارِجَ وَنَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَبْلَ مُسْلِمٍ، فَقُتِلَ
عُثْمَانُ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنَ
الْخَوَارِجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسُيِّرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَصْرَةِ
بَعْدَهُ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ، فَلَمَّا رَآهُمْ
عَرَفَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
كَرْنِبُوا وَدَوْلِبُوا كَيْفَ شِئْتُمْ فَاذْهَبُوا
يَعْنِي مَا شَاءَ، ثُمَّ سَارَ بَعْدَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ) .
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ لَمَّا دَفَعَ الْخَوَارِجَ مِنَ
الْبَصْرَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ أَقَامَ بَقِيَّةَ سَنَتِهِ
يَجْبِي كُوَرَ دِجْلَةَ، وَرَزَقَ أَصْحَابَهُ، وَأَتَاهُ الْمَدَدُ
مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى بَلَغَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَزِيمَةُ الْخَوَارِجِ سَنَةَ سِتٍّ
وَسِتِّينَ.
ذِكْرُ نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْحَنَفِيِّ
هُوَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَادِ بْنِ
الْمُفَرِّجِ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ،
فَفَارَقَهُ لِإِحْدَاثِهِ فِي مَذْهَبِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ،
وَسَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، وَدَعَا أَبَا طَالُوتَ إِلَى نَفْسِهِ،
فَمَضَى إِلَى الْحَضَارِمِ فَنَهَبَهَا، وَكَانَتْ لِبَنِي حَنِيفَةَ،
فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِيهَا مِنَ
الرَّقِيقِ مَا عِدَّتُهُمْ وَعِدَّةُ أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَغَنِمَ ذَلِكَ وَقَسَّمَهَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ،
وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فَكَثُرَ جَمْعُهُ.
ثُمَّ إِنَّ عِيرًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَقِيلَ مِنَ
الْبَصْرَةِ، تَحْمِلُ مَالًا وَغَيْرَهُ يُرَادُ بِهَا ابْنُ
(3/281)
الزُّبَيْرِ، فَاعْتَرَضَهَا نَجْدَةُ
فَأَخَذَهَا وَسَاقَهَا حَتَّى أَتَى بِهَا أَبَا طَالُوتَ
بِالْخَضَارِمِ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: اقْتَسِمُوا
هَذَا الْمَالَ وَرُدُّوا هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ وَاجْعَلُوهُمْ
يَعْمَلُونَ الْأَرْضَ لَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ. فَاقْتَسَمُوا
الْمَالَ وَقَالُوا: نَجْدَةُ خَيْرٍ لَنَا مِنْ أَبِي طَالُوتَ،
فَخَلَعُوا أَبَا طَالُوتَ وَبَايَعُوا نَجْدَةَ وَبَايَعَهُ أَبُو
طَالُوتَ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَنَجْدَةُ يَوْمَئِذٍ
ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً.
ثُمَّ سَارَ فِي جَمْعٍ إِلَى بَنِي كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِذِي الْمَجَازِ فَهَزَمَهُمْ
وَقَتَلَهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَصَبَرَ كِلَابٌ وَعُطَيْفٌ ابْنَا
قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْقُشَيْرِيَّانِ وَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا،
وَانْهَزَمَ قَيْسُ بْنُ الرُّقَادِ الْجَعْدِيُّ فَلَحِقَهُ أَخُوهُ
لِأَبِيهِ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ رِدْفًا فَلَمْ
يَفْعَلْ.
وَرَجَعَ نَجْدَةُ إِلَى الْيَمَامَةِ فَكَثُرَ أَصْحَابُهُ فَصَارُوا
ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ سَارَ نَجْدَةُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ سَنَةَ
سَبْعٍ وَسِتِّينَ، فَقَالَتِ الْأَزْدُ: نَجْدَةُ أَحَبُّ إِلَيْنَا
مِنْ وُلَاتِنَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْجُورَ وَوُلَاتُنَا
يُجَوِّزُونَهُ، فَعَزَمُوا عَلَى مُسَالَمَتِهِ، وَاجْتَمَعَتْ عَبْدُ
الْقَيْسِ وَمَنْ بِالْبَحْرَيْنِ غَيْرَ الْأَزْدِ عَلَى
مُحَارَبَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَزْدِ: نَجْدَةُ أَقْرَبُ
إِلَيْكُمْ مِنْهُ إِلَيْنَا لِأَنَّكُمْ كُلُّكُمْ مِنْ رَبِيعَةَ
فَلَا تُحَارِبُوهُ! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدَعُ نَجْدَةَ وَهُوَ
حَرُورِيٌّ مَارِقٌ تَجْرِي عَلَيْنَا أَحْكَامُهُ. فَالْتَقَوْا
بِالْقَطِيفِ فَانْهَزَمَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ
كَثِيرٌ وَسَبَى نَجْدَةُ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ
الْقَطِيفِ، (فَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَصَحْتُ لِعَبْدِ الْقَيْسِ يَوْمَ قَطِيفِهَا ... وَمَا نَفْعُ
نُصْحٍ، قِيلَ، لَا يُتَقَبَّلُ
وَأَقَامَ نَجْدَةُ بِالْقَطِيفِ وَوَجَّهَ ابْنَهُ الْمُطَّرِحَ فِي
جَمْعٍ إِلَى الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَاتَلُوهُ
بِالثُّوَيْرِ، فَقُتِلَ الْمُطَّرِحُ بْنُ نَجْدَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ.
وَأَرْسَلَ نَجْدَةُ سَرِيَّةً إِلَى الْخَطِّ فَظَفِرَ بِأَهْلِهِ،
وَأَقَامَ نَجْدَةُ بِالْبَحْرَيْنِ. فَلَمَّا قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ
الزُّبَيْرِ إِلَى الْبَصْرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ بَعَثَ
إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيَّ الْأَعْوَرَ فِي
أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا (فَجَعَلَ يَقُولُ: اثْبُتْ نَجْدَةُ
فَإِنَّا لَا نَفِرُّ) ، فَقَدِمَ وَنَجْدَةُ بِالْقَطِيفِ، فَأَتَى
نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ غَافِلٌ، فَقَاتَلَ طَوِيلًا
وَافْتَرَقُوا، وَأَصْبَحَ ابْنُ عُمَيْرٍ فَهَالَهُ مَا رَأَى فِي
عَسْكَرِهِ مِنَ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ
نَجْدَةُ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْهَزَمُوا، فَلَمْ يُبْقِ
عَلَيْهِمْ نَجْدَةُ وَغَنِمَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ وَأَصَابَ
جِوَارِيَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدٍ لِابْنِ عُمَيْرٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا
أَنْ يُرْسِلَهَا إِلَى مَوْلَاهَا فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ بِي إِلَى
مَنْ فَرَعَنِي وَتَرَكَنِي.
(3/282)
وَبَعَثَ نَجْدَةُ أَيْضًا بَعْدَ
هَزِيمَةِ ابْنِ عُمَيْرٍ جَيْشًا إِلَى عُمَانَ وَاسْتَعْمَلَ
عَلَيْهِمْ عَطِيَّةَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْحَنَفِيَّ، وَقَدْ غَلَبَ
عَلَيْهَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ،
وَابْنَاهُ سَعِيدٌ وَسُلَيْمَانُ يُعَشِّرَانِ السُّفُنَ
وَيُجْبِيَانِ الْبِلَادَ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ عَطِيَّةُ قَاتَلُوهُ
فَقُتِلَ عَبَّادٌ وَاسْتَوْلَى عَطِيَّةُ عَلَى الْبِلَادِ فَأَقَامَ
بِهَا أَشْهُرًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا يُكَنَّى
أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا عَبَّادٍ
وَأَهْلُ عُمَانَ.
ثُمَّ خَالَفَ عَطِيَّةُ نَجْدَةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، فَعَادَ إِلَى عُمَانَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَرَكِبَ
فِي الْبَحْرِ وَأَتَى كَرْمَانَ وَضَرَبَ بِهَا دَرَاهِمَ سَمَّاهَا
الْعَطَوِيَّةَ وَأَقَامَ بِكَرْمَانَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
الْمُهَلَّبُ جَيْشًا، فَهَرَبَ إِلَى سِجِسْتَانَ ثُمَّ إِلَى
السِّنْدِ، فَلَقِيَهُ خَيْلُ الْمُهَلَّبِ بِقَنْدَابِيلَ فَقَتَلَهُ،
وَقِيلَ: قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ.
ثُمَّ بَعَثَ نَجْدَةُ إِلَى الْبَوَادِي بَعْدَ هَزِيمَةِ ابْنِ
عُمَيْرٍ أَيْضًا مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِهَا الصَّدَقَةَ، فَقَاتَلَ
أَصْحَابُهُ بَنِي تَمِيمٍ بِكَاظِمَةَ، وَأَعَانَ أَهْلُ طُوَيْلِعَ
بَنِي تَمِيمٍ، فَقَتَلُوا مِنَ الْخَوَارِجِ رَجُلًا، فَأَرْسَلَ
نَجْدَةُ إِلَى أَهْلِ طُوَيْلِعَ مَنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ
مِنْهُمْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ رَجُلًا وَسَبَى. ثُمَّ إِنَّهُ
دَعَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ،
ثُمَّ سَارَ نَجْدَةُ إِلَى صَنْعَاءَ فِي خُفٍّ مِنَ الْجَيْشِ،
فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا وَظَنُّوا أَنَّ وَرَاءَهُ جَيْشًا كَثِيرًا،
فَلَمَّا لَمْ يَرَوْا مَدَدًا يَأْتِيهِ نَدِمُوا عَلَى بَيْعَتِهِ،
وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ أَقَلْتُكُمْ بَيْعَتَكُمْ
وَجَعَلْتُكُمْ فِي حِلٍّ مِنْهَا وَقَاتَلْتُكُمْ. فَقَالُوا: لَا
نَسْتَقِيلُ بَيْعَتَنَا. فَبَعَثَ إِلَى مُخَالِفِيهَا مِنْهُمُ
الصَّدَقَةَ، وَبَعَثَ نَجْدَةُ أَبَا فُدَيْكٍ إِلَى حَضْرَمَوْتَ
فَجَبَى صَدَقَاتِ أَهْلِهَا.
وَحَجَّ نَجْدَةُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَسِتِّينَ، وَهُوَ فِي ثَمَانِمِائَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَقِيلَ
فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ وَسِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، وَصَالَحَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ وَاحِدٍ بِأَصْحَابِهِ
وَيَقِفَ بِهِمْ وَيَكُفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
فَلَمَّا صَدَرَ نَجْدَةُ عَنِ الْحَجِّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَتَأَهَّبَ أَهْلُهَا لِقِتَالِهِ، وَتَقَلَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ سَيْفًا، فَلَمَّا كَانَ نَجْدَةُ بِنَخْلٍ أُخْبِرَ بِلُبْسِ
ابْنِ عُمَرَ السِّلَاحَ، فَرَجَعَ إِلَى الطَّائِفِ وَأَصَابَ بِنْتًا
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ كَانَتْ عِنْدَ ظِئْرٍ
لَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ
نَجْدَةَ لَيَتَعَصَّبُ لِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَامْتَحَنُوهُ،
فَسَأَلَهُ بَعْضُهُمْ بَيْعَهَا مِنْهُ، فَقَالَ: قَدْ أَعْتَقْتُ
نَصِيبِي مِنْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ. قَالَ: فَزَوِّجْنِي إِيَّاهَا.
قَالَ: هِيَ بَالِغٌ وَهِيَ
(3/283)
أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا فَأَنَا
أَسْتَأْمِرُهَا، فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ دَعَا، قَالَ: قَدِ
اسْتَأْمَرْتُهَا وَكَرِهَتِ الزَّوَاجَ.
فَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَوْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ
كَتَبَ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ أَحْدَثْتُ فِيهَا حَدَثًا
لَأَطَأَنَّ بِلَادَكَ وَطْأَةً لَا يَبْقَى مَعَهَا بِكْرِيٌّ.
وَكَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ،
فَقَالَ: سَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلُوهُ، وَمُسَاءَلَةُ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَشْهُورَةٌ.
وَلَمَّا سَارَ نَجْدَةُ مِنَ الطَّائِفِ أَتَاهُ عَاصِمُ بْنُ
عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ فَبَايَعَهُ عَنْ قَوْمِهِ،
وَلَمْ يَدْخُلْ نَجْدَةُ الطَّائِفَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ
الطَّائِفَ لِمُحَارَبَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ لِعَاصِمٍ: يَا ذَا
الْوَجْهَيْنِ بَايَعْتَ نَجْدَةَ! قَالَ: إِي وَاللَّهِ وَذُو
عَشْرَةِ أَوْجُهٍ، أَعْطَيْتُ نَجْدَةَ الرِّضَى وَدَفَعْتُهُ عَنْ
قَوْمِي وَبَلَدِي.
وَاسْتَعْمَلَ الْحَارُوقَ، وَهُوَ حَرَّاقٌ، عَلَى الطَّائِفِ
وَتَبَالَةَ وَالسَّرَاةِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدَ الطَّلَائِعِ عَلَى
مَا يَلِي نَجْرَانَ، وَرَجَعَ نَجْدَةُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ فَقَطَعَ
الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ مِنْهَا وَمِنَ الْيَمَامَةِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ
لَمَّا أَسْلَمَ قَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ
مُشْرِكُونَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلُ اللَّهِ فَلَا
تَمْنَعْهُمُ الْمِيرَةَ، فَجَعَلَهَا لَهُمْ، وَإِنَّكَ قَطَعْتَ
الْمِيرَةَ عَنَّا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَجَعَلَهَا نَجْدَةُ لَهُمْ.
وَلَمْ يَزَلْ عُمَّالُ نَجْدَةَ عَلَى النَّوَاحِي حَتَّى اخْتَلَفَ
عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَطَمِعَ فِيهِمُ النَّاسُ، فَأَمَّا الْحَارُوقُ
فَطَلَبُوهُ بِالطَّائِفِ فَهَرَبَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَقَبَةِ
فِي طَرِيقِهِ لَحِقَهُ قَوْمٌ يَطْلُبُونَهُ فَرَمَوْهُ
بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ.
ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَلَى نَجْدَةَ وَقَتْلِهِ وَوِلَايَةِ أَبِي
فُدَيْكٍ
ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ نَجْدَةَ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ لِأَسْبَابٍ
نَقَمُوهَا مِنْهُ، فَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا سِنَانٍ حَيَّ بْنَ وَائِلٍ
أَشَارَ عَلَى نَجْدَةَ بِقَتْلِ مَنْ أَجَابَهُ تَقِيَّةً، فَشَتَمَهُ
نَجْدَةُ، فَهَمَّ بِالْفَتْكِ بِهِ فَقَالَ لَهُ نَجْدَةُ: كَلَّفَ
اللَّهُ أَحَدًا عِلْمَ الْغَيْبِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّمَا
عَلَيْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ. فَرَجَعَ أَبُو سِنَانٍ إِلَى
نَجْدَةَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ عَطِيَّةَ بْنَ الْأَسْوَدِ خَالَفَ عَلَى نَجْدَةَ،
وَسَبَبُهُ أَنَّ نَجْدَةَ سَيَّرَ سَرِيَّةَ بَحْرًا
(3/284)
وَسَرِيَّةً بَرًّا، فَأَعْطَى سَرِيَّةَ
الْبَحْرِ أَكْثَرَ مِنْ سَرِيَّةِ الْبَرِّ، فَنَازَعَهُ عَطَيَّةُ
حَتَّى أَغْضَبَهُ، فَشَتَمَهُ نَجْدَةُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَلَّبَ
النَّاسَ عَلَيْهِ. وَكُلِّمَ نَجْدَةُ فِي رَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ
فِي عَسْكَرِهِ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ شَدِيدُ النِّكَايَةِ عَلَى
الْعَدُوِّ وَقَدِ اسْتَنْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْمُشْرِكِينَ. وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ
إِلَى نَجْدَةَ يَدَعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَيُوَلِّيهِ الْيَمَامَةَ
وَيُهْدِرَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، فَطَعَنَ
عَلَيْهِ عَطِيَّةُ وَقَالَ: مَا كَاتَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حَتَّى
عَلِمَ مِنْهُ دِهَانًا فِي الدِّينِ، وَفَارَقَهُ إِلَى عُمَانَ.
وَمِنْهَا أَنَّ قَوْمًا فَارَقُوا نَجْدَةَ وَاسْتَنَابُوهُ فَحَلَفَ
أَنْ لَا يَعُودَ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى اسْتِنَابَتِهِ وَتَفَرَّقُوا
وَنَقَمُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ أَخَرَ، فَخَالَفَ عَلَيْهِ عَامَّةُ
مَنْ مَعَهُ فَانْحَازُوا عَنْهُ وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ أَبَا فُدَيْكٍ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَوْرٍ، أَحَدَ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ،
وَاسْتَخْفَى نَجْدَةُ، فَأَرْسَلَ أَبُو فُدَيْكٍ فِي طَلَبِهِ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: إِنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ فَجِيئُونِي
بِهِ. وَقِيلَ لِأَبِي فُدَيْكٍ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْ نَجْدَةَ
تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْكَ، فَأَلَحَّ فِي طَلَبِهِ. وَكَانَ نَجْدَةُ
مُسْتَخْفِيًا فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى حُجْرٍ، وَكَانَ لِلْقَوْمِ
الَّذِينَ اخْتَفَى عِنْدَهُمْ جَارِيَةٌ يُخَالِفُ إِلَيْهَا رَاعٍ
لَهُمْ، فَأَخَذَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ طِيبٍ كَانَ مَعَ نَجْدَةَ،
فَسَأَلَهَا الرَّاعِي عَنْ أَمْرِ الطِّيبِ، فَأَخْبَرَتْهُ،
فَأَخْبَرَ الرَّاعِي أَصْحَابَ أَبِي فُدَيْكٍ بِنَجْدَةَ،
فَطَلَبُوهُ، فَنَذَرَ بِهِمْ، فَأَتَى أَخْوَالَهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
فَاسْتَخْفَى عِنْدَهُمْ. ثُمَّ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ فَأَتَى بَيْتَهُ لِيَعْهَدَ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَعَلِمَ
بِهِ الْفُدَيْكِيَّةُ وَقَصَدُوهُ، فَسَبَقَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ
فَأَعْلَمُهُ، فَخَرَجَ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، فَنَزَلَ الْفُدَيْكِيُّ
عَنْ فَرَسِهِ وَقَالَ: إِنَّ فَرَسِي هَذَا لَا يُدْرَكُ فَارْكَبْهُ
فَلَعَلَّكَ تَنْجُو عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَا أُحِبُّ الْبَقَاءَ
وَلَقَدْ تَعَرَّضْتُ لِلشَّهَادَةِ فِي مَوَاطِنَ مَا هَذَا
بِأَحْسَنِهَا، وَغَشِيَهُ أَصْحَابُ أَبِي فُدَيْكٍ فَقَتَلُوهُ،
وَكَانَ شُجَاعًا كَرِيمًا (وَهُوَ يَقُولُ:
وَإِنْ جَرَّ مَوْلَانَا عَلَيْنَا جَرِيرَةً ... صَبَرْنَا لَهَا،
إِنَّ الْكِرَامَ الدَّعَائِمُ
)
وَلَمَّا قُتِلَ نَجْدَةُ سَخَّطَ قَتْلُهُ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي فُدَيْكٍ فَفَارَقُوهُ، وَثَارَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ جُبَيْرٍ
فَضَرَبَهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ضَرْبَةً بِسِكِّينٍ فَقُتِلَ مُسْلِمٌ
وَحُمِلَ أَبُو فُدَيْكٍ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَرَأَ.
(3/285)
ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ مُصْعَبٍ عَلَى
الْمَدِينَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ
عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ
مُصْعَبًا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُبَيْدَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ لَهُمْ:
قَدْ تَرَوْنَ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِقَوْمٍ فِي نَاقَةٍ قِيمَتُهَا
خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَسُمِّيَ مُقَوِّمَ النَّاقَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ مُصْعَبًا.
ذِكْرُ بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ
لَمَّا احْتَرَقَتِ الْكَعْبَةُ غَزَا أَهْلُ الشَّامِ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الزُّبَيْرِ أَيَّامَ يَزِيدَ تَرَكَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ
يُشَنِّعُ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ
وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ شَرَعَ فِي بِنَائِهَا،
فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا حَتَّى أُلْحِقَتْ بِالْأَرْضِ، وَكَانَتْ قَدْ
مَالَتْ حِيطَانُهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، وَجَعَلَ
الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عِنْدَهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَطْفُونَ مِنْ
وَرَاءِ الْأَسَاسِ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا السُّورَ وَأَدْخَلَ فِيهَا
الْحَجَرَ (وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " «لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ
قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَرَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى أَسَاسِ
إِبْرَاهِيمَ، وَأَزِيدُ فِيهَا الْحَجَرَ» ) .
فَحَفَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوَجَدَ أَسَاسًا أَمْثَالَ الْجِمَالِ
فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً فَبَرَقَتْ بَارِقَةٌ فَقَالَ:
أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا وَبِنَائِهَا، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ،
يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ عِمَارَتُهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.
(3/286)
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ ابْنِ خَازِمٍ
وَبَنِي تَمِيمٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ ابْنِ خَازِمٍ
السُّلَمِيِّ وَبَنِي تَمِيمٍ بِخُرَاسَانَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
أَعَانُوا ابْنَ خَازِمٍ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَفَتْ لَهُ خُرَاسَانُ جَفَا بَنِي
تَمِيمٍ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا عَلَى هَرَاةَ،
وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ بُكَيْرَ بْنَ وَسَّاجٍ، وَضَمَّ إِلَيْهِ
شَمَّاسَ بْنَ دِثَارٍ الْعُطَارِدِيَّ، وَكَانَتْ أُمُّ مُحَمَّدٍ
تَمِيمِيَّةً، فَلَمَّا جَفَا ابْنُ خَازِمٍ بَنِي تَمِيمٍ أَتَوُا
ابْنَهُ مُحَمَّدًا بِهَرَاةَ، فَكَتَبَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى ابْنِهِ
مُحَمَّدٍ وَإِلَى بُكَيْرٍ وَشَمَّاسٍ يِأْمُرُهُمْ بِمَنْعِهِمْ عَنْ
هَرَاةَ، فَأَمَّا شَمَّاسٌ فَصَارَ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَمَّا
بُكَيْرٍ فَإِنَّهُ مَنَعَهُمْ، فَأَقَامُوا بِبِلَادٍ هَرَاةَ،
فَأَرْسَلَ بُكَيْرٌ إِلَى شَمَّاسٍ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا فَأَعْطِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَلْفًا عَلَى أَنْ
يَنْصَرِفُوا.
فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا يَتَرَصَّدُونَ مُحَمَّدًا، فَخَرَجَ
يَتَصَيَّدُ فَأَخَذُوهُ وَشَدُّوهُ وِثَاقًا وَشَرِبُوا لَيْلَتَهُمْ
وَجَعَلُوا يَبُولُونَ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَرَادُوا الْبَوْلَ، فَقَالَ
لَهُمْ شَمَّاسٌ: أَمَّا إِذْ بَلَغْتُمْ هَذَا مِنْهُ فَاقْتُلُوهُ
بِصَاحِبَيْكُمَا اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالسِّيَاطِ. وَكَانَ قَدْ
ضَرَبَ رَجُلَيْنِ مِنْ تَمِيمٍ بِالسِّيَاطِ حَتَّى مَاتَا. فَقَامُوا
إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ جَيْهَانُ بْنُ مَشْجَعَةَ
الضَّبِّيُّ وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ
وَقَتَلُوا مُحَمَّدًا. فَشَكَرَ ابْنُ خَازِمٍ لِجَيْهَانَ ذَلِكَ
فَلَمْ يَقْتُلْهُ فِيمَنْ قَتَلَ يَوْمَ فَرْتَنَا.
وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَ مُحَمَّدٍ رَجُلَانِ اسْمُ
أَحَدِهِمَا عَجَلَةُ وَاسْمُ الْآخَرِ كُسَيْبٌ. فَقَالَ ابْنُ
خَازِمٍ: بِئْسَ مَا اكْتَسَبَ كُسَيْبٌ لِقَوْمِهِ، وَلَقَدْ جَعَلَ
عَجَلَةُ لِقَوْمِهِ شَرًّا.
وَأَقْبَلَتْ تَمِيمٌ إِلَى مَرْوَ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمُ الْحَرِيشَ
بْنَ هِلَالٍ الْقُرَيْعِيَّ، وَأَجْمَعَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قِتَالِ
ابْنِ خَازِمٍ، فَقَاتَلَ الْحَرِيشُ بْنُ هِلَالٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
خَازِمٍ سَنَتَيْنِ فَلَمَّا طَالَتِ الْحَرْبُ خَرَجَ الْحَرِيشُ
فَنَادَى ابْنَ خَازِمٍ وَقَالَ لَهُ: طَالَتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا
فَعَلَامَ تَقْتُلُ قَوْمِي وَقَوْمَكَ؟ ابْرُزْ إِلَيَّ فَأَيُّنَا
قَتَلَ صَاحِبَهُ صَارَتِ الْأَرْضُ لَهُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ:
قَدْ أَنْصَفْتَ. فَبَرَزَ إِلَيْهِ فَتَضَارَبَا وَتَصَاوَلَا
تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ،
ثُمَّ غَفَلَ ابْنُ خَازِمٍ فَضَرَبَهُ الْحَرِيشُ عَلَى رَأْسِهِ
فَأَلْقَى فَرْوَةَ رَأْسِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَانْقَطَعَ رِكَابُ
الْحَرِيشِ وَانْتَزَعَ السَّيْفَ، وَلَزِمَ ابْنُ خَازِمٍ عُنُقَ
فَرَسِهِ
(3/287)
رَاجِعًا إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ
غَادَاهُمُ الْقِتَالُ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ بَعْدَ الضَّرْبَةِ
أَيَّامًا ثُمَّ مَلَّ الْفَرِيقَانِ فَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ:
فِرْقَةً إِلَى نَيْسَابُورَ مَعَ بَحِيرِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَفِرْقَةً
إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَفِرْقَةً فِيهَا الْحَرِيشُ إِلَى مَرْوِ
الرُّوذِ، فَاتَّبَعَهُ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى قَرْيَةٍ تُسَمَّى
الْمَلْحَمَةَ، وَالْحَرِيشُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ
تَفَرَّقَتْ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُمْ فِي خَرِبَةٍ، فَلَمَّا
انْتَهَى إِلَيْهِ ابْنُ خَازِمٍ خَرَجَ إِلَيْهِ فِي أَصْحَابِهِ،
فَحَمَلَ مَوْلًى لِابْنِ خَازِمٍ عَلَى الْحَرِيشِ فَضَرَبَهُ فَلَمْ
يَصْنَعْ شَيْئًا، فَقَالَ الْحَرِيشُ لِرَجُلٍ مَعَهُ: إِنَّ سَيْفِي
لَا يَصْنَعُ فِي سِلَاحِهِ شَيْئًا فَأَعْطِنِي خَشَبَةً، فَأَعْطَاهُ
عُودًا مِنْ عُنَّابٍ، فَحَمَلَ عَلَى الْمَوْلَى فَضَرَبَهُ فَسَقَطَ
وَقِيذًا، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ خَازِمٍ: مَا تُرِيدُ مِنِّي وَقَدْ
خَلَّيْتُكَ وَالْبِلَادَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تَعُودُ إِلَيْهَا. قَالَ:
لَا أَعُودُ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ خُرَاسَانَ وَلَا
يَعُودَ إِلَى قِتَالِهِ، فَأَعْطَاهُ ابْنُ خَازِمٍ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا، وَفَتَحَ لَهُ الْحَرِيشُ بَابَ الْقَصْرِ، فَدَخَلَهُ ابْنُ
خَازِمٍ وَضَمِنَ لَهُ وَفَاءَ دَيْنِهِ وَتَحَدَّثَا طَوِيلَا.
وَطَارَتْ قُطْنَةٌ عَنِ الضَّرْبَةِ الَّتِي بِرَأْسِ ابْنِ خَازِمٍ،
فَأَخْذَهَا الْحَرِيشُ وَوَضَعَهَا مَكَانَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ
خَازِمٍ: مَسُّكَ الْيَوْمَ أَلْيَنُ مِنْ مَسِّكِ أَمْسِ. فَقَالَ
الْحَرِيشُ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ، أَمَا وَاللَّهِ
لَوْلَا [أَنَّ] رِكَابِيَ انْقَطَعَ لَخَالَطَ السَّيْفُ رَأْسَكَ،
قَالَ الْحَرِيشُ فِي ذَلِكَ:
أَزَالَ عُظْمَ ذِرَاعِي عَنْ مُرَكَّبِهِ ... حَمْلُ الرُّدَيْنِيِّ
فِي الْإِدْلَاجِ بِالسَّحَرِ
حَوْلَيْنِ مَا اغْتَمَضَتْ عَيْنِي بِمَنْزِلَةٍ ... إِلَّا وَكَفِّي
وِسَادٌ لِي عَلَى حَجَرِ
بَزِّي الْحَدِيدُ وَسِرْبَالِي إِذَا هَجَعَتْ ... عَنِّي الْعُيُونُ
مِحَالُ الْقَارِحِ الذَّكَرِ
)
(بَحِيرُ بْنُ وَرْقَاءَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ. وَالْحَرِيشُ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .
(3/288)
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ طَاعُونُ الْجَارِفِ بِالْبَصْرَةِ
وَعَلَيْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ، فَهَلَكَ بِهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، فَمَاتَتْ أُمُّ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهَا
مَنْ يَحْمِلُهَا حَتَّى اسْتَأْجَرُوا مَنْ حَمَلَهَا، وَهُوَ
الْأَمِيرُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ عَلَى
الْمَدِينَةِ مُصْعَبٌ، وَعَلَى الْكُوفَةِ ابْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَى
خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
السَّهْمِيُّ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ آخِرَ عُمُرِهِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِمِصْرَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ.
(3/289)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ]
66 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ وُثُوبِ الْمُخْتَارِ بِالْكُوفَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعَ الْأَوَّلِ وَثَبَ
الْمُخْتَارُ بِالْكُوفَةِ وَأَخْرَجَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُطِيعٍ عَامِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ لَمَّا قُتِلَ قَدِمَ
مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا وَجَدُوا
الْمُخْتَارَ مَحْبُوسًا قَدْ حَبَسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
الْحَطَمِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَبْسِ يُثْنِي
عَلَيْهِمْ وَيَمِينِّهِمُ الظَّفَرَ وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّهُ هُوَ
الَّذِي أَمَّرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، يَطْلُبُ الثَّأْرَ، فَقَرَأَ كِتَابَهُ رِفَاعَةُ
بْنُ شَدَّادٍ وَالْمُثَنَّى بْنُ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيُّ وَسَعْدُ
بْنُ حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ وَيَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَرُ
بْنُ شُمَيْطٍ الْأَحْمَسِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ
الْبَجَلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَامِلٍ، فَلَمَّا قَرَأَ
كِتَابَهُ بَعَثُوا إِلَيْهِ ابْنَ كَامِلٍ يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّنَا
بِحَيْثُ يَسُرُّكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ نَأْتِيَكَ وَنُخْرِجَكَ مِنَ
الْحَبْسِ فَعَلْنَا. فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ، فَسُّرَ بِذَلِكَ
وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَخْرُجُ فِي أَيَّامِي هَذِهِ.
وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ لَهُ:
إِنَّنِي قَدْ حُبِسْتُ مَظْلُومًا، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَشْفَعَ
فِيهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا ابْنُ عُمَرَ فِي
أَمْرِهِ، فَشَفَّعَاهُ وَأَخْرَجَاهُ مِنَ السِّجْنِ وَضَمِنَاهُ،
وَحَلَّفَاهُ أَنَّهُ لَا يَبْغِيهِمَا غَائِلَةً وَلَا يَخْرُجُ
عَلَيْهِمَا مَا كَانَ لَهُمَا سُلْطَانٌ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ
أَلْفُ بَدَنَةٍ يَنْحَرُهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَمَمَالِيكُهُ
أَحْرَارٌ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ.
فَلَمَّا خَرَجَ نَزَلَ بِدَارِهِ، فَقَالَ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ:
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ مَا أَحْمَقَهُمْ حِينَ يَرَوْنَ أَنِّي أَفِي
لَهُمْ! أَمَّا حَلِفِي بِاللَّهِ فَإِنَّنِي إِذَا حَلَفْتُ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتُ خَيْرًا مِنْهَا (كَفَّرْتُ عَنْ)
(3/290)
يَمِينِي، وَخُرُوجِي عَلَيْهِمْ خَيْرٌ
مِنْ كَفِّي عَنْهُمْ، وَأَمَّا هَدْيُ الْبُدْنِ وَعَتْقُ
الْمَمَالِيكِ فَهُوَ أَهْوَنُ عَلِيَّ مِنْ بَصْقَةٍ، فَوَدِدْتُ أَنْ
تَمَّ لِي أَمْرِي وَلَا أَمَلِكُ بَعْدَهُ مَمْلُوكًا أَبَدًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَاتَّفَقُوا عَلَى الرِّضَى
بِهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ، وَأَمْرُهُ يَقْوَى
حَتَّى عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ
الْحَطَمِيَّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ
وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَلَى عَمَلِهِمَا
بِالْكُوفَةِ، فَلَقِيَهُ بِحَيْرُ بْنُ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيُّ
عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَسِرِ
اللَّيْلَةَ فَإِنَّ الْقَمَرَ بِالنَّاطِحِ فَلَا تَسِرْ، فَقَالَ
لَهُ: وَهَلْ نَطْلُبُ إِلَّا النَّطْحَ! فَلَقِيَ نَطْحًا كَمَا
يُرِيدُ، فَكَانَ الْبَلَاءُ مُوَكَّلًا بِمَنْطِقِهِ، وَكَانَ
شُجَاعًا.
وَسَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَسَرَ الْخَوَارِجُ
وَقَالَ: كَانَتْ فِتْنَةً، فَسَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ قُدُومُ ابْنِ مُطِيعٍ فِي رَمَضَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ،
وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ إِيَاسَ بْنَ مُضَارِبٍ الْعِجْلِيَّ،
وَأَمَرَهُ بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَالشِّدَّةِ عَلَى الْمُرِيبِ،
وَلَمَّا قَدِمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: أَمَّا
بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثَنِي عَلَى مِصْرِكُمْ
وَثُغُورِكُمْ، وَأَمَرَنِي بِجِبَايَةِ فَيْئِكُمْ وَأَنْ لَا
أَحْمِلَ فَضْلَ فَيْئِكُمْ عَنْكُمْ إِلَّا بِرِضًى مِنْكُمْ، وَأَنْ
أَتَّبِعَ وَصِيَّةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا
عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَسِيرَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاسْتَقِيمُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا وَخُذُوا عَلَى أَيْدِي
سُفَهَائِكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [وَلَا
تَلُومُونِي] فَوَاللَّهِ لَأُوقِعَنَّ بِالسَّقِيمِ الْعَاصِيَ،
وَلَأُقِيمَنَّ دَرْءَ الْأَصْعَرِ الْمُرْتَابِ.
