الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة]
134 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
[ذِكْرُ خَلْعِ بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَسَارَ مِنْ عَسْكَرِ السَّفَّاحِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ عَلَى رَأْيِهِ سِرًّا إِلَى الْمَدَائِنِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ بَسَّامٌ وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَقُتِلَ كُلُّ مَنْ لَحِقَهُ مُنْهَزِمًا.
ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَرَّ بِذَاتِ الْمَطَامِيرِ، وَبِهَا أَخْوَالُ السَّفَّاحِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُدَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَمِنْ غَيْرِهِمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْ مَوَالِيهِمْ سَبْعَةَ عَشَرَ، فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا جَازَهُمْ شَتَمُوهُ.
وَكَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لِمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ مِنْ حَالِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْفَزَعِ وَأَنَّهُ لَجَأَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَسَّامٍ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا: مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُجْتَازٌ لَا نَعْرِفُهُ فَأَقَامَ فِي قَرْيَتِنَا لَيْلَةً ثُمَّ خَرَجَ عَنَّا. فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَخْوَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْتِيكُمْ عَدُوُّهُ وَيَأْمَنُ فِي قَرْيَتِكُمْ! فَهَلَّا اجْتَمَعْتُمْ فَأَخَذْتُمُوهُ! فَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْجَوَابِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ جَمِيعًا، وَهَدَمَ دُورَهُمْ، وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَمَانِيَّةَ فَاجْتَمَعُوا، وَدَخَلَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ مَعَهُمْ عَلَى السَّفَّاحِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ خَازِمًا اجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَاسْتَخَفَّ بِحَقِّكَ، وَقَتَلَ أَخْوَالَكَ الَّذِينَ قَطَعُوا الْبِلَادَ وَأَتَوْكَ مُعْتَزِّينَ بِكَ طَالِبِينَ مَعْرُوفَكَ حَتَّى صَارُوا فِي جِوَارِكَ، قَتَلَهُمْ خَازِمٌ وَهَدَمَ دُورَهُمْ، وَنَهَبَ أَمْوَالَهُمْ بِلَا حَدَثٍ أَحْدَثُوهُ.
فَهَمَّ بِقَتْلِ خَازِمٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ، وَأَبَا الْجَهْمِ بْنَ عَطِيَّةَ، فَدَخَلَا عَلَى السَّفَّاحِ وَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلَغَنَا مَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّكَ هَمَمْتَ بِقَتْلِ خَازِمٍ، وَإِنَّا نُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ طَاعَةً وَسَابِقَةً، وَهُوَ يُحْتَمَلُ لَهُ مَا صَنَعَ، فَإِنَّ شِيعَتَكُمْ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَدْ آثَرُوكُمْ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَوْلَادِ وَقَتَلُوا مَنْ خَالَفَكُمْ، وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ تَغَمَّدَ إِسَاءَةَ مُسِيئِهِمْ.
فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ مُجْمِعًا عَلَى قَتْلِهِ فَلَا

(5/41)


تَتَوَلَّ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ وَابْعَثْهُ لِأَمْرٍ إِنْ قُتِلَ فِيهِ كُنْتَ قَدْ بَلَغْتَ الَّذِي تُرِيدُ، وَإِنْ ظَفِرَ كَانَ ظَفَرُهُ لَكَ.
وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَوْجِيهِهِ إِلَى مَنْ بِعُمَانَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَإِلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ بِجَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ مَعَ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَيَشْكُرِيِّ، فَأَمَرَ السَّفَّاحُ بِتَوْجِيهِهِ مَعَ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ، بِحَمْلِهِمْ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ وَعُمَانَ، فَسَارَ خَازِمٌ.
ذِكْرُ أَمْرِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَلَمَّا سَارَ خَازِمٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْجُنْدِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَكَانَ قَدِ انْتَخَبَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَمَوَالِيهِ وَمِنْ أَهْلِ مَرْوِ الرُّوذِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْبَصْرَةَ حَمَلَهُمْ سُلَيْمَانُ فِي السُّفُنِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا عِدَّةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَسَارُوا فِي الْبَحْرِ حَتَّى أَرْسَوْا بِجَزِيرَةِ ابْنِ كَاوَانَ.
فَوَجَّهَ خَازِمٌ فَضْلَةَ بْنَ نُعَيْمٍ النَّهْشَلِيَّ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى شَيْبَانَ، فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَرَكِبَ شَيْبَانُ وَأَصْحَابُهُ السُّفُنَ وَسَارُوا إِلَى عُمَانَ، وَهُمْ صُفْرِيَّةٌ. فَلَمَّا صَارُوا إِلَى عُمَانَ قَاتَلَهُمْ الْجُلُنْدَى وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ إِبَاضِيَّةٌ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَقُتِلَ شَيْبَانُ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ قَتْلُ شَيْبَانَ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ.
ثُمَّ سَارَ خَازِمٌ فِي الْبَحْرِ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَرْسَوْا إِلَى سَاحِلِ عُمَانَ، فَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَلَقِيَهُمُ الْجُلُنْدَى وَأَصْحَابُهُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِ خَازِمٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَخٌ لَهُ مِنْ أُمِّهِ فِي تِسْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ اقْتَتَلُوا مِنَ الْغَدِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْخَوَارِجِ تِسْعُمِائَةٍ وَأُحْرِقَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ رَجُلًا.
ثُمَّ الْتَقَوْا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَقْدِمِ خَازِمٍ عَلَى رَأْيٍ أَشَارَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ خَازِمٍ، أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ فَيَجْعَلُوا عَلَى أَطْرَافِ أَسِنَّتِهِمُ الْمُشَاقَةَ، وَيَرْوُوهَا بِالنِّفْطِ وَيُشْعِلُوا فِيهَا النِّيرَانَ ثُمَّ يَمْشُوا بِهَا حَتَّى يُضْرِمُوهَا فِي بُيُوتِ أَصْحَابِ الْجُلُنْدَى، وَكَانَتْ مِنْ خَشَبٍ.
فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَأُضْرِمَتْ بُيُوتُهُمْ بِالنِّيرَانِ اشْتَغَلُوا بِهَا وَبِمَنْ فِيهَا مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَازِمٌ وَأَصْحَابُهُ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ فَقَتَلُوهُمْ، وَقَتَلُوا الْجُلُنْدَى فِيمَنْ قُتِلَ، وَبَلَغَ

(5/42)


عِدَّةُ الْقَتْلَى عَشَرَةَ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَهَا سُلَيْمَانُ إِلَى السَّفَّاحِ، وَأَقَامَ خَازِمٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهُرًا حَتَّى اسْتَقْدَمَهُ السَّفَّاحُ فَقَدِمَ.
ذِكْرُ غَزْوَةِ كِسَّ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَهْلَ كِسَّ، فَقَتَلَ الْإِخْرِيدَ مَلِكَهَا، وَهُوَ سَامِعٌ مُطِيعٌ، وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ وَأَخَذَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَوَانِي الصِّينِيَّةِ الْمَنْقُوشَةِ الْمُذَهَّبَةِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَمِنَ السُّرُوجِ وَمَتَاعِ الصِّينِ كُلِّهِ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالطُّرَفِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَحَمَلَهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ بِسَمَرْقَنْدَ، وَقَتَلَ عِدَّةً مِنْ دَهَاقِينِهِمْ، وَاسْتَحْيَا طَارَانَ أَخَا الْإِخْرِيدِ، وَمَلَّكَهُ عَلَى كِسَّ.
وَانْصَرَفَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى مَرْوَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ فِي أَهْلِ الصُّغْدِ وَبُخَارَى، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ سُورِ سَمَرْقَنْدَ، وَاسْتَخْلَفَ زِيَادَ بْنَ صَالِحٍ عَلَيْهَا وَعَلَى بُخَارَى، وَرَجَعَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى بَلْخَ.
ذِكْرُ حَالِ مَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ السَّفَّاحُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى السِّنْدِ لِقِتَالِ مَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ، فَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهُ عَلَى شُرَطِ السَّفَّاحِ الْمُسَيَّبَ بْنَ زُهَيْرٍ، وَقَدِمَ مُوسَى السِّنْدَ فَلَقِيَ مَنْصُورًا فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَانْهَزَمَ مَنْصُورٌ وَمَنْ مَعَهُ وَمَضَى، فَمَاتَ عَطَشًا فِي الرِّمَالِ، وَقَدْ قِيلَ أَصَابَهُ بَطْنُهُ فَمَاتَ. وَسَمِعَ خَلِيفَتُهُ عَلَى السِّنْدِ بِهَزِيمَتِهِ فَرَحَلَ بِعِيَالِ مَنْصُورٍ وَثَقَلِهِ، فَدَخَلَ بِهِمْ بِلَادَ الْخَزَرِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى الْيَمَنِ، فَاسْتَعْمَلَ السَّفَّاحُ مَكَانَهُ عَلِيَّ بْنَ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ.

(5/43)


وَفِيهَا تَحَوَّلَ السَّفَّاحُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَفِيهَا ضُرِبَ الْمَنَارُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى مَكَّةَ وَالْأَمْيَالِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ.
وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَامَةِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى الْيَمَنِ: عَلِيُّ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْمَالِهَا وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَعُمَانَ: سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ.
وَعَلَى السِّنْدِ: مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَالْجِبَالِ: أَبُو مُسْلِمٍ، وَعَلَى فِلَسْطِينَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مِصْرَ: أَبُو عَوْنٍ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَلَى أَذْرَبِيجَانَ: مُحَمَّدُ بْنُ صُولٍ، وَعَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ: خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ: أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ.
وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ مَنْ ذَكَرْنَا، وَعَلَى الشَّامِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيُّ.

(5/44)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة]
135 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ زِيَادِ بْنِ صَالِحٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ وَرَاءَ النَّهْرِ، فَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ مَرْوَ مُسْتَعِدًّا لِلِقَائِهِ، وَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَصْرَ بْنَ رَاشِدٍ إِلَى تِرْمِذَ مَخَافَةَ أَنْ يَبْعَثَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ إِلَى الْحِصْنِ وَالسُّفُنِ فَيَأْخُذُهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ نَصْرٌ وَأَقَامَ بِهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الطَّالَقَانِ مَعَ رَجُلٍ يُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ فَقَتَلُوا نَصْرًا.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا دَاوُدَ بَعَثَ عِيسَى بْنَ مَاهَانَ فِي تَتَبُّعِ قَتَلَةِ نَصْرٍ، فَتَبِعَهُمْ فَقَتَلَهُمْ.
وَمَضَى أَبُو مُسْلِمٍ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى آمُلَ وَمَعَهُ سِبَاعُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَزْدِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ السَّفَّاحُ إِلَى زِيَادِ بْنِ صَالِحٍ وَأَمَرَهُ إِنْ رَأَى فُرْصَةً أَنْ يَثِبَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَيَقْتُلَهُ.
فَأُخْبِرَ أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، فَحَبَسَ سِبَاعًا بِآمُلَ، وَعَبَرَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى بُخَارَى، فَلَمَّا نَزَلَهَا أَتَاهُ عِدَّةٌ مِنْ قُوَّادِ زِيَادٍ قَدْ خَلَعُوا زِيَادًا فَأَخْبَرُوا أَبَا مُسْلِمٍ أَنَّ سِبَاعَ بْنَ النُّعْمَانِ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ زِيَادًا، فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِآمُلَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَمَّا أَسْلَمَ زِيَادًا قُوَّادُهُ وَلَحِقُوا بِأَبِي مُسْلِمٍ لَجَأَ إِلَى دِهْقَانٍ هُنَاكَ، فَقَتَلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ.
وَتَأَخَّرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ لِحَالِ أَهْلِ الطَّالَقَانِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ يُخْبِرُهُ بِقَتْلِ زِيَادٍ، فَأَتَى كِسَّ وَأَرْسَلَ عِيسَى بْنَ مَاهَانَ إِلَى بَسَّامٍ وَبَعَثَ جُنْدًا إِلَى شَاغِرَ فَطَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا بَسَّامٌ فَلَمْ يَصِلْ عِيسَى إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَتَبَ عِيسَى إِلَى كَامِلِ بْنِ مُظَفَّرٍ صَاحِبِ أَبِي مُسْلِمٍ يَعْتِبُ أَبَا دَاوُدَ وَيَنْسُبُهُ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَبَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ بِالْكُتُبِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ هَذِهِ كُتُبُ الْعِلْجِ الَّذِي صَيَّرْتَهُ عِدْلَ نَفْسِكَ، فَشَأْنُكَ بِهِ. فَكَتَبَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى عِيسَى يَسْتَدْعِيهِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ حَبَسَهُ وَضَرَبَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْجُنْدُ فَقَتَلُوهُ،

(5/45)


وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى مَرْوَ.
ذِكْرُ غَزْوَةِ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ جَزِيرَةَ صِقِلِّيَةَ، وَغَنِمَ بِهَا وَسَبَى، وَظَفِرَ بِهَا مَا لَمْ يَظْفَرْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، بَعْدَ أَنْ غَزَا تِلْمِسَانَ.
وَاشْتَغَلَ وُلَاةُ إِفْرِيقِيَّةَ بِالْفِتْنَةِ مَعَ الْبَرْبَرِ، فَأَمِنَ الصِّقِلِيَّةُ وَعَمَّرَهَا الرُّومُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَعَمَّرُوا فِيهَا الْحُصُونَ وَالْمَعَاقِلَ، وَصَارُوا يُخْرِجُونَ كُلَّ عَامٍ مَرَاكِبَ تَطُوفُ بِالْجَزِيرَةِ وَتَذُبُّ عَنْهَا، وَرُبَّمَا طَارَقُوا تُجَّارًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَأْخُذُونَهُمْ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
حَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَ الْعُمَّالُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو خَازِمٍ الْأَعْرَجُ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَفِيهَا مَاتَ عَطَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: مَوْلَى الْمُهَلَّبِ، وَقِيلَ: هُوَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ الْخُرَاسَانِيَّ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ.
وَفِيهَا مَاتَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِفَارِسَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّئِلِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً.

