الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ]
169 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ مَوْتِ الْمَهْدِيِّ
فِي هَذِهِ [السَّنَةِ] مَاتَ الْمَهْدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِ بِمَاسَبَذَانَ، وَسَبَبُ
خُرُوجِهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ ابْنِهِ مُوسَى
الْهَادِي وَالْبَيْعَةِ لِلرَّشِيدِ. (بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ
وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْهَادِي) ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، وَهُوَ
بِجُرْجَانَ، فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَفْعَلْ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ الرَّسُولَ،
وَامْتَنَعَ مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَسَارَ الْمَهْدِيُّ
يُرِيدُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مَاسَبَذَانَ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ
إِنِّي دَاخِلٌ إِلَى الْبَهْوِ أَنَامُ، فَلَا تُوقِظُونِي، حَتَّى
أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَنْتَبِهُ، فَدَخَلَهُ، فَنَامَ وَنَامَ
أَصْحَابُهُ، فَاسْتَيْقَظُوا بِبُكَائِهِ، فَأَتَوْهُ مُسْرِعِينَ،
فَقَالَ: وَقَفَ عَلَى الْبَابِ رَجُلٌ فَقَالَ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ
رَبْعُهُ وَمَنَازِلُهُ وَصَارَ عَمِيدُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ
بَهْجَةٍ وَمُلْكٍ إِلَى قَبْرٍ عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ فَلَمْ يَبْقَ
إِلَّا ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ تُنَادِي عَلَيْهِ مُعْوِلَاتٍ
حَلَائِلُهْ فَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ مَوْتِهِ فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ
يَتَصَيَّدُ، فَطَرَدَتِ الْكِلَابُ ظَبْيًا، وَتَبِعَتْهُ، فَدَخَلَ
بَابَ خَرِبَةً، وَدَخَلَتِ الْكِلَابُ خَلْفَهُ، ثُمَّ تَبِعَهَا
فَرَسُ الْمَهْدِيِّ، فَدَخَلَهَا فَدَقَّ الْبَابُ
(5/253)
ظَهْرَهُ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ.
وَقِيلَ: بَلْ بَعَثَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ إِلَى ضَرَّةٍ لَهَا
بِلِبَإٍ فِيهِ سُمٌّ، فَدَعَا بِهِ الْمَهْدِيُّ فَأَكَلَ مِنْهُ،
فَخَافَتِ الْجَارِيَةُ أَنْ تَقُولَ إِنَّهُ مَسْمُومٌ، فَمَاتَ مِنْ
سَاعَتِهِ.
وَقِيلَ: بَلْ عَمَدَتْ حَسَنَةُ - جَارِيَةٌ لَهُ - إِلَى كُمَّثْرَى،
(فَأَهْدَتْهُ إِلَى جَارِيَةٍ أُخْرَى كَانَ الْمَهْدِيُّ
يَتَحَظَّاهَا، وَسَمَّتْ مِنْهُ كُمَّثْرَاةً) هِيَ أَحْسَنُ
الْكُمَّثْرَى، فَاجْتَازَ بِالْمَهْدِيِّ، فَدَعَا بِهِ وَكَانَ
يُحِبُّ الْكُمَّثْرَى، فَأَخَذَ تِلْكَ الْكُمَّثْرَاةَ
الْمَسْمُومَةَ فَأَكَلَهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى جَوْفِهِ صَاحَ:
جَوْفِي جَوْفِي! فَسَمِعَتْ صَوْتَهُ فَجَاءَتْ تَلْطِمُ وَجْهَهَا
وَتَبْكِي وَتَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَنْفَرِدَ بِكَ، فَقَتَلْتُكَ!
فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَرَجَعَتْ حَسَنَةُ وَعَلَى قُبَّتِهَا
الْمُسُوحُ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي ذَلِكَ:
رُحْنَ فِي الْوَشْيِ وَأَقْبَلْنَ ... عَلَيْهِنَّ الْمُسُوحُ كُلُّ
نَطَّاحٍ
مِنَ الدُّنْ يَا لَهُ يَوْمٌ نَطُوحُ ... لَسْتَ بِالْبَاقِي وَلَوْ
عَمَّرْتَ مَا عَمَّرَ نُوحُ
فَعَلَى نَفْسِكَ نُحْ إِنْ كُنْتَ لَابُدَّ تَنُوحُ
وَكَانَ مَوْتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ،
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَشَهْرًا، وَقِيلَ: عَشْرَ
سِنِينَ وَتِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ تَحْتَ جَوْزَةٍ كَانَ
يَجْلِسُ تَحْتَهَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ
أَبْيَضَ طَوِيلًا، وَقِيلَ أَسْمَرَ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ نُكْتَةُ
بَيَاضٍ.
ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ
كَانَ الْمَهْدِيُّ، إِذَا جَلَسَ لِلْمَظَالِمِ، قَالَ: أَدْخِلُوا
عَلَيَّ الْقُضَاةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَدِّي الْمَظَالِمَ إِلَّا
لِلْحَيَاءِ مِنْهُمْ [لَكَفَى] .
(5/254)
وَعَتَبَ الْمَهْدِيُّ عَلَى بَعْضِ
الْقُوَّادِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَقَالَ لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: إِلَى
مَتَى تُذْنِبُ [إِلَيَّ وَأَعْفُو] ؟ قَالَ: إِلَى أَبَدٍ نُسِيءُ،
وَيُبْقِيكَ اللَّهُ فَتَعْفُوَ عَنَّا، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ وَرَضِيَ
عَنْهُ.
وَقَالَ مِسْوَرُ بْنُ مُسَاوِرٍ: ظَلَمَنِي وَكِيلُ الْمَهْدِيِّ،
وَغَصَبَنِي ضَيْعَةً لِي، فَكَتَبْتُ إِلَى الْمَهْدِيِّ أَتَظَلَّمُ،
فَوَصَلْتُ الرُّقْعَةَ وَعِنْدَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عُلَاثَةَ، وَعَافِيَةُ الْقَاضِي، فَاسْتَدْنَانِي الْمَهْدِيُّ،
وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي، فَذَكَرْتُهُ، فَقَالَ: أَتَرْضَى بِأَحَدِ
هَذَيْنِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! فَاسْتَدْنَانِي حَتَّى الْتَزَقْتُ
بِالْفِرَاشِ، وَحَاكَمَنِي، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَطْلِقْهَا لَهُ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ عَمُّهُ
الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ لَهَذَا الْمَجْلِسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
عِشْرِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَخَرَجَ الْمَهْدِيُّ مُتَنَزِّهًا، وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ رَبِيعٍ
مَوْلَاهُ، فَانْقَطَعَا فِي الصَّيْدِ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَأَصَابَ
الْمَهْدِيَّ جُوعٌ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَرَى
كُوخًا، فَقَصَدُوهُ، فَإِذَا فِيهِ نَبَطِيٌّ، وَعِنْدَهُ مَبْقَلَةٌ،
فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقَالُوا: هَلْ مِنْ
طَعَامٍ؟ فَقَالَ: عِنْدِي رُبَيْثَاءُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ
الصَّحْنَاةِ، وَعِنْدِي خُبْزُ شَعِيرٍ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: (إِنْ
كَانَ عِنْدَكَ زَيْتٌ، فَقَدْ أَكْمَلْتَ. قَالَ: نَعَمْ، وَكُرَّاثٌ،
فَأَتَاهُمَا بِذَلِكَ، فَأَكَلَا حَتَّى شَبِعَا. فَقَالَ
الْمَهْدِيُّ) لِعُمَرَ بْنِ رَبِيعٍ: قُلْ فِي هَذَا شِعْرًا،
فَقَالَ:
إِنَّ مَنْ يُطْعِمُ الرُّبَيْثَاءَ بِالزَّيْتِ ... وَخُبْزِ
الشَّعِيرِ بِالْكُرَّاثِ
لَحَقِيقٌ بِصَفْعَةٍ أَوْ بِثِنْتَيْنِ ... لِسُوءِ الصَّنِيعِ أَوْ
بِثَلَاثِ
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: بِئْسَ مَا قُلْتَ! إِنَّمَا هُوَ:
لَحَقِيقٌ بِبَدْرَةٍ أَوْ بِثِنْتَيْنِ ... لِحُسْنِ الصَّنِيعِ أَوْ
بِثَلَاثِ
قَالَ: وَوَافَاهُمُ الْعَسْكَرُ، وَالْخَزَائِنُ، وَالْخَدَمُ،
فَأَمَرَ لِلنَّبَطِيِّ بِثَلَاثِ بِدَرٍ وَانْصَرَفَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْوَصِيفُ: أَصَابَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَيَّامَ
الْمَهْدِيِّ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَسُوقُنَا إِلَى
(5/255)
الْمَحْشَرِ، فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ
الْمَهْدِيَّ، فَوَجَدْتُهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ احْفَظْ مُحَمَّدًا فِي أُمَّتِهِ! اللَّهُمَّ لَا
تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءَنَا مِنَ الْأُمَمِ! اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ
أَخَذْتَ هَذَا الْعَالَمَ بِذَنْبِي، فَهَذِهِ نَاصِيَتِي بَيْنَ
يَدَيْكَ. قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى انْكَشَفَتِ
الرِّيحُ. (وَزَالَ عَنَّا) مَا كُنَّا فِيهِ.
وَلَمَّا حَضَرَتِ الْقَاسِمَ بْنَ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيَّ
الْمَرْوَزِيَّ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى الْمَهْدِيِّ فَكَتَبَ:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] الْآيَةَ، ثُمَّ كَتَبَ:
وَالْقَاسِمُ يَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَيَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَصِيُّ رَسُولِ
اللَّهِ، وَوَارِثُ الْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَعُرِضَتِ
الْوَصِيَّةُ عَلَى الْمَهْدِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ
إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ رَمَى بِهَا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهَا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: رَأَيْتُ الْمَهْدِيَّ يُصَلِّي فِي بَهْوٍ لَهُ
فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَمَا أَدْرِي أَهُوَ أَحْسَنُ أَمِ
الْبَهْوُ أَمِ الْقَمَرُ أَمْ ثِيَابُهُ، فَقَرَأَ: {فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] .
قَالَ: فَتَمَّمَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ وَقَالَ: يَا رَبِيعُ!
قُلْتُ: لَبَّيْكَ! قَالَ: [عَلَيَّ] بِمُوسَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي:
مَنْ مُوسَى؟ ابْنُهُ أَمْ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ مَحْبُوسًا
عِنْدِي؟ فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ، فَقُلْتُ: مَا هُوَ إِلَّا مُوسَى بْنُ
جَعْفَرٍ، فَأَحْضَرْتُهُ، فَقَطَعَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا
مُوسَى! إِنِّي قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَخِفْتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ
قَطَعْتُ رَحِمَكَ، فَوَثِّقْ لِي أَنَّكَ لَا تَخْرُجُ [عَلَيَّ] .
قَالَ: نَعَمْ، فَوَثَّقَ لَهُ فَخَلَّاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: رَأَيْتُ
فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فِي آخِرِ سُلْطَانِ بَنِي أُمَيَّةَ،
كَأَنِّي دَخَلْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَنَظَرْتُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي
فِي الْمَسْجِدِ بِالْفُسَيْفِسَاءِ، فَإِذَا فِيهِ: مِمَّا أَمَرَ
بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: يَمْحُو هَذَا الْكِتَابَ وَيَكْتُبُ اسْمَهُ
رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
(5/256)
يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، قُلْتُ: فَأَنَا
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَاسْمِي مُحَمَّدٌ فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ
عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَابْنُ
مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ،
فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَلِيٍّ، قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ عَلِيٍّ،
فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قُلْتُ: فَأَنَا ابْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، فَابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَوْ لَمْ
يَبْلُغِ الْعَبَّاسَ مَا شَكَكْتُ أَنِّي صَاحِبُ الْأَمْرِ.
قَالَ: فَتَحَدَّثْتُ بِهَا ذَلِكَ الزَّمَانَ، وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ
الْمَهْدِيَّ، حَتَّى وَلِيَ الْمَهْدِيُّ، فَدَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعَ رَأْسَهُ،
فَرَأَى اسْمَ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: أَرَى اسْمَ الْوَلِيدِ إِلَى
الْيَوْمِ، فَدَعَا بِكُرْسِيٍّ، فَأُلْقِيَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ،
وَقَالَ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى يُمْحَى وَيُكْتَبَ اسْمِي
مَكَانَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ جَالِسٌ.