فَقَامَ إِلَيْهِ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ:
أَمَّا حَمْلُ فَيْئِنَا بِرِضَانَا فَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَا لَا
نَرْضَى أَنْ يُحْمَلَ عَنَّا فَضْلُهُ وَأَنْ لَا يُقْسَمَ إِلَّا
فِينَا، وَأَنْ لَا يُسَارَ فِينَا إِلَّا بِسِيرَةِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ الَّتِي سَارَ بِهَا فِي بِلَادِنَا هَذِهِ حَتَّى
هَلَكَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي سِيرَةِ عُثْمَانَ فِي فَيْئِنَا
وَلَا فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا فِي سِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فِينَا، وَإِنْ كَانَتْ أَهْوَنَ السِّيرَتَيْنِ عَلَيْنَا، وَقَدْ
كَانَ يَفْعَلُ بِالنَّاسِ خَيْرًا.
فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ: صَدَقَ السَّائِبُ وَبَرَّ.
فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: نَسِيرُ فِيكُمْ بِكُلِّ سِيرَةٍ
أَحْبَبْتُمُوهَا. ثُمَّ نَزَلَ.
(3/291)
وَجَاءَ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ إِلَى
ابْنِ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ
رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ، فَابْعَثْ إِلَى الْمُخْتَارِ
فَلْيَأْتِكَ، فَإِذَا جَاءَ فَاحْبِسْهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ
النَّاسِ، فَإِنَّ أَمْرَهُ قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ وَكَأَنَّهُ قَدْ
وَثَبَ بِالْمِصْرِ.
فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْمُخْتَارِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ
وَحُسَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْسَمِيَّ مِنْ هَمْدَانَ،
فَقَالَا: أَجِبِ الْأَمِيرَ، فَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ، فَقَرَأَ
زَائِدَةُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ
أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الْآيَةَ، فَأَلْقَى
الْمُخْتَارُ ثِيَابَهُ وَقَالَ: أَلْقُوا عَلَيَّ قَطِيفَةً فَقَدْ
وُعِكْتُ، إِنِّي لَأَجِدُ بَرْدًا شَدِيدًا، ارْجِعَا إِلَى
الْأَمِيرِ فَأَعْلِمَاهُ حَالِي. فَعَادَا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ
فَأَعْلَمَاهُ، فَتَرَكَهُ. وَوَجَّهَ الْمُخْتَارُ إِلَى أَصْحَابِهِ
فَجَمَعَهُمْ حَوْلَهُ فِي الدُّورِ وَأَرَادَ أَنْ يَثِبَ فِي
الْكُوفَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ شِبَامٍ،
وَشِبَامٌ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانَ شَرِيفًا اسْمُهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، فَلَقِيَ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ
الثَّوْرِيَّ وَسِعْرَ بْنَ أَبِي سِعْرٍ الْحَنَفِيَّ وَالْأَسْوَدَ
بْنَ جَرَادٍ الْكِنْدِيَّ وَقَدَامَةَ بْنَ مَالِكٍ الْجُشَمِيَّ
فَقَالَ لَهُمْ: إِنِ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ بِنَا وَلَا
نَدْرِي أَرْسَلَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَمْ لَا، فَانْهَضُوا بِنَا
إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ نُخْبِرُهُ بِمَا قَدِمَ عَلَيْنَا بِهِ
الْمُخْتَارُ، فَإِنْ رَخَّصَ لَنَا فِي اتِّبَاعِهِ تَبِعْنَاهُ
وَإِنْ نَهَانَا عَنْهُ اجْتَنَبْنَاهُ، فَوَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا آثَرَ عِنْدَنَا مِنْ سَلَامَةِ
دِينِنَا. قَالُوا لَهُ: أَصَبْتَ.
فَخَرَجُوا إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ
سَأَلَهُمْ عَنْ حَالِ النَّاسِ فَأَخْبَرُوهُ عَنْ حَالِهِمْ وَمَا
هُمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَمُوهُ حَالَ الْمُخْتَارِ وَمَا دَعَاهُمْ
إِلَيْهِ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي اتِّبَاعِهِ.
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ كَلَامِهِمْ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ فَضِيلَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ
وَالْمُصِيبَةَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: وَأَمَّا
مَا ذَكَرْتُمْ مِمَّنْ دَعَاكُمْ إِلَى الطَّلَبِ بِدِمَائِنَا
فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ انْتَصَرَ لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا
بِمَنْ شَاءَ مَنْ خَلْقِهِ، وَلَوْ كَرِهَ لَقَالَ لَا تَفْعَلُوا.
فَعَادُوا وَنَاسٌ مِنَ الشِّيعَةِ يَنْتَظِرُونَهُمْ مِمَّنْ
أَعْلَمُوهُ بِحَالِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ شَقَّ عَلَى الْمُخْتَارِ
وَخَافَ أَنْ يَعُودُوا بِأَمْرٍ يُخَذِّلُ الشِّيعَةَ عَنْهُ،
فَلَمَّا قَدِمُوا الْكُوفَةَ دَخَلُوا عَلَى الْمُخْتَارِ قَبْلَ
دُخُولِهِمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا وَرَاءَ كَمْ
فَقَدَ فُتِنْتُمْ وَارْتَبْتُمْ! فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ
أُمِرْنَا بِنَصْرِكَ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اجْمَعُوا إِلَيَّ
الشِّيعَةَ، فَجَمَعَ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
إِنَّ نَفَرًا قَدْ أَحَبُّوا أَنْ يَعْلَمُوا مِصْدَاقَ مَا جِئْتُ
بِهِ فَرَحَلُوا إِلَى الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا
قَدِمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَنَبَّأَهُمْ أَنِّي وَزِيرُهُ وَظَهِيرُهُ
وَرَسُولُهُ وَأَمَرَكُمْ بِاتِّبَاعِي وَطَاعَتِي فِيمَا
(3/292)
دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ قِتَالِ
الْمُحِلِّينَ وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمُ
الْمُصْطَفَيْنَ.
فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَأَخْبَرَهُمْ بِحَالِهِمْ
وَمَسِيرِهِمْ وَأَنَّ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمَرَهُمْ
بِمُظَاهَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لِيُبْلِغِ
الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وَاسْتَعِدُّوا وَتَأَهَّبُوا.
وَقَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا نَحْوًا مِنْ كَلَامِهِ.
فَاسْتَجْمَعَتْ لَهُ الشِّيعَةُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمُ
الشَّعْبِيُّ وَأَبُوهُ شَرَاحِيلُ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ أَمْرُهُ
لِلْخُرُوجِ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ أَشْرَافَ أَهْلِ
الْكُوفَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى قِتَالِكُمْ مَعَ ابْنِ مُطِيعٍ، فَإِنْ
أَجَابَنَا إِلَى أَمْرِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ رَجَوْنَا
الْقُوَّةَ عَلَى عَدُوِّنَا، فَإِنَّهُ فَتًى رَئِيسٌ، وَابْنُ رَجُلٍ
شَرِيفٍ، لَهُ عَشِيرَةٌ ذَاتُ عِزٍّ وَعَدَدٍ.
فَقَالَ لَهُمُ الْمُخْتَارُ: فَالْقَوْهُ وَادْعُوهُ. فَخَرَجُوا
إِلَيْهِ وَمَعَهُمُ الشَّعْبِيُّ فَأَعْلَمُوهُ حَالَهُمْ وَسَأَلُوهُ
مُسَاعَدَتَهُمْ عَلَيْهِ وَذَكَرُوا لَهُ مَا كَانَ أَبُوهُ عَلَيْهِ
مِنْ وَلَاءٍ عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. (فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ
أَجَبْتُكُمْ إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ
عَلَى أَنْ تُوَلُّونِي الْأَمْرَ) فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ لِذَلِكَ
أَهْلٌ وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، هَذَا الْمُخْتَارُ قَدْ
جَاءَنَا مِنْ قِبَلِ الْمَهْدِيِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِالْقِتَالِ
وَقَدْ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِ. فَسَكَتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ
يُجِبْهُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَأَخْبَرُوا الْمُخْتَارَ، فَمَكَثَ
ثَلَاثًا ثُمَّ سَارَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُوهُ فِيهِمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ، فَأَلْقَى لَهُمُ الْوَسَائِدَ، فَجَلَسُوا عَلَيْهَا
وَجَلَسَ الْمُخْتَارُ مَعَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ
الْمُخْتَارُ: هَذَا كِتَابٌ مِنَ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ
وَابْنُ خَيْرِ أَهْلِهَا قَبْلَ الْيَوْمِ بَعْدَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ أَنْ تَنْصُرَنَا وَتُؤَازِرَنَا.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانَ الْكِتَابُ مَعِي، فَلَمَّا قَضَى
كَلَامَهُ قَالَ لِي: ادْفَعِ الْكِتَابَ إِلَيْهِ، فَدَفَعَهُ
إِلَيْهِ الشَّعْبِيُّ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْتَرِ، سَلَامٌ
عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ
وَزِيرِي وَأَمِينِي الَّذِي ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي وَأَمَرْتُهُ
بِقِتَالِ عَدُوِّي، وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ بَيْتِي، فَانْهَضْ
مَعَهُمْ بِنَفْسِكَ وَعَشِيرَتِكَ وَمَنْ أَطَاعَكَ فَإِنَّكَ إِنْ
نَصَرْتَنِي وَأَجَبْتَ دَعْوَتِي، كَانَتْ لَكَ بِذَلِكَ عِنْدِي
فَضِيلَةٌ، وَلَكَ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ وَكُلُّ جَيْشٍ غَازٍ وَكُلُّ
مِصْرٍ وَمِنْبَرٍ وَثَغْرٍ ظَهَرْتَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ
الْكُوفَةِ وَأَقْصَى بِلَادِ الشَّامِ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ قَالَ: قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ
ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ الْيَوْمِ وَكَتَبْتُ فَلَمْ يَكْتُبْ
إِلَيَّ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ. قَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّ ذَلِكَ
زَمَانٌ وَهَذَا زَمَانٌ. قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ
(3/293)
أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ [إِلَيَّ] ؟
فَشَهِدَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ أَنَسٍ
وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَامِلٍ
وَجَمَاعَتُهُمْ إِلَّا الشَّعْبِيَّ.
فَلَمَّا شَهِدُوا تَأَخَّرَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَدْرِ الْفِرَاشِ
وَأَجْلَسَ الْمُخْتَارَ عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ
عِنْدِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلشَّعْبِيِّ: قَدْ رَأَيْتُكَ لَمْ
تَشْهَدْ مَعَ الْقَوْمِ أَنْتَ وَلَا أَبُوكَ، أَفَتَرَى هَؤُلَاءِ
شَهِدُوا عَلَى حَقٍّ؟ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ سَادَةُ الْقُرَّاءِ
وَمَشْيَخَةُ الْمِصْرِ وَفُرْسَانُ الْعَرَبِ وَلَا يَقُولُ
مِثْلُهُمْ إِلَّا حَقًّا.
فَكَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ وَتَرَكَهَا عِنْدَهُ، وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ
عَشِيرَتَهُ وَمَنْ أَطَاعَهُ وَأَقْبَلَ يَخْتَلِفُ إِلَى
الْمُخْتَارِ كُلَّ عَشِيَّةٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ يُدَبِّرُونَ
أُمُورَهُمْ، وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ
وَسِتِّينَ.
فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ عِنْدَ الْمَغْرِبِ صَلَّى
إِبْرَاهِيمُ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ يُرِيدُ الْمُخْتَارَ
وَعَلَيْهِ عَلَى أَصْحَابِهِ السِّلَاحُ، وَقَدْ أَتَى إِيَاسُ بْنُ
مُضَارِبٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ
الْمُخْتَارَ خَارِجٌ عَلَيْكَ بِإِحْدَى هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ
وَقَدْ بَعَثَ ابْنِي إِلَى الْكُنَاسَةِ فَلَوْ بَعَثْتَ فِي كُلِّ
جَبَّانَةٍ عَظِيمَةٍ بِالْكُوفَةِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لَهَابَ الْمُخْتَارُ وَأَصْحَابُهُ
الْخُرُوجَ عَلَيْكَ.
فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ
الْهَمْدَانِيَّ إِلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَقَالَ: اكْفِنِي
قَوْمَكَ وَلَا تُحْدِثَنَّ بِهَا حَدَثًا. وَبَعَثَ كَعْبَ بْنَ أَبِي
كَعْبٍ الْخَثْعَمِيَّ إِلَى جَبَّانَةِ بِشْرٍ. وَبَعَثَ زَحْرَ بْنَ
قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ إِلَى جَبَّانَةِ كِنْدَةَ. وَبَعَثَ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ إِلَى جَبَّانَةِ الصَّائِدِيِّينَ.
وَبَعَثَ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ إِلَى جَبَّانَةِ سَالِمٍ.
وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ رُوَيْمٍ إِلَى جَبَّانَةِ الْمُرَادِ،
وَأَوْصَى كُلًّا مِنْهُمْ أَنْ لَا يُؤْتَى مِنْ قِبَلِهِ. وَبَعَثَ
شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ إِلَى السَّبَخَةِ وَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ
صَوْتَ الْقَوْمِ فَوَجِّهْ نَحْوَهُمْ.
وَكَانَ خُرُوجُهُمْ إِلَى الْجَبَابِينَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ،
وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ يُرِيدُ الْمُخْتَارَ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ الْجَبَابِينَ قَدْ مُلِئَتْ
رِجَالًا، وَأَنَّ إِيَاسَ بْنَ مُضَارِبٍ فِي الشُّرَطِ قَدْ أَحَاطَ
بِالسُّوقِ وَالْقَصْرِ، فَأَخَذَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ
مِائَةِ دَارِعٍ، وَقَدْ لَبِسُوا عَلَيْهَا الْأَقْبِيَةَ، فَقَالَ
لَهُ أَصْحَابُهُ: تَجَنَّبِ الطَّرِيقَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَأُمَرَّنَ وَسَطَ السُّوقِ بِجَنْبِ الْقَصْرِ وَلَأُرْعِبَنَّ
عَدُوَّنَا وَلَأُرِيَنَّهُمْ هَوَانَهُمْ عَلَيْنَا.
فَسَارَ عَلَى بَابِ الْفِيلِ ثُمَّ عَلَى دَارِ عَمْرِو بْنِ
حُرَيْثٍ، فَلَقِيَهُمْ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ فِي
(3/294)
الشُّرَطِ مُظْهِرِينِ السِّلَاحَ.
فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ الْأَشْتَرِ. فَقَالَ إِيَاسٌ: مَا هَذَا الْجَمْعُ الَّذِي
مَعَكَ وَمَا تُرِيدُ؟ لَسْتُ بِتَارِكِكَ حَتَّى آتِيَ بِكَ
الْأَمِيرَ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: خَلِّ سَبِيلًا. قَالَ: لَا
أَفْعَلُ، وَكَانَ مَعَ إِيَاسِ بْنِ مُضَارِبٍ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ
يُقَالُ لَهُ أَبُو قَطَنٍ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ، وَكَانَ صَدِيقًا
لِابْنِ الْأَشْتَرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ: ادْنُ مِنِّي
يَا أَبَا قَطَنٍ، فَدَنَا مِنْهُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ إِلَى إِيَاسٍ، فَلَمَّا دَنَا
مِنْهُ أَخَذَ رُمْحًا كَانَ مَعَهُ وَطَعَنَ بِهِ إِيَاسًا فِي
ثَغْرَةِ نَحْرِهِ فَصَرَعَهُ، وَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ
فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ إِيَاسٍ وَرَجَعُوا إِلَى
ابْنِ مُطِيعٍ.
فَبَعَثَ مَكَانَهُ ابْنَهُ رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ عَلَى الشُّرَطِ،
وَبَعَثَ مَكَانَ رَاشِدٍ إِلَى الْكُنَاسَةِ سُوِيدَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْمِنْقَرِيَّ أَبَا الْقَعْقَاعِ بْنَ سُوَيْدٍ.
وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى الْمُخْتَارِ وَقَالَ
لَهُ: إِنَّا اتَّعَدْنَا لِلْخُرُوجِ الْقَابِلَةَ، وَقَدْ جَاءَ
أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ اللَّيْلَةَ، وَأَخْبَرَهُ
الْخَبَرَ، فَفَرِحَ الْمُخْتَارُ بِقَتْلِ إِيَاسٍ وَقَالَ: هَذَا
أَوَّلُ الْفَتْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى! ثُمَّ قَالَ لِسَعِيدِ
بْنِ مُنْقِذٍ: قُمْ فَأَشْعِلِ النِّيرَانَ فِي الْهَوَادِي
وَالْقَصَبَ وَارْفَعْهَا وَسِرْ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
شَدَّادٍ فَنَادِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، وَقُمْ أَنْتَ يَا سُفْيَانُ
بْنَ لَيْلَى وَأَنْتَ يَا قُدَامَةُ بْنَ مَالِكٍ فَنَادِيَا: يَا
لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! ثُمَّ لَبِسَ سِلَاحَهُ.
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي
الْجَبَابِينِ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَنَا مِنْ إِتْيَانِنَا فَلَوْ
سِرْتُ إِلَى قَوْمِي بِمَنْ مَعِي وَدَعَوْتُ مَنْ أَجَابَنِي
وَسِرْتُ بِهِمْ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَدَعَوْتُ بِشِعَارِنَا
لَخَرَجَ إِلَيْنَا مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ وَمَنْ أَتَاكَ حَبَسْتَهُ
عِنْدَكَ إِلَى مَنْ مَعَكَ، فَإِنْ عُوجِلْتَ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ
يَمْنَعُكَ إِلَى أَنْ آتِيَكَ. فَقَالَ لَهُ: افْعَلْ وَعَجِّلْ
وَإِيَّاكَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى أَمِيرِهِمْ تُقَاتِلُهُ وَلَا
تُقَاتِلْ أَحَدًا وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ لَا تُقَاتِلَهُ إِلَّا
أَنْ يَبْدَأَكَ أَحَدٌ بِقِتَالٍ.
فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَى قَوْمَهُ،
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُلُّ مَنْ كَانَ أَجَابَهُ، وَسَارَ بِهِمْ فِي
سِكَكِ الْمَدِينَةِ لَيْلًا طَوِيلًا وَهُوَ يَنْتَخِبُ الْمَوَاضِعَ
الَّتِي فِيهَا الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ وَضَعَهُمُ ابْنُ مُطِيعٍ،
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَسْجِدِ السَّكُونِ أَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
خَيْلِ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ،
فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ
جَبَّانَةَ كِنْدَةَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ
أَنَا غَضِبْنَا لِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكَ وَثُرْنَا لَهُمْ
فَانْصُرْنَا عَلَى هَؤُلَاءِ.
ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ هَزَمَهُمْ، ثُمَّ
سَارَ حَتَّى أَتَى جَبَّانَةَ أُثَيْرٍ، فَتَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ،
فَوَقَفَ فِيهَا، فَأَتَاهُ سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمِنْقَرِيُّ وَرَجَا أَنْ يُصِيبَهُمْ فَيَحْظَى بِهَا عِنْدَ ابْنِ
مُطِيعٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَصْحَابِهِ: يَا شُرْطَةَ
(3/295)
اللَّهِ انْزِلُوا فَإِنَّكُمْ أَوْلَى
بِالنَّصْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ خَاضُوا فِي دِمَاءِ
أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، فَنَزَلُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ
إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَانْهَزَمُوا،
فَرَكِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُمْ يَتَلَاوَمُونَ، وَتَبِعَهُمْ
حَتَّى أَدْخَلَهُمُ الْكُنَاسَةَ، فَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ
أَصْحَابُهُ: اتْبَعْهُمْ وَاغْتَنِمْ مَا دَخَلَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ.
فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ نَأْتِي صَاحِبَنَا يُؤَمِّنُ اللَّهُ بِنَا
وَحْشَتَهُ، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْ نَصْرِنَا لَهُ فَيَزْدَادُ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ قُوَّةً، مَعَ أَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ
أُتِيَ.
ثُمَّ سَارَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَتَى بَابَ الْمُخْتَارِ، فَسَمِعَ
الْأَصْوَاتَ عَالِيَةً وَالْقَوْمَ يَقْتَتِلُونَ، وَقَدْ جَاءَ
شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ مِنْ قِبَلِ السَّبَخَةِ، فَعَبَّأَ لَهُ
الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ. وَجَاءَ حَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ
الْعِجْلِيُّ فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ فِي وَجْهِهِ أَحْمَرَ بْنَ
شُمَيْطٍ. فَبَيْنَمَا النَّاسُ يَقْتَتِلُونَ إِذْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ
مِنْ قِبَلِ الْقَصْرِ فَبَلَغَ حَجَّارًا وَأَصْحَابَهُ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ قَدْ أَتَاهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا فِي
الْأَزِقَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ، وَجَاءَ قَيْسُ بْنُ طِهْفَةَ
النَّهْدِيُّ فِي قَرِيبٍ مِنْ مِائَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ
الْمُخْتَارِ، فَحَمَلَ عَلَى شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ (وَهُوَ يُقَاتِلُ
يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ، فَخَلَّى لَهُمُ الطَّرِيقَ حَتَّى اجْتَمَعُوا
وَأَقْبَلَ شَبَثٌ) إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ وَقَالَ لَهُ: اجْمَعِ
الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ بِالْجَبَابِينِ وَجَمِيعَ النَّاسِ ثُمَّ
أَنْفِذْ إِلَى هَؤُلَاءِ فَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ
قَوِيَ وَقَدْ خَرَجَ الْمُخْتَارُ وَظَهَرَ وَاجْتَمَعَ لَهُ
أَمْرُهُ.
فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُ الْمُخْتَارَ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ فِي ظَهْرِ دَيْرِ هِنْدٍ فِي السَّبَخَةِ
وَخَرَجَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ فَنَادَى فِي شَاكِرٍ وَهُمْ
مُجْتَمِعُونَ فِي دُورِهِمْ يَخَافُونَ أَنْ يَظْهَرُوا لِقُرْبِ
كَعْبٍ الْخَثْعَمِيِّ مِنْهُمْ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ
أَفْوَاهَ السِّكَكِ. فَلَمَّا أَتَاهُمْ أَبُو عُثْمَانَ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ نَادَى: يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! يَا
مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ! يَا أَيُّهَا الْحَيُّ الْمُهْتَدُونَ، إِنَّ
أَمِينَ آلِ مُحَمَّدٍ وَوَزِيرَهُمْ قَدْ خَرَجَ فَنَزَلَ دَيْرَ
هِنْدٍ وَبَعَثَنِي إِلَيْكُمْ دَاعِيًا وَمُبَشِّرًا، فَاخْرُجُوا
رَحِمَكُمُ اللَّهُ! فَخَرَجُوا يَتَدَاعُونَ: يَا لَثَارَاتِ
الْحُسَيْنِ! وَقَاتَلُوا كَعْبًا حَتَّى خَلَّى لَهُمُ الطَّرِيقَ،
فَأَقْبَلُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَنَزَلُوا مَعَهُ، وَخَرَجَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ قَتَادَةَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْنِ فَنَزَلَ مَعَ
الْمُخْتَارِ، وَكَانَ قَدْ تَعَرَّضَ لَهُمْ كَعْبٌ، فَلَمَّا
عَرَّفَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ خَلَّى عَنْهُمْ. وَخَرَجَتْ
شِبَامٌ، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ، مِنْ آخَرِ لَيْلَتِهِمْ،
فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ
(3/296)
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدٍ
الْهَمْدَانِيَّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ
الْمُخْتَارَ فَلَا تَمُرُّوا عَلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ. فَلَحِقُوا
بِالْمُخْتَارِ، فَتَوَافَى إِلَى الْمُخْتَارِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ
وَثَمَانُمِائَةٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا كَانُوا بَايَعُوهُ،
فَاجْتَمَعُوا لَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ
تَعْبِيَتِهِ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِغَلَسَ.
وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْجَبَابِينِ فَأَمَرَ مَنْ بِهَا
أَنْ يَأْتُوا الْمَسْجِدَ، وَأَمَرَ رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ فَنَادَى
فِي النَّاسِ: بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَأْتِ
الْمَسْجِدَ اللَّيْلَةَ. فَاجْتَمَعُوا فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ شَبَثَ
بْنَ رِبْعِيٍّ فِي نَحْوِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ إِلَى الْمُخْتَارِ،
وَبَعَثَ رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الشُّرَطِ.
فَسَارَ شَبَثٌ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَبَلَغَهُ خَبَرُهُ وَقَدْ فَرَغَ
مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَرْسَلَ مَنْ أَتَاهُ بِخَبَرِهِمْ،
وَأَتَى إِلَى الْمُخْتَارِ ذَلِكَ الْوَقْتَ سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ
الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
إِتْيَانِهِ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ، فَرَأَى رَاشِدَ بْنَ إِيَاسٍ
فِي طَرِيقِهِ فَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ خَبَرَهُ أَيْضًا، فَبَعَثَ
الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ إِلَى رَاشِدٍ فِي سَبْعِ
مِائَةٍ، وَقِيلَ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ،
وَبَعَثَ نُعَيْمَ بْنَ هُبَيْرَةَ، أَخَا مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ،
فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ وَأَمَرَهُ
بِقِتَالِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَرَهُمَا
بِتَعْجِيلِ الْقِتَالِ وَأَنْ لَا يُسْتَهْدَفَا لِعَدُوِّهِمَا
فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُمَا، فَتَوَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى
رَاشِدٍ، وَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ فِي مَوْضِعِ
مَسْجِدِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فِي تِسْعِمِائَةٍ أَمَامَهُ،
فَتَوَجَّهَ نُعَيْمٌ إِلَى شَبَثٍ فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَجَعَلَ نُعَيْمٌ سِعْرَ بْنَ أَبِي سِعْرٍ عَلَى الْخَيْلِ وَمَشَى
هُوَ فِي الرَّجَّالَةِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ
وَانْبَسَطَتْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ شَبَثٍ حَتَّى دَخَلُوا
الْبُيُوتَ، فَنَادَاهُمْ شَبَثٌ وَحَرَّضَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ
مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ نُعَيْمٍ وَقَدْ
تَفَرَّقُوا، فَهَزَمَهُمْ، وَصَبَرَ نُعَيْمٌ فَقُتِلَ، وَأَسِرُ
سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَطْلَقَ
الْعَرَبَ وَقَتَلَ الْمَوَالِي، وَجَاءَ شَبَثٌ حَتَّى أَحَاطَ
بِالْمُخْتَارِ، وَكَانَ قَدْ وَهَنَ لِقَتْلِ نُعَيْمٍ.
وَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ يَزِيدَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ فِي
أَلْفَيْنِ، فَوَقَفُوا فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، وَوَلَّى
الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ خَيْلَهُ وَخَرَجَ هُوَ فِي
الرَّجَّالَةِ، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِ خَيْلُ شَبَثٍ فَلَمْ يَبْرَحُوا
مَكَانَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ: يَا مَعْشَرَ
الشِّيعَةِ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُقْتَلُونَ وَتُقْطَعُ أَيْدِيكُمْ
وَأَرْجُلُكُمْ وَتُسْمَلُ أَعْيُنُكُمْ وَتُرْفَعُونَ عَلَى جُذُوعِ
النَّخْلِ فِي حُبِّ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ
فِي بُيُوتِكُمْ وَطَاعَةِ عَدُوِّكُمْ، فَمَا ظَنَّكُمْ بِهَؤُلَاءِ
الْقَوْمِ إِذَا ظَهَرُوا عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ؟ وَاللَّهِ
(3/297)
لَا يَدَعُونَ مِنْكُمْ عَيْنًا تَطْرُفُ،
وَلَيُقَتِّلُنَّكُمْ صَبْرًا، وَلَتَرَوْنَ مِنْهُمْ فِي
أَوْلَادِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ مَا الْمَوْتُ خَيْرٌ
مِنْهُ، وَاللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا الصِّدْقُ
وَالصَّبْرُ وَالطَّعْنُ الصَّائِبُ وَالضَّرْبُ الدِّرَاكُ،
تَهَيَّئُوا لِلْحَمْلَةِ، فَتَيَسَّرُوا يَنْتَظِرُونَ أَمْرَهُ
وَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ.
وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ لَقِيَ رَاشِدًا
فَإِذَا مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ
لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ كَثْرَةُ هَؤُلَاءِ، فَوَاللَّهِ
لَرُبَّ رَجُلٍ خَيْرٌ مِنْ عَشْرَةٍ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وَقَدِمَ خُزَيْمَةُ بْنُ نَصْرٍ إِلَيْهِمْ فِي الْخَيْلِ، وَنَزَلَ
هُوَ يَمْشِي فِي الرَّجَّالَةِ، وَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ
لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: تَقَدَّمَ بِرَايَتِكَ، امْضِ بِهَؤُلَاءِ
وَبِهَا.
وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ خُزَيْمَةُ بْنُ
نَصْرٍ الْعَبْسِيُّ عَلَى رَاشِدٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ نَادَى: قَتَلْتُ
رَاشِدًا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ رَاشِدٍ،
وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ وَخُزَيْمَةُ وَمَنْ مَعَهُمَا بَعْدَ قَتْلِ
رَاشِدٍ نَحْوَ الْمُخْتَارِ، وَأَرْسَلَ الْبَشِيرُ إِلَى
الْمُخْتَارِ بِقَتْلِ رَاشِدٍ، فَكَبَّرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَدَخَلَ أَصْحَابَ ابْنِ مُطِيعٍ الْفَشَلُ.
وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ حَسَّانَ بْنَ فَائِدِ بْنِ بَكْرٍ
الْعَبْسِيَّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوِ أَلْفَيْنِ، فَاعْتَرَضَ
إِبْرَاهِيمَ لِيَرُدَّهُ عَمَّنْ بِالسَّبَخَةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
مُطِيعٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ، فَانْهَزَمُوا مِنْ
غَيْرِ قِتَالٍ، وَتَأَخَّرَ حَسَّانُ يَحْمِي أَصْحَابَهُ، فَحَمَلَ
عَلَيْهِ خُزَيْمَةُ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: يَا حَسَّانُ لَوْلَا
الْقَرَابَةُ لَقَتَلْتُكَ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ.
فَعَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ فَوَقَعَ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَقَاتَلَ
سَاعَةً، قَالَ لَهُ خُزَيْمَةُ: أَنْتَ آمِنٌ فَلَا تَقْتُلْ
نَفْسَكَ، وَكَفَّ عَنْهُ النَّاسُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هَذَا ابْنُ
عَمِّي وَقَدْ آمَنْتُهُ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ! وَأَمَرَ بِفَرَسِهِ
فَأُحْضِرَ فَأُرْكِبَهُ وَقَالَ: الْحَقْ بِأَهْلِكَ.
وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ نَحْوَ الْمُخْتَارِ وَشَبَثُ بْنِ رِبْعِيٍّ
مُحِيطٌ بِهِ، فَلَقِيَهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ عَلَى
أَفْوَاهِ السِّكَكِ الَّتِي تَلِي السَّبَخَةَ، فَأَقْبَلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ لِيَصُدَّهُ عَنْ شَبَثٍ وَأَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ
إِبْرَاهِيمُ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَ خُزَيْمَةَ
بْنِ نَصْرٍ وَسَارَ نَحْوَ الْمُخْتَارِ وَشَبِثٍ فِيمَنْ بَقِيَ
مَعَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ حَمَلَ عَلَى شَبَثٍ،
وَحَمَلَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ، فَانْهَزَمَ شَبَثٌ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى
أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ، وَحَمَلَ خُزَيْمَةُ بْنُ نَصْرٍ عَلَى يَزِيدَ
بْنِ الْحَارِثِ فَهَزَمَهُ، وَازْدَحَمُوا عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ
وَفَوْقَ الْبُيُوتِ وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى
أَفْوَاهِ السِّكَكِ رَمَتْهُ الرُّمَاةُ بِالنَّبْلِ فَصَدُّوهُ عَنِ
الدُّخُولِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وَرَجَعَ النَّاسُ مِنَ السَّبَخَةِ مُنْهَزِمِينَ إِلَى ابْنِ
مُطِيعٍ، وَجَاءَهُ قَتْلُ رَاشِدِ بْنِ إِيَاسٍ فَسَقَطَ فِي يَدِهِ،
فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ: أَيُّهَا
الرَّجُلُ لَا تُلْقِ بِيَدِكَ وَاخْرُجْ إِلَى النَّاسِ وَانْدُبْهُمْ
إِلَى عَدُوِّكَ، فَإِنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ وَكُلُّهُمْ مَعَكَ إِلَّا
هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي خَرَجَتْ وَاللَّهُ يُخْزِيهَا، وَأَنَا
أَوَّلُ مُنْتَدَبٍ، فَانْتَدِبْ مَعِي طَائِفَةً وَمَعَ غَيْرِي
طَائِفَةً.
(3/298)
فَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ فَقَامَ فِي
النَّاسِ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ
إِلَى الْمُخْتَارِ وَأَصْحَابِهِ.
وَلَمَّا رَأَى الْمُخْتَارُ أَنَّهُ قَدْ مَنَعَهُ يَزِيدُ بْنُ
الْحَارِثِ مِنْ دُخُولِ الْكُوفَةِ عَدَلَ إِلَى بُيُوتٍ مُزَيْنَةَ
وَأَحْمَسَ وَبَارِقَ، وَبُيُوتُهُمْ مُنْفَرِدَةٌ، فَسَقَوْا
أَصْحَابَهُ الْمَاءَ وَلَمْ يَشْرَبْ هُوَ، فَإِنَّهُ كَانَ صَائِمًا،
فَقَالَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ لِابْنِ كَامِلٍ: أَتُرَاهُ صَائِمًا؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ أَفْطَرَ كَانَ أَقْوَى لَهُ. قَالَ:
إِنَّهُ مَعْصُومٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَصْنَعُ. فَقَالَ أَحْمَرُ:
صَدَقْتَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.
