الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة]
385 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى خُرَاسَانَ.
لَمَّا عَادَ الْأَمِيرُ نُوحٌ إِلَى بُخَارَى، وَسُبُكْتِكِينُ إِلَى
هَرَاةَ، وَبَقِيَ مَحْمُودٌ بِنَيْسَابُورَ، طَمِعَ أَبُو عَلِيٍّ
وَفَائِقٌ فِي خُرَاسَانَ، فَسَارَا عَنْ جُرْجَانَ إِلَى نَيْسَابُورَ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا بَلَغَ مَحْمُودًا خَبَرُهُمَا
كَتَبَ إِلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، وَبَرَزَ هُوَ فَنَزَلَ بِظَاهِرِ
نَيْسَابُورَ وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ الْمَدَدَ، فَأَعْجَلَاهُ فَصَبَرَ
لَهُمَا فَقَاتَلَاهُ، وَكَانَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ
فَانْهَزَمَ عَنْهُمَا نَحْوَ أَبِيهِ، وَغَنِمَ أَصْحَابُهُمَا مِنْهُ
شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَشَارَ أَصْحَابُ أَبِي عَلِيٍّ عَلَيْهِ
بِاتِّبَاعِهِ وَإِعْجَالِهِ وَوَالِدِهِ عَنِ الْجَمْعِ
وَالِاحْتِشَادِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَقَامَ بِنَيْسَابُورَ وَكَاتَبَ
الْأَمِيرَ نُوحًا يَسْتَمِيلُهُ وَيَسْتَقِيلُ مِنْ عَثْرَتِهِ
وَزَلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ كَاتَبَ سُبُكْتِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ،
وَأَحَالَ بِمَا جَرَى عَلَى فَائِقٍ فَلَمْ يُجِيبَاهُ إِلَى مَا
أَرَادَ.
وَجَمَعَ سُبُكْتِكِينُ الْعَسَاكِرَ فَأَتَوْهُ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ
وَذَلُولٍ وَسَارَ نَحْوَ أَبِي عَلِيٍّ فَالْتَقَوْا بِطُوسَ فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ فَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ، وَأَتَاهُمْ
مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ مِنْ وَرَائِهِمْ،
فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَجَا
أَبُو عَلِيٍّ وَفَائِقٌ فَقَصَدَا أَبِيوَرْدَ، فَتَبِعَهُمْ
سُبُكْتِكِينُ وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ مَحْمُودًا بِنَيْسَابُورَ،
فَقَصَدَا مَرْوَ ثُمَّ آمُلَ الشَّطِّ، وَرَاسَلَا الْأَمِيرَ نُوحًا
يَسْتَعْطِفَانِهِ، فَأَجَابَ أَبَا عَلِيٍّ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْ
قَبُولِ عُذْرِهِ إِنْ فَارَقَا فَائِقًا وَنَزَلَا
بِالْجُرْجَانِيَّةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَحَذَّرَهُ فَائِقٌ،
وَخَوَّفَهُ مِنْ مَكِيدَتِهِمْ بِهِ وَمَكْرِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتْ
لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَفَارَقَ فَائِقًا
(7/467)
وَسَارَ نَحْوَ الْجُرْجَانِيَّةِ وَنَزَلَ
بِقَرْيَةٍ بِقُرْبِ خُوَارَزْمَ تُسَمَّى هِزَارَ أَسْبَ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خُوَارَزْمُشَاهْ مَنْ أَقَامَ لَهُ
ضِيَافَةً، وَوَعَدَهُ أَنْ يَقْصِدَهُ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَسَكَنَ
إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
خُوَارَزْمُشَاهْ جَمْعًا مِنْ عَسْكَرِهِ فَأَحَاطُوا بِهِ
وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَاعْتَقَلَهُ فِي بَعْضِ دُورِهِ، وَطَلَبَ أَصْحَابَهُ فَأَسَرَ
أَعْيَانَهُمْ وَتَفَرَّقَ الْبَاقُونَ.
وَأَمَّا فَائِقٌ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى أَيْلَكَ خَانْ بِمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَوَعَدَهُ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى
قَاعِدَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَى نُوحٍ يَشْفَعُ فِي فَائِقٍ، وَأَنْ
يُوَلَّى سَمَرْقَنْدَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَقَامَ بِهَا.
