الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَمِائَة]
117 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ
الْيُسْرَى، وَغَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى
مِنْ نَحْوِ الْجَزِيرَةِ، وَفَرَّقَ سَرَايَاهُ فِي أَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا بَعَثَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ عَلَى
إِرْمِينِيَّةَ، بَعْثَيْنِ، وَافْتَتَحَ أَحَدُهُمَا حُصُونًا
ثَلَاثَةً مِنَ اللَّانِ، وَنَزَلَ الْآخَرُ عَلَى تُومَانْشَاهْ،
فَنَزَلَ أَهْلُهَا عَلَى الصُّلْحِ.
ذِكْرُ عَزْلِ عَاصِمٍ عَنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَةِ أَسَدٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَاصِمَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، فَاسْتَخْلَفَ خَالِدٌ عَلَيْهَا أَخَاهُ أَسَدَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَاصِمًا كَتَبَ إِلَى هِشَامٍ: أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ خُرَاسَانَ
لَا تَصِحُّ إِلَّا [أَنْ] تُضَمَّ إِلَى [صَاحِبِ] الْعِرَاقِ،
فَتَكُونَ مَوَادُّهَا وَمَعُونَتُهَا مِنْ قَرِيبٍ لِتَبَاعُدِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ [عَنْهَا] وَتَبَاطُؤِ غِيَاثِهِ. فَضَمَّ
هِشَامٌ خُرَاسَانَ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ،
وَكَتَبَ إِلَيْهِ: ابْعَثْ أَخَاكَ يُصْلِحْ مَا أَفْسَدَ، فَإِنْ
كَانَ رَجِيَّةً كَانَتْ بِهِ. فَسَيَّرَ خَالِدٌ إِلَيْهَا أَخَاهُ
أَسَدًا.
فَلَمَّا بَلَغَ عَاصِمًا إِقْبَالُ أَسَدٍ، وَأَنَّهُ قَدْ سَيَّرَ
عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مُحَمَّدَ بْنَ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيَّ صَالَحَ
الْحَارِثَ بْنَ سُرَيْجٍ، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا عَلَى أَنْ
يَنْزِلَ الْحَارِثُ أَيَّ كُوَرِ خُرَاسَانَ شَاءَ، وَأَنْ يَكْتُبَا
جَمِيعًا إِلَى هِشَامٍ يَسْأَلَانِهِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أَبَى
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، فَخَتَمَ الْكِتَابَ بَعْضُ الرُّؤَسَاءِ،
وَأَبَى يَحْيَى بْنُ حُضَيْنِ بْنِ
(4/221)
الْمُنْذِرِ أَنْ يَخْتِمَ وَقَالَ: هَذَا
خَلْعٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَانْفَسَخَ ذَلِكَ.
وَكَانَ عَاصِمٌ بِقَرْيَةٍ بِأَعْلَى مَرْوَ، وَأَتَاهُ الْحَارِثُ
بْنُ سُرَيْجٍ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَانْهَزَمَ الْحَارِثُ وَأُسِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَسْرَى كَثِيرَةٌ،
مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمَازِنِيُّ رَأْسُ أَهْلِ
مَرْوِ الرُّوذِ، فَقَتَلَ عَاصِمٌ الْأَسْرَى، وَكَانَ فَرَسُ
الْحَارِثِ قَدْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ الْحَارِثُ، وَأَلَحَّ
عَلَى الْفَرَسِ بِالضَّرْبِ وَالْحُضْرِ لِيَشْغَلَهُ عَنْ أَثَرِ
الْجِرَاحَةِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ،
فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ مَالَ الْحَارِثُ عَنْ فَرَسِهِ ثُمَّ اتَّبَعَ
الشَّامِيَّ فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ فِي
دَمِي! فَقَالَ: انْزِلْ عَنْ فَرَسِكَ. فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ،
فَرَكِبَهُ الْحَارِثُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي
ذَلِكَ:
تَوَلَّتْ قُرَيْشٌ لَذَّةَ الْعَيْشِ وَاتَّقَتْ ... بِنَا كُلَّ
فَجٍّ مِنْ خُرَاسَانَ أَغْبَرَا
فَلَيْتَ قُرَيْشًا أَصْبَحُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ ... يَعُومُونَ فِي
لُجٍّ مِنَ الْبَحْرِ أَخْضَرَا
وَعَظَّمَ أَهْلُ الشَّامِ يَحْيَى بْنَ (حُضَيْنٍ لِمَا صَنَعَ فِي
نَقْضِ الْكِتَابِ، وَكَتَبُوا كِتَابًا بِمَا كَانَ وَبِهَزِيمَةِ
الْحَارِثِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَنْبَرِيِّ. فَلَقِيَ
أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِالرَّيِّ، وَقِيلَ بِبَيْهَقَ، فَكَتَبَ
إِلَى أَخِيهِ) يَنْتَحِلُ أَنَّهُ هَزَمَ الْحَارِثَ وَيُخْبِرُهُ
بِأَمْرِ يَحْيَى، فَأَجَازَ خَالِدٌ يَحْيَى بِعَشَرَةِ آلَافِ
(دِينَارٍ وَ [كَسَاهُ] مِائَةَ حُلَّةٍ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ عَاصِمٍ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ، فَحَبَسَهُ أَسَدٌ
وَحَاسَبَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ) وَقَالَ:
إِنَّكَ لَمْ تَفُزْ، وَأَطْلَقَ عُمَارَةَ بْنَ حُرَيْمٍ وَعُمَّالَ
الْجُنَيْدِ.
فَلَمَّا قَدِمَ أَسَدٌ لَمْ يَكُنْ لِعَاصِمٍ إِلَّا مَرْوُ
وَنَيْسَابُورُ، وَالْحَارِثُ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَخَالِدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْهَجَرِيُّ بِآمُلَ مُوَافِقٌ لِلْحَارِثِ، فَخَافَ
أَسَدٌ إِنْ قَصَدَ الْحَارِثَ بِمَرْوِ الرُّوذِ أَنْ يَأْتِيَ
الْهَجَرِيُّ مِنْ قِبَلِ آمُلَ، وَإِنْ قَصَدَ الْهَجَرِيَّ قَصَدَ
الْحَارِثُ مَرْوَ مِنْ قِبَلِ مَرْوِ الرُّوذِ. فَأَجْمَعَ عَلَى
تَوْجِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ
وَالشَّامِ إِلَى الْحَارِثِ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَسَارَ أَسَدٌ
بِالنَّاسِ إِلَى آمُلَ، فَلَقِيَهُ خَيْلُ آمُلَ عَلَيْهِمْ زِيَادٌ
الْقُرَشِيُّ مَوْلَى حَيَّانَ النَّبَطِيِّ وَغَيْرُهُ، فَهُزِمُوا
حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَحَصَرَهُمْ أَسَدٌ وَنَصَبَ
عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ وَعَلَيْهِمُ
(4/222)
الْهَجَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَارِثِ،
فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَسَدٌ: مَا
تَطْلُبُونَ؟ قَالُوا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا تَأْخُذَ أَهْلَ الْمُدُنِ
بِجِنَايَتِنَا. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ
يَحْيَى بْنَ نُعَيْمِ بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيَّ وَسَارَ
يُرِيدُ بَلْخًا، فَأُخْبِرَ أَنَّ أَهْلَهَا قَدْ بَايَعُوا
سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَسَارَ حَتَّى
قَدِمَهَا وَاتَّخَذَ سُفُنًا وَسَارَ مِنْهَا إِلَى تِرْمِذَ،
فَوَجَدَ الْحَارِثَ مُحَاصِرًا لَهَا، وَبِهَا سِنَانٌ
الْأَعْرَابِيُّ، فَنَزَلَ أَسَدٌ دُونَ النَّهْرِ وَلَمْ يُطِقِ
الْعُبُورَ إِلَيْهِمْ وَلَا يُمِدُّهُمْ، وَخَرَجَ أَهْلُ تِرْمِذَ
مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَاتَلُوا الْحَارِثَ قِتَالًا شَدِيدًا،
وَاسْتَطْرَدَ الْحَارِثُ لَهُمْ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ كَمِينًا،
فَتَبِعُوهُ، وَنَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مَعَ أَسَدٍ جَالِسٌ يَنْظُرُ،
فَأَظْهَرَ الْكَرَاهِيَةَ، وَعَرَفَ أَنَّ الْحَارِثَ قَدْ كَادَهُمْ،
وَظَنَّ أَسَدٌ أَنَّمَا ذَلِكَ شَفَقَةٌ عَلَى الْحَارِثِ حِينَ
وَلِيَ، وَأَرَادَ مُعَاتَبَةَ نَصْرٍ، وَإِذَا الْكَمِينُ قَدْ خَرَجَ
عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا.
ثُمَّ ارْتَحَلَ أَسَدٌ إِلَى بَلْخٍ، وَخَرَجَ أَهْلُ تِرْمِذَ إِلَى
الْحَارِثِ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ
الْبَصَائِرِ، مِنْهُمْ: عِكْرِمَةُ وَأَبُو فَاطِمَةَ. ثُمَّ سَارَ
أَسَدٌ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فِي طَرِيقِ زُمَّ، فَلَمَّا قَدِمَ زُمَّ
بَعَثَ إِلَى الْهَيْثَمِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ فِي حِصْنٍ مِنْ
حُصُونِهَا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَارِثِ، فَقَالَ لَهُ أَسَدٌ:
إِنَّمَا أَنْكَرْتُمْ [عَلَى قَوْمِكُمْ] مَا كَانَ مِنْ سُوءِ
السِّيرَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ السَّبْيَ وَاسْتِحْلَالَ
الْفُرُوجِ وَلَا غَلَبَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مِثْلِ سَمَرْقَنْدَ،
وَأَنَا أُرِيدُ سَمَرْقَنْدَ، وَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَذِمَّتُهُ أَنْ
لَا يَنَالَكَ مِنِّي شَرٌّ، وَلَكَ الْمُوَاسَاةُ وَالْكَرَامَةُ
وَالْأَمَانُ (وَلِمَنْ مَعَكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ مَا دَعَوْتُكَ
إِلَيْهِ فَعَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ أَنْتَ رُمِيتَ بِسَهْمٍ أَنْ
لَا أُؤَمِّنَكَ بَعْدَهُ، وَإِنْ جَعَلْتُ لَكَ أَلْفَ أَمَانٍ لَا
أَفِي لَكَ بِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلَى الْأَمَانِ) ، وَسَارَ
مَعَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ إِلَى وَرَغْسَرَ، وَمَاءِ
سَمَرْقَنْدَ مِنْهَا، فَسَكَّرَ الْوَادِيَ وَصَرَفَهُ عَنْ
سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلْخٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَمْرَ أَسَدٍ وَأَصْحَابِ الْحَارِثِ كَانَ سَنَةَ
ثَمَانِي عَشْرَةَ.
ذِكْرُ حَالِ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
جَمَاعَةً مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ، فَقَتَلَ
بَعْضَهُمْ وَمَثَّلَ بِبَعْضِهِمْ وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ، وَكَانَ
فِيمَنْ أَخَذَ: سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَمَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ، وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ،
وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَطَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ، فَأُتِيَ
بِهِمْ، فَقَالَ [لَهُمْ] : يَا فَسَقَةُ، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ
تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ
اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ؟
(4/223)
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: نَحْنُ
وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كَالْغَصَّانِ
بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي
صِيدَتْ وَاللَّهِ الْعَقَارِبُ بِيَدَيْكَ! إِنَّا نَاسٌ مِنْ
قَوْمِكَ! وَإِنَّ الْمُضَرِيَّةَ رَفَعُوا إِلَيْكَ هَذَا لِأَنَّا
كُنَّا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ فَطَلَبُوا
بِثَأْرِهِمْ. فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْحَبْسِ، ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَمُنَّ
بِهِمْ عَلَى عَشَائِرِهِمْ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَأَطْلَقَ مَنْ
كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ
مِنْ رَبِيعَةَ أَطْلَقَهُ أَيْضًا لِحِلْفِهِمْ مَعَ الْيَمَنِ،
وَأَرَادَ قَتْلَ مَنْ كَانَ مِنْ مُضَرَ، فَدَعَا مُوسَى بْنَ كَعْبٍ،
وَأَلْجَمَهُ بِلِجَامِ حِمَارٍ، جَذَبَ اللِّجَامَ فَتَحَطَّمَتْ
أَسْنَانُهُ وَدَقَّ وَجْهَهُ وَأَنْفَهُ، وَدَعَا لَاهِزَ بْنَ
قُرَيْظٍ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا بِحَقٍّ، تَصْنَعُ بِنَا هَذَا
وَتَتْرُكُ الْيَمَانِيِّينَ وَالرَّبِيعِيِّينَ؟ فَضَرَبَهُ
ثَلَاثَمِائَةِ سَوْطٍ، فَشَهِدَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ
الْأَزْدِيُّ بِالْبَرَاءَةِ وَلِأَصْحَابِهِ فَتَرَكَهُمْ.
ذِكْرُ وِلَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَبْحَابِ إِفْرِيقِيَّةَ
وَالْأَنْدَلُسَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى
إِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَبْحَابِ
وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى مِصْرَ،
فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ وَسَارَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ عُقْبَةَ بْنَ (الْحَجَّاجِ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى طَنْجَةَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَبَعَثَ حَبِيبَ
بْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ) نَافِعٍ غَازِيًا إِلَى
الْمَغْرِبِ، فَبَلَغَ السُّوسَ الْأَقْصَى وَأَرْضَ السُّودَانِ،
فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ إِلَّا ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَأَصَابَ مِنَ
الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ أَمْرًا عَظِيمًا، فَمُلِئَ أَهْلُ
الْمَغْرِبِ مِنْهُ رُعْبًا، وَأَصَابَ بِالسَّبْيِ جَارِيَتَيْنِ مِنَ
الْبَرْبَرِ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرُ ثَدْيٍ
وَاحِدٍ، وَرَجَعَ سَالِمًا. وَسَيَّرَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ سَنَةَ
سَبْعَ عَشْرَةَ إِلَى جَزِيرَةِ السَّرْدَانِيَّةِ، فَفَتَحُوا
مِنْهَا وَنَهَبُوا وَعَادُوا. ثُمَّ سَيَّرَهُ غَازِيًا إِلَى
جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ وَمَعَهُ ابْنُهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَرْضِهَا وَجَّهَ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْخَيْلِ، فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ إِلَّا
هَزَمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَظَفِرَ ظَفَرًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ،
حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ سَرَقُوسَةَ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ
مُدُنِ صِقِلِّيَّةَ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ،
فَصَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَعَادَ إِلَى أَبِيهِ، وَعَزَمَ
حَبِيبٌ عَلَى الْمُقَامِ بِصِقِلِّيَةَ إِلَى أَنْ يَمْلِكَهَا
جَمِيعًا، فَأَتَاهُ كِتَابُ ابْنِ الْحَبْحَابِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى
إِفْرِيقِيَّةَ.
(4/224)
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ
عَلَى طَنْجَةَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعَلَ مَعَهُ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيَّ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ وَتَعَدَّى،
وَأَرَادَ أَنْ يُخَمِّسَ مُسْلِمِي الْبَرْبَرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ
فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَرْتَكِبْهُ أَحَدٌ
قَبْلَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْبَرْبَرُ بِمَسِيرِ حَبِيبِ بْنِ
عُبَيْدَةَ إِلَى صِقِلِّيَّةَ بِالْعَسَاكِرِ طَمِعُوا وَنَقَضُوا
الصُّلْحَ عَلَى ابْنِ الْحَبْحَابِ، وَتَدَاعَتْ عَلَيْهِ بِأَسْرِهَا
مُسْلِمُهَا وَكَافِرُهَا، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ، وَقَدَّمَ مَنْ
بِطَنْجَةَ مِنَ الْبَرْبَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَيْسَرَةَ
السَّقَّاءَ ثُمَّ الْمَدْغُورِيَّ، وَكَانَ خَارِجِيًّا صُفَرِيًّا
وَسَقَّاءً، وَقَصَدُوا طَنْجَةَ، فَقَاتَلَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى طَنْجَةَ، وَبَايَعُوا
مَيْسَرَةَ بِالْخِلَافَةِ وَخُوطِبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَكَثُرَ جَمْعُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ بِنَوَاحِي
طَنْجَةَ.
وَظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمَاعَةٌ بِإِفْرِيقِيَّةَ،
فَأَظْهَرُوا مَقَالَةَ الْخَوَارِجِ، فَأَرْسَلَ ابْنُ الْحَبْحَابِ
إِلَى حَبِيبٍ وَهُوَ بِصِقِلِّيَّةَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِقِتَالِ
مَيْسَرَةَ السَّقَّاءِ، لِأَنَّ أَمْرَهُ كَانَ قَدْ عَظُمَ، فَعَادَ
إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ.
وَكَانَ ابْنُ الْحَبْحَابِ قَدْ سَيَّرَ خَالِدَ بْنَ حَبِيبٍ فِي
جَيْشٍ إِلَى مَيْسَرَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي
عُبَيْدَةَ سَيَّرَهُ فِي أَثَرِهِ، وَالْتَقَى خَالِدٌ وَمَيْسَرَةُ
بِنَوَاحِي طَنْجَةَ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِهِ، وَعَادَ مَيْسَرَةُ إِلَى طَنْجَةَ، فَأَنْكَرَتِ
الْبَرْبَرُ سِيرَتَهُ، وَكَانُوا بَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ،
فَقَتَلُوهُ وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ خَالِدَ بْنَ حُمَيْدٍ
الزَّنَاتِيَّ، ثُمَّ الْتَقَى خَالِدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمَعَهُ
الْبَرْبَرُ بِخَالِدِ بْنِ حَبِيبٍ وَمَعَهُ الْعَرَبُ وَعَسْكَرُ
هِشَامٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ صَبَرَتْ فِيهِ
الْعَرَبُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ مِنَ الْبَرْبَرِ
فَانْهَزَمُوا، وَكَرِهَ خَالِدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنْ يَنْهَزِمَ مِنَ
الْبَرْبَرِ فَصَبَرُوا مَعَهُ فَقُتِلُوا جَمِيعُهُمْ.
وَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ حُمَاةُ الْعَرَبِ وَفُرْسَانُهَا،
فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْأَشْرَافِ، وَانْتَقَضَتِ الْبِلَادُ،
وَخَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ، وَبَلَغَ أَهْلَ الْأَنْدَلُسِ الْخَبَرُ
فَثَارُوا بِأَمِيرِهِمْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ فَعَزَلُوهُ
وَوَلَّوْا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ، فَاخْتَلَطَتِ الْأُمُورُ
عَلَى ابْنِ الْحَبْحَابِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَقَالَ: لَأَغْضَبَنَّ لِلْعَرَبِ غَضْبَةً، وَأُسَيِّرُ
جَيْشًا يَكُونُ أَوَّلُهُمْ عِنْدَهُمْ وَآخِرُهُمْ عِنْدِي، ثُمَّ
كَتَبَ إِلَى ابْنِ الْحَبْحَابِ يَأْمُرُهُ بِالْحُضُورِ، فَسَارَ
إِلَيْهِ فِي جُمَادَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَاسْتَعْمَلَ هِشَامٌ عِوَضَهُ كُلْثُومَ بْنَ عِيَاضٍ الْقُشَيْرِيَّ
وَسَيَّرَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ
الَّتِي عَلَى طَرِيقِهِ بِالْمَسِيرِ مَعَهُ، فَوَصَلَ إِفْرِيقِيَّةَ
وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ، فَوَصَلَ إِلَى
الْقَيْرَوَانِ وَلَقِيَ أَهْلَهَا بِالْجَفَاءِ وَالتَّكَبُّرِ
عَلَيْهِمْ، وَأَرَادَ أَنْ يُنْزِلَ الْعَسْكَرَ الَّذِي مَعَهُ فِي
مَنَازِلِهِمْ، فَكَتَبَ أَهْلُهَا إِلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي
عُبَيْدَةَ، وَهُوَ بِتِلْمِسَانَ
(4/225)
مَوَاقِفِ الْبَرْبَرِ، يَشْكُونَ إِلَيْهِ
بَلْجًا وَكُلْثُومًا، فَكَتَبَ حَبِيبٌ إِلَى كُلْثُومٍ يَقُولُ لَهُ:
إِنَّ بَلْجًا فَعَلَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَارْحَلْ عَنِ الْبَلَدِ
وَإِلَّا رَدَدْنَا أَعِنَّةَ الْخَيْلِ إِلَيْكَ.
فَاعْتَذَرَ كُلْثُومٌ وَسَارَ إِلَى حَبِيبٍ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ
بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ، فَاسْتَخَفَّ بِحَبِيبٍ وَسَبَّهُ، وَجَرَى
بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا وَاجْتَمَعُوا عَلَى
قِتَالِ الْبَرْبَرِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمُ الْبَرْبَرُ مِنْ
طَنْجَةَ، فَقَالَ لَهُمْ حَبِيبٌ: اجْعَلُوا الرَّجَّالَةَ
لِلرَّجَّالَةِ وَالْخَيَّالَةَ لِلْخَيَّالَةِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا
مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ كُلْثُومٌ بِالْخَيْلِ، فَقَاتَلَهُ رَجَّالَةُ
الْبَرْبَرِ فَهَزَمُوهُ، فَعَادَ إِلَى كُلْثُومٍ مُنْهَزِمًا،
وَوَهَّنَ النَّاسَ ذَلِكَ وَنَشِبَ الْقِتَالُ، وَانْكَشَفَتْ
خَيَّالَةُ الْبَرْبَرِ وَثَبَتَتْ رَجَّالَتُهَا وَاشْتَدَّ
الْقِتَالُ وَكَثُرَ الْبَرْبَرُ عَلَيْهِمْ، فَقُتِلَ كُلْثُومُ بْنُ
عِيَاضٍ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَوُجُوهُ الْعَرَبِ،
وَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ وَتَفَرَّقُوا.
فَمَضَى أَهْلُ الشَّامِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَمَعَهُمْ بَلْجُ بْنُ
بِشْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ،
وَعَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْقَيْرَوَانِ.
فَلَمَّا ضَعُفَتِ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ ظَهَرَ إِنْسَانٌ
يُقَالُ لَهُ عُكَّاشَةُ (بْنُ أَيُّوبَ الْفَزَارِيُّ بِمَدِينَةِ
قَابِسَ، وَهُوَ عَلَى رَأْيِ الْخَوَارِجِ الصُّفْرِيَّةِ، فَسَارَ
إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنَ الْقَيْرَوَانِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْقَيْرَوَانِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ
آخَرُ فَانْهَزَمَ عُكَّاشَةُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَقُتِلَ كَثِيرٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَ عُكَّاشَةُ) بِبِلَادِ الرَّمْلِ.