(5/46)


وَزِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَكَانَ مِنَ الْأَبْطَالِ. (عَيَّاشٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ) .

(5/47)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة]
136 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ حَجِّ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى السَّفَّاحِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ مُذْ مَلَكَ خُرَاسَانَ لَمْ يُفَارِقْهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ وَتَرْتُ النَّاسَ، وَلَسْتُ آمَنُ عَلَى نَفْسِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ أَقْبِلْ فِي أَلْفٍ، فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي سُلْطَانِ أَهْلِكَ وَدَوْلَتِكَ وَطَرِيقُ مَكَّةَ لَا يَتَحَمَّلُ الْعَسْكَرَ.
فَسَارَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَرَّقَهُمْ فِيمَا بَيْنَ نَيْسَابُورَ وَالرَّيِّ، وَقَدِمَ بِالْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ فَخَلَّفَهَا بِالرَّيِّ، وَجَمَعَ أَيْضًا أَمْوَالَ الْجَبَلِ، وَقَدِمَ فِي أَلْفٍ، فَأَمَرَ السَّفَّاحُ الْقُوَّادَ وَسَائِرَ النَّاسِ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، فَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى السَّفَّاحِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَعْظَمَهُ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ السَّفَّاحَ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ، يَعْنِي أَخَاهُ الْمَنْصُورَ، يُرِيدُ الْحَجَّ لَاسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى الْمَوْسِمِ، وَأَنْزَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ.
وَكَانَ مَا بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ مُتَبَاعِدًا ; لِأَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ بَعَثَ أَبَا جَعْفَرٍ إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَمَا صَفَتِ الْأُمُورُ لَهُ وَمَعَهُ عَهْدُ أَبِي مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ، وَبِالْبَيْعَةِ لِلسَّفَّاحِ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَ لَهُمَا أَبُو مُسْلِمٍ وَأَهْلُ خُرَاسَانَ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدِ اسْتَخَفَّ بِأَبِي جَعْفَرٍ.
فَلَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ السَّفَّاحَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذِهِ الْمَرَّةَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِلسَّفَّاحِ: أَطِعْنِي وَاقْتُلْ أَبَا مُسْلِمٍ، فَوَاللَّهِ إِنَّ فِي رَأْسِهِ لَغُدْرَةً. فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتَ بَلَاءَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّمَا كَانَ بِدَوْلَتِنَا، وَاللَّهِ لَوْ بَعَثْتَ سِنَّوْرًا لَقَامَ مَقَامَهُ، وَبَلَغَ مَا بَلَغَ. فَقَالَ: كَيْفَ نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: [إِذَا] دَخَلَ عَلَيْكَ وَحَادَثْتَهُ ضَرَبْتُهُ أَنَا

(5/48)


مِنْ خَلْفِهِ ضَرْبَةً قَتَلْتُهُ بِهَا. قَالَ: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِهِ؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَوْ قُتِلَ لَتَفَرَّقُوا وَذَلُّوا. فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، وَخَرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ. ثُمَّ نَدِمَ السَّفَّاحُ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَ أَبَا جَعْفَرٍ بِالْكَفِّ عَنْهُ.
وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَرَّانَ وَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْأَنْبَارِ وَبِهَا السَّفَّاحُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حَرَّانَ مُقَاتِلَ بْنَ حَكِيمٍ الْعَكِيَّ.
وَحَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ.
وَفِيهَا مَاتَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

ذِكْرُ مَوْتِ السَّفَّاحِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ السَّفَّاحُ بِالْأَنْبَارِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: لِاثْنَتَيْ عَشْرَةً مَضَتْ مِنْهُ، بِالْجُدَرِيِّ، وَكَانَ لَهُ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ لَدُنْ قَتْلِ مَرْوَانَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَمِنْ لَدُنْ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، مِنْهَا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ يُقَاتِلُ مَرْوَانَ.
وَكَانَ جَعْدًا، طَوِيلًا، أَبْيَضَ، أَقْنَى الْأَنْفِ، حَسَنَ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةِ.
وَأُمُّهُ رَيْطَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُدَانِ الْحَارِثِيِّ، وَكَانَ وَزِيرُهُ أَبَا الْجَهْمِ بْنَ عَطِيَّةَ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ عَمُّهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ وَدَفَنَهُ بِالْأَنْبَارِ الْعَتِيقَةِ [فِي قَصْرِهِ] . وَخَلَّفَ تِسْعَ جُبَّابٍ، وَأَرْبَعَةَ أَقْمِصَةٍ، وَخَمْسَةَ سَرَاوِيلَاتٍ، وَأَرْبَعَةَ طَيَالِسَةٍ، وَثَلَاثَةَ مَطَارِفِ خَزٍّ.

(5/49)


قَالَ ابْنُ النَّقَاحِ بَيْتَيْنِ مِنَ الشِّعْرِ، وَوَجَّهَ بِرَجُلٍ إِلَى عَسْكَرِ مَرْوَانَ لِيَقْدَمَ عَلَى الْخَيْلِ لَيْلًا، فَصِيحَ فِيهِمَا وَشَمَسَ فِي النَّاسِ، وَلَا يُوجَدُ، وَهُمَا:
يَا آلَ مَرْوَانَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ وَمُبْدِلٌ بِكُمْ خَوْفًا وَتَشْرِيدًا لَا عَمَّرَ اللَّهُ مِنْ إِنْشَائِكُمْ أَحَدًا وَبَثَّكُمْ فِي بِلَادِ الْخَوْفِ تَطْرِيدًا قَالَ: فَعَلْتُ ذَلِكَ فَدَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَةٌ.
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى: نَظَرَ السَّفَّاحُ يَوْمًا فِي الْمِرْآةِ، وَكَانَ أَجْمَلَ النَّاسِ وَجْهًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ، وَلَكِنِّي [أَقُولُ] : اللَّهُمَّ عَمِّرْنِي طَوِيلًا فِي طَاعَتِكَ مُمَتَّعًا بِالْعَافِيَةِ.
فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَمِعَ غُلَامًا يَقُولُ لِغُلَامٍ آخَرَ: الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. فَتَطَيَّرَ مِنْ كَلَامِهِ وَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ أَسْتَعِينُ. فَمَا مَضَتِ الْأَيَّامُ حَتَّى أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، وَاتَّصَلَ مَرَضُهُ فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ.

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ السَّفَّاحُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ لِأَخِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ بَعْدِ أَبِي جَعْفَرٍ وَلَدَ أَخِيهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَعَلَ الْعَهْدَ فِي ثَوْبٍ، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ وَخَوَاتِيمِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ السَّفَّاحُ كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ بِمَكَّةَ، فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ وَفَاةَ السَّفَّاحِ وَالْبَيْعَةَ لَهُ، فَلَقِيَهُ الرَّسُولُ بِمَنْزِلِ صَفِيَّةَ فَقَالَ: صَفَتْ لَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ قَدْ تَقَدَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِ. فَلَمَّا جَلَسَ وَأَلْقَى إِلَيْهِ كِتَابَهُ قَرَأَهُ وَبَكَى وَاسْتَرْجَعَ وَنَظَرَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَدْ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ وَقَدْ أَتَتْكَ الْخِلَافَةُ؟ قَالَ: أَتَخَوَّفُ شَرَّ عَمِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَشَغَبَهُ عَلَيَّ. قَالَ: لَا تَخَفْهُ فَأَنَا أَكْفِيكَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِنَّمَا عَامَّةُ جُنْدِهِ وَمَنْ مَعَهُ أَهْلُ

(5/50)


خُرَاسَانَ وَهُمْ لَا يَعْصُونَنِي. فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَبَايَعَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالنَّاسُ، وَأَقْبَلَا حَتَّى قَدِمَا الْكُوفَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ هُوَ الَّذِي كَانَ تَقَدَّمَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَعَرَفَ الْخَبَرَ قَبْلَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: عَافَاكَ اللَّهُ وَمَتَّعَ بِكَ، إِنَّهُ أَتَانِي أَمْرٌ أَفْظَعَنِي وَبَلَغَ مِنِّي مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنِّي شَيْءٌ قَطُّ، وَفَاةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعَظِّمَ أَجْرَكَ وَيُحْسِنَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْظِيمًا لِحَقِّكَ وَأَصْفَى نَصِيحَةً [لَكَ] وَحِرْصًا عَلَى مَا يَسُرُّكَ مِنِّي. ثُمَّ مَكَثَ يَوْمَيْنِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِبَيْعَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَرْهِيبَ أَبِي جَعْفَرٍ.
قَالَ: وَرَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا وَعَلَى الْمَدِينَةِ لِلسَّفَّاحِ، وَقِيلَ: كَانَ قَدْ عَزَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عَنْ مَكَّةَ، وَوَلَّاهَا الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَلَمَّا بَايَعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى النَّاسَ لِأَبِي جَعْفَرٍ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ بِالشَّامِ يُخْبِرُهُ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، وَبَيْعَةِ الْمَنْصُورِ وَيَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لِلْمَنْصُورِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَّاحِ فَجَعَلَهُ عَلَى الصَّائِفَةِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ وَخُرَاسَانَ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ دُلُوكَ، وَلَمْ يُدْرِكْ، فَأَتَاهُ مَوْتُ السَّفَّاحِ، فَعَادَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَقَدْ بَايَعَ لِنَفْسِهِ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْأَنْدَلُسِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ فِي الْأَنْدَلُسِ الْحُبَابُ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الزُّهْرِيُّ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْيَمَانِيَّةِ، فَسَارَ إِلَى الصُّمَيْلِ وَهُوَ أَمِيرُ قُرْطُبَةَ، فَحَصَرَهُ بِهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَدَّ الصُّمَيْلُ يُوسُفَ الْفِهْرِيَّ أَمِيرَ الْأَنْدَلُسِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لِتَوَالِي الْغَلَاءِ وَالْجُوعِ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَلِأَنَّ يُوسُفَ قَدْ كَرِهَ الصُّمَيْلَ، وَاخْتَارَ هَلَاكَهُ لِيَسْتَرِيحَ مِنْهُ.
وَثَارَ بِهَا أَيْضًا عَامِرٌ الْعَبْدَرِيُّ وَجَمَعَ جَمْعًا، وَاجْتَمَعَ مَعَ الْحُبَابِ عَلَى الصُّمَيْلِ، وَقَامَا بِدَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ.

(5/51)


فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى الصُّمَيْلِ كَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ يَسْتَمِدُّهُمْ، فَسَارَعُوا إِلَى نُصْرَتِهِ وَاجْتَمَعُوا وَسَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْحُبَابُ بِقُرْبِهِمْ سَارَ الصُّمَيْلُ عَنْ سَرَقُسْطَةَ وَفَارَقَهَا، فَعَادَ الْحُبَابُ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَاسْتَعْمَلَ يُوسُفُ الْفِهْرِيُّ الصُّمَيْلَ عَلَى طُلَيْطُلَةَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
كَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الشَّامِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مِصْرَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ: سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ رَبِيعَةُ الرَّأْيِ، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ سُوَيْدٍ اللَّخْمِيُّ الْفَرَسِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْفَرَسِيُّ، بِالْفَاءِ، [نِسْبَةً إِلَى فَرَسٍ لَهُ] . وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَبُو زَيْدٍ الثَّقَفِيُّ. وَعُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ.
(وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَدَخَلَ الْكُوفَةَ، فَصَلَّى بِأَهْلِهَا الْجُمْعَةَ، وَخَطَبَهُمْ وَسَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ، فَأَقَامَ بِهَا وَجَمَعَ إِلَيْهِ أَطْرَافَهُ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى قَدْ أَحْرَزَ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنَ وَالدَّوَاوِينَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ الْأَمَرَ إِلَيْهِ) .