ذِكْرُ خَلَاصِ أَبِي عَلِيٍّ وَقَتْلِ خُوَارَزْمَشَاهْ
لَمَّا أُسِرَ أَبُو عَلِيٍّ بَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى مَأْمُونِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، وَالِي الْجُرْجَانِيَّةِ، فَقَلِقَ لِذَلِكَ وَعَظُمَ
عَلَيْهِ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ نَحْوَ خُوَارَزْمَشَاهْ،
وَعَبَرَ إِلَى كَاثَ، وَهِيَ مَدِينَةُ خُوَارَزْمَشَاهْ،
فَحَصَرُوهَا وَقَاتَلُوهَا، وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً، وَأَسَرُوا أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ خُوَارَزْمَشَاهْ، وَأَحْضَرُوا أَبَا عَلِيٍّ
فَفَكُّوا عَنْهُ قَيْدَهُ وَأَخَذُوهُ وَعَادُوا إِلَى
الْجُرْجَانِيَّةِ، وَاسْتَخْلَفَ مَأْمُونٌ بِخُوَارَزْمَ بَعْضَ
أَصْحَابِهِ، وَصَارَتْ [فِي] جُمْلَةِ مَا بِيَدِهِ، وَأَحْضَرَ
خُوَارَزْمَشَاهْ وَقَتَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَلِيٍّ سِيمْجُورَ.
ذِكْرُ قَبْضِ أَبِي عَلِيٍّ سِيمْجُورَ وَمَوْتِهِ
لَمَّا حَصَلَ أَبُو عَلِيٍّ عِنْدَ مَأْمُونِ بْنِ مُحَمَّدٍ
بِالْجُرْجَانِيَّةِ كَتَبَ إِلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ يَشْفَعُ فِيهِ،
وَيَسْأَلُ الصَّفْحَ عَنْهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَبَا
عَلِيٍّ بِالْمَسِيرِ إِلَى بُخَارَى، فَسَارَ إِلَيْهَا فِيمَنْ
بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغُوا
بُخَارَى لَقِيَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ.
(7/468)
وَبَلَغَ سُبُكْتِكِتِينَ أَنَّ ابْنَ
عُزَيْرٍ، وَزِيرَ الْأَمِيرِ نُوحٍ، يَسْعَى فِي خَلَاصِ أَبِي
عَلِيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ (يَطْلُبُ أَبَا عَلِيٍّ إِلَيْهِ) ،
فَحَبَسَهُ، فَمَاتَ فِي حَبْسِهِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ، (وَآخِرَ حَالِ)
بَيْتِ سِيمْجُورَ جَزَاءً لِكُفْرَانِ إِحْسَانِ مَوْلَاهُمْ،
فَتَبَارَكَ الْحَيُّ الدَّائِمُ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ
مُلْكُهُ.
وَكَانَ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ قَدْ لَحِقَ بِفَخْرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ بُوَيْهٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، فَسَارَ عَنْهُ
سِرًّا إِلَى خُرَاسَانَ لِهَوًى كَانَ لَهُ بِهَا، وَظَنَّ أَنَّ
أَمْرَهُ يَخْفَى، فَظَهَرَ حَالُهُ، فَأُخِذَ أَسِيرًا وَسُجِنَ
عِنْدَ وَالِدِهِ.
وَأَمَّا أَبُو الْقَاسِمِ أَخُو أَبِي عَلِيٍّ فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي
خِدْمَةِ سُبُكْتِكِينَ مُدَّةً يَسِيرَةً، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ
خِلَافُ الطَّاعَةِ، وَقَصَدَ نَيْسَابُورَ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا
أَرَادَ، وَعَادَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ
مِنْهُ وَقَصَدَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ، وَسَيَرِدُ
بَاقِي أَخْبَارِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ وَفَاةِ الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ
بْنُ عَبَّادٍ، وَزِيرُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بِالرَّيِّ، وَكَانَ
وَاحِدَ زَمَانِهِ عِلْمًا وَفَضْلًا، وَتَدْبِيرًا، وَجَوْدَةَ
رَأْيٍ، وَكَرَمًا، عَالِمًا بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَعَارِفًا
بِالْكِتَابَةِ وَمَوَادِّهَا، وَرَسَائِلُهُ مَشْهُورَةٌ مُدَوَّنَةٌ،
وَجَمَعَ مِنَ الْكُتُبِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُ، حَتَّى إِنَّهُ
كَانَ يَحْتَاجُ فِي نَقْلِهَا إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ جَمَلٍ.