فَقَالَ الْمُخْتَارُ: نِعْمَ الْمَكَانُ لِلْقِتَالِ هَذَا. فَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ وَأَدْخَلَ
الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، سِرْ بِنَا، فَوَاللَّهِ مَا دُونَ
الْقَصْرِ مَانِعٌ. فَتَرَكَ الْمُخْتَارُ هُنَاكَ كُلَّ شَيْخٍ
ضَعِيفٍ ذِي عِلَّةٍ (وَنَقَلَهُمْ) وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ أَبَا
عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، وَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ أَمَامَهُ، وَبَعَثَ
ابْنُ مُطِيعٍ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ (فِي أَلْفَيْنِ، فَخَرَجَ
عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ الْمُخْتَارُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنِ اطْوِهِ
وَلَا تَقُمْ عَلَيْهِ، فَطَوَاهُ وَأَقَامَ، وَأَمَرَ الْمُخْتَارُ
يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ أَنْ يُوَاقِفَ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ) ،
فَمَضَى إِلَيْهِ، وَسَارَ الْمُخْتَارُ فِي أَثَرِ إِبْرَاهِيمَ،
ثُمَّ وَقَفَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَمَضَى إِبْرَاهِيمُ لِيَدْخُلَ الْكُوفَةَ مِنْ نَحْوِ الْكُنَاسَةِ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فِي أَلْفَيْنِ،
فَسَرَّحَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ
الْهَمْدَانِيَّ فَوَاقَعَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ، فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِكَّةَ
شَبَثٍ، فَإِذَا نَوْفَلُ بْنُ مُسَاحِقٍ فِي أَلْفَيْنِ، وَقِيلَ
خَمْسَةِ آلَافٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مُطِيعٍ
مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنِ الْحَقُوا بِابْنِ مُسَاحِقٍ.
وَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ فَوَقَفَ بِالْكُنَاسَةِ وَاسْتَخْلَفَ شَبَثَ
بْنَ رِبْعِيٍّ عَلَى الْقَصْرِ، فَدَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ مِنِ ابْنِ
مُطِيعٍ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالنُّزُولِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا
يَهُولَنَّكُمْ أَنْ يُقَالَ جَاءَ شَبَثٌ وَآلُ عُتَيْبَةَ بْنُ
النَّهَّاسِ وَآلُ الْأَشْعَثِ وَآلُ يَزِيدَ بْنُ الْحَارِثِ وَآلُ
فُلَانٍ، فَسَمَّى بُيُوتَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
هَؤُلَاءِ لَوْ وَجَدُوا حَرَّ السُّيُوفِ لَانْهَزَمُوا عَنِ ابْنِ
مُطِيعٍ انْهِزَامَ الْمَعْزَى مِنَ الذِّئْبِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَأَخَذَ ابْنُ الْأَشْتَرِ أَسْفَلَ قَبَائِهِ فَأَدْخَلَهُ فِي
مِنْطَقَتِهِ، وَكَانَ الْقَبَاءُ عَلَى الدِّرْعِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا
حِينَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَنِ انْهَزَمُوا يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ وَازْدَحَمُوا، وَانْتَهَى ابْنُ
الْأَشْتَرِ إِلَى ابْنِ مُسَاحِقٍ، فَأَخَذَ بِعِنَانِ دَابَّتِهِ
وَرَفَعَ السَّيْفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ
أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنْ إِحْنَةٍ أَوْ
تَطْلُبُنِي بِثَأْرٍ؟ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ:
(3/299)
اذْكُرْهَا. فَكَانَ يَذْكُرُهَا لَهُ.
وَدَخَلُوا الْكُنَاسَةَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى دَخَلُوا السُّوقَ
وَالْمَسْجِدَ وَحَصَرُوا ابْنَ مُطِيعٍ وَمَعَهُ الْأَشْرَافُ مِنَ
النَّاسِ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، فَإِنَّهُ أَتَى دَارَهُ ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى الْبَرِّ، وَجَاءَ الْمُخْتَارُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ
السُّوقِ. وَوَلَّى إِبْرَاهِيمَ حِصَارَ الْقَصْرِ وَمَعَهُ يَزِيدُ
بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ، فَحَصَرُوهُمْ ثَلَاثًا،
فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ شَبَثٌ لِابْنِ مُطِيعٍ:
(انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَلِمَنْ مَعَكَ فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَهُمْ
غَنَاءٌ عَنْكَ وَلَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ.
فَقَالَ شَبَثٌ) : الرَّأْيُ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِكَ وَلَنَا
أَمَانًا وَنَخْرُجَ وَلَا تُهْلِكَ نَفْسَكَ وَمَنْ مَعَكَ. فَقَالَ
ابْنُ مُطِيعٍ: إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ أَمَانًا،
وَالْأُمُورُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَقِيمَةٌ بِالْحِجَازِ
وَالْبَصْرَةِ. قَالَ: فَتَخْرُجُ وَلَا يَشْعُرُ بِكَ أَحَدٌ،
فَتَنْزِلُ بِالْكُوفَةِ عِنْدَ مَنْ تَثِقُ بِهِ حَتَّى تَلْحَقَ
بِصَاحِبِكَ.
وَأَشَارَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدٍ وَأَسْمَاءُ بْنُ
خَارِجَةَ وَابْنُ مِخْنَفٍ وَأَشْرَافُ الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ حَتَّى
أَمْسَى وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِينَ صَنَعُوا هَذَا
بِكُمْ أَرَاذِلُكُمْ وَأَخِسَّاؤُكُمْ وَأَنَّ أَشْرَافَكُمْ وَأَهْلَ
الْفَضْلِ مِنْكُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، وَأَنَا مُبَلِّغٌ ذَلِكَ
صَاحِبِي وَمُعْلِمُهُ طَاعَتَكُمْ وَجِهَادَكُمْ حَتَّى كَانَ اللَّهُ
الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ. فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا.
وَخَرَجَ عَنْهُمْ وَأَتَى دَارَ أَبِي مُوسَى، (فَجَاءَ ابْنُ
الْأَشْتَرِ وَنَزَلَ) الْقَصْرَ، فَفَتَحَ أَصْحَابُهُ الْبَابَ
وَقَالُوا: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ آمَنُونَ نَحْنُ؟ قَالَ: أَنْتُمْ
آمِنُونَ.
فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا الْمُخْتَارَ، وَدَخَلَ الْمُخْتَارُ الْقَصْرَ
فَبَاتَ فِيهِ، وَأَصْبَحَ أَشْرَافُ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى
بَابِ الْقَصْرِ، وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَعَدَ وَلِيَّهُ النَّصْرَ وَعَدُوَّهُ
الْخُسْرَ، وَجَعَلَهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَعْدًا مَفْعُولًا
وَقَضَاءً مَقْضِيًّا، وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا رُفِعَتْ لَنَا رَايَةٌ وَمُدَّتْ لَنَا غَايَةٌ، فَقِيلَ لَنَا
فِي الرَّايَةِ أَنِ ارْفَعُوهَا وَفِي الْغَايَةِ أَنِ اجْرُوا
إِلَيْهَا وَلَا تَعْدُوهَا، فَسَمِعْنَا دَعْوَةَ الدَّاعِي
وَمَقَالَةَ الْوَاعِي، فَكَمْ مِنْ نَاعٍ وَنَاعِيَةٍ لِقَتْلَى فِي
الْوَاعِيَةِ، وَبُعْدًا لِمَنْ طَغَى وَأَدْبَرَ وَعَصَى وَكَذَّبَ
وَتَوَلَّى، أَلَا فَادْخُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَبَايِعُوا بَيْعَةَ
هُدًى، فَلَا وَالَّذِي
(3/300)
جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا مَكْفُوفًا،
وَالْأَرْضَ فِجَاجًا سُبُلًا، مَا بَايَعْتُمْ بَعْدَ بَيْعَةِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَآلِ عَلِيٍّ أَهْدَى مِنْهَا!
ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ فَبَايَعُوهُ
عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ،
وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ، وَالدَّفْعِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، وَقِتَالِ
مَنْ قَاتَلَنَا، وَسِلْمِ مَنْ سَالَمَنَا.
وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانَ وَابْنُهُ
حَسَّانُ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ اسْتَقْبَلَهُ سَعِيدُ بْنُ
مُنْقِذٍ الثَّوْرِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَلَمَّا
رَأَوْهُمَا قَالُوا: هَذَانِ وَاللَّهِ مِنْ رُءُوسِ الْجَبَّارِينَ،
فَقَتَلُوا الْمُنْذِرَ وَابْنَهُ حَسَّانَ، فَنَهَاهُمْ سَعِيدٌ
حَتَّى يَأْخُذُوا أَمْرَ الْمُخْتَارِ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَلَمَّا
سَمِعَ الْمُخْتَارُ ذَلِكَ كَرِهَهُ، وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ
يُمَنِّي النَّاسَ، وَيَسْتَجِرُّ مَوَدَّةَ الْأَشْرَافِ، وَيُحْسِنُ
السِّيرَةَ.
وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ مُطِيعٍ فِي دَارِ أَبِي مُوسَى، فَسَكَتَ،
فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ:
تَجَهَّزْ بِهَذِهِ فَقَدْ عَلِمْتُ مَكَانَكَ، وَأَنَّكَ لَمْ
يَمْنَعْكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا عَدَمُ النَّفَقَةِ. وَكَانَ
بَيْنَهُمَا صَدَاقَةٌ.
وَوَجَدَ الْمُخْتَارُ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ آلَافِ أَلْفٍ،
(فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ الَّذِينَ قَاتَلَ بِهِمْ حِينَ حَصَرَ ابْنَ
مُطِيعٍ فِي الْقَصْرِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ [آلَافٍ] وَخَمْسُمِائَةٍ) ،
لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى سِتَّةَ
آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَتَوْهُ بَعْدَمَا أَحَاطَ بِالْقَصْرِ،
وَأَقَامُوا مَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَتِلْكَ الْأَيَّامَ
الثَّلَاثَةَ مِائَتَيْنِ مِائَتَيْنِ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ
بِخَيْرٍ، وَجَعَلَ الْأَشْرَافَ جُلَسَاءَهُ، وَجَعَلَ عَلَى
شُرَطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَعَلَى
حَرَسِهِ كَيْسَانَ أَبَا عَمْرَةَ.
فَقَامَ أَبُو عَمْرَةَ عَلَى رَأْسِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مُقْبِلٌ
عَلَى الْأَشْرَافِ بِحَدِيثِهِ وَوَجْهِهِ، فَقَالَ لِأَبِي عَمْرَةَ
بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمَوَالِي: أَمَا تَرَى أَبَا إِسْحَاقَ
قَدْ أَقْبَلَ عَلَى الْعَرَبِ مَا يَنْظُرُ إِلَيْنَا؟ فَسَأَلَهُ
الْمُخْتَارُ عَمَّا قَالُوا، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ لَا
يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ،
وَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] . فَلَمَّا سَمِعُوهَا قَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا، كَأَنَّكُمْ وَاللَّهِ قَدْ قُتِلْتُمْ. يَعْنِي
الرُّؤَسَاءَ.
وَكَانَ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا الْمُخْتَارُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ أَخِي الْأَشْتَرِ عَلَى أَرْمِينِيَّةَ، وَبَعَثَ
مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدٍ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ،
وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى
الْمَوْصِلِ، وَبَعَثَ إِسْحَاقَ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْمَدَائِنِ
وَأَرْضِ جُوخَى، وَبَعَثَ قُدَامَةَ بْنَ
(3/301)
أَبِي عِيسَى بْنِ زَمْعَةَ النَّصْرِيَّ
حَلِيفَ ثَقِيفٍ عَلَى بِهْقُبَاذَ الْأَعْلَى، وَبَعَثَ مُحَمَّدَ
بْنَ كَعْبِ بْنِ قَرَظَةَ عَلَى بِهْقُبَاذَ الْأَوْسَطِ، وَبَعَثَ
سَعْدَ بْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَلَى حُلْوَانَ، وَأَمَرَهُ
بِقِتَالِ الْأَكْرَادِ وَإِقَامَةِ الطُّرُقِ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْصِلِ
مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُخْتَارُ
وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدٍ إِلَى الْمَوْصِلِ أَمِيرًا
سَارَ مُحَمَّدٌ عَنْهَا إِلَى تَكْرِيتَ، يَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ
النَّاسِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمُخْتَارِ فَبَايَعَهُ.
فَلَمَّا فَرَغَ الْمُخْتَارُ مِمَّا يُرِيدُ صَارَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ
وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِي فِيمَا أُحَاوِلُ
لَشُغْلًا عَنِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ أَقَامَ شُرَيْحًا يَقْضِي بَيْنَ
النَّاسِ، ثُمَّ خَافَهُمْ شُرَيْحٌ فَتَمَارَضَ، وَكَانُوا
يَقُولُونَ: إِنَّهُ عُثْمَانِيٌّ، وَإِنَّهُ شَهِدَ عَلَى حُجْرِ بْنِ
عَدِيٍّ، وَإِنَّهُ لَمْ يُبْلِغْ هَانِئَ بْنَ عُرْوَةَ مَا
أَرْسَلَهُ بِهِ، وَإِنَّ عَلِيًّا عَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ. فَلَمَّا
بَلَغَ شُرَيْحًا ذَلِكَ مِنْهُمْ تَمَارَضَ، فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ
مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ إِنَّ
عَبْدَ اللَّهِ مَرِضَ، فَجَعَلَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَالِكٍ الطَّائِيَّ.
ذِكْرُ قَتْلِ الْمُخْتَارِ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ الْمُخْتَارُ بِمَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ
قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ لَمَّا
اسْتَوْسَقَ لَهُ الشَّامُ بَعَثَ جَيْشَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِلَى
الْحِجَازِ عَلَيْهِ حُبَيْشُ بْنُ دَلَجَةَ الْقَيْنِيُّ، وَقَدْ
ذَكَرْنَا أَمْرَهُ وَقَتْلَهُ، وَالْجَيْشُ الْآخَرُ إِلَى الْعِرَاقِ
مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ وَأَمْرِ التَّوَّابِينَ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِابْنِ
زِيَادٍ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَبَ الْكُوفَةَ
ثَلَاثًا، فَاحْتُبِسَ بِالْجَزِيرَةِ وَبِهَا قَيْسُ عَيْلَانَ مَعَ
زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ عَلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ
يَزَلْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُشْتَغِلًا بِهِمْ عَنِ
الْعِرَاقِ نَحْوَ سَنَةٍ.
فَتُوُفِّيَ مَرْوَانُ وَوُلِّيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ، فَأَقَرَّ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى مَا كَانَ أَبُوهُ
وَلَّاهُ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِهِ.
فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ فِي زُفَرَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَيْسٍ شَيْءٌ
أَقْبَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَكَتَبَ
(3/302)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدٍ عَامِلُ
الْمُخْتَارِ إِلَى الْمُخْتَارِ يُخْبِرُهُ بِدُخُولِ ابْنِ زِيَادٍ
أَرْضَ الْمَوْصِلِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَنَحَّى لَهُ عَنِ الْمَوْصِلِ
إِلَى تَكْرِيتَ. فَدَعَا الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ
الْأَسَدِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَيَنْزِلَ
بِأَدَانِي أَرْضِهَا حَتَّى يَمُدَّهُ بِالْجُنُودِ، فَقَالَ لَهُ
يَزِيدُ: خَلِّنِي أَنْتَخِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَخَلِّنِي
مِمَّا تُوَجِّهُنِي إِلَيْهِ، فَإِنِ احْتَجْتُ كَتَبْتُ إِلَيْكَ
أَسْتَمِدُّكَ. فَأَجَابَهُ الْمُخْتَارُ، فَانْتَخَبَ لَهُ ثَلَاثَةَ
آلَافٍ، وَسَارَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَسَارَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ
وَالنَّاسُ يُشَيِّعُونَهُ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ لَهُ: إِذَا
لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَلَا تُنَاظِرْهُمْ، وَإِذَا مَكَّنَتْكَ
الْفُرْصَةُ فَلَا تُؤَخِّرْهَا، وَلْيَكُنْ خَبَرُكَ كُلَّ يَوْمٍ
عِنْدِي، وَإِنِ احْتَجْتَ إِلَى مَدَدٍ فَاكْتُبْ إِلَيَّ، مَعَ
أَنِّي مُمِدُّكَ وَإِنْ لَمْ تَسْتَمِدَّ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ
لِعَضُدِكَ، وَأَرْعَبُ لِعَدُوِّكَ. وَدَعَا لَهُ النَّاسُ
بِالسَّلَامَةِ، وَدَعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: اسْأَلُوا اللَّهَ لِي
بِالشَّهَادَةِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ فَاتَنِيَ النَّصْرُ لَا
تَفُوتُنِي الشَّهَادَةُ.
فَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ أَنْ
خَلِّ بَيْنَ يَزِيدَ وَبَيْنَ الْبِلَادِ.
فَسَارَ يَزِيدُ إِلَى الْمَدَائِنِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَرْضِ جُوخَى
وَالرَّاذَانَاتِ إِلَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بِبَاتِلَى،
وَبَلَغَ خَبَرُهُ ابْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ إِلَى كُلِّ
أَلْفٍ أَلْفَيْنِ. فَأَرْسَلَ رَبِيعَةَ بْنَ مُخَارِقٍ الْغَنَوِيَّ
فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُمْلَةَ الْخَثْعَمِيَّ
فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَسَارَ رَبِيعَةُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ
بِيَوْمٍ فَنَزَلَ بِيَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ (بِبَاتِلَى، فَخَرَجَ
يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ) وَهُوَ مَرِيضٌ شَدِيدُ الْمَرَضِ، رَاكِبٌ عَلَى
حِمَارٍ يُمْسِكُهُ الرِّجَالُ، فَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ
وَعَبَّأَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَقَالَ: إِنْ هَلَكْتُ
فَأَمِيرُكُمْ وَرْقَاءُ بْنُ الْعَازِبِ الْأَسَدِيُّ، فَإِنْ هَلَكَ
فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ الْعُذْرِيُّ، فَإِنْ
هَلَكَ فَأَمِيرُكُمْ سِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ الْحَنَفِيُّ، وَجَعَلَ
عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ سِعْرًا،
وَعَلَى الْخَيْلِ وَرْقَاءَ، وَنَزَلَ هُوَ، فَوُضِعَ بَيْنَ
الرِّجَالِ عَلَى سَرِيرٍ، وَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ إِنْ
شِئْتُمْ أَوْ فِرُّوا عَنْهُ. وَهُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا
يَفْعَلُونَ، ثُمَّ يُغْمَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُفِيقُ.
وَاقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَ فَلَقِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ،
وَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، فَانْهَزَمَ أَهْلُ
الشَّامِ وَأُخِذَ عَسْكَرُهُمْ، وَانْتَهَى أَصْحَابُ يَزِيدَ إِلَى
رَبِيعَةَ بْنِ مُخَارِقٍ وَقَدِ انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ
نَازِلٌ يُنَادِي: يَا أَوْلِيَاءَ الْحَقِّ، أَنَا ابْنُ مُخَارِقٍ،
إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ الْعَبِيدَ الْأُبَّاقَ وَمَنْ تَرَكَ
الْإِسْلَامَ وَخَرَجَ مِنْهُ! فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ،
فَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ
الشَّامِ وَقُتِلَ رَبِيعَةُ بْنُ مُخَارِقٍ، وَقَتَلَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ
(3/303)
الْعُذْرِيُّ، فَلَمْ يَسِرِ
الْمُنْهَزِمُونَ غَيْرَ سَاعَةٍ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَمَلَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَرَدَّ مَعَهُ الْمُنْهَزِمِينَ.
وَنَزَلَ يَزِيدُ بِبَاتِلَى، فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَتَحَارَسُونَ،
فَلَمَّا أَصْبَحُوا يَوْمَ الْأَضْحَى خَرَجُوا إِلَى الْقِتَالِ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ نَزَلُوا فَصَلُّوا الظُّهْرَ،
ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَتُرِكَ
ابْنُ جَمَلَةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَحَمَلَ
عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرَادٍ الْخَثْعَمِيُّ فَقَتَلَهُ،
وَحَوَى أَهْلُ الْكُوفَةِ عَسْكَرَهُمْ، وَقَتَلُوا فِيهِمْ قَتْلًا
ذَرِيعًا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، وَأَمَرَ
يَزِيدُبْنُ أَنَسٍ بِقَتْلِهِمْ، وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقُتِلُوا،
ثُمَّ مَاتَ آخِرَ النَّهَارِ، فَدَفَنَهُ أَصْحَابُهُ وَسُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ.
وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ وَرْقَاءَ بْنَ عَازِبٍ الْأَسَدِيَّ،
فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟
إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ
فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ،
فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَإِنِّي لَا أَرَى لَنَا بِأَهْلِ الشَّامِ
طَاقَةً عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ هَلَكَ يَزِيدُ وَتَفَرَّقَ
عَنَّا بَعْضُ مَنْ مَعَنَا، فَلَوِ انْصَرَفْنَا الْيَوْمَ مِنْ
تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا لَقَالُوا: إِنَّمَا رَجَعْنَا عَنْهُمْ
لِمَوْتِ أَمِيرِنَا، وَلَمْ يَزَالُوا لَنَا هَائِبِينَ، وَإِنْ
لَقِينَاهُمُ الْيَوْمَ كُنَّا مُخَاطِرِينَ، فَإِنْ هَزَمُونَا
الْيَوْمَ لَمْ تَنْفَعْنَا هَزِيمَتُنَا إِيَّاهُمْ بِالْأَمْسِ.
فَقَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُخْتَارَ وَأَهْلَ الْكُوفَةِ، فَأَرْجَفَ
النَّاسُ بِالْمُخْتَارِ وَقَالُوا: إِنَّ يَزِيدَ قُتِلَ، وَلَمْ
يُصَدِّقُوا أَنَّهُ مَاتَ. فَدَعَا الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْأَشْتَرِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافٍ وَقَالَ لَهُ: سِرْ،
فَإِذَا لَقِيتَ جَيْشَ يَزِيدَبْنِ أَنَسٍ فَأَنْتَ الْأَمِيرُ
عَلَيْهِمْ، فَارْدُدْهُمْ مَعَكَ حَتَّى تَلْقَى ابْنَ زِيَادٍ
وَأَصْحَابَهُ فَتُنَاجِزَهُمْ. فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ فَعَسْكَرَ
بِحَمَّامِ أَعْيَنَ وَسَارَ، فَلَمَّا سَارَ اجْتَمَعَ أَشْرَافُ
الْكُوفَةِ عِنْدَ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ
الْمُخْتَارَ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا بِغَيْرِ رِضًى مِنَّا، وَلَقَدْ
أَدْنَى مَوَالِينَا، فَحَمَلَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ وَأَعْطَاهُمْ
فَيْئَنَا. وَكَانَ شَبَثٌ شَيْخَهُمْ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا
إِسْلَامِيًّا، فَقَالَ لَهُمْ شَبَثٌ: دَعُونِي حَتَّى أَلْقَاهُ.
فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا أَنْكَرُوهُ إِلَّا ذَكَرَهُ
لَهُ، فَأَخَذَ لَا يَذْكُرُ خَصْلَةً إِلَّا قَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ:
أَنَا أُرْضِيهِمْ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ، وَآتِي لَهُمْ كُلَّ مَا
أَحَبُّوا. وَذَكَرَ لَهُ الْمَوَالِيَ وَمُشَارَكَتَهُمْ فِي
الْفَيْءِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنَا تَرَكْتُ مَوَالِيَكُمْ،
وَجَعَلْتُ فَيْئَكُمْ لَكُمْ، تُقَاتِلُونَ مَعِي
(3/304)
بَنِي أُمَيَّةَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ،
وَتُعْطُونِي عَلَى الْوَفَاءِ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ، وَمَا
أَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ؟ فَقَالَ شَبَثٌ: حَتَّى
أَخْرُجَ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَذْكُرَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَأُجْمِعَ رَأْيُهُمْ عَلَى
قِتَالِهِ.
فَاجْتَمَعَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَشَمِرٌ - حَتَّى
دَخَلُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ الْخَثْعَمِيِّ، فَكَلَّمُوهُ
فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى
دَخَلُوا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ الْأَزْدِيِّ،
فَدَعَوْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَطَعْتُمُونِي لَمْ
تَخْرُجُوا. فَقَالُوا لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ
تَتَفَرَّقُوا وَتَخْتَلِفُوا، وَمَعَ الرَّجُلِ شُجْعَانُكُمْ
وَفُرْسَانُكُمْ مِثْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ مَعَهُ عَبِيدُكُمْ
وَمَوَالِيكُمْ، وَكَلِمَةُ هَؤُلَاءِ وَاحِدَةٌ، وَمَوَالِيكُمْ
أَشُدُّ حَنَقًا عَلَيْكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَهُمْ مُقَاتِلُوكُمْ
بِشَجَاعَةِ الْعَرَبِ وَعَدَاوَةِ الْعَجَمِ، وَإِنِ انْتَظَرْتُمُوهُ
قَلِيلًا كُفِيتُمُوهُ بِقُدُومِ أَهْلِ الشَّامِ، (أَوْ مَجِيءِ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَتَكُونُوا قَدْ كُفِيتُمُوهُ) بِغَيْرِكُمْ،
وَلَمْ تَجْعَلُوا بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ. فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ
اللَّهَ أَنْ تُخَالِفَنَا وَتُفْسِدَ عَلَيْنَا رَأَيْنَا، وَمَا
أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ! فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ،
فَإِذَا شِئْتُمْ فَاخْرُجُوا.
فَوَثَبُوا بِالْمُخْتَارِ بَعْدَ مَسِيرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْأَشْتَرِ، وَخَرَّجُوا بِالْجَبَابِينَ، كُلُّ رَئِيسٍ
بِجَبَّانَةٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمُخْتَارَ خُرُوجُهُمْ أَرْسَلَ
قَاصِدًا مُجِدًّا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، فَلَحِقَهُ
وَهُوَ بِسَابَاطَ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ وَالسُّرْعَةِ، وَبَعَثَ
الْمُخْتَارُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ: أَخْبِرُونِي مَاذَا تُرِيدُونَ،
فَإِنِّي صَانِعٌ كُلَّ مَا أَحْبَبْتُمْ. قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ
تَعْتَزِلَنَا، فَإِنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ
بَعَثَكَ، وَلَمْ يَبْعَثْكَ. قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ وَفْدًا
مِنْ قِبَلِكُمْ، وَأُرْسِلُ أَنَا إِلَيْهِ وَفْدًا، ثُمَّ انْظُرُوا
فِي ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ لَكُمْ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُرَيِّثَهُمْ
بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْأَشْتَرِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ، وَقَدْ
أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَلَا
يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبِيعٍ فِي الْمَيْدَانِ، فَقَاتَلَهُ
بَنُو شَاكِرٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجَاءَهُ عُقْبَةُ بْنُ طَارِقٍ
الْجُشَمِيُّ فَقَاتَلَ مَعَهُ سَاعَةً حَتَّى رَدَّهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ
أَقْبَلُ فَنَزَلَ عُقْبَةُ مَعَ شَمِرٍ وَمَعَهُ قَيْسُ عَيْلَانَ فِي
جَبَّانَةِ سَلُولَ، وَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبِيعٍ مَعَ أَهْلِ
الْيَمَنِ فِي جَبَّانَةِ السَّبِيعِ.
وَلَمَّا سَارَ رَسُولُ الْمُخْتَارِ وَصَلَ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ
عَشِيَّةَ يَوْمِهِ، فَرَجَعَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بَقِيَّةَ
(3/305)
عَشِيَّتِهِ (تِلْكَ، ثُمَّ نَزَلَ حِينَ)
أَمْسَى، [فَتَعَشَّى أَصْحَابُهُ] وَأَرَاحُوا دَوَابَّهُمْ قَلِيلًا،
ثُمَّ سَارَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا وَمِنَ الْغَدِ، فَوَصَلَ الْعَصْرَ
وَبَاتَ لَيْلَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَهْلُ
الْقُوَّةَ. وَلَمَّا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْيَمَنِ بِجَبَّانَةِ
السَّبِيعِ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَكَرِهَ كُلُّ رَأْسٍ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ: هَذَا أَوَّلُ الِاخْتِلَافِ، قَدِّمُوا
الرِّضَى فِيكُمْ سَيِّدَ الْقُرَّاءِ رَفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ
الْبَجَلِيَّ. فَفَعَلُوا، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى
كَانَتِ الْوَقْعَةُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ فِي السُّوقِ، وَلَيْسَ
فِيهِ بُنْيَانٌ، فَأَمَرَ ابْنَ الْأَشْتَرِ فَسَارَ إِلَى مُضَرَ
وَعَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ
عُطَارِدٍ، وَهُمْ بِالْكُنَاسَةِ، وَخَشِيَ أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَى
أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَا يُبَالِغُ فِي قِتَالِ قَوْمِهِ. وَسَارَ
الْمُخْتَارُ نَحْوَ أَهْلِ الْيَمَنِ بِجَبَّانَةِ السَّبِيعِ،
وَوَقَفَ عِنْدَ دَارِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَسَرَّحَ بَيْنَ
يَدَيْهِ أَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ الْبَجَلِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِلُزُومِ طَرِيقٍ
ذَكَرَهُ لَهُ يَخْرُجُ إِلَى جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَأَسَرَّ
إِلَيْهِمَا أَنَّ شِبَامًا قَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ يُخْبِرُونَهُ
أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْقَوْمَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَمَضَيَا كَمَا
أَمَرَهُمَا.
فَبَلَغَ أَهْلَ الْيَمَنِ مَسِيرُهُمَا، فَافْتَرَقُوا إِلَيْهِمَا،
وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ انْهَزَمَ
أَصْحَابُ أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ وَأَصْحَابُ ابْنِ كَامِلٍ،
وَوَصَلُوا إِلَى الْمُخْتَارِ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكُمْ؟ قَالُوا:
هُزِمْنَا، وَقَدْ نَزَلَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ كَامِلٍ: مَا نَدْرِي مَا فَعَلَ
ابْنُ كَامِلٍ.
فَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُخْتَارُ نَحْوَ الْقَوْمِ حَتَّى بَلَغَ دَارَ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ، فَوَقَفَ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ قُرَادٍ الْخَثْعَمِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى ابْنِ
كَامِلٍ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ مَكَانَهُ
وَقَاتِلِ الْقَوْمَ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَاتْرُكْ عِنْدَهُ
ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَامْضِ فِي مِائَةٍ حَتَّى تَأْتِيَ
جَبَّانَةَ السَّبِيعِ، فَتَأْتِيَ أَهْلَهَا مِنْ نَاحِيَةِ حَمَّامِ
قَطَنٍ.
فَمَضَى فَوَجَدَ ابْنَ كَامِلٍ يُقَاتِلُهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ قَدْ صَبَرُوا مَعَهُ، فَتَرَكَ عِنْدَهُ ثَلَاثَمِائَةِ
رَجُلٍ، وَسَارَ فِي مِائَةٍ حَتَّى أَتَى مَسْجِدَ عَبْدِ الْقَيْسِ،
وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ الْمُخْتَارُ،
وَأَكْرَهُ أَنْ تَهْلِكَ أَشْرَافُ عَشِيرَتِي الْيَوْمَ، وَوَاللَّهِ
لَأَنْ أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَهْلِكُوا عَلَى يَدَيَّ،
وَلَكِنْ قِفُوا، فَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ شِبَامًا يَأْتُونَهُمْ مِنْ
وَرَائِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَنُعَافَى نَحْنُ
مِنْهُ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عِنْدَ مَسْجِدِ عَبْدِ
الْقَيْسِ.
(3/306)
وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ مَالِكَ بْنَ
عَمْرٍو النَّهْدِيَّ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
شَرِيكٍ النَّهْدِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى أَحْمَرَ بْنِ
شُمَيْطٍ، فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ وَقَدْ عَلَاهُ الْقَوْمُ
وَكَثُرُوهُ، فَاشْتَدَّ قِتَالُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَإِنَّهُ مَضَى إِلَى مُضَرَ فَلَقِيَ
شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ:
وَيْحَكُمُ انْصَرِفُوا، فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُصَابَ مِنْ مُضَرَ عَلَى
يَدَيَّ. فَأَبَوْا وَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَجُرِحَ حَسَّانُ
بْنُ فَائِدٍ الْعَبْسِيُّ، فَحُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ، فَكَانَ
مَعَ شَبَثٍ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى الْمُخْتَارِ بِهَزِيمَةِ
مُضَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ وَابْنِ كَامِلٍ
يُبَشِّرُهُمَا، فَاشْتَدَّ أَمْرُهُمَا.
فَاجْتَمَعَ شِبَامٌ، وَقَدْ رَأَّسُوا عَلَيْهِمْ أَبَا الْقَلُوصِ،
لِيَأْتُوا أَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: لَوْ جَعَلْتُمْ جِدَّكُمْ عَلَى مُضَرَ وَرَبِيعَةَ لَكَانَ
أَصْوَبَ، وَأَبُو الْقَلُوصِ سَاكِتٌ، فَقَالُوا: مَا تَقُولُ؟
فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] . فَسَارُوا مَعَهُ
نَحْوَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى جَبَّانَةِ
السَّبِيعِ لَقِيَهُمْ عَلَى فَمِ السِّكَّةِ الْأَعْسَرُ
الشَّاكِرِيُّ، فَقَتَلُوهُ وَنَادُوا فِي الْجَبَّانَةِ، وَقَدْ
دَخَلُوهَا: يَا لِثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! فَسَمِعَهَا يَزِيدُ بْنُ
عُمَيْرِ بْنِ ذِي مُرَّانَ الْهَمْدَانِيُّ فَقَالَ: يَا لِثَارَاتِ
عُثْمَانَ! فَقَالَ لَهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ: مَا لَنَا
وَلِعُثْمَانَ! لَا أُقَاتِلُ مَعَ قَوْمٍ يَبْغُونَ دَمَ عُثْمَانَ.
فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ: جِئْتَ بِنَا وَأَطَعْنَاكَ، حَتَّى
إِذَا رَأَيْنَا قَوْمَنَا تَأْخُذُهُمُ السُّيُوفُ قُلْتَ:
انْصَرِفُوا وَدَعُوهُمْ! فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ، شِعْرٌ:
أَنَا ابْنُ شَدَّادٍ عَلَى دِينِ عَلِي ... لَسْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ
أَرْوَى بِوَلِي
لَأَصْلِيَنَّ الْيَوْمَ فِيمَنْ يَصْطَلِي ... بِحَرِّ نَارِ
الْحَرْبِ غَيْرُ مُؤْتَلِ
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَكَانَ رِفَاعَةُ مَعَ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا رَأَى كَذِبَهُ أَرَادَ
قَتْلَهُ غِيلَةً، قَالَ: فَمَنَعَنِي قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى دَمِهِ
فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» .