(5/52)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة]
137 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَهَزِيمَتِهِ
قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الصَّائِفَةِ فِي الْجُنُودِ، وَمَوْتَ السَّفَّاحِ، وَإِرْسَالَ عِيسَى بْنِ مُوسَى إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يُخْبِرُهُ بِمَوْتِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِالْبَيْعَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ السَّفَّاحُ قَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ.
فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ لَحِقَهُ بَدُلُوكَ، وَهِيَ بِأَفْوَاهِ الدُّرُوبِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: الصَّلَاةَ جَامِعَةً! فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ.
وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ السَّفَّاحَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُوَجِّهَ الْجُنُودَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ دَعَا بَنِي أَبِيهِ فَأَرَادَهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنِ انْتَدَبَ مِنْكُمْ فَسَارَ إِلَيْهِ فَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِي، فَلَمْ يَنْتَدِبْ [لَهُ] غَيْرِي، وَعَلَى هَذَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَتَلْتُ مَنْ قَتَلْتُ، وَشَهِدَ لَهُ أَبُو غَانِمٍ الطَّائِيُّ، وَخُفَافٌ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُوَّادِ، فَبَايَعُوهُ، وَفِيهِمْ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، إِلَّا أَنَّ حُمَيْدًا فَارَقَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
ثُمَّ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ، وَبِهَا مُقَاتِلٌ الْعَكِّيُّ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو جَعْفَرٍ لَمَّا سَارَ إِلَى مَكَّةَ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ مُقَاتِلٌ، فَحَصَرَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ مَعَ الْمَنْصُورِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ لِلْمَنْصُورِ: إِنْ شِئْتَ جَمَعْتُ ثِيَابِي فِي مِنْطَقَتِي وَخَدَمْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَتَيْتُ خُرَاسَانَ فَأَمْدَدْتُكَ بِالْجُنُودِ، وَإِنْ شِئْتَ سِرْتُ إِلَى حَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ.
فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ لِحَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجُنُودِ نَحْوَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ، وَكَانَ قَدْ لَحِقَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ فَسَارَ مَعَهُ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ.

(5/53)


فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ، وَهُوَ يُحَاصِرُ حَرَّانَ، إِقْبَالُ أَبِي مُسْلِمٍ خَشِيَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِ عَطَاءٌ الْعَتَكِيُّ أَمَامًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ، وَأَقَامَ مَعَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ وَجَّهَهُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ سُرَاقَةَ الْأَزْدِيِّ بِالرَّقَّةِ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا.
فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُثْمَانَ دَفَعَ الْعَتَكِيُّ الْكِتَابَ إِلَيْهِ، فَقَتَلَ الْعَتَكِيَّ وَاحْتَبَسَ ابْنَيْهِ، فَلَمَّا هُزِمَ عَبْدُ اللَّهِ قَتَلَهُمَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قَدْ خَشِيَ أَنْ لَا يُنَاصِحَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ عَلَى حَلَبَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ عَامِلِهَا يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ حُمَيْدٍ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ حُمَيْدٌ وَالْكِتَابُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ: إِنَّ ذَهَابِي بِكِتَابٍ لَا أَعْلَمُ مَا فِيهِ لَغَرَرٌ. فَقَرَأَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِيهِ أَعْلَمَ خَاصَّتَهُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ الْمَسِيرَ مَعِي مِنْكُمْ فَلْيَسِرْ. فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَسَارَ عَلَى الرُّصَافَةِ إِلَى الْعِرَاقِ.
فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدَ بْنَ صُولٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ لِيَمْكُرَ بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: الْخَلِيفَةُ بَعْدِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، إِنَّمَا وَضَعَكَ أَبُو جَعْفَرٍ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ صُولٍ هُوَ جَدُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الْكَاتِبِ الصُّولِيِّ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَتَّى نَزَلَ نَصِيبِينَ وَخَنْدَقَ عَلَيْهِ، وَقَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ فِيمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ بِإِرْمِينِيَّةَ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُوَافِيَ أَبَا مُسْلِمٍ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمَوْصِلِ، وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ نَاحِيَةَ نَصِيبِينَ فَأَخَذَ طَرِيقَ الشَّامِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِعَبْدِ اللَّهِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِكَ وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِيَ الشَّامَ فَأَنَا أُرِيدُهَا. فَقَالَ مَنْ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لِعَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ نُقِيمُ مَعَكَ وَهَذَا يَأْتِي بِلَادَنَا فَيَقْتُلُ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِنَا وَيَسْبِي ذَرَارِيَّنَا؟ وَلَكِنْ نَخْرُجُ إِلَى بِلَادِنَا فَنَمْنَعُهُ وَنُقَاتِلُهُ. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ الشَّامَ وَمَا تَوَجَّهَ إِلَّا لِقِتَالِكُمْ، وَإِنْ أَقَمْتُمْ لَيَأْتِيَنَّكُمْ.
فَأَبَوْا إِلَّا الْمَسِيرَ إِلَى الشَّامِ، وَأَبُو مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، فَارْتَحَلَ عَبْدُ اللَّهِ نَحْوَ الشَّامِ، وَتَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ فِي مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَوَّرَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمِيَاهِ، وَأَلْقَى فِيهَا الْجِيَفَ.
وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ ذَلِكَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟ وَرَجَعَ فَنَزَلَ فِي مَوْضِعِ عَسْكَرِ

(5/54)


أَبِي مُسْلِمٍ الَّذِي كَانَ بِهِ، فَاقْتَتَلُوا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَأَهْلُ الشَّامِ أَكْثَرُ فُرْسَانًا وَأَكْمَلُ عُدَّةً، وَعَلَى مَيْمَنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ حَبِيبُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ، فَاقْتَتَلُوا شَهْرًا.
ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ حَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِ أَبِي مُسْلِمٍ فَأَزَالُوهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ وَرَجَعُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ فِي خَيْلٍ مُجَرَّدَةٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَرَجَعَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ تَجَمَّعُوا وَحَمَلُوا ثَانِيَةً عَلَى أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَزَالُوا صَفَّهُمْ، وَجَالُوا جَوْلَةً.
فَقِيلَ لِأَبِي مُسْلِمٍ: لَوْ حَوَّلْتَ دَابَّتَكَ إِلَى هَذَا التَّلِّ لِيَرَاكَ النَّاسُ فَيَرْجِعُوا فَإِنَّهُمْ قَدِ انْهَزَمُوا. فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْحِجَى لَا يَعْطِفُونَ دَوَابَّهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ ارْجِعُوا فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِمَنِ اتَّقَى. فَتَرَاجَعَ النَّاسُ.
وَارْتَجَزَ أَبُو مُسْلِمٍ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَنْوِي أَهْلَهُ فَلَا رَجَعْ ... فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَوْتِ وَقَعْ.
وَكَانَ قَدْ عُمِلَ لِأَبِي مُسْلِمٍ عَرِيشٌ، فَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ إِذَا الْتَقَى النَّاسُ فَيَنْظُرُ إِلَى الْقِتَالِ، فَإِنْ رَأَى خَلَلًا فِي الْجَيْشِ سَدَّهُ وَأَمَرَ مُقَدَّمَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِالِاحْتِيَاطِ وَبِمَا يَفْعَلُ، فَلَا تَزَالُ رُسُلُهُ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ الْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا، فَمَكَرَ بِهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ، وَأَمَرَ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ أَنْ يُعَرِّيَ الْمَيْمَنَةَ، [وَيَضُمَّ] أَكْثَرَهَا إِلَى الْمَيْسَرَةِ وَلْيَتْرُكْ، فِي الْمَيْمَنَةِ جَمَاعَةَ أَصْحَابِهِ وَأَشِدَّاءَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ أَعْرَوْا مَيْسَرَتَهُمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى مَيْمَنَتِهِمْ بِإِزَاءِ مَيْسَرَةِ أَبِي مُسْلِمٍ.
وَأَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ أَهْلَ الْقَلْبِ أَنْ يَحْمِلُوا مَعَ مَنْ بَقِيَ فِي مَيْمَنَتِهِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَحَطَّمُوهُمْ، وَجَالَ الْقَلْبُ وَالْمَيْمَنَةُ، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي مُسْلِمٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ لِابْنِ سُرَاقَةَ الْأَزْدِيِّ: يَا ابْنَ سُرَاقَةَ مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَصْبِرَ وَتُقَاتِلَ حَتَّى تَمُوتَ، فَإِنَّ الْفِرَارَ قَبِيحٌ بِمِثْلِكَ، وَقَدْ عِبْتَهُ عَلَى مَرْوَانَ. قَالَ: فَإِنِّي

(5/55)


آتِي الْعِرَاقَ. قَالَ: فَأَنَا مَعَكَ.
فَانْهَزَمُوا وَتَرَكُوا عَسْكَرَهُمْ، فَحَوَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَأَرْسَلَ أَبَا الْخَصِيبِ مَوْلَاهُ يُحْصِي مَا أَصَابُوا مِنَ الْعَسْكَرِ، فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ.
وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الصَّمَدِ ابْنَا عَلِيٍّ، فَأَمَّا عَبْدُ الصَّمَدِ فَقَدِمَ الْكُوفَةَ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى فَآمَنَهُ الْمَنْصُورُ، وَقِيلَ: بَلْ أَقَامَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ بِالرُّصَافَةِ حَتَّى قَدِمَهُ جُمْهُورُ بْنُ مِرَّارٍ الْعِجْلِيُّ فِي خُيُولٍ أَرْسَلَهَا الْمَنْصُورُ، فَأَخَذَهُ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ مُوَثَّقًا مَعَ أَبِي الْخَصِيبِ فَأَطْلَقَهُ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَأَتَى أَخَاهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ زَمَانًا مُتَوَارِيًا.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ آمَنَ النَّاسَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ.

ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَى السَّفَّاحِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْحَجِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَتَبَ السَّفَّاحُ إِلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَإِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَيَّ يَسْتَأْذِنُنِي فِي الْحَجِّ، وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَنِي أَنْ أُوَلِّيَهُ الْمَوْسِمَ، فَاكْتُبْ إِلَيَّ تَسْتَأْذِنُنِي فِي الْحَجِّ فَآذَنُ لَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ بِمَكَّةَ لَمْ يَطْمَعْ أَنْ يَتَقَدَّمَكَ.
فَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى أَخِيهِ السَّفَّاحِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَدِمَ الْأَنْبَارَ، فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَا وَجَدَ أَبُو جَعْفَرٍ عَامًا يَحُجُّ فِيهِ غَيْرَ هَذَا؟ وَحَقَدَهَا عَلَيْهِ، وَحَجَّا مَعًا، فَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ يَكْسُو الْأَعْرَابَ، وَيُصْلِحُ الْآبَارَ وَالطَّرِيقَ، وَكَانَ الذِّكْرُ لَهُ، وَكَانَ الْأَعْرَابُ يَقُولُونَ: هَذَا الْمَكْذُوبُ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَرَأَى أَهْلَ الْيَمَنِ قَالَ: أَيُّ جُنْدٍ هَؤُلَاءِ لَوْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ ظَرِيفُ اللِّسَانِ غَزِيرُ الدَّمْعَةِ! .
فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ عَنِ الْمَوْسِمِ تَقَدَّمَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الطَّرِيقِ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَأَتَاهُ خَبَرُ وَفَاةِ السَّفَّاحِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ يُعَزِّيهِ عَنْ أَخِيهِ، وَلَمْ يُهَنِّئْهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَقُمْ حَتَّى يَلْحَقَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ.
فَغَضِبَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا غَلِيظًا، فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُهَنِّئُهُ بِالْخِلَافَةِ. وَتَقَدَّمَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَأَتَى الْأَنْبَارَ، فَدَعَا عِيسَى بْنَ مُوسَى إِلَى أَنْ يُبَايِعَ لَهُ، فَأَتَى عِيسَى، وَقَدِمَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ.
فَسَيَّرَ الْمَنْصُورُ أَبَا مُسْلِمٍ إِلَى قِتَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مَكَانًا، مَعَ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ وَزِيرِ الْمَنْصُورِ:

(5/56)


إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بِأَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَأْتِيهِ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقْرَؤُهُ، ثُمَّ يُلْقِي الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ إِلَى مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، فَيَقْرَؤُهُ وَيَضْحَكَانِ اسْتِهْزَاءً، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الرِّسَالَةُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ ضَحِكَ وَقَالَ: نَحْنُ لِأَبِي مُسْلِمٍ أَشَدُّ تُهْمَةً مِنَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّا نَرْجُو وَاحِدَةً، نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَا يُحِبُّونَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ. وَكَانَ قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
فَلَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَمَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا غَنِمَ مِنْ عَسْكَرِهِ بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ أَبَا الْخَصِيبِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ لِيَكْتُبَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ قَتْلَهُ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ: أَنَا أَمِينٌ عَلَى الدِّمَاءِ، خَائِنٌ فِي الْأَمْوَالِ. وَشَتَمَ الْمَنْصُورَ.
فَرَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَخْبَرَهُ، فَخَافَ أَنْ يَمْضِيَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مِصْرَ وَالشَّامَ فَهِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَوَجِّهْ إِلَى مِصْرَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَأَقِمْ بِالشَّامِ فَتَكُونَ بِقُرْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ أَحَبَّ لِقَاءَكَ أَتَيْتَهُ مِنْ قَرِيبٍ.
فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ غَضِبَ وَقَالَ: يُوَلِّينِي الشَّامَ وَمِصْرَ، وَخُرَاسَانُ لِي! فَكَتَبَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ. وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ مُجْمِعًا عَلَى الْخِلَافِ، وَخَرَجَ عَنْ وَجْهِهِ يُرِيدُ خُرَاسَانَ.
فَسَارَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ بِالزَّابِ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ، عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنَّ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ عَنْ قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ لَكَ مَا وَفَّيْتَ، حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ حَيْثُ يُقَارِنُهَا السَّلَامَةُ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَإِنَّا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي.
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكُ، وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صِفَةَ أُولَئِكَ الْوُزَرَاءِ الْغَشَشَةِ مُلُوكَهُمْ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّمَا رَاحَتُهُمْ فِي انْتِشَارِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ؟ فَأَنْتَ فِي طَاعَتِكَ وَمُنَاصَحَتِكَ وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا حَمَلْتَ مِنْ أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعَ الشَّرِيطَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ مِنْكَ سَمْعًا وَلَا طَاعَةً، وَحَمَّلَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِيسَى بْنَ مُوسَى رِسَالَةً لِتَسْكُنَ إِلَيْهَا إِنْ أَصْغَيْتَ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ نِيَّتَكَ أَوْكَدَ عِنْدَهُ وَأَقْرَبَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْكَ.