وَخَرَجَ الْمَهْدِيُّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لَيْلًا، فَسَمِعَ
أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ: قَوْمِي مُقْتِرُونَ، نَبَتْ عَنْهُمُ
الْعُيُونُ، وَفَدَحَتْهُمُ الدُّيُونُ، وَعَضَّتْهُمُ السُّنُونُ،
بَادَتْ رِجَالُهُمْ، وَذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَكَثُرَتْ
عِيَالُهُمْ، أَبْنَاءُ سَبِيلٍ، وَأَنْضَاءُ طَرِيقٍ، وَصِيَّةُ
اللَّهِ، وَوَصِيَّةُ الرَّسُولِ، فَهَلْ مِنْ آمِرٍ لِي بِخَيْرٍ،
كَلَأَهُ اللَّهُ فِي سَفَرِهِ، وَخَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ! قَالَ:
فَأَمَرَ لَهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا تَوَسَّلَ أَحَدٌ إِلَيَّ بِوَسِيلَةٍ هِيَ
أَقْرَبُ مِنْ تَذْكِيرِي يَدًا سَلَفَتْ مِنِّي إِلَيْهِ أُتْبِعُهَا
أُخْتَهَا، وَأُحْسِنُ رَبَّهَا، فَإِنَّ مَنْعَ الْأَوَاخِرِ يَقْطَعُ
شُكْرَ الْأَوَائِلِ.
وَكَانَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ قَدْ هَجَا صَالِحَ بْنَ دَاوُدَ، أَخَا
يَعْقُوبَ، حِينَ وَلِيَ، فَقَالَ:
هُمْ حَمَلُوا فَوْقَ الْمَنَابِرِ صَالِحًا ... أَخَاكَ فَضَجَّتْ
مِنْ أَخِيكَ الْمَنَابِرُ
فَبَلَغَ يَعْقُوبَ هِجَاؤُهُ، فَدَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ فَقَالَ
لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَعْمَى الْمُشْرِكَ قَدْ هَجَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: يُعْفِينِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِنْشَادِهِ. فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ،
فَأَنْشَدَهُ:
خَلِيفَةٌ يَزْنِي بِعَمَّاتِهِ ... يَلْعَبُ بِالدَّبُّوقِ
وَالصَّوْلَجَانِ
أَبْدَلَنَا اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ ... وَدَسَّ مُوسَى فِي حِرِّ
الْخَيْزُرَانِ.
فَوَجَّهَ فِي حَمْلِهِ، فَخَافَ يَعْقُوبُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى
الْمَهْدِيِّ فَيَمْدَحَهُ فَيَعْفُوَ عَنْهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَنْ
يُلْقِيهِ فِي الْبَطِيحَةِ فِي الْخَرَّارَةِ.
وَمَاتَتِ الْيَاقُوتَةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا
لَا يُطِيقُ الصَّبْرَ عَنْهَا، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ
(5/257)
يُلْبِسُهَا لُبْسَةَ الْغِلْمَانِ،
وَيُرْكِبُهَا مَعَهُ، فَلَمَّا مَاتَتْ وَجَدَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ
أَنْ لَا يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ، فَدَخَلَ النَّاسُ يُعَزُّونَهُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا تَعْزِيَةً أَبْلَغَ
وَلَا أَوْجَزَ مِنْ تَعْزِيَةِ شَبِيبِ بْنِ شَيْبَةَ، فَإِنَّهُ
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهَا
مِنْكَ، وَثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْهَا، وَأَنَا أَسْأَلُ
اللَّهَ أَنْ لَا يُحْزِنَكَ، وَلَا يَفْتِنَكَ، وَأَنْ يُعْطِيَكَ
عَلَى مَا رُزِئْتَ أَجْرًا، وَيُعْقِبَكَ صَبْرًا، وَلَا يَجْهَدُ
لَكَ بَلَاءٌ، وَلَا يَنْزِعُ مِنْكَ نِعْمَةً، وَأَحَقُّ مَا صُبِرَ
عَلَيْهِ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهِ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْهَادِي
وَبُويِعَ لِابْنِهِ مُوسَى الْهَادِي فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ الْمَهْدِيُّ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِجُرْجَانَ، يُحَارِبُ أَهْلَ
طَبَرِسْتَانَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمَهْدِيُّ كَانَ الرَّشِيدُ
مَعَهُ بِمَاسَبَذَانَ، فَأَتَاهُ الْمَوَالِي وَالْقُوَّادُ،
وَقَالُوا لَهُ: إِنْ عَلِمَ الْجُنْدُ بِوَفَاةِ الْمَهْدِيِّ لَمْ
تَأْمَنِ الشَّغَبَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُنَادِيَ فِيهِمْ بِالرُّجُوعِ،
حَتَّى تُوَارِيَهُ بِبَغْدَاذَ.
فَقَالَ هَارُونُ: ادْعُو إِلَيَّ أَبِي يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ، وَكَانَ
يَحْيَى يَتَوَلَّى مَا كَانَ إِلَى الرَّشِيدِ مِنْ أَعْمَالِ
الْمَغْرِبِ، مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَاسْتُدْعِيَ
يَحْيَى إِلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَا رَأَى
هَؤُلَاءِ؟ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، لِأَنَّ
هَذَا لَا يَخْفَى، وَلَا آمَنُ إِذَا عَلِمَ الْجُنْدُ، أَنْ
يَتَعَلَّقُوا بِمَحْمَلِهِ، وَيَقُولُوا: لَا نُخَلِّي حَتَّى نُعْطَى
لِثَلَاثِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ، وَيَتَحَكَّمُوا وَيَشْتَطُّوا
وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ يُوَارَى، رَحِمَهُ اللَّهُ، هَاهُنَا
وَتُوَجِّهَ نُصَيْرًا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي
بِالْخَاتَمِ وَالْقَضِيبِ، وَالتَّعْزِيَةِ، وَالتَّهْنِئَةِ، فَإِنَّ
النَّاسَ لَا يُنْكِرُونَ خُرُوجَهُ، إِذْ هُوَ عَلَى بَرِيدِ
النَّاحِيَةِ، وَأَنْ تَأْمُرَ لِمَنْ تَبِعَكَ مِنَ الْجُنْدِ
بِجَوَائِزَ مِائَتَيْنِ، وَتُنَادِيَ فِيهِمْ بِالرُّجُوعِ فَلَا
تَكُونُ لَهُمْ هِمَّةٌ سِوَى أَهْلِهِمْ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَبَضَ الْجُنْدُ الدَّرَاهِمَ تَنَادَوْا:
بَغْدَاذَ بَغْدَاذَ! وَأَسْرَعُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغُوهَا
وَعَلِمُوا خَبَرَ الْمَهْدِيِّ أَتَوْا بَابَ الرَّبِيعِ،
وَأَحْرَقُوهُ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ فِي الْحُبُوسِ، وَطَالَبُوا
بِالْأَرْزَاقِ.
فَلَمَّا قَدِمَ الرَّشِيدُ بَغْدَاذَ أَرْسَلَتِ الْخَيْزُرَانُ إِلَى
رَبِيعٍ وَإِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ تَسْتَدْعِيهِمَا
لِتُشَاوِرَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا الرَّبِيعُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا،
وَأَمَّا يَحْيَى فَامْتَنَعَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ غَيْرَةِ
(5/258)
الْهَادِي، وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ حَتَّى
أَعْطَى الْجُنْدَ لِسَنَتَيْنِ فَسَكَتُوا.
وَكَتَبَ الْهَادِي إِلَى الرَّبِيعِ كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ
بِالْقَتْلِ، وَكَتَبَ إِلَى يَحْيَى يَشْكُرُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ
يَقُومَ بِأَمْرِ الرَّشِيدِ.
وَكَانَ الرَّبِيعُ يَوَدُّ يَحْيَى وَيَثِقُ بِهِ. فَاسْتَشَارَهُ
فِيمَا يَفْعَلُ خَوْفًا مِنَ الْهَادِي فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ
يُرْسِلَ وَلَدَهُ الْفَضْلَ إِلَى طَرِيقِ الْهَادِي بِالْهَدَايَا
وَالتُّحَفِ، وَيَعْتَذِرَ، فَفَعَلَ، وَرَضِيَ الْهَادِي عَنْهُ.
وَكَانَ الرَّبِيعُ قَدْ أَوْصَى إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ.
وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِلْهَادِي بِبَغْدَاذَ وَكَتَبَ الرَّشِيدُ
إِلَى الْآفَاقِ بِوَفَاةِ الْمَهْدِيِّ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ
لِلْهَادِي، وَسَارَ نُصَيْرٌ الْوَصِيفُ إِلَى الْهَادِي بِجُرْجَانَ،
فَعَلِمَ بِوَفَاةِ الْمَهْدِيِّ وَالْبَيْعَةِ لَهُ، فَنَادَى
بِالرَّحِيلِ وَرَكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ مُجِدًّا، فَبَلَغَ فِي
عِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا قَدِمَهَا اسْتَوْزَرَ الرَّبِيعَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا هَلَكَ الرَّبِيعُ.
وَفِيهَا اشْتَدَّ طَلَبُ الْمَهْدِيِّ لِلزَّنَادِقَةِ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ جَمَاعَةَ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينَ، وَقَتَلَ أَيْضًا
يَعْقُوبَ بْنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ،
فَأَقَرَّ بِالزَّنْدَقَةِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا
لَكُنْتَ حَقِيقًا أَنْ تَتَعَصَّبَ لِمُحَمَّدٍ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ
[مَنْ] كُنْتَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي جَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي
أَنْ لَا أَقْتُلَ هَاشِمِيًّا لَقَتَلْتُكَ.
ثُمَّ قَالَ لِلْهَادِي: أَقْسَمْتُ إِنْ وَلِيتَ هَذَا الْأَمْرَ
لَتَقْتُلَنَّهُ! ثُمَّ حَبَسَهُ، فَلَمَّا مَاتَ الْمَهْدِيُّ
قَتَلَهُ الْهَادِي، وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ
بِقَتْلِ وَلَدٍ لِدَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ كَانَ زِنْدِيقًا، فَمَاتَ فِي الْحَبْسِ قَبْلَ
الْمَهْدِيِّ.
وَلَمَّا قُتِلَ يَعْقُوبُ أُدْخِلَ أَوْلَادُهُ عَلَى الْهَادِي،
فَأَقَرَّتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ أَنَّهَا حُبْلَى مِنْ أَبِيهَا،
(5/259)
فَخُوِّفَتْ، فَمَاتَتْ مِنَ الْفَزَعِ.
ذِكْرُ ظُهُورِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْمَقْتُولُ بِفَخٍّ عِنْدَ مَكَّةَ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْهَادِيَ اسْتَعْمَلَ عَلَى
الْمَدِينَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا وَلِيَهَا أَخَذَ أَبَا الزِّفْتِ
الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ،
وَمُسْلِمَ بْنَ جُنْدُبٍ، الشَّاعِرَ الْهُذَلِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ
سَلَّامٍ، مَوْلَى آلِ عُمَرَ، عَلَى شَرَابٍ لَهُمْ فَأَمَرَ بِهِمْ،
فَضُرِبُوا جَمِيعًا، وَجُعِلَ فِي أَعْنَاقِهِمْ حِبَالٌ، وَطِيفَ
بِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ.
فَجَاءَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى الْعُمَرِيِّ وَقَالَ لَهُ:
قَدْ ضَرَبْتَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ أَنْ تَضْرِبَهُمْ لِأَنَّ
أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، فَلِمَ تُطَوِّفُ
بِهِمْ؟ فَأَمَرَ بِهِمْ فَرُدُّوا، وَحَبَسَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَيَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَسَنِ، كَفَلَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَأَخْرَجَهُ
الْعُمَرِيُّ مِنَ الْحَبْسِ، وَكَانَ قَدْ ضَمِنَ بَعْضُ آلِ أَبِي
طَالِبٍ بَعْضًا، وَكَانُوا يُعْرَضُونَ، فَغَابَ الْحَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ عَنِ الْعَرْضِ يَوْمَيْنِ، فَأَحْضَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ
عَلِيٍّ وَيَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَأَلَهُمَا عَنْهُ،
وَأَغْلَظَ لَهُمَا، فَحَلَفَ لَهُ يَحْيَى أَنَّهُ لَا يَنَامُ حَتَّى
يَأْتِيَهُ بِهِ، أَوْ يَدُقَّ عَلَيْهِ بَابَ دَارِهِ حَتَّى يَعْلَمَ
أَنَّهُ جَاءَهُ بِهِ.
فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا
دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ وَمِنْ أَيْنَ تَجِدُ حَسَنًا؟ حَلَفْتَ لَهُ
بِشَيْءٍ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا نِمْتُ حَتَّى
أَضْرِبَ عَلَيْهِ بَابَ دَارِهِ بِالسَّيْفِ. فَقَالَ لَهُ
الْحُسَيْنُ: إِنَّ هَذَا يَنْقُضُ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
أَصْحَابِنَا مِنَ الْمِيعَادِ.
وَكَانُوا قَدْ تَوَاعَدُوا عَلَى أَنْ يَظْهَرُوا بِمِنًى وَبِمَكَّةَ
فِي الْمَوْسِمِ، فَقَالَ يَحْيَى: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَا
وَعَمِلَا فِي ذَلِكَ مِنْ لَيْلَتِهِمْ، وَخَرَجُوا آخِرَ اللَّيْلِ،
وَجَاءَ يَحْيَى حَتَّى ضَرَبَ عَلَى الْعُمَرِيِّ بَابَ دَارِهِ،
فَلَمْ يَجِدْهُ، وَجَاءُوا فَاقْتَحَمُوا الْمَسْجِدَ وَقْتَ
الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى الْحُسَيْنُ الصُّبْحَ أَتَاهُ النَّاسُ،
فَبَايَعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ لِلْمُرْتَضَى
مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَجَاءَ خَالِدٌ الْبَرِيدِيُّ فِي مِائَتَيْنِ
مِنَ الْجُنْدِ، وَجَاءَ الْعُمَرِيُّ، وَوَزِيرُ بْنُ إِسْحَاقَ
الْأَزْرَقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاقِدٍ الشَّرَوِيُّ، وَمَعَهُ نَاسٌ
كَثِيرٌ، فَدَنَا خَالِدٌ مِنْهُمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ يَحْيَى
(5/260)
وَإِدْرِيسُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَسَنِ، فَضَرَبَهُ يَحْيَى عَلَى أَنْفِهِ فَقَطَعَهُ، وَدَارَ
لَهُ إِدْرِيسُ مِنْ خَلْفِهِ، فَضَرَبَهُ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ
قَتَلَاهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ الْعُمَرِيُّ فِي
الْمُسَوِّدَةِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ،
فَهَزَمُوهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَانْتَهَبُوا بَيْتَ الْمَالِ،
وَكَانَ فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ سَبْعُونَ
أَلْفًا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَأَغْلَقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
أَبْوَابَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ شِيعَةُ بَنِي
الْعَبَّاسِ فَقَاتَلُوهُمْ، وَفَشَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي
الْفَرِيقَيْنِ، وَاقْتَتَلُوا إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا،
ثُمَّ إِنَّ مُبَارَكًا التُّرْكِيَّ أَتَى شِيعَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ
مِنَ الْغَدِ، وَكَانَ قَدِمَ حَاجًّا، فَقَاتَلَ مَعَهُمْ،
فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ إِلَى مُنْتَصَفِ النَّهَارِ.
ثُمَّ تَفَرَّقُوا، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ إِلَى الْمَسْجِدِ،
وَوَاعَدَ مُبَارَكٌ النَّاسَ الرَّوَاحَ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا
غَفَلُوا عَنْهُ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَانْطَلَقَ، وَرَاحَ النَّاسُ
فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَاتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ إِلَى
الْمَغْرِبِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
وَقِيلَ إِنَّ مُبَارَكًا أَرْسَلَ إِلَى الْحُسَيْنِ يَقُولُ لَهُ:
وَاللَّهِ لَأَنْ أَسْقُطَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُنِي الطَّيْرُ
أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ تَشُوكَكَ شَوْكَةٌ، أَوْ أَقْطَعَ مِنْ
رَأْسِكَ شَعْرَةً، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْإِعْذَارِ،
فَتَبَيَّتْنِي، فَإِنِّي مُنْهَزِمٌ عَنْكَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ
الْحَسَنَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي نَفَرٍ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ
عَسْكَرِهِ صَاحُوا وَكَبَّرُوا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
وَأَقَامَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ،
فَكَانَ مُقَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ
خَرَجُوا لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمَّا خَرَجُوا
عَادَ النَّاسُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدُوا فِيهِ الْعِظَامَ
الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَ، (وَآثَارَهُمْ فَدَعَوْا) عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا فَارَقَ الْمَدِينَةَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ! لَا
خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِخَيْرٍ. فَقَالُوا: بَلْ أَنْتَ لَا
خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا رَدَّكَ عَلَيْنَا! وَكَانَ أَصْحَابُهُ
يُحْدِثُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَغَسَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَلَمَّا أَتَى الْحُسَيْنُ مَكَّةَ أَمَرَ فَنُودِيَ: أَيُّمَا عَبْدٍ
أَتَانَا فَهُوَ حُرٌّ. فَأَتَاهُ الْعَبِيدُ. فَانْتَهَى الْخَبَرُ
إِلَى الْهَادِي، وَكَانَ قَدْ حَجَّ تِلْكَ السَّنَةَ رِجَالٌ مِنْ
أَهْلِ بَيْتِهِ، مِنْهُمْ: سُلَيْمَانُ بْنُ الْمَنْصُورِ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَا عِيسَى بْنِ
مُوسَى، فَكَتَبَ الْهَادِي إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
بِتَوْلِيَتِهِ عَلَى الْحَرْبِ، وَكَانَ قَدْ
(5/261)
سَارَ بِجَمَاعَةٍ وَسِلَاحٍ مِنَ
الْبَصْرَةِ لِخَوْفِ الطَّرِيقِ، فَاجْتَمَعُوا بِذِي طُوًى،
وَكَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ
طَافُوا وَسَعَوْا، وَحَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ، وَعَسْكَرُوا بِذِي
طُوًى، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ حَجَّ مِنْ شِيعَتِهِمْ
وَمَوَالِيهِمْ وَقُوَّادِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّهُمُ اقْتَتَلُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْهَزَمَ
أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ، وَجُرِحَ، وَانْصَرَفَ
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا
يَعْلَمُونَ مَا حَالُ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا بَلَغُوا ذَا طُوًى
لَحِقَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُ: الْبُشْرَى،
الْبُشْرَى، هَذَا رَأْسُ الْحُسَيْنِ فَأَخْرَجَهُ، وَبِجَبْهَتِهِ
ضَرْبَةٌ طُولَى، وَعَلَى قَفَاهُ ضَرْبَةٌ أُخْرَى، وَكَانُوا قَدْ
نَادَوُا الْأَمَانَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، أَبُو الزِّفْتِ، فَوَقَفَ خَلْفَ مُحَمَّدِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَأَخَذَهُ مُوسَى بْنُ
عِيسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
فَقَتَلَاهُ.
فَغَضِبَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ
رُءُوسَ الْقَتْلَى، فَكَانَتْ مِائَةَ رَأْسٍ وَنَيِّفًا، وَفِيهَا
رَأْسُ [الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَأُخِذَتْ أُخْتُ الْحُسَيْنِ، فَتُرِكَتْ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ
سُلَيْمَانَ، وَاخْتَلَطَ الْمُنْهَزِمُونَ بِالْحَاجِّ، وَأُتِيَ
الْهَادِي (بِسِتَّةِ أَسْرَى) ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَاسْتَبْقَى
بَعْضَهُمْ، وَغَضِبَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِيسَى كَيْفَ قَتَلَ
الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَبَضَ أَمْوَالَهُ، فَلَمْ تَزَلْ
بِيَدِهِ حَتَّى مَاتَ، وَغَضِبَ عَلَى مُبَارَكٍ التُّرْكِيِّ،
وَأَخَذَ مَالَهُ، وَجَعَلَهُ سَائِسَ الدَّوَابِّ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ
حَتَّى مَاتَ الْهَادِي.
[بَدْءُ الْأُسْرَةِ الْإِدْرِيسِيَّةِ بِالْمَغْرِبِ] وَأَفْلَتَ مِنَ
الْمُنْهَزِمِينَ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَتَى مِصْرَ وَعَلَى بَرِيدِهَا وَاضِحٌ
مَوْلَى صَالِحِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ شِيعِيًّا لَعَلِيٍّ،
فَحَمَلَهُ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى أَرْضِ الْمَغْرِبِ، فَوَقَعَ
بِأَرْضِ طَنْجَةَ، بِمَدِينَةِ وَلَيْلَةَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنْ
بِهَا مِنَ الْبَرْبَرِ. فَضَرَبَ الْهَادِي عُنُقَ وَاضِحٍ
وَصَلَبَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ. وَإِنَّ الرَّشِيدَ
دَسَّ عَلَى إِدْرِيسَ الشَّمَّاخَ الْيَمَامِيَّ،
(5/262)
مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَتَاهُ
وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ شِيعَتِهِمْ، وَعَظَّمَهُ، وَآثَرَهُ عَلَى
نَفْسِهِ، فَمَالَ إِلَيْهِ إِدْرِيسُ، وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ.
ثُمَّ إِنْ إِدْرِيسَ شَكَا إِلَيْهِ مَرَضًا فِي أَسْنَانِهِ،
فَوَصَفَ لَهُ دَوَاءً، وَجَعَلَ فِيهِ سُمًّا، وَأَمَرَهُ أَنْ
يَسْتَنَّ بِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ، وَهَرَبَ
الشَّمَّاخُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ إِدْرِيسُ الدَّوَاءَ، فَمَاتَ مِنْهُ،
فَوَلَّى الرَّشِيدُ الشَّمَّاخَ بَرِيدَ مِصْرَ.
وَلَمَّا مَاتَ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَلَفَ مَكَانَهُ
ابْنُهُ إِدْرِيسُ بْنُ إِدْرِيسَ وَأَعْقَبَ بِهَا، وَمَلَكُوهَا،
وَنَازَعُوا بَنِي أُمَيَّةَ فِي إِمَارَةِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى مَا
نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحُمِلَتِ الرُّءُوسَ إِلَى الْهَادِي، فَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ
الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيِ الْهَادِي قَالَ: كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ
بِرَأْسِ طَاغُوتٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ! إِنَّ أَقَلَّ مَا أَجْزِيكُمْ
بِهِ أَنْ أَحْرِمَكُمْ جَوَائِزَكُمْ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا.
وَكَانَ الْحُسَيْنُ شُجَاعًا، كَرِيمًا، قَدِمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ،
فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ
بِبَغْدَاذَ وَالْكُوفَةِ، وَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ لَا يَمْلِكُ مَا
يَلْبَسُهُ إِلَّا فَرْوًا لَيْسَ تَحْتَهُ قَمِيصٌ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَغَزَا الصَّائِفَةَ هَذِهِ السَّنَةَ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى مِنْ
دَرْبِ الرَّاهِبِ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ قَبْلَ ذَلِكَ جَاءُوا
مَعَ بِطْرِيقِهِمْ إِلَى الْحَدَثِ، فَهَرَبَ الْوَالِي وَأَهْلُ
السُّوقِ، فَدَخَلَهَا الرُّومُ، فَقَصَدَهُمْ مَعْيُوفٌ فَبَلَغَ
مَدِينَةَ أُشْنَةَ، فَغَنِمَ وَسَبَى.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ.
(5/263)
وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ:
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمَ، وَعَلَى الْيَمَنِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ:
سُوَيْدُ بْنُ أَبِي سُوَيْدٍ الْقَائِدُ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعَلَى
عُمَانَ: الْحَسَنُ بْنُ نَسِيمٍ الْحَوَارِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
مُوسَى بْنُ عِيسَى.
وَعَلَى الْبَصْرَةِ: مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى جُرْجَانَ:
الْحَجَّاجُ مَوْلَى الْهَادِي، وَعَلَى قُومِسَ: زِيَادُ بْنُ
حَسَّانَ، وَعَلَى طَبَرِسْتَانَ وَالرُّويَانِ: صَالِحُ بْنُ شَيْخِ
بْنِ عُمَيْرَةَ الْأَسَدِيُّ، (وَعَلَى أَصْبَهَانَ طَيْفُورٌ مَوْلَى
الْهَادِي) ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: هَاشِمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ،
فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، فَعَزَلَهُ الْهَادِي وَوَلَّاهَا
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ الْهَاشِمِيَّ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ حَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ،
وَعَلَى خَرَاجِهَا الْمَنْصُورُ بْنُ زِيَادٍ، فَسَيَّرَ جَيْشًا
إِلَى الْخَارِجِيِّ، فَالْتَقَوْا بِبَاعَرْبَايَا، مِنْ بَلَدِ
الْمَوْصِلِ، فَهَزَمَهُمُ الْخَارِجِيُّ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ،
وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَأَتَى رَجُلَانِ، وَصَحِبَاهُ، ثُمَّ اغْتَالَاهُ
فَقَتَلَاهُ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ مُطِيعُ بْنُ إِيَاسٍ اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ
الشَّاعِرُ، وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةُ (بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ) بْنِ بَشَّارٍ الْأَشْعَرِيُّ، مَوْلَاهُمْ، وَكَانَ وَزِيرَ
الْمَهْدِيِّ، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
نُعَيْمٍ الْمُقْرِئُ صَاحِبُ الْقِرَاءَةِ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ
السَّبْعَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ، حَاجِبُ الْمَنْصُورِ،
مَوْلَاهُ.