فَلَمَّا بَلَغَ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَتْلُ كُلْثُومٍ
بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ
الْكَلْبِيَّ، فَوَصَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمْ يَمْكُثْ بِالْقَيْرَوَانِ إِلَّا
يَسِيرًا حَتَّى زَحَفَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ الْخَارِجِيُّ فِي جَمْعٍ
عَظِيمٍ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَكَانَ حِينَ انْهَزَمَ حَشَدَهُمْ
لِيَأْخُذَ بِثَأْرِهِ وَأَعَانَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ يَزِيدَ
الْهَوَّارِيُّ ثُمَّ الْمُدْغَمِيُّ، وَكَانَ صُفْرِيًّا، فِي عَدَدٍ
كَثِيرٍ وَافْتَرَقَا لِيَقْصِدَا الْقَيْرَوَانَ مِنْ جِهَتَيْنِ،
فَلَمَّا قَرُبَ عُكَّاشَةُ خَرَجَ إِلَيْهِ حَنْظَلَةُ وَلَقِيَهُ
مُنْفَرِدًا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ عُكَّاشَةُ
وَقُتِلَ مِنَ الْبَرْبَرِ مَا لَا يُحْصَى، وَعَادَ حَنْظَلَةُ إِلَى
الْقَيْرَوَانِ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَسَيَّرَ
إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا عُدَّتُهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، فَسَارُوا
إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبُوهُ لَمْ يَجِدُوا شَعِيرًا يُطْعِمُونَهُ
دَوَابَّهُمْ فَأَطْعَمُوهَا حِنْطَةً، ثُمَّ لَقُوهُ مِنَ الْغَدِ
فَانْهَزَمُوا مِنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَعَادُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ،
وَهَلَكَتْ دَوَابُّهُمْ بِسَبَبِ الْحِنْطَةِ.
فَلَمَّا وَصَلُوهَا نَظَرُوا وَإِذَا قَدْ هَلَكَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ
أَلْفَ فَرَسٍ، وَسَارَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَنَزَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَمْيَالٍ مِنَ الْقَيْرَوَانِ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالْأَصْنَامِ،
وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَحَشَدَ
حَنْظَلَةُ كُلَّ مَنْ بِالْقَيْرَوَانِ وَفَرَّقَ فِيهِمُ السِّلَاحَ
وَالْمَالَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَلَمَّا دَنَا الْخَوَارِجُ مَعَ
عَبْدِ الْوَاحِدِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ مِنَ الْقَيْرَوَانِ
وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، وَقَامَ الْعُلَمَاءُ فِي أَهْلِ
الْقَيْرَوَانِ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَقِتَالِ
الْخَوَارِجِ وَيُذَكِّرُونَهُمْ مَا يَفْعَلُونَهُ
(4/226)
بِالنِّسَاءِ مِنَ السَّبْيِ
وَبِالْأَبْنَاءِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَبِالرِّجَالِ مِنَ الْقَتْلِ،
فَكَسَرَ النَّاسُ أَجْفَانَ سُيُوفِهِمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ
نِسَاؤُهُمْ يُحَرِّضْنَهُمْ، فَحَمِيَ النَّاسُ وَحَمَلُوا عَلَى
الْخَوَارِجِ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ،
فَاشْتَدَّ اللِّزَامُ وَكَثُرَ الزِّحَامُ وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ،
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَزَمَ الْخَوَارِجَ وَالْبَرْبَرَ
وَنَصَرَ الْعَرَبَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْبَرْبَرِ وَتَبِعُوهُمْ
إِلَى جَلُولَاءَ يَقْتُلُونَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ عَبْدَ
الْوَاحِدِ قَدْ قُتِلَ حَتَّى حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى حَنْظَلَةَ،
فَخَرَّ النَّاسُ لِلَّهِ سُجَّدًا.
فَقِيلَ: لَمْ يُقْتَلْ بِالْمَغْرِبِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ
الْقَتْلَةِ، فَإِنَّ حَنْظَلَةَ أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الْقَتْلَى،
فَعَجَزَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى عَدُّوهُمْ بِالْقَصَبِ،
فَكَانَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى مِائَةَ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا،
ثُمَّ أُسِرَ عُكَّاشَةُ مَعَ طَائِفَةٍ أُخْرَى بِمَكَانٍ آخَرَ
وَحُمِلَ إِلَى حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ، وَكَتَبَ حَنْظَلَةُ إِلَى
هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْفَتْحِ، وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ يَقُولُ: مَا غَزْوَةٌ إِلَى الْآنَ أَشَدُّ بَعْدَ غَزْوَةِ
بَدْرٍ مِنْ غَزْوَةِ الْعَرَبِ بِالْأَصْنَامِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ
الْيُسْرَى، وَغَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى
مِنْ نَحْوِ الْجَزِيرَةِ، وَفَرَّقَ سَرَايَاهُ فِي أَرْضِ الرُّومِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ
مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ، وَعَلَى
إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ.
(4/227)
وَسُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ. وَفِيهَا
مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ،
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ. وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ. وَأَبُو شَاكِرٍ
مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ
مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ الْفَقِيهُ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقِيلَ
سَنَةَ عِشْرِينَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقِيلَ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ. وَفِيهَا مَاتَتْ عَائِشَةُ
ابْنَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَسَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ.
وَقَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ ضَرِيرًا،
وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ.
(4/228)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ
وَمِائَة]
118 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ.
ذِكْرُ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ عَمَّارَ بْنَ
يَزِيدَ إِلَى خُرَاسَانَ وَالِيًا عَلَى شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ،
فَنَزَلَ مَرْوَ وَغَيَّرَ اسْمَهُ وَتَسَمَّى بِخِدَاشٍ، وَدَعَا
إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَارَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ
وَأَطَاعُوهُ، ثُمَّ غَيَّرَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَتَكَذَّبَ
وَأَظْهَرَ دِينَ الْخُرَّمِيَّةِ [وَدَعَا إِلَيْهِ] ، وَرَخَّصَ
لِبَعْضِهِمْ فِي نِسَاءِ بَعْضٍ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا صَوْمَ
وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ، وَإِنَّ تَأْوِيلَ الصَّوْمِ أَنْ يُصَامَ
عَنْ ذِكْرِ الْإِمَامِ فَلَا يُبَاحُ بِاسْمِهِ، وَالصَّلَاةُ
الدُّعَاءُ لَهُ، وَالْحَجُّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] . وَكَانَ خِدَاشٌ
نَصْرَانِيًّا بِالْكُوفَةِ فَأَسْلَمَ وَلَحِقَ بِخُرَاسَانَ.
وَكَانَ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ عَلَى مَقَالَتِهِ مَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ، وَالْحَرِيشُ بْنُ سُلَيْمٍ الْأَعْجَمِيُّ
وَغَيْرُهُمَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَمَرَ
بِذَلِكَ.
فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَظَفِرَ بِهِ،
فَأَغْلَظَ الْقَوْلَ لِأَسَدٍ، فَقَطَعَ لِسَانَهُ وَسَمَلَ
عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْتَقَمَ لِأَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْكَ! وَأَمَرَ يَحْيَى بْنَ نُعَيْمٍ
الشَّيْبَانِيَّ فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ بِآمُلَ، وَأُتِيَ أَسَدٌ
بِجَزُورٍ مَوْلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ دَارَةَ الضَّبِّيِّ فَضَرَبَ
عُنُقَهُ بِشَاطِئِ النَّهْرِ.
ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْحَارِثِ وَأَصْحَابِهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَزَلَ أَسَدٌ بَلْخًا، وَسَرَّحَ جُدَيْعًا
الْكَرْمَانِيَّ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُ
(4/229)
الْحَارِثِ وَأَصْحَابُهُ، وَاسْمُهَا
التُّبُوشْكَانُ مِنْ طَخَارِسْتَانَ الْعُلْيَا، وَفِيهَا بَنُو
بَرْزَى التَّغْلِبِيُّونَ أَصْهَارُ الْحَارِثِ، فَحَصَرَهُمُ
الْكَرْمَانِيُّ حَتَّى فَتَحَهَا، فَقَتَلَ بَنِي بَرْزَى، وَسَبَى
عَامَّةَ أَهْلِهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُوَالِي وَالذَّرَارِي،
وَبَاعَهُمْ فِيمَنْ يَزِيدُ فِي سُوقِ بَلْخٍ، وَنَقَمَ عَلَى
الْحَارِثِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَكَانَ رَئِيسُهُمْ جَرِيرَ بْنَ مَيْمُونٍ الْقَاضِي، فَقَالَ لَهُمُ
الْحَارِثُ إِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ مُفَارِقِيَّ فَاطْلُبُوا
الْأَمَانَ وَأَنَا شَاهِدٌ فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَكُمْ، وَإِنِ
ارْتَحَلْتُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُعْطُوا الْأَمَانَ. فَقَالُوا:
ارْتَحِلْ أَنْتَ وَخَلِّنَا. وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ،
فَأُخْبِرَ أَسَدٌ أَنَّ الْقَوْمَ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ وَلَا مَاءٌ،
فَسَرَّحَ إِلَيْهِمْ أَسَدٌ جُدَيْعًا الْكَرْمَانِيَّ فِي سِتَّةِ
آلَافٍ، فَحَصَرَهُمْ فِي الْقَلْعَةِ وَقَدْ عَطِشَ أَهْلُهَا
وَجَاعُوا، فَسَأَلُوا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى الْحُكْمِ وَيَتْرُكَ
لَهُمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ، فَنَزَلُوا عَلَى
حُكْمِ أَسَدٍ فَأَرْسَلَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ
يَحْمِلَ إِلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِهِمْ فِيهِمُ
الْمُهَاجِرُ بْنُ مَيْمُونٍ، فَحُمِلُوا إِلَيْهِ، فَقَتَلَهُمْ
وَكَتَبَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ بَقُوا
عِنْدَهُ أَثْلَاثًا، فَثُلُثٌ يَقْتُلُهُمْ، وَثُلُثٌ يَقْطَعُ
أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَثُلُثٌ يَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ،
فَفَعَلَ ذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ وَأَخْرَجَ أَثْقَالَهُمْ فَبَاعَهَا.
وَاتَّخَذَ أَسَدٌ مَدِينَةَ بَلْخٍ دَارًا، وَنَقَلَ إِلَيْهَا
الدَّوَاوِينَ، ثُمَّ غَزَا طَخَارِسْتَانَ ثُمَّ أَرْضَ جَبْغَوَيْهِ
فَغَنِمَ وَسَبَى.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامٌ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَيْهَا خَالَهُ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ.
وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ مِنْ
إِرْمِينِيَّةَ، وَدَخَلَ أَرْضَ وَرْتَنِيسَ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَبْوَابٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَرْتَنِيسُ إِلَى الْخَزَرِ وَنَزَلَ
حِصْنَهُ، فَحَصَرَهُ مَرْوَانُ وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ،
فَقُتِلَ وَرْتَنِيسُ، قَتَلَهُ بَعْضُ مَنِ اجْتَازَ بِهِ وَأَرْسَلَ
رَأْسَهُ إِلَى مَرْوَانَ، فَنَصَبَهُ لِأَهْلِ حِصْنِهِ، فَنَزَلُوا
عَلَى حُكْمِهِ، فَقَتَلَ الْقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ.
(4/230)
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ
أَرْضِ الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَسَمَّاهُ أَبُوهُ عَلِيًّا، وَقَالَ:
سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَكَنَّاهُ أَبَا
الْحَسَنِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ
كُنْيَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: لَا يَجْتَمِعُ فِي عَسْكَرِي
هَذَا الِاسْمُ وَالْكُنْيَةُ لِأَحَدٍ، وَسَأَلَهُ: هَلْ وُلِدَ لَكَ
وَلَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا. قَالَ:
فَأَنْتَ أَبُو مُحَمَّدٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذِهِ
السَّنَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ
عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ،
وَعَامِلُهُ عَلَى خُرَاسَانَ أَخُوهُ أَسَدٌ، وَعَامِلُهُ عَلَى
الْبَصْرَةِ بِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَكَانَ عَلَى
إِرْمِينِيَّةَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ قَاضِي
الْأُرْدُنِّ. وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَبَّاسِ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ. وَأَبُو
صَخْرَةَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ.
(4/231)
وَأَبُو عُشَّانَةَ الْمَعَافِرَيُّ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ.
(4/232)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَمِائَة]
119 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ قَتْلِ خَاقَانَ
لَمَّا دَخَلَ أَسَدٌ الْخُتُّلِ كَتَبَ ابْنُ السَايِجِيِّ إِلَى
خَاقَانَ، وَهُوَ بِنَوَاكِثَ، يُعْلِمُهُ دُخُولَ أَسَدٍ الْخُتُّلَ،
وَتَفَرُّقَ جُنُودِهِ فِيهَا، وَأَنَّهُ بِحَالٍ مُضَيَّعَةٍ،
فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْجِهَازِ وَسَارَ،
فَلَمَّا أَحَسَّ ابْنُ السَايِجِيِّ بِمَجِيءِ خَاقَانَ بَعَثَ إِلَى
أَسَدٍ: اخْرُجْ عَنِ الْخُتُّلِ فَإِنَّ خَاقَانَ قَدْ أَظَلَّكَ.
فَشَتَمَ الرَّسُولَ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ.
فَبَعَثَ ابْنُ السَّايِجِيِّ: إِنِّي لَمْ أُكَذِّبْكَ، وَأَنَا
الَّذِي أَعْلَمْتُهُ دُخُولَكَ وَتَفَرُّقَ عَسْكَرِكَ، وَأَنَّهَا
فُرْصَةٌ لَهُ، وَسَأَلْتُهُ الْمَدَدَ، فَإِنْ لَقِيَكَ عَلَى هَذِهِ
الْحَالِ ظَفِرَ بِكَ، وَعَادَتْنِي الْعَرَبُ أَبَدًا مَا بَقِيتُ،
وَاسْتَطَالَ عَلَيَّ خَاقَانُ وَاشْتَدَّتْ مَئُونَتُهُ، وَقَالَ:
أَخْرَجْتُ الْعَرَبَ مِنْ بِلَادِكَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مُلْكَكَ.
فَعَرَفَ أَسَدٌ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَهُ، فَأَمَرَ بِالْأَثْقَالِ أَنْ
تُقَدَّمَ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَاصِمٍ
الْعُقَيْلِيَّ وَأَخْرَجَ مَعَهُ الْمَشْيَخَةَ، فَسَارَتِ
الْأَثْقَالُ وَمَعَهَا أَهْلُ الصَّغَانِيَانِ وَصَغَانُ خُذَاهْ،
وَأَقْبَلَ أَسَدٌ مِنَ الْخُتُّلِ نَحْوَ جَبَلِ الْمِلْحِ يُرِيدُ
[أَنْ] يَخُوضَ نَهْرَ بَلْخٍ، وَقَدْ قَطَعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
عَاصِمٍ بِالسَّبْيِ وَمَا أَصَابُوا، وَأَشْرَفَ أَسَدٌ عَلَى
النَّهْرِ فَأَقَامَ يَوْمَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ عَبَرَ
النَّهْرَ فِي مَخَاضَةٍ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَعْبُرُونَ،
فَأَدْرَكَهُمْ خَاقَانُ فَقَتَلَ مَنْ لَمْ يَقْطَعِ النَّهْرَ،
وَكَانَتِ الْمَسْلَحَةُ عَلَى الْأَزْدِ وَتَمِيمٍ، فَقَاتَلُوا
خَاقَانَ وَانْكَشَفُوا.
وَأَقْبَلَ خَاقَانُ وَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَعْبُرُ
إِلَيْهِمُ النَّهْرَ، فَلَمَّا نَظَرَ خَاقَانُ إِلَى النَّهْرِ
أَمَرَ التُّرْكَ بِعُبُورِهِ، فَعَبَرُوهُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ
عَسْكَرَهُمْ وَأَخَذَ التُّرْكُ مَا رَأَوْهُ خَارِجًا، وَخَرَجَ
الْغِلْمَانُ فَضَارَبُوهُمْ بِالْعُمُدِ فَعَادُوا، وَبَاتَ أَسَدٌ
وَالْمُسْلِمُونَ وَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا
(4/233)
أَصْبَحَ لَمْ يَرَ خَاقَانَ، فَاسْتَشَارَ
أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا لَهُ: اقْبَلِ الْعَافِيَةَ. قَالَ: مَا هَذِهِ
عَافِيَةٌ! هَذِهِ بَلِيَّةٌ! إِنَّ خَاقَانَ أَصَابَ أَمْسِ مِنَ
الْجُنْدِ وَالسِّلَاحِ وَمَا مَنَعَهُ الْيَوْمَ مِنَّا إِلَّا
أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ أَخْذَهُ مِنَ الْأَسْرَى
بِمَوْضِعِ الْأَثْقَالِ أَمَامَنَا فَسَارَ طَمَعًا فِيهَا.
فَارْتَحَلَ وَبَعَثَ الطَّلَائِعَ، فَلَمَّا أَمْسَى اسْتَشَارَ
النَّاسَ فِي النُّزُولِ أَوِ الْمَسِيرِ، فَقَالَ النَّاسُ: اقْبَلِ
الْعَافِيَةَ، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ ذَهَابُ الْأَمْوَالِ
بِعَافِيَتِنَا وَعَافِيَةِ أَهْلِ خُرَاسَانَ! وَنَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ
مُطْرِقٌ. فَقَالَ لَهُ أَسَدٌ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قَالَ:
أَيُّهَا الْأَمِيرُ خُلَّتَانِ كِلْتَاهُمَا لَكَ، إِنْ تَسِرْ تُغِثْ
مَنْ مَعَ الْأَثْقَالِ وَتُخَلِّصْهُمْ، فَإِنِ انْتَهَيْتَ
إِلَيْهِمْ وَقَدْ هَلَكُوا فَقَدْ قَطَعْتَ مَشَقَّةً لَا بُدَّ مِنْ
قَطْعِهَا. فَقَبِلَ رَأْيَهُ وَسَارَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَدَعَا
أَسَدٌ سَعِيدًا الصَّغِيرَ مَوْلَى بَاهِلَةَ، وَكَانَ فَارِسًا
بِأَرْضِ الْخُتُّلِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
يَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ وَيُخْبِرُهُ بِمَسِيرِ خَاقَانَ
إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: لِتُجِدَّ السَّيْرَ. فَطَلَبَ مِنْهُ فَرَسَهُ
الذَّبُوبَ، فَقَالَ أَسَدٌ: لَعَمْرِي لَئِنْ جُدْتَ بِنَفْسِكَ
وَبَخِلْتُ عَلَيْكَ بِالْفَرَسِ إِنِّي إِذًا لَلَئِيمٌ. فَدَفَعَهُ
إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مَعَهُ جَنِيبًا وَسَارَ.
فَلَمَّا حَاذَى التُّرْكَ وَقَدْ سَارُوا نَحْوَ الْأَثْقَالِ
طَلَبَتْهُ طَلَائِعُهُمْ فَرَكِبَ الذَّبُوبَ فَلَمْ يَلْحَقُوهُ،
فَأَتَى إِبْرَاهِيمَ بِالْكِتَابِ. وَسَارَ خَاقَانُ إِلَى
الْأَثْقَالِ، وَقَدْ خَنْدَقَ إِبْرَاهِيمُ خَنْدَقًا، فَأَتَاهُمْ
وَهُمْ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ الصُّغْدَ بِقِتَالِهِمْ
فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَصَعِدَ خَاقَانُ تَلًّا فَجَعَلَ
يَنْظُرُ لِيَرَى عَوْرَةً يَأْتِي مِنْهَا، وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ،
فَلَمَّا صَعِدَ التَّلَّ رَأَى خَلْفَ الْعَسْكَرِ جَزِيرَةً دُونَهَا
مَخَاضَةٌ فَدَعَا بَعْضَ قُوَّادِ التُّرْكِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَقْطَعُوا فَوْقَ الْعَسْكَرِ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى الْجَزِيرَةِ،
ثُمَّ يَنْحَدِرُوا حَتَّى يَأْتُوا عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
خَلْفِهِمْ، وَأَنْ يَبْدَءُوا بِالْأَعَاجِمِ وَأَهْلِ
الصَّغَانِيَانِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَجَعُوا إِلَيْكُمْ دَخَلْنَا
نَحْنُ. فَفَعَلُوا وَدَخَلُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَعَاجِمِ فَقَتَلُوا
صَغَانَ خُذَاهْ وَعَامَّةَ أَصْحَابِهِ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ،
وَدَخَلُوا عَسْكَرَ إِبْرَاهِيمَ فَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ،
وَتَرَكَ الْمُسْلِمُونَ التَّعْبِيَةَ وَاجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ
وَأَحَسُّوا بِالْهَلَاكِ، وَإِذَا رَهَجٌ قَدِ ارْتَفَعَ، وَإِذَا
أَسَدٌ فِي جُنْدِهِ قَدْ أَتَاهُمْ، فَارْتَفَعَتِ التُّرْكُ عَنْهُمْ
إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَاقَانُ، وَإِبْرَاهِيمُ
يَعْجَبُ مِنْ كَفِّهِمْ وَقَدْ ظَفِرُوا وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا
وَهُوَ لَا يَطْمَعُ فِي أَسَدٍ، وَكَانَ أَسَدٌ قَدْ أَغَذَّ
الْمَسِيرَ وَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى التَّلِّ الَّذِي كَانَ
عَلَيْهِ خَاقَانُ، وَتَنَحَّى خَاقَانُ إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَلِ،
فَخَرَجَ إِلَى أَسَدٍ مَنْ كَانَ بَقِيَ مَعَ الْأَثْقَالِ وَقَدْ
قَتَلَ مِنْهُمْ بَشَرًا كَثِيرًا.
وَمَضَى خَاقَانُ بِالْأَسْرَى وَالْجِمَالِ الْمُوَقَرَةِ
وَالْجَوَارِي، وَأَمَرَ خَاقَانُ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ مِنْ
(4/234)
أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ
فَنَادَى أَسَدًا: قَدْ كَانَ لَكَ فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ مَغْزًى،
إِنَّكَ لَشَدِيدُ الْحِرْصِ، وَقَدْ كَانَ عَنِ الْخُتُّلِ
مَنْدُوحَةٌ وَهِيَ أَرْضُ آبَائِي وَأَجْدَادِي. فَقَالَ أَسَدٌ:
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْكَ.
وَسَارَ أَسَدٌ إِلَى بَلْخٍ فَعَسْكَرَ فِي مَرْجِهَا حَتَّى أَتَى
الشِّتَاءُ، ثُمَّ فَرَّقَ النَّاسَ فِي الدُّورِ وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ، وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ بِنَاحِيَةِ
طَخَارِسْتَانَ فَانْضَمَّ إِلَى خَاقَانَ. فَلَمَّا كَانَ وَسَطُ
الشِّتَاءِ أَقْبَلَ خَاقَانُ، وَكَانَ لَمَّا فَارَقَ أَسَدٌ أَتَى
طَخَارِسْتَانَ فَأَقَامَ عِنْدَ جَبْغَوَيْهِ، فَأَقْبَلَ فَأَتَى
الْجُوزَجَانَ وَبَثَّ الْغَارَاتِ.