(5/57)


وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي مَحِلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا، وَفِي قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا، فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ، فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ كَالَّذِي دَلَّى بِغُرُورٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ، وَلَا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ جَهِلَكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِيَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وَخَرَجَ أَبُو مُسْلِمٍ مُرَاغَمًا مُشَاقًّا، وَسَارَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ طَرِيقَ حُلْوَانَ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِعَمِّهِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: اكْتُبُوا إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ وَيَشْكُرُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يُتِمَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَيُحَذِّرُونَهُ عَاقِبَةَ الْبَغْيِ، وَيَأْمُرُونَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَنْصُورِ.
وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ الْكِتَابَ مَعَ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ وَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ أَبَا مُسْلِمٍ بِأَلْيَنِ مَا تُكَلِّمُ بِهِ أَحَدًا، مَنِّهِ، وَأَعْلِمْهُ أَنِّي رَافِعُهُ، وَصَانِعٌ بِهِ مَا لَمْ يَصْنَعْهُ بِهِ أَحَدٌ إِنْ هُوَ صَلُحَ وَرَاجَعَ مَا أُحِبُّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: لَسْتُ مِنَ الْعَبَّاسِ وَإِنِّي بَرِيءٌ مِنْ مُحَمَّدٍ، إِنْ مَضَيْتَ مُشَاقًّا وَلَمْ تَأْتِنِي إِنْ وَكَّلْتَ أَمْرَكَ إِلَى أَحَدٍ سِوَايَ، وَإِنْ لَمْ أَلِ طَلَبَكَ وَقِتَالَكَ بِنَفْسِي، وَلَوْ خُضْتَ الْبَحْرَ لَخُضْتُهُ، وَلَوِ اقْتَحَمْتَ النَّارَ لَاقْتَحَمْتُهَا حَتَّى أَقْتُلَكَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَقُولَنَّ [لَهُ] هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ رُجُوعِهِ، وَلَا تَطْمَعَ مِنْهُ فِي خَيْرٍ.
فَسَارَ أَبُو حُمَيْدٍ فَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِحُلْوَانَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يُبَلِّغُونَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَخِلَافَ مَا عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْكَ حَسَدًا وَبَغْيًا، يُرِيدُونَ إِزَالَةَ النِّعْمَةِ وَتَغْيِيرَهَا، فَلَا تُفْسِدْ مَا كَانَ مِنْكَ. وَكَلَّمَهُ وَقَالَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ أَمِيرَ آلِ مُحَمَّدٍ يَعْرِفُكَ بِذَلِكَ النَّاسُ، وَمَا ذَخَرَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَاكَ، فَلَا تُحْبِطْ أَجْرَكَ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: مَتَى كُنْتَ تُكَلِّمُنِي بِهَذَا الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَإِلَى طَاعَةِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَمَرْتَنَا بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَدَعَوْتَنَا مِنْ أَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَنَا اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِمْ، وَأَلَّفَ مَا بَيْنَ قُلُوبِنَا

(5/58)


[بِمَحَبَّتِهِمْ] ، وَأَعَزَّنَا بِنَصْرِنَا لَهُمْ، وَلَمْ نَلْقَ مِنْهُمْ رَجُلًا إِلَّا بِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا، حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ بِبَصَائِرَ نَافِذَةٍ، وَطَاعَةٍ خَالِصَةٍ، أَفَتُرِيدُ حِينَ بَلَغْنَا غَايَةَ مُنَانَا، وَمُنْتَهَى أَمَلِنَا أَنْ تُفْسِدَ أَمْرَنَا، وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَنَا؟ ! وَقَدْ قَلْتَ لَنَا مَنْ خَالَفَكُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ خَالَفْتُكُمْ فَاقْتُلُونِي! .
فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَبِي نَصْرٍ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، فَقَالَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ لِي هَذَا؟ مَا كَانَ بِكَلَامِهِ يَا مَالِكُ! قَالَ: لَا تَسْمَعْ قَوْلَهُ، وَلَا يَهُولَنَّكَ هَذَا مِنْهُ، فَلَعَمْرِي مَا هَذَا كَلَامَهُ، وَلَمَا بَعْدَ هَذَا أَشَدُّ مِنْهُ، فَامْضِ لِأَمْرِكَ وَلَا تَرْجِعْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَتَيْتَهُ لَيَقْتُلَنَّكَ، وَلَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْكَ شَيْءٌ لَا يَأْمَنُكَ أَبَدًا.
فَقَالَ: قُومُوا، فَنَهَضُوا، فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى نَيْزَكٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْكُتُبَ وَمَا قَالُوا، فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَأْتِيَهُ، وَأَرَى أَنْ تَأْتِيَ الرَّيَّ فَتُقِيمَ بِهَا، [فَيَصِيرَ] مَا بَيْنَ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ لَكَ، وَهُمْ جُنْدُكَ لَا يُخَالِفُكَ أَحَدٌ، فَإِنِ اسْتَقَامَ لَكَ اسْتَقَمْتَ لَهُ، وَإِنْ أَبَى كُنْتَ فِي جُنْدِكَ وَكَانَتْ خُرَاسَانُ وَرَاءَكَ، وَرَأَيْتَ رَأْيَكَ.
فَدَعَا أَبَا حُمَيْدٍ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكَ، فَلَيْسَ مِنْ رَأْيِي أَنْ آتِيَهُ. قَالَ: قَدْ عَزَمْتَ عَلَى خِلَافِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ! قَالَ: لَا أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ رُجُوعِهِ مَعَهُ قَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ، فَوَجَمَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: قُمْ. فَكَسَّرَهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ وَرَعَّبَهُ.
وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي دَاوُدَ خَلِيفَةِ أَبِي مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ حِينَ اتَّهَمَ أَبَا مُسْلِمٍ: إِنَّ لَكَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ مَا بَقِيتَ. فَكَتَبَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّا لَمْ نَخْرُجْ لِمَعْصِيَةِ خُلَفَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تُخَالِفَنَّ إِمَامَكَ، وَلَا تَرْجِعَنَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
فَوَافَاهُ كِتَابُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَزَادَهُ رُعْبًا وَهَمًّا، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ عَازِمًا عَلَى الْمُضِيِّ إِلَى خُرَاسَانَ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنْ أُوَجِّهَ أَبَا إِسْحَاقَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَأْتِيَنِي بِرَأْيِهِ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ. فَوَجَّهَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ تَلَقَّاهُ بَنُو هَاشِمٍ بِكُلِّ مَا يُحِبُّ، وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: اصْرِفْهُ عَنْ وَجْهِهِ وَلَكَ وِلَايَةُ خُرَاسَانَ، وَأَجَازَهُ.
فَرَجَعَ أَبُو إِسْحَاقَ وَقَالَ لِأَبِي مُسْلِمٍ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا، رَأَيْتُهُمْ مُعَظِّمِينَ لِحَقِّكَ يَرَوْنَ لَكَ مَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، فَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ نَيْزَكٌ: قَدْ أَجْمَعْتَ عَلَى الرُّجُوعِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَمَثَّلَ:

(5/59)


مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ... ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ الْأَقْوَامِ
قَالَ: إِذَا عَزَمْتَ عَلَى هَذَا فَخَارَ اللَّهُ لَكَ. احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً، إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ثُمَّ بَايِعْ مَنْ شِئْتَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُخَالِفُونَكَ.
وَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهِ، فَسَارَ نَحْوَهُ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا نَصْرٍ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَقَالَ لَهُ: أَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ كِتَابِي، فَإِنْ أَتَاكَ مَخْتُومًا بِنِصْفِ خَاتَمٍ فَأَنَا كَتَبْتُهُ، وَإِنْ أَتَاكَ بِالْخَاتَمِ كُلِّهِ فَلَمْ أَخْتِمْهُ. وَقَدِمَ الْمَدَائِنَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَخَلَّفَ النَّاسَ بِحُلْوَانَ.
وَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ قَرَأَهُ وَأَلْقَاهُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ وَزِيرِهِ، فَقَرَأَهُ وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ لَأَقْتُلَنَّهُ.
فَخَافَ أَبُو أَيُّوبَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يَقْتُلُوا الْمَنْصُورَ وَيَقْتُلُوهُ مَعَهُ، فَدَعَا سَلَمَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ شُكْرٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: إِنْ وَلَّيْتُكَ وِلَايَةً تُصِيبُ مِنْهَا مِثْلَ مَا يُصِيبُ صَاحِبُ الْعِرَاقِ، تُدْخِلْ مَعَكَ أَخِي حَاتِمًا - وَأَرَادَ بِإِدْخَالِ أَخِيهِ مَعَهُ أَنْ يَطْمَعَ وَلَا يُنْكِرَ - وَتَجْعَلْ لَهُ النِّصْفَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: إِنَّ كَسْكَرَ كَالَتْ عَامَ أَوَّلَ كَذَا وَكَذَا، وَمِنْهَا الْعَامَ أَضْعَافُ ذَلِكَ، فَإِنْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ بِمَا كَالَتْ أَوْ بِالْأَمَانَةِ أَصَبْتَ مَا تَضِيقُ بِهِ ذَرْعًا.
قَالَ: كَيْفَ لِي بِهَذَا الْمَالِ؟ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: تَأْتِي أَبَا مُسْلِمٍ فَتَلْقَاهُ وَتُكَلِّمُهُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فِيمَا يُرْفَعُ مِنْ حَوَائِجِهِ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِذَا قَدِمَ مَا وَرَاءَ بَابِهِ وَيُرِيحَ نَفْسَهُ، قَالَ: فَكَيْفَ لِي أَنْ يَأْذَنَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي لِقَائِهِ؟ فَاسْتَأْذَنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ الْمَنْصُورُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُبْلِغَ سَلَامَهُ وَشَوْقَهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَقِيَهُ سَلَمَةُ بِالطَّرِيقِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ كَئِيبًا حَزِينًا، وَلَمْ يَزَلْ مَسْرُورًا حَتَّى قَدِمَ.
فَلَمَّا دَنَا أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الْمَنْصُورِ أَمَرَ النَّاسَ بِتَلَقِّيهِ، فَتَلَقَّاهُ بَنُو هَاشِمٍ وَالنَّاسُ، ثُمَّ قَدِمَ فَدَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَبَّلَ يَدَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ وَيُرَوِّحَ نَفْسَهُ لِثَلَاثَةٍ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ، فَانْصَرَفَ.