(5/264)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ
وَمِائَةٍ]
170 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ مَا جَرَى لِلْهَادِي فِي خَلْعِ الرَّشِيدِ
كَانَ الْهَادِي قَدْ جَدَّ فِي خَلْعِ الرَّشِيدِ وَالْبَيْعَةِ
لِابْنِهِ جَعْفَرٍ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْهَادِيَ
لَمَّا عَزَمَ عَلَى خَلْعِهِ ذَكَرَهُ لِقُوَّادِهِ، فَأَجَابَهُ
إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَالِكٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُمْ.
فَخَلَعُوا هَارُونَ، وَبَايَعُوا لِجَعْفَرٍ، وَوَضَعُوا الشِّيعَةَ،
فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَتَنَقَّصُوا بِالرَّشِيدِ فِي مَجْلِسِ
الْجَمَاعَةِ، وَقَالُوا لَا نَرْضَى بِهِ، وَصَعُبَ أَمْرُهُمْ،
وَأَمَرَ الْهَادِي أَنْ لَا يُسَارَ بَيْنَ يَدَيْ هَارُونَ
بِالْحَرْبَةِ، فَاجْتَنَبَهُ النَّاسُ، وَتَرَكُوا السَّلَامَ
عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكٍ يَتَوَلَّى أُمُورَ
الرَّشِيدِ بِأَمْرِ الْهَادِي، فَقِيلَ لِلْهَادِي: لَيْسَ عَلَيْكَ
مِنْ أَخِيكَ خِلَافٌ إِنَّمَا يَحْيَى يُفْسِدُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ،
وَتَهَدَّدَهُ، وَرَمَاهُ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَدْعَاهُ
لَيْلَةً، فَخَافَ، وَأَوْصَى، وَتَحَنَّطَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ فَقَالَ
لَهُ: يَا يَحْيَى! مَا لِي وَلَكَ؟ قَالَ: مَا يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ
إِلَى مَوْلَاهُ إِلَّا طَاعَتُهُ؟ ! .
قَالَ: لِمَ تَدْخُلُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَخِي وَتُفْسِدُهُ عَلَيَّ؟
قَالَ: مَنْ أَنَا حَتَّى أَدْخُلَ بَيْنَكُمَا؟ إِنَّمَا صَيَّرَنِي
الْمَهْدِيُّ مَعَهُ، ثُمَّ أَمَرْتَنِي أَنْتَ بِالْقِيَامِ
بِأَمْرِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى أَمْرِكَ. فَسَكَنَ غَضَبُهُ.
وَقَدْ كَانَ هَارُونُ طَابَ نَفْسًا بِالْخَلْعِ، فَمَنَعَهُ يَحْيَى
عَنْهُ. فَلَمَّا أَحْضَرَهُ الْهَادِي، وَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ،
قَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ حَمَلْتَ
النَّاسَ عَلَى نَكْثِ الْأَيْمَانِ هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَيْمَانُهُمْ،
وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ عَلَى بَيْعَةِ أَخِيكَ ثُمَّ بَايَعْتَ
لِجَعْفَرٍ بَعْدَهُ، كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ لِلْبَيْعَةِ، قَالَ:
صَدَقْتَ، وَسَكَتَ عَنْهُ.
فَعَادَ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ مِنَ الْقُوَّادِ
وَالشِّيعَةِ، فَحَمَلُوهُ عَلَى مُعَاوَدَةِ الرَّشِيدِ بِالْخَلْعِ،
فَأَحْضَرَ يَحْيَى وَحَبَسَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ عِنْدِي
نَصِيحَةً، فَأَحْضَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
(5/265)
الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ
الْأَمْرُ لَا تَبْلُغُهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُقْدِمَنَا
قَبْلَهُ، يَعْنِي مَوْتَ الْهَادِي، أَتَظُنُّ النَّاسَ يُسَلِّمُونَ
الْخِلَافَةَ لِجَعْفَرٍ، وَهُوَ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، أَوْ
يَرْضَوْنَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ، وَحَجِّهِمْ، وَغَزْوِهِمْ؟ ! قَالَ:
مَا أَظُنُّ ذَلِكَ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَنَأْمَنُ أَنْ يَسْمُوَ
إِلَيْهَا أَكَابِرُ أَهْلِكَ، مِثْلُ فُلَانٍ، وَيَطْمَعَ فِيهَا
غَيْرُهُمْ، فَتَخْرُجَ مِنْ وَلَدِ أَبِيكَ؟ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ
هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَهْدِيُّ لِأَخِيكَ، لَقَدْ كَانَ
يَنْبَغِي أَنْ تَعْقِدَهُ أَنْتَ لَهُ، فَكَيْفَ بِأَنْ تَحُلَّهُ
عَنْهُ وَقَدْ عَقَدَهُ الْمَهْدِيُّ لَهُ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ
تُقِرَّ الْأَمْرَ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا بَلَغَ جَعْفَرٌ أَتَيْتَهُ
بِالرَّشِيدِ، فَخَلَعَ نَفْسَهُ لَهُ وَبَايَعَهُ. فَقَبِلَ قَوْلَهُ،
وَقَالَ: نَبَّهْتَنِي عَلَى أَمْرٍ لَمْ أَتَنَبَّهْ لَهُ.
وَأَطْلَقَهُ.
ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْقُوَّادَ عَاوَدُوا الْقَوْلَ فِيهِ،
فَأَرْسَلَ الْهَادِي إِلَى الرَّشِيدِ فِي ذَلِكَ، وَضَيَّقَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: اسْتَأْذِنْهُ فِي الصَّيْدِ، فَإِذَا
خَرَجْتَ فَأَبْعِدْ، وَدَافِعِ الْأَيَّامَ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَذِنَ
لَهُ، فَمَضَى إِلَى قَصْرِ بَنِي مُقَاتِلٍ، فَأَقَامَ [بِهِ]
أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ الْهَادِي أَمْرَهُ، وَخَافَهُ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالْعَوْدِ، فَتَعَلَّلَ عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَ
الْهَادِي شَتْمَهُ، وَبَسَطَ مَوَالِيهِ وَقُوَّادُهُ فِيهِ
أَلْسِنَتَهُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَادَ الرَّشِيدُ.
وَقَدْ كَانَ الْهَادِي فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ جَلَسَ، وَعِنْدَهُ
نَفَرٌ مِنْ قُوَّادِهِ، وَعِنْدَهُ الرَّشِيدُ، وَهُوَ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا هَارُونُ كَأَنِّي بِكَ وَأَنْتَ
تُحَدِّثُ نَفْسَكَ بِتَمَامِ الرُّؤْيَا، وَدُونَ ذَلِكَ خَرْطُ
الْقَتَادِ.
فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: يَا مُوسَى إِنَّكَ إِنْ تَجَبَّرْتَ وُضِعْتَ،
وَإِنْ تَوَاضَعْتَ رُفِعْتَ، وَإِنْ ظَلَمْتَ قُتِلْتَ، وَإِنْ
أَنْصَفْتَ سَلِمْتَ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُفْضِيَ الْأَمْرُ
إِلَيَّ، فَأُنْصِفَ مَنْ ظَلَمْتَ، وَأَصِلَ مَنْ قَطَعْتَ،
وَأَجْعَلَ أَوْلَادَكَ أَعْلَى مِنْ أَوْلَادِي، وَأُزَوِّجَهُمْ
بَنَاتِي، وَأَبْلُغَ مَا يَجِبُ مِنْ حَقِّ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ.
فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ،
ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، وَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ أَرَادَ
الْعَوْدَ إِلَى مَكَانِهِ، فَقَالَ: لَا وَالشَّيْخِ الْجَلِيلِ،
وَالْمَلِكِ النَّبِيلِ، أَعْنِي الْمَنْصُورَ، لَا جَلَسْتَ إِلَّا
مَعِي، فَأَجْلَسَهُ فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ
يُحْمَلَ إِلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُحْمَلَ إِلَيْهِ
نِصْفُ الْخَرَاجِ.
وَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرَّانِيِّ: اعْرِضْ عَلَيْهِ مَا فِي
الْخَزَائِنِ مِنْ مَالِنَا،
(5/266)
وَمَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ
اللَّعْنَةِ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ، فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ مَا
أَرَادَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَامَ عَنْهُ.
وَسُئِلَ الرَّشِيدُ عَنِ الرُّؤْيَا، فَقَالَ: قَالَ الْمَهْدِيُّ:
رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي دَفَعْتُ إِلَى مُوسَى وَإِلَى
هَارُونَ قَضِيبًا، فَأَوْرَقَ مِنْ قَضِيبِ مُوسَى أَعْلَاهُ،
وَأَوْرَقَ قَضِيبُ هَارُونَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ،
فَعَبَّرْتُ لَهُمَا أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مَعًا، فَأَمَّا مُوسَى
فَتَقِلُّ أَيَّامُهُ، وَأَمَّا هَارُونُ فَيَبْلُغُ آخِرَ مَا عَاشَ
خَلِيفَةً، وَتَكُونُ أَيَّامُهُ أَحْسَنَ أَيَّامٍ، وَدَهْرُهُ
أَحْسَنَ دَهْرٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ.
وَذُكِرَ أَنَّ الْهَادِيَ خَرَجَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ،
فَمَرِضَ بِهَا، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَانْصَرَفَ، وَكَتَبَ إِلَى
جَمِيعِ عُمَّالِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
ثَقُلَ أَجْمَعَ الْقُوَّادُ الَّذِينَ كَانُوا بَايَعُوا جَعْفَرًا،
وَتَوَامَرُوا فِي قَتْلِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَقَالُوا: إِنْ صَارَ
الْأَمْرُ إِلَيْهِ قُتِلْنَا، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ
قَالُوا: لَعَلَّ الْهَادِيَ يُفِيقُ، فَمَا عُذْرُنَا عِنْدَهُ؟
فَأَمْسَكُوا.
وَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ الْهَادِي أَرْسَلَتِ الْخَيْزُرَانُ إِلَى
يَحْيَى تَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ، فَأَحْضَرَ يَحْيَى كُتَّابًا
فَكَتَبُوا الْكُتُبَ مِنَ الرَّشِيدِ إِلَى الْعُمَّالِ بِوَفَاةِ
الْهَادِي، وَأَنَّهُ قَدْ وَلَّاهُمْ مَا كَانَ وَيَكُونُ فَلَمَّا
مَاتَ الْهَادِي سُيِّرَتِ الْكُتُبُ.
وَقِيلَ إِنَّ يَحْيَى كَانَ مَحْبُوسًا. وَكَانَ الْهَادِي قَدْ
عَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَإِنَّ هَرْثَمَةَ بْنَ
أَعْيَنَ هُوَ [الَّذِي] أَقْعَدَ الرَّشِيدَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي قَالَتِ الْخَيْزُرَانُ: قَدْ كُنَّا
نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَلِيفَةٌ،
وَيُمَلَّكُ خَلِيفَةٌ، وَيُولَدُ خَلِيفَةٌ، فَمَاتَ الْهَادِي،
وَوَلِيَ الرَّشِيدُ، وَوُلِدَ الْمَأْمُونُ. وَكَانَتِ الْخَيْزُرَانُ
قَدْ أَخَذَتِ الْعِلْمَ مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَكَانَ مَوْتُ
الْهَادِي بِعِيسَابَاذَ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْهَادِي
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْهَادِي (مُوسَى ابْنُ
الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
(5/267)
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ كَانَ سَبَبُهَا قُرْحَةً
كَانَتْ فِي جَوْفِهِ، وَقِيلَ مَرَضٌ بِحَدِيثِةِ الْمَوْصِلِ،
وَعَادَ مَرِيضًا فَتُوُفِّيَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَقِيلَ إِنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ جَوَارٍ لِأُمِّهِ
الْخَيْزُرَانَ كَانَتْ أَمَرَتْهُنَّ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ سَبَبُ
أَمْرِهَا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَتْ
تَسْتَبِدُّ بِالْأُمُورِ دُونَهُ، وَتَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ
الْمَهْدِيِّ، حَتَّى مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ.