وَلَمَّا مَاتَ وَزَرَ بَعْدَهُ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الضَّبِّيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالْكَافِي.
وَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ: قَدْ
خَدَمْتُكَ خِدْمَةً اسْتَفْرَغْتُ فِيهَا وُسْعِي
(7/469)
وَسِرْتُ سَيْرَةً جَلَبَتْ لَكَ حُسْنَ
الذِّكْرِ، فَإِنْ أَجْرَيْتَ الْأُمُورَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ
نُسِبَ ذَلِكَ الْجَمِيلُ إِلَيْكَ وَتُرِكْتُ أَنَا، وَإِنْ عَدَلْتَ
عَنْهُ كُنْتُ أَنَا الْمَشْكُورُ وَنُسِبَتِ الطَّرِيقَةُ
الثَّانِيَةُ إِلَيْكَ وَقَدَحَ ذَلِكَ فِي دَوْلَتِكَ. فَكَانَ هَذَا
نُصْحَهُ لَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَنْفَذَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مَنِ احْتَاطَ عَلَى
مَالِهِ وَدَارِهِ، وَنَقَلَ جَمِيعَ مَا فِيهَا إِلَيْهِ، فَقَبَّحَ
اللَّهُ خِدْمَةَ الْمُلُوكِ، هَذَا فِعْلُهُمْ مَعَ مَنْ نَصَحَ
لَهُمْ، فَكَيْفَ مَعَ غَيْرِهِ.
وَنُقِلَ الصَّاحِبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَثِيرٌ مَا
بَيْنَ فِعْلِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّادٍ وَبَيْنَ
الْعَزِيزِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ مَعَ وَزِيرِهِ يَعْقُوبَ بْنِ
كِلِّسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَكَانَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ قَدْ أَحْسَنَ إِلَى الْقَاضِي
عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ وَقَدَّمَهُ،
وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الرَّيِّ وَأَعْمَالَهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَالَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا أَرَى التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ
عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ، فَنُسِبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ
إِلَى قِلَّةِ الْوَفَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ قَبَضَ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ
وَصَادَرَهُ، فَبَاعَ فِي جُمْلَةِ مَا بَاعَ أَلْفَ طَيْلَسَانٍ،
وَأَلْفَ ثَوْبٍ صُوفٍ رَفِيعٍ، فَلِمَ لَا نَظَرَ لِنَفْسِهِ، وَتَابَ
عَنْ أَخْذِ مِثْلِ هَذَا وَاذِّخَارِهِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ؟ .
ثُمَّ إِنَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ قَبَضَ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّادٍ
وَأَبْطَلَ كُلَّ مُسَامَحَةٍ كَانَتْ مِنْهُ، وَقَرَّرَ هُوَ
وَوُزَرَاؤُهُ الْمُصَادَرَاتِ فِي الْبِلَادِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ
مِنْهَا كَثِيرٌ، ثُمَّ تَمَزَّقَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي أَقْرَبِ
مُدَّةٍ، وَحَصَلَ بِالْوِزْرِ وَسُوءِ الذِّكْرِ.