(5/60)


فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَا الْمَنْصُورُ عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ وَأَرْبَعَةً مِنَ الْحَرَسِ، مِنْهُمْ: شَبِيبُ بْنُ وَاجٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ حَرْبُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ إِذَا صَفَّقَ بِيَدَيْهِ، وَتَرَكَهُمْ خَلْفَ الرِّوَاقِ.
وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى يَتَغَدَّى، فَدَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: أَخْبِرْنِي عَنْ نَصْلَيْنِ أَصَبْتَهُمَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ. قَالَ: هَذَا أَحَدُهُمَا. قَالَ: أَرِنِيهِ. فَانْتَضَاهُ وَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ، فَوَضَعَهُ الْمَنْصُورُ تَحْتَ فِرَاشِهِ.
وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَاتِبُهُ وَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ كِتَابِكَ إِلَى السَّفَّاحِ تَنْهَاهُ عَنِ الْمَوَاتِ، أَرَدْتَ أَنْ تُعَلِّمَنَا الدِّينَ؟ قَالَ: ظَنَنْتُ أَخْذَهُ لَا يَحِلُّ، فَلَمَّا أَتَانِي كِتَابُهُ عَلِمْتُ أَنَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مَعْدِنُ الْعِلْمِ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ تَقَدُّمِكَ إِيَّايَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. قَالَ: كَرِهْتُ اجْتِمَاعَنَا عَلَى الْمَاءِ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ فَتَقَدَّمْتُكَ لِلرِّفْقِ. قَالَ: فَقَوْلُكَ لِمَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالِانْصِرَافِ إِلَيَّ بِطَرِيقِ مَكَّةَ حِينَ أَتَاكَ مَوْتُ أَبِي الْعَبَّاسِ إِلَى أَنْ تَقْدَمَ فَنَرَى رَأْيَنَا، وَمَضَيْتَ فَلَا أَنْتَ أَقَمْتَ حَتَّى أَلْحَقَكَ وَلَا أَنْتَ رَجَعْتَ إِلَيَّ! قَالَ: مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرْتُكَ مِنْ طَلَبِ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ، وَقُلْتُ: تَقْدَمُ الْكُوفَةَ وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ خِلَافٍ.
قَالَ: فَجَارِيَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَرَدْتَ أَنْ تَتَّخِذَهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي خِفْتُ أَنْ تَضِيعَ فَحَمَلْتُهَا فِي قُبَّةٍ وَوَكَّلْتُ بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا. قَالَ: فَمُرَاغَمَتُكَ وَخُرُوجُكَ إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ: خِفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَكَ مِنِّي شَيْءٌ فَقُلْتُ آتِي خُرَاسَانَ، فَأَكْتُبُ إِلَيْكَ بِعُذْرِي، فَأُذْهِبُ مَا فِي نَفْسِكَ.
قَالَ: فَالْمَالُ الَّذِي جَمَعْتَهُ بِخُرَاسَانَ؟ قَالَ: أَنْفَقْتُهُ بِالْجُنْدِ تَقْوِيَةً لَهُمْ وَاسْتِصْلَاحًا. قَالَ: أَلَسْتَ الْكَاتِبَ إِلَيَّ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ، وَتَخْطُبُ عَمَّتِي آمِنَةَ ابْنَةَ عَلِيٍّ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؟ لَقَدِ ارْتَقَيْتَ، لَا أُمَّ لَكَ، مُرْتَقًى صَعْبًا.
ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى قَتْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ مَعَ أَثَرِهِ فِي دَعْوَتِنَا، وَهُوَ أَحَدُ نُقَبَائِنَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: أَرَادَ الْخِلَافَ وَعَصَانِي فَقَتَلْتُهُ.
فَلَمَّا طَالَ عِتَابُ الْمَنْصُورِ قَالَ: لَا يُقَالُ هَذَا لِي بَعْدَ بَلَائِي وَمَا كَانَ مِنِّي.
قَالَ: يَابْنَ الْخَبِيثَةِ! وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ أَمَةٌ مَكَانَكَ لَأَجْزَأَتْ، إِنَّمَا عَمِلْتَ فِي دَوْلَتِنَا وَبِرِيحِنَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا قَطَعْتَ فَتِيلًا.

(5/61)


فَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ بِيَدِهِ يُقَبِّلُهَا وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ! وَاللَّهِ مَا زِدْتَنِي إِلَّا غَضَبًا! قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: دَعْ هَذَا فَقَدَ أَصْبَحْتُ مَا أَخَافُ [إِلَّا] اللَّهَ تَعَالَى.
فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ وَشَتَمَهُ، وَصَفَّقَ بِيَدِهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْحَرَسُ، فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ بْنُ نَهِيكٍ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي لِعَدُوِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: لَا أَبْقَانِيَ اللَّهُ إِذًا، أَعَدُوٌّ أَعْدَى لِي مِنْكَ؟ ! وَأَخَذَهُ الْحَرَسُ بِسُيُوفِهِمْ حَتَّى قَتَلُوهُ وَهُوَ يَصِيحُ الْعَفْوَ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: يَابْنَ اللَّخْنَاءِ الْعَفْوُ وَالسُّيُوفُ قَدِ اعْتَوَرَتْكَ! فَقَتَلُوهُ فِي شَعْبَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ.
فَقَالَ الْمَنْصُورُ:
زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْتَضَى ... فَاسْتَوْفِ بِالْكَيْلِ أَبَا مُجْرِمِ
سُقِيتَ كَأْسًا كُنْتَ تَسْقِي ... بِهَا أَمَرَّ فِي الْحَلْقِ مِنَ الْعَلْقَمِ
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ قَتَلَ فِي دَوْلَتِهِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ صَبْرًا.
فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو مُسْلِمٍ دَخَلَ أَبُو الْجَهْمِ عَلَى الْمَنْصُورِ فَرَأَى أَبَا مُسْلِمٍ قَتِيلًا، فَقَالَ: أَلَا أَرُدُّ النَّاسَ؟ قَالَ: بَلَى، فَمُرْ بِمَتَاعٍ يُحْمَلُ إِلَى رِوَاقٍ آخَرَ.
وَخَرَجَ أَبُو الْجَهْمِ، فَقَالَ: انْصَرِفُوا فَإِنَّ الْأَمِيرَ يُرِيدُ الْقَائِلَةَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَأَوُا الْمَتَاعَ يُنْقَلُ فَظَنُّوهُ صَادِقًا فَانْصَرَفُوا، وَأَمَرَ لَهُمُ الْمَنْصُورُ بِالْجَوَائِزِ، فَأَعْطَى أَبَا إِسْحَاقَ مِائَةَ أَلْفٍ.
وَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى الْمَنْصُورِ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ أَبُو مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ هَاهُنَا [آنِفًا] . فَقَالَ عِيسَى: قَدْ عَرَفْتَ نَصِيحَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَرَأْيَ الْإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ فِيهِ.
فَقَالَ: يَا أَحْمَقُ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَدُوًّا أَعْدَى لَكَ مِنْهُ! هَا هُوَ ذَا فِي الْبِسَاطِ. فَقَالَ عِيسَى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ لِعِيسَى فِيهِ رَأْيٌ.

(5/62)


فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: خَلَعَ اللَّهُ قَلْبَكَ! وَهَلْ كَانَ لَكُمْ مُلْكٌ أَوْ سُلْطَانٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ؟
ثُمَّ دَعَا الْمَنْصُورُ بِجَعْفَرِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَةً فَاقْتُلْ ثُمَّ اقْتُلْ.
فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَفَّقَكَ اللَّهُ! فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ مَقْتُولًا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عُدَّ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لِخِلَافَتِكَ.
ثُمَّ دَعَا الْمَنْصُورُ بِأَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُتَابِعُ عَدُوَّ اللَّهِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ! وَقَدْ كَانَ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِإِتْيَانِ خُرَاسَانَ، قَالَ: فَكَفَّ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا خَوْفًا مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: تَكَلَّمْ بِمَا أَرَدْتَ فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ الْفَاسِقَ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ.
فَلَمَّا رَآهُ أَبُو إِسْحَاقَ خَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ فَأَطَالَ، وَرَفَعَ رَأَسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آمَنَنِي بِكَ الْيَوْمَ! وَاللَّهِ مَا أَمِنْتُهُ يَوْمًا [وَاحِدًا] ، وَمَا خِفْتُهُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَمَا جِئْتُهُ يَوْمًا قَطُّ إِلَّا وَقَدْ أَوْصَيْتُ وَتَكَفَّنْتُ وَتَحَنَّطْتُ. ثُمَّ رَفَعَ ثِيَابَهُ الظَّاهِرَةَ فَإِذَا تَحْتَهَا ثِيَابُ كَتَّانٍ جُدُدٌ، وَقَدْ تَحَنَّطَ.
فَلَمَّا رَأَى أَبُو جَعْفَرٍ حَالَهُ رَحِمَهُ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلْ طَاعَةَ خَلِيفَتِكَ وَاحَمَدِ اللَّهَ الَّذِي أَرَاحَكَ مِنَ الْفَاسِقِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَرِّقْ عَنِّي هَذِهِ الْجَمَاعَةَ.
ثُمَّ كَتَبَ الْمَنْصُورُ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَى أَبِي نَصْرٍ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ لِسَانِ أَبِي مُسْلِمٍ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ ثَقَلِهِ وَمَا خَلَّفَ عِنْدَهُ، وَأَنْ يَقْدَمَ، وَخَتَمَ الْكِتَابَ بِخَاتَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا رَأَى الْخَاتَمَ تَامًّا عَلِمَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمْ يَكْتُبْ، فَقَالَ: فَعَلْتُمُوهَا! وَانْحَدَرَ إِلَى هَمَذَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ.
فَكَتَبَ الْمَنْصُورُ لِأَبِي نَصْرٍ عَهْدَهُ عَلَى شَهْرَزُورَ، وَكَتَبَ إِلَى زُهَيْرِ بْنِ التُّرْكِيِّ، وَهُوَ عَلَى هَمَذَانَ: إِنْ مَرَّ بِكَ أَبُو نَصْرٍ فَاحْبِسْهُ. فَسَبَقَ الْكِتَابُ إِلَى زُهَيْرٍ وَأَبُو نَصْرٍ بِهَمَذَانَ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: قَدْ صَنَعْتُ لَكَ طَعَامًا فَلَوْ أَكْرَمْتَنِي بِدُخُولِ مَنْزِلِي. فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَخَذَهُ زُهَيْرٌ فَحَبَسَهُ.
وَكَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى زُهَيْرٍ كِتَابًا يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ أَبِي نَصْرٍ، وَقَدِمَ صَاحِبُ الْعَهْدِ عَلَى أَبِي نَصْرٍ بِعَهْدِهِ عَلَى شَهْرَزُورَ، فَخَلَّى زُهَيْرٌ سَبِيلَهُ لِهَوَاهُ فِيهِ، فَخَرَجَ ثُمَّ وَصَلَ بَعْدَ يَوْمٍ الْكِتَابُ إِلَى زُهَيْرٍ بِقَتْلِ أَبِي نَصْرٍ، فَقَالَ: جَاءَنِي كِتَابٌ بِعَهْدِهِ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.

(5/63)


وَقَدِمَ أَبُو نَصْرٍ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ لَهُ: أَشَرْتَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمُضِيِّ إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَتْ لَهُ عِنْدِي أَيَادٍ فَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِنِ اصْطَنَعَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ نَصَحْتُ لَهُ وَشَكَرْتُ. فَعَفَا عَنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الرَّاوِنْدِيَّةِ قَامَ أَبُو نَصْرٍ عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، وَقَالَ: أَنَا الْبَوَّابُ الْيَوْمَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ وَأَنَا حَيٌّ. فَسَأَلَ عَنْهُ الْمَنْصُورُ فَأُخْبِرَ بِهِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ نَصَحَ لَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ زُهَيْرًا سَيَّرَ أَبَا نَصْرٍ إِلَى الْمَنْصُورِ مُقَيَّدًا، فَمَنَّ عَلَيْهِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ.

[خُطْبَةُ الْمَنْصُورِ] وَلَمَّا قَتَلَ الْمَنْصُورُ أَبَا مُسْلِمٍ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَخْرُجُوا مِنْ أُنْسِ الطَّاعَةِ إِلَى وَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تَمْشُوا فِي ظُلْمَةِ الْبَاطِلِ بَعْدَ سَعْيِكُمْ فِي ضِيَاءِ الْحَقِّ، إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ أَحْسَنَ مُبْتَدِئًا وَأَسَاءَ مُعَقِّبًا، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ بِنَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَانَا، وَرَجَحَ قَبِيحُ بَاطِنِهِ عَلَى حُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَعَلِمْنَا مَنْ خُبْثِ سَرِيرَتِهِ، وَفَسَادِ نِيَّتِهِ مَا لَوْ عَلِمَهُ اللَّائِمُ لَنَا فِيهِ لَعَذَرَنَا فِي قَتْلِهِ، وَعَنَّفَنَا فِي إِمْهَالِنَا، وَمَا زَالَ يَنْقُضُ بَيْعَتَهُ، وَيَخْفِرُ ذِمَّتَهُ، حَتَّى أَحَلَّ لَنَا عُقُوبَتَهُ، وَأَبَاحَنَا دَمَهُ، فَحَكَمْنَا فِيهِ حُكْمَهُ لَنَا فِي غَيْرِهِ [مِمَّنْ شَقَّ الْعَصَا] ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا الْحَقُّ لَهُ مِنْ إِمْضَاءِ الْحَقِّ فِيهِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ لِلنُّعْمَانِ:
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ ... كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرَّشَدِ
وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
ثُمَّ نَزَلَ.