وَسَبَبُ مَجِيئِهِ أَنَّ الْحَارِثَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا نُهُوضَ
بِأَسَدٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ كَثِيرُ جُنْدٍ وَنَزَلَ جَزَّةَ،
فَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى أَسَدٍ بِنُزُولِ خَاقَانَ بِجَزَّةَ،
فَأَمَرَ بِالنِّيرَانِ فَرُفِعَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ النَّاسُ
مِنَ الرَّسَاتِيقِ إِلَيْهَا، فَأَصْبَحَ أَسَدٌ وَصَلَّى صَلَاةَ
الْعِيدِ، عِيدِ الْأَضْحَى، وَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: إِنَّ
عَدُوَّ اللَّهِ الْحَارِثَ اسْتَجْلَبَ الطَّاغِيَةَ لِيُطْفِئَ نُورَ
اللَّهِ وَيُبَدِّلَ دِينَهُ، وَاللَّهُ مُذِلُّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
وَإِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدْ أَصَابَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ مَنْ أَصَابَ،
وَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ نَصْرَكُمْ لَمْ يَضُرَّكُمْ قِلَّتُكُمْ
وَكَثْرَتُهُمْ، فَاسْتَنْصِرُوا اللَّهَ، وَإِنَّ أَقْرَبَ مَا
يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إِذَا وَضَعَ جَبْهَتَهُ لَهُ،
وَإِنِّي نَازِلٌ وَوَاضِعٌ جَبْهَتِي، فَاسْجُدُوا لَهُ وَادْعُوا
مُخْلِصِينَ.
فَفَعَلُوا وَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ،
ثُمَّ نَزَلَ وَضَحَّى وَشَاوَرَ النَّاسَ فِي الْمَسِيرِ إِلَى
خَاقَانَ، قَالَ قَوْمٌ: تَحْفَظُ مَدِينَةَ بَلْخٍ وَتَكْتُبُ إِلَى
خَالِدٍ وَالْخَلِيفَةِ تَسْتَمِدُّهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَأْخُذُ فِي
طَرِيقِ زُمَّ فَتَسْبِقُ خَاقَانَ إِلَى مَرْوَ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ
تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ. فَوَافَقَ هَذَا رَأْيَ أَسَدٍ، وَكَانَ عَزَمَ
عَلَى لِقَائِهِمْ، فَخَرَجَ بِالنَّاسِ وَهُوَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ
مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالشَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَلْخٍ
الْكَرْمَانِيَّ بْنَ عَلِيٍّ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا
يَخْرُجُ مِنْ مَدِينَتِهَا وَإِنْ ضَرَبَ التُّرْكُ بَابَهَا.
وَنَزَلَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ بَلْخٍ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ
رَكْعَتَيْنِ طَوَّلَهُمَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَنَادَى
فِي النَّاسِ: ادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَطَالَ الدُّعَاءَ،
فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: نُصِرْتُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى! ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا جَازَ قَنْطَرَةَ عَطَاءٍ
نَزَلَ، وَأَرَادَ الْمُقَامَ حَتَّى يَتَلَاحَقَ بِهِ النَّاسُ، ثُمَّ
أَمَرَ بِالرَّحِيلِ وَقَالَ: لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى
الْمُتَخَلِّفِينَ.
ثُمَّ ارْتَحَلَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ سَالِمُ بْنُ مَنْصُورٍ
الْبَجَلِيُّ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَقِيَ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ
التُّرْكِ طَلِيعَةً لِخَاقَانَ، فَأَسَرَ قَائِدَهُمْ وَسَبْعَةً
مَعَهُ، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، فَأُتِيَ بِهِ أَسَدٌ فَبَكَى
(4/235)
التُّرْكِيُّ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟
قَالَ: لَسْتُ أَبْكِي لِنَفْسِي وَلَكِنِّي أَبْكِي لِهَلَاكِ
خَاقَانَ، إِنَّهُ قَدْ فَرَّقَ جُنُودَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْوَ.
فَسَارَ أَسَدٌ حَتَّى شَارَفَ مَدِينَةَ الْجُوزَجَانِ فَنَزَلَ
عَلَيْهَا عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ خَاقَانَ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَبَاحَهَا خَاقَانُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَرَاءَى الْعَسْكَرَانِ،
فَقَالَ خَاقَانُ لِلْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَلَمْ تَكُنْ
أَخْبَرْتَنِي أَنَّ أَسَدًا لَا حَرَاكَ بِهِ وَهَذِهِ الْعَسَاكِرُ
قَدْ أَقْبَلَتْ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى
وَرَايَتُهُ.
فَبَعَثَ خَاقَانُ طَلِيعَةً وَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ عَلَى
الْإِبِلِ سَرِيرًا وَكَرَاسِيَّ؟ فَعَادُوا إِلَيْهِ فَأَخْبَرُوهُ
أَنَّهُمْ رَأَوْهَا، فَقَالَ خَاقَانُ: هَذَا أَسَدٌ.
وَسَارَ أَسَدٌ قَدْرَ غَلْوَةٍ، فَلَقِيَهُ سَالِمُ بْنُ جَنَاحٍ
فَقَالَ: أَبْشِرْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ قَدْ حَزَرْتُمْ وَلَا
يَبْلُغُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَاقَانُ
عَقِيرَةَ اللَّهِ. فَصَفَّ أَسَدٌ أَصْحَابَهُ، وَعَبَّى خَاقَانُ
أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا الْتَقَوْا حَمَلَ الْحَارِثُ وَمَنْ مَعَهُ
مِنَ الصُّغْدِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا مَيْمَنَةَ خَاقَانَ عَلَى
مَيْسَرَةِ أَسَدٍ، فَهَزَمَهُمْ فَلَمْ يَرُدَّهُمْ شَيْءٌ دُونَ
رِوَاقِ أَسَدٍ، وَحَمَلَتْ مَيْمَنَةُ أَسَدٍ وَهُمُ الْجُوزَجَانُ
وَالْأَزْدُ وَتَمِيمٌ عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ الْحَارِثُ وَمَنْ
مَعَهُ وَانْهَزَمَتِ التُّرْكُ جَمِيعُهَا، وَحَمَلَ النَّاسُ
جَمِيعًا فَتَفَرَّقَ التُّرْكُ فِي الْأَرْضِ لَا يَلْوُونَ عَلَى
أَحَدٍ، فَتَبِعَهُمُ النَّاسُ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ
يَقْتُلُونَ [مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ] حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
أَغْنَامِهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ
وَخَمْسِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَدَوَابَّ كَثِيرَةً.
وَأَخَذَ خَاقَانُ طَرِيقًا فِي الْجَبَلِ وَالْحَارِثُ يَحْمِيهِ،
وَسَارَ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ لِعُثْمَانَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ بِبِلَادِي
وَبِطُرُقِهَا، فَهَلْ تَتْبَعُنِي لَعَلَّنَا نُهْلِكُ خَاقَانَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَا طَرِيقًا وَسَارَا وَمَنْ مَعَهُمَا حَتَّى
أَشْرَفُوا عَلَى خَاقَانَ فَأَوْقَعُوا بِهِ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا،
فَحَوَى الْمُسْلِمُونَ عَسْكَرَ التُّرْكِ وَمَا فِيهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَوَجَدُوا فِيهِ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ
وَالْمُوَلِّيَاتِ مِنْ نِسَاءِ التُّرْكِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
(وَوَحِلَ بِخَاقَانَ بِرْذَوْنُهُ فَحَمَاهُ الْحَارِثُ بْنُ
سُرَيْجٍ، وَلَمْ يُعْلِمِ النَّاسَ أَنَّهُ خَاقَانُ) ، (وَأَرَادَ
الْخَصِيُّ الَّذِي لِخَاقَانَ أَنْ يَحْمِلَ امْرَأَةَ خَاقَانَ)
فَأَعْجَلُوهُ فَقَتَلَهَا، وَاسْتَنْقَذُوا مَنْ كَانَ مَعَ خَاقَانَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَتَبَّعَ أَسَدٌ خَيْلَ التُّرْكِ الَّتِي فَرَّقَهَا فِي
الْغَارَةِ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ وَغَيْرِهَا فَقَتَلَ مَنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْقَلِيلِ، وَرَجَعَ
إِلَى بَلْخٍ. وَكَانَ بِشْرٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي السَّرَايَا
(4/236)
فَيُصِيبُونَ مِنَ التُّرْكِ الرَّجُلَ
وَالرَّجُلَيْنِ وَأَكْثَرَ.
وَمَضَى خَاقَانُ إِلَى طَخَارِسْتَانَ وَأَقَامَ عِنْدَ جَبْغَوَيْهِ
الْخَزْلَجِيِّ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا وَرَدَ
أُشْرُوسَنَةَ تَلَقَّاهُ خَرَابُغْرَهْ أَبُو خَانَاجِزَهْ جَدُّ
كَاوُوسَ أَبِي أَفْشِينَ بِكُلِّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا
بَيْنَهُمَا مُتَبَاعِدًا، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَتَّخِذَ
عِنْدَهُ يَدًا. ثُمَّ أَتَى خَاقَانُ بِلَادَهُ وَاسْتَعَدَّ
لِلْحَرْبِ وَمُحَاصَرَةِ سَمَرْقَنْدَ، وَحَمَلَ الْحَارِثَ
وَأَصْحَابَهُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ بِرْذَوْنٍ. فَلَاعَبَ خَاقَانُ
يَوْمًا كُورْصُولَ بِالنَّرْدِ عَلَى خَطَرٍ، فَتَنَازَعَا، فَضَرَبَ
كُورْصُولُ يَدَ خَاقَانَ وَكَسَرَهَا، وَتَنَحَّى وَجَمَعَ جَمْعًا،
وَبَلَغَهُ أَنَّ خَاقَانَ قَدْ حَلَفَ لَيَكْسِرَنَّ يَدَهُ،
فَبَيَّتَ خَاقَانَ فَقَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَتِ التُّرْكُ وَتَرَكُوهُ
مُجَرَّدًا، فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنَ التُّرْكِ فَدَفَنُوهُ.
وَاشْتَغَلَتِ التُّرْكُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَعِنْدَ
ذَلِكَ طَمِعَ أَهْلُ الصُّغْدِ فِي الرَّجْعَةِ إِلَيْهَا.
وَأَرْسَلَ أَسَدٌ مُبَشِّرًا إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبِقَتْلِ خَاقَانَ، فَلَمْ
يُصَدِّقْهُ وَقَالَ لِلرَّبِيعِ حَاجِبِهِ: لَا أَظُنُّ هَذَا
صَادِقًا، اذْهَبْ فَعُدْهُ ثُمَّ سَلْهُ عَمَّا يَقُولُ، فَفَعَلَ مَا
أَمَرَهُ بِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ هِشَامًا، ثُمَّ
أَرْسَلَ أَسَدٌ مُبَشِّرًا آخَرَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ هِشَامٍ
وَكَبَّرَ، فَأَجَابَهُ هِشَامٌ بِالتَّكْبِيرِ، فَلَمَّا انْتَهَى
إِلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِالْفَتْحِ، فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى،
فَحَسَدَتِ الْقَيْسِيَّةُ أَسَدًا وَقَالُوا لِهِشَامٍ: اكْتُبْ
بِطَلَبِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ النَّبَطِيِّ، فَسَيَّرَهُ أَسَدٌ
إِلَى هِشَامٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ،
فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ
الْمُهَلَّبِ أَخَذَ مِنْ أَبِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ
حَقٍّ فَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَى أَسَدٍ،
فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَقَسَّمَهَا مُقَاتِلٌ بَيْنَ وَرَثَةِ حَيَّانَ
عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو الْهِنْدِيِّ يَذْكُرُ هَذِهِ الْوَقْعَةَ
: أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْأُمُورَ وَقِسْتَهَا ... وَسَاءَلْتَ
عَنْهَا كَالْحَرِيصِ الْمُسَاوِمِ
فَمَا كَانَ ذُو رَأْيٍ مِنَ النَّاسِ قِسْتَهُ ... بِرَأْيِكَ إِلَّا
مِثْلَ رَأْيِ الْبَهَائِمِ
أَبَا مُنْذِرٍ لَوْلَا مَسِيرُكَ لَمْ يَكُنْ ... عِرَاقٌ وَلَا
انْقَادَتْ مُلُوكُ الْأَعَاجِمِ
وَلَا حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَنْ حَجَّ رَاكِبًا ... وَلَا عَمَرَ
الْبَطْحَاءَ بَعْدَ الْمَوَاسِمِ
وَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ بَيْنَ سَانٍ وَجَزَّةٍ ... كَسِيرَ الْأَيَادِي
مِنْ مُلُوكٍ قَمَاقِمِ
(4/237)
تَرَكْتَ بِأَرْضِ الْجُوزَجَانِ تَزُورُهُ
سِبَاعٌ وَعِقْبَانٌ لَحَزِّ الْغَلَاصِمِ ... وَذِي سُوقَةٍ فِيهِ
مِنَ السَّيْفِ خَبْطَةٌ
بِهِ رَمَقٌ مُلْقًى لِحَوْمِ الْحَوَائِمِ ... فَمِنْ هَارِبٍ مِنَّا
وَمِنْ دَائِنٍ لَنَا
أَسِيرٍ يُقَاسِي مُبْهَمَاتِ الْأَدَاهِمِ ... فَدَتْكَ نُفُوسٌ مِنْ
تَمِيمٍ وَعَامِرٍ
وَمِنْ مُضَرَ الْحَمْرَاءِ عِنْدَ الْمَآزِمِ ... هُمْ أَطْمَعُوا
خَاقَانَ فِينَا فَأَصْبَحَتْ
حَلَائِبُهُ تَرْجُو خُلُوَّ الْمَغَانِمِ
وَكَانَ ابْنُ السَّايِجِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ أَسَدًا بِمَجِيءِ
خَاقَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ السَّبْلُ عَلَى مَمْلَكَتِهِ عِنْدَ
مَوْتِهِ، وَأَوْصَاهُ بِثَلَاثِ خِصَالٍ، قَالَ: لَا تَسْتَطِلْ عَلَى
أَهْلِ الْخُتُّلِ اسْتِطَالَتِي عَلَيْهِمْ، فَإِنِّي مَلِكٌ وَأَنْتَ
لَسْتَ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ لَهُ:
اطْلُبِ الْحُنَيْشَ حَتَّى تَرُدَّهُ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَإِنَّهُ
الْمَلِكُ بَعْدِي، وَكَانَ الْحُنَيْشُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الصِّينِ،
وَقَالَ لَهُ: لَا تُحَارِبُوا الْعَرَبَ وَادْفَعُوهَا عَنْكُمْ
بِكُلِّ حِيلَةٍ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ السَّايِجِيِّ: أَمَّا تَرْكِي الِاسْتِطَالَةَ
عَلَيْهِمْ وَرَدِّي الْحُنَيْشَ فَهُوَ الرَّأْيُ، وَأَمَّا قَوْلُكَ
لَا تُحَارِبُوا الْعَرَبَ، فَكَيْفَ وَقَدْ كُنْتَ أَكْثَرَ
الْمُلُوكِ مُحَارَبَةً لَهُمْ؟ قَالَ السَّبْلُ: قَدْ جَرَّبْتُ
قُوَّتَكُمْ بِقُوَّتِي فَمَا رَأَيْتُكُمْ تَقَعُونَ مِنِّي
مَوْقِعًا، وَكُنْتُ إِذَا حَارَبْتُهُمْ لَمْ أُفْلِتْ مِنْهُمْ
إِلَّا جَرِيضًا، وَإِنَّكُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ هَلَكْتُمْ.
فَهَذَا الَّذِي كَرَّهَ إِلَى ابْنِ السَّايِجِيِّ مُحَارِبَةَ
الْعَرَبِ.
ذِكْرُ قَتْلِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ وَبَيَانٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَبَيَانٌ فِي
سِتَّةِ نَفَرٍ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْوُصَفَاءَ،
(4/238)
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ سَاحِرًا، وَكَانَ
يَقُولُ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُحْيِيَ عَادًا وَثَمُودَ وَقُرُونًا
بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرَةً لَفَعَلْتُ. وَبَلَغَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيَّ خُرُوجُهُمْ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ
فَقَالَ: أَطْعِمُونِي مَاءً، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ نَوْفَلَ فِي
ذَلِكَ:
أَخَالِدُ لَا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ... وَأَيْرٌ فِي حِرِّ أُمِّكَ
مِنْ أَمِيرِ
وَكُنْتَ لَدَى الْمُغِيرَةِ عَبْدَ سَوْءٍ ... تَبُولُ مِنَ
الْمَخَافَةِ لِلزَّئِيرِ
وَقُلْتَ لِمَا أَصَابَكَ أَطْعِمُونِي ... شَرَابًا ثُمَّ بُلْتَ
عَلَى السَّرِيرِ
لِأَعْلَاجٍ ثَمَانِيَةٍ وَشَيْخٍ ... كَبِيرِ السِّنِّ لَيْسَ بِذِي
نَصِيرِ
فَأَرْسَلَ خَالِدٌ فَأَخَذَهُمْ، وَأَمَرَ بِسَرِيرِهِ فَأُخْرِجَ
إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَأَمَرَ بِالْقَصَبِ وَالنِّفْطِ
فَأُحْضِرَا فَأَحْرَقَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَعْيَنَ
الْجَرْمِيِّ فَسَأَلَهُ، فَصَدَقَهُ، فَتَرَكَهُ.
وَكَانَ رَأْيُ الْمُغِيرَةِ التَّجْسِيمَ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ
عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ، وَإِنَّ أَعْضَاءَهُ عَلَى
عَدَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَيَقُولُ مَا لَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانٌ،
تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ تَكَلَّمَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ فَطَارَ
فَوَقَعَ عَلَى تَاجِهِ، ثُمَّ كَتَبَ بِإِصْبَعِهِ عَلَى كَفِّهِ
أَعْمَالَ عِبَادِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ، فَلَمَّا رَأَى
الْمَعَاصِيَ ارْفَضَّ عَرَقًا، فَاجْتَمَعَ مِنْ عَرَقِهِ بَحْرَانِ
أَحَدُهُمَا مِلْحٌ مُظْلِمٌ وَالْآخَرُ عَذْبٌ نَيِّرٌ، ثُمَّ
اطَّلَعَ فِي الْبَحْرِ فَرَأَى ظِلَّهُ فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ فَطَارَ
فَأَدْرَكَهُ، فَقَلَعَ عَيْنَيْ ذَلِكَ الظِّلِّ وَمَحَقَهُ، فَخَلَقَ
مِنْ عَيْنَيْهِ الشَّمْسَ وَسَمَاءً أُخْرَى، وَخَلَقَ مِنَ الْبَحْرِ
الْمِلْحِ الْكُفَّارَ، وَمِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَكَانَ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ وَتَكْفِيرِ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَتَ مَعَ عَلِيٍّ،
وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي شَيْءٍ
مِنَ الشَّرَائِعِ، وَكَانَ يَقُولُ بِتَحْرِيمِ مَاءِ الْفُرَاتِ
وَكُلِّ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ،
وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَتَكَلَّمُ فَيُرَى أَمْثَالُ
الْجَرَادِ عَلَى الْقُبُورِ.
وَجَاءَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ فَقَالَ لَهُ:
أَقْرِرْ أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى أَجْبِيَ لَكَ الْعِرَاقَ.
فَنَهَرَهُ وَطَرَدَهُ. وَجَاءَ إِلَى ابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الصَّادِقِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ!
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ لِلْمُغِيرَةِ: مَا فَعَلَ الْإِمَامُ؟
فَيَقُولُ: أَتَتَهَزَّأُ بِهِ؟ فَيَقُولُ: لَا إِنَّمَا أَتَهَزَّأُ
بِكَ.
وَأَمَّا بَيَانٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ، وَإِنَّ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ إِلَهَانِ، وَمُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ
(4/239)
بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو
هَاشِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِنَوْعٍ مِنَ التَّنَاسُخِ، وَكَانَ يَقُولُ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْنَى جَمِيعُهُ إِلَّا وَجْهَهُ،
وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] . تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ
الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَادَّعَى
النُّبُوَّةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] .
ذِكْرُ خَبَرِ الْخَوَارِجِ هَذِهِ السَّنَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بُهْلُولُ بْنُ بِشْرٍ الْمُلَقَّبُ
كُثَارَةُ، وَهُوَ مِنَ الْمَوْصِلِ مِنْ شَيْبَانَ.
فَقِيلَ: وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ،
فَأَمَرَ غُلَامَهُ يَبْتَاعُ لَهُ خَلًّا بِدِرْهَمٍ، فَأَتَاهُ
بِخَمْرٍ، فَأَمَرَهُ بَرَدِّهَا وَأَخَذَ الدِّرْهَمَ، فَلَمْ
يُجِبْهُ صَاحِبُ الْخَمْرِ إِلَى ذَلِكَ، فَجَاءَ بُهْلُولٌ إِلَى
عَامِلِ الْقَرْيَةِ، وَهِيَ مِنَ السَّوَادِ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ
الْعَامِلُ: الْخَمْرُ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْ قَوْلِكَ. فَمَضَى فِي
حَجِّهِ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، فَلَقِيَ بِمَكَّةَ مَنْ
كَانَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ، فَاتَّعَدُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى
الْمَوْصِلِ، فَاجْتَمَعُوا بِهَا، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا،
وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ بُهْلُولًا، وَكَتَمُوا أَمْرَهُمْ وَجَعَلُوا
لَا يَمُرُّونَ بِعَامِلٍ إِلَّا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا مِنْ
عِنْدِ هِشَامٍ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَأَخَذُوا دَوَابَّ
الْبَرِيدِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي ابْتَاعَ
الْغُلَامُ بِهَا الْخَمْرَ قَالَ بُهْلُولٌ: نَبْدَأُ بِهَذَا
الْعَامِلِ فَنَقْتُلُهُ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نُرِيدُ قَتْلَ
خَالِدٍ، فَإِنْ بَدَأْنَا بِهَذَا شُهِرَ أَمْرُنَا وَحَذِرَنَا
خَالِدٌ وَغَيْرُهُ، فَنَشَدْنَاكَ اللَّهَ أَنْ نَقْتُلَ هَذَا
فَيُفْلِتُ مِنَّا خَالِدٌ الَّذِي يَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ، وَيَبْنِي
الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ، وَيُوَلِّي الْمَجُوسَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْكِحُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْمُسْلِمَاتِ،
لَعَلَّنَا نَقْتُلُهُ فَيُرِيحُ اللَّهُ مِنْهُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا
أَدَعُ مَا يَلْزَمُنِي لِمَا بَعْدَهُ، وَأَرْجُو أَنْ أَقْتُلَ هَذَا
وَخَالِدًا، فَقَتَلَهُ، فَعَلِمَ بِهِمُ النَّاسُ أَنَّهُمْ
خَوَارِجُ، وَهَرَبُوا، وَخَرَجَتِ الْبَرِيدُ إِلَى خَالِدٍ
فَأَعْلَمُوهُ بِهِمْ، وَلَا يَدْرُونَ مَنْ رَئِيسُهُمْ.