(3/307)
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ قَاتَلَ
مَعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ عُمَيْرٍ
يَقُولُ: يَا لِثَارَاتِ عُثْمَانَ - عَادَ عَنْهُمْ، فَقَاتَلَ مَعَ
الْمُخْتَارِ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ يَزِيدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ ذِي
مُرَّانَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ صَهْبَانَ الْجَرْمِيُّ، وَكَانَ
نَاسِكًا، وَقُتِلَ الْفُرَاتُ بْنُ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ، وَجُرِحَ
أَبُوهُ زَحْرٌ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ،
وَقُتِلَ عُمَرُ بْنُ مِخْنَفٍ، وَقَاتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مِخْنَفٍ حَتَّى جُرِحَ، وَحَمَلَتْهُ الرِّجَالُ عَلَى أَيْدِيهِمْ
وَمَا يَشْعُرُ، وَقَاتَلَ حَوْلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَزْدِ،
وَانْهَزَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَأَخَذَ مِنْ
دُورِ الْوَادِعِيِّينَ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَأَتَى بِهِمُ
الْمُخْتَارَ مُكَتَّفِينَ، فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِإِحْضَارِهِمْ
وَعَرْضِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: انْظُرُوا مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ
قَتْلَ الْحُسَيْنِ فَأَعْلِمُونِي. فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ شَهِدَ قَتْلَ
الْحُسَيْنِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ قَتِيلًا، وَأَخَذَ أَصْحَابُهُ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ
كَانَ يُؤْذِيهِمْ.
فَلَمَّا سَمِعَ الْمُخْتَارُ بِذَلِكَ أَمَرَ بِإِطْلَاقِ كُلِّ مَنْ
بَقِيَ مِنَ الْأُسَارَى، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ أَنْ لَا
يُجَامِعُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا يَبْغُوهُ وَأَصْحَابَهُ
غَائِلَةً، وَنَادَى مُنَادِي الْمُخْتَارِ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ
فَهُوَ آمِنٌ، إِلَّا مَنْ شَرِكَ فِي دِمَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ مِمَّنْ شَهِدَ
قَتْلَ الْحُسَيْنِ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَأَخَذَ طَرِيقَ وَاقِصَةَ،
فَلَمْ يُرَ لَهُ خَبَرٌ حَتَّى السَّاعَةِ، وَقِيلَ: أَدْرَكَهُ
أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ وَقَدْ سَقَطَ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ،
فَذَبَحُوهُ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ.
وَلَمَّا قُتِلَ فُرَاتُ بْنُ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ أَرْسَلَتْ عَائِشَةُ
بِنْتُ خَلِيفَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُعْفِيَّةُ، وَكَانَتِ
امْرَأَةَ الْحُسَيْنِ، إِلَى الْمُخْتَارِ تَسْأَلُهُ أَنْ يَأْذَنَ
لَهَا فِي دَفْنِهِ، فَفَعَلَ، فَدَفَنَتْهُ.
وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ غُلَامًا لَهُ يُدْعَى زُرْبَى (فِي طَلَبِ
شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَنَوْا
مِنْهُ قَالَ شَمِرٌ لِأَصْحَابِهِ: تَبَاعَدُوا عَنِّي، لَعَلِّي
يَطْمَعُ فِيَّ، فَتَبَاعَدُوا عَنْهُ، فَطَمِعَ زُرْبَى عَنْ
أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ شَمِرٌ فَقَتَلَهُ، وَسَارَ شَمِرٌ
حَتَّى نَزَلَ (مَسَاءً سَاتِيدَمَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ)
مِنْهُ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا الْكِلْتَانِيَّةُ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ
إِلَى جَانِبِ تَلٍّ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ،
فَأَخَذَ مِنْهَا عِلْجًا فَضَرَبَهُ وَقَالَ: امْضِ بِكِتَابِي هَذَا
إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَمَضَى الْعِلْجُ حَتَّى دَخَلَ
قَرْيَةً فِيهَا أَبُو عَمْرَةَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ، وَكَانَ قَدْ
أَرْسَلَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى تِلْكَ الْقَرْيَةِ لِيَكُونَ
مَسْلَحَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَقِيَ ذَلِكَ
(3/308)
الْعِلْجُ عِلْجًا آخَرَ مِنْ تِلْكَ
الْقَرْيَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مَنْ شَمِرٍ، فَبَيْنَا هُوَ
يُكَلِّمُهُ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَمْرَةَ
اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْكَنُودِ، فَرَأَى الْكِتَابَ
وَعُنْوَانُهُ: لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ شَمِرٍ، فَقَالُوا
لِلْعِلْجِ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، فَإِذَا لَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، قَالَ: فَأَقْبَلُوا
يَسِيرُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ قَالَ لِشَمِرٍ أَصْحَابُهُ: لَوِ
ارْتَحَلْتَ بِنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَإِنَّا نَتَخَوَّفُ
بِهَا، فَقَالَ: أَوَكُلُّ هَذَا فَزَعًا مِنَ الْكَذَّابِ؟ !
وَاللَّهِ لَا أَتَحَوَّلُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مَلَأَ اللَّهُ
قُلُوبَكُمْ رُعْبًا. فَإِنَّهُمْ لَنِيَامٌ إِذْ سُمِعَ وَقْعُ
الْحَوَافِرِ، فَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: هَذَا صَوْتُ الدِّبَا.
ثُمَّ اشْتَدَّ، فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ لِيَقُومُوا فَإِذَا بِالْخَيْلِ
قَدْ أَشْرَفَتْ مِنَ التَّلِّ، فَكَبَّرُوا وَأَحَاطُوا
بِالْأَبْيَاتِ، فَوَلَّى أَصْحَابُهُ هَارِبِينَ وَتَرَكُوا
خُيُولَهُمْ، وَقَامَ شَمِرٌ وَقَدِ اتَّزَرَ بِبُرْدٍ، وَكَانَ
أَبْرَصَ، فَظَهَرَ بَيَاضُ بَرَصِهِ مِنْ فَوْقِ الْبُرْدِ وَهُوَ
يُطَاعِنُهُمْ بِالرُّمْحِ، وَقَدْ عَجَّلُوهُ عَنْ لُبْسِ ثِيَابِهِ
وَسِلَاحِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ فَارَقُوهُ، فَلَمَّا
أَبْعَدُوا عَنْهُ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ وَقَائِلًا يَقُولُ: قُتِلَ
الْخَبِيثُ، قَتَلَهُ ابْنُ أَبِي الْكَنُودِ. وَهُوَ الَّذِي رَأَى
الْكِتَابَ مَعَ الْعِلْجِ، وَأُلْقِيَتْ جُثَّتُهُ لِلْكِلَابِ،
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ بَعْدَ أَنْ قَاتَلَنَا بِالرُّمْحِ، ثُمَّ
أَلْقَاهُ وَأَخَذَ السَّيْفَ، فَقَاتَلَنَا بِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ،
شِعْرٌ:
نَبَّهْتُمُ لَيْثَ عَرِينٍ بَاسِلًا ... جَهْمًا مُحَيَّاهُ يَدُقُّ
الْكَاهِلَا
لَمْ يُرَ يَوْمًا عَنْ عَدُوٍّ نَاكِلًا ... إِلَّا كَذَا مُقَاتِلًا
أَوْ قَاتِلَا
يُبْرِحُهُمْ ضَرْبًا وَيُرْوِي الْعَامِلَا
وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْقَصْرِ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ
وَمَعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيُّ أَسِيرًا فَنَادَاهُ،
شِعْرٌ: امْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ مَعَدْ (وَخَيْرَ مَنْ
حَلَّ بِشِحْرٍ وَالْجَنَدْ)
(3/309)
وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى وَحَيَّا وَسَجَدْ
فَأَرْسَلَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى السِّجْنِ ثُمَّ أَحْضَرَهُ مِنَ
الْغَدِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ، شِعْرٌ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنَّا ... نَزَوْنَا نَزْوَةً كَانَتْ
عَلَيْنَا
خَرَجْنَا لَا نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئًا ... وَكَانَ خُرُوجُنَا
بَطَرًا وَحَيْنَا
لَقِينَا مِنْهُمُ ضَرْبًا طِلَحْفًا ... وَطَعْنًا صَائِبًا حَتَّى
انْثَنَيْنَا
نُصِرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ كُلَّ يَوْمٍ ... بِكُلِّ كَتِيبَةٍ تَنْعَى
حُسَيْنَا
كَنَصْرِ مُحَمَّدٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ ... وَيَوْمِ الشِّعْبِ إِذْ
لَاقَى حُنَيْنَا
فَأَسْجِحْ إِذْ مَلَكْتَ فَلَوْ مَلَكْنَا ... لَجُرْنَا فِي
الْحُكُومَةِ وَاعْتَدَيْنَا
تَقَبَّلْ تَوْبَةً مِنِّي فَإِنِّي ... سَأَشْكُرُ إِنْ جَعَلْتَ
النَّقْدَ دَيْنَا
قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمُخْتَارِ قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ
الْأَمِيرَ، أَحَلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ
رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُقَاتِلُ مَعَكَ عَلَى الْخُيُولِ الْبُلْقِ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اصْعَدِ
الْمِنْبَرَ فَأَعْلِمِ النَّاسَ. فَصَعِدَ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ
ثُمَّ نَزَلَ، فَخَلَا بِهِ [الْمُخْتَارُ] فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ
عَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تَرَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ مَا قَدْ
عَرَفْتُ أَنْ لَا أَقْتُلَكَ، فَاذْهَبْ عَنِّي حَيْثُ شِئْتَ لَا
تُفْسِدْ عَلَيَّ أَصْحَابِي. فَخَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَزَلَ
عِنْدَ مُصْعَبٍ وَقَالَ، شِعْرٌ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنِّي ... رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْمًا
مُصْمَتَاتِ
كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْرًا ... عَلَيَّ قِتَالَكُمْ
حَتَّى الْمَمَاتِ
أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تُبْصِرَاهُ ... كِلَانَا عَالِمٌ
بِالتُّرَّهَاتِ
(3/310)
وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَادَّعَى قَتْلَهُ سِعْرُ
بْنُ أَبِي سِعْرٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ الشِّبَامِيُّ، وَشِبَامٌ،
مِنْ هَمْدَانَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
لِأَبِي الزُّبَيْرِ الشِّبَامِيِّ: أَتَقْتُلُ أَبِي عَبْدَ
الرَّحْمَنِ سَيِّدَ قَوْمِكَ؟ فَقَرَأَ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ.
وَانْجَلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ سَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ قَتِيلًا
مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْقَتْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي
أَهْلِ الْيَمَنِ. وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ لِسِتِّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ.
وَخَرَجَ أَشْرَافُ النَّاسِ فَلَحِقُوا بِالْبَصْرَةِ، وَتَجَرَّدَ
الْمُخْتَارُ لِقَتَلَةِ الْحُسَيْنِ، وَقَالَ: مَا مِنْ دِينِنَا أَنْ
نَتْرُكَ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ أَحْيَاءً، بِئْسَ نَاصِرُ آلِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا إِذًا فِي
الدُّنْيَا، أَنَا إِذًا الْكَذَّابُ كَمَا سَمَّوْنِي، وَإِنِّي
أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ فَسَمُّوهُمْ لِي، ثُمَّ
اتْبَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا يَسُوغُ لِيَ
الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْهُمْ. فَدُلَّ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ الْجُهَنِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ
بَشِيرٍ الْبَدِّيِّ، وَحَمَلِ بْنِ مَالِكٍ الْمُحَارِبِيِّ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمُ الْمُخْتَارُ فَأَحْضَرَهُمْ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ،
فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! أَيْنَ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ؟ أَدُّوا إِلَيَّ الْحُسَيْنَ، قَتَلْتُمْ
مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: رَحِمَكَ
اللَّهُ! بُعِثْنَا كَارِهِينَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَاسْتَبْقِنَا.
فَقَالَ لَهُمْ: هَلَّا مَنَنْتُمْ عَلَى الْحُسَيْنِ ابْنِ بِنْتِ
نَبِيِّكُمْ فَاسْتَبْقَيْتُمُوهُ وَسَقَيْتُمُوهُ؟ وَكَانَ
الْبَدِّيُّ صَاحِبَ بُرْنُسِهِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ، وَتُرِكَ يَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ، وَقَتَلَ
الْآخَرِينَ، وَأَمَرَ بِزِيَادِ بْنِ مَالِكٍ الضُّبَعِيِّ،
وَبِعِمْرَانَ بْنِ خَالِدٍ الْقُشَيْرِيِّ، وَبِعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي خِشْكَارَةَ الْبَجَلِيِّ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
الْخَوْلَانِيِّ، فَأُحْضِرُوا عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: يَا
قَتْلَةَ الصَّالِحِينَ، وَقَتَلَةَ سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، قَدْ أَقَادَ اللَّهُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ، لَقَدْ
جَاءَكُمُ الْوَرْسُ فِي يَوْمِ نَحْسٍ.
وَكَانُوا نَهَبُوا مِنَ الْوَرْسِ الَّذِي كَانَ مَعَ الْحُسَيْنِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا.
وَأُحْضِرَ عِنْدَهُ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَا
صَلْخَتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَمْرٍو الْهَمْدَانِيُّ،
وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَعْشَى هَمْدَانَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ،
فَقُتِلُوا، وَأُحْضِرَ عِنْدَهُ: عُثْمَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
أُسَيْدٍ الدُّهْمَانِيُّ الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو أَسْمَاءَ بِشْرُ بْنُ
شُمَيْطٍ الْقَانِصِيُّ، وَكَانَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَقِيلٍ وَفِي سَلْبِهِ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهَمَا،
وَأُحْرِقَا بِالنَّارِ.
(3/311)
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوَلِيِّ بْنِ
يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، وَهُوَ صَاحِبُ رَأْسِ الْحُسَيْنِ،
فَاخْتَفَى فِي مَخْرَجِهِ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ
يُفَتِّشُونَ عَنْهُ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ، وَاسْمُهَا الْعَيُوفُ
بِنْتُ مَالِكٍ، وَكَانَتْ تُعَادِيهِ مُنْذُ جَاءَ بِرَأْسِ
الْحُسَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا لَهَا:
أَيْنَ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، وَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى
الْمَخْرَجِ، فَدَخَلُوا فَوَجَدُوهُ وَعَلَى رَأْسِهِ قَوْصَرَّةٌ،
فَأَخْرَجُوهُ وَقَتَلُوهُ إِلَى جَانِبِ أَهْلِهِ، وَأَحْرَقُوهُ
بِالنَّارِ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ
الْحُسَيْنِ
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: لَأَقْتُلَنَّ
غَدًا رَجُلًا عَظِيمَ الْقَدَمَيْنِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفَ
الْحَاجِبَيْنِ، يَسُرُّ قَتْلُهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةَ
الْمُقَرَّبِينَ. وَكَانَ عِنْدَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ الْأَسْوَدِ
النَّخَعِيُّ، فَعَلِمَ أَنَّهُ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ، فَرَجَعَ
إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرٍو مَعَ ابْنِهِ الْعُرْيَانِ
يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَهُ لَهُ قَالَ: جَزَى اللَّهُ
أَبَاكَ خَيْرًا، كَيْفَ يَقْتُلُنِي بَعْدَ الْعُهُودِ
وَالْمَوَاثِيقِ؟ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ
هُبَيْرَةَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَى الْمُخْتَارِ لِقَرَابَتِهِ
بِعَلِيٍّ، وَكَلَّمَهُ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ لِيَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا
مِنَ الْمُخْتَارِ، فَفَعَلَ وَكَتَبَ لَهُ الْمُخْتَارُ أَمَانًا،
وَشَرَطَ فِيهِ أَنْ لَا يُحْدِثَ، وَعَنَى بِالْحَدَثِ دُخُولَ
الْخَلَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بَعْدَ عَوْدِ
الْعُرْيَانِ عَنْهُ، فَأَتَى حَمَّامَهُ، فَأَخْبَرَ مَوْلًى لَهُ
بِمَا كَانَ مِنْهُ وَبِأَمَانِهِ. فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: وَأَيُّ
حَدَثٍ أَعْظَمُ مِمَّا صَنَعْتَ؟ تَرَكْتَ أَهْلَكَ وَرَحْلَكَ
وَأَتَيْتَ إِلَى هَاهُنَا، ارْجِعْ وَلَا تَجْعَلْ عَلَيْكَ سَبِيلًا.
فَرَجَعَ وَأَتَى الْمُخْتَارَ فَأَخْبَرَهُ بِانْطِلَاقِهِ، فَقَالَ:
كَلَّا، إِنَّ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةً سَتَرُدَّهُ. وَأَصْبَحَ
الْمُخْتَارُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا عَمْرَةَ فَأَتَاهُ وَقَالَ:
أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَقَامَ عَمْرٌو فَعَثَرَ فِي جُبَّةٍ لَهُ،
فَضَرَبَهُ أَبُو عَمْرَةَ بِسَيْفِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ
فَأَحْضَرَهُ عِنْدَ الْمُخْتَارِ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِابْنِهِ
حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ: أَتَعْرِفُ مَنْ هَذَا.
قَالَ: نَعَمْ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ! فَأَمَرَ بِهِ
فَقُتِلَ، وَقَالَ الْمُخْتَارُ: هَذَا بِحُسَيْنٍ، وَهَذَا بِعَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ، وَلَا سَوَاءَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُ بِهِ
ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قُرَيْشٍ مَا وَفُّوا أُنْمُلَةً مِنْ
أَنَامِلِهِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي تَهَيُّجِ الْمُخْتَارِ عَلَى قَتْلِهِ أَنَّ
يَزِيدَ بْنَ شَرَاحِيلَ الْأَنْصَارِيَّ أَتَى مُحَمَّدَ بْنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَجَرَى الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ
تَذَاكَرَا الْمُخْتَارَ، فَقَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ
يَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا شِيعَةٌ، وَقَتَلَةُ الْحُسَيْنِ عِنْدَهُ
عَلَى الْكَرَاسِيِّ يُحَدِّثُونَهُ.
(3/312)
فَلَمَّا عَادَ يَزِيدُ أَخْبَرَ
الْمُخْتَارَ بِذَلِكَ، فَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعْدٍ، وَبَعَثَ
بِرَأْسِهِ وَرَأْسِ ابْنِهِ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ،
وَأَنَّهُ فِي طَلَبِ الْبَاقِينَ مِمَّنْ حَضَرَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ
الْأَرْدِيَةِ الْمُعَلَّمَةِ، وَأَصْحَابَ الْبَرَانِسِ السُّودِ مِنْ
أَصْحَابِ السَّوَارِي، إِذَا مَرَّ بِهِمْ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ
قَالُوا: هَذَا قَاتِلُ الْحُسَيْنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَالَ عَلِيٌّ لِعَمْرِو بْنِ سَعْدٍ: كَيْفَ
كُنْتَ إِذَا قُمْتَ مَقَامًا تُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ، فَتَخْتَارُ النَّارَ؟
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ أَرْسَلَ إِلَى حَكِيمِ بْنِ طُفَيْلٍ
الطَّائِيِّ، وَكَانَ أَصَابَ سَلْبَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ وَرَمَى
الْحُسَيْنَ بِسَهْمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: تَعَلَّقَ سَهْمِي
بِسِرْبَالِهِ وَمَا ضَرَّهُ. فَأَتَاهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ
فَأَخَذُوهُ، وَذَهَبَ أَهْلُهُ فَشَفَعُوا بِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ،
فَكَلَّمَهُمْ عَدِيٌّ فِيهِ، فَقَالُوا: ذَلِكَ إِلَى الْمُخْتَارِ.
فَمَضَى عَدِيٌّ إِلَى الْمُخْتَارِ لِيَشْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ
الْمُخْتَارُ قَدْ شَفَّعَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ أَصَابَهُمْ
يَوْمَ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، فَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّا نَخَافُ
أَنْ يُشَفِّعَهُ الْمُخْتَارُ فِيهِ، فَقَتَلُوهُ رَمْيًا
بِالسِّهَامِ كَمَا رَمَى الْحُسَيْنَ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ
الْقُنْفُذُ، وَدَخَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَلَى الْمُخْتَارِ،
فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ عَدِيٌّ، فَقَالَ الْمُخْتَارَ:
أَتَسْتَحِلُّ أَنْ تَطْلُبَ فِي قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ؟ فَقَالَ
عَدِيٌّ: إِنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ. قَالَ: إِذًا نَدَعُهُ لَكَ.
فَدَخَلَ ابْنُ كَامِلٍ فَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ:
مَا أَعْجَلَكُمْ إِلَى ذَلِكَ؟ أَلَا أَحْضَرْتُمُوهُ عِنْدِي؟
وَكَانَ قَدْ سَرَّهُ قَتْلُهُ. فَقَالَ ابْنُ كَامِلٍ: غَلَبَتْنِي
عَلَيْهِ الشِّيعَةُ. فَقَالَ عَدِيٌّ لِابْنِ كَامِلٍ: كَذَبْتَ،
وَلَكِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ سَيُشَفِّعُنِي
فَقَتَلْتَهُ. فَسَبَّهُ ابْنُ كَامِلٍ، فَنَهَاهُ الْمُخْتَارُ عَنْ
ذَلِكَ.
وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى قَاتِلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ
مُرَّةُ بْنُ مُنْقِذٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ شُجَاعًا،
فَأَحَاطُوا بِدَارِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى فَرَسِهِ وَبِيَدِهِ
رُمْحُهُ، فَطَاعَنَهُمْ، فَضَرَبَ عَلَى يَدِهِ وَهَرَبَ مِنْهُمْ
فَنَجَا، وَلَحِقَ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَشُلَّتْ يَدُهُ
بَعْدَ ذَلِكَ.
وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى زَيْدِ بْنِ رُقَادٍ الْجُنُبِيِّ، كَانَ
يَقُولُ: لَقَدْ رَمَيْتُ فَتًى مِنْهُمْ بِسَهْمٍ وَكَفُّهُ عَلَى
جَبْهَتِهِ يَتَّقِي النَّبْلَ، فَأَثْبَتَ كَفَّهُ فِي جَبْهَتِهِ
فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُزِيلَ كَفَّهُ عَنْ جَبْهَتِهِ - وَكَانَ
ذَلِكَ الْفَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ -
وَإِنَّهُ قَالَ حِينَ رَمَيْتُهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمُ
اسْتَقَلُّونَا وَاسْتَذَلُّونَا، فَاقْتُلْهُمْ كَمَا قَتَلُونَا.
ثُمَّ إِنَّهُ رَمَى الْغُلَامَ بِسَهْمٍ آخَرَ وَكَانَ يَقُولُ:
جِئْتُهُ
(3/313)
وَهُوَ مَيِّتٌ، فَنَزَعْتُ سَهْمِي
الَّذِي قَتَلْتُهُ بِهِ مِنْ جَوْفِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُنَضْنِضُهُ
مِنْ جَبْهَتِهِ حَتَّى أَخَذْتُهُ وَبَقِيَ النَّصْلُ، فَلَمَّا
أَتَاهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ،
فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ كَامِلٍ: لَا تَطْعَنُوهُ وَلَا تَضْرِبُوهُ
بِالسَّيْفِ، ارْمُوهُ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ
بِهِ، فَسَقَطَ، فَأَحْرَقُوهُ حَيًّا.
وَطَلَبَ الْمُخْتَارُ سِنَانَ بْنَ أَنَسٍ الَّذِي كَانَ يَدَّعِي
قَتْلَ الْحُسَيْنِ، فَرَآهُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَهَدَمَ
دَارَهُ.
وَطَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُقْبَةَ الْغَنَوِيَّ، فَوَجَدَهُ قَدْ
هَرَبَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَهَدَمَ دَارَهُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ
مِنْهُمْ غُلَامًا. وَطَلَبَ آخَرَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ
حَرْمَلَةُ بْنُ الْكَاهِنِ، كَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مَنْ أَهْلِ
الْحُسَيْنِ، فَفَاتَهُ.
وَطَلَبَ أَيْضًا رَجُلًا مِنْ خَثْعَمٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُرْوَةَ الْخَثْعَمِيُّ، كَانَ يَقُولُ: رَمَيْتُ فِيهِمْ بِاثْنَيْ
عَشَرَ سَهْمًا. فَفَاتَهُ وَلَحِقَ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
فَهَدَمَ دَارَهُ.
وَطَلَبَ أَيْضًا عَمْرَو بْنَ الصُّبَيْحِ الصُّدَائِيَّ، كَانَ
يَقُولُ: لَقَدْ طَعَنْتُ فِيهِمْ وَجَرَحْتُ، وَمَا قَتَلْتُ مِنْهُمْ
أَحَدًا. فَأُتِيَ لَيْلًا فَأُخِذَ، وَأُحْضِرَ عِنْدَ الْمُخْتَارِ،
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الرِّمَاحِ، وَطُعِنَ بِهَا حَتَّى مَاتَ.
وَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَبِ، وَهُوَ فِي قَرْيَةٍ
لَهُ إِلَى جَنْبِ الْقَادِسِيَّةِ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ،
وَكَانَ قَدْ هَرَبَ إِلَى مُصْعَبٍ، فَهَدَمَ الْمُخْتَارُ دَارَهُ،
وَبَنَى بِلَبِنِهَا وَطِينِهَا دَارَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ
الْكِنْدِيِّ، كَانَ زِيَادٌ قَدْ هَدَمَهَا.
(بَحِيرُ بْنُ رِيسَانَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِ
الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. شِبَامٌ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ،
وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ، وَهَمْدَانُ
بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ. وَسِعْرٌ بِكَسْرِ
السِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ بِالْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَشُمَيْطٌ بِالشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ. وَشَبَثٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ. جَبَّانَةُ أُثِيرٍ
(3/314)
بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَبِالثَّاءِ
الْمُثَلَّثَةِ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالرَّاءِ
الْمُهْمَلَةِ. عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ بِالْعَيْنِ
الْمُهْمَلَةِ، وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، ثُمَّ
بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالْيَاءِ الْمُوَحَّدَةِ.
حَسَّانُ بْنُ فَائِدٍ بِالْفَاءِ) .
ذِكْرُ بَيْعَةِ الْمُثَنَّى الْعَبْدِيِّ لِلْمُخْتَارِ بِالْبَصْرَةِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَعَا الْمُثَنَّى بْنُ مُخَرِّبَةَ
الْعَبْدِيُّ بِالْبَصْرَةِ إِلَى رَبِيعَةَ الْمُخْتَارِ، وَكَانَ
مِمَّنْ شَهِدَ عَيْنَ الْوَرْدَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ،
ثُمَّ رَجَعَ فَبَايَعَ لِلْمُخْتَارِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ
يَدْعُو بِهَا إِلَيْهِ، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ وَدَعَا بِهَا،
فَأَجَابَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَتَى
مَدِينَةَ الرِّزْقِ فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا، وَجَمَعُوا الْمِيرَةَ
بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْقُبَاعُ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ،
وَدَعَا بِهَا عَبَّادَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَتِهِ،
وَقَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ فِي الشُّرَطِ وَالْمُقَاتِلَةِ، فَخَرَجُوا
إِلَى السَّبْخَةِ، وَلَزِمَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ
أَحَدٌ، وَأَقْبَلَ عَبَّادٌ فِيمَنْ مَعَهُ، فَتَوَاقَفَ هُوَ
وَالْمُثَنَّى، فَسَارَ عَبَّادٌ نَحْوَ مَدِينَةِ الرِّزْقِ، وَتَرَكَ
قَيْسًا مَكَانَهُ.
فَلَمَّا أَتَى عَبَّادٌ مَدِينَةَ الرِّزْقِ أَصْعَدَ عَلَى سُورِهَا
ثَلَاثِينَ رَجُلًا وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا سَمِعْتُمُ التَّكْبِيرَ
فَكَبِّرُوا. وَرَجَعَ عَبَّادٌ إِلَى قَيْسٍ، وَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ
مَعَ الْمُثَنَّى، وَسَمِعَ الرِّجَالُ الَّذِينَ فِي دَارِ الرِّزْقِ
التَّكْبِيرَ فَكَبَّرُوا، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ،
وَسَمِعَ الْمُثَنَّى التَّكْبِيرَ مِنْ وَرَائِهِمْ فَهَرَبَ فِيمَنْ
مَعَهُ، فَكَفَّ عَنْهُمْ قَيْسٌ وَعَبَّادٌ وَلَمْ يَتْبَعَاهُمْ.
وَأَتَى الْمُثَنَّى قَوْمَهُ عَبْدَ الْقَيْسِ، فَأَرْسَلَ الْقُبَاعُ
عَسْكَرًا إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ لِيَأْتُوهُ بِالْمُثَنَّى وَمَنْ
مَعَهُ. فَلَمَّا رَأَى زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ ذَلِكَ
أَقْبَلَ إِلَى الْقُبَاعِ فَقَالَ لَهُ: لَتَرُدَّنَّ خَيْلَكَ عَنْ
إِخْوَانِنَا أَوْ لَنُقَاتِلَنَّهُمْ. فَأَرْسَلَ الْقُبَاعُ
الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، وَعُمَرَ بْنَ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيَّ ;
لِيُصْلِحَا بَيْنَ النَّاسِ، فَأَصْلَحَ الْأَحْنَفُ الْأَمْرَ عَلَى
أَنْ يَخْرُجَ الْمُثَنَّى وَأَصْحَابُهُ عَنْهُمْ، فَأَجَابُوهُ إِلَى
ذَلِكَ وَأَخْرَجُوهُمْ عَنْهُمْ، فَسَارَ الْمُثَنَّى إِلَى
الْكُوفَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
(مُخَرِّبَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ،
وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، ثُمَّ بَاءٍ مَفْتُوحَةٍ) .
ذِكْرُ مَكْرِ الْمُخْتَارِ بِابْنِ الزُّبَيْرِ
فَلَمَّا أَخْرَجَ الْمُخْتَارُ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ
الْكُوفَةِ، وَهُوَ ابْنُ مُطِيعٍ، سَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ،
(3/315)
وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
مَهْزُومًا، فَلَمَّا اسْتَجْمَعَ لِلْمُخْتَارِ أَمْرُ الْكُوفَةِ
أَخَذَ يُخَادِعُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: قَدْ عَرَفْتَ
مُنَاصَحَتِي إِيَّاكَ، وَجُهْدِي عَلَى أَهْلِ عَدَاوَتِكَ، وَمَا
كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي إِذَا أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ [مِنْ نَفْسِكَ] ،
فَلَمَّا وَفَّيْتُ لَكَ لَمْ تَفِ بِمَا عَاهَدْتَنِي عَلَيْهِ،
فَإِنْ تُرِدْ مُرَاجَعَتِي وَمُنَاصَحَتِي فَعَلْتُ، وَالسَّلَامُ.
وَكَانَ قَصْدُ الْمُخْتَارِ أَنْ يَكُفَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْهُ
لِيَتِمَّ أَمْرُهُ، وَالشِّيعَةُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
أَمْرِهِ، فَأَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَسِلْمٌ هُوَ
أَمْ حَرْبٌ، فَدَعَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ فَوَلَّاهُ الْكُوفَةَ وَقَالَ لَهُ:
إِنَّ الْمُخْتَارَ سَامِعٌ مُطِيعٌ. فَتَجَهَّزَ بِمَا بَيْنَ
ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسَارَ نَحْوَ
الْكُوفَةِ. وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى الْمُخْتَارِ بِذَلِكَ، فَدَعَا
الْمُخْتَارُ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَأَعْطَاهُ سَبْعِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ: هَذَا ضِعْفُ مَا أَنْفَقَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْنَا. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ
خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ وَيَسِيرَ حَتَّى يَلْقَاهُ بِالطَّرِيقِ،
وَيُعْطِيَهُ النَّفَقَةَ وَيَأْمُرَهُ بِالْعَوْدِ، فَإِنْ فَعَلَ
وَإِلَّا فَلْيُرِهِ الْخَيْلَ.
فَأَخَذَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ الْمَالَ وَسَارَ حَتَّى لَقِيَ
عُمَرَ، فَأَعْطَاهُ الْمَالَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ، فَقَالَ
لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَلَّانِي الْكُوفَةَ، وَلَا
بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهَا. فَدَعَا زَائِدَةُ الْخَيْلَ، وَكَانَ قَدْ
كَمَّنَهَا، فَلَمَّا رَآهَا قَدْ أَقْبَلَتْ أَخَذَ الْمَالَ وَسَارَ
نَحْوَ الْبَصْرَةِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي إِمَارَةِ
الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ وُثُوبِ الْمُثَنَّى
بْنِ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيِّ بِالْبَصْرَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنِّي
اتَّخَذْتُ الْكُوفَةَ دَارًا، فَإِنْ سَوَّغْتَنِي ذَلِكَ وَأَمَرْتَ
لِي بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ سِرْتُ إِلَى الشَّامِ، فَكَفَيْتُكَ
ابْنَ مَرْوَانَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِلَى مَتَى أُمَاكِرُ
كَذَّابَ ثَقِيفٍ وَيُمَاكِرُنِي؟ ثُمَّ تَمَثَّلَ، شِعْرٌ: عَارِي
الْجَوَاعِرِ مَنْ ثَمُودٌ أَصْلُهُ عَبْدٌ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَنْ
يَقْدُمُ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ وَلَا دِرْهَمٌ: وَلَا أَمْتَرِي
[عَبْدَ] الْهَوَانِ بِبَدْرَتِي وَإِنِّي لَآتِي الْحَتْفَ مَا دُمْتُ
أَسْمَعُ
(3/316)
ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مَرْوَانَ بَعَثَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي
الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ
الْمُخْتَارُ قَدْ وَادَعَ الزُّبَيْرَ لِيَكُفَّ عَنْهُ لِيَتَفَرَّغَ
لِأَهْلِ الشَّامِ. فَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ:
قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَرْوَانَ قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ جَيْشًا،
فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَمْدَدْتُكَ بِمَدَدٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ كُنْتَ عَلَى طَاعَتِي
فَبَايِعْ لِيَ النَّاسَ قِبَلَكَ، وَعَجِّلْ إِنْقَاذَ الْجَيْشِ،
وَمُرْهُمْ لِيَسِيرُوا إِلَى مَنْ بِوَادِي الْقُرَى مِنْ جُنْدِ
ابْنِ مَرْوَانَ فَلْيُقَاتِلُوهُمْ، وَالسَّلَامُ.