ذِكْرُ إِيقَاعِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِالْأَتْرَاكِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِ مَنْ
بِفَارِسَ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَهَرَبَ
الْبَاقُونَ فَعَاثُوا فِي الْبِلَادِ وَانْصَرَفُوا إِلَى كَرْمَانَ
ثُمَّ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ السِّنْدِ، وَاسْتَأْذَنُوا مَلِكَهَا فِي
دُخُولِ بِلَادِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَخَرَجَ إِلَى تَلَقِّيهِمْ
وَوَافَقَ
(7/470)
أَصْحَابُهُ عَلَى الْإِيقَاعِ بِهِمْ،
فَلَمَّا رَآهُمْ جَعَلَ أَصْحَابَهُ صَفَّيْنِ، فَلَمَّا حَصَلَ
الْأَتْرَاكُ فِي وَسَطِهِمْ أَطْبَقُوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوهُمْ
فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا نَفَرٌ جَرْحَى وَقَعُوا بَيْنَ
الْقَتْلَى وَهَرَبُوا تَحْتَ اللَّيْلِ
ذِكْرُ وَفَاةِ خُوَاشَاذَهْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ
بِالْبَطَائِحِ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ قُبِضَ،
وَكَاتَبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَصَمْصَامُ
الدَّوْلَةِ، وَبَدْرُ بْنُ حَسْنُوَيْهِ، كُلٌّ مِنْهُمْ
يَسْتَدْعِيهِ، وَيَبْذُلُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ، وَقَالَ لَهُ فَخْرُ
الدَّوْلَةِ: لَعَلَّكَ تُسِيءُ الظَّنَّ بِمَا قَدَّمْتَهُ فِي
خِدْمَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَمَا كُنَّا لِنُؤَاخِذَكَ بِطَاعَةِ
مَنْ قَدَّمَكَ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عَمِلْتُهُ مَعَ
الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ، وَتَرَكْنَا مَا فَعَلَهُ مَعَنَا. فَعَزَمَ
عَلَى قَصْدِهِ، فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ،
وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ، قُوَّادِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ.
ذِكْرُ عَوْدِ عَسْكَرِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرَهُ مِنَ
الدَّيْلَمِ وَرَدَّهُمْ إِلَى الْأَهْوَازِ مَعَ الْعَلَاءِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَاتُّفَقَ أَنَّ طُغَانَ، نَائِبَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
بِالْأَهْوَازِ، تُوُفِّيَ، وَعَزَمَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ
عَلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَكَتَبَ مَنْ هُنَاكَ إِلَى بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ بِالْخَبَرِ، فَأَقْلَقَهُ ذَلِكَ وَأَزْعَجَهُ، فَسَيَّرَ
أَبَا كَالِيجَارَ الْمَرْزُبَانَ بْنَ شَهْفِيرُوزَ إِلَى
الْأَهْوَازِ نَائِبًا عَنْهُ، وَأَنْفَذَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ
بْنَ مُكْرَمٍ إِلَى الْفَتْكِينِ، وَهُوَ بِرَامَهُرْمُزَ، قَدْ عَادَ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْ عَسْكَرِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ إِلَيْهَا،
يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ بِمَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَعَادَ إِلَى
الْأَهْوَازِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ
بِالنَّظَرِ فِي الْأَعْمَالِ، وَسَارَ بَعْدَهُمْ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ
نَحْوَ خُوزِسْتَانَ، فَكَاتَبَهُ الْعَلَاءُ، وَسَلَكَ طَرِيقَ
اللِّينِ، وَالْخِدَاعِ.
ثُمَّ سَارَ عَلَى نَهْرِ الْمَسْرُقَانِ إِلَى أَنْ حَصَلَ بِخَانِ
طُوقَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
مُكْرَمٍ وَالْفَتْكِينِ، وَزَحَفَ الدَّيْلَمُ بَيْنَ الْبَسَاتِينِ،
حَتَّى دَخَلُوا الْبَلَدَ، وَانْزَاحَ عَنْهُ ابْنُ مُكْرَمٍ
وَالْفَتْكِينُ، وَكَتَبَا إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يُشِيرَانِ
عَلَيْهِ بِالْعُبُورِ إِلَيْهَا فَتَوَقَّفَ عَنْ
(7/471)
ذَلِكَ وَوَعْدَهُمَا بِهِ وَسَيَّرَ
إِلَيْهِمَا ثَمَانِينَ غُلَامًا مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَعَبَرُوا
وَحَمَلُوا عَلَى الدَّيْلَمِ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَأَفْرَجَ لَهُمُ
الدَّيْلَمُ، فَلَمَّا (تَوَسَّطُوا بَيْنَهُمْ) أَطْبَقُوا عَلَيْهِمْ
فَقَتَلُوهُمْ.
فَلَمَّا عَرَفَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ
وَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ، وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ
بِإِسْرَاجِ الْخَيْلِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ
نَحْوَ الْأَهْوَازِ يَسِيرًا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَزَلَ
بِظَاهِرِهَا. فَلَمَّا عَرَفَ ابْنُ مُكْرَمٍ خَبَرَ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ عَادَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَتَبِعَهُمُ الْعَلَاءُ
وَالدَّيْلَمُ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا، فَنَزَلُوا بِرَامِلَانَ بَيْنَ
عَسْكَرِ مُكْرَمٍ وَتُسْتَرَ، وَتَكَرَّرَتِ الْوَقَائِعُ بَيْنَ
الْفَرِيقَيْنِ مُدَّةً.