فَخَرَجَ خَالِدٌ مِنْ وَاسِطٍ وَأَتَى الْحِيرَةَ، وَكَانَ بِهَا
جُنْدٌ قَدْ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ مَدَدًا لِعَامِلِ الْهِنْدِ،
فَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ بِقِتَالِهِ وَقَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ
رَجُلًا أَعْطَيْتُهُ عَطَاءً سِوَى مَا أَخَذَ فِي الشَّامِ،
وَأَعْفَيْتُهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِنْدِ. فَسَارَعُوا إِلَى
ذَلِكَ، فَتَوَجَّهَ مُقَدِّمُهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ،
وَمَعَهُ سِتُّمِائَةٍ مِنْهُمْ، فَضَمَّ إِلَيْهِ خَالِدٌ مِائَتَيْنِ
مِنَ الشُّرَطِ، فَالْتَقَوْا عَلَى الْفُرَاتِ، فَقَالَ الْقَيْنِيُّ
لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّرَطِ: لَا تَكُونُوا مَعَنَا لِيَكُونَ
الظَّفَرُ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَحَمَلَ عَلَى
الْقَيْنِيِّ فَأَنْفَذَهُ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَالشُّرَطِ،
وَتَبِعَهُمْ بُهْلُولٌ وَأَصْحَابُهُ يَقْتُلُونَهُمْ حَتَّى بَلَغُوا
الْكُوفَةَ.
(4/240)
فَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَكَانُوا عَلَى
خَيْلٍ جِيَادٍ فَفَاتُوهُ، وَأَمَّا شُرَطُ الْكُوفَةِ
فَأَدْرَكَهُمْ، فَقَالُوا: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّا
مُكْرَهُونَ مَقْهُورُونَ، فَجَعَلَ يَقْرَعُ رُءُوسَهُمْ بِالرُّمْحِ
وَيَقُولُ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ. فَوَجَدَ بُهْلُولٌ مَعَ
الْقَيْنِيِّ بَدْرَةً فَأَخَذَهَا.
وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ سِتَّةٌ يَرَوْنَ رَأْيَ بُهْلُولٍ، فَخَرَجُوا
إِلَيْهِ فَقُتِلُوا بِصَرِيفِينَ، فَخَرَجَ بُهْلُولٌ وَمَعَهُ
الْبَدْرَةُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ حَتَّى أُعْطِيَهُ هَذِهِ
الْبَدْرَةَ؟ فَجَاءَ قَوْمٌ فَقَالُوا: نَحْنُ قَتَلْنَاهُمْ، وَهُمْ
يَظُنُّونَهُ مِنْ عِنْدِ خَالِدٍ، فَقَالَ بُهْلُولٌ لِأَهْلِ
الْقَرْيَةِ: أَصَدَقَ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَتَلَهُمْ
وَتَرَكَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ.
وَبَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ خَالِدًا وَمَا فَعَلَ بِصَرِيفِينَ،
فَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَائِدًا مِنْ شَيْبَانَ أَحَدَ بَنِي حَوْشَبِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمٍ، فَلَقِيَهُ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْصِلِ
وَالْكُوفَةِ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَأَتَوْا خَالِدًا.
فَارْتَحَلَ بُهْلُولٌ مِنْ يَوْمِهِ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، فَكَتَبَ
عَامِلُ الْمَوْصِلِ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ
بِهِمْ وَيَسْأَلُهُ جُنْدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: وَجِّهْ
إِلَيْهِ كُثَارَةَ بْنَ بِشْرٍ. وَكَانَ هِشَامٌ لَا يَعْرِفُ
بُهْلُولًا إِلَّا بِلَقَبِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْعَامِلُ أَنَّ
الْخَارِجَ هُوَ كُثَارَةُ. ثُمَّ قَالَ بُهْلُولٌ لِأَصْحَابِهِ:
إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَصْنَعُ بِابْنِ النَّصْرَانِيَّةِ شَيْئًا،
يَعْنِي خَالِدًا، فَلِمَ لَا نَطْلُبُ الرَّأْسَ الَّذِي سَلَّطَ
خَالِدًا؟ فَسَارَ يُرِيدُ هِشَامًا بِالشَّامِ، فَخَافَ عُمَّالُ
هِشَامٍ مِنْ هِشَامٍ إِنْ تَرَكُوهُ يَجُوزُ إِلَى بِلَادِهِمْ،
فَسَيَّرَ خَالِدٌ جُنْدًا مِنَ الْعِرَاقِ، وَسَيَّرَ عَامِلُ
الْجَزِيرَةِ جُنْدًا مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَوَجَّهَ هِشَامٌ جُنْدًا
مِنَ الشَّامِ، وَاجْتَمَعُوا بِدَيْرٍ بَيْنَ الْجَزِيرَةِ
وَالْمَوْصِلِ، وَأَقْبَلَ بُهْلُولٌ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ الْتَقَوْا
بِكُحَيْلٍ دُونَ الْمَوْصِلِ، فَنَزَلَ بُهْلُولٌ عَلَى بَابِ
الدَّيْرِ وَهُوَ فِي سَبْعِينَ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ
نَفَرًا وَقَاتَلَهُمْ عَامَّةَ نَهَارِهِ، وَكَانُوا عِشْرِينَ
أَلْفًا، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْجِرَاحَ، ثُمَّ إِنَّ
بُهْلُولًا وَأَصْحَابَهُ عَقَرُوا دَوَابَّهُمْ وَتَرَجَّلُوا
فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ
بُهْلُولٍ، فَطُعِنَ بُهْلُولٌ فَصُرِعَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ:
وَلِّ أَمْرَنَا. فَقَالَ: إِنْ هَلَكْتُ فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
دِعَامَةُ الشَّيْبَانِيُّ، وَإِنْ هَلَكَ فَأَمِّرُوا الْيَشْكُرِيَّ.
وَمَاتَ بُهْلُولٌ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا هَرَبَ
دِعَامَةُ وَخَلَّاهُمْ. فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ يَرْثِي
بُهْلُولًا:
بُدِّلْتُ بَعْدَ أَبِي بِشْرٍ وَصُحْبَتِهِ ... قَوْمًا عَلَيَّ مَعَ
الْأَحْزَابِ أَعْوَانًا
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... وَلَمْ يَكُونُوا
لَنَا بِالْأَمْسِ خِلَّانَا
يَا عَيْنُ أَذْرِي دُمُوعًا مِنْكِ تَهْتَانًا ... وَابْكِي لَنَا
صُحْبَةً بَانُوا وَإِخْوَانَا
خَلَّوْا لَنَا ظَاهِرَ الدُّنْيَا وَبَاطِنَهَا ... وَأَصْبَحُوا فِي
جِنَانِ الْخُلْدِ جِيرَانَا
فَلَمَّا قُتِلَ بُهْلُولٌ خَرَجَ عَمْرٌو الْيَشْكُرِيُّ فَلَمْ
يَلْبَثْ أَنْ قُتِلَ.
(4/241)
وَخَرَجَ الْبَخْتَرِيُّ صَاحِبُ
الْأَشْهَبِ، وَبِهَذَا كَانَ يُعْرَفُ، عَلَى خَالِدٍ فِي سِتِّينَ،
فَوَجَّهَ إِلَيْهِ خَالِدٌ السِّمْطَ بْنَ مُسْلِمٍ الْبَجَلِيَّ فِي
أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَالْتَقَوْا بِنَاحِيَةِ الْفُرَاتِ،
فَانْهَزَمَتِ الْخَوَارِجُ، فَتَلَقَّاهُمْ عَبِيدُ أَهْلِ الْكُوفَةِ
وَسِفْلَتُهُمْ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ.
ثُمَّ خَرَجَ وَزِيرُ السِّخْتِيَانِيِّ عَلَى خَالِدٍ بِالْحِيرَةِ
فِي نَفَرٍ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِقَرْيَةٍ إِلَّا أَحْرَقَهَا،
وَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَغَلَبَ عَلَى مَا هُنَالِكَ
وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ خَالِدٌ جُنْدًا
فَقَاتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِهِ وَأُثْخِنَ بِالْجِرَاحِ، وَأُتِيَ
بِهِ خَالِدٌ، وَأَقْبَلَ عَلَى خَالِدٍ فَوَعَظَهُ، فَأَعْجَبَ
خَالِدًا مَا سَمِعَ مِنْهُ فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ،
وَكَانَ يُؤْتَى بِهِ فِي اللَّيْلِ فَيُحَادِثُهُ. فَسُعِيَ بِخَالِدٍ
إِلَى هِشَامٍ وَقِيلَ: أَخَذَ حَرُورِيًّا قَدْ قَتَلَ وَحَرَّقَ
وَأَبَاحَ الْأَمْوَالَ فَجَعَلَهُ سَمِيرًا، فَغَضِبَ هِشَامٌ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ خَالِدٌ يَقُولُ:
إِنِّي أَنْفَسُ بِهِ عَنِ الْمَوْتِ، فَأَخَّرَ قَتْلَهُ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ هِشَامٌ ثَانِيًا يَذُمُّهُ وَيَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ
وَإِحْرَاقِهِ، فَقَتَلَهُ وَأَحْرَقَهُ وَنَفَرًا مَعَهُ، وَلَمْ
يَزَلْ يَتْلُو الْقُرْآنَ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] .
ذِكْرُ خُرُوجِ الصَّحَارِيِّ بْنِ شَبِيبٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الصَّحَارِيُّ بْنُ شَبِيبِ بْنِ
يَزِيدَ بِنَاحِيَةِ حُبَلَ، وَكَانَ قَدْ أَتَى خَالِدًا يَسْأَلُهُ
الْفَرِيضَةَ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَمَا يَصْنَعُ ابْنُ شَبِيبٍ
بِالْفَرِيضَةِ؟ فَمَضَى، وَنَدِمَ خَالِدٌ وَخَافَ أَنْ يَفْتِقَ
عَلَيْهِ [فَتْقًا] ، فَطَلَبَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَسَارَ
حَتَّى أَتَى حُبَلَ، وَبِهَا نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: وَمَا تَرْجُو مِنِ ابْنِ
النَّصْرَانِيَّةِ؟ كُنْتَ أَوْلَى أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ
فَتَضْرِبَهُ بِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ الْفَرِيضَةَ،
وَمَا أَرَدْتُ إِلَّا التَّوَصُّلَ إِلَيْهِ لِئَلَّا يُنْكِرَنِي
ثُمَّ أَقْتُلَهُ بِفُلَانٍ، يَعْنِي بِفُلَانٍ رَجُلًا مِنْ قَعَدَةِ
الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ خَالِدٌ قَتَلَهُ صَبْرًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ
إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَتَبِعَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا
وَخَرَجَ بِهِمْ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ خَالِدًا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ
خِفْتُهَا مِنْهُ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ خَالِدٌ جُنْدًا، فَلَقُوهُ
بِنَاحِيَةِ الْمَنَاذِرِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا
فَقَتَلُوهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ.
ذِكْرُ غَزْوَةِ أَسَدٍ الْخُتُّلَ
وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْخُتُّلَ، فَوَجَّهَ مُصْعَبَ بْنَ عَمْرٍو
الْخُزَاعِيَّ إِلَيْهَا، فَسَارَ فَنَزَلَ بِقُرْبِ بَدْرِ طَرْخَانَ
فَطَلَبَ الْأَمَانَ لِيَخْرُجَ إِلَى أَسَدٍ، فَآمَنَهُ مُصْعَبٌ،
فَسَيَّرَهُ إِلَى أَسَدٍ، فَسَأَلَهُ أَنْ
(4/242)
يَقْبَلَ مِنْهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
فَأَبَى أَسَدٌ وَقَالَ: إِنَّكَ دَخَلْتَهَا وَأَنْتَ غَرِيبٌ مِنْ
أَهْلِ الْبَامْيَانِ، اخْرُجْ مِنَ الْخُتُّلِ كَمَا دَخَلْتَ. قَالَ
بَدَرْطَرْخَانِ: فَأَنْتَ دَخَلْتَ إِلَى خُرَاسَانَ عَلَى عَشَرَةٍ
مِنَ الدَّوَابِّ وَلَوْ خَرَجْتَ مِنْهَا لَمْ تُحْتَمَلْ عَلَى
خَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِنِّي دَخَلْتُ الْخُتُّلَ
شَابًّا، فَارْدُدْ عَلَيَّ شَبَابِي، وَخُذْ مَا كَسَبْتُ مِنْهَا.
فَغَضِبَ أَسَدٌ وَرَدَّهُ إِلَى مُصْعَبٍ لِيُمَكِّنَهُ مِنَ
الْعَوْدِ إِلَى حِصْنِهِ، فَوَصَلَ بَدَرْطَرْخَانَ مَعَ مَوْلًى
لِأَسَدٍ إِلَى مُصْعَبٍ، فَأَخَذَهُ سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَهُوَ مِنَ الْمَوَالِي، وَقَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَنْدَمُ عَلَى
تَرْكِهِ وَحَبْسِهِ عِنْدَهُ.
وَأَقْبَلَ أَسَدٌ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لِمُجَشِّرِ بْنِ مُزَاحِمٍ:
كَيْفَ أَنْتَ؟ قَالَ مُجَشِّرٌ: كُنْتُ أَمْسِ أَحْسَنَ حَالًا مِنِّي
الْيَوْمَ، كَانَ بَدَرْطَرْخَانُ فِي أَيْدِينَا وَعَرَضَ مَا عَرَضَ،
فَلَا الْأَمِيرُ قَبِلَ مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ شَدَّ
يَدَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَأَمَرَ
بِإِدْخَالِهِ حِصْنَهُ. فَنَدِمَ أَسَدٌ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ
إِلَى مُصْعَبٍ يَسْأَلُهُ: هَلْ دَخَلَ بَدَرْطَرْخَانُ حِصْنَهُ أَمْ
لَا؟ فَجَاءَ الرَّسُولُ فَوَجَدَهُ عِنْدَ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ، فَحَوَّلَهُ أَسَدٌ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ
يَدُهُ، وَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَوْلِيَاءَ أَبِي فُدَيْكٍ -
رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ كَانَ بَدَرْطَرْخَانُ قَدْ قَتَلَهُ؟ - فَقَامَ
رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: اضْرِبْ عُنُقَهُ،
فَفَعَلَ. وَغَلَبَ أَسَدٌ عَلَى الْقَلْعَةِ الْعُظْمَى، وَبَقِيَتْ
قَلْعَةٌ فَوْقَهَا صَغِيرَةٌ وَفِيهَا وَلَدُهُ وَأَمْوَالُهُ فَلَمْ
يُوصَلْ إِلَيْهَا. وَفَرَّقَ أَسَدٌ الْعَسْكَرَ فِي أَوْدِيَةِ
الْخُتُّلِ فَمَلَأَ أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسَّبْيِ،
وَهَرَبَ أَهْلُهُ إِلَى الصِّينِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
(فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ أَرْضَ
الرُّومِ) . وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو شَاكِرٍ
مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحَجَّ مَعَهُ ابْنُ
شِهَابٍ [الزُّهْرِيُّ] .
(4/243)
وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ،
وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ،
وَعَلَى خُرَاسَانَ أَخُوهُ أَسَدٌ، وَقِيلَ: كَانَ أَسَدٌ قَدْ هَلَكَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا جَعْفَرَ بْنَ
حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيَّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا هَلَكَ أَسَدٌ سَنَةَ
عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِرْمِينِيَّةَ، فَدَخَلَ
بِلَادَ اللَّانِ، وَسَارَ فِيهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ
الْخَزَرِ، فَمَرَّ بِبَلَنْجَرَ وَسَمَنْدَرَ وَانْتَهَى إِلَى
الْبَيْضَاءِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا خَاقَانُ، فَهَرَبَ خَاقَانُ
مِنْهُ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيُّ. وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ
الْمَكِّيُّ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأَشْدَقُ. وَإِيَاسُ بْنُ
مَسْلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.
(4/244)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ]
120 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ أَسَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِمَدِينَةِ بَلْخٍ.
وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ دُبَيْلَةٌ [فِي جَوْفِهِ]
فَأَصَابَهُ مَرَضٌ، ثُمَّ أَفَاقَ مِنْهُ، فَخَرَجَ يَوْمًا فَأُتِيَ
بِكُمَّثْرَى أَوَّلَ مَا جَاءَ، فَأَطْعَمَ النَّاسَ مِنْهُ وَاحِدَةً
وَاحِدَةً، وَأَخَذَ كُمَّثْرَاةً فَرَمَى بِهَا إِلَى خُرَاسَانَ
دِهْقَانَ هَرَاةَ فَانْقَطَعَتِ الدُّبَيْلَةُ فَهَلَكَ،
وَاسْتَخْلَفَ جَعْفَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيَّ، فَعَمِلَ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَاءَ عَهْدُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
بِالْعَمَلِ فِي رَجَبٍ.
وَكَانَ هَذَا خُرَاسَانَ دِهْقَانِ هَرَاةَ خِصِّيصًا بِأَسَدٍ،
فَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْمِهْرَجَانِ وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا
وَالتُّحَفِ مَا لَمْ يَحْمِلْ غَيْرُهُ مِثْلَهُ، وَكَانَتْ قِيمَةُ
الْهَدِيَّةِ أَلْفَ أَلْفٍ. وَقَالَ لِأَسَدٍ: إِنَّا مَعْشَرَ
الْعَجَمِ أَكَلْنَا الدُّنْيَا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ بِالْحِلْمِ
وَالْعَقْلِ وَالْوَقَارِ، وَكَانَ الرِّجَالُ فِينَا ثَلَاثَةً:
مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ، أَيْنَمَا تَوَجَّهَ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ،
وَالَّذِي يَلِيهِ رَجُلٌ تَمَّتْ مُرُوَّتُهُ فِي بَيْتٍ، فَإِنْ
كَانَ كَذَلِكَ رَحَّبَ وَحَيَّا، وَرَجُلٌ رَحُبَ صَدْرُهُ وَبَسَطَ
يَدَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَدَّمَ وَقَوَّدَ، وَقَدْ جَعَلَ
اللَّهُ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ فِيكَ، فَمَا نَعْلَمُ [أَحَدًا] هُوَ
أَتَمُّ كَتْخُدَانِيَّةً مِنْكَ، إِنَّكَ عَزِيزٌ، ضَابِطٌ أَهْلَ
بَيْتِكَ وَحَشَمَكَ وَمَوَالِيَكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، ثُمَّ
بَنَيْتَ الْإِيوَانَاتِ فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ أَحْسَنِ مَا عُمِلَ،
وَمِنْ يُمْنِ نَقِيبَتِكَ أَنَّكَ لَقِيتَ خَاقَانَ وَهُوَ فِي
مِائَةِ أَلْفٍ، وَمَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ فَهَزَمْتَهُ
وَفَلَلْتَهُ وَقَتَلَتْ أَصْحَابَهُ
(4/245)
وَأَبَحْتَ عَسْكَرَهُ، وَأَمَّا رُحْبُ
صَدْرِكَ وَبَسْطُ يَدِكَ فَإِنَّا لَا نَدْرِي أَيُّ الْمَالَيْنِ
أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمَالٌ قَدِمَ عَلَيْكَ أَمْ مَالٌ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِكَ؟ بَلْ أَنْتَ بِمَا خَرَجَ أَقَرُّ عَيْنًا. فَضَحِكَ أَسَدٌ
وَقَالَ: أَنْتَ خَيْرُ دَهَاقِينِنَا، وَفَرَّقَ جَمِيعَ الْهَدِيَّةِ
بَيْنَ أَصْحَابِهِ.
وَلَمَّا مَاتَ أَسَدٌ رَثَاهُ ابْنُ عُرْسٍ الْعَبْدِيُّ فَقَالَ:
نَعَى
أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَاعِ ... فَرِيعَ الْقَلْبُ لِلْمَلِكِ
الْمُطَاعِ
بِبَلْخٍ وَافَقَ الْمِقْدَارُ يُسْرِي ... وَمَا لِقَضَاءِ رَبِّكَ
مِنْ دِفَاعِ
فَجُودِي عَيْنُ بِالْعَبَرَاتِ سَحًّا ... أَلَمْ يُحْزِنْكِ
تَفْرِيقُ الْجِمَاعِ
فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِهَا. وَلَمَّا مَاتَ أَسَدٌ كَتَبَ مَسْلَمَةُ
بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ أَبُو شَاكِرٍ، إِلَى
خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ:
أَرَاحَ مِنْ خَالِدٍ فَأَهْلَكَهُ ... رَبٌّ أَرَاحَ الْعِبَادَ مِنْ
أَسَدِ
أَمَّا أَبُوهُ فَكَانَ مُؤْتَشِبًا ... عَبْدًا لَئِيمًا لِأَعْبُدٍ
فَقَدِ
يَرَى الزِّنَى وَالصَّلِيبَ وَالْخَمْرَ ... وَالْخِنْزِيرَ حِلًّا
وَالْغَيَّ كَالرَّشَدِ
وَأُمُّهُ هَمُّهَا وَبُغْيَتُهَا ... هَمُّ الْإِمَاءِ الْعَوَاهِرِ
الشُّرَدِ
كَافِرَةٌ بِالنَّبِيِّ مُؤْمِنَةٌ ... بِقَسِّهَا وَالصَّلِيبِ
وَالْعُمَدِ
يَعْنِي الْمَعْمُودِيَّةَ. فَلَمَّا قَرَأَ خَالِدٌ الْكِتَابَ قَالَ:
يَا عِبَادَ اللَّهِ مَنْ رَأَى كَهَذِهِ تَعْزِيَةَ رَجُلٍ مِنْ
أَخِيهِ؟ وَكَانَ مَا بَيْنَ خَالِدٍ وَأَبِي شَاكِرٍ مُبَاعَدَةٌ،
وَسَبَبُهَا أَنَّ هِشَامًا يُرَشِّحُ ابْنَهُ أَبَا شَاكِرٍ
لِلْخِلَافَةِ، فَقَالَ الْكُمَيْتُ:
إِنَّ الْخِلَافَةَ كَائِنٌ أَوْتَادُهَا ... بَعْدَ الْوَلِيدِ إِلَى
ابْنِ أُمِّ حَكِيمِ
يَعْنِي أَبَا شَاكِرٍ، وَأُمَّهُ أُمَّ حَكِيمٍ، فَبَلَغَ الشِّعْرُ
خَالِدًا فَقَالَ: أَنَا كَافِرٌ بِكُلِّ خَلِيفَةٍ يُكَنَّى أَبَا
شَاكِرٍ، فَسَمِعَهَا أَبُو شَاكِرٍ فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ.