فَدَعَا الْمُخْتَارُ شُرَحْبِيلَ بْنَ وَرْسٍ الْهَمْدَانِيَّ،
فَسَيَّرَهُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمَوَالِي،
وَلَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ،
وَقَالَ: سِرْ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا دَخَلْتَهَا
فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. وَهُوَ يُرِيدُ
إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، ثُمَّ
يَأْمُرَ ابْنَ وَرْسٍ بِمُحَاصَرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ.
وَخَشِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ إِنَّمَا
يَكِيدُهُ، فَبَعَثَ مِنْ مَكَّةَ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
فِي أَلْفَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْأَعْرَابَ، وَقَالَ
لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي، وَإِلَّا فَكَايِدْهُمْ
حَتَّى تُهْلِكَهُمْ.
فَأَقْبَلَ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ حَتَّى لَقِيَ ابْنَ وَرْسٍ
بِالرَّقِيمِ وَقَدْ عَبَّأَ ابْنُ وَرْسٍ أَصْحَابَهُ، وَأَتَى
عَبَّاسٌ وَقَدْ تَقَطَّعَ أَصْحَابُهُ، وَرَأَى ابْنَ وَرْسٍ عَلَى
الْمَاءِ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَدَنَا مِنْهُمْ وَسَلَّمَ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ وَرْسٍ سِرًّا: أَلَسْتُمْ عَلَى
طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَسِرْ بِنَا عَلَى
عَدُوِّهِ الَّذِي بِوَادِي الْقُرَى.
فَقَالَ ابْنُ وَرْسٍ: مَا أُمِرْتُ بِطَاعَتِكُمْ، إِنَّمَا أُمِرْتُ
أَنْ آتِيَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا أَتَيْتُهَا رَأَيْتُ رَأْيِي.
فَقَالَ لَهُ عَبَّاسٌ: إِنْ كُنْتُمْ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
فَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُسَيِّرَكُمْ إِلَى وَادِي الْقُرَى. (فَقَالَ:
لَا أَتْبَعُكَ، أَقْدُمُ الْمَدِينَةَ وَأَكْتُبُ إِلَى صَاحِبِي،
فَيَأْمُرُنِي بِأَمْرِهِ. فَقَالَ عَبَّاسٌ: رَأْيُكَ أَفْضَلُ.
وَفَطِنَ لِمَا يُرِيدُ وَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَسَائِرٌ إِلَى وَادِي
الْقُرَى) .
وَنَزَلَ عَبَّاسٌ وَبَعَثَ إِلَى ابْنِ وَرْسٍ بِجَزَائِرَ وَغَنَمٍ
مُسَلَّخَةٍ، وَكَانُوا قَدْ مَاتُوا جُوعًا، فَذَبَحُوا وَاشْتَغَلُوا
بِهَا وَاخْتَلَطُوا عَلَى الْمَاءِ، وَجَمَعَ عَبَّاسٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَقْبَلَ نَحْوَ
فُسْطَاطِ ابْنِ وَرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ نَادَى فِي أَصْحَابِهِ،
فَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْهِ مِائَةُ رَجُلٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ
عَبَّاسٌ، وَاقْتَتَلُوا يَسِيرًا، فَقُتِلَ ابْنُ وَرْسٍ فِي
سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ، وَرَفَعَ عَبَّاسٌ رَايَةَ أَمَانٍ
لِأَصْحَابِ ابْنِ وَرْسٍ، فَأَتَوْهَا إِلَّا نَحْوٌ مِنْ
ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ حِمْيَرٍ الْهَمْدَانِيِّ
وَعَبَّاسِ بْنِ جَعْدَةَ الْجَدَلِيِّ، فَظَفِرَ ابْنُ سَهْلٍ
مِنْهُمْ بِنَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْنِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَفْلَتَ
الْبَاقُونَ فَرَجَعُوا، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِي الطَّرِيقِ.
(3/317)
وَكَتَبَ الْمُخْتَارُ بِخَبَرِهِمْ إِلَى
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ: إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ جَيْشًا
لِيُذِلُّوا لَكَ الْأَعْدَاءَ، وَيُحْرِزُوا الْبِلَادَ، فَلَمَّا
قَارَبُوا طَيْبَةَ فُعِلَ بِهِمْ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ
أَبْعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَيْشًا كَثِيفًا، وَتَبْعَثَ إِلَيْهِمْ
مِنْ قِبَلِكَ رَجُلًا حَتَّى يَعْلَمُوا أَنِّي فِي طَاعَتِكَ
فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُمْ بِحَقِّكُمْ أَعَرَفَ، وَبِكُمْ
أَهْلَ الْبَيْتِ أَرْأَفَ مِنْهُمْ بِآلِ الزُّبَيْرِ، وَالسَّلَامُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ
قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَعَرَفْتُ تَعْظِيمَكَ لِحَقِّي وَمَا تَنْوِيهِ
مِنْ سُرُورِي، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيَّ مَا
أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ، فَأَطِعِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِنِّي
لَوْ أَرَدْتُ الْقِتَالَ لَوَجَدْتُ النَّاسَ إِلَيَّ سِرَاعًا،
وَالْأَعْوَانَ لِي كَثِيرًا، وَلَكِنْ أَعْتَزِلُكُمْ وَأَصْبِرُ
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. وَأَمَرَهُ
بِالْكَفِّ عَنِ الدِّمَاءِ.
ذِكْرُ حَالِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَسِيرِ
الْجَيْشِ مِنَ الْكُوفَةِ
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَعَا مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ (وَشِيعَتِهِ) وَسَبْعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ أَبُو الطُّفَيْلِ
عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، لَهُ صُحْبَةٌ - لِيُبَايِعُوهُ،
فَامْتَنَعُوا وَقَالُوا: لَا نُبَايِعُ حَتَّى تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ.
فَأَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَذَمَّهُ،
فَأَغْلَظَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَانِئٍ الْكِنْدِيُّ وَقَالَ:
لَئِنْ لَمْ يَضُرَّكَ إِلَّا تَرْكُنَا بَيْعَتَكَ لَا يَضُرُّكَ
شَيْءٌ، وَإِنَّ صَاحِبَنَا يَقُولُ: لَوْ بَايَعَتْنِي الْأُمَّةُ
كُلُّهَا غَيْرَ سَعْدٍ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ مَا قَبِلْتُهُ.
وَإِنَّمَا عَرَّضَ بِذِكْرِ سَعْدٍ لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَسَبَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَسَبَّ
أَصْحَابَهُ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَخْبَرُوا ابْنَ
الْحَنَفِيَّةِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ،
وَلَمْ يُلِحَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.
(فَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَصَارَتِ
الشِّيعَةُ تَدْعُو لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، خَافَ ابْنُ الزُّبَيْرِ)
أَنْ يَتَدَاعَى النَّاسُ إِلَى الرِّضَا بِهِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ
وَعَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْبَيْعَةِ لَهُ، فَحَبَسَهُمْ بِزَمْزَمَ
وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَإِعْطَاءِ اللَّهِ
عَهْدًا إِنْ لَمْ يُبَايِعُوا أَنْ يُنَفِّذَ فِيهِمْ مَا
تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَجَلًا.
فَأَشَارَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ أَنْ
يَبْعَثَ إِلَى الْمُخْتَارِ يُعْلِمُهُ حَالَهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى
الْمُخْتَارِ بِذَلِكَ وَطَلَبَ مِنْهُ النَّجْدَةَ. فَقَرَأَ
الْمُخْتَارُ الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا
مَهْدِيُّكُمْ وَصَرِيحُ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، (وَقَدْ تَرَكُوا
مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ كَمَا يُحْظَرُ) عَلَى
(3/318)
الْغَنَمُ، يَنْتَظِرُونَ الْقَتْلَ
وَالتَّحْرِيقَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَسْتُ أَبَا إِسْحَاقَ
إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَإِنْ لَمْ أُسَرِّبِ
الْخَيْلَ فِي أَثَرِ الْخَيْلِ كَالسَّيْلِ يَتْلُوهُ السَّيْلُ،
حَتَّى يَحِلَّ بِابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ الْوَيْلُ!
يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ خُوَيْلِدٍ أَبِي
الْعَوَّامِ زُهْرَةَ بِنْتَ عَمْرٍو مِنْ بَنِي كَاهِلِ بْنِ أَسَدِ
بْنِ خُزَيْمَةَ.
فَبَكَى النَّاسُ وَقَالُوا: سَرِّحْنَا إِلَيْهِ وَعَجِّلْ. فَوَجَّهَ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ
الْقُوَّةِ، وَوَجَّهَ ظَبْيَانَ بْنَ عُمَارَةَ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ
وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَسَيَّرَ أَبَا الْمُعَمِّرِ فِي
مِائَةٍ، وَهَانِئَ بْنَ قَيْسٍ فِي مِائَةٍ، وَعُمَيْرَ بْنَ طَارِقٍ
فِي أَرْبَعِينَ، وَيُونُسَ بْنَ عِمْرَانَ فِي أَرْبَعِينَ. فَوَصَلَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ، فَأَقَامَ
بِهَا حَتَّى أَتَاهُ عُمَيْرٌ وَيُونُسُ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا،
فَبَلَغُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى
دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، (وَمَعَهُمُ الرَّايَاتُ) ، وَهُمْ
يُنَادُونَ: يَا لِثَارَاتِ الْحُسَيْنِ! حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
زَمْزَمَ، وَقَدْ أَعَدَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَطَبَ لِيَحْرِقَهُمْ،
وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ يَوْمَانِ، فَكَسَرُوا الْبَابَ
وَدَخَلُوا عَلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا: خَلِّ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ عَدُوِّ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ! فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي
لَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ فِي الْحَرَامِ. فَقَالَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ: وَاعْجَبًا لِهَذِهِ الْخَشَبِيَّةِ! يَنْعُونَ
الْحُسَيْنَ كَأَنِّي أَنَا قَتَلْتُهُ، وَاللَّهِ لَوْ قَدَرْتُ عَلَى
قَتَلَتِهِ لَقَتَلْتُهُمْ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ خَشَبِيَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا مَكَّةَ
وَبِأَيْدِيهِمُ الْخَشَبُ، كَرَاهَةَ شَهْرِ السُّيُوفِ فِي
الْحَرَمِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحَطَبَ الَّذِي أَعَدَّهُ
ابْنُ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَتَحْسَبُونَ أَنِّي أُخَلِّي سَبِيلَهُمْ
دُونَ أَنْ يُبَايِعَ وَيُبَايِعُوا؟
فَقَالَ الْجَدَلِيُّ: إِي وَرَبِّ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ،
لَتُخَلِّيَنَّ سَبِيلَهُ أَوْ لَنُجَالِدَنَّكَ بِأَسْيَافِنَا
جِلَادًا يَرْتَابُ مِنْهُ الْمُبْطِلُونَ! فَكَفَّ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ أَصْحَابَهُ، وَحَذَّرَهُمُ الْفِتْنَةَ.
ثُمَّ قَدِمَ بَاقِي الْجُنْدِ وَمَعَهُمُ الْمَالُ حَتَّى دَخَلُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَكَبَّرُوا وَقَالُوا: يَا لِثَارَاتِ
الْحُسَيْنِ! فَخَافَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَ مُحَمَّدُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى شِعْبِ عَلِيٍّ وَهُمْ يَسُبُّونَ
ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَيَسْتَأْذِنُونَ مُحَمَّدًا فِيهِ، فَأَبَى
عَلَيْهِمْ.
فَاجْتَمَعَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي الشِّعْبِ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ،
فَقَسَمَ بَيْنَهُمُ الْمَالَ وَعَزُّوا وَامْتَنَعُوا. فَلَمَّا
قُتِلَ الْمُخْتَارُ تَضَعْضَعُوا وَاحْتَاجُوا.
(3/319)
ثُمَّ إِنَّ الْبِلَادَ اسْتَوْثَقَتْ
لِابْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ، فَأَرْسَلَ إِلَى
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: ادْخُلْ فِي بَيْعَتِي وَإِلَّا نَابَذْتُكَ.
وَكَانَ رَسُولَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ: بُؤْسًا لِأَخِيكَ، مَا أَلَجَّهُ فِيمَا أَسْخَطَ
اللَّهَ وَأَغْفَلَهُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ! وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُرِيدُ أَنْ يَثُورَ بِنَا، وَقَدْ أَذِنْتُ
لِمَنْ أَحَبَّ الِانْصِرَافَ عَنَّا، فَإِنَّهُ لَا ذِمَامَ عَلَيْهِ
مِنَّا وَلَا لَوْمَ، فَإِنِّي مُقِيمٌ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ
بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ.
فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ وَغَيْرُهُ،
فَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفَارِقِيهِ. وَبَلَغَ خَبَرُهُ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ
أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ
إِلَى الشَّامِ إِنْ أَرَادَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ النَّاسِ،
فَخَرَجَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ
مَعَهُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ وَهُوَ يَقُولُ، شِعْرٌ:
هُدِيتَ يَا مَهْدِيَّنَا ابْنَ الْمُهْتَدِيِ ... أَنْتَ الَّذِي
نَرْضَى بِهِ وَنَرْتَجِي
أَنْتَ ابْنُ خَيْرِ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِي ... أَنْتَ إِمَامُ
الْحَقِّ لَسْنَا نَمْتَرِي
يَا ابْنَ عَلِيٍّ سِرْ وَمَنْ مِثْلُ عَلِي
فَلَمَّا وَصَلَ مَدْيَنَ بَلَغَهُ غَدْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَمْرِو
بْنِ سَعِيدٍ، فَنَدِمَ عَلَى إِتْيَانِهِ وَخَافَهُ، فَنَزَلَ
أَيْلَةَ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِفَضْلِ مُحَمَّدٍ وَكَثْرَةِ
عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَحُسْنِ هَدْيِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
عَبْدَ الْمَلِكِ نَدِمَ عَلَى إِذْنِهِ لَهُ فِي قُدُومِهِ بَلَدَهُ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي سُلْطَانِي مَنْ لَمْ
يُبَايِعْنِي. فَارْتَحَلَ إِلَى مَكَّةَ وَنَزَلَ شِعْبَ أَبِي
طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُهُ
بِالرَّحِيلِ عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُسَيِّرَ نِسَاءَ مَنْ مَعَ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، فَسَيَّرَ نِسَاءً، مِنْهُنَّ امْرَأَةُ أَبِي
الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، فَجَاءَتْ حَتَّى قَدِمَتْ
عَلَيْهِ، فَقَالَ الطُّفَيْلُ، شِعْرٌ:
إِنْ يَكُ سَيَّرَهَا مُصْعَبُ ... فَإِنِّي إِلَى مُصْعَبٍ مُتْعَبُ
أَقُودُ الْكَتِيبَةَ مُسْتَلْئِمًا ... كَأَنِّي أَخُو عِزَّةٍ
أَحْرَبُ
وَهِيَ عِدَّةُ أَبْيَاتٍ.
وَأَلَحَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
بِالِانْتِقَالِ إِلَى مَكَّةَ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ فِي
قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ وَقَالَ:
اللَّهُمَّ أَلْبِسِ ابْنَ الزُّبَيْرِ لِبَاسَ الذُّلِّ وَالْخَوْفِ،
وَسَلِّطْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَشْيَاعِهِ مَنْ يَسُومُهُمُ الَّذِي
يَسُومُ النَّاسَ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى الطَّائِفِ، فَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ وَأَغْلَظَ لَهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ كَرِهْنَا
ذِكْرَهُ. وَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فَلَحِقَ بِالطَّائِفِ،
ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ
(3/320)
الْحَنَفِيَّةِ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ
أَرْبَعًا، وَبَقِيَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى حَصَرَ الْحَجَّاجُ
ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَأَقْبَلَ مِنَ الطَّائِفِ فَنَزَلَ الشِّعْبَ،
فَطَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِيُبَايِعَ عَبْدَ الْمَلِكِ، (فَامْتَنَعَ
حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ.
فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ) يَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمَانَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعَةِ، فَأَبَى
وَقَالَ: قَدْ كَتَبْتُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِذَا جَاءَنِي
جَوَابُهُ بَايَعْتُ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُوصِيهِ بِابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ، وَمَعَهُ
كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَمَانِهِ وَبَسْطِ حَقِّهِ وَتَعْظِيمِ
أَهْلِهِ، حَضَرَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، وَبَايَعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ الشَّامَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ لَا
يَجْعَلَ لِلْحَجَّاجِ عَلَيْهِ سَبِيلًا، فَأَزَالَ حُكْمَ
الْحَجَّاجِ عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُبَايِعَا، فَقَالَا: حَتَّى يَجْتَمِعَ
النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ ثُمَّ نُبَايِعُ، فَإِنَّكَ فِي فِتْنَةٍ.
فَعَظُمَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، وَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَحَبَسَ ابْنَ
الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمْزَمَ، وَضَيَّقَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
مَنْزِلِهِ، وَأَرَادَ إِحْرَاقَهُمَا، فَأَرْسَلَ الْمُخْتَارُ
جَيْشًا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَزَالَ عَنْهُمَا ضَرَرَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ.
فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ قَوِيَ عَلَيْهِمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَقَالَ: لَا تُجَاوِرَانِي، فَخَرَجَا إِلَى الطَّائِفِ، وَأَرْسَلَ
ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَهُ عَلِيًّا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالشَّامِ
وَقَالَ: لَئِنْ يُرَبِّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
يُرَبِّنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ. يَعْنِي بِبَنِي عَمِّهِ بَنِي
أُمَيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ،
وَيَعْنِي بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ
مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ. وَلَمَّا
وَصَلَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ، سَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، فَقَالَ: اسْمِي
عَلِيٌّ، وَالْكُنْيَةُ أَبُو الْحَسَنِ. فَقَالَ: لَا يَجْتَمِعُ
هَذَا الِاسْمُ وَهَذِهِ الْكُنْيَةُ فِي عَسْكَرِيٍّ، أَنْتَ أَبُو
مُحَمَّدٍ.
وَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الطَّائِفِ تُوُفِّيَ بِهِ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ.
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِخُرَاسَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ حِصَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ مَنْ
كَانَ بِخُرَاسَانَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، بِسَبَبِ قَتْلِهِمُ ابْنَهُ
مُحَمَّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا تَفَرَّقَتْ بَنُو
تَمِيمٍ بِخُرَاسَانَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَتَى
(3/321)
قَصْرَ فَرْتَنَا عِدَّةٌ مِنْ
فُرْسَانِهِمْ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، فَوَلُّوا
أَمْرَهُمْ عُثْمَانَ بْنَ بِشْرِ بْنِ الْمُحْتَفِزِ الْمَازِنِيَّ،
وَمَعَهُ شُعْبَةُ بْنُ ظَهِيرٍ النَّهْشَلِيُّ، وَوَرْدُ بْنُ
الْفَلَقِ الْعَنْبَرِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْعَدَوِيُّ،
وَجَيْهَانُ بْنُ مَشْجَعَةَ الضَّبِّيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ نَاشِبٍ
الْعَدَوِيُّ، وَرَقَبَةُ بْنُ الْحُرِّ، فِي فُرْسَانٍ مِنْ تَمِيمٍ
وَشُجْعَانِهِمْ، فَحَاصَرَهُمُ ابْنُ خَازِمٍ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ
إِلَيْهِ فَيُقَاتِلُونَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْقَصْرِ.
فَخَرَجَ ابْنُ خَازِمٍ يَوْمًا فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ
أَهْلُ الْقَصْرِ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ بِشْرٍ: ارْجِعُوا
فَلَنْ تُطِيقُوهُ. فَحَلَفَ زُهَيْرُ بْنُ ذُؤَيْبٍ بِالطَّلَاقِ
أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَنْقُضَ صُفُوفَهُمْ. فَاسْتَبْطَنَ
نَهْرًا قَدْ يَبِسَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ
حَتَّى حَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَحَطَّ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ،
وَاسْتَدَارَ وَكَرَّ رَاجِعًا، وَاتَّبَعُوهُ يَصِيحُونَ بِهِ، وَلَمْ
يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى
مَوْضِعِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَفْرَجُوا لَهُ حَتَّى رَجَعَ.
فَقَالَ ابْنُ خَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا طَاعَنْتُمْ زُهَيْرًا
فَاجْعَلُوا فِي رِمَاحِكُمْ كَلَالِيبَ، ثُمَّ عَلِّقُوهَا فِي
سِلَاحِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ يَوْمًا فَطَاعَنَهُمْ، فَأَعْلَقُوا
فِيهِ أَرْبَعَةَ أَرْمَاحٍ بِالْكَلَالِيبِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ
لِيَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، فَاضْطَرَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَخَلُّوا
رِمَاحَهُمْ، فَعَادَ يَجُرُّ أَرْبَعَةَ أَرْمَاحٍ حَتَّى دَخَلَ
الْقَصْرَ.
فَأَرْسَلَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى زُهَيْرٍ يَضْمَنُ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ
وَمَيْسَانَ طُعْمَةً لِيُنَاصِحَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا طَالَ
الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ أَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ خَازِمٍ لِيُمَكِّنَهُمْ
مِنَ الْخُرُوجِ لِيَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ: لَا إِلَّا عَلَى حُكْمِي،
فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. فَقَالَ زُهَيْرٌ: ثَكِلَتْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ! وَاللَّهِ لَيَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، وَإِنْ
طِبْتُمْ بِالْمَوْتِ نَفْسًا فَمُوتُوا كِرَامًا، اخْرُجُوا بِنَا
جَمِيعًا، فَإِمَّا أَنْ تَمُوتُوا كِرَامًا، وَإِمَّا يَنْجُو
بَعْضُكُمْ وَيَهْلِكُ بَعْضُكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ شَدَدْتُمْ
عَلَيْهِمْ شَدَّةً صَادِقَةً لَيُفْرِجُنَّ لَكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ
كُنْتُ أَمَامَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ كُنْتُ خَلْفَكُمْ. فَأَبَوْا
عَلَيْهِ. فَقَالَ: سَأُرِيكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَرَقَبَةُ بْنُ
الْحُرِّ وَغُلَامٌ تُرْكِيٌّ وَابْنُ ظَهِيرٍ، فَحَمَلُوا عَلَى
الْقَوْمِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَأَفْرَجُوا لَهُمْ، فَمَضَوْا،
فَأَمَّا زُهَيْرٌ فَرَجَعَ وَنَجَا أَصْحَابُهُ.
فَلَمَّا رَجَعَ زُهَيْرٌ إِلَى مَنْ بِالْقَصْرِ قَالَ: قَدْ
رَأَيْتُمْ، أَطِيعُونِي. قَالُوا: إِنَّا نَضْعُفُ عَنْ هَذَا
وَنَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ. فَقَالَ: لَا أَكُونُ أَعْجَزَكُمْ عِنْدَ
الْمَوْتِ. فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ ابْنِ
(3/322)
خَازِمٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ
فَقَيَّدَهُمْ وَحُمِلُوا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا، فَأَرَادَ أَنْ
يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِ ابْنُهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ:
إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُمْ قَتَلْتُ نَفْسِي، فَقَتَلَهُمْ إِلَّا
ثَلَاثَةً: أَحَدُهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ نَاشِبٍ، فَشَفَعَ فِيهِ
بَعْضُ مَنْ مَعَهُ، فَأَطْلَقَهُ، وَالْآخَرُ جَيْهَانُ بْنُ
مَشْجَعَةَ الضَّبِّيُّ الَّذِي أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْآخَرُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدٍ
مِنْ تَمِيمٍ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ النَّاسَ عَنِ ابْنِ خَازِمٍ
يَوْمَ لَحِقُوهُ، وَقَالَ: انْصَرِفُوا عَنْ فَارِسِ مُضَرَ.
وَقَالَ: وَلَمَّا أَرَادُوا حَمْلَ زُهَيْرِ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَهُوَ
مُقَيَّدٌ أَبَى، وَاعْتَمَدَ عَلَى رُمْحِهِ فَوَثَبَ الْخَنْدَقَ،
ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ، فَجَلَسَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: كَيْفَ شُكْرُكَ إِنْ
أَطْلَقْتُكَ وَأَطْعَمْتُكَ مَيْسَانَ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ تَصْنَعْ بِي
إِلَّا حَقْنَ دَمِي لَشَكَرْتُكَ. فَلَمْ يُمَكِّنْهُ ابْنُهُ مُوسَى
مِنْ إِطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: وَيْحَكَ نَقْتُلُ مِثْلَ
زُهَيْرٍ! مَنْ لِقِتَالِ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ؟ مَنْ لِحِمَى
نِسَاءِ الْعَرَبِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شَرَكْتَ فِي دَمِ أَخِي
لَقَتَلْتُكَ! فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ زُهَيْرٌ: إِنَّ لِي
حَاجَةً، لَا تَقْتُلْنِي وَيُخْلَطُ دَمِي بِدِمَاءِ هَؤُلَاءِ
اللِّئَامِ، فَقَدْ نَهَيْتُهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَأَمَرْتُهُمْ أَنْ
يَمُوتُوا كِرَامًا وَيَخْرُجُوا عَلَيْكُمْ مُصْلِتِينَ، وَايْمُ
اللَّهِ لَوْ فَعَلُوا لَأَذْعَرُوا بُنَيَّكَ هَذَا، وَشَغَلُوهُ
بِنَفْسِهِ عَنْ طَلَبِ ثَأْرِ أَخِيهِ، فَأَبَوْا، وَلَوْ فَعَلُوا
مَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى يَقْتُلَ رِجَالًا. فَأَمَرَ بِهِ
ابْنُ خَازِمٍ فَقُتِلَ نَاحِيَةً.
فَلَمَّا بَلَغَ الْحَرِيشَ قَتْلُهُمْ قَالَ:
أَعَاذِلَ إِنِّي لَمْ أُلِمْ فِي قِتَالِهِمْ ... وَقَدْ عَضَّ
سَيْفِي كَبْشَهُمْ ثُمَّ صَمَّمَا
أَعَاذِلَ مَا وُلِّيتُ حَتَّى تَبَدَّدَتْ ... رِجَالٌ وَحَتَّى لَمْ
أَجِدْ مُتَقَدِّمَا
أَعَاذِلَ أَفْنَانِي السِّلَاحُ، وَمَنْ يُطِلْ ... مُقَارَعَةَ
الْأَبْطَالِ يَرْجِعْ مُكَلَّمَا
أَعَيْنَيَّ إِنْ أَنَزَفْتُمَا الدَّمْعَ فَاسْكُبَا ... دَمًا
لَازِمًا لِي دُونَ أَنْ تَسْكُبَا دَمَا
أَبْعَدَ زُهَيْرٍ وَابْنِ بِشْرٍ تَتَابُعًا ... وَوَرْدٍ أُرَجِّي
فِي خُرَاسَانَ مَغْنَمَا
أَعَاذِلَ كَمْ مِنْ يَوْمِ حَرْبٍ شَهِدْتُهُ ... أَكُرُّ إِذَا مَا
فَارِسُ السَّوْءِ أَحْجَمَا
يَعْنِي زُهَيْرَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَابْنُ بِشْرٍ هُوَ عُثْمَانُ،
وَوَرْدَ بْنَ الْفَلَقِ.
(3/323)
ذِكْرُ مَسِيرِ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى
قِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ لِقِتَالِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُ بَعْدَ فَرَاغِ
الْمُخْتَارِ مِنْ وَقْعَةِ السَّبِيعِ بِيَوْمَيْنِ، وَأَخْرَجَ
الْمُخْتَارُ مَعَهُ فُرْسَانَ أَصْحَابِهِ وَوُجُوهَهُمْ وَأَهْلَ
الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَهُ تَجْرِبَةٌ، وَخَرَجَ مَعَهُ
الْمُخْتَارُ يُشَيِّعُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ دَيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ لَقِيَهُ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ مَعَهُ
الْكُرْسِيُّ يَحْمِلُونَهُ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ وَهُمْ يَدْعُونَ
اللَّهَ لَهُ بِالنَّصْرِ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ، وَكَانَ سَادِنَ
الْكُرْسِيِّ حَوْشَبٌ الْبَرْسَمِيُّ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْمُخْتَارُ
قَالَ:
أَمَا وَرَبِّ الْمُرْسَلَاتِ عُرْفَا ... لَنَقْتُلَنَّ بَعْدَ صَفٍّ
صَفَّا
وَبَعْدَ أَلْفٍ قَاسِطِينَ أَلْفَا
ثُمَّ وَدَّعَهُ الْمُخْتَارُ وَقَالَ لَهُ: خُذْ عَنِّي ثَلَاثًا:
خَفِ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِكَ،
وَعَجِّلِ السَّيْرَ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَنَاجِزْهُمْ سَاعَةَ
تَلْقَاهُمْ.
وَرَجَعَ الْمُخْتَارُ، وَسَارَ إِبْرَاهِيمُ فَانْتَهَى إِلَى
أَصْحَابِ الْكُرْسِيِّ، وَهُمْ عُكُوفٌ عَلَيْهِ قَدْ رَفَعُوا
أَيْدِيَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ، فَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا، هَذِهِ سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ، إِذْ عَكَفُوا عَلَى عِجْلِهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا وَسَارَ
إِلَى قَصْدِهِ.
ذِكْرُ حَالِ الْكُرْسِيِّ الَّذِي كَانَ الْمُخْتَارُ يَسْتَنْصِرُ
بِهِ
قَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ: أَضَقْنَا إِضَاقَةً
شَدِيدَةً، فَخَرَجْتُ يَوْمًا فَإِذَا جَارٌ لِي زَيَّاتٌ عِنْدَهُ
كُرْسِيٌّ رَكِبَهُ الْوَسَخُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ قُلْتُ
لِلْمُخْتَارِ فِي هَذَا شَيْئًا. فَأَخَذْتُهُ مِنَ الزَّيَّاتِ
وَغَسَلْتُهُ، فَخَرَجَ عُودُ نُضَارٍ قَدْ شَرِبَ الدُّهْنَ وَهُوَ
يَبِصٌ، قَالَ فَقُلْتُ لِلْمُخْتَارِ: إِنِّي كُنْتُ أَكْتُمُكَ
شَيْئًا، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ، إِنَّ أَبِي جَعْدَةَ
كَانَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ عِنْدَنَا، وَيَرْوِي أَنَّ فِيهِ
أَثَرًا مِنْ عَلِيٍّ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَخَّرْتَهُ إِلَى
هَذَا الْوَقْتِ، ابْعَثْ بِهِ. فَأَحْضَرْتُهُ عِنْدَهُ وَقَدْ
غُشِّيَ، فَأَمَرَ لِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ دَعَا:
الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ:
(3/324)
إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ
مِثْلُهُ، وَإِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابُوتُ،
وَإِنَّ هَذَا فِينَا مِثْلَ التَّابُوتِ. فَكَشَفُوا عَنْهُ،
وَقَامَتِ السَّبَئِيَّةُ فَكَبَّرُوا.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ أَرْسَلَ الْمُخْتَارُ الْجُنْدَ لِقِتَالِ
ابْنِ زِيَادٍ، وَخَرَجَ بِالْكُرْسِيِّ عَلَى بَغْلٍ وَقَدْ غُشِّيَ،
فَقُتِلَ أَهْلُ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ
فِتْنَةً، فَارْتَفَعُوا حَتَّى تَعَاطَوُا الْكُفْرَ. فَنَدِمْتُ
عَلَى مَا صَنَعْتُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَعِيبُهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لِآلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ،
وَكَانَتْ أُمُّ جَعْدَةَ أُمُّ هَانِئٍ أُخْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ لِأَبَوَيْهِ: ايتُونِي بِكُرْسِيِّ عَلِيٍّ. فَقَالُوا:
وَاللَّهِ مَا هُوَ عِنْدَنَا. فَقَالَ: لَتَكُونُنَّ حَمْقَى،
اذْهَبُوا فَأْتُونِي بِهِ. قَالَ: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا
يَأْتُونَهُ بِكُرْسِيٍّ إِلَّا قَالَ: هَذَا هُوَ، وَقَبِلَهُ
مِنْهُمْ. فَأَتَوْهُ بِكُرْسِيٍّ وَقَبَضَهُ مِنْهُمْ، وَخَرَجَتْ
شِبَامٌ وَشَاكِرٌ وَرُءُوسُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَقَدْ جَعَلُوا
عَلَيْهِ الْحَرِيرَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَدَنَهُ مُوسَى بنُ أَبِي
مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَانَ يُلِمُّ بِالْمُخْتَارِ لِأَنَّ أُمَّهُ
أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَعَتَبَ النَّاسُ
عَلَى مُوسَى، فَتَرَكَهُ وَسَدَنَهُ حَوْشَبٌ الْبَرْسَمِيُّ حَتَّى
هَلَكَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ، شِعْرٌ:
شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ ... وَإِنِّي بِكُمْ يَا
شُرْطَةَ الشِّرْكِ عَارِفُ
فَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيُّكُمْ بِسَكِينَةٍ ... وَإِنْ كَانَ قَدْ
لُفَّتْ عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ
وَأَنْ لَيْسَ كَالتَّابُوتِ فِينَا وَإِنْ سَعَتْ ... شِبَامٌ
حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ
وَإِنِّي امْرُؤٌ أَحْبَبْتُ آلَ مُحَمَّدٍ ... وَتَابَعْتُ وَحْيًا
ضُمِّنَتْهُ الْمَصَاحِفُ
وَبَايَعْتُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا تَتَابَعَتْ ... عَلَيْهِ قُرَيْشٌ
شُمْطُهَا وَالْغَطَارِفُ
وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ:
أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ ... أَنِّي بِكُرْسِيِّكُمْ
كَافِرُ
(3/325)
تَرَوْا شِبَامَ حَوْلَ أَعْوَادِهِ ...
وَتَحْمِلُ الْوَحْيَ لَهُ شَاكِرُ
مُحْمَرَّةً أَعْيُنُهُمْ حَوْلَهُ ... كَأَنَّهُنَّ الْحِمَّصُ
الْحَادِرُ
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَامِلًا
لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَكَانَ
بِالْكُوفَةِ الْمُخْتَارُ مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا، وَبِخُرَاسَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ حَارِثَةَ
الْأَسْلَمِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ،
وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ زِيَادٍ.
وَتُوُفِّيَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي إِمَارَةِ بِشْرِ بْنِ هَارُونَ.
وَتُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ
بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ سَيِّدُ قَوْمِهِ.
(حَارِثَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ) .