(5/64)


وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، وَثَابِتِ الْبُنَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائِغُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرُهُمَا.
خَطَبَ يَوْمًا فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ الَّذِي أَرَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ، وَهَذِهِ ثِيَابُ الْهَيْبَةِ وَثِيَابُ الدَّوْلَةِ، يَا غُلَامُ اضْرِبْ عُنُقَهُ.
قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: أَبُو مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا أَوِ الْحَجَّاجُ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ شَرًّا مِنْهُ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ نَازِكًا شُجَاعًا ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ، وَحَزْمٍ وَمُرُوءَةٍ، وَقِيلَ لَهُ: بِمَ نِلْتَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْقَهْرِ لِلْأَعْدَاءِ؟ فَقَالَ: ارْتَدَيْتُ الصَّبْرَ، وَآثَرْتُ الْكِتْمَانَ، وَحَالَفْتُ الْأَحْزَانَ وَالْأَشْجَانَ، وَشَامَخْتُ الْمَقَادِيرَ وَالْأَحْكَامَ، حَتَّى بَلَغْتُ غَايَةَ هِمَّتِي، وَأَدْرَكْتُ نِهَايَةَ بُغْيَتِي.
ثُمَّ قَالَ:
قَدْ نِلْتُ بِالْحَزْمِ وَالْكِتْمَانِ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ مُلُوكُ بَنِي سَاسَانَ إِذْ حَشَدُوا مَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ بِالسَّيْفِ فَانْتَبَهُوا مِنْ رَقْدَةٍ لَمْ يَنَمْهَا قَبْلَهُمْ أَحَدُ طَفِقْتُ أَسْعَى عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمُ وَالْقَوْمُ فِي مُلْكِهِمْ بِالشَّامِ [قَدْ] رَقَدُوا وَمَنْ رَعَى غَنَمًا فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ وَنَامَ عَنْهَا تَوَلَّى رَعْيَهَا الْأَسَدُ
وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ وَرَدَ نَيْسَابُورَ عَلَى حِمَارٍ بِإِكَافٍ وَلَيْسَ مَعَهُ آدَمِيٌّ فَقَصَدَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي دَارًا لِفَاذُوسْيَانَ، فَدَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَفَزِعَ أَصْحَابُهُ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ:

(5/65)


قُولُوا لِلدِّهْقَانِ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بِالْبَابِ يَطْلُبُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدَابَّةً. فَقَالُوا لِلدِّهْقَانِ ذَلِكَ، فَقَالَ الدِّهْقَانُ: فِي أَيِّ زِيٍّ هُوَ وَأَيِّ عُدَّةٍ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ وَحْدَهُ فِي أَدْوَنِ زِيٍّ.
فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ دَعَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَابَّةٍ مِنْ خَوَاصِّ دَوَابِّهِ وَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، قَدْ أَسْعَفْنَاكَ بِمَا طَلَبْتَ، وَإِنْ عَرَضَتْ حَاجَةٌ أُخْرَى فَنَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ: مَا نُضَيِّعُ لَكَ مَا فَعَلْتَهُ.
فَلَمَّا مَلَكَ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ: إِنْ فَتَحْتَ نَيْسَابُورَ أَخَذْتَ كُلَّ مَا تُرِيدُهُ مِنْ مَالِ الْفَاذُوسْيَانَ دِهْقَانِهَا الْمَجُوسِيِّ. فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ عِنْدَنَا يَدٌ. فَلَمَّا مَلَكَ نَيْسَابُورَ أَتَتْهُ هَدَايَا الْفَاذُوسْيَانَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَقْبَلْهَا وَاطْلُبْ مِنْهُ الْأَمْوَالَ.
فَقَالَ: لَهُ عِنْدِي يَدٌ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمْوَالِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّةٍ وَكَمَالِ مُرُوءَةٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ أَبَا دَاوُدَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ.

ذِكْرُ خُرُوجِ سُنْبَاذَ بِخُرَاسَانَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سُنْبَاذُ بِخُرَاسَانَ يَطْلُبُ بِدَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ مَجُوسِيًّا مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ يُقَالُ لَهَا أَهْرَوَانَهْ، كَانَ ظُهُورُهُ غَضَبًا لِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ صَنَائِعِهِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجِبَالِ، وَغَلَبَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَقُومِسَ وَالرَّيِّ، وَتُسَمَّى فَيْرُوزَ أَصْبَهْبَذَ.
فَلَمَّا صَارَ بِالرَّيِّ أَخَذَ خَزَائِنَ أَبِي مُسْلِمٍ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ خَلَّفَهَا بِالرَّيِّ حِينَ شَخَصَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، وَسَبَى الْحُرَمَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلتُّجَّارِ، وَكَانَ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَقْصِدُ الْكَعْبَةَ وَيَهْدِمُهَا.
فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ جُمْهُورَ بْنَ مِرَّارٍ الْعِجْلِيَّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَالْتَقَوْا بَيْنَ هَمَذَانَ وَالرَّيِّ عَلَى طَرَفِ الْمَفَازَةِ، وَعَزَمَ جُمْهُورٌ عَلَى مُطَاوَلَتِهِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَدَّمَ سُنْبَاذُ السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْجِمَالِ، فَلَمَّا رَأَيْنَ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ قُمْنَ فِي الْمَحَامِلِ وَنَادَيْنَ: وَامُحَمَّدَاهُ! ذَهَبَ الْإِسْلَامُ! وَوَقَعَتِ الرِّيحُ فِي أَثْوَابِهِنَّ، فَنَفَرَتِ الْإِبِلُ وَعَادَتْ عَلَى عَسْكَرِ سُنْبَاذَ، فَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ.
وَتَبِعَ الْمُسْلِمُونَ الْإِبِلَ وَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِي الْمَجُوسِ وَمَنْ مَعَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَكَانَ عَدَدُ الْقَتْلَى نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، ثُمَّ قُتِلَ سُنْبَاذُ بَيْنَ طَبَرِسْتَانَ وَقُومِسَ.

(5/66)


وَكَانَ بَيْنَ مَخْرِجِ سُنْبَاذَ وَقَتْلِهِ سَبْعَوْنَ لَيْلَةً، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ قَصَدَ طَبَرِسْتَانَ مُلْتَجِئًا إِلَى صَاحِبِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى طَرِيقِهِ عَامِلًا لَهُ اسْمُهُ طَوْسُ، فَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ سُنْبَاذُ، فَضَرَبَ طَوْسُ عُنُقَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِقَتْلِهِ وَأَخَذَ مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأَمْوَالَ، فَأَنْكَرَهَا، فَسَيَّرَ الْجُنُودَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ إِلَى الدَّيْلَمِ.

ذِكْرُ خُرُوجِ مُلَبَّدِ بْنِ حَرْمَلَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُلَبَّدُ بْنُ حَرْمَلَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَحَكَمَ بِنَاحِيَةِ الْجَزِيرَةِ، فَسَارَتْ إِلَيْهِ رَوَابِطُ الْجَزِيرَةِ، وَهُوَ فِي نَحْوِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ.
ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيُّ، فَهَزَمَهُ مُلَبَّدٌ وَأَخَذَ جَارِيَةً لَهُ كَانَ يَطَؤُهَا، فَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ مَوْلَاهُ مُهَلْهَلَ بْنَ صَفْوَانَ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ نُخْبَةِ الْجُنْدِ، فَهَزَمَهُمْ مُلَبَّدٌ، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُمْ.
ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ نِزَارًا قَائِدًا مِنْ قُوَّادِ خُرَاسَانَ، فَقَتَلَهُ مُلَبَّدٌ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ زِيَادَ بْنَ مُشْكَانَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَقِيَهُمْ مُلَبَّدٌ فَهَزَمَهُمْ.
ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ صَالِحَ بْنَ صُبَيْحٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَخَيْلٍ كَثِيرَةٍ وَعُدَّةٍ، فَهَزَمَهُمْ مُلَبَّدٌ.
ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَهُوَ عَلَى الْجَزِيرَةِ يَوْمَئِذٍ، فَلَقِيَهُ مُلَبَّدٌ فَهَزَمَهُ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ خُرُوجَ مُلَبَّدٍ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.

(5/67)


ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ صَائِفَةٌ لِشَغْلِ السُّلْطَانِ بِحَرْبِ سُنْبَاذَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ.
وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَكَّةَ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ.
وَمَاتَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَوْسِمِ، فَضَمَّ إِسْمَاعِيلُ عَمَلَهُ إِلَى زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَقَرَّهُ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْمَالِهَا: سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ السُّلَمِيُّ.
وَعَلَى خُرَاسَانَ: أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى مِصْرَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ: حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِعَبْدِ اللَّهِ، وَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِدَالِ.

(5/68)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة]
138 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خَلْعِ جُمْهُورِ بْنِ مِرَّارٍ الْعِجْلِيِّ
وَفِيهَا خَلَعَ جُمْهُورُ بْنُ مِرَّارٍ الْمَنْصُورَ بِالرَّيِّ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورًا لَمَّا هَزَمَ سُنْبَاذَ حَوَى مَا فِي عَسْكَرِهِ، وَكَانَ فِيهِ خَزَائِنُ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمْ يُوَجِّهْهَا إِلَى الْمَنْصُورِ، فَخَافَ فَخَلَعَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ نَحْوَ الرَّيِّ، فَفَارَقَهَا جُمْهُورٌ نَحْوَ أَصْبَهَانَ، (وَدَخَلَ مُحَمَّدٌ الرَّيَّ، وَمَلَكَ جُمْهُورٌ أَصْبَهَانَ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ عَسْكَرًا (وَبَقِيَ فِي الرَّيِّ، فَأَشَارَ عَلَى جُمْهُورٍ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَسِيرَ فِي نُخْبَةِ عَسْكَرِهِ) نَحْوَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ فِي قِلَّةٍ، فَإِنْ ظَفِرَ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُ بَقِيَّةٌ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا.
وَبَلَغَ خَبَرُهُ مُحَمَّدًا، فَحَذِرَ وَاحْتَاطَ، وَأَتَاهُ عَسْكَرٌ مِنْ خُرَاسَانَ فَقَوِيَ بِهِمْ، فَالْتَقَوْا بِقَصْرِ الْفِيرُوزَانِ بَيْنَ الرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، وَمَعَ جُمْهُورٍ نُخْبَةُ فُرْسَانِ الْعَجَمِ، فَهُزِمَ جُمْهُورُ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ جُمْهُورٌ فَلَحِقَ بِأَذْرَبِيجَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِإِسْبَاذُرْوَا، قَتَلَهُ أَصْحَابُهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْمَنْصُورِ.
ذِكْرُ قَتْلِ مُلَبَّدٍ الْخَارِجِيِّ
قَدْ ذَكَرْنَا خُرُوجَهُ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا، وَتَحَصُّنَ حُمَيْدٍ مِنْهُ، وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ ظَفَرُ

(5/69)


مُلَبَّدٍ، وَتَحَصُّنُ حُمَيْدٍ مِنْهُ، وَجَّهَ إِلَيْهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخَا عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَضَمَّ زِيَادَ بْنَ مُشْكَانَ، فَأَكْمَنَ لَهُ مُلَبَّدٌ مِائَةَ فَارِسٍ، فَلَمَّا لَقِيَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ خَرَجَ عَلَيْهِ الْكَمِينُ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِهِ.
فَوَجَّهَ [الْمَنْصُورُ] إِلَيْهِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ فِي نَحْوِ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَرْوَرُوذِيَّةِ، فَسَارَ خَازِمٌ حَتَّى نَزَلَ الْمَوْصِلَ، وَبَعَثَ إِلَى مُلَبَّدٍ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَعَبَرَ مُلَبَّدٌ دِجْلَةَ مِنْ بَلَدٍ وَسَارَ نَحْوَ خَازِمٍ.
وَسَارَ إِلَيْهِ خَازِمٌ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ وَطَلَائِعِهِ نَضَلَةُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ خَازِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْشَلِيُّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَامِرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ أَبُو حَمَّادٍ الْأَبْرَصُ، وَخَازِمٌ فِي الْقَلْبِ.
فَلَمْ يَزَلْ يُسَايِرُ مُلَبَّدًا وَأَصْحَابَهُ إِلَى اللَّيْلِ وَتَوَاقَفُوا لَيْلَتَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ سَارَ مُلَبَّدٌ نَحْوَ كُورَةِ حَزَّةَ، وَخَازِمٌ وَأَصْحَابُهُ يُسَايِرُونَهُمْ حَتَّى غَشِيَهُمُ اللَّيْلُ، وَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ فَسَارَ مُلَبَّدٌ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْهَرَبَ، فَخَرَجَ خَازِمٌ فِي أَثَرِهِ وَتَرَكُوا خَنْدَقَهُمْ، وَكَانَ خَازِمٌ قَدْ خَنْدَقَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْحَسَكِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ مُلَبَّدٌ وَأَصْحَابُهُ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَازِمٌ أَلْقَى الْحَسَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَدَيْ أَصْحَابِهِ، فَحَمَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ خَازِمٍ فَطَوَوْهَا، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى الْمَيْسَرَةِ وَطَوَوْهَا، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى الْقَلْبِ وَفِيهِ خَازِمٌ، فَنَادَى خَازِمٌ فِي أَصْحَابِهِ: الْأَرْضَ الْأَرْضَ! فَنَزَلُوا، وَنَزَلَ مُلَبَّدٌ وَأَصْحَابُهُ وَعَقَرُوا عَامَّةَ دَوَابِّهِمْ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا بِالسُّيُوفِ حَتَّى تَقَطَّعَتْ.
وَأَمَرَ خَازِمٌ نَضَلَةَ بْنَ نُعَيْمٍ أَنْ إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ وَلَمْ يُبْصِرْ بَعْضَنَا بَعْضًا فَارْجِعْ إِلَى خَيْلِكَ وَخَيْلِ أَصْحَابِكَ فَارْكَبُوهَا ثُمَّ ارْمُوهُمْ بِنُشَّابٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَرَاجَعَ أَصْحَابُ خَازِمٍ مِنَ الْمَيْمَنَةِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، ثُمَّ رَشَقُوا مُلَبَّدًا، وَأَصْحَابَهُ بِالنُّشَّابِ، فَقُتِلَ مُلَبَّدٌ فِي ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ مِمَّنْ تَرَجَّلَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَرَجَّلُوا زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَرَبَ الْبَاقُونَ، وَتَبِعَهُمْ نَضَلَةُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلًا.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ، فَدَخَلَ مَلَطْيَةَ عَنْوَةً

(5/70)


وَقَهْرًا وَغَلَبَ أَهْلَهَا وَهَدَمَ سُورَهَا، وَعَفَا عَمَّنْ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ
وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الصَّائِفَةَ مَعَ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَبَنَى صَالِحٌ مَا كَانَ مَلِكُ الرُّومِ أَخْرَبَهُ مِنْ سُورِ مَلَطْيَةَ.
وَفِيهَا بَايَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ لِلْمَنْصُورِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْبَصْرَةِ مَعَ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَنْصُورُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا: عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى قَضَائِهَا: سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ: أَبُو دَاوُدَ، وَعَلَى مِصْرَ: صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمِسْوَرُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ.