ذِكْرُ شِيعَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَتْ شِيعَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ
بِخُرَاسَانَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
(4/246)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ لِيُعْلِمَهُ أَمْرَهُمْ وَمَا هُمْ
عَلَيْهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ مُكَاتَبَتَهُمْ
وَمُرَاسَلَتَهُمْ بِطَاعَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لِخِدَاشٍ الَّذِي
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَبُولِهِمْ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ
الْكَذِبِ. فَلَمَّا أَبْطَأَتْ كُتُبُهُ وَرُسُلُهُ عَلَيْهِمْ
أَرْسَلُوا سُلَيْمَانَ لِيَعْلَمَ الْخَبَرَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ
فَعَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَفَ سُلَيْمَانَ إِلَى
خُرَاسَانَ وَمَعَهُ كِتَابٌ مَخْتُومٌ، فَفَضُّوهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ:
" إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، فَعَظُمَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ وَعَلِمُوا مُخَالَفَةَ خِدَاشٍ لِأَمْرِهِ، ثُمَّ وَجَّهَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَيْهِمْ بُكَيْرَ بْنَ مَاهَانَ بَعْدَ
عَوْدِ سُلَيْمَانَ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ
يُعْلِمُهُمْ كَذِبَ خِدَاشٍ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَاسْتَخَفُّوا
بِهِ، فَانْصَرَفَ بُكَيْرٌ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ
بِعِصِيٍّ مُضَبَّبَةٍ بَعْضُهَا بِحَدِيدٍ وَبَعْضُهَا بِنُحَاسٍ،
فَجَمَعَ بُكَيْرٌ النُّقَبَاءَ وَالشِّيعَةَ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ
لِسِيرَتِهِ فَتَابُوا وَرَجَعُوا.
ذِكْرُ عَزْلِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ وَوِلَايَةِ
يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ الثَّقَفِيِّ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ خَالِدًا
عَنْ أَعْمَالِهِ جَمِيعِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ
وَسَبَبِهِ.
قِيلَ: إِنَّ فَرُّوخَ أَبَا الْمُثَنَّى كَانَ عَلَى ضِيَاعِ هِشَامٍ
بِنَهْرِ الرُّمَّانِ، فَثَقُلَ مَكَانُهُ عَلَى خَالِدٍ، فَقَالَ
خَالِدٌ لَحَيَّانَ النَّبَطِيِّ: اخْرُجْ إِلَى هِشَامٍ وَزِدْ عَلَى
فَرُّوخٍ، فَفَعَلَ حَيَّانُ ذَلِكَ وَتَوَلَّاهَا، فَصَارَ حَيَّانُ
أَثْقَلَ عَلَى خَالِدٍ مِنْ فَرُّوخٍ، فَجَعَلَ يُؤْذِيهِ، فَيَقُولُ
حَيَّانُ: لَا تُؤْذِنِي وَأَنَا صَنِيعَتُكَ، فَأَبَى إِلَّا أَذَاهُ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَثَقَ الْبُثُوقَ عَلَى الضِّيَاعِ، ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى هِشَامٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ خَالِدًا بَثَقَ الْبُثُوقَ
عَلَى ضِيَاعِكَ. فَوَجَّهَ هِشَامٌ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا. فَقَالَ
حَيَّانُ لِخَادِمٍ مِنْ خَدَمِ هِشَامٍ: إِنْ تَكَلَّمْتَ بِكَلِمَةٍ
أَقُولُهَا لَكَ حَيْثُ يَسْمَعُ هِشَامٌ فَلَكَ أَلْفُ دِينَارٍ.
قَالَ: فَعَجِّلْهَا [وَأَقُولُ مَا شِئْتَ] ، فَأَعْطَاهُ أَلْفًا
وَقَالَ لَهُ: تُبْكِي صَبِيًّا مِنْ صِبْيَانِ هِشَامٍ، فَإِذَا بَكَى
فَقُلْ لَهُ: (اسْكُتْ وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ ابْنُ خَالِدٍ)
الْقَسْرِيُّ الَّذِي غَلَّتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفٍ.
فَفَعَلَ الْخَادِمُ، فَسَمِعَهَا هِشَامٌ، فَسَأَلَ حَيَّانَ عَنْ
غَلَّةِ خَالِدٍ، فَقَالَ:
(4/247)
ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ،
فَوَقَرَتْ فِي نَفْسِ هِشَامٍ.
وَقِيلَ: كَانَتْ غَلَّتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَإِنَّهُ حَفَرَ
بِالْعِرَاقِ الْأَنْهَارَ، مِنْهَا نَهْرُ خَالِدٍ، وَبَاجِرَى،
وَتَارْمَانَا، وَالْمُبَارَكُ، وَالْجَامِعُ، وَكُورَةُ سَابُورَ،
وَالصِّلْحُ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: إِنِّي مَظْلُومٌ، مَا
تَحْتَ قَدَمَيَّ شَيْءٌ إِلَّا هُوَ لِي، يَعْنِي أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ
لِبَجِيلَةَ رُبْعَ السَّوَادِ.
وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْعُرْيَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَبِلَالُ بْنُ
أَبِي بُرْدَةَ بِعَرْضِ أَمْلَاكِهِ عَلَى هِشَامٍ، لِيَأْخُذَ
مِنْهَا مَا أَرَادَ، وَيَضْمَنَانِ لَهُ الرِّضَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ
بَلَغَهُمَا تَغَيُّرُ هِشَامٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ
يُجِبْهُمَا إِلَى شَيْءٍ. وَقِيلَ لِهِشَامٍ: إِنَّ خَالِدًا قَالَ
لِوَلَدِهِ: مَا أَنْتَ بِدُونِ مَسْلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ!
وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى
خَالِدٍ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَكَتَبَ
إِلَى هِشَامٍ يَشْكُو خَالِدًا، فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى خَالِدٍ
يَذُمُّهُ وَيَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَمْشِيَ
رَاجِلًا إِلَى بَابِهِ وَيَتَرَضَّاهُ، فَقَدْ جَعَلَ عَزْلَهُ
وَوِلَايَتَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَذْكُرُ هِشَامًا فَيَقُولُ: ابْنُ
الْحَمْقَاءِ، وَكَانَ خَالِدٌ يَخْطُبُ فَيَقُولُ: زَعَمْتُمْ أَنِّي
أُغْلِي أَسْعَارَكُمْ، فَعَلَى مَنْ يُغْلِيهَا لَعْنَةُ اللَّهِ!
وَكَانَ هِشَامٌ كَتَبَ إِلَيْهِ أَلَّا تَبِيعَنَّ مِنَ الْغَلَّاتِ
شَيْئًا حَتَّى تُبَاعَ غَلَّاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَبَلَغَتْ
كَيْلَهَا دَرَاهِمَ. وَكَانَ يَقُولُ لِابْنِهِ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا
احْتَاجَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَبَلَغَ هَذَا جَمِيعُهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامًا فَتَنَكَّرَ
لَهُ. وَبَلَغَهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: يَابْنَ أُمِّ خَالِدٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ
تَقُولُ: مَا وِلَايَةُ الْعِرَاقِ لِي بِشَرَفٍ. يَابْنَ
اللَّخْنَاءِ، كَيْفَ لَا تَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لَكَ شَرَفًا،
وَأَنْتَ مِنْ بَجِيلَةَ الْقَلِيلَةِ الذَّلِيلَةِ؟ أَمَا وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَأْتِيكَ صَغِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ
يَشُدُّ يَدَيْكَ إِلَى عُنُقِكَ.
وَلَمْ يَزَلْ يَبْلُغُهُ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، فَعَزَمَ عَلَى
عَزْلِهِ، فَكَتَمَ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ
بِالْيَمَنِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْدَمَ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ
أَصْحَابِهِ إِلَى الْعِرَاقِ فَقَدْ وَلَّاهُ ذَلِكَ، فَسَارَ يُوسُفُ
إِلَى الْكُوفَةِ فَعَرَّسَ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقَدْ خَتَنَ طَارِقٌ
خَلِيفَةُ خَالِدٍ بِالْكُوفَةِ وَلَدَهُ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَلْفَ
وَصِيفٍ وَوَصِيفَةٍ سِوَى الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ، فَمَرَّ
بِيُوسُفَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَسَأَلُوهُ: مَا أَنْتُمْ
وَأَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: بَعْضَ الْمَوَاضِعِ. فَأَتَوْا
طَارِقًا فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ
(4/248)
وَأَمَرُوهُ بِقَتْلِهِمْ وَقَالُوا:
إِنَّهُمْ خَوَارِجُ. فَسَارَ يُوسُفُ إِلَى دُورِ ثَقِيفٍ، فَقِيلَ
لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ فَكَتَمُوا حَالَهُمْ وَأَمْرَ يُوسُفَ،
فَجَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُضَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا
دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَعَ الْفَجْرِ وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ وَأَقَامَ
الصَّلَاةَ فَصَلَّى، وَأَرْسَلَ إِلَى طَارِقٍ وَخَالِدٍ
فَأَخَذَهُمَا وَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي.
وَقِيلَ: لَمَّا أَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يُوَلِّيَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ
الْعِرَاقَ كَتَمَ ذَلِكَ، فَقَدِمَ جُنْدُبٌ مَوْلَى يُوسُفَ
بِكِتَابِ يُوسُفَ إِلَى هِشَامٍ، فَقَرَأَهُ ثُمَّ قَالَ لِسَالِمِ
بْنِ عَنْبَسَةَ وَهُوَ عَلَى الدِّيوَانِ: أَنْ أَجِبْهُ عَنْ
لِسَانِكَ وَأْتِنِي بِالْكِتَابِ. وَكَتَبَ هِشَامٌ بِخَطِّهِ
كِتَابًا صَغِيرًا إِلَى يُوسُفَ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى
الْعِرَاقِ، فَكَتَبَ سَالِمٌ الْكِتَابَ وَأَتَى بِهِ هِشَامًا،
فَجَعَلَ كِتَابَهُ فِي وَسَطِهِ وَخَتَمَهُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولَ
يُوسُفَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ وَمُزِّقَتْ ثِيَابَهُ، وَدَفَعَ
الْكِتَابَ إِلَيْهِ فَسَارَ. فَارْتَابَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،
وَكَانَ خَلِيفَةَ سَالِمٍ، فَقَالَ: هَذِهِ حِيلَةٌ، وَقَدْ وَلَّى
يُوسُفَ الْعِرَاقَ، فَكَتَبَ إِلَى عِيَاضٍ، وَهُوَ نَائِبُ سَالِمٍ
بِالْعِرَاقِ: إِنَّ أَهْلَكَ قَدْ بَعَثُوا إِلَيْكَ بِالثَّوْبِ
الْيَمَانِيِّ، فَإِذَا أَتَاكَ فَالْبَسْهُ، وَاحَمْدِ اللَّهَ
تَعَالَى، (وَأَعْلِمْ ذَلِكَ طَارِقًا) . فَأَعْلَمَ عِيَاضٌ طَارِقَ
بْنَ أَبِي زِيَادٍ بِالْكِتَابِ لَهُ.
ثُمَّ نَدِمَ بَشِيرٌ عَلَى كِتَابِهِ، فَكَتَبَ إِلَى عِيَاضٍ: (إِنَّ
أَهْلَكَ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِي إِمْسَاكِ) الثَّوْبِ. فَأَتَى
عِيَاضٌ) بِالْكِتَابِ الثَّانِي إِلَى طَارِقٍ، فَقَالَ طَارِقٌ:
الْخَبَرُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ بَشِيرًا نَدِمَ
وَخَافَ أَنْ يَظْهَرَ الْخَبَرُ.
وَرَكِبَ طَارِقٌ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِوَاسِطٍ،
فَرَآهُ دَاوُدُ الْبَرِيدِيُّ، وَكَانَ عَلَى حِجَابَةِ خَالِدٍ
وَدِيوَانِهِ، فَأَعْلَمَ خَالِدًا، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا رَآهُ
قَالَ: مَا أَقْدَمَكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ قَالَ: أَمْرٌ كُنْتُ
أَخْطَأْتُ فِيهِ، كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْأَمِيرِ أُعَزِّيهِ
بِأَخِيهِ أَسَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ آتِيَهُ مَاشِيًا.
فَرَقَّ خَالِدٌ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى
عَمَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ لَمَّا غَابَ دَاوُدُ، قَالَ: مَا
الرَّأْيُ؟ قَالَ: تَرْكَبُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَعْتَذِرُ
إِلَيْهِ مِمَّا بَلَغَهُ عَنْكَ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ
إِذْنٍ. قَالَ: فَتُرْسِلُنِي إِلَيْهِ حَتَّى آتِيَكَ بِإِذْنِهِ.
قَالَ: وَلَا هَذَا. قَالَ: فَأَذْهَبُ فَأَضْمَنُ لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ مَا انْكَسَرَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ وَآتِيكَ
بِعَهْدِهِ. قَالَ: وَكَمْ مَبْلَغُهُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ.
قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ آخُذُهَا؟ وَاللَّهِ مَا أَجِدُ عَشَرَةَ آلَافِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ! قَالَ: أَتَحَمَّلُ أَنَا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ.
قَالَ: إِنِّي إِذًا لَلَئِيمٌ إِنْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُمْ شَيْئًا
وَأَعُودُ فِيهِ. فَقَالَ
(4/249)
طَارِقٌ: إِنَّمَا نَفْدِيكَ وَنَفْدِي
أَنْفُسَنَا بِأَمْوَالِنَا وَتُسْتَأْنَفُ الدُّنْيَا، وَتَبْقَى
النِّعْمَةُ عَلَيْكَ وَعَلَيْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَجِيءَ مَنْ
يُطَالِبُنَا بِالْأَمْوَالِ (وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ،
فَيَتَرَبَّصُونَ فَنُقْتَلُ وَيَأْكُلُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ) .
فَأَبَى خَالِدٌ. فَوَدَّعَهُ طَارِقٌ وَبَكَى وَقَالَ: هَذَا آخِرُ
مَا نَلْتَقِي فِي الدُّنْيَا. وَمَضَى إِلَى الْكُوفَةِ وَخَرَجَ
خَالِدٌ إِلَى الْجَمَّةِ.
وَقَدِمَ رَسُولُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الْيَمَنَ فَقَالَ: أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ سَاخِطٌ، وَقَدْ ضَرَبَنِي وَلَمْ يَكْتُبْ جَوَابَ
كِتَابِكَ، وَهَذَا كِتَابُ سَالِمٍ صَاحِبِ الدِّيوَانِ.
فَقَرَأَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ قَرَأَ كِتَابَ هِشَامٍ
بِخَطِّهِ وَوِلَايَةِ الْعِرَاقِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَأْخُذَ ابْنَ
النَّصْرَانِيَّةِ، يَعْنِي خَالِدًا، وَعُمَّالَهُ وَيُعَذِّبَهُمْ
حَتَّى يَشْتَفِيَ. فَأَخَذَ دَلِيلًا وَسَارَ مِنْ يَوْمِهِ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْيَمَنِ ابْنَهُ الصَّلْتَ، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَنَزَلَ
النَّجَفَ، وَأَرْسَلَ مَوْلَاهُ كَيْسَانَ وَقَالَ: انْطَلِقْ
فَأْتِنِي بِطَارِقٍ، فَإِنْ أَقْبَلَ فَاحْمِلْهُ عَلَى إِكَافٍ،
وَإِنْ لَمْ يُقْبِلْ فَأْتِ بِهِ سَحْبًا.
فَأَتَى كَيْسَانُ الْحِيرَةَ فَأَخَذَ مَعَهُ عَبْدَ الْمَسِيحِ
سَيِّدَ أَهْلِهَا إِلَى طَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يُوسُفَ قَدْ
قَدِمَ عَلَى الْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْتَدْعِيكَ. فَقَالَ طَارِقٌ
لَكَيْسَانَ: إِنْ أَرَادَ الْأَمِيرُ الْمَالَ أَعْطَيْتُهُ مَا
سَأَلَ. وَأَقْبَلُوا بِهِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فَتَوَافَوْا
بِالْحِيرَةِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، يُقَالُ خَمْسُمِائَةِ
سَوْطٍ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ، وَأَرْسَلَ عَطَاءَ بْنَ مُقَدِّمٍ إِلَى
خَالِدٍ بِالْجَمَّةِ، فَأَتَى الرَّسُولُ حَاجِبَهُ وَقَالَ:
اسْتَأْذِنْ [لِي] عَلَى أَبِي الْهَيْثَمِ، فَدَخَلَ عَلَى خَالِدٍ
مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ، فَقَالَ خَالِدٌ: مَا لَكَ؟ قَالَ: خَيْرٌ.
قَالَ: مَا عِنْدَكَ خَيْرٌ! قَالَ: عَطَاءٌ [قَالَ] : اسْتَأْذِنْ لِي
عَلَى أَبِي الْهَيْثَمِ. فَقَالَ: ايذَنْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: وَيْلُ أُمِّهَا سَخْطَةٌ! ثُمَّ أَخَذَهُ فَحَبَسَهُ،
وَصَالَحَهُ عَنْهُ أَبَانُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى
تِسْعَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَقِيلَ لِيُوسُفَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلْ
لَأَخَذْتَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ، فَنَدِمَ وَقَالَ: قَدْ
رَهَنْتُ لِسَانِي مَعَهُ وَلَا آمَنُ وَلَا أَرْجِعُ.
وَأَخْبَرَ أَصْحَابُ خَالِدٍ خَالِدًا فَقَالَ: قَدْ أَخْطَأْتُمْ
وَلَا آمَنُ أَنْ يَأْخُذَهَا ثُمَّ يَعُودُ، ارْجِعُوا، فَرَجَعُوا
فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ خَالِدًا لَمْ يَرْضَ، فَقَالَ: قَدْ رَجَعْتُمْ؟
قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرْضَى بِمِثْلِهَا وَلَا
مِثْلَيْهَا، فَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: أَخَذَ مِائَةَ
أَلْفٍ. فَأَرْسَلَ يُوسُفَ
(4/250)
إِلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ،
فَقَبَضَهُ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ بِلَالٌ بِالْكُوفَةِ دَارًا لَمْ
يَنْزِلْهَا، فَأَحْضَرَهُ يُوسُفُ مُقَيَّدًا فَأَنْزَلَهُ الدَّارَ،
ثُمَّ جُعِلَتْ سِجْنًا. وَكَانَ خَالِدٌ يَصِلُ الْهَاشِمِيِّينَ
وَيَبَرُّهُمْ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِيَسْتَحْمِيَهُ فَلَمْ يَرَ مِنْهُ مَا
يُحِبُّ، فَقَالَ: أَمَّا الصِّلَةُ فَلِلْهَاشِمِيِّينَ، وَلَيْسَ
لَنَا مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ يَلْعَنُ عَلِيًّا، فَبَلَغَتْ خَالِدًا
فَقَالَ: إِنْ أَحَبَّ نِلْنَا عُثْمَانَ بِشَيْءٍ.
وَكَانَ خَالِدٌ مَعَ هَذَا يُبَالِغُ فِي سَبِّ عَلِيٍّ، فَقِيلَ:
كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ، وَتَقَرُّبًا إِلَى
الْقَوْمِ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ خَالِدٍ الْعِرَاقَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ
وَمِائَةٍ، وَعُزِلَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ، وَلَمَّا وَلِيَ يُوسُفُ الْعِرَاقَ كَانَ الْإِسْلَامُ
ذَلِيلًا وَالْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ يَحْيَى
بْنُ نَوْفَلَ فِيهِ:
أَتَانَا وَأَهْلُ الشِّرْكِ أَهْلُ زَكَاتِنَا ... وَحُكَّامُنَا
فِيمَا نُسِرُّ وَنَجْهَرُ
فَلَمَّا أَتَانَا يُوسُفُ الْخَيْرِ أَشْرَقَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ
حَتَّى كُلُّ وَادٍ مُنَوَّرُ
وَحَتَّى رَأَيْنَا الْعَدْلَ فِي النَّاسِ ظَاهِرًا ... وَمَا كَانَ
مِنْ قِبَلِ الْعُقَيْلِيِّ يَظْهَرُ
فِي أَبْيَاتٍ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
أَرَانَا وَالْخَلِيفَةُ إِذْ رَمَانَا ... مَعَ الْإِخْلَاصِ
بِالرَّجُلِ الْجَدِيدِ
كَأَهْلِ النَّارِ حِينَ دَعَوْا أُغِيثُوا ... جَمِيعًا بِالْحَمِيمِ
وَبِالصَّدِيدِ
وَكَانَ فِي يُوسُفَ أَشْيَاءُ مُتَبَايِنَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، كَانَ
طَوِيلَ الصَّلَاةِ، مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ، ضَابِطًا لِحَشَمِهِ
وَأَهْلِهِ عَنِ النَّاسِ، لَيِّنَ الْكَلَامِ، مُتَوَاضِعًا، حَسَنَ
الْمَلَكَةِ، كَثِيرَ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ يُصَلِّي
الصُّبْحَ وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى يُصَلِّيَ الضُّحَى،
يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَضَرَّعُ، وَكَانَ بَصِيرًا بِالشِّعْرِ
وَالْأَدَبِ، وَكَانَ شَدِيدَ الْعُقُوبَةِ مُسْرِفًا فِي ضَرْبِ
الْأَبْشَارِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ فَيُمِرُّ
ظُفْرَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ طَاقُهُ ضَرَبَ صَاحِبَهُ
وَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَهُ. وَكَانَ أَحْمَقَ، أُتِيَ يَوْمًا بِثَوْبٍ
فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الثَّوْبِ؟ فَقَالَ: كَانَ
يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بُيُوتُهُ أَصْغَرَ مِمَّا هِيَ. فَقَالَ
لِلْحَائِكِ: صَدَقَ يَابْنَ اللَّخْنَاءِ! فَقَالَ الْحَائِكُ: نَحْنُ
أَعْلَمُ بِهَذَا. فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: صَدَقَ يَابْنَ اللَّخْنَاءِ.