(3/326)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ]
67 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ مَقْتَلِ ابْنِ زِيَادٍ
وَلَمَّا سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ مِنَ الْكُوفَةِ
أَسْرَعَ السَّيْرَ لِيَلْقَوُا ابْنَ زِيَادٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ
أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ ابْنُ زِيَادٍ قَدْ سَارَ فِي عَسْكَرٍ
عَظِيمٍ مِنَ الشَّامِ، فَبَلَغَ الْمَوْصِلَ وَمَلَكَهَا، كَمَا
ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ وَخَلَّفَ أَرْضَ
الْعِرَاقِ وَأَوْغَلَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ عَلَى
مُقَدِّمَتِهِ الطُّفَيْلَ بْنَ لَقِيطٍ النَّخَعِيَّ، وَكَانَ
شُجَاعًا.
فَلَمَّا دَنَا ابْنُ زِيَادٍ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَسِرْ
إِلَّا عَلَى تَعْبِيَةٍ وَاجْتِمَاعٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْعَثُ
الطُّفَيْلَ عَلَى الطَّلَائِعِ حَتَّى يَبْلُغَ نَهْرَ الْخَازِرِ
مِنْ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةِ بَارِشْيَا. وَأَقْبَلَ
ابْنُ زِيَادٍ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ عَلَى شَاطِئِ
الْخَازِرِ.
وَأَرْسَلَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ
أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ، إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ: أَنِ الْقَنِي،
وَكَانَتْ قَيْسٌ كُلُّهَا مُضْطَغِنَةً عَلَى ابْنِ مَرْوَانَ
وَقْعَةَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَجُنْدُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمَئِذٍ
كَلْبٌ. فَاجْتَمَعَ عُمَيْرٌ وَابْنُ الْأَشْتَرِ، فَأَخْبَرَهُ
عُمَيْرٌ أَنَّهُ عَلَى مَيْسَرَةِ ابْنِ زِيَادٍ، وَوَاعَدَهُ أَنْ
يَنْهَزِمَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ: مَا رَأْيُكَ؟
أُخَنْدِقُ عَلَيَّ وَأَتَوَقَّفُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؟ فَقَالَ
عُمَيْرٌ: لَا تَفْعَلْ، وَهَلْ يُرِيدُونَ إِلَّا هَذَا؟ فَإِنَّ
الْمُطَاوَلَةَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَهُمْ كَثِيرٌ أَضْعَافُكُمْ، وَلَيْسَ
يُطِيقُ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ فِي الْمُطَاوَلَةِ، وَلَكِنْ نَاجِزِ
الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مُلِئُوا مِنْكُمْ رُعْبًا، وَإِنْ هُمْ
شَامُّوا أَصْحَابَكَ، وَقَاتَلُوهُمْ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ،
وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ - أَنِسُوا بِهِمْ وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ لِي مُنَاصِحٌ،
وَبِهَذَا أَوْصَانِي صَاحِبِي. قَالَ عُمَيْرٌ: أَطِعْهُ فَإِنَّ
الشَّيْخَ قَدْ ضَرَّسَتْهُ الْحَرْبُ وَقَاسَى مِنْهَا مَا لَمْ
يُقَاسِهِ أَحَدٌ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَنَاهِضْهُمْ.
وَعَادَ عُمَيْرٌ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَذْكَى ابْنُ الْأَشْتَرِ
حَرَسَهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَيْنَهُ غَمْضٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ
السَّحَرُ الْأَوَّلُ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَكَتَّبَ كَتَائِبَهُ،
وَأَمَرَ أُمَرَاءَهُ، فَجَعَلَ سُفْيَانَ بْنَ يَزِيدَ
(3/327)
الْأَزْدِيَّ عَلَى مَيْمَنَتِهِ،
وَعَلِيَّ بْنَ مَالِكٍ الْجُشَمِيَّ عَلَى مَيْسَرَتِهِ، وَهُوَ أَخُو
الْأَحْوَصِ، وَجَعَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ
أَخُو إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِأُمِّهِ، عَلَى الْخَيْلِ،
وَكَانَتْ خَيْلُهُ قَلِيلَةً، وَجَعَلَ الطُّفَيْلَ بْنَ لَقِيطٍ
عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ مَعَ مُزَاحِمِ بْنِ
مَالِكٍ. فَلَمَّا انْفَجَرَ الْفَجْرُ صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ،
ثُمَّ خَرَجَ فَصَفَّ أَصْحَابَهُ، وَأَلْحَقَ كُلَّ أَمِيرٍ
بِمَكَانِهِ، وَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي وَيُحَرِّضُ النَّاسَ
وَيُمَنِّيهِمُ الظَّفَرَ، وَسَارَ بِهِمْ رُوَيْدًا، فَأَشْرَفَ عَلَى
تَلٍّ عَظِيمٍ مُشْرِفٍ عَلَى الْقَوْمِ، وَإِذَا أُولَئِكَ الْقَوْمُ
لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
زُهَيْرٍ السَّلُولِيَّ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، فَعَادَ
إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ عَلَى دَهَشٍ وَفَشَلٍ،
لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ إِلَّا: يَا شِيعَةَ
أَبِي تُرَابٍ! يَا شِيعَةَ الْمُخْتَارِ الْكَذَّابِ! قَالَ: فَقُلْتُ
لَهُ: الَّذِي بَيْنَنَا أَجَلُّ مِنَ الشَّتْمِ.
وَرَكِبَ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَ عَلَى الرَّايَاتِ يُحِثُّهُمْ،
وَيَذْكُرُ لَهُمْ فِعْلَ ابْنِ زِيَادٍ بِالْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ
وَأَهْلِ بَيْتِهِ، مِنَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَمَنْعِ الْمَاءِ،
وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى
مَيْمَنَتِهِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ السَّكُونِيَّ، وَعَلَى
مَيْسَرَتِهِ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى
الْخَيْلِ شُرَحْبِيلَ بْنَ ذِي الْكُلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ. فَلَمَّا
تَدَانَى الصَّفَّانِ حَمَلَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ فِي مَيْمَنَةِ
أَهْلِ الشَّامِ عَلَى مَيْسَرَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَثَبَتَ لَهُ عَلِيُّ
بْنُ مَالِكٍ الْجُشَمِيُّ فَقُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ رَايَتَهُ قُرَّةُ
بْنُ عَلِيٍّ، فَقُتِلَ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْبَأْسِ
وَانْهَزَمَتِ الْمَيْسَرَةُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
وَرْقَاءَ بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيُّ ابْنُ أَخِي حُبْشِيِّ بْنِ
جُنَادَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَاسْتَقْبَلَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَقَالَ: إِلَيَّ يَا
شُرْطَةَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ. فَقَالَ: هَذَا
أَمِيرُكُمْ يُقَاتِلُ ابْنَ زِيَادٍ، ارْجِعُوا بِنَا إِلَيْهِ
فَرَجَعُوا، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ كَاشِفٌ رَأْسَهُ يُنَادِي: إِلَيَّ
شُرْطَةَ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ، إِنَّ خَيْرَ فُرَّارِكُمْ
كُرَّارُكُمْ، لَيْسَ مُسِيئًا مَنْ أَعْتَبَ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ
أَصْحَابُهُ، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَيْسَرَةِ
ابْنِ زِيَادٍ وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَنْهَزِمَ عُمَيْرُ بْنُ
الْحُبَابِ، كَمَا زَعَمَ، فَقَاتَلَهُمْ عُمَيْرٌ قِتَالًا شَدِيدًا
وَأَنِفَ مِنَ الْفِرَارِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ: اقْصِدُوا هَذَا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَوَاللَّهِ
لَوْ هَزَمْنَاهُ لَانْجَفَلَ مَنْ تَرَوْنَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً
انْجِفَالَ طَيْرٍ ذَعَرْتَهَا. فَمَشَى أَصْحَابُهُ إِلَيْهِمْ
فَتَطَاعَنُوا، ثُمَّ صَارُوا إِلَى السُّيُوفِ وَالْعُمُدِ،
فَاضْطَرَبُوا بِهَا مَلِيًّا، وَكَانَ صَوْتُ الضَّرْبِ بِالْحَدِيدِ
كَصَوْتِ الْقَصَّارِينَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِصَاحِبِ
رَايَتِهِ: انْغَمِسْ بِرَايَتِكَ فِيهِمْ. فَيَقُولُ: لَيْسَ لِي
مُتَقَدَّمٌ. فَيَقُولُ: بَلَى. فَإِذَا تَقَدَّمَ شَدَّ إِبْرَاهِيمُ
بِسَيْفِهِ، فَلَا يَضْرِبُ [بِهِ] رَجُلًا إِلَّا صَرَعَهُ،
(3/328)
وَكَرَدَ إِبْرَاهِيمُ الرَّجَّالَةَ
[مِنْ] بَيْنِ يَدَيْهِ كَأَنَّهُمُ الْحِمْلَانُ، وَحَمَلَ
أَصْحَابُهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ،
فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ زِيَادٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
قَتْلَى كَثِيرَةٌ.
وَقِيلَ: إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ أَوَّلُ مَنِ انْهَزَمَ،
وَإِنَّمَا كَانَ قِتَالُهُ أَوَّلًا تَعْذِيرًا.
فَلَمَّا انْهَزَمُوا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ
رَجُلًا تَحْتَ رَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الْخَازِرِ،
فَالْتَمِسُوهُ، فَإِنِّي شَمَمْتُ مِنْهُ رَائِحَةَ الْمِسْكِ،
شَرَّقَتْ يَدَاهُ، وَغَرَّبَتْ رِجْلَاهُ. فَالْتَمَسُوهُ فَإِذَا
هُوَ ابْنُ زِيَادٍ قَتِيلًا بِضَرْبَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ قَدَّتْهُ
بِنِصْفَيْنِ وَسَقَطَ، كَمَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ، فَأَخَذَ رَأْسَهُ
وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ.
وَحَمَلَ شَرِيكُ بْنُ جَدِيرٍ التَّغْلِبِيُّ عَلَى الْحُصَيْنِ بْنِ
نُمَيْرٍ السَّكُونِيِّ وَهُوَ يَظُنُّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ، فَاعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَنَادَى
التَّغْلِبِيُّ: اقْتُلُونِي وَابْنَ الزَّانِيَةِ! فَقَتَلُوا
الْحُصَيْنَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ شَرِيكُ بْنُ جَدِيرٍ،
وَكَانَ هَذَا شَرِيكٌ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَأُصِيبَتْ
عَيْنُهُ، فَلَمَّا انْقَضَتْ أَيَّامُ عَلِيٍّ لَحِقَ شَرِيكٌ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَقَامَ بِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ
عَاهَدَ اللَّهَ - تَعَالَى - إِنْ ظَهَرَ مَنْ يَطْلُبُ بِدَمِهِ
لَيَقْتُلَنَّ ابْنَ زِيَادٍ أَوْ لَيَمُوتَنَّ دُونَهُ. فَلَمَّا
ظَهَرَ الْمُخْتَارُ لِلطَّلَبِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ أَقْبَلَ
إِلَيْهِ، وَسَارَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، فَلَمَّا
الْتَقَوْا حَمَلَ عَلَى خَيْلِ الشَّامِ يَهْتِكُهَا صَفًّا صَفًّا
مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ رَبِيعَةَ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى ابْنِ
زِيَادٍ، وَثَارَ الرَّهْجُ، فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا وَقْعُ الْحَدِيدِ،
فَانْفَرَجَتْ عَنِ النَّاسِ وَهُمَا قَتِيلَانِ، شَرِيكٌ وَابْنُ
زِيَادٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَشَرِيكٌ هُوَ الْقَائِلُ: كُلُّ
عَيْشٍ قَدْ أَرَاهُ بَاطِلًا غَيْرَ رَكْزِ الرُّمْحِ فِي ظِلِّ
الْفَرَسْ
قَالَ: وَقُتِلَ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكُلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ،
وَادَّعَى قَتْلَهُ سُفْيَانُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ، وَوَرْقَاءُ
بْنُ عَازِبٍ الْأَسَدِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زُهَيْرٍ
السُّلَمِيُّ، وَكَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ أَسْمَاءَ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ،
فَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ حَمَلَ أُخْتَهُ هِنْدَ بِنْتَ
أَسْمَاءَ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،
فَذَهَبَ بِهَا وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
(3/329)
إِنْ تَصْرِمِي حِبَالَنَا فَرُبَّمَا ...
أَرْدَيْتُ فِي الْهَيْجَا الْكَمِيَّ الْمُعْلِمَا
وَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ زِيَادٍ تَبِعَهُمْ أَصْحَابُ
إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ مَنْ غَرِقَ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ،
وَأَصَابُوا عَسْكَرَهُمْ وَفِيهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ الْبِشَارَةَ إِلَى الْمُخْتَارِ وَهُوَ
بِالْمَدَائِنِ، وَأَنْفَذَ إِبْرَاهِيمُ عُمَّالَهُ إِلَى الْبِلَادِ،
فَبَعَثَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى
نَصِيبِينَ، وَغَلَبَ عَلَى سِنْجَارَ وَدَارَا وَمَا وَالَاهُمَا مِنْ
أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَوَلَّى زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ قَرْقِيسِيَا،
وَحَاتِمَ بْنَ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيَّ حَرَّانَ، وَالرُّهَاءَ،
وَسُمَيْسَاطَ، وَنَاحِيَتَهَا، وَوَلَّى عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ
السُّلَمِيَّ كَفْرَتُوثَا، وَطُورَ عَبْدِينَ.
وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ بِالْمَوْصِلِ، وَأَنْفَذَ رَأْسَ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْمُخْتَارِ وَمَعَهُ رُءُوسُ قُوَّادِهِ،
فَأُلْقِيَتْ فِي الْقَصْرِ، فَجَاءَتْ حَيَّةٌ دَقِيقَةٌ،
فَتَخَلَّلَتِ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي فَمِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ مَنْخَرِهِ، وَدَخَلَتْ فِي
مِنْخَرِهِ وَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ، فَعَلَتْ هَذَا مِرَارًا، أَخْرَجَ
هَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الزُّيُوفَ فِي
الْإِسْلَامِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَقَالَ بَعْضُ حُجَّابِ
ابْنِ زِيَادٍ: دَخَلْتُ مَعَهُ الْقَصْرَ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ،
فَاضْطَرَمَ فِي وَجْهِهِ نَارًا، فَقَالَ بِكُمِّهِ هَكَذَا عَلَى
وَجْهِهِ وَقَالَ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِهَذَا أَحَدًا.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: قَالَتْ مُرْجَانَةُ لِابْنِهَا عُبَيْدِ
اللَّهِ بَعْدَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ: يَا خَبِيثُ، قَتَلْتَ ابْنَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَرَى
الْجَنَّةَ أَبَدًا! وَقَالَ ابْنُ مُفَرَّغٍ حِينَ قُتِلَ ابْنُ
زِيَادٍ:
إِنَّ الْمَنَايَا إِذَا مَا زُرْنَ طَاغِيَةً ... هَتَّكْنَ أَسْتَارَ
حِجَّابٍ وَأَبْوَابِ
أَقُولُ بُعْدًا وَسُحْقًا عِنْدَ مَصْرَعِهِ ... لِابْنِ الْخَبِيثَةِ
وَابْنِ الْكَوْدَنِ الْكَابِي
لَا أَنْتَ زُوحِمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمْنَعُهُ ... وَلَا مَتَتَّ
إِلَى قَوْمٍ بِأَسْبَابٍ
لَا مِنْ نِزَارٍ وَلَا مِنْ جَذْمِ ذِي يَمَنٍ ... جُلْمُودَ ذَا
أُلْقِيتْ مِنْ بَيْنِ أَلْهَابِ
لَا تَقْبَلُ الْأَرْضُ مَوْتَاهُمْ إِذَا قُبِرُوا ... وَكَيْفَ
تَقْبَلُ رِجْسًا بَيْنَ أَثْوَابِ؟
(3/330)
وَقَالَ سُرَاقَةُ الْبَارِقِيُّ يَمْدَحُ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ:
أَتَاكُمْ غُلَامٌ مِنْ عَرَانِينَ مَذْحِجٍ ... جَرِيٌّ عَلَى
الْأَعْدَاءِ غَيْرُ نَكُولِ
فَيَا ابْنَ زِيَادٍ بُؤْ بِأَعْظَمِ مَالِكٍ ... وَذُقْ حَدَّ مَاضِي
الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا شُرْطَةَ اللَّهِ إِنَّهُمْ ... شَفَوْا مِنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ أَمْسِ غَلِيلِي
وَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُبَابِ السُّلَمِيُّ يَذُمُّ جَيْشَ ابْنِ
زِيَادٍ:
وَمَا كَانَ جَيْشٌ يَجْمَعُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا ... مُحِلًّا إِذَا
لَاقَى الْعَدُوَّ لِيُنْصَرَا
ذِكْرُ وِلَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْبَصْرَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهُوَ الْقُبَاعُ، عَنِ
الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا. فَقَدِمَهَا
مُصْعَبٌ مُتَلَثِّمًا، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ،
فَقَالَ النَّاسُ: أَمِيرٌ أَمِيرٌ! وَجَاءَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي
رَبِيعَةَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ، فَسَفَرَ مُصْعَبُ لِثَامَهُ
فَعَرَفُوهُ، وَأَمَرَ مُصْعَبٌ الْحَارِثَ بِالصُّعُودِ إِلَيْهِ،
فَأَجْلَسَهُ تَحْتَهُ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُصْعَبٌ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، {طسم - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} [القصص: 1 - 3] إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
[القصص: 4] ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ، {وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ، وَأَشَارَ
نَحْوَ الْحِجَازِ، {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] ، وَأَشَارَ نَحْوَ
الْكُوفَةِ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، بَلَغَنِي أَنَّكُمْ
تُلَقِّبُونَ أُمَرَاءَكُمْ، وَقَدْ لَقَّبْتُ نَفْسِي بِالْجَزَّارِ.
ذِكْرُ مَسِيرِ مُصْعَبٍ إِلَى الْمُخْتَارِ وَقَتْلِ الْمُخْتَارِ
وَلَمَّا هَرَبَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ مِنْ وَقْعَةِ السَّبِيعِ أَتَى
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى مُصْعَبٍ، فَأَتَاهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ
عَلَى بَغْلَةٍ قَدْ قَطَعَ ذَنَبَهَا وَطَرَفَ أُذُنَهَا، وَشَقَّ
قَبَاءَهُ وَهُوَ يُنَادِي: يَا غَزْوَتَاهُ! فَرُفِعَ خَبَرُهُ إِلَى
مُصْعَبٍ، فَقَالَ: هَذَا شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ. فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ،
فَأَتَاهُ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ
(3/331)
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا
اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَسَأَلُوهُ النَّصْرَ لَهُمْ، وَالْمَسِيرَ
إِلَى الْمُخْتَارِ مَعَهُمْ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ أَيْضًا وَاسْتَحَثَّهُ
عَلَى الْمَسِيرِ، فَأَدْنَاهُ مُصْعَبٌ وَأَكْرَمَهُ لِشَرَفِهِ،
وَقَالَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ حِينَ أَكْثَرُوا عَلَيْهِ: لَا أَسِيرُ
حَتَّى يَأْتِيَنِي الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ. وَكَتَبَ
إِلَيْهِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى فَارِسَ، يَسْتَدْعِيهِ لِيَشْهَدَ
مَعَهُمْ قِتَالَ الْمُخْتَارِ، فَأَبْطَأَ الْمُهَلَّبُ، وَاعْتَلَّ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَرَاجِ لِكَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ، فَأَمَرَ مُصْعَبٌ
مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُهَلَّبِ يَسْتَحِثَّهُ،
فَأَتَاهُ مُحَمَّدٌ وَمَعَهُ كِتَابُ مُصْعَبٍ، فَلَمَّا قَرَأَهُ
قَالَ لَهُ: أَمَا وَجَدَ مُصْعَبٌ بَرِيدًا غَيْرَكَ؟ فَقَالَ: مَا
أَنَا بِبَرِيدٍ لِأَحَدٍ، غَيْرَ أَنَّ نِسَاءَنَا وَأَبْنَائَنَا
وَحَرَمَنَا غَلَبَنَا عَلَيْهِمْ عَبِيدُنَا.
فَأَقْبَلَ الْمُهَلَّبُ مَعَهُ بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ
عَظِيمَةٍ، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ، وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِالْعَسْكَرِ
عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَكْبَرِ، وَأَرْسَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
مِخْنَفٍ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ إِلَيْهِ مَنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُثَبِّطَ النَّاسَ عَنِ الْمُخْتَارِ،
وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ سِرًّا، فَفَعَلَ،
وَدَخَلَ بَيْتَهُ مُسْتَتِرًا، ثُمَّ سَارَ مُصْعَبٌ فَقَدَّمَ
أَمَامَهُ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْحَطَمِيَّ التَّمِيمِيَّ،
وَبَعَثَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ عَلَى
مَيْمَنَتِهِ، وَالْمُهَلَّبَ عَلَى مَسِيرَتِهِ، وَجَعَلَ مَالِكَ
بْنَ مِسْمَعٍ عَلَى بَكْرٍ، وَمَالِكَ بْنَ الْمُنْذِرِ عَلَى عَبْدِ
الْقَيْسِ، وَالْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى تَمِيمٍ، وَزِيَادَ بْنَ
عَمْرٍو الْعَتَكِيَّ عَلَى الْأَزْدِ، وَقَيْسَ بْنَ الْهَيْثَمِ
عَلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْمُخْتَارَ، فَقَامَ فِي أَصْحَابِهِ
فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَ أَحْمَرَ
بْنِ شُمَيْطٍ، فَخَرَجَ وَعَسْكَرَ بِحَمَّامِ أَعْيَنَ، وَدَعَا
الْمُخْتَارُ رُءُوسَ الْأَرْبَاعِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ ابْنِ
الْأَشْتَرِ، فَبَعَثَهُمْ مَعَ أَحْمَرَ بْنِ شُمَيْطٍ، فَسَارَ
وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ ابْنُ كَامِلٍ الشَّاكِرِيُّ، فَوَصَلُوا إِلَى
الْمَذَارِ، وَأَتَى مُصْعَبٌ فَعَسْكَرَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَعَبَّأَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُنْدَهُ ثُمَّ تَزَاحَفَا، فَجَعَلَ ابْنُ
شُمَيْطٍ ابْنَ كَامِلٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وُهَيْبٍ الْجُشَمِيَّ، وَجَعَلَ أَبَا عَمْرَةَ
مَوْلَى عُرَيْنَةَ عَلَى الْمَوَالِي.
فَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ وُهَيْبٍ الْجُشَمِيُّ إِلَى ابْنِ
شُمَيْطٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَوَالِيَ وَالْعَبِيدَ أُولُوا
خَوَرٍ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ، وَإِنَّ مَعَهُمْ رِجَالًا كَثِيرًا
عَلَى الْخَيْلِ وَأَنْتَ تَمْشِي، فَمُرْهُمْ فَلْيَمْشُوا مَعَكَ،
فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَطِيرُوا عَلَيْهَا وَيُسْلِمُوكَ. وَكَانَ
هَذَا غِشًّا مِنْهُ لِلْمَوَالِي، لِمَا كَانُوا لَقُوا مِنْهُمْ
بِالْكُوفَةِ، فَأَحَبَّ أَنْ كَانَتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ، وَأَنْ
لَا يَنْجُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَلَمْ يَتَّهِمْهُ ابْنُ شُمَيْطٍ،
فَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ الْمَوَالِي مَعَهُ.
وَجَاءَ مُصْعَبٌ وَقَدْ جَعَلَ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ عَلَى
الْخَيْلِ، فَدَنَا عَبَّادٌ مِنْ أَحْمَرَ
(3/332)
وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ: إِنَّا
نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِلَى
بَيْعَةِ الْمُخْتَارِ، وَإِلَى أَنْ نَجْعَلَ هَذَا الْأَمْرَ شُورَى
فِي آلِ الرَّسُولِ. فَرَجَعَ عَبَّادٌ فَأَخْبَرَ مُصْعَبًا، فَقَالَ
لَهُ: ارْجِعْ فَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ. فَرَجَعَ وَحَمَلَ عَلَى ابْنِ
شُمَيْطٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَنْزِلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ
انْصَرَفَ إِلَى مَوْقِفِهِ، وَحَمَلَ الْمُهَلَّبُ عَلَى ابْنِ
كَامِلٍ، فَجَالَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَنَزَلَ ابْنُ كَامِلٍ،
فَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُهَلَّبُ، ثُمَّ قَالَ الْمُهَلَّبُ
لِأَصْحَابِهِ: كِرُّوا عَلَيْهِمْ كَرَّةً صَادِقَةً. فَحَمَلُوا
عَلَيْهِمْ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَوَلَّوْا، وَصَبَرَ ابْنُ كَامِلٍ
فِي رِجَالٍ مِنْ هَمْدَانَ سَاعَةً ثُمَّ انْهَزَمَ، وَحَمَلَ عُمَرُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، فَصَبَرَ
سَاعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ، وَحَمَلَ النَّاسُ جَمِيعًا عَلَى ابْنِ
شُمَيْطٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَنَادَوْا: يَا مَعْشَرَ
بَجِيلَةَ وَخَثْعَمٍ، الصَّبْرَ! فَنَادَاهُمُ الْمُهَلَّبُ:
الْفِرَارُ الْيَوْمَ أَنْجَى لَكُمْ، عَلَامَ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ مَعَ هَذِهِ الْعَبِيدِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَرَى كَثْرَةَ الْقَتْلِ الْيَوْمَ إِلَّا فِي قَوْمِي.
وَمَالَتِ الْخَيْلُ عَلَى رَجَّالَةِ ابْنِ شُمَيْطٍ فَانْهَزَمَتْ،
وَبَعَثَ مُصْعَبٌ عَبَّادًا عَلَى الْخَيْلِ، فَقَالَ: أَيُّمَا
أَسِيرٍ أَخَذْتَهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. وَسَرَّحَ مُحَمَّدَ بْنَ
الْأَشْعَثِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ:
دُونَكُمْ ثَأْرُكُمْ. فَكَانُوا أَشَدَّ عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَا يُدْرِكُونَ مُنْهَزِمًا إِلَّا قَتَلُوهُ،
وَلَا يَأْخُذُونَ أَسِيرًا فَيَعْفُونَ عَنْهُ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْ
ذَلِكَ الْجَيْشِ إِلَّا طَائِفَةُ أَصْحَابِ الْخَيْلِ، وَأَمَّا
الرَّجَّالَةُ فَأُبِيدُوا إِلَّا قَلِيلًا.
قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْمُزَنِيُّ: انْتَهَيْتُ إِلَى
رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَأَدْخَلْتُ السِّنَانَ فِي عَيْنِهِ، فَأَخَذْتُ
أُخَضْخِضُ عَيْنَهُ بِهِ. فَقِيلَ لَهُ: أَفَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَنَا أَحَلَّ دِمَاءً مِنَ التُّرْكِ
وَالدَّيْلَمِ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ هَذَا قَاضِي الْبَصْرَةِ.
فَلَمَّا فَرَغَ مُصْعَبٌ مِنْهُمْ أَقْبَلَ حَتَّى قَطَعَ مِنْ
تِلْقَاءِ وَاسِطٍ، وَلَمْ تَكُنْ بُنِيَتْ بَعْدُ، فَأَخَذَ فِي
كَسْكَرٍ، ثُمَّ حَمَلَ الرِّجَالَ وَأَثْقَالَهُمْ وَالضُّعَفَاءَ فِي
السُّفُنِ، فَأُخِذُوا فِي نَهْرِ خَرْشَادَ إِلَى نَهْرِ قُوسَانَ،
ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْفُرَاتِ.
وَأَتَى الْمُخْتَارَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ وَمَنْ قُتِلَ بِهَا فِي
فُرْسَانِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ، وَمَا مِنْ
مَيْتَةٍ أُمُوتُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ مَيْتَةَ ابْنِ
شُمَيْطٍ. فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا يُرِيدُ
يُقَاتِلْ حَتَّى يُقْتَلَ.
وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ مُصْعَبًا قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ سَارَ حَتَّى وَصَلَ السَّيْلَحِينَ، وَنَظَرَ
إِلَى مُجْتَمَعِ الْأَنْهَارِ: نَهْرِ الْحَيْرَةِ، وَنَهْرِ
السَّيْلَحِينَ، وَنَهْرِ الْقَادِسِيَّةِ، وَنَهْرِ يُوسُفَ،
فَسَكَّرَ
(3/333)
الْفُرَاتَ، فَذَهَبَ مَاؤُهَا فِي هَذِهِ
الْأَنْهَارِ، وَبَقِيَتْ سُفُنُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي الطِّينِ،
فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ خَرَجُوا مِنَ السُّفُنِ إِلَى ذَلِكَ
السَّكْرِ، فَأَصْلَحُوهُ وَقَصَدُوا الْكُوفَةَ، وَسَارَ الْمُخْتَارُ
إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ حَرُورَاءَ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ حَصَّنَ الْقَصْرَ وَالْمَسْجِدَ، وَأَدْخَلَ
إِلَيْهِ عُدَّةَ الْحِصَارِ.
وَيُقْبِلُ مُصْعَبٌ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْمُهَلَّبَ،
وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْخَيْلِ
عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ، وَجَعَلَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ
سُلَيْمَ بْنَ يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ سَعِيدَ
بْنَ مُنْقِذٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ النَّهْدِيَّ، وَعَلَى الرِّجَالِ مَالِكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
النَّهْدِيَّ. وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فِيمَنْ هَرَبَ
مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بَيْنَ مُصْعَبٍ وَالْمُخْتَارِ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ إِلَى كُلِّ جَيْشٍ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَدَانَى النَّاسُ،
فَحَمَلَ سَعِيدُ بْنُ مُنْقِذٍ عَلَى بَكْرٍ وَعَبْدِ الْقَيْسِ،
وَهُمْ فِي مَيْمَنَةِ مُصْعَبٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَأَرْسَلَ مُصْعَبٌ إِلَى الْمُهَلَّبِ لِيَحْمِلَ عَلَى مَنْ
بِإِزَائِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَجْزُرَ الْأَزْدَ خَشْيَةَ
أَهْلِ الْكُوفَةِ حَتَّى أَرَى فُرْصَتِي.
وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ
هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيِّ، فَحَمَلَ عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِ، وَهُمْ
أَهْلُ الْعَالِيَةِ، فَكَشَفَهُمْ، فَانْتَهَوْا إِلَى مُصْعَبٍ،
فَجَثَا مُصْعَبٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَبَرَكَ النَّاسُ عِنْدَهُ،
فَقَاتَلُوا سَاعَةً وَتَحَاجَزُوا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُهَلَّبَ حَمَلَ فِي أَصْحَابِهِ عَلَى مَنْ
بِإِزَائِهِ، فَحَطَمُوا أَصْحَابَ الْمُخْتَارِ حَطْمَةً مُنْكَرَةً،
فَكَشَفُوهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو النَّهْدِيُّ،
وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ صِفِّينَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ عَلَى مَا
كُنْتُ عَلَيْهِ بِصِفِّينَ، اللَّهُمَّ أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ فِعْلِ
هَؤُلَاءِ - لِأَصْحَابِهِ [حِينَ انْهَزَمُوا]- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ
مِنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَ مُصْعَبٍ - ثُمَّ جَالَدَ
بِسَيْفِهِ حَتَّى قُتِلَ.
وَانْقَصَفَ أَصْحَابُ الْمُخْتَارِ كَأَنَّهُمْ أَجَمَةُ قَصَبٍ
فِيهَا نَارٌ، وَحَمَلَ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو النَّهْدِيُّ، وَهُوَ
عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَمَعَهُ نَحْوُ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَذَلِكَ
عِنْدَ الْمَسَاءِ، عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ حَمْلَةً
مُنْكَرَةً، فَقُتِلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ، وَقُتِلَ عَامَّةُ
أَصْحَابِهِ.
وَقَاتَلَ الْمُخْتَارُ عَلَى فَمِ سِكَّةِ شَبَثٍ عَامَّةَ
لَيْلَتِهِ، وَقَاتَلَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْبَأْسِ،
وَقَاتَلَتْ مَعَهُ هَمْدَانُ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ
عَنِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ،
اذْهَبْ إِلَى الْقَصْرِ، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَهُ، فَقَالَ لَهُ
بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَلَمْ تَكُنْ وَعَدْتَنَا الظَّفَرَ، وَأَنَّا
سَنَهْزِمُهُمْ؟ فَقَالَ: أَمَا قَرَأْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ -
تَعَالَى -: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ
أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]
(3/334)
فَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ أَوَّلُ مَنْ
قَالَ بِالْبَدَاءِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ مُصْعَبٌ أَقْبَلَ يَسِيرُ فِيمَنْ مَعَهُ نَحْوَ
السَّبْخَةِ، فَمَرَّ بِالْمُهَلَّبِ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ: يَا
لَهُ فَتْحًا، مَا أَهْنَأَهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ مُحَمَّدُ بْنُ
الْأَشْعَثِ. قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ مُصْعَبٌ لِلْمُهَلَّبِ:
إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدْ قُتِلَ،
فَاسْتَرْجَعَ الْمُهَلَّبُ، فَقَالَ مُصْعَبٌ: قَدْ كُنْتُ أَحِبُّ
أَنْ يَشْهَدَ هَذَا الْفَتْحَ، أَتَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ؟ إِنَّمَا
قَتَلَهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ شِيعَةٌ لِأَبِيهِ.
ثُمَّ نَزَلَ السَّبْخَةَ فَقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَاءَ وَالْمَادَّةَ،
وَقَاتَلَهُمُ الْمُخْتَارُ وَأَصْحَابُهُ قِتَالًا ضَعِيفًا،
وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا رَمَاهُمُ
النَّاسُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَصَبُّوا عَلَيْهِمُ الْمَاءَ
الْقَذِرَ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَعَاشِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ، تَأْتِي
الْمَرْأَةُ مُتَخَفِّيَةً وَمَعَهَا الْقَلِيلُ مِنَ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ إِلَى أَهْلِهَا. فَفَطِنَ مُصْعَبٌ بِالنِّسَاءِ
فَمَنَعَهُنَّ، فَاشْتَدَّ عَلَى الْمُخْتَارِ وَأَصْحَابِهِ
الْعَطَشُ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مَاءَ الْبِئْرِ يَعْمَلُونَ فِيهِ
الْعَسَلَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَا يَرْوِي بَعْضَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا أَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَاقْتَرَبُوا مِنَ
الْقَصْرِ وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ
الْمُخْتَارُ: وَيْحَكُمُ إِنَّ الْحِصَارَ لَا يَزِيدُكُمْ إِلَّا
ضَعْفًا، فَانْزِلُوا بِنَا فَنُقَاتِلُ حَتَّى نُقْتَلَ كِرَامًا إِنْ
نَحْنُ قُتِلْنَا، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِآيِسٍ إِنْ صَدَقْتُمُوهُمْ
أَنْ يَنْصُرَكُمُ اللَّهُ. فَضَعُفُوا وَلَمْ يَفْعَلُوا. فَقَالَ
لَهُمْ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أُعْطِي بِيَدِي، وَلَا
أُحَكِّمُكُمْ فِي نَفْسِي، وَإِذَا خَرَجْتُ فَقُتِلْتُ لَمْ
تَزْدَادُوا إِلَّا ضَعْفًا وَذُلًّا، فَإِنْ نَزَلْتُمْ عَلَى
حُكْمِهِمْ، وَثَبَتَ أَعْدَاؤُكُمْ فَقَتَلُوكُمْ، وَبَعْضُكُمْ
يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ فَتَقُولُونَ: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
الْمُخْتَارَ، وَلَوْ أَنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مَعِي كُنْتُمْ إِنْ
أَخْطَأْتُمُ الظَّفَرَ مُتُّمْ كِرَامًا.
فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ مَا
عَزَمَ عَلَيْهِ الْمُخْتَارُ تَدَلَّى مِنَ الْقَصْرِ، فَلَحِقَ
بِنَاسٍ مِنْ إِخْوَانِهِ، فَاخْتَفَى عِنْدَهُمْ سِرًّا. ثُمَّ إِنَّ
الْمُخْتَارَ تَطَيَّبَ وَتَحَنَّطَ وَخَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ فِي
تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْهُمُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ
الْأَشْعَرِيُّ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ عَمْرَةُ بِنْتُ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا
أُخِذَ الْقَصْرُ وُجِدَ صَبِيًّا فَتَرَكُوهُ.
فَلَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ قَالَ لِلسَّائِبِ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ:
مَا تَرَى أَنْتَ. قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَحْمَقُ، إِنَّمَا أَنَا
رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَثَبَ
بِالْحِجَازِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ نَجْدَةَ وَثَبَ بِالْيَمَامَةِ،
وَمَرْوَانُ بِالشَّامِ، وَكُنْتُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ، إِلَّا أَنِّي
قَدْ طَلَبْتُ بِثَأْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ إِذْ نَامَتْ عَنْهُ
الْعَرَبُ، فَقَاتِلْ عَلَى حَسْبِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ نِيَّةٌ.
فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا
(3/335)
كُنْتُ أَصْنَعُ أَنْ أُقَاتِلَ عَلَى
حَسْبِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،
قَتَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَخَوَانِ، أَحَدُهُمَا
طَرَفَةُ، وَالْآخَرُ طَرَّافٌ، ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَجَاجَةَ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ قَتْلِهِ دَعَاهُمْ بَحِيرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْمِسْكِيُّ وَمَنْ مَعَهُ بِالْقَصْرِ إِلَى مَا دَعَاهُمُ
الْمُخْتَارُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَأَمْكَنُوا أَصْحَابَ مُصْعَبٍ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَأَخْرَجُوهُمْ
مُكَتَّفِينَ، فَأَرَادَ إِطْلَاقَ الْعَرَبِ وَقَتْلَ الْمَوَالِي،
فَأَبَى أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، فَعُرِضُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَ
بِقَتْلِهِمْ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ بَحِيرٌ الْمِسْكِيُّ، فَقَالَ
لِمُصْعَبٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ابْتَلَانَا بِالْأَسْرِ،
وَابْتَلَاكَ بِأَنْ تَعْفُوَ عَنَّا، هُمَا مَنْزِلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا رِضَاءُ اللَّهِ، وَالْأُخْرَى سُخْطُهُ، مَنْ عَفَا
عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ عِزًّا، وَمَنْ عَاقَبَ لَمْ يَأْمَنِ
الْقِصَاصَ، يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ نَحْنُ أَهْلُ قِبْلَتِكُمْ وَعَلَى
مِلَّتِكُمْ، وَلَسْنَا تُرْكًا وَلَا دَيْلَمًا، فَإِنْ خَالَفْنَا
إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ مِصْرِنَا، (فَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَصَبْنَا
وَأَخْطَؤُوا، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَخْطَأْنَا وَأَصَابُوا) ،
فَاقْتَتَلْنَا بَيْنَنَا كَمَا اقْتَتَلَ أَهْلُ الشَّامِ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ اجْتَمَعُوا، وَكَمَا اقْتَتَلَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ
وَاصْطَلَحُوا وَاجْتَمَعُوا، وَقَدْ مَلَكْتُمْ فَأَسْجِحُوا، وَقَدْ
قَدَرْتُمْ فَاعْفُوا. فَمَا زَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى رَقَّ
لَهُمُ النَّاسُ وَمُصْعَبٌ، وَأَرَادَ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمْ.
فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ:
أَتُخَلِّي سَبِيلَهُمْ؟ اخْتَرْنَا أَوِ اخْتَرْهُمْ. وَقَامَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ
فَقَالَ مِثْلَهُ، وَقَامَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ فَقَالُوا
مِثْلَهُمَا، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا ابْنَ
الزُّبَيْرِ، (لَا تَقْتُلْنَا وَاجْعَلْنَا عَلَى مُقَدِّمَتِكَ إِلَى
أَهْلِ الشَّامِ غَدًا، فَمَا بِكُمْ عَنَّا غِنًى، فَإِنْ قُتِلْنَا
لَمْ نُقْتَلْ) حَتَّى نُضْعِفَهُمْ لَكُمْ، وَإِنْ ظَفَرْنَا بِهِمْ
كَانَ ذَلِكَ لَكُمْ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَحِيرٌ
الْمِسْكِيُّ: لَا تَخْلِطْ دَمِي بِدِمَائِهِمْ إِذْ عَصَوْنِي.
فَقَتَلَهُمْ.
وَقَالَ مُسَافِرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَمِرَانَ النَّاعِطِيُّ: مَا
تَقُولُ يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ لِرَبِّكَ غَدًا وَقَدْ قَتَلْتَ
أُمَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَكَّمُوكَ فِي أَنْفُسِهِمْ صَبْرًا؟
اقْتُلُوا مِنَّا بِعِدَّةِ مَنْ قَتَلْنَا مِنْكُمْ، فَفِينَا رِجَالٌ
لَمْ يَشْهَدُوا مَوْطِنًا مِنْ حَرْبِنَا يَوْمًا وَاحِدًا، كَانُوا
فِي السَّوَادِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَحِفْظِ الطُّرُقِ. فَلَمْ
يَسْمَعْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.
(3/336)
وَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُمُ اسْتَشَارَ
مُصْعَبٌ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَعْفُوَ،
فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. فَقَالَ أَشْرَافُ أَهْلِ
الْكُوفَةِ: اقْتُلْهُمْ. وَضَجُّوا، فَقَتَلَهُمْ. فَلَمَّا قُتِلُوا
قَالَ الْأَحْنَفُ: مَا أَدْرَكْتُمْ بِقَتْلِهِمْ ثَأْرًا، فَلَيْتَهُ
لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ وَبَالًا.
وَبَعَثَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ امْرَأَةُ مُصْعَبٍ إِلَيْهِ فِي
إِطْلَاقِهِمْ، فَوَجَدَهُمُ الرَّسُولُ قَدْ قُتِلُوا.
وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِكَفِّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ
فَقُطِعَتْ وَسُمِّرَتْ بِمِسْمَارٍ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ،
فَبَقِيَتْ حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَسَأَلَ
عَنْهَا فَقِيلَ: هَذِهِ كَفُّ الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِنَزْعِهَا.
وَبَعَثَ مُصْعَبٌ عُمَّالَهُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسَّوَادِ، وَكَتَبَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ
وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ أَطَعْتَنِي فَلَكَ الشَّامُ وَأَعِنَّةُ
الْخَيْلِ وَمَا غَلَبْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ مَا دَامَ
لِآلِ الزُّبَيْرِ سُلْطَانٌ. وَأَعْطَاهُ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى
ذَلِكَ. وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى ابْنِ
الْأَشْتَرِ يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَيَقُولُ: إِنْ أَنْتَ
أَجَبْتَنِي فَلَكَ الْعِرَاقُ. فَاسْتَشَارَ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ
فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَوْ لَمْ أَكُنْ أَصَبْتُ ابْنَ
زِيَادٍ وَأَشْرَافَ الشَّامِ لَأَجَبْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ، مَعَ
أَنِّي لَا أَخْتَارُ عَلَى أَهْلِ مِصْرِي وَعَشِيرَتِي غَيْرَهُمْ.
فَكَتَبَ إِلَى مُصْعَبٍ بِالدُّخُولِ مَعَهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ
مُصْعَبٌ أَنْ أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، فَلَمَّا
بَلَغَ مُصْعَبًا إِقْبَالُهُ إِلَيْهِ بَعَثَ الْمُهَلَّبَ عَلَى
عَمَلِهِ بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ
وَأَذْرَبِيجَانَ.
ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا دَعَا أُمَّ ثَابِتٍ بِنْتَ سَمُرَةَ بْنِ
جُنْدُبٍ امْرَأَةَ الْمُخْتَارِ، وَعَمْرَةَ بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ
بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّةَ امْرَأَتَهُ الْأُخْرَى، فَأَحْضَرَهُمَا
وَسَأَلَهُمَا عَنِ الْمُخْتَارِ. فَقَالَتْ أُمُّ ثَابِتٍ: نَقُولُ
فِيهِ بِقَوْلِكَ أَنْتَ. فَأَطْلَقَهَا، وَقَالَتْ عَمْرَةُ: رَحِمَهُ
اللَّهُ، كَانَ عَبْدًا لِلَّهِ صَالِحًا. فَحَبَسَهَا، وَكَتَبَ إِلَى
أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: إِنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهُ
نَبِيٌّ، فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهَا، فَقُتِلَتْ لَيْلًا بَيْنَ
الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، قَتَلَهَا بَعْضُ الشُّرَطِ، ضَرَبَهَا
ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ وَهِيَ تَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! يَا
عَثْرَتَاهُ! فَرَفَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فَلَطَمَ الْقَاتِلَ وَقَالَ: يَا
ابْنَ الزَّانِيَةِ، عَذَّبْتَهَا! ثُمَّ تَشَحَّطَتْ فَمَاتَتْ،
فَتَعَلَّقَ الشُّرْطِيُّ بِالرَّجُلِ وَحَمَلَهُ إِلَى مُصْعَبٍ،
فَقَالَ: خَلُّوهُ فَقَدْ رَأَى أَمْرًا فَظِيعًا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ فِي ذَلِكَ:
إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ عِنْدِي ... قَتْلَ بَيْضَاءَ
حُرَّةٍ عُطْبُولِ
(3/337)
قُتِلَتْ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ جُرْمٍ
إِنَّ لِلَّهِ دَرُّهَا مِنْ قَتِيلِ ... كُتِبَ الْقَتْلُ
وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا
وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ
الْأَنْصَارِيُّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا:
أَتَى رَاكِبٌ بِالْأَمْرِ ذِي النَّبَإِ الْعَجَبْ ... بِقَتْلِ
ابْنَةِ النُّعْمَانِ ذِي الدِّينِ وَالْحَسَبْ
بِقَتْلِ فَتَاةٍ ذَاتِ دَلٍّ سَتِيرَةٍ ... مُهَذَّبَةِ الْأَخْلَاقِ
وَالْخِيمِ وَالنَّسَبْ
مُطَهَّرَةٍ مِنْ نَسْلِ قَوْمٍ أَكَارِمٍ ... مِنَ الْمُؤْثِرِينَ
الْخَيْرَ فِي سَالِفِ الْحِقَبْ
خَلِيلُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى وَنَصِيرُهُ ... وَصَاحِبُهُ فِي
الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ وَالْكُرَبْ
أَتَانِي بِأَنَّ الْمُلْحِدِينَ تَوَافَقُوا ... عَلَى قَتْلِهَا لَا
جُنِّبُوا الْقَتْلَ وَالسَّلَبْ
فَلَا هَنَأَتْ آلَ الزُّبَيْرِ مَعِيشَةٌ ... وَذَاقُوا لِبَاسَ
الذُّلِّ وَالْخَوْفِ وَالْحَرَبْ
كَأَنَّهُمُ إِذْ أَبْرَزُوهَا وَقُطِّعَتْ ... بِأَسْيَافِهِمْ
فَازُوا بِمَمْلَكَةِ الْعَرَبِ
أَلَمْ تَعْجَبِ الْأَقْوَامُ مِنْ قَتْلِ حُرَّةٍ ... مِنَ
الْمُحْصَنَاتِ الدِّينِ مَحْمُودَةِ الْأَدَبْ
مِنَ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بَرِيئَةٍ ... مِنَ الذَّمِّ
وَالْبُهْتَانِ وَالشَّكِّ وَالْكَذِبْ
عَلَيْنَا كِتَابُ الْقَتْلِ وَالْبَأْسِ وَاجِبٌ ... وَهُنَّ
الْعَفَافُ فِي الْحِجَالِ وَفِي الْحُجُبْ
(3/338)
عَلَى دِينِ أَجْدَادٍ لَهَا وَأُبُوَّةٍ
كِرَامٍ
مَضَتْ لَمْ تُخْزِ أَهْلًا وَلَمْ تُرِبْ ... مِنَ الْخَفِرَاتِ لَا
خَرُوجٌ بَذِيَّةٌ
مُلَائِمَةٌ تَبْغِي عَلَى جَارِهَا الْجُنُبْ ... وَلَا الْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَلَمْ تَدْرِ مَا الْخَنَا
وَلَمْ تَزْدَلِفْ يَوْمًا بِسُوءٍ وَلَمْ تُجِبْ ... عَجِبْتُ لَهَا
إِذْ كُتِّفَتْ وَهْيَ حَيَّةٌ
أَلَا إِنَّ هَذَا الْخَطْبَ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبْ
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا أَظْهَرَ الْخِلَافَ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ عِنْدَ قُدُومِ مُصْعَبٍ الْبَصْرَةَ، وَإِنَّ مُصْعَبًا
لَمَّا سَارَ إِلَيْهِ فَبَلَغَهُ مَسِيرُهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
أَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوَاقِعَهُ بِالْمَذَارِ،
وَقَالَ: إِنَّ الْفَتْحَ بِالْمَذَارِ ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ
رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِالْمَذَارِ فَتْحٌ عَظِيمٌ،
فَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَجَّاجِ فِي
قِتَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ.
وَأَمَرَ مُصْعَبٌ عَبَّادًا الْحَطَمِيَّ بِالْمَسِيرِ إِلَى جَمْعِ
الْمُخْتَارِ، فَتَقَدَّمَ وَتَقَدَّمَ مَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبَقِيَ مُصْعَبٌ عَلَى نَهْرِ
الْبَصْرِيِّينَ، وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا،
وَزَحَفَ مُصْعَبٌ وَمَنْ مَعَهُ، فَوَافُوهُ مَعَ اللَّيْلِ، فَقَالَ
الْمُخْتَارُ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَبْرَحَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتَّى
يَسْمَعَ مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعْتُمُوهُ
فَاحْمِلُوا.
فَلَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا مُحَمَّدُ،
فَحَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ مُصْعَبٍ، فَهَزَمُوهُمْ وَأَدْخَلُوهُمْ
عَسْكَرَهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا يُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا،
وَأَصْبَحَ الْمُخْتَارُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَأَصْحَابُهُ قَدْ
أَوْغَلُوا فِي أَصْحَابِ مُصْعَبٍ، فَانْصَرَفَ الْمُخْتَارُ
مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ قَصْرَ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ أَصْحَابُهُ
حِينَ أَصْبَحُوا فَوَقَفُوا مَلِيًّا، فَلَمْ يَرَوُا الْمُخْتَارَ
فَقَالُوا: قَدْ قُتِلَ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ مَنْ أَطَاقَ الْهَرَبَ،
فَاخْتَفُوا بِدُورِ الْكُوفَةِ، وَتَوَجَّهَ مِنْهُمْ نَحْوَ
الْقَصْرِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، فَوَجَدُوا الْمُخْتَارَ فِي الْقَصْرِ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ
أَصْحَابِ مُصْعَبٍ خَلْقًا كَثِيرًا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ
الْأَشْعَثِ. وَأَقْبَلَ مُصْعَبٌ فَأَحَاطَ بِالْقَصْرِ،
وَحَاصَرَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يَخْرُجُ الْمُخْتَارُ كُلَّ
يَوْمٍ فَيُقَاتِلُهُمْ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ.
فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ مَنْ فِي الْقَصْرِ يَطْلُبُ
الْأَمَانَ، فَأَبَى مُصْعَبٌ، فَنَزَلُوا عَلَى
(3/339)
حُكْمِهِ، فَقَتَلَ مِنَ الْعَرَبِ
سَبْعُمِائَةٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَسَائِرُهُمْ مِنَ الْعَجَمِ،
وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ كَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَسِتِّينَ
سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ
سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
قِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ
وَقَالَ لَهُ: أَنَا ابْنُ أَخِيكَ مُصْعَبٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ
عُمَرَ: أَنْتَ الْقَاتِلُ سَبْعَةَ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرَ مَا بَدَا لَكَ. فَقَالَ مُصْعَبٌ:
إِنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً فَجَرَةً. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ
قَتَلْتَ عِدَّتَهُمْ غَنَمًا مِنْ تُرَاثِ أَبِيكَ لَكَانَ ذَلِكَ
سَرَفًا.
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ
يَبْلُغْكَ قَتْلُ الْكَذَّابِ؟ قَالَ: وَمَنِ الْكَذَّابُ؟ قَالَ:
ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ: قَدْ بَلَغَنِي قَتْلُ الْمُخْتَارِ.
قَالَ: كَأَنَّكَ نَكَرْتَ تَسْمِيَتَهُ كَذَّابًا، وَمُتَوَجِّعٌ
لَهُ. قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ قَتَلَ قَتَلَتَنَا، وَطَلَبَ ثَأْرَنَا،
وَشَفَى غَلِيلَ صُدُورِنَا، وَلَيْسَ جَزَاؤُهُ مِنَّا الشَّتْمَ
وَالشَّمَاتَةَ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ قُتِلَ
الْكَذَّابُ الْمُخْتَارُ، وَهَذَا رَأْسُهُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَدْ بَقِيَتْ لَكُمْ عَقَبَةٌ كَئُودٌ فَإِنْ صَعِدْتُمُوهَا
فَأَنْتُمْ أَنْتُمْ، وَإِلَّا فَلَا. يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مَرْوَانَ.
وَكَانَتْ هَدَايَا الْمُخْتَارِ تَأْتِي ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ
الْحَنَفِيَّةِ فَيَقْبَلَانِهَا، وَقِيلَ: رَدَّ ابْنُ عُمَرَ
هَدِيَّتَهُ.
ذِكْرُ عَزْلِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَوِلَايَةِ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
أَخَاهُ مُصْعَبًا عَنِ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الْمُخْتَارَ،
وَوَلَّى مَكَانَهُ ابْنَهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ
حَمْزَةُ جَوَّادًا مُخَلَّطًا، يَجُودُ أَحَيَانًا حَتَّى لَا يَدَعَ
شَيْئًا يَمْلِكُهُ، وَيَمْنَعُ أَحْيَانًا مَا لَا يَمْنَعُ مِثْلُهُ،
وَظَهَرَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ خِفَّةٌ وَضَعْفٌ، فَيُقَالُ إِنَّهُ
رَكِبَ يَوْمًا فَرَأَى فَيْضَ الْبَصْرَةِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا
الْغَدِيرَ إِنْ رَفَقُوا بِهِ لَيَكْفِيَنَّهُمْ صَيَفَهُمْ. فَلَمَّا
كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَآهُ جَازِرًا فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ لَوْ
رَفَقُوا بِهِ لَكَفَاهُمْ. وَظَهَرَ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ
الْأَحْنَفُ إِلَى أَبِيهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهُمْ
وَيُعِيدَ مُصْعَبًا، فَعَزَلَهُ، فَاحْتَمَلَ مَالًا كَثِيرًا
(3/340)
مِنْ مَالِ الْبَصْرَةِ، فَعَرَضَ لَهُ
مَالِكُ بْنُ مَسْمَعٍ فَقَالَ لَهُ: لَا نَدَعُكَ تَخْرُجُ
بِعَطَايَانَا. فَضَمِنَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْعَطَاءَ، فَكَفَّ عَنْهُ، وَشَخَصَ حَمْزَةُ بِالْمَالِ، وَأَتَى
الْمَدِينَةَ فَأَوْدَعَهُ رِجَالًا، فَجَحَدُوهُ إِلَّا رَجُلًا
وَاحَدًا فَوَفَى لَهُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَاهُ فَقَالَ: أَبْعَدَهُ
اللَّهُ! أَرَدْتُ أَنْ أُبَاهِيَ بِهِ بَنِي مَرْوَانَ فَنَكَصَ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا أَقَامَ بِالْكُوفَةِ سَنَةً بَعْدَ قَتْلِ
الْمُخْتَارِ مَعْزُولًا عَنِ الْبَصْرَةِ، عَزَلَهُ أَخُوهُ عَبْدُ
اللَّهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ حَمْزَةَ، ثُمَّ إِنَّ
مُصْعَبًا وَفَدَ عَلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَرَدَّهُ عَلَى
الْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: بَلِ انْصَرَفَ مُصْعَبٌ إِلَى الْبَصْرَةِ
بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْكُوفَةِ
الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَكَانَتَا فِي عَمَلِهِ، فَعَزَلَهُ
أَخُوهُ عَنِ الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَهُ حَمْزَةَ، ثُمَّ
عَزَلَ حَمْزَةَ بِكِتَابِ الْأَحْنَفِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَرَدَّ
مُصْعَبًا.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
حَجَّ بِالنَّاسِ [فِي هَذِهِ السَّنَةِ] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ مَنْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ
بْنُ هُبَيْرَةَ، وَبِالشَّامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،
وَبِخُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ بِالْكُوفَةِ
مَعَ مُصْعَبٍ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
بِالْكُوفَةِ لَمَّا سَارَ مُصْعَبٌ إِلَى قِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ. وَقُتِلَ هُبَيْرَةُ بْنُ مَرْيَمَ مَوْلَى
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْخَازَرِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ
الْمُخْتَارِ وَثِقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ جُنَادَةُ
بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَلَيْسَتْ لَهُ
صُحْبَةٌ. وَقَتَلَ مُصْعَبٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ الرَّبِّ
ابْنَيْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعِمْرَانَ بْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ، قَتَلَهُمْ صَبْرًا بَعْدَ قَتْلِ الْمُخْتَارِ، وَبَعْدَ
قَتْلِ أَصْحَابِهِ.
(3/341)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسِتِّينَ]
68 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
ذِكْرُ عَزْلِ حَمْزَةَ وَوِلَايَةِ مُصْعَبٍ الْبَصْرَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ
مُصْعَبًا إِلَى الْعِرَاقِ.
وَسَبَبُهُ: أَنَّ الْأَحْنَفَ رَأَى مِنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ اخْتِلَاطًا وَحُمْقًا، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، فَعَزَلَهُ
وَرَدَّ مُصْعَبًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ
أَبِي رَبِيعَةَ.
وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ حَمْزَةَ أَنَّهُ قَصَّرَ
بِالْأَشْرَافِ وَبَسَطَ يَدَهُ، فَفَزِعُوا إِلَى مَالِكِ بْنِ
مِسْمَعٍ، فَضَرَبَ خَيْمَتَهُ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى
حَمْزَةَ: الْحَقْ بِأَبِيكَ. وَأَخْرَجَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ
الْعُدَيْلُ الْعِجْلِيُّ:
إِذَا مَا خَشِينَا مِنْ أَمِيرٍ ظُلَامَةً ... دَعَوْنَا أَبَا
سُفْيَانَ يَوْمًا فَعَسْكَرَا
ذِكْرُ حُرُوبِ الْخَوَارِجِ بِفَارِسَ وَالْعِرَاقِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ مُصْعَبٌ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ عَلَى فَارِسَ، وَوَلَّاهُ حَرْبَ
الْأَزَارِقَةِ، وَكَانَ الْمُهَلَّبُ عَلَى حَرْبِهِمْ أَيَّامَ
مُصْعَبٍ الْأُولَى، وَأَيَّامَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا عَادَ مُصْعَبٌ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ
الْمُهَلَّبَ بِلَادَ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ ;
لِيَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِفَارِسَ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَقَدِمَ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ ابْنَهُ الْمُغِيرَةَ، وَوَصَّاهُ
بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَعَزَلَهُ مُصْعَبٌ عَنْ
حَرْبِ الْخَوَارِجِ وَبِلَادِ فَارِسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمَا
عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ. فَلَمَّا سَمِعَ
الْخَوَارِجُ بِهِ قَالَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ: قَدْ جَاءَكُمْ
شُجَاعٌ، وَهُوَ شُجَاعٌ وَبَطَلٌ، جَاءَ يُقَاتِلُ لِدِينِهِ
وَمُلْكِهِ بِطَبِيعَةٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا لِأَحَدٍ، مَا حَضَرَ
حَرْبًا إِلَّا كَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ يَقْتُلُ قِرْنَهُ.
(3/342)
وَكَانَ الْخَوَارِجُ قَدِ اسْتَعْمَلُوا
عَلَيْهِمْ بَعْدَ قَتْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَاحُوزِ
الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ خَمْسٍ
وَسِتِّينَ، فَجَاءَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى إِصْطَخْرَ، فَقَدَّمَ
إِلَيْهِمْ عُمَرُ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ فِي خَيْلٍ، فَاقْتَتَلُوا
فَقُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَرَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ
الْمَاحُوزِ قِتَالَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: إِنَّ عُمَرَ
مَأْثُورٌ فَلَا نُقَاتِلُهُ. فَأَبَى فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ مِنْ
فُرْسَانِ الْخَوَارِجِ تِسْعُونَ رَجُلًا، وَطَعَنَ عُمَرُ صَالِحَ
بْنَ مُخَارِقٍ، فَشَتَرَ عَيْنَهُ، وَضَرَبَ قَطَرِيًّا عَلَى
جَبِينِهِ فَفَلَقَهُ، وَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ وَسَارُوا إِلَى
سَابُورَ، فَعَادَ عُمَرُ وَلَقِيَهُمْ بِهَا وَمَعَهُ مُجَّاعَةُ بْنُ
سِعْرٍ، فَقَتَلَ مُجَّاعَةُ بِعَمُودٍ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ، وَكَادَ عُمَرُ يَهْلِكُ فِي هَذِهِ
الْوَقْعَةِ، فَدَافَعَ عَنْهُ مُجَّاعَةُ، فَوَهَبَ لَهُ عُمَرُ
تِسْعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ: قَدْ ذُدْتُ
عَادِيَةَ الْكَتِيبَةِ عَنْ فَتًى قَدْ كَادَ يُتْرَكُ لَحْمُهُ
أَقْطَاعَا
وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، فَسَارُوا وَقَطَعُوا قَنْطَرَةً بَيْنَهُمَا
لِيَمْتَنِعَ مِنْ طَلَبِهِمْ، وَقَصَدُوا نَحْوَ أَصْبَهَانَ،
فَأَقَامُوا عِنْدَهَا حَتَّى قَوَوْا وَاسْتَعَدُّوا، ثُمَّ
أَقْبَلُوا حَتَّى مَرُّوا بِفَارِسَ وَبِهَا عُمَرُ، فَقَطَعُوهَا فِي
غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمْ بِهِ، أَخَذُوا عَلَى سَابُورَ، ثُمَّ
عَلَى أَرَّجَانَ، حَتَّى أَتَوُا الْأَهْوَازَ.
فَقَالَ مُصْعَبٌ: الْعَجَبُ لِعُمَرَ! قَطَعَ الْعَدُوُّ الَّذِي هُوَ
بِصَدَدِ مُحَارَبَتِهِ أَرْضَ فَارِسَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَلَوْ
قَاتَلَهُمْ وَفَرَّ كَانَ أَعْذَرَ لَهُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا
ابْنَ مَعْمَرٍ مَا أَنْصَفْتَنِي، تَجْبِي الْفَيْءَ وَتَحِيدُ عَنِ
الْعَدُوِّ، فَاكْفِنِي أَمْرَهُمْ.
فَسَارَ عُمَرُ مِنْ فَارِسَ فِي أَثَرِهِمْ مُجِدًّا يَرْجُو أَنْ
يَلْحَقَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْعِرَاقَ، وَخَرَجَ مُصْعَبٌ
فَعَسْكَرَ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَكْبَرِ، وَعَسْكَرَ النَّاسُ مَعَهُ،
وَبَلَغَ الْخَوَارِجَ وَهُمْ بِالْأَهْوَازِ إِقْبَالُ عُمَرَ
إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ مُصْعَبًا قَدْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ
إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْمَاحُوزِ: مِنْ سُوءِ
الرَّأْيِ وُقُوعُكُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّوْكَتَيْنِ، انْهَضُوا
بِنَا إِلَى عَدُوِّنَا نَلْقَهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. فَسَارَ
بِهِمْ فَقَطَعَ بِهِمْ أَرْضَ جُوخَى وَالنَّهْرَوَانَاتِ، فَأَتَى
الْمَدَائِنَ وَبِهَا كَرْدَمُ بْنُ مَرْثَدٍ الْقُرَادِيُّ، فَشَنُّوا
الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ، وَيَشُقُّونَ أَجْوَافَ الْحُبَالَى.
فَهَرَبَ كَرْدَمُ، وَأَقْبَلُوا إِلَى سَابَاطَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ
فِي النَّاسِ يَقْتُلُونَ، وَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً إِلَى الْكَرْخِ،
فَلَقُوا أَبَا بَكْرِ بْنَ مِخْنَفٍ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا
شَدِيدًا، فَقُتِلَ أَبُو بَكْرٍ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَأَفْسَدَ
الْخَوَارِجُ فِي الْأَرْضِ.
فَأَتَى أَهْلُ الْكُوفَةِ أَمِيرَهُمْ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي
رَبِيعَةَ، وَلَقَبُهُ الْقُبَاعُ، فَصَاحُوا بِهِ
(3/343)
وَقَالُوا: اخْرُجْ فَإِنَّ الْعَدُوَّ
قَدْ أَظَلَّ عَلَيْنَا لَيْسَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ. فَخَرَجَ حَتَّى
نَزَلَ النُّخَيْلَةَ فَأَقَامَ أَيَّامًا، فَوَثَبَ إِلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَحَثَّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، فَسَارَ
حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى
دَخَلَ إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ،
فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ بُطْءَ مَسِيرِهِ رَجَزُوا بِهِ فَقَالُوا:
سَارَ بِنَا الْقُبَاعُ سَيْرًا نُكْرَا ... يَسِيرُ يَوْمًا وَيُقِيمُ
شَهْرَا
فَسَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَكَانَ كُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلًا
أَقَامَ بِهِ حَتَّى يَصِيحَ بِهِ النَّاسُ، فَبَلَغَ الْفُرَاتَ فِي
بِضْعَةِ عَشْرَ يَوْمًا، فَأَتَاهَا وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهَا
الْخَوَارِجُ، فَقَطَعُوا الْجِسْرَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَأَخَذُوا
رَجُلًا اسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ يَزِيدَ وَمَعَهُ بِنْتٌ لَهُ،
فَأَخَذُوهَا لِيَقْتُلُوهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ: يَا أَهْلَ
الْإِسْلَامِ! إِنَّ أَبِي مُصَابٌ فَلَا تَقْتُلُوهُ، وَأَمَّا أَنَا
فَجَارِيَةٌ، وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ فَاحِشَةً قَطُّ، وَلَا آذَيْتُ
جَارَةً لِي، وَلَا تَطَلَّعْتُ وَلَا تَشَرَّفْتُ قَطُّ. فَلَمَّا
أَرَادُوا قَتْلَهَا سَقَطَتْ مَيِّتَةً، فَقَطَّعُوهَا
بِأَسْيَافِهِمْ، وَبَقِيَ سِمَاكٌ مَعَهُمْ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى
الصَّرَاةِ، فَاسْتَقْبَلَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَنَادَاهُمُ: اعْبُرُوا
إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَلِيلٌ خَبِيثٌ. فَضَرَبُوا عُنُقَهُ
وَصَلَبُوهُ.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ لِلْحَارِثِ: انْدُبْ مَعِيَ
النَّاسَ حَتَّى أَعْبُرَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ فَأَجِيئَكَ
بِرُءُوسِهِمْ. فَقَالَ شَبَثٌ، وَأَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ، وَيَزِيدُ
بْنُ الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ: أَصْلَحَ
اللَّهُ الْأَمِيرَ، دَعْهُمْ فَلْيَذْهَبُوا. وَكَأَنَّهُمْ حَسَدُوا
إِبْرَاهِيمَ.
فَلَمَّا رَأَى الْخَوَارِجُ كَثْرَةَ النَّاسِ قَطَعُوا الْجِسْرَ،
وَاغْتَنَمَ ذَلِكَ الْحَارِثُ فَتَحَبَّسَ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ
فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْقِتَالِ الرَّمْيَةُ
بِالنَّبْلِ وَإِشْرَاعُ الرِّمَاحِ وَالطَّعْنُ، ثُمَّ الطَّعْنُ
شَزْرًا، ثُمَّ السَّلَّةُ آخِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:
قَدْ أَحْسَنَ الْأَمِيرُ الصِّفَةَ، وَلَكِنْ مَتَى نَصْنَعُ هَذَا
وَهَذَا الْبَحْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَمُرْ بِهَذَا الْجِسْرِ
فَلْيُعْقَدْ، ثُمَّ عَبِّرْنَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُرِيكَ
مَا تُحِبُّ.