(5/71)


وَسَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ أَبُو حَفْصٍ الْأَسْلَمِيُّ، يَرْوِي عَنْ سَفِينَةَ حَدِيثَ " «الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ» ".
وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.

(5/72)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة]
139 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ غَزْوِ الرُّومِ وَالْفِدَاءِ مَعَهُمْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرَغَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ عِمَارَةِ مَا أَخْرَبَهُ الرُّومُ مِنْ مَلَطْيَةَ، ثُمَّ غَزَوُا الصَّائِفَةَ مِنْ دَرْبِ الْحَدَثِ فَوَغَلَا فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا مَعَ صَالِحٍ أُخْتَاهُ أُمُّ عِيسَى وَلُبَابَةُ بَنْتَا عَلِيٍّ، وَكَانَتَا نَذَرَتَا إِنْ زَالَ مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ أَنْ تُجَاهِدَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَغَزَا مِنْ دَرْبِ مَلَطْيَةَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمَنْصُورِ، وَمَلِكِ الرُّومِ، فَاسْتَفْدَى الْمَنْصُورُ أَسْرَى قَالِيقَلَا وَغَيْرَهُمْ مِنَ الرُّومِ، وَبَنَاهَا وَعَمَّرَهَا وَرَدَّ إِلَيْهَا أَهْلِيهَا، وَنَدَبَ إِلَيْهَا جُنْدًا مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَقَامُوا بِهَا وَحَمَوْهَا.
وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ صَائِفَةٌ فِيمَا قِيلَ إِلَّا سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، لِاشْتِغَالِ الْمَنْصُورِ بِابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ غَزَا الصَّائِفَةَ مَعَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَأَقْبَلَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ فَبَلَغَ جَيْحَانَ، فَسَمِعَ كَثْرَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهَا صَائِفَةٌ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ.

(5/73)


ذِكْرُ دُخُولِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ
قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ فَتْحَ الْأَنْدَلُسِ، وَعَزْلَ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ عَنْهَا.
فَلَمَّا عُزِلَ عَنْهَا وَسَارَ إِلَى الشَّامِ اسْتُخْلِفَ عَلَيْهَا ابْنُهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ، وَضَبَطَهَا وَحَمَى ثُغُورَهَا، وَافْتَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ مَدَائِنَ كَثِيرَةً، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا، وَبَقِيَ أَمِيرًا إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، فَقُتِلَ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ قَتْلِهِ.
فَلَمَّا قُتِلَ بَقِيَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا يَجْمَعُهُمْ وَالٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَيُّوبَ بْنِ حَبِيبٍ اللَّخْمِيِّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ لِصَلَاحِهِ، وَتَحَوَّلَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَجَعَلَهَا دَارَ إِمَارَةٍ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ.
ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ اسْتَعْمَلَ بَعْدَهُ الْحُرَّ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّقَفِيَّ، فَقَدِمَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، فَأَقَامَ وَالِيًا عَلَيْهَا سَنَتَيْنِ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلَافَةَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ السَّمْحَ بْنَ مَالِكٍ الْخَوْلَانِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُمَيِّزَ أَرْضَهَا، وَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا كَانَ عَنْوَةً وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْخُمْسَ وَيَكْتُبَ إِلَيْهِ بِصِفَةِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ رَأْيُهُ إِقْفَالَ أَهْلِهَا مِنْهَا لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَدِمَهَا السَّمْحُ سَنَةَ مِائَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ عُمَرُ، وَقُتِلَ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ بَدَا لِعُمَرَ فِي نَقْلِ أَهْلِهَا عَنْهَا وَتَرْكِهِمْ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا.
ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَ السَّمْحِ عَنْبَسَةُ بْنُ سُحَيْمٍ الْكَلْبِيُّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ غَزْوَةِ الْإِفْرِنْجِ.
ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهُ يَحْيَى بْنُ سَلْمَى الْكَلْبِيُّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَبَقِيَ عَلَيْهَا وَالِيًا سَنَتَيْنِ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْأَبْرَصِ الْأَشْجَعِيُّ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ فَبَقِيَ وَالِيًا عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عُزِلَ.
ثُمَّ وَلِيَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي نِسْعَةَ الْخَثْعَمِيُّ، فَقَدِمَهَا سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، (وَعُزِلَ آخِرَ سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ أَيْضًا، كَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ.

(5/74)


ثُمَّ وَلِيَهَا الْهَيْثَمُ بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنَانِيُّ، فَقَدِمَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ) ، فَأَقَامَ وَالِيًا عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَقَدَّمَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْجَعِيَّ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ.
وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيُّ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَاسْتُشْهِدَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.
ثُمَّ وَلِيَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَطَنٍ الْفِهْرِيُّ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا سَنَتَيْنِ وَعُزِلَ. ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهُ عُقْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّلُولِيُّ، دَخَلَهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَوَلِيَهَا خَمْسَ سِنِينَ، وَثَارَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ بِهِ فَخَلَعُوهُ فَوَلَّوْا بَعْدَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ قَطَنٍ، وَهِيَ وِلَايَتُهُ الثَّانِيَةُ، (وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْأَنْدَلُسِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فَوَلَّى أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ عَبْدَ الْمَلِكِ) .
ثُمَّ وَلِيَهَا بَلْجُ بْنُ بِشْرٍ الْقُشَيْرِيُّ، بَايَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَهَرَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَحِقَ بِدَارِهِ، وَهَرَبَ ابْنَاهُ قَطَنٌ وَأُمَيَّةُ فَلَحِقَ أَحَدُهُمَا بِمَارِدَةَ وَالْآخَرُ بِسَرَقُسْطَةَ، ثُمَّ ثَارَتِ الْيَمَنُ عَلَى بَلْجٍ وَسَأَلُوهُ قَتْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَطَنٍ، فَلَمَّا خَشِيَ فَسَادَهُمْ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَصُلِبَ، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعِينَ سَنَةً.
فَلَمَّا بَلَغَ ابْنَيْهِ قَتْلُهُ حَشَدَا مِنْ مَارِدَةَ إِلَى أَرْبُونَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا مِائَةُ أَلْفٍ، وَزَحَفُوا إِلَى بَلْجٍ وَمَنْ مَعَهُ بِقُرْطُبَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَلْجٌ فَلَقِيَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِقُرْبِ قُرْطُبَةَ فَهَزَمَهُمَا، وَرَجَعَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ.
وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ بَلْجٍ الْأَنْدَلُسَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمِّهِ كُلْثُومِ بْنِ عِيَاضٍ فِي وَقْعَةِ الْبَرْبَرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عَمُّهُ سَارَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَجَازَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَطَنٍ إِلَيْهَا، وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ.
ثُمَّ وَلَّى أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْأَنْدَلُسِ مَكَانَهُ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلَامَةَ الْعَامِلِيَّ فَأَقَامَ إِلَى أَنْ قَدِمَ أَبُو الْخَطَّارِ وَالِيًا عَلَى الْأَنْدَلُسِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَدَانَ لَهُ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ ثَعْلَبَةُ، وَابْنُ أَبِي نِسْعَةَ، وَابْنَا عَبْدِ الْمَلِكِ، فَآمَنَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ، وَكَانَ شُجَاعًا ذَا رَأْيٍ وَكَرَمٍ.
وَكَثُرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَهُ، فَلَمْ تَحْمِلْهُمْ قُرْطُبَةَ، فَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ، فَأَنْزَلَ أَهْلَ دِمَشْقَ إِلْبِيرَةَ لِشَبَهِهَا بِهَا وَسَمَّاهَا دِمَشْقَ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ حِمْصَ إِشْبِيلِيَّةَ، وَسَمَّاهَا حِمْصَ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ بَجَيَّانَ، وَسَمَّاهَا قِنَّسْرِينَ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ بِرَيَّةَ

(5/75)


وَسَمَّاهَا الْأُرْدُنَّ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ فِلَسْطِينَ بِشَذُونَةَ وَسَمَّاهَا فِلَسْطِينَ.
وَأَنْزَلَ أَهْلَ مِصْرَ بِتُدْمِيرَ وَسَمَّاهَا مِصْرَ لِشَبَهِهَا بِهَا، ثُمَّ تَعَصَّبَ الْيَمَانِيَّةُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَتَأَلُّبِ الصُّمَيْلِ بْنِ حَاتِمٍ عَلَيْهِ مَعَ مُضَرَ وَحَرْبِهِ وَخَلْعِهِ. وَقَامَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَكَانَ الصُّمَيْلُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ قَدْ قَدِمَ الْأَنْدَلُسَ فِي أَمْدَادِ الشَّامِ، فَرَأَسَ بِهَا، فَأَرَادَ أَبُو الْخَطَّارِ أَنْ يَضَعَ مِنْهُ فَأَمَرَ بِهِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ الْجُنْدُ فَشُتِمَ وَأُهِينَ، فَخَرَجَ وَعِمَامَتُهُ مَائِلَةٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحُجَّابِ: مَا بَالُ عِمَامَتِكَ مَائِلَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِي قَوْمٌ فَسَيُقِيمُونَهَا، وَبَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ فَشَكَا إِلَيْهِمْ مَا لَقِيَ.
فَقَالُوا: نَحْنُ لَكَ تَبَعٌ، وَكَتَبُوا إِلَى ثَوَابَةَ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، فَوَفَدَ عَلَيْهِمْ وَأَجَابَهُمْ وَتَبِعَهُمْ لَخْمٌ وَجُذَامٌ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي الْخَطَّارِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُ فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَأُسِرَ أَبُو الْخَطَّارِ، وَدَخَلَ ثَوَابَةُ قَصْرَ قُرْطُبَةَ وَأَبُو الْخَطَّارِ فِي قُيُودِهِ، فَوَلِيَ ثَوَابَةُ الْأَنْدَلُسَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْيَمَنِ إِعَادَةَ أَبِي الْخَطَّارِ، وَامْتَنَعَتْ مُضَرُ، وَرَأَسَهُمُ الصُّمَيْلُ، فَافْتَرَقَتِ الْكَلِمَةُ، فَأَقَامَتِ الْأَنْدَلُسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِغَيْرِ أَمِيرٍ. (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
فَلَمَّا بَقُوا بِغَيْرِ أَمِيرٍ) قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَثِيرٍ اللَّخْمِيَّ لِلْأَحْكَامِ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيِّ، فَوَلِيَهَا يُوسُفُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ أَنْ يَلِيَ سَنَةً ثُمَّ يَرُدَّ الْأَمْرَ إِلَى الْيَمَنِ فَيُوَلُّوا مَنْ أَحَبُّوا مِنْ قَوْمِهِمْ.
فَلَمَّا انْقَضَتِ السَّنَةُ أَقْبَلَ أَهْلُ الْيَمَنِ بِأَسْرِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَبَيَّتَهُمْ الصُّمَيْلُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَهِيَ وَقْعَةُ شَقُنْدَةَ الْمَشْهُورَةُ، وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْخَطَّارِ وَاقْتَتَلُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَقَطَّعَتْ وَبِالسُّيُوفِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، ثُمَّ تَجَاذَبُوا بِالشُّعُورِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى يُوسُفَ وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ أَحَدٌ.
(وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ) .
ثُمَّ تَوَالَى الْقَحْطُ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَجَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا وَتَضَعْضَعَتْ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَفِيهَا اجْتَمَعَ تَمِيمُ بْنُ مَعْبَدٍ الْفِهْرِيُّ، وَعَامِرٌ الْعَبْدَرِيُّ بِمَدِينَةِ سَرَقُسْطَةَ، وَحَارَبَهُمَا الصُّمَيْلُ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِمَا يُوسُفُ الْفِهْرِيُّ فَحَارَبَهُمَا فَقَتَلَهُمَا، وَبَقِيَ يُوسُفُ عَلَى الْأَنْدَلُسِ