فَقَالَ الْكَاتِبُ: هَذَا يَعْمَلُ فِي السَّنَةِ ثَوْبًا أَوْ
ثَوْبَيْنِ، وَأَنَا يَمُرُّ عَلَى يَدَيَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةُ
ثَوْبٍ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ لِلْحَائِكِ: صَدَقَ يَابْنَ
اللَّخْنَاءِ! فَلَمْ
(4/251)
يَزَلْ يُكَذِّبُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا
مَرَّةً حَتَّى عَدَّ أَبْيَاتَ الثَّوْبِ فَوَجَدَهَا تَنْقُصُ
بَيْتًا مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الثَّوْبِ، فَضَرَبَ الْحَائِكَ مِائَةَ
سَوْطٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ أَرَادَ السَّفَرَ فَدَعَا جَوَارِيَهُ فَقَالَ
لِإِحْدَاهُنَّ: تَخْرُجِينَ مَعِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: يَا
خَبِيثَةُ كُلُّ هَذَا مِنْ حُبِّ النِّكَاحِ، يَا خَادِمُ اضْرِبْ
رَأْسَهَا. وَقَالَ لِأُخْرَى: مَا تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: أُقِيمُ
عَلَى وَلَدِي. فَقَالَ: يَا خَبِيثَةُ أَكُلُّ هَذَا زَهَادَةٌ فِيَّ؟
اضْرِبْ رَأْسَهَا. وَقَالَ لِثَالِثَةٍ: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: مَا
أَدْرِي مَا أَقُولُ، إِنْ قُلْتُ مَا قَالَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ آمَنْ
عُقُوبَتَكَ. فَقَالَ: يَا لَخْنَاءُ أَوَتُنَاقِضِينَ وَتَحْتَجِّينَ؟
اضْرِبْ رَأْسَهَا. فَضَرَبَ الْجَمِيعَ.
وَكَانَ قَصِيرًا عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، وَكَانَ يُحْضِرُ الثَّوْبَ
الطَّوِيلَ لِيُفَصِّلَهُ لِيَلْبَسَهُ، فَإِنْ قَالَ الْخَيَّاطُ
إِنَّهُ يُفَصِّلُ مِنْهُ ضَرَبَهُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ الْخَيَّاطُ:
لَا يَكْفِينَا إِلَّا بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي التَّفْصِيلِ، سَرَّهُ،
فَكَانُوا يُفَصِّلُونَ لَهُ ثِيَابًا طِوَالًا وَيَأْخُذُونَ مَا
يَنْبَغِي مِنَ الثَّوْبِ يُوهِمُونَهُ أَنَّ الثَّوْبَ لَمْ يَكْفِهِ
فَيَرْضَى بِذَلِكَ. وَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءُ نَوَادِرُ،
مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِكَاتِبٍ لَهُ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ:
اشْتَكَيْتُ ضِرْسِي، فَدَعَا بِحَجَّامٍ يَقْلَعُهُ وَمَعَهُ ضِرْسٌ
آخَرُ.
ذِكْرُ وِلَايَةِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ الْكِنَانِيِّ خُرَاسَانَ
لَمَّا مَاتَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اسْتَشَارَ هِشَامُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ سُلَيْطٍ الْحَنَفِيَّ،
وَكَانَ عَالِمًا بِخُرَاسَانَ، فِيمَنْ يُوَلِّيهِ، فَقَالَ عَبْدُ
الْكَرِيمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا رَجُلُ خُرَاسَانَ
حَزْمًا وَنَجْدَةً فَالْكَرْمَانِيُّ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ: مَا
اسْمُهُ؟ قَالَ جُدَيْعُ بْنُ عَلِيٍّ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ،
وَتَطَيَّرَ، قَالَ: فَالْمُسِنُّ الْمُجَرِّبُ يَحْيَى بْنُ نُعَيْمِ
بْنِ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ. قَالَ: رَبِيعَةُ لَا تُسَدُّ بِهَا
الثُّغُورُ.
قَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ رَبِيعَةَ
وَالْيَمَنَ فَأَرْمِيهِ بِمُضَرَ، فَقُلْتُ: عَقِيلُ بْنُ مَعْقِلٍ
اللِّيثِيُّ إِنْ غَفَرْتَ هَنَةً. قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: لَيْسَ
بِالْعَفِيفِ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. قُلْتُ: مَنْصُورُ بْنُ
أَبِي الْخَرْقَاءِ السُّلَمِيُّ إِنْ غَفَرْتَ نُكْرَهُ فَإِنَّهُ
مَشْئُومٌ. قَالَ: غَيْرُهُ. قُلْتُ: فَالْمُجَشِّرُ بْنُ مُزَاحِمٍ
السُّلَمِيُّ ; عَاقِلٌ شُجَاعٌ لَهُ رَأْيٌ مَعَ كَذِبٍ فِيهِ. قَالَ:
لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ. قُلْتُ: يَحْيَى بْنُ الْحُضَيْنِ. قَالَ:
أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنَّ رَبِيعَةَ لَا تُسَدُّ بِهَا الثُّغُورُ؟
قَالَ: فَقُلْتُ: نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ. قَالَ: هُوَ لَهَا. قُلْتُ:
إِنْ غَفَرْتَ وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ عَفِيفٌ مُجَرِّبٌ عَاقِلٌ. قَالَ:
مَا هِيَ؟ قُلْتُ: عَشِيرَتُهُ بِهَا قَلِيلَةٌ. قَالَ لَا أَبَا
(4/252)
لَكَ! [أَتُرِيدُ عَشِيرَةً] أَكْثَرَ
مِنِّي؟ أَنَا عَشِيرَتُهُ. فَكَتَبَ عَهْدَهُ وَبَعَثَهُ مَعَ عَبْدِ
الْكَرِيمِ.
وَقَدْ قِيلَ: عُرِضَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ الشِّخِّيرِ، وَقِيلَ
لَهُ: إِنَّهُ صَاحِبُ شَرَابٍ، وَقِيلَ لَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ
الْحُضَيْنِ: إِنَّهُ كَثِيرُ التِّيهِ، وَقِيلَ لَهُ عَنْ قَطَنِ بْنِ
قُتَيْبَةَ: إِنَّهُ مَوْتُورٌ، فَلَمْ يُوَلِّهِمْ فَاسْتَعْمَلَ
نَصْرًا.
وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ أَسَدٌ عَلَى
خُرَاسَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ قَدْ عَرَضَ عَلَى نَصْرٍ أَنْ يُوَلِّيَهُ
بُخَارَى، فَاسْتَشَارَ الْبَخْتَرِيَّ بْنَ مُجَاهِدٍ مَوْلَى بَنِي
شَيْبَانَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَقْبَلْهَا لِأَنَّكَ شَيْخُ مُضَرَ
بِخُرَاسَانَ، وَكَأَنَّكَ بِعَهْدِكَ قَدْ جَاءَ عَلَى خُرَاسَانَ
كُلِّهَا. فَلَمَّا أَتَاهُ عَهْدُهُ بَعَثَ إِلَى الْبَخْتَرِيِّ
لِيَأْتِيَهُ، فَقَالَ الْبَخْتَرِيُّ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ وَلِيَ
نَصْرٌ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَتَاهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ،
فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ عَلِمْتَ؟ قَالَ: كُنْتَ تَأْتِينِي،
فَلَمَّا بَعَثْتَ إِلَيَّ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ وَلِيتَ.
وَأَعْطَى نَصْرٌ عَبْدَ الْكَرِيمِ لَمَّا أَتَاهُ بِعَهْدِهِ
عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى بَلْخٍ مُسْلِمَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَرْوِ
الرُّوذِ وَسَّاجَ بْنَ بُكَيْرِ بْنِ وَسَّاجٍ، وَعَلَى هَرَاةَ
الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَشْرَجِ، وَعَلَى
نَيْسَابُورَ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيَّ، وَعَلَى
خَوَارِزْمَ أَبَا حَفْصِ بْنَ عَلِيٍّ خَتَنَهُ، وَعَلَى الصُّغْدِ
قَطَنَ بْنَ قُتَيْبَةَ. قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ: مَا
رَأَيْتُ عَصَبِيَّةً مِثْلَ هَذَا. قَالَ: بَلَى، الَّتِي كَانَتْ
قَبْلَهَا، فَلَمْ يَسْتَعْمِلْ أَرْبَعَ سِنِينَ إِلَّا مُضَرِيًّا.
وَعُمِرَتْ خُرَاسَانُ عِمَارَةً لَمْ تُعْمَرْ قَبْلَهَا، وَأَحْسَنَ
الْوِلَايَةَ وَالْجِبَايَةَ، فَقَالَ سَوَّارُ بْنُ الْأَشْعَرِ:
أَضْحَتْ خُرَاسَانُ بَعْدَ الْخَوْفِ آمِنَةً ... مِنْ ظُلْمِ كُلِّ
غَشُومِ الْحُكْمِ جَبَّارِ
لَمَّا أَتَى يُوسُفًا أَخْبَارُ مَا لَقِيَتْ ... اخْتَارَ نَصْرًا
لَهَا نَصْرَ بْنَ سَيَّارِ
وَأَتَى نَصْرًا عَهْدَهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَافْتَتَحَ سَنْدَرَةَ.
(4/253)
وَفِيهَا غَزَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ
الْعُقَيْلِيُّ تُومَانْشَاهْ، وَافْتَتَحَ قِلَاعَهَا وَخَرَّبَ
أَرْضَهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ: حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ
هِشَامٍ.
وَكَانَ الْعَامِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ
مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَى الْعِرَاقِ
وَالْمَشْرِقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ، وَقَدْ أَمَرَهُ هِشَامٌ أَنْ يُكَاتِبَ يُوسُفَ بْنَ
عُمَرَ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَيْهَا جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ، اسْتَعْمَلَهُ
يُوسُفُ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَامِرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَعَلَى
إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى
قَضَاءِ الْكُوفَةِ ابْنُ شُبْرُمَةَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ فِي أَصَحِّ
الْأَقْوَالِ. (وَفِيهَا مَاتَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ بِالشَّامِ) .
وَفِيهَا مَاتَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ.
(4/254)
وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ،
وَوَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَلِيُّ بْنُ
مُدْرِكٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ.
(4/255)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ وَمِائَةً]
121 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً
ذِكْرُ ظُهُورِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ الرُّومَ
فَافْتَتَحَ بِهَا مَطَامِيرَ.
قِيلَ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قُتِلَ هَذِهِ
السَّنَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْآنَ سَبَبَ خِلَافِهِ عَلَى هِشَامٍ
وَبَيْعَتِهِ، وَنَذْكُرُ قَتْلَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ.
قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ خِلَافِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ زَيْدًا
وَدَاوُدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدَ
بْنَ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدِمُوا عَلَى خَالِدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ بِالْعِرَاقِ فَأَجَازَهُمْ
وَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ
كَتَبَ إِلَى هِشَامٍ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ خَالِدًا ابْتَاعَ
مِنْ زَيْدٍ أَرْضًا بِالْمَدِينَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ
رَدَّ الْأَرْضَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى عَامِلِ
الْمَدِينَةِ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَيْهِ فَفَعَلَ، فَسَأَلَهُمْ
هِشَامٌ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَرُّوا بِالْجَائِزَةِ، وَأَنْكَرُوا مَا
سِوَى ذَلِكَ وَحَلَفُوا، فَصَدَّقَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ
إِلَى الْعِرَاقِ لِيُقَابِلُوا خَالِدًا، فَسَارُوا عَلَى كُرْهٍ
وَقَابَلُوا خَالِدًا، فَصَدَّقَهُمْ، فَعَادَوْا نَحْوَ الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا نَزَلُوا الْقَادِسِيَّةَ رَاسَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ زَيْدًا
فَعَادَ إِلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: بَلِ ادَّعَى خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ أَنَّهُ أَوْدَعَ زَيْدًا
وَدَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ وَنَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مَالًا، فَكَتَبَ
يُوسُفُ بِذَلِكَ إِلَى هِشَامٍ، فَأَحْضَرَهُمْ هِشَامٌ مِنَ
الْمَدِينَةِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى يُوسُفَ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ خَالِدٍ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ يُوسُفُ لِزَيْدٍ:
إِنَّ خَالِدًا زَعَمَ أَنَّهُ أَوْدَعَكَ. قَالَ: كَيْفَ يُودِعُنِي
وَهُوَ يَشْتُمُ آبَائِي عَلَى مِنْبَرِهِ! فَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدٍ
فَأَحْضَرَهُ فِي عَبَاءَةٍ، فَقَالَ: هَذَا زَيْدٌ قَدْ أَنْكَرَ
أَنَّكَ قَدْ أَوْدَعْتَهُ شَيْئًا. فَنَظَرَ خَالِدٌ إِلَيْهِ وَإِلَى
دَاوُدَ وَقَالَ لِيُوسُفَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ مَعَ إِثْمِكَ
فِيَّ إِثْمًا فِي هَذَا؟ كَيْفَ أُودِعُهُ وَأَنَا أَشْتُمُهُ
وَأَشْتُمُ آبَاءَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ! فَقَالُوا لِخَالِدٍ: مَا
دَعَاكَ إِلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: شَدَّدَ عَلَيَّ الْعَذَابَ
فَادَّعَيْتُ ذَلِكَ، وَأَمَلْتُ أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِفَرَجٍ
قَبْلَ قُدُومِكُمْ. فَرَجَعُوا وَأَقَامَ زَيْدٌ وَدَاوُدُ
بِالْكُوفَةِ.
(4/256)
قِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ خَالِدٍ
الْقَسْرِيَّ هُوَ الَّذِي ادَّعَى الْمَالَ وَدِيعَةً عِنْدَ زَيْدٍ.
فَلَمَّا أَمَرَهُمْ هِشَامٌ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى
يُوسُفَ اسْتَقَالُوهُ خَوْفًا مِنْ شَرِّ يُوسُفَ وَظُلْمِهِ،
فَقَالَ: أَنَا أَكْتُبُ إِلَيْهِ بِالْكَفِّ عَنْكُمْ، وَأُلْزِمُهُمْ
بِذَلِكَ، فَسَارُوا عَلَى كُرْهٍ.
وَجَمَعَ يُوسُفُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ يَزِيدُ: [مَا]
لِي عِنْدَهُمْ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. قَالَ يُوسُفُ: أَبِي تَهْزَأُ
أَمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَعَذَّبَهُ يَوْمَئِذٍ عَذَابًا كَادَ
يُهْلِكُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْفِرَّاشِينَ فَضُرِبُوا وَتَرَكَ
زَيْدًا. ثُمَّ اسْتَحْلَفَهُمْ وَأَطْلَقَهُمْ، فَلَحِقُوا
بِالْمَدِينَةِ، وَأَقَامَ زَيْدٌ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ
قَالَ لِهِشَامٍ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى يُوسُفَ: مَا
آمَنُ إِنْ بَعَثْتَنِي إِلَيْهِ أَنْ لَا نَجْتَمِعَ أَنَا وَأَنْتَ
حَيَّيْنِ أَبَدًا. قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ،
فَسَارُوا إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: كَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا كَانَ يُخَاصِمُ
ابْنَ عَمِّهِ جَعْفَرَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
فِي [وِلَايَةِ] وُقُوفِ عَلِيٍّ، [وَكَانَ] زَيْدٌ يُخَاصِمُ عَنْ
بَنِي الْحُسَيْنِ، وَجَعْفَرٌ يُخَاصِمُ عَنْ بَنِي الْحَسَنِ،
فَكَانَا يَتَبَالَغَانِ [بَيْنَ يَدَيِ الْوَالِي إِلَى] كُلِّ
غَايَةٍ وَيَقُومَانِ فَلَا يُعِيدَانِ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا
حَرْفًا.
فَلَمَّا مَاتَ جَعْفَرٌ نَازَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
الْحَسَنِ، فَتَنَازَعَا يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَغْلَظَ عَبْدُ اللَّهِ
لِزَيْدٍ وَقَالَ: يَابْنَ السِّنْدِيَّةِ! فَضَحِكَ زَيْدٌ وَقَالَ:
قَدْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ لِأَمَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَبَرَتْ
بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدِهَا إِذْ لَمْ يَصْبِرْ غَيْرُهَا - يَعْنِي
فَاطِمَةَ ابْنَةَ الْحُسَيْنِ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا
تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ نَدِمَ
زَيْدٌ وَاسْتَحْيَا مِنْ فَاطِمَةَ، وَهِيَ عَمَّتُهُ، فَلَمْ
يَدْخُلْ عَلَيْهَا زَمَانًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: يَابْنَ أَخِي
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ أُمَّكَ عِنْدَكَ كَأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ
عِنْدَهُ. وَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ لِأُمِّ
زَيْدٍ! أَمَا وَاللَّهِ لَنِعْمَ دَخِيلَةُ الْقَوْمِ كَانَتْ! قَالَ:
فَذَكَرَ أَنَّ خَالِدًا قَالَ لَهُمَا: اغْدُوَا عَلَيْنَا غَدًا،
فَلَسْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ إِنْ لَمْ أَفْصِلْ بَيْنَكُمَا.
فَبَاتَتِ الْمَدِينَةُ تَغْلِي كَالْمِرْجَلِ، يَقُولُ قَائِلٌ قَالَ
زَيْدٌ كَذَا، وَيَقُولُ قَائِلٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَلَسَ خَالِدٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَاجْتَمَعَ
النَّاسُ فَمِنْ بَيْنَ شَامِتٍ وَمَهْمُومٍ، فَدَعَا بِهِمَا خَالِدٌ
وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَتَشَاتَمَا، فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ
يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ زَيْدٌ: لَا تَعْجَلْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ،
أَعْتَقَ زَيْدٌ مَا يَمْلِكُ إِنْ خَاصَمَكَ إِلَى خَالِدٍ أَبَدًا.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خَالِدٍ فَقَالَ: جَمَعْتَ ذُرِّيَّةَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرٍ مَا كَانَ
يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ! فَقَالَ
(4/257)
خَالِدٌ: أَمَا لِهَذَا السَّفِيهِ أَحَدٌ؟
فَتَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
فَقَالَ: يَابْنَ أَبِي تُرَابٍ وَابْنَ حُسَيْنٍ السَّفِيهَ! أَمَا
تَرَى لِلْوَالِي عَلَيْكَ حَقًّا وَلَا طَاعَةً؟ فَقَالَ زَيْدٌ:
اسْكُتْ أَيُّهَا الْقَحْطَانِيُّ فَإِنَّا لَا نُجِيبُ مِثْلَكَ.
قَالَ: وَلِمَ تَرْغَبُ عَنِّي؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَخَيْرٌ مِنْكَ،
وَأَبِي خَيْرٌ مِنْ أَبِيكَ، وَأُمِّي خَيْرٌ مِنْ أُمِّكَ.
فَتَضَاحَكَ زَيْدٌ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا الدِّينُ
قَدْ ذَهَبَ فَذَهَبَتِ الْأَحْسَابُ، فَوَاللَّهِ لَيَذْهَبُ دِينُ
الْقَوْمِ وَمَا تَذْهَبُ أَحْسَابُهُمْ. فَتَكَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ أَيُّهَا الْقَحْطَانِيُّ! فَوَاللَّهِ
لَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ نَفْسًا وَأُمًّا وَأَبًا وَمَحْتِدًا!
وَتَنَاوَلَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، وَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ
وَضَرَبَ بِهَا الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا لَنَا
عَلَى هَذَا مِنْ صَبْرٍ.
وَشَخَصَ زَيْدٌ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَجَعَلَ
هِشَامٌ لَا يَأْذَنُ لَهُ، فَيَرْفَعُ إِلَيْهِ الْقِصَصَ، فَكُلَّمَا
رَفَعَ قِصَّةً يَكْتُبُ هِشَامٌ فِي أَسْفَلِهَا: ارْجِعْ إِلَى
أَمِيرِكَ. فَيَقُولُ زَيْدٌ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَى خَالِدٍ
أَبَدًا. ثُمَّ أَذِنَ لَهُ يَوْمًا بَعْدَ طُولِ حَبْسٍ، وَرَقِيَ
عَلِّيَّةً طَوِيلَةً، وَأَمَرَ خَادِمًا أَنْ يَتْبَعَهُ بِحَيْثُ لَا
يَرَاهُ زَيْدٌ وَيَسْمَعَ مَا يَقُولُ، فَصَعِدَ زَيْدٌ، وَكَانَ
بَدِينًا، فَوَقَفَ فِي بَعْضِ الدَّرَجَةِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَا يُحِبُّ الدُّنْيَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ. ثُمَّ صَعِدَ
إِلَى هِشَامٍ فَحَلَفَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: لَا أُصَدِّقُكَ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْفَعْ
أَحَدًا عَنْ أَنْ يَرْضَى بِاللَّهِ، وَلَمْ يَضَعْ أَحَدًا عَنْ
أَلَّا يَرْضَى بِذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ هِشَامٌ: لَقَدْ بَلَغَنِي
يَا زَيْدُ أَنَّكَ تَذْكُرُ الْخِلَافَةَ وَتَتَمَنَّاهَا، وَلَسْتَ
هُنَالِكَ وَأَنْتَ ابْنُ أَمَةٍ. قَالَ زَيْدٌ: إِنَّ لَكَ جَوَابًا.
قَالَ: فَتَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى بِاللَّهِ،
وَلَا أَرْفَعَ دَرَجَةً عِنْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ ابْتَعَثَهُ، وَقَدْ
كَانَ إِسْمَاعِيلُ ابْنَ أَمَةٍ، وَأَخُوهُ ابْنَ صَرِيحَةٍ
فَاخْتَارَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ خَيْرَ الْبَشَرِ،
وَمَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ إِذْ كَانَ جَدُّهُ رَسُولَ اللَّهِ،
وَأَبُوهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَا كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً.
قَالَ لَهُ هِشَامٌ: اخْرُجْ. قَالَ: أَخْرُجُ ثُمَّ لَا أَكُونُ
إِلَّا بِحَيْثُ تَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: يَا أَبَا
الْحُسَيْنِ لَا تُظْهِرَنَّ هَذَا مِنْكَ.
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
(4/258)
أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ لَمَّا
لَحِقْتَ بِأَهْلِكَ وَلَا تَأْتِ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا
يَفُونَ لَكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ. فَقَالَ لَهُ: خَرَجَ بِنَا أُسَرَاءُ
عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ مِنِ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِلَى
الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى قَيْسِ ثَقِيفٍ يَلْعَبُ
بِنَا، وَقَالَ:
بَكَرَتْ تُخَوِّفُنِي الْحُتُوفَ كَأَنَّنِي ... أَصْبَحْتُ عَنْ
عَرَضِ الْحَيَاةِ بِمَعْزِلِ
فَأَجَبْتُهَا: إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ... لَا بُدَّ أَنْ
أُسْقَى بِكَأْسِ الْمَنْهَلِ
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلَى إِذَا
نَزَلُوا بِضَيْقِ الْمَنْزِلِ
فَاقْنَيْ حَيَاءَكِ لَا أَبَا لَكِ وَاعْلَمِي ... أَنِّي امْرُؤٌ
سَأَمُوتُ إِنْ لَمْ أُقْتَلِ
أَسَتُودِعُكَ اللَّهَ وَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنْ دَخَلَتْ
يَدٌ فِي طَاعَةِ هَؤُلَاءِ مَا عِشْتُ.
وَفَارَقَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ بِهَا
مُسْتَخْفِيًا يَتَنَقَّلُ فِي الْمَنَازِلِ، وَأَقْبَلَتِ الشِّيعَةُ
تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ تُبَايِعُهُ، فَبَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ:
سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَنَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيُّ،
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
الْأَنْصَارِيُّ، وَنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ
بَيْعَتُهُ: إِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجِهَادِ
الظَّالِمِينَ، وَالدَّفْعِ عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِعْطَاءِ
الْمَحْرُومِينَ، وَقَسْمِ هَذَا الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ
بِالسَّوَاءِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَنَصْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ،
أَتُبَايِعُونَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ، وَضَعَ يَدَهُ
عَلَى أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُ: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ
وَذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لَتَفِيَنَّ بِبَيْعَتِي، وَلَتُقَاتِلَنَّ عَدُوِّي،
وَلَتَنْصَحَنَّ لِي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فَإِذَا قَالَ:
نَعَمْ، مَسَحَ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.
فَبَايَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ أَلْفًا،
فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ، فَأَقْبَلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ
يَفِيَ لَهُ وَيَخْرُجَ مَعَهُ وَيَسْتَعِدَّ وَيَتَهَيَّأَ، فَشَاعَ
أَمْرُهُ فِي النَّاسِ.
هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَتَى الْكُوفَةَ مِنَ
الشَّامِ، وَاخْتَفَى بِهَا يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ
مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَتَى إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ لِمُوَافَقَةِ
خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَوِ ابْنِهِ
(4/259)
يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، فَإِنَّ زَيْدًا
أَقَامَ بِالْكُوفَةِ ظَاهِرًا وَمَعَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَقْبَلَتِ الشِّيعَةُ تَخْتَلِفُ
إِلَى زَيْدٍ وَتَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ وَيَقُولُونَ: إِنَّا
لَنَرْجُوَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمَنْصُورُ، وَإِنَّ هَذَا
الزَّمَانَ هُوَ الَّذِي تَهْلِكُ فِيهِ بَنُو أُمَيَّةَ. فَأَقَامَ
بِالْكُوفَةِ، وَجَعَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَسْأَلُ عَنْهُ
فَيُقَالُ: هُوَ هَاهُنَا، وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ لِيَسِيرَ فَيَقُولُ:
نَعَمْ، وَيَعْتَلُّ بِالْوَجَعِ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لِيَسِيرَ، فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ
يَبْتَاعُ أَشْيَاءَ يُرِيدُهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفُ
بِالْمَسِيرِ عَنِ الْكُوفَةِ، فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يُحَاكِمُ بَعْضَ
آلِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِمُلْكٍ بَيْنَهُمَا
بِالْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيُوَكِّلَ وَكِيلًا وَيَرْحَلَ
عَنْهَا. فَلَمَّا رَأَى جِدَّ يُوسُفَ فِي أَمْرِهِ سَارَ حَتَّى
أَتَى الْقَادِسِيَّةَ، وَقِيلَ الثَّعْلَبِيَّةَ، فَتَبِعَهُ أَهْلُ
الْكُوفَةِ وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا لَمْ
يَخْتَلِفْ عَنْكَ أَحَدٌ نَضْرِبُ عَنْكَ بِأَسْيَافِنَا، وَلَيْسَ
هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَّا عِدَّةٌ يَسِيرَةٌ، بَعْضُ
قَبَائِلِنَا يَكْفِيكَهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَلَفُوا
لَهُ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ
أَنْ تَخْذُلُونِي وَتُسْلِمُونِي كَفِعْلِكُمْ بِأَبِي وَجَدِّي،
فَيَحْلِفُونَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَابْنَ عَمِّ
إِنَّ هَؤُلَاءِ يَغُرُّونَكَ مِنْ نَفْسِكَ، أَلَيْسَ قَدْ خَذَلُوا
مَنْ كَانَ أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنْكَ، جَدَّكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ حَتَّى قُتِلَ؟ وَالْحَسَنَ مِنْ بَعْدِهِ بَايَعُوهُ، ثُمَّ
وَثَبُوا عَلَيْهِ، فَانْتَزَعُوا رِدَاءَهُ وَجَرَحُوهُ؟ أَوَلَيْسَ
قَدْ أَخْرَجُوا جَدَّكَ الْحُسَيْنَ، وَحَلَفُوا لَهُ وَخَذَلُوهُ
وَأَسْلَمُوهُ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلُوهُ؟ فَلَا
تَرْجِعْ مَعَهُمْ. فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ أَنْ تَظْهَرَ
أَنْتَ، وَيَزْعُمَ أَنَّهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَوْلَى بِهَذَا
الْأَمْرِ مِنْكُمْ. فَقَالَ زَيْدٌ لِدَاوُدَ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ
يُقَاتِلُهُ مُعَاوِيَةُ بِدَهَائِهِ وَنَكْرَائِهِ بِأَهْلِ الشَّامِ،
وَإِنَّ الْحُسَيْنَ قَاتَلَهُ يَزِيدُ وَالْأَمْرُ مُقْبِلٌ
عَلَيْهِمْ. فَقَالَ دَاوُدُ: إِنِّي خَائِفٌ إِنْ رَجَعْتَ مَعَهُمْ
أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَأَنْتَ
أَعْلَمُ.
وَمَضَى دَاوُدُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ زَيْدٌ إِلَى
الْكُوفَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ زَيْدٌ أَتَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ،
فَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقَّهُ، فَأَحْسَنَ ثُمَّ قَالَ لَهُ:
نَنْشُدُكَ اللَّهَ كَمْ بَايَعَكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ أَلْفًا.
قَالَ: فَكَمْ بَايَعَ جَدَّكَ؟ قَالَ: ثَمَانُونَ أَلْفًا. قَالَ:
فَكَمْ حَصَلَ مَعَهُ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ. قَالَ: نَشَدْتُكَ
اللَّهَ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ جَدُّكَ؟ قَالَ: جَدِّي. قَالَ: فَهَذَا
الْقَرْنُ خَيْرٌ أَمْ ذَلِكَ الْقَرْنُ؟ قَالَ: ذَلِكَ الْقَرْنُ.
قَالَ: أَفَتَطْمَعُ أَنْ يَفِيَ لَكَ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ غَدَرَ
أُولَئِكَ بِجَدِّكَ؟ قَالَ: قَدْ بَايَعُونِي وَوَجَبَتِ الْبَيْعَةُ
فِي عُنُقِي وَأَعْنَاقِهِمْ. قَالَ: أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْرُجَ
مِنْ هَذَا الْبَلَدِ؟ فَلَا آمَنُ أَنْ يَحْدُثَ حَدَثٌ فَلَا
أَمْلِكُ نَفْسِي. فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ إِلَى
(4/260)
الْيَمَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ
مُبَايَعَةِ سَلَمَةَ.
وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ إِلَى زَيْدٍ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ نَفْخُ الْعَلَانِيَةِ،
خَوَرُ السَّرِيرَةِ، هَرَجٌ فِي الرَّخَاءِ، جَزَعٌ فِي اللِّقَاءِ،
تَقَدَمُهُمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَا تُشَايِعُهُمْ قُلُوبُهُمْ،
وَلَقَدْ تَوَاتَرَتْ إِلَيَّ كُتُبُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ، فَصَمَمْتُ
عَنْ نِدَائِهِمْ، وَأَلْبَسْتُ قَلْبِي غِشَاءً عَنْ ذِكْرِهِمْ
يَأْسًا مِنْهُمْ وَاطِّرَاحًا لَهُمْ، وَمَا لَهُمْ مَثَلٌ إِلَّا مَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ،
وَإِنْ حُورِبْتُمْ خِرْتُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ
طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى مَشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ ". فَلَمْ
يُصْغِ زَيْدٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَقَامَ عَلَى حَالِهِ
يُبَايِعُ النَّاسَ وَيَتَجَهَّزُ لِلْخُرُوجِ، وَتَزَوَّجَ
بِالْكُوفَةِ ابْنَةَ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ،
وَتَزَوَّجَ أَيْضًا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَنْبَسِيِّ
الْأَزْدِيِّ.
وَكَانَ سَبَبُ تَزَوُّجِهِ إِيَّاهَا أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ عَمْرٍو
بِنْتَ الصَّلْتِ كَانَتْ تَتَشَيَّعُ، فَأَتَتْ زَيْدًا تُسَلِّمُ
عَلَيْهِ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً حَسْنَاءَ قَدْ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ
وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا، فَخَطَبَهَا زَيْدٌ إِلَى نَفْسِهَا،
فَاعْتَذَرَتْ بِالسِّنِّ وَقَالَتْ لَهُ: لِيَ ابْنَةٌ هِيَ أَجْمَلُ
مِنِّي وَأَبْيَضُ وَأَحْسَنُ دَلًّا وَشَكْلًا. فَضَحِكَ زِيدٌ ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا. وَكَانَ يَتَنَقَّلُ بِالْكُوفَةِ تَارَةً عِنْدَهَا،
وَتَارَةً عِنْدَ زَوْجِهِ الْأُخْرَى، وَتَارَةً فِي بَنِي عَبْسٍ،
وَتَارَةً فِي بَنِي هِنْدٍ، وَتَارَةً فِي بَنِي تَغْلِبَ
وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنْ ظَهَرَ.
ذِكْرُ غَزَوَاتِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا مِنْ نَحْوِ الْبَابِ الْجَدِيدِ،
فَسَارَ مِنْ بَلْخٍ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
مَرْوَ فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَقَامَ
مَنْصُورَ بْنَ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْخَرْقَاءِ عَلَى كَشْفِ
الْمَظَالِمِ، وَأَنَّهُ قَدْ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ قَدْ
أَسْلَمَ، وَجَعَلَهَا عَلَى مَنْ كَانَ يُخَفِّفُ عَنْهُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ.
فَلَمْ تَمْضِ جُمْعَةٌ حَتَّى أَتَاهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُسْلِمٍ
كَانُوا يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَثَمَانُونَ
أَلْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ قَدْ أُلْقِيَتْ عَنْهُمْ،
فَحَوَّلَ مَا كَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَوَضَعَهُ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَنَّفَ
(4/261)
الْخَرَاجَ وَوَضَعَهُ مَوَاضِعَهُ.
ثُمَّ غَزَا الثَّانِيَةَ إِلَى وَرَغْسَرَ وَسَمَرْقَنْدَ ثُمَّ
رَجَعَ. ثُمَّ غَزَا الثَّالِثَةَ إِلَى الشَّاشِ مِنْ مَرْوَ، فَحَالَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُبُورِ نَهْرِ الشَّاشِ كُورْصُولُ فِي خَمْسَةَ
عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ مَعَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، وَعَبَرَ
كُورْصُولُ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَبَيَّتَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ فِي
لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَ نَصْرٍ بُخَارَاخُذَاهْ فِي أَهْلِ
بُخَارَى، وَمَعَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وَكَشٍّ وَنَسَفَ، وَهُمْ
عِشْرُونَ أَلْفًا، فَنَادَى نَصْرٌ: أَلَّا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ
وَاثْبُتُوا عَلَى مَوَاضِعِكُمْ. فَخَرَجَ عَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ،
وَهُوَ عَلَى جُنْدِ سَمَرْقَنْدَ، فَمَرَّتْ بِهِ خَيْلُ التُّرْكِ،
فَحَمَلَ عَلَى رَجُلٍ فِي آخِرِهِمْ فَأَسَرَهُ، فَإِذَا هُوَ مَلِكٌ
مِنْ مُلُوكِهِمْ صَاحِبُ أَرْبَعَةِ آلَافِ قُبَّةٍ، فَأَتَى بِهِ
إِلَى نَصْرٍ، فَقَالَ لَهُ نَصْرٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: كُورْصُولُ.
فَقَالَ نَصْرٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ يَا
عَدُوَّ اللَّهِ. قَالَ: مَا تَرْجُو مِنْ قَتْلِ شَيْخٍ؟ وَأَنَا
أُعْطِيكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ التُّرْكِ وَأَلْفَ
بِرْذَوْنٍ تُقَوِّي بِهَا جُنْدَكَ وَتُطْلِقُ سَبِيلِي. فَاسْتَشَارَ
نَصْرٌ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارُوا بِإِطْلَاقِهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ
عُمْرِهِ، قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: كَمْ غَزَوْتَ؟ قَالَ:
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ غَزْوَةً. قَالَ: أَشْهِدْتَ يَوْمَ
الْعَطَشِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مَا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ مَا أَفْلَتَّ مِنْ يَدِي بَعْدَ مَا ذَكَرْتَ مِنْ
مَشَاهِدِكَ. وَقَالَ لِعَاصِمِ بْنِ عُمَيْرٍ السَّعْدِيِّ: قُمْ
إِلَى سَلَبِهِ فَخُذْهُ. فَقَالَ: مَنْ أَسَرَنِي؟ قَالَ نَصْرٌ،
وَهُوَ يَضْحَكُ: أَسَرَكَ يَزِيدُ بْنُ قِرَانٍ الْحَنْظَلِيُّ،
وَأَشَارَ إِلَيْهِ. قَالَ: هَذَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَغْسِلَ
اسْتَهُ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُتِمَّ لَهُ بَوْلَهُ فَكَيْفَ
يَأْسِرُنِي؟ أَخْبِرْنِي مَنْ أَسَرَنِي؟ قَالَ: أَسَرَكَ عَاصِمُ
بْنُ عُمَيْرٍ. قَالَ: لَسْتُ أَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِذَا كَانَ
أَسَرَنِي فَارِسٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ. فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ
عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ.
وَعَاصِمُ بْنُ عُمَيْرٍ هُوَ الْهَزَارْمَرْدُ، قُتِلَ بِنَهَاوَنْدَ
أَيَّامَ قَحْطَبَةَ.
فَلَمَّا قُتِلَ كُورْصُولُ أَحْرَقَتِ التُّرْكُ أَبْنِيَتَهُ
وَقَطَعُوا آذَانَهُمْ وَقَصُّوا شُعُورَهُمْ وَأَذْنَابَ خَيْلِهِمْ.
فَلَمَّا أَرَادَ نَصْرٌ الرُّجُوعَ أَحْرَقَهُ لِئَلَّا يَحْمِلُوا
عِظَامَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِ،
وَارْتَفَعَ إِلَى فَرْغَانَةَ فَسَبَى بِهَا أَلْفَ رَأْسٍ.
وَكَتَبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرٍ: سِرْ إِلَى هَذَا
الْغَارِزِ ذَنَبَهُ فِي الشَّاشِ، يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ سُرَيْجٍ،
فَإِنْ أَظْفَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَبِأَهْلِ الشَّاشِ فَخَرِّبْ
بِلَادَهُمْ وَاسْبِ ذَرَارِيَهُمْ، إِيَّاكَ وَوَرْطَةَ
الْمُسْلِمِينَ. فَقَرَأَ الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ وَاسْتَشَارَهُمْ،
فَقَالَ يَحْيَى بْنُ
(4/262)
الْحُضَيْنِ: (امْضِ لِأَمْرِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْرِ الْأَمِيرِ) . فَقَالَ نَصْرٌ: يَا يَحْيَى
تَكَلَّمْتَ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ عَاصِمٍ بَلَغَتِ الْخَلِيفَةَ
فَحَظِيتَ بِهَا وَبَلَغْتَ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، فَقُلْتَ
أَقُولُ مِثْلَهَا، سِرْ يَا يَحْيَى قَدْ وَلَّيْتُكَ مُقَدِّمَتِي.
فَلَامَ النَّاسُ يَحْيَى، فَسَارَ إِلَى الشَّاشِ، فَأَتَاهُمُ
الْحَارِثُ فَنَصَبَ عَلَيْهِمْ عَرَّادَتَيْنِ، وَأَغَارَ
الْأَخْرَمُ، وَهُوَ فَارِسُ التُّرْكِ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ
فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْا رَأْسَهُ إِلَى التُّرْكِ، فَصَاحُوا
وَانْهَزَمُوا.
وَسَارَ نَصْرٌ إِلَى الشَّاشِ، فَتَلَقَّاهُ مَلِكُهَا بِالصُّلْحِ
وَالْهَدِيَّةِ وَالرَّهْنِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ نَصْرٌ إِخْرَاجَ
الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ بَلَدِهِ، فَأَخْرَجَهُ إِلَى فَارَابَ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الشَّاشِ نَيْزَكَ بْنَ صَالِحٍ مَوْلَى عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ قُبَا مِنْ أَرْضِ
فَرْغَانَةَ، وَكَانُوا أَحَسُّوا بِمَجِيئِهِ فَأَحْرَقُوا الْحَشِيشَ
وَقَطَعُوا الْمِيرَةَ، فَوَجَّهَ نَصْرٌ إِلَى وَلِيِّ [عَهْدِ]
صَاحِبِ فَرْغَانَةَ فَحَاصَرَهُ فِي حِصْنٍ، وَغَفَلُوا عَنْهُ
فَخَرَجَ وَغَنِمَ دَوَابَّ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ
نَصْرٌ رِجَالًا مِنْ تَمِيمٍ وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَدَوَابُّهُمْ كَمَنُوا لَهُمْ، فَخَرَجُوا
وَاسْتَاقُوا بَعْضَهَا، وَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ
فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا الدِّهْقَانَ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ
وَأَسَرُوا ابْنَ الدِّهْقَانِ فَقَتَلَهُ نَصْرٌ، وَأَرْسَلَ نَصْرٌ
سُلَيْمَانَ بْنَ صُولٍ بِكِتَابِ الصُّلْحِ إِلَى صَاحِبِ
فَرْغَانَةَ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ الْخَزَائِنَ لِيَرَاهَا ثُمَّ
رَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ الطَّرِيقَ فِيمَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ؟ قَالَ: سَهْلًا كَثِيرَ الْمَاءِ
وَالْمَرَاعِي، (فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا عِلْمُكَ؟ فَقَالَ
سُلَيْمَانُ: قَدْ غَزَوْتُ غَرْشِسْتَانَ وَغُورَ) وَالْخُتُّلَ
وَطَبَرِسْتَانَ فَكَيْفَ لَا أَعْلَمُ؟ قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتَ مَا
أَعْدَدْنَا؟ قَالَ: عُدَّةٌ حَسَنَةٌ، وَلَكِنْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
[صَاحِبَ] الْحِصَارِ لَا يَسْلَمُ مِنْ خِصَالٍ، لَا يَأْمَنُ
أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَوْثَقَهُمْ فِي نَفْسِهِ [أَنْ يَثِبَ
بِهِ يَطْلُبُ مَرْتَبَتَهُ وَيَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ] ، أَوْ يُفْنِيَ
مَا [قَدْ] جَمَعَ فَيَسْلَمُ بِرُمَّتِهِ، أَوْ يُصِيبُهُ دَاءٌ
فَيَمُوتُ. فَكَرِهَ مَا قَالَ لَهُ وَأَمَرَهُ فَأُحْضِرَ كِتَابُ
الصُّلْحِ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ وَسَيَّرَ أُمَّهُ مَعَهُ، وَكَانَتْ
صَاحِبَةُ أَمْرِهِ، فَقَدِمَتْ عَلَى نَصْرٍ، فَأَذِنَ لَهَا وَجَعَلَ
يُكَلِّمُهَا، وَكَانَ مِمَّا قَالَتْ لَهُ: كُلُّ مَلِكٍ لَا يَكُونُ
عِنْدَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ فَلَيْسَ بِمَلِكٍ، وَزِيرٌ يَبُثُّ
إِلَيْهِ مَا فِي نَفْسِهِ وَيُشَاوِرُهُ وَيَثِقُ بِنَصِيحَتِهِ،
وَطَبَّاخٌ إِذَا لَمْ يَشْتَهِ الطَّعَامَ اتَّخَذَ لَهُ مَا
يَشْتَهِي، وَزَوْجَةٌ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُغْتَمًّا فَنَظَرَ
إِلَى وَجْهِهَا زَالَ غَمُّهُ، وَحِصْنٌ إِذَا فَزِعَ أَتَاهُ
فَأَنْجَاهُ، تَعْنِي الْبِرْذَوْنَ، وَسَيْفٌ إِذَا قَاتَلَ لَا
يَخْشَى خِيَانَتَهُ، وَذَخِيرَةٌ إِذَا حَمَلَهَا عَاشَ بِهَا أَيْنَ
كَانَ مِنَ الْأَرْضِ.
ثُمَّ دَخَلَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ فِي جَمَاعَةٍ فَقَالَتْ: مَنْ
هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا فَتَى خُرَاسَانَ
(4/263)
تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ. قَالَتْ: مَا لَهُ
نُبْلُ الْكَبِيرِ وَلَا حَلَاوَةُ الصَّغِيرِ، ثُمَّ دَخَلَ
الْحَجَّاجُ بْنُ قُتَيْبَةَ فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا:
الْحَجَّاجُ بْنُ قُتَيْبَةَ، فَحَيَّتْهُ وَسَأَلَتْ عَنْهُ
وَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ مَا لَكُمْ وَفَاءٌ وَلَا يُصْلِحُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا. قُتَيْبَةُ الَّذِي ذَلَّلَ لَكُمْ مَا أَرَى،
وَهَذَا ابْنُهُ تُقْعِدُهُ دُونَكَ فَحَقُّهُ أَنْ تُجْلِسَهُ أَنْتَ
هَذَا الْمَجْلِسَ وَتَجْلِسَ أَنْتَ مَجْلِسَهُ.
ذِكْرُ غَزْوِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ
إِرْمِينِيَّةَ وَهُوَ وَالِيهَا، فَأَتَى قَلْعَةَ بَيْتِ السَّرِيرِ
فَقَتَلَ وَسَبَى، ثُمَّ أَتَى قَلْعَةً ثَانِيَةً فَقَتَلَ وَسَبَى،
وَدَخَلَ غُومِيكَ وَهُوَ حِصْنٌ فِيهِ بَيْتُ الْمَلِكِ وَسَرِيرُهُ،
فَهَرَبَ الْمَلِكُ مِنْهُ حَتَّى أَتَى حِصْنًا يُقَالُ لَهُ خَيْزَجُ
فِيهِ السَّرِيرُ الذَّهَبُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ وَنَازَلَهُ
صَيْفِيَّتَهُ وَشِتْوِيَّتَهُ، فَصَالَحَ الْمَلِكَ عَلَى أَلْفِ
رَأْسٍ كُلَّ سَنَةٍ وَمِائَةِ أَلْفِ مُدْيٍ، وَسَارَ مَرْوَانُ
فَدَخَلَ أَرْضَ ازْرُوبَطْرَانَ، فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا، ثُمَّ سَارَ
فِي أَرْضِ تُومَانَ فَصَالَحَهُ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى حَمْزِينَ
فَأَخْرَبَ بِلَادَهُ وَحَصَرَ حِصْنًا لَهُ شَهْرًا فَصَالَحَهُ،
ثُمَّ أَتَى مَرْوَانُ أَرْضَ مَسْدَازَ فَافْتَتَحَهَا عَلَى صُلْحٍ،
ثُمَّ نَزَلَ مَرْوَانُ كِيرَانَ فَصَالَحَهُ طَبَرِسْرَانَ
وَفِيلَانَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ
مِنْ إِرْمِينِيَّةَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ.