فَانْثَالَ النَّاسُ إِلَى بَابِهَا، وَكَانَتِ الْمَوَاكِبُ تَغْدُو
وَتَرُوحُ إِلَى بَابِهَا، فَكَلَّمَتْهُ يَوْمًا فِي أَمْرٍ لَمْ
يَجِدْ إِلَى إِجَابَتِهَا سَبِيلًا، فَقَالَتْ: لَابُدَّ مِنْ
إِجَابَتِي إِلَيْهِ، فَإِنَّنِي قَدْ ضَمِنْتُ هَذِهِ الْحَاجَةَ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ.
فَغَضِبَ الْهَادِي، وَقَالَ: وَيْلِي عَلَى ابْنِ الْفَاعِلَةِ! قَدْ
عَلِمْتُ أَنَّهُ صَاحِبُهَا، وَاللَّهِ لَا قَضَيْتُهَا لَكِ.
قَالَتْ: إِذًا وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُكَ حَاجَةً أَبَدًا، قَالَ: لَا
أُبَالِي وَاللَّهِ، وَغَضِبَتْ فَقَامَتْ مُغْضَبَةً، فَقَالَ
مَكَانَكِ وَاللَّهِ، وَإِلَّا أَنَا نَفِيٌّ مِنْ قَرَابَتِي مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَفَ بِبَابِكِ أَحَدٌ مِنْ قُوَّادِي،
وَخَاصَّتِي لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، وَلَأَقْبِضَنَّ مَالَهُ. مَا
هَذِهِ الْمَوَاكِبُ الَّتِي تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى بَابِكِ؟ أَمَا
لَكِ مِغْزَلٌ يَشْغَلُكِ، أَوْ مُصْحَفٌ يُذَكِّرُكِ، أَوْ بَيْتٌ
يَصُونُكِ؟ إِيَّاكِ! وَإِيَّاكِ! لَا تَفْتَحِي بَابَكِ لِمُسْلِمٍ
وَلَا ذِمِّيٍّ. فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ، فَلَمْ تَنْطِقْ
عِنْدَهُ بَعْدَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّمَا خَيْرٍ أَنَا أَمْ
أَنْتُمْ، وَأُمِّي أَمْ أُمَّهَاتُكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ أَنْتَ
وَأُمُّكَ خَيْرٌ. قَالَ: فَأَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَتَحَدَّثَ
الرِّجَالُ بِخَبَرِ أُمِّهِ، فَيُقَالُ: فَعَلَتْ أُمُّ فُلَانٍ،
وَصَنَعَتْ؟ قَالُوا: لَا نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ
تَأْتُونَ أُمِّي، فَتَتَحَدَّثُونَ بِحَدِيثِهَا؟ فَلَمَّا سَمِعُوا
ذَلِكَ انْقَطَعُوا عَنْهَا.
ثُمَّ بَعَثَ بِأُرْزٍ، وَقَالَ: قَدِ اسْتَطَبْتُهَا، فَكُلِي
مِنْهَا. فَقِيلَ لَهَا: أَمْسِكِي حَتَّى تَنْظُرِي! فَجَاءُوا
بِكَلْبٍ، فَأَطْعَمُوهُ، فَسَقَطَ لَحْمُهُ لِوَقْتِهِ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهَا كَيْفَ رَأَيْتِ الْأُرْزَ؟ قَالَتْ: طَيِّبًا. قَالَ: مَا
أَكَلْتِ مِنْهَا، وَلَوْ أَكَلْتِ مِنْهَا، لَاسْتَرَحْتُ مِنْكِ،
مَتَى أَفْلَحَ خَلِيفَةٌ لَهُ أُمٌّ!
وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ أَمْرِهَا بِذَلِكَ أَنَّ الْهَادِيَ لَمَّا
جَدَّ فِي خَلْعِ الرَّشِيدِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِهِ جَعْفَرٍ خَافَتِ
الْخَيْزُرَانُ عَلَى الرَّشِيدِ، فَوَضَعَتْ جَوَارِيَهَا عَلَيْهِ
لَمَّا مَرِضَ، فَقَتَلْنَهُ بِالْغَمِّ وَالْجُلُوسِ عَلَى وَجْهِهِ،
فَمَاتَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ تُعْلِمُهُ
بِمَوْتِهِ.
(5/268)
ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَمَبْلَغِ سِنِّهِ
وَصِفَتِهِ وَأَوْلَادِهِ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَقِيلَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَقِيلَ لِسِتَّ عَشْرَةَ مِنْهُ، وَقِيلَ كَانَتْ
خِلَافَتُهُ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ كَانَتْ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ شَهْرًا، عُمُرُهُ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّشِيدُ.
وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا مُحَمَّدٍ، وَأُمُّهُ الْخَيْزُرَانُ،
أُمُّ وَلَدٍ، وَدُفِنَ بِعِيسَابَاذَ الْكُبْرَى فِي بُسْتَانِهِ.
وَكَانَ طَوِيلًا، جَسِيمًا، أَبْيَضَ، مُشْرَبًا حُمْرَةً، وَكَانَ
بِشَفَتِهِ الْعُلْيَا نَقْصٌ وَتَقَلُّصٌ.
وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ وَكَّلَ بِهِ خَادِمًا يَقُولُ لَهُ: مُوسَى
أَطْبِقْ، فَيَضُمَّ شَفَتَهُ، فَلُقِّبَ: مُوسَى أَطْبِقْ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ تِسْعَةٌ: سَبْعَةُ ذُكُورٍ،
وَابْنَتَانِ، فَمِنَ الذُّكُورِ جَعْفَرٌ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يُرِيدُ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَبْدُ اللَّهِ،
وَإِسْحَاقُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَسُلَيْمَانُ، وَمُوسَى بْنُ مُوسَى
الْأَعْمَى، كُلُّهُمْ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ وَالِابْنَتَانِ أُمُّ
عِيسَى كَانَتْ عِنْدَ الْمَأْمُونِ، (وَأُمُّ الْعَبَّاسِ) وَكَانَتْ
تُلَقَّبُ نُونَةَ.
ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ
تَأَخَّرَ الْهَادِي عَنِ الْمَظَالِمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ
لَهُ الْحَرَّانِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ الْعَامَّةَ
لَا تَحْتَمِلُ هَذَا. فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ: إِيذَنْ
لِلنَّاسِ عَلَيَّ بِالْجَفَلَى، لَا بِالنَّقَرَى.
فَخَرَجَ مَنْ عِنْدَهُ وَلَمْ يَفْهَمْ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَجْسُرْ
عَلَى مُرَاجَعَتِهِ، فَأَحْضَرَ أَعْرَابِيًّا، فَسَأَلَهُ عَنْ
ذَلِكَ، فَقَالَ: الْجَفَلَى أَنْ تَأْذَنَ لِعَامَّةِ النَّاسِ،
فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلَ النَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَنَظَرَ فِي
(5/269)
أُمُورِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا
تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ مَا جَرَى
لَهُ، وَسَأَلَهُ مُجَازَاةَ الْأَعْرَابِيِّ، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!
إِنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَيُغْنِيهِ عَشَرَةُ آلَافٍ. فَقَالَ: يَا
عَلِيُّ أَجُودُ أَنَا، وَتَبْخَلُ أَنْتَ! .
وَقِيلَ: خَرَجَ يَوْمًا إِلَى عِيَادَةِ أُمِّهِ الْخَيْزُرَانِ،
وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَكَ
مِنْ هَذَا؟ تَنْظُرُ فِي الْمَظَالِمِ. فَرَجَعَ إِلَى دَارِ
الْمَظَالِمِ، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ
يَتَعَرَّفُ أَخْبَارَهَا.
وَقِيلَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ يَتَوَلَّى شُرْطَةَ
الْمَهْدِيِّ، قَالَ: فَكَانَ الْمَهْدِيُّ يَأْمُرُنِي بِضَرْبِ
نُدَمَاءِ الْهَادِي وَمُغَنِّيهِ، وَحَبْسِهِمْ صِيَانَةً لَهُ
عَنْهُمْ، فَكُنْتُ أَفْعَلُ وَكَانَ الْهَادِي يُرْسِلُ إِلَيَّ
بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، وَلَا أَفْعَلُ، فَلَمَّا وَلِيَ الْهَادِي
أَيْقَنْتُ بِالتَّلَفِ، اسْتَحْضَرَنِي يَوْمًا، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ
مُتَحَنِّطًا مُتَكَفِّنًا وَهُوَ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَالسَّيْفُ
وَالنَّطْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: لَا سَلَّمَ
اللَّهُ عَلَيْكَ! أَتَذْكُرُ يَوْمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ فِي أَمْرِ
الْحَرَّانِيِّ وَضَرْبِهِ، فَلَمْ تُجِبْنِي، وَفِي فُلَانٍ
وَفُلَانٍ، فَعَدَّدَ نُدَمَاءَهُ، فَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِي.
قُلْتُ: نَعَمْ! أَفَتَأْذَنُ فِي ذِكْرِ الْحُجَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ وَلَّيْتَنِي مَا
وَلَّانِي الْمَهْدِيُّ، وَأَمَرْتَنِي بِمَا أَمَرَ، فَبَعَثَ إِلَيَّ
بَعْضُ بَنِيكَ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَكَ، فَاتَّبَعْتُ أَمْرَهُ
وَخَالَفْتُ أَمْرَكَ؟ قَالَ: لَا! قُلْتُ: فَكَذَلِكَ أَنَا لَكَ،
وَكَذَا كُنْتُ لِأَبِيكَ.
فَاسْتَدْنَانِي، فَقَبَّلْتُ يَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ لِي بِالْخُلَعِ،
وَقَالَ: وَلَّيْتُكَ مَا كُنْتَ تَتَوَلَّاهُ، فَامْضِ رَاشِدًا!
فَصِرْتُ إِلَى مَنْزِلِي مُفَكِّرًا فِي أَمْرِي وَأَمْرِهِ،
وَقُلْتُ: حَدَثٌ يَشْرَبُ، وَالْقَوْمُ الَّذِي عَصَيْتُهُ فِي
أَمْرِهِمْ نُدَمَاؤُهُ، وَوُزَرَاؤُهُ، وَكُتَّابُهُ.
فَكَأَنِّي بِهِمْ حِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الشَّرَابُ قَدْ أَزَالُوهُ
عَنْ رَأْيِهِ. قَالَ: فَإِنِّي لَجَالِسٌ، وَعِنْدِي بَيِّنَةٌ لِي،
وَالْكَانُونُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَرُقَاقٌ أَشْطُرُهُ بِكَامَخٍ،
وَأُسَخِّنُهُ، وَأُطْعِمُ الصِّبْيَةَ، وَآكُلُ، وَإِذَا بِوَقْعِ
الْحَوَافِرِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ الدُّنْيَا قَدْ زُلْزِلَتْ
لِوَقْعِهَا، وَلِكَثْرَةِ الضَّوْضَاءِ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا كُنْتُ
أَخَافُهُ.
وَإِذَا الْبَابُ قَدْ فُتِحَ، وَإِذَا الْخَدَمُ قَدْ دَخَلُوا،
وَإِذَا الْهَادِي فِي وَسَطِهِمْ عَلَى دَابَّتِهِ، فَلَمَّا
رَأَيْتُهُ وَثَبْتُ، فَقَبَّلْتُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَحَافِرَ
دَابَّتِهِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! إِنِّي فَكَّرْتُ
فِي أَمْرِكَ، فَقُلْتُ يَسْبِقُ إِلَى وَهْمِكَ أَنَّنِي إِذَا
شَرِبْتُ وَحَوْلِي أَعْدَاؤُكَ، أَزَالُوا حُسْنَ رَأْيِي فِيكَ،
فَيُقْلِقُكَ ذَلِكَ، فَصِرْتُ إِلَى مَنْزِلِكَ لِأُونِسَكَ.
وَأُعْلِمُكَ أَنَّ مَا كَانَ عِنْدِي لَكَ مِنْ
(5/270)
الْحِقْدِ قَدْ زَالَ، فَهَاتِ
وَأَطْعِمْنِي مِمَّا كُنْتَ تَأْكُلُ لِتَعْلَمَ أَنِّي قَدْ
تَحَرَّمْتُ بِطَعَامِكَ، فَيَزُولَ خَوْفُكَ.
فَأَدْنَيْتُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الرُّقَاقِ وَالْكَامَخِ، فَأَكَلَ،
ثُمَّ قَالَ: هَاتُوا الزُّلَّةَ الَّتِي أَزْلَلْتُهَا لِعَبْدِ
اللَّهِ مِنْ مَجْلِسِي، فَأُدْخِلَتْ إِلَيَّ أَرْبَعُمِائَةِ بَغْلٍ
مُوَقَّرَةٍ دَرَاهِمَ وَغَيْرَهَا، فَقَالَ: هَذِهِ لَكَ، فَاسْتَعِنْ
بِهَا عَلَى أَمْرِكَ، وَاحْفَظْ هَذِهِ الْبِغَالَ عِنْدَكَ لَعَلِّي
أَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِبَعْضِ أَسْفَارِي، ثُمَّ انْصَرَفَ.
قِيلَ: وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ يَقُولُ: مَا لِعَرَبِيٍّ وَلَا
لِعَجَمِيِّ عِنْدَكَ مَا لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ،
فَإِنَّهُ دَخَلَ إِلَيَّ الْحَبْسَ، وَقَالَ لِي: أَمَرَنِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي أَنْ أَضْرِبَكَ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَقْبَلَ
يَضَعُ السَّوْطَ عَلَى يَدَيَّ وَمَنْكِبِي يَمَسُّنِي بِهِ مَسًّا
إِلَى أَنْ عَدَّ مِائَةَ سَوْطٍ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ
الْهَادِي: مَا صَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: صَنَعْتُ الَّذِي أَمَرْتَنِي
بِهِ، وَقَدْ مَاتَ الرَّجُلُ.
فَقَالَ الْهَادِي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
فَضَحْتَنِي، وَاللَّهِ عِنْدَ النَّاسِ، يَقُولُونَ: قُتِلَ يَعْقُوبُ
بْنُ دَاوُدَ، فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ جَزَعِهِ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ
حَيٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى
ذَلِكَ.
وَقِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ
الْهَادِي بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، فَمَاتَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَتَاهُ
الْهَادِي يُعَزِّيهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ! سَرَّكَ وَهُوَ
عَدُوُّ وَفِتْنَةٌ، وَحَزَنَكَ وَهُوَ صَلَاةٌ وَرَحْمَةٌ؟ . فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا بَقِيَ مِنِّي جُزْءٌ فِيهِ حُزْنٌ،
إِلَّا وَقَدِ امْتَلَأَ عَزَاءً.
فَلَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ صَارَتْ مَنْزِلَتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ
سَلْمٍ.
قِيلَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي يُلَقَّبُ الْجَزَرِيَّ، قَدْ
تَزَوَّجَ رُقَيَّةَ بِنْتَ عَمْرٍو الْعُثْمَانِيَّةَ، وَكَانَتْ
قَبْلَهُ تَحْتَ الْمَهْدِيِّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْهَادِي، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْيَاكَ النِّسَاءُ
إِلَّا امْرَأَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ إِلَّا نِسَاءَ جَدِّي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا غَيْرُهُنَّ فَلَا،
وَلَا كَرَامَةَ، فَشَجَّهُ بِمِخْصَرَةٍ كَانَتْ فِي يَدِهِ،
وَجَلَدَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، وَأَرَادَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا،
فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرْبِ.
وَكَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ نَفِيسٌ، فَأَهْوَى بَعْضُ الْخَدَمِ عَلَى
الْخَاتَمِ لِيَأْخُذَهُ، فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ فَدَقَّهَا، فَصَاحَ،
فَأَتَى الْهَادِي، فَأَرَاهُ يَدَهُ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَفْعَلُ
هَذَا بِخَادِمِي عَلَى اسْتِخْفَافِكَ بِأَبِي وَقَوْلِكَ لِي مَا
قُلْتَ؟ قَالَ: سَلْهُ، وَاسْتَحْلِفْهُ أَنْ يَصْدُقَكَ، فَفَعَلَ.
فَأَخْبَرَهُ الْخَادِمُ وَصَدَقَهُ، فَقَالَ: أَحْسَنَ وَاللَّهِ،
أَشْهَدُ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّي، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ
(5/271)
ذَلِكَ لَانْتَفَيْتُ مِنْهُ، وَأَمَرَ
بِإِطْلَاقِهِ.
قِيلَ: وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ قَالَ لِلْهَادِي يَوْمًا، وَقَدْ
قَدِمَ إِلَيْهِ زِنْدِيقٌ، فَقَتَلَهُ وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ: يَا
بُنَيَّ، إِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْكَ فَتَجَرَّدْ لِهَذِهِ
الْعِصَابَةِ، يَعْنِي أَصْحَابَ مَانِي، فَإِنَّهَا تَدْعُو النَّاسَ
إِلَى ظَاهِرٍ حَسَنٍ كَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا، وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ.
ثُمَّ تُخْرِجُهَا مِنْ هَذَا إِلَى تَحْرِيمِ اللُّحُومِ، وَمَسِّ
الْمَاءِ الطَّهُورِ، وَتَرْكِ قَتْلِ الْهَوَامِّ تَحَرُّجًا، ثُمَّ
تُخْرِجُهَا إِلَى عِبَادَةِ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا النُّورُ،
وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ، ثُمَّ تُبِيحُ بَعْدَ هَذَا نِكَاحَ
الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالِاغْتِسَالَ بِالْبَوْلِ، وَسَرِقَةَ
الْأَطْفَالِ مِنَ الطُّرُقِ، لِتُنْقِذَهُمْ مِنْ ضَلَالِ الظُّلْمَةِ
إِلَى هِدَايَةِ النُّورِ.
فَارْفَعْ فِيهَا الْخَشَبَ، (وَجَرِّدِ السَّيْفَ فِيهَا، وَتَقَرَّبْ
بِأَمْرِهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ جَدِّيَ الْعَبَّاسَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، فِي الْمَنَامِ قَلَّدَنِي سَيْفَيْنِ
لِقَتْلِ أَصْحَابِ الِاثْنَيْنِ.
فَلَمَّا وَلِيَ الْهَادِي قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ.
وَأَمَرَ أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ أَلْفُ جِذْعٍ فَمَاتَ بَعْدَ هَذَا
الْقَوْلِ بِشَهْرَيْنِ.
قِيلَ: وَكَانَ عِيسَى بْنُ دَأْبٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحِجَازِ
أَدَبًا، وَأَعْذَبِهِمْ أَلْفًاظًا، وَكَانَ قَدْ حَظِيَ عِنْدَ
الْهَادِي حَظْوَةً لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ يَدْعُو
لَهُ بِمَا يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ بِغَيْرِهِ.
وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: مَا اسْتَطَلْتُ بِكَ يَوْمًا وَلَا لَيْلًا،
وَلَا غِبْتَ عَنْ عَيْنِي إِلَّا تَمَنَّيْتُ أَنْ لَا أَرَى
غَيْرَكَ، وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي دُفْعَةٍ
وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْنُ دَأْبٍ أَرْسَلَ قَهْرَمَانَةً
إِلَى الْحَاجِبِ فِي قَبْضِهَا، فَقَالَ الْحَاجِبُ: هَذَا لَيْسَ
إِلَيَّ، فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ التَّوْقِيعِ، وَإِلَى
الدِّيوَانِ، فَعَادَ إِلَى ابْنِ دَأْبٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:
اتْرُكْهَا.
فَبَيْنَمَا الْهَادِي فِي مُسْتَشْرَفٍ لَهُ بِبَغْدَاذَ رَأَى ابْنَ
دَأْبٍ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا غُلَامٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ
لِلْحَرَّانِيِّ: أَلَا تَرَى ابْنَ دَأْبٍ مَا غَيَّرَ حَالَهُ،
وَقَدْ وَصَلْنَاهُ لِيُرَى أَثَرُنَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: إِنْ
أَمَرْتَنِي عَرَّضْتُ لَهُ بِالْحَالِ. فَقَالَ: لَا، هُوَ أَعْلَمُ
بِحَالِهِ.
وَدَخَلَ ابْنُ دَأْبٍ، وَأَخَذَ فِي حَدِيثِهِ، فَعَرَضَ الْهَادِي
بِشَيْءٍ وَقَالَ: أَرَى ثَوْبَكَ غَسِيلًا، وَهَذَا شِتَاءٌ يُحْتَاجُ
فِيهِ إِلَى الْجَدِيدِ. فَقَالَ: بَاعِي قَصِيرٌ فَقَالَ: وَكَيْفَ،
وَقَدْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ مَا فِيهِ صَلَاحُ شَأْنِكَ؟ فَقَالَ: مَا
وَصَلَ إِلَيَّ شَيْءٌ فَدَعَا صَاحِبَ بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ
فَقَالَ: عَجِّلِ السَّاعَةَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
(5/272)
فَأُحْضِرَتْ وَحُمِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِلرَّشِيدِ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ بِالْخِلَافَةِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا
الْهَادِي، وَكَانَ عُمُرُهُ، حِينَ وَلِيَ، اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ
سَنَةً.
وَأُمُّهُ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ وَلَدٍ، يَمَانِيَّةٌ، جُرَشِيَّةٌ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالرَّيِّ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: وُلِدَ مُسْتَهَلَّ مُحَرَّمٍ
سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَكَانَ مَوْلِدُ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى
الْبَرْمَكِيِّ قَبْلَهُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَأَرْضَعَتْ أُمُّ
ابْنِ يَحْيَى الرَّشِيدَ، وَأَرْضَعَتِ الْخَيْزُرَانُ الْفَضْلَ
بِلِبَانِ الرَّشِيدِ.
وَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي كَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيُّ
مَحْبُوسًا، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ الْهَادِي عَازِمًا عَلَى
قَتْلِهِ، فَجَاءَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ إِلَى الرَّشِيدِ
فَأَخْرَجَهُ وَأَجْلَسَهُ لِلْخِلَافَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ إِلَى
يَحْيَى، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ، وَاسْتَوْزَرَهُ وَأَمَرَ
بِإِنْشَاءِ الْكُتُبِ إِلَى الْأَطْرَافِ بِجُلُوسِهِ لِلْخِلَافَةِ
وَمَوْتِ الْهَادِي.
وَقِيلَ: لَمَّا مَاتَ الْهَادِي جَاءَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ إِلَى
الرَّشِيدِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي فِرَاشِهِ فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: كَمْ تُرَوِّعُنِي إِعْجَابًا مِنْكَ
بِخِلَافَتِي، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالِي مَعَ الْهَادِي إِنْ بَلَغَهُ
هَذَا؟ فَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِهِ، وَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، فَبَيْنَمَا
هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ أَتَاهُ رَسُولٌ آخَرُ يُبَشِّرُهُ بِمَوْلُودٍ
فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ
وَخَرَجَ، فَصَلَّى عَلَى الْهَادِي بِعِيسَابَاذَ، وَقَتَلَ أَبَا
عِصْمَةَ وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ.
وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِ أَبِي عِصْمَةَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ سَائِرًا
هُوَ وَجَعْفَرُ بْنُ الْهَادِي، فَبَلَغَا قَنْطَرَةً مِنْ قَنَاطِرِ
عِيسَابَاذَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عِصْمَةَ: مَكَانَكَ حَتَّى يَجُوزَ
وَلِيُّ الْعَهْدِ فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ
لِلْأَمِيرِ وَوَقَفَ حَتَّى جَازَ جَعْفَرٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبَ
قَتْلِهِ.
وَلَمَّا وَصَلَ الرَّشِيدُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَبَلَغَ الْجِسْرَ،
وَدَعَا الْغَوَّاصِينَ، وَقَالَ كَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ وَهَبَ لِي
خَاتَمًا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، يُسَمَّى الْجَبَلَ، فَأَتَانِي
رَسُولُ الْهَادِي يَطْلُبُ
(5/273)
الْخَاتَمَ وَأَنَا هَاهُنَا،
فَأَلْقَيْتُهُ فِي الْمَاءِ، فَغَاصُوا عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهُ،
فَسُّرَ بِهِ.
وَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي هَجَمَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ الْهَادِي فَأَخَذَهُ مِنْ فِرَاشِهِ،
وَقَالَ لَهُ: لَتَخْلَعَنَّهَا أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ،
فَأَجَابَ إِلَى الْخَلْعِ، وَرَكِبَ مِنَ الْغَدِ خُزَيْمَةُ،،
وَأَظْهَرَ جَعْفَرًا لِلنَّاسِ فَأَشْهَدَهُمْ بِالْخَلْعِ، وَأَحَلَّ
النَّاسَ مِنْ بَيْعَتِهِمْ، فَحَظِيَ بِهَا خُزَيْمَةُ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِينُ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فِي شَوَّالٍ،
فَكَانَ الْمَأْمُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الرَّشِيدُ
يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ قَلَّدْتُكَ أَمْرَ
الرَّعِيَّةِ، فَاحْكُمْ فِيهَا بِمَا تَرَى، وَاعْزِلْ مَنْ رَأَيْتَ،
وَاسْتَعْمِلْ مَنْ رَأَيْتَ. وَدَفَعَ إِلَيْهِ خَاتَمَهُ، فَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ فِي ذَلِكَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ سَقِيمَةً ... فَلَمَّا وَلِيَ
هَارُونُ أَشْرَقَ نُورُهَا
بِيُمْنِ أَمِينِ اللَّهِ هَارُونَ ذِي النِّدَى ... فَهَارُونُ
وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا
وَكَانَ يَحْيَى يَصُدُّ عَنْ رَأْيِ الْخَيْزُرَانِ أُمِّ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَالِي
إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَهُ دَاوُدَ،
وَانْتَقَضَتْ جِبَالُ بَاجَةَ، وَخَرَجَ فِيهَا الْإِبَاضِيَّةُ
فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ دَاوُدُ جَيْشًا، فَظَفِرَ بِهِمِ
الْإِبَاضِيَّةُ، وَهَزَمُوهُمْ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا آخَرَ،
فَهُزِمَتِ الْإِبَاضِيَّةُ، فَتَبِعَهُمُ الْجَيْشُ، فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ، فَأَكْثَرُوا.
وَبَقِيَ دَاوُدُ أَمِيرًا إِلَى أَنِ اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَمَّهُ
رَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ الْمُهَلَّبِيَّ أَمِيرًا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ،
وَكَانَتْ إِمَارَةُ دَاوُدَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
(5/274)
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيَّ عَنِ الْمَدِينَةِ، عَلَى سَاكِنِهَا
السَّلَامُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا ظَهَرَ مَنْ كَانَ مُسْتَخْفِيًا، مِنْهُمْ طَبَاطَبَا
الْعَلَوِيُّ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، (وَعَلِيُّ)
بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَبَقِيَ نَفَرٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَظْهَرُوا،
مِنْهُمْ: يُونُسُ بْنُ فَرْوَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْفَيْضِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ الثُّغُورَ كُلَّهَا عَنِ الْجَزِيرَةِ
وَقِنَّسْرِينَ وَجَعَلَهَا حَيِّزًا وَاحِدًا، وَسُمِّيَتِ
الْعَوَاصِمَ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ طَرَسُوسَ عَلَى يَدَيْ فَرْجٍ
الْخَادِمِ التُّرْكِيِّ وَنَزَلَهَا النَّاسُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، وَقَسَمَ بِالْحَرَمَيْنِ عَطَاءً
كَثِيرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ غَزَا الصَّائِفَةَ بِنَفْسِهِ، وَغَزَا
الصَّائِفَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَائِيُّ.
وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُثَمَ،
وَعَلَى الْكُوفَةِ: مُوسَى بْنُ عِيسَى وَعَلَى الْبَصْرَةِ
وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ وَعُمَّانَ وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ:
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلَى خُرَاسَانَ:
الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ: عَبْدُ
الْمَلِكِ.
(5/275)
وَفِيهَا أَوْقَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ بِبَرَابِرِ نَفْزَةَ،
فَأَذَلَّهُمْ، وَقَتَلَ فِيهِمْ.
وَفِيهَا أَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِبِنَاءِ جَامِعِ قُرْطُبَةَ،
وَكَانَ مَوْضِعَهُ كَنِيسَةٌ وَأَخْرَجَ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ.
(5/276)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ]
171 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ
وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ (وَمِائَةٍ، وَهُوَ أَصَحُّ) .
وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ دِمَشْقَ، وَقِيلَ بِالْعَلْيَاءِ مِنْ
نَاحِيَةِ تَدْمُرَ، سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ
مَوْتُهُ بِقُرْطُبَةَ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَهِدَ إِلَى
ابْنِهِ هِشَامٍ، وَكَانَ هِشَامٌ بِمَدِينَةِ مَارِدَةَ وَالِيًا
عَلَيْهَا، وَكَانَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
وَهُوَ الْأَكْبَرُ، بِطُلَيْطِلَةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَلَمْ
يَحْضُرَا مَوْتَ أَبِيهِمَا، وَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ
بِالْبَلَنْسِيِّ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِأَخِيهِ هِشَامٍ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ بِنَعْيِ أَبِيهِ وَبِالْإِمَارَةِ، فَسَارَ إِلَى
قُرْطُبَةَ.
وَكَانَتْ دَوْلَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا، وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا الْمُطَرِّفِ، وَقِيلَ: أَبَا
سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: أَبَا زَيْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ:
أَحَدَ عَشَرَ ذَكَرًا، وَتِسْعَ بَنَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
بَرْبَرِيَّةً مِنْ سَبْيِ إِفْرِيقِيَّةَ.
وَكَانَ أَصْهَبَ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ،
نَحِيفَ الْجِسْمِ، أَعْوَرَ لَهُ ضَفِيرَتَانِ.
وَكَانَ فَصِيحًا لَسِنًا، شَاعِرًا، حَلِيمًا، عَالِمًا حَازِمًا،
سَرِيعَ النَّهْضَةِ فِي طَلَبِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ، لَا يَخْلُدُ
إِلَى رَاحَةٍ، (وَلَا يَسْكُنُ إِلَى دَعَةٍ، وَلَا يَكِلُ الْأُمُورَ
إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا
(5/277)
يَنْفَرِدُ فِي الْأُمُورِ بِرَأْيِهِ،
شُجَاعًا مِقْدَامًا بَعِيدَ الْغَوْرِ) ، شَدِيدَ الْحَذَرِ،
سَخِيًّا، جَوَادًا، يُكْثِرُ لُبْسَ الْبَيَاضِ، وَكَانَ يُقَاسُ
بِالْمَنْصُورِ فِي حَزْمِهِ وَشِدَّتِهِ، وَضَبْطِ الْمَمْلَكَةِ.
(وَبَنَى الرُّصَافَةَ بِقُرْطُبَةَ تَشَبُّهًا بِجَدِّهِ هِشَامٍ
حَيْثُ بَنَى الرُّصَافَةَ بِالشَّامِ، وَلَمَّا سَكَنَهَا رَأَى
فِيهَا نَخْلَةً مُنْفَرِدَةً، فَقَالَ:
تَبَدَّتْ لَنَا وَسْطَ الرُّصَافَةِ نَخْلَةٌ ... تَنَاءَتْ بِأَرْضِ
الْغَرْبِ عَنْ بَلَدِ النَّخْلِ
فَقُلْتُ: شَبِيهِي فِي التَّغَرُّبِ وَالنَّوَى ... وَطُولِ
التَّنَائِي عَنْ بَنِيَّ وَعَنْ أَهْلِي
نَشَأْتِ بِأَرْضٍ أَنْتِ فِيهَا غَرِيبَةٌ ... فَمِثْلُكِ فِي
الْإِقْصَاءِ وَالْمُنْتَأَى مِثْلِي
سَقَتْكِ غَوَادِي الْمُزْنِ مِنْ صَوْبِهَا الَّذِي ... يَسِحُّ
وَيَسْتَمْرِي السِّمَاكَيْنِ بِالْوَبْلِ
وَقَصَدَهُ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَمِنَ الْمَشْهُورِينَ:
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ قُعْدُدُ بَنِي
أُمَيَّةَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ قَطْعِ الدَّعْوَةِ
الْعَبَّاسِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ
مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا لَهُ) .
ذِكْرُ إِمَارَةِ ابْنِهِ هِشَامٍ
كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ هِشَامٍ، وَلَمْ
يَكُنْ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ،
وَإِنَّمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ الشَّهَامَةَ، وَالِاضْطِلَاعَ
بِهَذَا الْأَمْرِ، فَلِهَذَا عَهِدَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كَانَ هُوَ بِمَارِدَةَ مُتَوَلِّيًا
لَهَا، وَنَاظِرًا فِي أَمْرِهَا، وَكَانَ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، وَهُوَ
أَكْبَرُ مِنْهُ، بِمَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ، وَكَانَ يَرُومُ الْأَمْرَ
لِنَفْسِهِ، وَيَحْسُدُ أَخَاهُ هِشَامًا عَلَى تَقْدِيمِ وَالِدِهِ
لَهُ عَلَيْهِ، وَأَضْمَرَ لَهُ الْغِشَّ وَالْعِصْيَانَ، وَكَانَ
أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِالْبَلَنْسِيِّ حَاضِرًا
بِقُرْطُبَةَ عِنْدَ وَالِدِهِ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَدَّدَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْعَةَ لِأَخِيهِ
هِشَامٍ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى عَلَى
(5/278)
وَالِدِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ هِشَامً
يُعَرِّفُهُ مَوْتَ وَالِدِهِ، وَالْبَيْعَةَ لَهُ، فَسَارَ مِنْ
سَاعَتِهِ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَدَخَلَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ،
وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى دَارِهِ،
مُظْهِرًا لِطَاعَتِهِ، وَفِي نَفْسِهِ غَيْرُ هَذَا، وَسَنَذْكُرُ مَا
كَانَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ الصَّحْصَحِ الْخَارِجِيِّ
وَفِيهَا خَرَجَ الصَّحْصَحُ الْخَارِجِيُّ بِالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ
عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَوَجَّهَ عَسْكَرًا إِلَى الصَّحْصَحِ،
فَلَقُوهُ، فَهَزَمَهُمْ، وَسَارَ الصَّحْصَحُ إِلَى الْمَوْصِلِ
فَلَقِيَهُ عَسْكَرُهَا بِبَاجَرْمَى، فَقَتَلَ مِنْهُمْ كَثِيرًا،
وَرَجَعَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَغَلَبَ عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ،
فَسَيَّرَ الرَّشِيدُ إِلَيْهِ جَيْشًا بِدُورَيْنِ، فَقَتَلُوهُ،
وَعَزَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ الْجَزِيرَةِ.
ذِكْرُ قَتْلِ رَوْحِ بْنِ صَالِحٍ
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ
رَوْحَ بْنَ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَهُوَ مِنْ قُوَّادِ
الْمَوْصِلِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَغْلِبَ خِلَافٌ، فَجَمَعَ
جَمْعًا، وَقَصَدَهُمْ، فَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ، فَاجْتَمَعُوا،
وَسَارُوا إِلَى رَوْحٍ فَبَيَّتُوهُ، فَقُتِلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَسَمِعَ حَاتِمُ بْنُ صَالِحٍ، وَهُوَ بِالسُّكَيْرِ،
فَجَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ إِلَى تَغْلِبَ، فَبَيَّتَهُمْ،
وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِثْلَهُمْ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ
الْهَاشِمِيَّ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا إِسْحَاقَ
بْنَ مُحَمَّدٍ.
ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ رَوْحَ بْنَ
حَاتِمِ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، لَمَّا
بَلَغَهُ وَفَاةُ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ بِهَا، عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ، فَقَدِمَهَا فِي رَجَبٍ، وَكَانَ دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ
أَخِيهِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَ عَمُّهُ رَوْحٌ سَارَ
دَاوُدُ إِلَى الرَّشِيدِ، فَاسْتَعْمَلَهُ.
قَالَ رَوْحٌ: كُنْتُ عَامِلًا عَلَى فَلَسْطِينَ، فَأَحْضَرَنِي
الرَّشِيدُ، فَوَصَلْتُ وَقَدْ بَلَغَهُ مَوْتُ أَخِي يَزِيدَ،
فَقَالَ: أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَكَ فِي أَخِيكَ، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ
مَكَانَهُ لِتَحْفَظَ صَنَائِعَهُ وَمَوَالِيَهُ.
(5/279)
فَسَارَ إِلَيْهَا، وَلَمْ تَزَلِ
الْبِلَادُ مَعَهُ آمِنَةً، سَاكِنَةً مِنْ فِتْنَةٍ، لِأَنَّ أَخَاهُ
يَزِيدَ كَانَ قَدْ أَكْثَرَ الْقَتْلَ فِي الْخَوَارِجِ
بِإِفْرِيقِيَّةَ فَذَلُّوا.