(5/76)


إِلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ.
هَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُلَاةِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا مُتَفَرِّقًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ هَاهُنَا مُتَتَابِعًا لِيَتَّصِلَ بَعْضُ أَخْبَارِ الْأَنْدَلُسِ بِبَعْضٍ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مُتَفَرِّقَةً) . وَنَرْجِعُ إِلَى ذِكْرِ عُبُورِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا سَبَبُ مَسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى الْغَرْبِ، فَإِنَّهُ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مَنْ قُتِلَ وَمِنْ شِيعَتِهِمْ، فَرَّ مِنْهُمْ مَنْ نَجَا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِذَاتِ الزَّيْتُونِ، فَفَرَّ مِنْهَا إِلَى فِلَسْطِينَ، وَأَقَامَ هُوَ وَمَوْلَاهُ بَدْرٌ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ.
فَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُعْطِينَا الْأَمَانَ ثُمَّ نُكِثَ بِنَا بِنَهْرِ أَبِي فُطْرُسٍ، وَأُبِيحَتْ دِمَاؤُنَا أَتَانَا الْخَبَرُ، وَكُنْتُ مُنْتَبَذًا مِنَ النَّاسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي آيِسًا، وَنَظَرْتُ فِيمَا يُصْلِحُنِي وَأَهْلِي، وَخَرَجْتُ خَائِفًا حَتَّى صِرْتُ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى الْفُرَاتِ ذَاتِ شَجَرٍ وَغِيَاضٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ بِهَا وَوَلَدِي سُلَيْمَانُ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، خَرَجَ عَنِّي ثُمَّ دَخَلَ الصَّبِيُّ مِنْ بَابِ الْبَيْتِ بَاكِيًا فَزِعًا فَتَعَلَّقَ بِي، وَجَعَلْتُ أَدْفَعُهُ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِي، فَخَرَجْتُ لِأَنْظُرَ وَإِذَا بِالْخَوْفِ قَدْ نَزَلَ بِالْقَرْيَةِ، وَإِذَا بِالرَّايَاتِ السُّودِ مُنْحَطَّةٌ عَلَيْهَا، وَأَخٌ لِي حَدِيثُ السِّنِّ يَقُولُ لِي: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَهَذِهِ رَايَاتُ الْمُسَوِّدَةِ! .
فَأَخَذْتُ دَنَانِيرَ مَعِي وَنَجَوْتُ بِنَفْسِي وَأَخِي، وَأَعْلَمْتُ أَخَوَاتِي بِمُتَوَجَّهِي، فَأَمَرْتُهُنَّ أَنْ يُلْحِقْنَنِي مَوْلَايَ بَدْرًا، وَأَحَاطَتِ الْخَيْلُ بِالْقَرْيَةِ، فَلَمْ يَجِدُوا لِي أَثَرًا، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ مَعَارِفِي وَأَمَرْتُهُ فَاشْتَرَى لِي دَوَابَّ وَمَا يُصْلِحُنِي، فَدَلَّ عَلَيَّ عَبْدٌ لَهُ الْعَامِلَ، فَأَقْبَلَ فِي خَيْلِهِ يَطْلُبُنِي، فَخَرَجْنَا عَلَى أَرْجُلِنَا هُرَّابًا وَالْخَيْلُ تُبْصِرُنَا، فَدَخَلْنَا فِي بَسَاتِينَ عَلَى الْفُرَاتِ، فَسَبَقْنَا الْخَيْلَ إِلَى الْفُرَاتِ فَسَبَحْنَا.
فَأَمَّا أَنَا فَنَجَوْتُ، وَالْخَيْلُ يُنَادُونَنَا بِالْأَمَانِ وَلَا أَرْجِعُ. وَأَمَّا أَخِي فَإِنَّهُ عَجَزَ عَنِ السِّبَاحَةِ فِي نِصْفِ الْفُرَاتِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاحْتَمَلْتُ فِيهِ ثَكَلًا، وَمَضَيْتُ لِوَجْهِي، فَتَوَارَيْتُ فِي غَيْضَةٍ أَشِبَةٍ، حَتَّى انْقَطَعَ الطَّلَبُ عَنِّي، وَخَرَجْتُ فَقَصَدْتُ الْمَغْرِبَ فَبَلَغْتُ إِفْرِيقِيَّةَ.
ثُمَّ إِنَّ أُخْتَهُ أُمَّ الْأَصْبَغِ أَلْحَقَتْهُ بَدْرًا مَوْلَاهُ، وَمَعَهُ نَفَقَةٌ لَهُ وَجَوْهَرٌ، فَلَمَّا بَلَغَ إِفْرِيقِيَّةَ لَجَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، قِيلَ هُوَ وَالِدُ يُوسُفَ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَامِلُ إِفْرِيقِيَّةَ فِي طَلَبِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَتَى مِكْنَاسَةَ، وَهُمْ قَبِيلٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَلَقِيَ عِنْدَهُمْ شِدَّةً يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ هَرَبَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى نِفْزَاوَةَ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ، وَبَدْرٌ مَعَهُ.

(5/77)


وَقِيلَ: أَتَى قَوْمًا مِنَ الزَّنَاتِيِّينَ، فَأَحْسَنُوا قَبُولَهُ وَاطْمَأَنَّ فِيهِمْ، وَأَخَذَ فِي تَدْبِيرِ الْمُكَاتَبَةِ إِلَى الْأُمَوِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ يُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، وَوَجَّهَ بَدْرًا مَوْلَاهُ إِلَيْهِمْ، وَأَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ حِينَئِذٍ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ.
فَسَارَ بَدْرٌ إِلَيْهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ حَالَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَوَجَّهُوا لَهُ مَرْكَبًا فِيهِ ثُمَامَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَوَهْبُ بْنُ الْأَصْفَرِ، وَشَاكِرُ بْنُ أَبِي الْأَشْمَطِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ وَأَبْلَغُوهُ طَاعَتَهُمْ لَهُ، وَأَخَذُوهُ وَرَجَعُوا إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَرْسَى فِي الْمُنَكَّبِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَأَتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ إِشْبِيلِيَّةَ، وَكَانَتْ أَيْضًا نُفُوسُ أَهْلِ الْيَمَنِ حَنِقَةً عَلَى الصُّمَيْلِ وَيُوسُفَ الْفِهْرِيِّ، فَأَتَوْهُ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى كُورَةِ رَيَّةَ فَبَايَعَهُ عَامِلُهَا عِيسَى بْنُ مُسَاوِرٍ. ثُمَّ أَتَى شَذُونَةَ فَبَايَعَهُ غِيَاثُ بْنُ عَلْقَمَةَ اللَّخْمِيُّ. ثُمَّ أَتَى مُوَرْوِرَ فَبَايَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَجَرَةَ عَامِلُهَا. ثُمَّ أَتَى إِشْبِيلِيَّةَ فَبَايَعَهُ أَبُو الصُّبَاحِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَنَهَدَ إِلَى قُرْطُبَةَ.
فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى يُوسُفَ وَكَانَ غَائِبًا عَنْ قُرْطُبَةَ بِنَوَاحِي طُلَيْطُلَةَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَحْوَ قُرْطُبَةَ.
فَلَمَّا أَتَى قُرْطُبَةَ تَرَاسَلَ هُوَ وَيُوسُفُ فِي الصُّلْحِ، فَخَادَعَهُ نَحْوَ يَوْمَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ يُوسُفَ أَنَّ الصُّلْحَ قَدْ أُبْرِمَ، وَأَقْبَلَ عَلَى إِعْدَادِ الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ النَّاسُ عَلَى السِّمَاطِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُرَتِّبٌ خَيْلَهُ وَرَجِلَهُ، وَعَبَرَ النَّهْرَ فِي أَصْحَابِهِ لَيْلًا، وَنَشِبَ الْقِتَالُ لَيْلَةَ الْأَضْحَى، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ إِلَى أَنِ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، وَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى بَغْلٍ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَهْرُبُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَذَلِكَ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ، وَأَسْرَعَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِ يُوسُفَ وَانْهَزَمَ، وَبَقِيَ الصُّمَيْلُ يُقَاتِلُ مَعَ عِصَابَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَظَفِرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلَمَّا انْهَزَمَ يُوسُفُ (أَتَى مَارِدَةَ، وَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ قُرْطُبَةَ فَأَخْرَجَ حَشَمَ يُوسُفَ) مِنَ الْقَصْرِ عَلَى عَوْدَةٍ وَدَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ يُوسُفُ خَالَفَهُ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا وَمَلَكَ قَصْرَهَا، فَأَخَذَ جَمِيعَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَلَحِقَ بِمَدِينَةِ إِلْبِيرَةَ، وَكَانَ الصُّمَيْلُ لَحِقَ بِمَدِينَةِ شَوْذَرَ.
وَوَرَدَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْخَبَرُ فَرَجَعَ إِلَى قُرْطُبَةَ طَمَعًا فِي لَحَاقِهِ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ عَزَمَ عَلَى النُّهُوضِ إِلَيْهِ، (فَسَارَ إِلَى إِلْبِيرَةَ، وَكَانَ الصُّمَيْلُ قَدْ لَحِقَ بِيُوسُفَ وَتَجَمَّعَ لَهُمَا هُنَاكَ جَمْعٌ) ، فَتَرَاسَلُوا فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ يُوسُفُ بِأَمَانٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَنْ

(5/78)


يَسْكُنَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِقُرْطُبَةَ، وَرَهَنَهُ يُوسُفُ ابْنَيْهِ: أَبَا الْأَسْوَدِ مُحَمَّدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ.
وَسَارَ يُوسُفُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا دَخَلَ قُرْطُبَةَ تَمَثَّلَ:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ.
وَاسْتَقَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِقُرْطُبَةَ، وَبَنَى الْقَصْرَ وَالْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَأَنْفَقَ فِيهِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَبَنَى مَسَاجِدَ الْجَمَاعَاتِ، وَوَافَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَانَ يَدْعُو لِلْمَنْصُورِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ دُخُولَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي ذِكْرِ دُخُولِهِ الْأَنْدَلُسَ لِئَلَّا نَخْرُجَ عَنِ الَّذِي قَصَدْنَا لَهُ مِنْ الِاخْتِصَارِ.

ذِكْرُ حَبْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ
وَلَمَّا عُزِلَ سُلَيْمَانُ عَنِ الْبَصْرَةِ اخْتَفَى أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ خَوْفًا مِنَ الْمَنْصُورِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ فَأَرْسَلَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَعِيسَى ابْنَيْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي إِشْخَاصِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَعْطَاهُمَا الْأَمَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْعَلَا.
فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَعِيسَى بِعَبْدِ اللَّهِ وَقُوَّادِهِ وَمَوَالِيهِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى الْمَنْصُورِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ أَذِنَ لِسُلَيْمَانَ وَعِيسَى فَدَخَلَا عَلَيْهِ، وَأَعْلَمَاهُ حُضُورَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَاهُ الْإِذْنَ لَهُ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ وَشَغَلَهُمَا بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ قَدْ هَيَّأَ لِعَبْدِ اللَّهِ مَكَانًا فِي قَصْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ بَعْدَ دُخُولِ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ.
ثُمَّ نَهَضَ الْمَنْصُورُ، وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ وَعِيسَى: خُذَا عَبْدَ اللَّهِ مَعَكُمَا. فَلَمَّا خَرَجَا لَمْ يَجِدَا عَبْدَ اللَّهِ، فَعَلِمَا أَنَّهُ قَدْ حُبِسَ، فَرَجَعَا إِلَى الْمَنْصُورِ فَمُنِعَا عَنْهُ وَأُخِذَتْ عِنْدَ ذَلِكَ سُيُوفُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحُبِسُوا.
وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ مَنْصُورٍ حَذَّرَهُمْ ذَلِكَ، وَنَدِمَ عَلَى مَجِيئِهِ مَعَهُمْ، وَقَالَ: إِنْ أَطَعْتُمُونِي شَدَدْنَا شَدَّةً وَاحِدَةً عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَوَاللَّهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَنَا حَائِلٌ حَتَّى نَأْتِيَ عَلَيْهِ! وَلَا يَعْرِضُ لَنَا أَحَدٌ إِلَّا قَتَلْنَاهُ وَنَنْجُو بِأَنْفُسِنَا! فَعَصَوْهُ.
فَلَمَّا أُخِذَتْ سُيُوفُهُمْ وَحُبِسُوا جَعَلَ خُفَافُ يَضْرِطُ فِي لِحْيَةِ نَفْسِهِ، وَيَتْفُلُ فِي وُجُوهِ

(5/79)


أَصْحَابِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بِحَضْرَتِهِ، وَبَعَثَ الْبَاقِينَ إِلَى أَبِي دَاوُدَ خَالِدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِخُرَاسَانَ فَقَتَلَهُمْ بِهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
عُزِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ إِمَارَةِ الْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي رَمَضَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا: سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ: أَبُو دَاوُدَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسِ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ.
وَفِيهَا مَاتَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ،

(5/80)


وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.

(5/81)