(4/264)
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ الرُّومَ
فَافْتَتَحَ بِهَا مَطَامِيرَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ كَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ
وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَعَلَى الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ،
وَعَلَى خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ
وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى قَضَاءِ
الْبَصْرَةِ عَامِرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ
ابْنُ شُبْرُمَةَ.
وَفِيهَا فَرَغَ الْوَلِيدُ بْنُ بُكَيْرٍ عَامِلُ الْمَوْصِلِ مِنْ
حَفْرِ النَّهْرِ الَّذِي أَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، وَكَانَ مَبْلَغُ
النَّفَقَةِ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَجَعَلَ
عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ أَحْجَارٍ تَطْحَنُ، وَوَقَفَ هِشَامٌ هَذِهِ
الْأَرْحَاءَ عَلَى عَمَلِ النَّهْرِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ سُهَيْلٍ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ
وَعِشْرِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بِالشَّامِ. وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
بِالْمَدِينَةِ، (حَبَّانُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَبِالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ) . وَقُتِلَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْأَشَجِّ شَهِيدًا بِأَرْضِ الرُّومِ.
(4/265)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةً]
122 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةً
ذِكْرُ مَقْتَلِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ،
قَدْ ذُكِرَ سَبَبُ مُقَامِهِ بِالْكُوفَةِ وَبَيْعَتُهُ بِهَا.
فَلَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْخُرُوجِ، وَأَخَذَ
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْوَفَاءَ لَهُ بِالْبَيْعَةِ يَتَجَهَّزُ،
انْطَلَقَ سُلَيْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ الْبَارِقِيُّ إِلَى يُوسُفَ
بْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَبَعَثَ يُوسُفُ فِي طَلَبِ زَيْدٍ فَلَمْ
يُوجَدْ، وَخَافَ زَيْدٌ أَنْ يُؤْخَذَ فَيَتَعَجَّلَ قَبْلَ الْأَجَلِ
الَّذِي جَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَلَى
الْكُوفَةِ يَوْمَئِذٍ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ، وَعَلَى شُرْطَتِهِ
عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْقَارَةِ وَمَعَهُ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيُّ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ، وَيُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِالْحِيرَةِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى
أَصْحَابُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ
بَلَغَهُ أَمْرُهُ، وَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِ اجْتَمَعَ
إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَقَالُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ، مَا
قَوْلُكَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ زَيْدٌ: رَحِمَهُمَا
اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي
يَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا أَقُولُ فِيمَا
ذَكَرْتُمْ أَنَّا كُنَّا أَحَقَّ بِسُلْطَانِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّاسِ
أَجْمَعِينَ، فَدَفَعُونَا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا
بِهِمْ كُفْرًا، وَقَدْ وُلُّوا فَعَدَلُوا فِي النَّاسِ وَعَمِلُوا
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالُوا: فَلِمَ يَظْلِمُكَ هَؤُلَاءِ
إِذَا كَانَ أُولَئِكَ لَمْ يَظْلِمُوكَ، فَلِمَ تَدْعُو إِلَى
قِتَالِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ،
هَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ لِي وَلَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا
نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى السُّنَنِ أَنْ تُحْيَا، وَإِلَى
الْبِدَعِ أَنْ تُطْفَأَ، فَإِنْ أَجَبْتُمُونَا سَعِدْتُمْ، وَإِنْ
أَبَيْتُمْ فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. فَفَارَقُوهُ وَنَكَثُوا
بَيْعَتَهُ وَقَالُوا: سَبَقَ الْإِمَامُ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا
الْبَاقِرَ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ، وَقَالُوا: جَعْفَرٌ ابْنُهُ
إِمَامُنَا الْيَوْمَ بَعْدَ أَبِيهِ، فَسَمَّاهُمْ زَيْدٌ
الرَّافِضَةَ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ سَمَّاهُمُ
الرَّافِضَةَ حَيْثُ فَارَقُوهُ.
(4/266)
وَكَانَتْ طَائِفَةٌ أَتَتْ جَعْفَرَ بْنَ
مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ قَبْلَ خُرُوجِ زَيْدٍ، فَأَخْبَرُوهُ بِبَيْعَةَ
زَيْدٍ، فَقَالَ: بَايِعُوهُ فَهُوَ وَاللَّهِ أَفْضَلُنَا
وَسَيِّدُنَا، فَعَادُوا وَكَتَمُوا ذَلِكَ.
وَكَانَ زَيْدٌ وَاعَدَ أَصْحَابَهُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ صَفَرٍ،
وَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، فَبَعَثَ إِلَى الْحَكَمِ
يَأْمُرُهُ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَعْظَمِ يَحْصُرُهُمْ فِيهِ، فَجَمَعَهُمْ فِيهِ، وَطَلَبُوا
زَيْدًا فِي دَارِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ، فَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا، وَرَفَعُوا
الْهَرَادِيَّ فِيهَا النِّيرَانُ وَنَادَوْا: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ
أَمِتْ، حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا بَعْثَ زَيْدٌ
الْقَاسِمَ التُّبَّعِيَّ ثُمَّ الْحَضْرَمِيَّ وَآخَرُ مِنْ
أَصْحَابِهِ يُنَادِيَانِ بِشِعَارِهِمَا، فَلَمَّا كَانَا بِصَحْرَاءِ
عَبْدِ الْقَيْسِ لَقِيَهُمَا جَعْفَرُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْكِنْدِيُّ
فَحَمَلَا عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ
الْقَاسِمِ التُّبَّعِيِّ وَارْتُثَّ الْقَاسِمُ وَأُتِيَ بِهِ
الْحَكَمُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَكَانَا أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ
أَصْحَابِ زَيْدٍ. وَأَغْلَقَ الْحَكَمُ دُرُوبَ السُّوقِ وَأَبْوَابَ
الْمَسْجِدِ عَلَى النَّاسِ.
وَبَعَثَ الْحَكَمُ إِلَى يُوسُفَ بِالْحِيرَةِ فَأَخْبَرَهُ
الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ جَعْفَرَ بْنَ الْعَبَّاسِ لِيَأْتِيَهُ
بِالْخَبَرِ، فَسَارَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا حَتَّى بَلَغَ جَبَّانَةَ
سَالِمٍ فَسَأَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى يُوسُفَ فَأَخْبَرَهُ، فَسَارَ
يُوسُفُ إِلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْحِيرَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ
وَمَعَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ، فَبَعَثَ الرَّيَّانَ بْنَ سَلَمَةَ
الْأَرَّانِيَّ فِي أَلْفَيْنِ وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ
الْقِيقَانِيَّةِ رَجَّالَةً مَعَهُمُ النَّشَّابُ.
وَأَصْبَحَ زَيْدٌ فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ وَافَاهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ
مِائَتَيْ رَجُلٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ زَيْدٌ:
سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ مَحْصُورُونَ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِعُذْرٍ لِمَنْ بَايَعَنَا! وَسَمِعَ
نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيُّ النِّدَاءَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ،
فَلَقِيَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبَ شُرْطَةِ الْحَكَمِ
فِي خَيْلِهِ مِنْ جُهَيْنَةَ فِي الطَّرِيقِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ
نَصْرٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقُتِلَ عَمْرٌو وَانْهَزَمَ مَنْ كَانَ
مَعَهُ، وَأَقْبَلَ زَيْدٌ عَلَى جَبَّانَةِ سَالِمٍ حَتَّى انْتَهَى
إِلَى جَبَّانَةِ الصَّائِدِينَ وَبِهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدٌ فِيمَنْ مَعَهُ وَهَزَمَهُمْ،
فَانْتَهَى زَيْدٌ إِلَى دَارِ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَزْدِيِّ،
وَكَانَ فِيمَنْ بَايَعَهُ وَهُوَ فِي الدَّارِ، فَنُودِيَ فَلَمْ
يُجِبْهُمْ، وَنَادَاهُ زَيْدٌ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ، فَقَالَ
زَيْدٌ: مَا أَخْلَفَكُمْ؟ قَدْ فَعَلْتُمُوهَا، اللَّهُ حَسِيبُكُمْ،
ثُمَّ انْتَهَى زَيْدٌ إِلَى الْكُنَاسَةِ فَحَمَلَ عَلَى مَنْ بِهَا
مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ
(4/267)
سَارَ زَيْدٌ وَيُوسُفُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ
فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَلَوْ قَصَدَهُ لَقَتَلَهُ، وَالرَّيَّانُ
يَتْبَعُ أَثَرَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ فِي أَهْلِ
الشَّامِ، فَأَخَذَ زَيْدٌ عَلَى مُصَلَّى خَالِدٍ حَتَّى دَخَلَ
الْكُوفَةَ، وَسَارَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ نَحْوَ جَبَّانَةِ مِخْنَفِ
بْنِ سُلَيْمٍ، فَلَقَوْا أَهْلَ الشَّامِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَأَسَرَ
أَهْلُ الشَّامِ مِنْهُمْ رَجُلًا، فَأَمَرَ بِهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ
فَقُتِلَ.
فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ خِذْلَانَ النَّاسِ إِيَّاهُ قَالَ: يَا نَصْرُ
بْنَ خُزَيْمَةَ أَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَعَلُوهَا
حُسَيْنِيَّةً. قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَعَكَ
حَتَّى أَمُوتَ، وَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ فَامْضِ بِنَا
نَحْوَهُمْ. فَلَقِيَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ
الْكِنْدِيُّ عِنْدَ دَارِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، فَاقْتَتَلُوا،
فَانْهَزَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، وَجَاءَ زَيْدٌ حَتَّى
انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يُدْخِلُونَ
رَايَاتِهِمْ مِنْ فَوْقِ الْأَبْوَابِ وَيَقُولُونَ: يَا أَهْلَ
الْمَسْجِدِ اخْرُجُوا مِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ، اخْرُجُوا إِلَى
الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا.
فَرَمَاهُمْ أَهْلُ الشَّامِ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِ الْمَسْجِدِ.
وَانْصَرَفَ الرَّيَّانُ عِنْدَ الْمَسَاءِ إِلَى الْحِيرَةِ،
وَانْصَرَفَ زَيْدٌ فِيمَنْ مَعَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَزَلَ دَارَ الرِّزْقِ، فَأَتَاهُ الرَّيَّانُ
بْنُ سَلَمَةَ فَقَاتَلَهُ عِنْدَ دَارِ الرِّزْقِ وَجُرِحَ أَهْلُ
الشَّامِ وَمَعَهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَرَجَعَ أَهْلُ الشَّامِ مَسَاءَ
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَسْوَأَ شَيْءٍ ظَنًّا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرْسَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ
سَعِيدٍ الْمُزَنِيَّ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَانْتَهَى إِلَى زَيْدٍ فِي
دَارِ الرِّزْقِ، فَلَقِيَهُ زَيْدٌ وَعَلَى مُجَنَّبَتِهِ نَصْرُ بْنُ
خُزَيْمَةَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ نَابِلُ بْنُ فَرْوَةَ
الْعَبْسِيُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى نَصْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ
فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ فَخِذَهُ، وَضَرَبَهُ نَصْرٌ
فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَلْبَثْ نَصْرٌ أَنْ مَاتَ وَاشْتَدَّ
قِتَالُهُمْ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْعَبَّاسِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ
نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا.
فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاءُ عَبَّأَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ ثُمَّ
سَرَّحَهُمْ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَأَصْحَابُ زَيْدٍ، فَحَمَلَ
عَلَيْهِمْ زِيدٌ فِي أَصْحَابِهِ فَكَشَفَهُمْ وَتَبِعَهُمْ حَتَّى
أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ
بِالسَّبْخَةِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَجَعَلَتْ
خَيْلُهُمْ لَا تَثْبُتُ لِخَيْلِهِ، فَبَعَثَ الْعَبَّاسُ إِلَى
يُوسُفَ يُعْلِمُهُ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ
النَّاشِبِيَّةَ، فَبَعَثَهُمْ إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ
أَصْحَابَ زَيْدٍ، فَقَاتَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ
الْأَنْصَارِيُّ بَيْنَ يَدَيْ زَيْدٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ
وَثَبَتَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَرُمِيَ
زَيْدٌ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتِهِ الْيُسْرَى
(4/268)
فَثَبَتَ فِي دِمَاغِهِ، وَرَجَعَ
أَصْحَابُهُ وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَّا
لِلْمَسَاءِ وَاللَّيْلِ، وَنَزَلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ مِنْ دُورِ
أَرْحَبَ، وَأَحْضَرَ أَصْحَابُهُ طَبِيبًا، فَانْتَزَعَ النَّصْلَ،
فَضَجَّ زَيْدٌ، فَلَمَّا نَزَعَ النَّصْلَ مَاتَ زَيْدٌ، فَقَالَ
أَصْحَابُهُ: أَيْنَ نَدْفِنُهُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَطْرَحُهُ فِي
الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَحْتَزُّ رَأْسَهُ وَنُلْقِيهِ
فِي الْقَتْلَى. فَقَالَ ابْنُهُ يَحْيَى: وَاللَّهِ لَا تَأْكُلُ
لَحْمَ أَبِي الْكِلَابُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَدْفِنُهُ فِي
الْحُفْرَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الطِّينُ وَنَجْعَلُ عَلَيْهِ
الْمَاءَ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا دَفَنُوهُ أَجْرَوْا عَلَيْهِ
الْمَاءَ، وَقِيلَ: دُفِنَ بِنَهْرِ يَعْقُوبَ، سَكَّرَ أَصْحَابُهُ
الْمَاءَ وَدَفَنُوهُ وَأَجْرَوُا الْمَاءَ، وَكَانَ مَعَهُمْ مَوْلًى
لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ، وَقِيلَ رَآهُمْ فَسَارَ فَدَلَّ عَلَيْهِ،
وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَسَارَ ابْنُهُ يَحْيَى نَحْوَ
كَرْبَلَاءَ فَنَزَلَ بِنِينَوَى عَلَى سَابِقٍ مَوْلَى بِشْرِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ.
ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ تَتَبَّعَ الْجَرْحَى فِي الدُّورِ،
فَدَلَّهُ السِّنْدِيُّ مَوْلَى زَيْدٍ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى
زَيْدٍ، فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ وَقَطَعَ رَأْسَهُ وَسُيِّرَ
إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، سَيَّرَهُ الْحَكَمُ
بْنُ الصَّلْتِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ أَنْ يُصْلَبَ زَيْدٌ بِالْكُنَاسَةِ
هُوَ وَنَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ وَزِيَادٌ
النَّهْدِيُّ، وَأَمَرَ بِحِرَاسَتِهِمْ، وَبَعَثَ الرَّأْسَ إِلَى
هِشَامٍ، فَصُلِبَ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ أُرْسِلَ
إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ الْبَدَنُ مَصْلُوبًا إِلَى أَنْ مَاتَ
هِشَامٌ وَوَلِيَ الْوَلِيدُ فَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِ وَإِحْرَاقِهِ.
وَقِيلَ: كَانَ خِرَاشُ بْنُ حَوْشَبِ بْنِ يَزِيدَ الشَّيْبَانِيُّ
عَلَى شُرْطَةِ زَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي نَبَشَ زَيْدًا وَصَلَبَهُ،
فَقَالَ السَّيِّدُ الْحَمَوِيُّ:
بِتُّ لَيْلًا مُسَهَّدًا ... سَاهِرَ الْعَيْنِ مُقْصَدًا
وَلَقَدْ قُلْتُ قَوْلَةً ... وَأَطَلْتُ التَّبَلُّدَا
لَعَنَ اللَّهُ حَوْشَبًا ... وَخِرَاشًا وَمَزْيَدَا
وَيَزِيدًا فَإِنَّهُ ... كَانَ أَعْتَى وَأَعْنَدَا
أَلْفُ أَلْفٍ وَأَلْفُ أَلْ ... فٍ مِنَ اللَّعْنِ سَرْمَدَا
إِنَّهُمْ حَارَبُوا الْإِلَ ... هَ وَآذَوْا مُحَمَّدَا
(4/269)
شَرِكُوا فِي دَمِ الْمُطَهَّ
رِ زَيْدٍ تَعَنُّدَا ... ثُمَّ عَالَوْهُ فَوْقَ جِذْ
عٍ صَرِيعًا مُجَرَّدَا ... يَا خِرَاشُ بْنَ حَوْشَبٍ
أَنْتَ أَشْقَى الْوَرَى غَدَا
وَقِيلَ فِي أَمْرِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ،
وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا لَمَّا قُتِلَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي أَسَدٍ: إِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَكُمْ شِيعَةٌ، وَالرَّأْيُ
أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهَا. قَالَ: وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ:
تَتَوَارَى حَتَّى يَسْكُنَ [عَنْكَ] الطَّلَبُ ثُمَّ تَخْرُجَ.
فَوَارَاهُ عِنْدَهُ [لَيْلَةً] ، ثُمَّ خَافَ فَأَتَى بِهِ عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ قَرَابَةَ
زَيْدٍ بِكَ قَرِيبَةٌ وَحَقَّهُ عَلَيْكَ وَاجِبٌ. قَالَ: أَجَلْ
وَلَقَدْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى. قَالَ: فَقَدْ
قُتِلَ وَهَذَا ابْنُهُ غُلَامٌ حَدَثٌ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنْ عَلِمَ
يُوسُفُ بِهِ قَتَلَهُ، أَفَتُجِيرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ بِهِ
فَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا سَكَنَ الطَّلَبُ سَارَ فِي نَفَرٍ مِنَ
الزَّيْدِيَّةِ إِلَى خُرَاسَانَ. فَغَضِبَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بَعْدَ
قَتْلِ زِيدٍ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، إِنَّ يَحْيَى بْنَ
زَيْدٍ يَنْتَقِلُ فِي حِجَالِ نِسَائِكُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ
أَبُوهُ، وَاللَّهِ لَوْ بَدَا لِي (لَعَرَقْتُ خِصْيَيْهِ كَمَا
عَرَقْتُ خِصْيَيْ أَبِيهِ) ! وَتَهَدَّدَهُمْ وَذَمَّهُمْ وَتُرِكَ.
ذَكْرُ قَتْلِ الْبَطَّالِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْبَطَّالُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَنْطَاكِيُّ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
بِبِلَادِ الرُّومِ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزَاةِ إِلَى الرُّومِ وَالْإِغَارَةِ عَلَى
بِلَادِهِمْ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ عَظِيمٌ وَخَوْفٌ شَدِيدٌ.
حُكِيَ أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَهُمْ فِي بَعْضِ غَزَاتِهِ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ، فَدَخَلَ قَرْيَةً لَهُمْ لَيْلًا وَامْرَأَةٌ تَقُولُ
لِصَغِيرٍ لَهَا يَبْكِي: تَسْكُتُ وَإِلَّا سَلَّمْتُكَ إِلَى
الْبَطَّالِ! ثُمَّ رَفَعَتْهُ بِيَدِهَا وَقَالَتْ: خُذْهُ يَا
بَطَّالُ! فَتَنَاوَلَهُ مِنْ يَدِهَا.
وَسَيَّرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مَعَ ابْنِهِ مَسْلَمَةَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ
وَالشَّامِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ
وَطَلَائِعِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ شُجَاعٌ مِقْدَامٌ، فَجَعَلَهُ
(4/270)
مَسْلَمَةُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ،
فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَكَانَ الْعَلَّافَةُ
وَالسَّابِلَةُ يَسِيرُونَ آمِنِينَ.
وَسَارَ مَرَّةً مَعَ عَسْكَرٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا صَارَ
بِأَطْرَافِ الرُّومِ سَارَ وَحْدَهُ فَدَخَلَ بِلَادَهُمْ، فَرَأَى
مُبْقِلَةً فَنَزَلَ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَقْلِ، فَجَاءَتْ
جَوْفُهُ وَكَثُرَ إِسْهَالُهُ، فَخَافَ أَنْ يَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ
فَرَكِبَ، وَصَارَ تَجِيءُ جَوْفُهُ فِي سَرْجِهِ وَلَا يَجْسُرُ
يَنْزِلُ لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ
الضَّعْفُ، فَاعْتَنَقَ رَقَبَةَ فَرَسِهِ وَسَارَ عَلَيْهِ وَلَا
يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ فَإِذَا هُوَ فِي دَيْرٍ
فِيهِ نِسَاءٌ، فَاجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَتْهُ إِحْدَاهُنَّ
عَنْ فَرَسِهِ وَغَسَّلَتْهُ وَسَقَتْهُ دَوَاءً فَانْقَطَعَ عَنْهُ
مَا بِهِ، وَأَقَامَ فِي الدَّيْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّ
بِطْرِيقًا حَضَرَ الدَّيْرَ فَخَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَبَلَغَهُ
خَبَرُ الْبَطَّالِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ قَدْ جَعَلَتْهُ فِي بَيْتٍ
مُخْتَفِيًا فَمَنَعَتْهُ مِنْهُ، ثُمَّ سَارَ الْبِطْرِيقُ عَنِ
الدَّيْرِ، فَرَكِبَ الْبَطَّالُ وَتَبِعَهُ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ
أَصْحَابُ الْبِطْرِيقِ، وَعَادَ إِلَى الدَّيْرِ وَأَلْقَى الرَّأْسَ
إِلَى النِّسَاءِ وَأَخَذَهُنَّ وَسَاقَهُنَّ إِلَى الْعَسْكَرِ،
فَنَقَلَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، فَهِيَ أُمُّ
أَوْلَادِ الْبَطَّالِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كُلْثُومُ بْنُ عِيَاضٍ
الْقُشَيْرِيُّ الَّذِي كَانَ هِشَامٌ بَعَثَهُ فِي أَهْلِ الشَّامِ
إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَيْثُ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالْبَرْبَرِ.
وَفِيهَا وُلِدَ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَجَّهَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ ابْنَ شُبْرُمَةَ عَلَى
سِجِسْتَانَ فَاسْتَقْضَى مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ
الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ عُمَّالُ الْأَمْصَارِ مَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ، قِيلَ: وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ: أَبُو قُحَافَةَ ابْنُ
أَخِي الْوَلِيدِ بْنِ تَلِيدٍ الْعَبْسِيِّ.
(4/271)
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَاضِي
الْبَصْرَةِ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالذَّكَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ
الْحَارِثِ الْيَامِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، تَيْمُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: مَاتَ
سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو
بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِسْطٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ.
(4/272)
|