ثُمَّ تُوُفِّيَ رَوْحٌ بِالْقَيْرَوَانِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
قَبْرِ أَخِيهِ يَزِيدَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَلَمَّا اسْتَعْمَلَ الْمَنْصُورُ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ عَلَى
إِفْرِيقِيَّةَ، اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ رَوْحًا عَلَى السِّنْدِ فَقِيلَ
لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ بَاعَدْتَ مَا بَيْنَ
قَبْرَيْهِمَا، فَتُوُفِّيَ يَزِيدُ بِالْقَيْرَوَانِ، ثُمَّ وَلِيَهَا
رَوْحٌ، فَتُوُفِّيَ بِهَا وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ يَزِيدَ.
وَكَانَ رَوْحٌ أَشْهَرَ بِالشَّرْقِ مِنْ يَزِيدَ، وَيَزِيدُ أَشْهَرَ
بِالْغَرْبِ مِنْ رَوْحٍ لِطُولِ مُدَّةِ وِلَايَتِهِ، وَكَثْرَةِ
خُرُوجِهِ فِيهَا وَالْخَارِجِينَ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِيهَا قَدِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الطُّوسِيُّ مِنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ عَلَيْهَا
جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ
سَيَّرَ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ إِلَى كَابُلٍ، فَقَاتَلَ أَهْلَهَا
حَتَّى افْتَتَحَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ سَانَهَارَ، وَغَنِمَ مَا كَانَ
بِهَا.
وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَمَّدَ بْنَ فَرُّوخَ،
وَكَانَ عَلَى الْجَزِيرَةِ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ أَبَا
حَنِيفَةَ حَرْبَ بْنَ قَيْسٍ، فَأَحْضَرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ
وَقَتَلَهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ بِإِخْرَاجِ الطَّالِبِيِّينَ مِنْ
بَغْدَاذَ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خَلَا الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ [عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ] .
وَفِيهَا خَرَجَ الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرُورِيُّ فَقَتَلَهُ
أَبُو خَالِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ.
(5/280)
وَفِيهَا قَدِمَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ
إِفْرِيقِيَّةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَذِهِ السَّنَةَ عَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
(5/281)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ]
172 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَلَى أَخِيهِمَا هِشَامٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ، خَرَجَ سُلَيْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ،
عَنْ طَاعَةِ أَخِيهِمَا هِشَامٍ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ هِشَامٌ
قَدْ مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ
لَهُ الْمُلْكُ كَانَ مَعَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ
بِالْبَلَنْسِيِّ، وَكَانَ هِشَامٌ يُؤْثِرُهُ وَيَبَرُّهُ
وَيُقَدِّمُهُ، فَلَمْ يَرْضَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا بِالْمُشَارَكَةِ
فِي أَمْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ خَافَ مِنْ أَخِيهِ هِشَامٍ، فَمَضَى هَارِبًا إِلَى
أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ بِطُلَيْطِلَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ
قُرْطُبَةَ أَرْسَلَ هِشَامٌ جَمْعًا فِي أَثَرِهِ لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ
يَلْحَقُوهُ، فَجَمَعَ هِشَامٌ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَى
طُلَيْطِلَةَ، فَحَصَرَ أَخَوَيْهِ بِهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ
جَمَعَ وَحَشَدَ خَلْقًا كَثِيرًا، فَلَمَّا حَصَرَهُمَا هِشَامٌ سَارَ
سُلَيْمَانُ مِنْ طُلَيْطِلَةَ وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ عَبْدَ
اللَّهِ يَحْفَظَانِ الْبَلَدَ، وَسَارَ هُوَ إِلَى قُرْطُبَةَ
لِيَمْلِكَهَا، فَعَلِمَ هِشَامٌ الْحَالَ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَلَا
فَارَقَ طُلَيْطِلَةَ بَلْ أَقَامَ يَحْصُرُهَا.
وَسَارَ سُلَيْمَانُ، فَوَصَلَ إِلَى شَقُنْدَةَ، فَدَخَلَهَا،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ قُرْطُبَةَ مُقَاتِلِينَ وَدَافِعِينَ عَنْ
أَنْفُسِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا سَيَّرَ فِي أَثَرِهِ ابْنَهُ عَمِيدَ الْمُلْكِ،
فِي قِطْعَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ مَضَى سُلَيْمَانُ
هَارِبًا، فَقَصَدَ مَدِينَةَ مَارِدَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْوَالِي
بِهَا لِهِشَامٍ، فَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ، وَبَقِيَ
هِشَامٌ عَلَى طُلَيْطِلَةَ شَهْرَيْنِ وَأَيَّامًا مُحَاصِرًا لَهَا
ثُمَّ عَادَ عَنْهَا، وَقَدْ قَطَعَ أَشْجَارَهَا، وَسَارَ إِلَى
قُرْطُبَةَ، فَأَتَاهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بِغَيْرِ أَمَانٍ،
فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَيَّرَ هِشَامٌ
ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى تُدْمِيرَ،
(5/282)
وَبِهَا سُلَيْمَانُ، فَحَارَبَهُ،
وَخَرَّبُوا أَعْمَالَ تُدْمِيرَ، وَدَوَّخُوا أَهْلَهَا وَمَنْ بِهَا،
وَبَلَغُوا الْبَحْرَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ مِنْ تُدْمِيرَ هَارِبًا،
فَلَجَأَ إِلَى الْبَرَابِرِ بِنَاحِيَةِ بَلَنْسِيَةَ، فَاعْتَصَمَ
بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ الْوَعْرَةِ الْمَسْلَكِ، فَعَادَ مُعَاوِيَةُ
إِلَى قُرْطُبَةَ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَالَ اسْتَقَرَّ بَيْنَ هِشَامٍ وَسُلَيْمَانَ أَنْ
يَأْخُذَ سُلَيْمَانُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ
وَيُفَارِقَ الْأَنْدَلُسَ، وَأَعْطَاهُ هِشَامٌ سِتِّينَ أَلْفَ
دِينَارٍ مُصَالَحَةً عَنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
فَسَارَ إِلَى بَلَدِ الْبَرَابِرِ فَأَقَامَ بِهِ.
ذِكْرُ خُرُوجِ جَمَاعَةٍ عَلَى هِشَامٍ أَيْضًا
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْأَنْدَلُسِ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ بِشَاغَنْتَ، مِنْ أَقَالِيمِ
طَرْطُوشَةَ، فِي شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدِ الْتَجَأَ
إِلَيْهَا حِينَ قُتِلَ أَبُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَدَعَا إِلَى
الْيَمَانِيَّةِ، وَتَعَصَّبَ لَهُمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَمَلَكَ مَدِينَةَ طَرْطُوشَةَ، وَأَخْرَجَ عَامِلَهُ
يُوسُفَ الْقَيْسِيَّ، فَعَارَضَهُ مُوسَى بْنُ فَرْتُونَ، وَقَامَ
بِدَعْوَةِ هِشَامٍ، وَوَافَقَتْهُ مُضَرُ، (فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ
سَعِيدٌ وَقُتِلَ وَسَارَ مُوسَى إِلَى سَرَقُسْطَةَ فَمَلَكَهَا،
فَخَرَجَ عَلَيْهِ مَوْلًى لِلْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى اسْمُهُ جَحْدَرُ
فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَقَاتَلَهُ وَقُتِلَ مُوسَى) .
وَخَرَجَ أَيْضًا مَطْرُوحُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَقْظَانَ
بِمَدِينَةِ بَرْشَلُونَةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَمَلَكَ
مَدِينَةَ سَرَقُسْطَةَ وَمَدِينَةَ وَشْقَةَ، وَتَغَلَّبَ عَلَى
تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ هِشَامٌ مَشْغُولًا
بِمُحَارَبَةِ أَخَوَيْهِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ إِسْحَاقَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ
الْمَوْصِلِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ سَلْمٍ الْبَاهِلِيَّ،
وَعَزَلَ الرَّشِيدُ يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدِ بْنِ زَائِدَةَ، وَهُوَ
ابْنُ أَخِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، عَنْ أَرْمِينِيَّةَ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَخَاهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَهْدِيِّ.
(5/283)
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ إِسْحَاقُ
بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَضَعَ الرَّشِيدُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْعُشْرَ الَّذِي
كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ النِّصْفِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ يَعْقُوبُ بْنُ الْمَنْصُورِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ، وَتُوُفِّيَ
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ.
(وَتُوُفِّيَ أَبُو يَزِيدَ رِيَاحُ بْنُ يَزِيدَ اللَّخْمِيُّ
الزَّاهِدُ، بِمَدِينَةِ الْقَيْرَوَانِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ)
.
(5/284)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ]
173 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ
بِالْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ مَنْ قَبَضَ تَرِكَتَهُ،
وَكَانَتْ عَظِيمَةً مِنَ الْمَالِ، وَالْمَتَاعِ، وَالدَّوَابِّ،
فَحَمَلُوا مِنْهُ مَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ، وَتَرَكُوا مَا لَا
يَصْلُحُ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخَذُوا سِتُّونَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَلَمَّا
قَدِمُوا بِذَلِكَ عَلَيْهِ أَطْلَقَ مِنْهُ لِلنُّدَمَاءِ
وَالْمُغَنِّينَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَفَعَ الْبَاقِي إِلَى
خِزَانَتِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِ الرَّشِيدِ تَرِكَتَهُ أَنَّ أَخَاهُ جَعْفَرَ
بْنَ سُلَيْمَانَ كَانَ يَسْعَى بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ حَسَدًا لَهُ،
وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا ضَيْعَةَ إِلَّا وَقَدْ
أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى مَا تُحَدِّثُ
بِهِ نَفْسُهُ، يَعْنِي الْخِلَافَةَ.
وَإِنَّ أَمْوَالَهُ حِلٌّ طِلْقٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ
الرَّشِيدُ يَأْمُرُ بِالِاحْتِفَاظِ بِكُتُبِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ (أُخْرِجَتْ كُتُبُهُ إِلَى جَعْفَرٍ)
أَخِيهِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ
لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ غَيْرَ جَعْفَرٍ، فَأَقَرَّ بِهَا، فَلِهَذَا
قُبِضَتْ أَمْوَالُهُ.
[وَفَاةُ الْخَيْزُرَانِ] وَفِيهَا مَاتَتِ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ
الرَّشِيدِ، فَحَمَلَ الرَّشِيدُ جَنَازَتَهَا، وَدَفَنَهَا فِي
مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، وَلَمَّا فَرَغَ أَعْطَى الْخَاتَمَ الْفَضْلَ
بْنَ الرَّبِيعِ، وَأَخَذَهُ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ.
(5/285)
وَفِيهَا اسْتَقْدَمَ الرَّشِيدُ جَعْفَرَ
بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَيْهَا ابْنَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ
الرَّشِيدُ، أَحْرَمَ مِنْ بَغْدَاذَ.
[الْوَفَيَاتُ]
(وَفِيهَا مَاتَ مُورْقَاطُ مَلِكُ جِلِّيقِيَّةَ، مِنْ بِلَادِ
الْأَنْدَلُسِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ بُرْمُنْدُ بْنُ قُلُورِيَةَ
الْقِسُّ ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنَ الْمُلْكِ، وَتَرَهَّبَ، وَجَعَلَ ابْنَ
أَخِيهِ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيهِ سَنَةَ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ) .
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ (بِتَشْدِيدِ
اللَّامِ) ، وَجُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءِ بْنِ عُبَيْدٍ
الْبَصْرِيُّ، وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَسْمَاءٍ الْفَزَارِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ
بِمَكَّةَ فُجَاءَةً.
(5/286)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ]
174 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَعْمَلَ الرَّشِيدُ إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَلَى
السِّنْدِ وَمُكْرَانَ.
وَفِيهَا اسْتَقْضَى الرَّشِيدُ يُوسُفَ بْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَأَبُوهُ
حَيٌّ.
وَفِيهَا هَلَكَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، وَسَارَ الرَّشِيدُ آلَ
الْجُودِيِّ، وَنَزَلَ بِقَرْدَى وَبَازَبْدَى مِنْ أَعْمَالِ
جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَابْتَنَى بِهَا قَصْرًا.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، فَقَسَمَ فِي النَّاسِ مَالًا
كَثِيرًا.
وَفِيهَا عُزِلَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ قَضَاءِ الْمَوْصِلِ،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ الدُّولَابِيُّ.
(5/287)
|