(3/344)
فَعَقَدَ الْجِسْرَ وَعَبَرَ النَّاسُ،
فَطَارَدَ الْخَوَارِجَ حَتَّى أَتَوُا الْمَدَائِنَ، وَطَارَدَتْ
بَعْضُ خَيْلِهِمْ عِنْدَ الْجِسْرِ طِرَادًا ضَعِيفًا فَرَجَعُوا،
فَأَتْبَعَهُمُ الْحَارِثُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ فِي
سِتَّةِ آلَافٍ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَقَالَ لَهُ:
إِذَا وَقَعُوا فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ فَاتْرُكْهُمْ. فَسَارَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ يَتْبَعُهُمْ حَتَّى وَقَعُوا فِي أَرْضٍ أَصْبَهَانَ،
فَرَجَعَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَقَصَدُوا الرَّيَّ
وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ،
فَقَاتَلَهُمْ، فَأَعَانَ أَهْلُ الرَّيِّ الْخَوَارِجَ، فَقُتِلَ
يَزِيدُ وَهَرَبَ ابْنُهُ حَوْشَبٌ، وَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَدْفَعَ
عَنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
فَلَوْ كَانَ حُرًّا حَوْشَبٌ ذَا حَفِيظَةٍ ... رَأَى مَا رَأَى فِي
الْمَوْتِ عِيسَى بْنُ مُصْعَبِ
يَعْنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مُصْعَبٍ لَمْ يَفِرَّ عَنْ أَبِيهِ، بَلْ
قَاتَلَ عَنْهُ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا وَعِنْدَهُ حَوْشَبٌ هَذَا
وَعِكْرِمَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ؟
فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَرَسُ حَوْشَبٍ، فَإِنَّهُ نَجَا عَلَيْهِ يَوْمَ
الرَّيِّ. وَقَالَ بِشْرٌ أَيْضًا يَوْمًا: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى
بَغْلَةٍ قَوِيَّةِ الظَّهْرِ؟ فَقَالَ حَوْشَبٌ: بَغْلَةُ وَاصِلِ
بْنِ مُسَافِرٍ. كَانَ عِكْرِمَةُ يُتَّهَمُ بِامْرَأَةِ وَاصِلٍ،
فَتَبَسَّمَ بِشْرٌ وَقَالَ: لَقَدِ انْتَصَفْتَ.
وَلَمَّا فَرَغَ الْخَوَارِجُ مِنَ الرَّيِّ انْحَطُّوا إِلَى
أَصْبَهَانَ، فَحَاصَرُوهَا وَبِهَا عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَصَبَرَ
لَهُمْ، وَكَانَ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، وَيَرْمُونَ
مِنَ السُّورِ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. وَكَانَ مَعَ عَتَّابٍ
رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَكَانَ
يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ:
كَيْفَ تَرَوْنَ يَا كِلَابَ النَّارِ ... شَدَّ أَبِي هُرَيْرَةَ
الْهَرَّارِ
يُهِرُّكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... يَا ابْنَ أَبِي الْمَاحُوزِ
وَالْأَشْرَارِ
كَيْفَ تَرَى حَرْبِي عَلَى الْمِضْمَارِ
فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى الْخَوَارِجِ كَمُنَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ
ذَاتَ يَوْمٍ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ
فَصَرَعَهُ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَدَاوُوهُ حَتَّى بَرِأَ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى عَادَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ أَقَامَتْ عَلَيْهِمْ أَشْهُرًا حَتَّى
نَفِدَتْ أَطْعِمَتُهُمْ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ،
وَأَصَابَهُمُ الْجُهْدُ الشَّدِيدُ، فَقَالَ لَهُمْ عَتَّابٌ:
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْجُهْدِ مَا تَرَوْنَ،
وَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ،
فَيَدْفِنَهُ أَخُوهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ فَلَا
يَجِدُ مَنْ يَدْفِنُهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَاللَّهِ مَا
أَنْتُمْ بِالْقَلِيلِ، وَإِنَّكُمُ الْفُرْسَانُ الصُّلَحَاءُ،
فَاخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَبِكُمْ قُوَّةٌ وَحَيَاةٌ، قَبْلَ
أَنْ تَضْعُفُوا عَنِ الْحَرَكَةِ مِنَ الْجُهْدِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي
لَأَرْجُو إِنْ صَدَقْتُمُوهُمْ أَنْ تَظْفَرُوا بِهِمْ. فَأَجَابُوهُ
إِلَى ذَلِكَ.
(3/345)
ذِكْرُ قَتْلِ ابْنِ الْمَاحُوزِ
وَإِمَارَةِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ
لَمَّا أَمَرَ عَتَّابٌ أَصْحَابَهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ
وَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ جَمَعَ النَّاسَ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِطَعَامٍ
كَثِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَ حِينَ أَصْبَحَ، فَأَتَى الْخَوَارِجَ وَهُمْ
آمِنُونَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ
مِنْ عَسْكَرِهِمْ، وَانْتَهَوْا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْمَاحُوزِ،
فَنَزَلَ فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،
وَانْحَازَتِ الْأَزَارِقَةُ إِلَى قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ
الْمَازِنِيِّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو نَعَامَةَ، فَبَايَعُوهُ، وَأَصَابَ
عَتَّابٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَسْكَرِهِ مَا شَاءُوا، وَجَاءَ
قَطَرِيٌّ فَنَزَلَ فِي عَسْكَرِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ سَارَ عَنْ
أَصْبَهَانَ وَتَرَكَهَا، وَأَتَى نَاحِيَةَ كَرْمَانَ وَأَقَامَ بِهَا
حَتَّى اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَجَبَى الْمَالَ
وَقَوِيَ. ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ، ثُمَّ أَتَى إِلَى أَرْضِ
الْأَهْوَازِ، فَأَقَامَ بِهَا وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ
عَامِلُ مُصْعَبٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ إِلَى مُصْعَبٍ
يُخْبِرُهُ بِالْخَوَارِجِ وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا
الْمُهَلَّبُ. فَبَعَثَ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ
وَالْجَزِيرَةِ فَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَبَعَثَ إِلَى
الْمَوْصِلِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَجَاءَ الْمُهَلَّبُ
إِلَى الْبَصْرَةِ، وَانْتَخَبَ النَّاسَ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ
الْخَوَارِجِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى الْتَقَوْا
بِسُولَافَ، فَاقْتَتَلُوا بِهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ أَشَدَّ قِتَالٍ
رَآهُ النَّاسُ.
ذِكْرُ حِصَارِ الرَّيِّ
وَفِيهَا أَمَرَ مُصْعَبٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ،
عَامِلَهُ عَلَى أَصْبَهَانَ، بِالْمَسِيرِ إِلَى الرَّيِّ وَقِتَالِ
أَهْلِهَا لِمُسَاعَدَتِهِمُ الْخَوَارِجَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ، وَامْتِنَاعِهِمْ مِنْ مَدِينَتِهِمْ،
فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَتَّابٌ فَنَازَلَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ وَعَلَيْهِمُ
الْفَرُّخَانُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ عَتَّابٌ بِالْقِتَالِ،
فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَغَنِمَ مَا فِيهَا، وَافْتَتَحَ سَائِرَ
قِلَاعِ نَوَاحِيهَا.
وَفِيهَا كَانَ بِالشَّامِ قَحْطٌ شَدِيدٌ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَمْ
يَقْدِرُوا مِنْ شِدَّتِهِ عَلَى الْغَزْوِ.
وَفِيهَا عَسْكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِبُطْنَانَ
[حَبِيبٍ] ، وَهُوَ قَرِيبٌ [مِنْ] قِنَّسْرِينَ، وَشَتَّى بِهَا ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ.
ذِكْرُ خَبَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ وَمَقْتَلِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُرِّ
الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ صَلَاحًا وَفَضْلًا
وَاجْتِهَادًا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ
عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قَصَدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ مَعَهُ
(3/346)
لِمَحَبَّتِهِ عُثْمَانَ، وَشَهِدَ مَعَهُ
صِفِّينَ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، وَأَقَامَ عُبَيْدُ اللَّهِ
عِنْدَ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ بِالْكُوفَةِ، فَلَمَّا
طَالَتْ غَيْبَتُهُ زَوَّجَهَا أَخُوهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ
عِكْرِمَةُ بْنُ الْخَبِيصِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ،
فَأَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ، فَخَاصَمَ عِكْرِمَةَ إِلَى عَلِيٍّ،
فَقَالَ لَهُ: ظَاهَرْتَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا فَغُلْتَ. فَقَالَ لَهُ:
أَيَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ عَدْلِكَ؟ قَالَ: لَا، فَقَصَّ عَلَيْهِ
قِصَّتَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَتْ حُبْلَى،
فَوَضَعَهَا عِنْدَ مَنْ يَثِقُ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْ، فَأَلْحَقَ
الْوَلَدَ بِعِكْرِمَةَ، وَدَفَعَ الْمَرْأَةَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَعَادَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ،
فَلَمَّا قُتِلَ أَقْبَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَتَى إِخْوَانَهُ
فَقَالَ: مَا أَرَى أَحَدًا يَنْفَعُهُ اعْتِزَالُهُ، كُنَّا
بِالشَّامِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ كَيْتُ وَكَيْتُ،
فَقَالُوا: وَكَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ كَيْتُ وَكَيْتُ، وَكَانُوا
يَلْتَقُونَ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَقُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ لَمْ
يَكُنْ عُبَيْدُ اللَّهِ فِيمَنْ حَضَرَ قَتْلَهُ، يَغِيبُ عَنْ ذَلِكَ
تَعَمُّدًا، فَلَمَّا قُتِلَ جَعَلَ ابْنُ زِيَادٍ يَتَفَقَّدُ
الْأَشْرَافَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ
بْنَ الْحُرِّ، ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ
فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كُنْتَ يَا ابْنَ الْحُرِّ؟ قَالَ: كُنْتُ
مَرِيضًا. قَالَ: مَرِيضَ الْقَلْبِ أَمْ مَرِيضَ الْبَدَنِ؟ فَقَالَ:
أَمَّا قَلْبِي فَلَمْ يَمْرَضْ، وَأَمَّا بَدَنِي فَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيَّ بِالْعَافِيَةِ. قَالَ ابْنُ زِيَادٍ: كَذَبْتَ،
وَلَكِنَّكَ كُنْتَ مَعَ عَدُوِّنَا. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَهُ
لَرَأَى مَكَانِي.
وَغَفَلَ عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَخَرَجَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ
طَلَبَهُ ابْنُ زِيَادٍ فَقَالُوا: رَكِبَ السَّاعَةَ. فَقَالَ:
عَلَيَّ بِهِ. فَأَحْضَرَ الشُّرَطُ خَلْفَهُ، فَقَالُوا: أَجِبِ
الْأَمِيرَ. فَقَالَ: أَبْلِغُوهُ عَنِّي أَنِّي لَا آتِيهِ طَائِعًا
أَبَدًا. ثُمَّ أَجْرَى فَرَسَهُ، وَأَتَى مَنْزِلَ أَحْمَدَ بْنِ
زِيَادٍ الطَّائِيِّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ خَرَجَ
حَتَّى أَتَى كَرْبِلَاءَ، فَنَظَرَ إِلَى مُصَارِعِ الْحُسَيْنِ
وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، ثُمَّ مَضَى إِلَى
الْمَدَائِنِ وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
يَقُولُ أَمِيرٌ غَادِرٌ وَابْنُ غَادِرٍ
:
أَلَا كُنْتَ قَاتَلْتَ الْحُسَيْنَ بْنَ فَاطِمَهْ ... وَنَفْسِي
عَلَى خِذْلَانِهِ وَاعْتِزَالِهِ
وَبَيْعَةِ هَذَا النَّاكِثِ الْعَهْدَ لَائِمَهْ ... فَيَا نَدَمِي
أَنْ لَا أَكُونَ نَصَرْتُهُ
أَلَا كُلُّ نَفْسٍ لَا تُشَدِّدُ نَادِمَهْ ... وَإِنِّي لِأَنِّي
لَمْ أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهِ
لَذُو حَسْرَةٍ أَنْ لَا تُفَارِقَ لَازِمَهْ
(3/347)
سَقَى اللَّهُ أَرْوَاحَ الَّذِينَ
تَبَادَرُوا ... إِلَى نَصْرِهِ سُقْيًا مِنَ الْغَيْثِ دَائِمَهْ
وَقَفْتُ عَلَى أَجْدَاثِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ ... فَكَادَ الْحَشَا
يَنْقَضُّ وَالْعَيْنُ سَاجِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا مَصَالِيتَ فِي الْوَغَى ... سِرَاعًا إِلَى
الْهَيْجَا حُمَاةً خَضَارِمَهْ
تَأَسَّوْا عَلَى نَصْرِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ ... بِأَسْيَافِهِمْ
آسَادُ غِيلٍ ضَرَاغِمَهْ
فَإِنْ يَقْتُلُوا فِي كُلِّ نَفْسٍ بَقِيَّةً ... عَلَى الْأَرْضِ
قَدْ أَضْحَتْ لِذَلِكَ وَاجِمَهْ
وَمَا إِنْ رَأَى الرَّاءُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمُ ... لَدَى الْمَوْتِ
سَادَاتٍ وَزُهْرًا قَمَاقِمَهْ
يُقَتِّلُهُمْ ظُلْمًا وَيَرْجُو وِدَادَنَا ... فَدَعْ خُطَّةً
لَيْسَتْ لَنَا بِمُلَائِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ رَاغَمْتُمُونَا بِقَتْلِهِمْ ... فَكَمْ نَاقِمٍ
مِنَّا عَلَيْكُمْ وَنَاقِمَهْ
أَهِمُّ مِرَارًا أَنْ أَسِيرَ بِجَحْفَلٍ إِلَى فِئَةٍ ... زَاغَتْ
عَنِ الْحَقِّ ظَالِمَهْ فَكُفُّوا وَإِلَّا زِدْتُكُمْ
فِي كَتَائِبٍ أَشُدَّ عَلَيْكُمْ مِنْ زُحُوفِ الدَّيَالِمَهْ
وَأَقَامَ ابْنُ الْحُرِّ بِمَنْزِلِهِ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ إِلَى
أَنْ مَاتَ يَزِيدُ وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَقَالَ: مَا أَرَى
قُرَيْشًا تُنْصِفُ، أَيْنَ أَبْنَاءُ الْحَرَائِرِ؟ فَأَتَاهُ كُلُّ
خَلِيعٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَلَمْ يَدَعْ مَالًا قُدِمَ
بِهِ لِلسُّلْطَانِ إِلَّا أَخَذَ مِنْهُ عَطَاءَهُ وَعَطَاءَ
أَصْحَابِهِ، وَيَكْتُبُ لِصَاحِبِ الْمَالِ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَعَلَ
يَتَقَصَّى الْكُوَرَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ
يَتَعَرَّضْ لِمَالِ أَحَدٍ وَلَا ذِمَّةٍ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
حَتَّى ظَهَرَ الْمُخْتَارُ وَسَمِعَ مَا يَعْمَلُ فِي السَّوَادِ،
فَأَخَذَ امْرَأَتَهُ فَحَبَسَهَا، فَأَقْبَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي
أَصْحَابِهِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَكَسَرَ بَابَ السِّجْنِ
وَأَخْرَجَهَا، وَأَخْرَجَ كُلَّ امْرَأَةٍ فِيهِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ تَوْبَةَ أَنَّنِي ... أَنَا الْفَارِسُ
الْحَامِي حَقَائِقَ مَذْحِجِ
(3/348)
وَأَنِّي صَبَحْتُ السِّجْنَ فِي سَوْرَةِ
الضُّحَى
بِكُلِّ فَتًى حَامِي الذِّمَارِ مُدَجَّجِ ... فَمَا إِنْ بَرِحْنَا
السَّجْنَ حَتَّى بَدَا لَنَا
جَبِينٌ كَقَرْنِ الشَّمْسِ غَيْرُ مُشَنَّجِ ... وَخَدٌّ أَسِيلٌ عَنْ
فَتَاةٍ حَبِيبَةٍ
إِلَيْنَا سَقَاهَا كُلُّ دَانٍ مُشَجَّجِ ... فَمَا الْعَيْشُ إِلَّا
أَنْ أَزُورَكِ آمِنًا
كَعَادَتِنَا مِنْ قَبْلِ حَرْبِي وَمُخْرَجِي ... وَمَا زِلْتُ
مَحْبُوسًا لِحَبْسِكِ وَاجِمًا
وَإِنِّي بِمَا تَلْقِينَ مِنْ بَعْدِهِ شَجِي
وَهِيَ طَوِيلَةٌ.
وَجَعَلَ يَعْبَثُ بِعُمَّالِ الْمُخْتَارِ وَأَصْحَابِهِ،
فَأُحْرِقَتْ بِهَمَذَانَ دَارُهُ، وَنَهَبُوا ضَيْعَتَهُ، فَسَارَ
عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى ضِيَاعِ هَمَذَانَ، فَنَهَبَهَا جَمِيعَهَا،
وَكَانَ يَأْتِي الْمَدَائِنَ فَيَمُرُّ بِعُمَّالِ جُوخَى، فَيَأْخُذُ
مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ يَمِيلُ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمْ
يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ الْمُخْتَارُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ بَايَعَ الْمُخْتَارَ بَعْدَ امْتِنَاعٍ، وَأَرَادَ
الْمُخْتَارُ أَنْ يَسْطُوَ بِهِ فَامْتَنَعَ لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ الْأَشْتَرِ. ثُمَّ سَارَ مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى
الْمَوْصِلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالَ ابْنِ زِيَادٍ، أَظْهَرَ
الْمَرَضَ. ثُمَّ فَارَقَ ابْنَ الْأَشْتَرِ وَأَقْبَلَ فِي
ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَأَخَذَ مَا
فِي بَيْتِ مَالِهَا. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُخْتَارُ
بِهَدْمِ دَارِهِ وَأَخْذِ امْرَأَتِهِ، فَفَعَلَ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ. وَحَضَرَ مَعَ مُصْعَبٍ قِتَالَ الْمُخْتَارِ وَقَتْلَهُ،
فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ قَالَ النَّاسُ لِمُصْعَبٍ فِي
وِلَايَتِهِ الثَّانِيَةِ: إِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَثِبَ ابْنُ
الْحُرِّ بِالسَّوَادِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بِابْنِ زِيَادٍ
وَالْمُخْتَارِ، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ:
فَمَنْ مُبْلِغُ الْفِتْيَانِ أَنَّ أَخَاهُمُ ... أَتَى دُونَهُ بَابٌ
شَدِيدٌ وَحَاجِبُهْ
بِمَنْزِلَةٍ مَا كَانَ يَرْضَى بِمِثْلِهَا ... إِذَا قَامَ عَنَّتْهُ
كُبُولٌ تُجَاذِبُهْ
عَلَى السَّاقِ فَوْقَ الْكَعْبِ أَسْوَدُ صَامِتٌ ... شَدِيدٌ
يُدَانِي خَطْوَهُ وَيُقَارِبُهْ
وَمَا كَانَ ذَا مِنْ عُظْمِ جُرْمٍ ... جَرَمْتُهُ وَلَكِنْ سَعَى
السَّاعِي بِمَا هُوَ كَاذِبُهْ
(3/349)
وَقَدْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ
مَسْلَكٌ
وَأَيُّ امْرِئٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُهْ
وَقَالَ:
بِأَيِّ بَلَاءٍ أَمْ بِأَيَّةِ نِعْمَةٍ ... تَقَدَّمَ قَبْلِي
مُسْلِمٌ وَالْمُهَلَّبُ
؟
يَعْنِي مُسْلِمَ بْنَ عَمْرٍو وَالِدَ قُتَيْبَةَ، وَالْمُهَلَّبَ
بْنَ أَبِي صُفْرَةَ.
وَكَلَّمَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَوْمًا مِنْ وُجُوهِ مَذْحِجٍ
لِيَشْفَعُوا لَهُ إِلَى مُصْعَبٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى فِتْيَانِ
مَذْحِجٍ وَقَالَ: الْبَسُوا السِّلَاحَ وَاسْتُرُوهُ، فَإِنْ
شَفَّعَهُمْ مُصْعَبٌ فَلَا تَعْتَرِضُوا لِأَحَدٍ، وَإِنْ خَرَجُوا
وَلَمْ يُشَفِّعْهُمْ فَاقْصِدُوا السِّجْنَ، فَإِنِّي سَأُعِينُكُمْ
مِنْ دَاخِلٍ.
فَلَمَّا شَفَعَ أُولَئِكَ النَّفَرُ فِيهِ شَفَّعَهُمْ مُصْعَبٌ
وَأَطْلَقَهُ، فَأَتَى مَنْزِلَهُ وَأَتَاهُ النَّاسُ يُهَنِّئُونَهُ،
فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمِثْلِ
الْخُلَفَاءِ الْمَاضِينَ الْأَرْبَعَةِ، وَلَمْ نَرَ لَهُمْ فِينَا
شَبِيهًا فَنُلْقِي إِلَيْهِ أَزِمَّتَنَا، فَإِنْ كَانَ مَنْ عَزَّ
بَزَّ فَعَلَامَ نَعْقِدُ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةً، وَلَيْسُوا
بِأَشْجَعَ مِنَّا لِقَاءً وَلَا أَعْظَمَ مَنَاعَةً؟ وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ
لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -» ، وَكُلُّهُمْ عَاصٍ
مُخَالِفٌ، قَوِيُّ الدُّنْيَا ضَعِيفُ الْآخِرَةِ، فَعَلَامَ
تُسْتَحَلُّ حُرْمَتُنَا وَنَحْنُ أَصْحَابُ النُّخَيْلَةِ
وَالْقَادِسِيَّةِ وَجَلُولَاءَ وَنَهَاوَنْدَ؟ نَلْقَى الْأَسِنَّةَ
بِنُحُورِنَا، وَالسُّيُوفَ بِجِبَاهِنَا، ثُمَّ لَا يُعْرَفُ حَقُّنَا
وَفَضْلُنَا؟ فَقَاتِلُوا عَنْ حَرِيمِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ قَلَبْتُ
ظَهْرَ الْمِجَنِّ، وَأَظْهَرْتُ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ. وَخَرَجَ عَنِ الْكُوفَةِ وَحَارَبَهُمْ وَأَغَارَ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ سَيْفَ بْنَ هَانِئٍ الْمُرَادِيَّ،
فَعَرَضَ عَلَيْهِ خَرَاجَ بَادُورَيَا وَغَيْرِهَا، وَيَدْخُلُ فِي
الطَّاعَةِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ
الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ الرِّيَاحِيَّ فَقَاتَلَهُ، فَهَزَمَهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ وَضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
أَيْضًا حُرَيْثَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَتَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ مُصْعَبٌ الْحَجَّاجَ بْنَ جَارِيَةَ الْخَثْعَمِيَّ
وَمُسْلِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَلَقِيَاهُ بِنَهْرِ صَرْصَرَ،
فَقَاتَلَهُمَا فَهَزَمَهُمَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ يَدْعُوهُ
إِلَى الْأَمَانِ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ يُوَلِّيَهُ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ،
فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَتَى نَرْسَى فَفَرَّ دِهْقَانُهَا بِمَالِ
الْفَلُّوجَةِ، فَتَبِعَهُ ابْنُ الْحُرِّ حَتَّى مَرَّ بِعَيْنِ
تَمْرٍ وَعَلَيْهَا بِسْطَامُ بْنُ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ
الشَّيْبَانِيُّ، فَالْتَجَأَ إِلَيْهِمُ الدِّهْقَانُ، فَخَرَجُوا
إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَاتَلُوهُ، وَوَافَاهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ
جَارِيَةَ الْخَثْعَمِيُّ فَحَمَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَسَرَهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَسَرَ أَيْضًا بِسْطَامَ بْنَ مَصْقَلَةَ وَنَاسًا
كَثِيرًا، وَبَعَثَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَخَذُوا الْمَالَ
الَّذِي مَعَ الدِّهْقَانِ، وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى.
(3/350)
ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ أَتَى
تَكْرِيتَ، فَأَقَامَ يَجْبِي الْخَرَاجَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ
الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ الرِّيَاحِيَّ، وَالْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ
الْهَمْدَانِيَّ، فِي أَلْفٍ، وَأَمَدَّهُمُ الْمُهَلَّبُ بِيَزِيدَ
بْنِ الْمُغَفَّلِ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: قَدْ أَتَاكَ جَمْعٌ كَثِيرٌ فَلَا
تُقَاتِلْهُمْ. فَقَالَ:
يُخَوِّفُنِي بِالْقَتْلِ قَوْمِي وَإِنَّمَا ... أَمُوتُ إِذَا جَاءَ
الْكِتَابُ الْمُؤَجَّلُ
لَعَلَّ الْقَنَا تُدْنِي بِأَطْرَافِهَا الْغِنَى ... فَنَحْيَا
كِرَامًا أَوْ نَكُرَّ فَنُقْتَلُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفَقْرَ يُزْرِي بِأَهْلِهِ ... وَأَنَّ الْغِنَى
فِيهِ الْعُلَى وَالتَّجَمُّلُ
وَإِنَّكَ إِلَّا تَرْكَبِ الْهَوْلَ لَا تَنَلْ ... مِنَ الْمَالِ مَا
يُرْضِي الصَّدِيقَ وَيَفْضُلُ
وَقَاتَلَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ يَوْمَيْنِ وَهُوَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ،
وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَسَاءِ تَحَاجَزُوا، وَخَرَجَ عُبَيْدُ
اللَّهِ مِنْ تَكْرِيتَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِرٌ بِكُمْ
إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَتَجَهَّزُوا، وَقَالَ: إِنِّي
خَائِفٌ أَنْ أَمُوتَ وَلَمْ أَذْعَرْ مُصْعَبًا وَأَصْحَابَهُ.
وَسَارَ نَحْوَ الْكُوفَةِ فَبَلَغَ كَسْكَرَ، فَأَخَذَ بَيْتَ
مَالِهَا، ثُمَّ أَتَى الْكُوفَةَ فَنَزَلَ بِحَمَّامِ جَرِيرٍ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
مَعْمَرٍ فَقَاتَلَهُ، (فَخَرَجَ إِلَى دَيْرِ الْأَعْوَرِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ مُصْعَبٌ حَجَّارَ بْنَ أَبْجَرَ، فَانْهَزَمَ حَجَّارٌ،
فَشَتَمَهُ مُصْعَبٌ وَضَمَّ إِلَيْهِ الْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ
الْهَمْدَانِيَّ وَعُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ،
فَقَاتَلُوهُ) بِأَجْمَعِهِمْ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي عَسْكَرِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ، وَعُقِرَتْ خُيُولُهُمْ، فَانْهَزَمَ
حَجَّارٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى
أَمْسَوْا، وَخَرَجَ ابْنُ الْحُرِّ مِنَ الْكُوفَةِ.
وَكَتَبَ مُصْعَبٌ إِلَى زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ
الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ، يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ ابْنِ
الْحُرِّ، فَقَدَّمَ ابْنَهُ حَوْشَبًا، فَلَقِيَهُ بِبَاجِسْرَى،
فَهَزَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَأَقْبَلَ ابْنُ
الْحُرِّ إِلَى الْمَدَائِنِ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، فَخَرَجَ عُبَيْدُ
اللَّهِ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيَّ
وَبِشْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيَّ، فَنَزَلَ الْجَوْنُ
بِحَوْلَايَا، وَقَدِمَ بِشْرٌ إِلَى تَامَرَّا فَلَقِيَ ابْنَ
الْحُرِّ، فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحُرِّ وَهَزَمَ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ
لَقِيَ الْجَوْنَ بْنَ كَعْبٍ بِحَوْلَايَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحُرِّ وَهَزَمَ
أَصْحَابَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ بَشِيرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
بَشِيرٍ الْعِجْلِيُّ، فَقَاتَلَهُ بِسُورَاءَ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَرَجَعَ عَنْهُ بَشِيرٌ، وَأَقَامَ ابْنُ
(3/351)
الْحُرِّ بِالسَّوَادِ، يُغِيرُ وَيَجْبِي
الْخَرَاجَ.
ثُمَّ لَحِقَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا صَارَ
إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ،
وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَالًا،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْحُرِّ لِيُوَجِّهَ مَعَهُ جُنْدًا يُقَاتِلُ
بِهِمْ مُصْعَبًا، فَقَالَ لَهُ: سِرْ بِأَصْحَابِكَ، وَادْعُ مَنْ
قَدَرْتَ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُمِدُّكَ بِالرِّجَالِ.
فَسَارَ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةٍ إِلَى
جَانِبِ الْأَنْبَارِ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ فِي إِتْيَانِ
الْكُوفَةِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا أَصْحَابَهُ
بِقُدُومِهِ لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَيْسِيَّةَ فَأَتَوُا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي
رَبِيعَةَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ
يُرْسِلَ مَعَهُمْ جَيْشًا يُقَاتِلُونَ عُبَيْدَ اللَّهِ،
وَيَغْتَنِمُونَ الْفُرْصَةَ فِيهِ بِتَفَرُّقِ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ
مَعَهُمْ جَيْشًا كَثِيفًا، فَسَارُوا فَلَقُوا ابْنَ الْحُرِّ،
فَقَالَ لِابْنِ الْحُرِّ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نَفَرٌ يَسِيرٌ، وَهَذَا
الْجَيْشُ لَا طَاقَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمْ.
وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا لَكَ يَوْمًا فَاتَ فِيهِ نَهْبِي ... وَغَابَ عَنِّي ثِقَتِي
وَصَحْبِي
ثُمَّ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَكَشَفُوا أَصْحَابَهُ وَحَاوَلُوا أَنْ
يَأْسِرُوهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ
فِي الذَّهَابِ، فَذَهَبُوا فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلَ
يُقَاتِلُ وَحْدَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ يُكَنَّى
أَبَا كُدَيَّةَ فَطَعَنَهُ، وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ وَيُكَتَّبُونَ
عَلَيْهِ، وَلَا يَدْنُونَ مِنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَهَذِهِ نَبْلٌ
أَمْ مَغَازِلُ؟ فَلَمَّا أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ خَاضَ إِلَى
مَعْبَرٍ هُنَاكَ، فَدَخَلَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فَرَسُهُ، فَرَكِبَ
السَّفِينَةَ وَمَضَى بِهِ الْمَلَّاحُ حَتَّى تَوَسَّطَ الْفُرَاتَ،
فَأَشْرَفَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ، وَكَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ
نَبَطٌ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ فِي السَّفِينَةِ طَلِبَةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ فَاتَكُمْ قَتَلْنَاكُمْ، فَوَثَبَ ابْنُ
الْحُرِّ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
عَظِيمُ الْخَلْقِ، فَقَبَضَ عَلَى يَدَيْهِ وَجِرَاحَاتُهُ تَجْرِي
دَمًا، وَضَرَبَهُ الْبَاقُونَ بِالْمَجَاذِيفِ، فَلَمَّا رَأَى
أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ نَحْوَ الْقَيْسِيَّةِ قَبَضَ عَلَى الَّذِي
مَعَهُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مَعَهُ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَا.
وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ يَغْشَى مُصْعَبَ بْنَ
الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ، فَرَآهُ يُقَدِّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ،
فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَصِيدَةً يُعَاتِبُ
فِيهَا مُصْعَبًا وَيُخَوِّفُهُ مَسِيرَهُ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ،
يَقُولُ فِيهَا:
أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً ... فَلَسْتُ عَلَى رَأْيٍ
قَبِيحٍ أُوَارِبُهْ
(3/352)
أَفِي الْحَقِّ أَنْ أُجْفَى وَيَجْعَلُ
مُصْعَبٌ ... وَزِيرًا لَهُ مَنْ كُنْتُ فِيهِ أُحَارِبُهْ
فَكَيْفَ وَقَدْ آتَيْتُكُمْ حَقَّ بَيْعَتِي ... وَحَقِّي يُلَوَّى
عِنْدَكُمْ وَأُطَالِبُهْ
وَأَبْلَيْتُكُمْ مَالًا يُضَيَّعُ مِثْلُهُ ... وَآسَيْتُكُمْ
وَالْأَمْرُ صَعْبٌ مَرَاتِبُهْ
فَلَمَّا اسْتَنَارَ الْمُلْكَ وَانْقَادَتِ الْعِدَى ... وَأُدْرِكَ
مِنْ مُلْكِ الْعِرَاقِ رَغَائِبُهْ
جَفَا مُصْعَبٌ عَنِّي وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ ... لَأَصْبَحَ فِيمَا
بَيْنَنَا لَا أُعَاتِبُهُ
لَقَدْ رَابَنِي مِنْ مُصْعَبٍ أَنَّ مُصْعَبًا ... أَرَى كُلَّ ذِي
غِشِّ لَنَا هُوَ صَاحِبُهُ
وَمَا أَنَا إِنْ حَلَأْتُمُونِي بِوَارِدٍ ... عَلَى كَدَرٍ قَدْ
غُصَّ بِالْمَاءِ شَارِبُهْ
وَمَا لِامْرِئٍ إِلَّا الَّذِي اللَّهُ سَائِقٌ ... إِلَيْهِ وَمَا
قَدْ خَطَّ فِي الزَّبْرِ كَاتِبُهْ
إِذَا قُمْتُ عِنْدَ الْبَابِ أَدْخَلَ مُسْلِمًا ... وَيَمْنَعُنِي
أَنْ أَدْخُلَ الْبَابَ حَاجِبُهْ
فَحَبَسَهُ مُصْعَبٌ، وَلَهُ مَعَهُ مُعَاتَبَاتٌ مِنَ الْحَبْسِ،
ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ قَصِيدَةً يَهْجُو فِيهَا قَيْسَ عَيْلَانَ،
مِنْهَا:
أَلَمْ تَرَ قَيْسًا قَيْسَ عَيْلَانَ بَرْقَعَتْ ... لِحَاهَا
وَبَاعَتْ نَبْلَهَا بِالْمَغَازِلِ
فَأَرْسَلَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيُّ إِلَى مُصْعَبٍ:
إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ قِتَالَ ابْنِ الزَّرْقَاءِ - يَعْنِي عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ - وَابْنُ الْحُرِّ يَهْجُو قَيْسًا، ثُمَّ
إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَسَرُوا ابْنَ الْحُرِّ، فَقَالَ:
إِنَّمَا قُلْتُ:
(3/353)
أَلَمْ تَرَ قَيْسًا قَيْسَ عَيْلَانَ
أَقْبَلَتْ ... وَسَارَتْ إِلَيْنَا فِي الْقَنَا وَالْقَنَابِلِ
فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَيَّاشٌ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
قِيلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَافَى عَرَفَاتٍ أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ:
لِوَاءٌ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ، وَلِوَاءٌ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ، وَلِوَاءٌ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَلِوَاءٌ
لِنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ وَلَا
فِتْنَةٌ، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَسْلَمَ
الْجَمَاعَةِ.
وَكَانَ الْعَامِلَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمَدِينَةِ هَذِهِ
السَّنَةَ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ مُصْعَبٌ أَخُوهُ، وَعَلَى قَضَاءِ
الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَى
قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
بِالشَّامِ مُشَاقِقًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَعُمُرُهُ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيهَا مَاتَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ
سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَعُمُرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَمَاتَ
أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، وَاسْمُهُ
خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الْكَعْبِيُّ.
(شُرَيْحٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ)
(3/354)
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبِ بْنِ
أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حَاطِبٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَبَلْتَعَةُ بِالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ، وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْعَيْنِ
الْمُهْمَلَةِ، الْمَفْتُوحَاتِ) .
(3/355)
|