وَكَانَ بِيَدِ الْأَتْرَاكِ، أَصْحَابِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ مِنْ
تُسْتَرَ إِلَى رَامَهُرْمُزَ وَمَعَ الدَّيْلَمِ مِنْهَا إِلَى
أَرَّجَانَ، وَأَقَامُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى
الْأَهْوَازِ، ثُمَّ عَبَرَ بِهِمُ النَّهْرَ إِلَى الدَّيْلَمِ،
وَاقْتَتَلُوا نَحْوَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَحَلَ الْأَتْرَاكُ
وَتَبِعَهُمُ الْعَلَاءُ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ سَلَكُوا طَرِيقَ وَاسِطَ،
فَكَفَّ عَنْهُمْ، وَأَقَامَ بِعَسْكَرِ مكْرَمٍ.
ذِكْرُ حَادِثَةٍ غَرِيبَةٍ بِالْأَنْدَلُسِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
عَامِرٍ، أَمِيرُ الْأَنْدَلُسِ لِهِشَامٍ الْمُؤَيَّدِ عَسْكَرًا
إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ لِلْغَزَاةِ، فَنَالُوا مِنْهُمْ
وَغَنِمُوا، وَأَوْغَلُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَسَرُوا غَرْسِيَّةَ،
وَهُوَ مَلِكٌ لِلْفِرِنْجِ ابْنُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ يُقَالُ
لَهُ شَانْجَةُ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِهِمْ وَأَمْنَعِهِمْ،
وَكَانَ مِنَ الْقَدَرِ أَنَّ شَاعِرًا لِلْمَنْصُورِ، يُقَالُ لَهُ
أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ الْحَسَنِ الرَّبَعِيُّ، قَدْ قَصَدَهُ
مِنْ بِلَادِ الْمَوْصِلِ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ وَامْتَدَحَهُ قَبْلَ
هَذَا التَّارِيخِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَهْدَى أَبُو الْعَلَاءِ
إِلَى الْمَنْصُورِ أُيَّلًا. وَكَتَبَ مَعَهُ أَبْيَاتًا مِنْهَا:
يَا حِرْزَ كُلِّ مُخَوَّفٍ وَأَمَانَ كُلِّ ... مُشَرَّدٍ وَمُعِزَّ
كُلِّ مُذَلَّلِ
جَدْوَاكَ إِنْ تُخْصَصْ بِهِ فَلِأَهْلِهِ ... وَتَعُمُّ
بِالْإِحْسَانِ كُلَّ مُؤَمِّلِ
(يَقُولُ فِيهَا) :
(7/472)
مَوْلَايَ مُؤْنِسَ غُرْبَتِي،
مُتَخَطِّفِي ... مِنْ ظُفْرِ أَيَّامِي، مُمَنِّعَ مَعْقِلِي
عَبْدٌ رَفَعْتَ بِضَبْعِهِ، وَغَرَسْتَهُ ... فِي نِعْمَةٍ أَهْدَى
إِلَيْكَ بِأَيَّلِ
سَمَّيْتُهُ غَرْسِيَّةَ، وَبَعَثْتُهُ ... فِي حَبْلِهِ لِيُتَاحَ
فِيهِ تَفَاؤُلِي
فَلَئِنْ قَبِلْتَ، فَتِلْكَ أَسْنَى نِعْمَةٍ ... أَسْدَى بِهَا ذُو
نِعْمَةٍ وَتَطَوُّلِ
فَسَمَّى هَذَا الشَّاعِرُ الْأَيَّلَ غَرْسِيَّةَ تُفَاؤُلًا بِأَسَرِ
ذَلِكَ غَرْسِيَّةَ، فَكَانَ أَسْرُهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَهْدَى
فِيهِ الْأَيَّلَ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الِاتِّفَاقِ مَا أَعْجَبَهُ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ الْأَبَرْقُوهِيُّ مِنَ الْبَطِيحَةِ إِلَى بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ، بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ خُوزِسْتَانَ وَكَانَ قَدِ
الْتَجَأَ إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ بَهَاءُ
الدَّوْلَةِ يَطْلُبُهُ لِيَسْتَوْزِرَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَلَمْ
يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَكَانَ الْفَاضِلُ،
وَزِيرُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، مَعَهُ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا عَلِمَ
الْحَالَ اسْتَأْذَنَ فِي الْإِصْعَادِ (إِلَى بَغْدَاذَ) ، فَأَذِنَ
لَهُ فَأَصْعَدَ، فَعَادَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَطَلَبَهُ لِيَرْجِعَ
إِلَيْهِ، فَغَالَطَهُ وَلَمْ يَعُدْ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ أَبُو حَفْصٍ
عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ شَاهِينَ الْوَاعِظِ، مَوْلِدُهُ فِي صَفَرَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ ثِقَةً.
وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيٍّ الْمَعْرُوفُ
بِالدَّارَقُطْنِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ.
(7/473)
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَكْرَةَ الْهَاشِمِيُّ
مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِاللَّهِ، وَكَانَ مُنْحَرِفًا
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ
خَبِيثَ اللِّسَانِ يُتَّقَى سَفَهُهُ، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ:
فِي وَجْهِ إِنْسَانَةٍ كَلِفْتُ بِهَا ... أَرْبَعَةٌ مَا اجْتَمَعْنَ
فِي أَحَدِ
الْوَجْهُ بَدْرٌ، وَالصُّدْغُ غَالِيَةٌ ... وَالرِّيقُ خَمْرٌ،
وَالثَّغْرُ مِنْ بَرَدِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، أَبُو
الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ، الزَّاهِدُ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَهُ
خَمْسٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
(7/474)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَثَلَاثِمِائَة]
386 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْحَاكِمِ
وَمَا كَانَ مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْعَزِيزُ أَبُو مَنْصُورٍ نِزَارُ
بْنُ الْمُعِزِّ أَبِي تَمِيمٍ مَعَدٍّ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ،
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَانِ
وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، بِمَدِينَةِ
بُلْبَيْسَ، وَكَانَ بَرَزَ إِلَيْهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، فَلَحِقَهُ
عِدَّةُ أَمْرَاضٍ مِنْهَا النِّقْرِسُ وَالْحَصَا وَالْقُولَنْجُ،
فَاتَّصَلَتْ بِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ
وَنِصْفًا، وَمَوْلِدُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ.
وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، أَصْهَبَ الشَّعْرِ، عَرِيضَ
الْمَنْكِبَيْنِ، عَارِفًا بِالْخَيْلِ وَالْجَوْهَرِ، قِيلَ إِنَّهُ
وَلَّى عِيسَى بْنَ نَسْطُورَسَ النَّصْرَانِيَّ كِتَابَتَهُ،
وَاسْتَنَابَ بِالشَّامِ يَهُودِيًّا اسْمُهُ مَنْشَا، فَاعْتَزَّ
بِهِمَا النَّصَارَى وَالْيَهُودُ، وَآذَوُا الْمُسْلِمِينَ، فَعَمَدَ
أَهْلُ مِصْرَ وَكَتَبُوا قِصَّةً وَجَعَلُوهَا فِي يَدِ صُورَةٍ
عَمِلُوهَا مِنْ قَرَاطِيسَ، فِيهَا: بِالَّذِي أَعَزَّ الْيَهُودَ
بِمَنْشَا وَالنَّصَارَى بِعِيسَى بْنِ نَسْطُورَسَ، وَأَذَلَّ
الْمُسْلِمِينَ بِكَ إِلَّا كَشَفْتَ ظُلَامَتِي، وَأَقْعَدُوا تِلْكَ
الصُّورَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَزِيزِ، وَالرُّقْعَةُ بِيَدِهَا،
فَلَمَّا رَآهَا أَمَرَ بِأَخْذِهَا، فَلَمَّا (قَرَأَ مَا فِيهَا) ،
(7/475)
وَرَأَى الصُّورَةَ مِنْ قَرَاطِيسَ،
عَلِمَ مَا أُرِيدُ بِذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمَا، وَأَخَذَ مِنْ
عِيسَى ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا
كَثِيرًا.
وَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَمِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ
كَانَ بِمِصْرَ شَاعِرٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الدِّمَشْقِيُّ،
وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ، فَهَجَا يَعْقُوبَ بْنَ كِلِّسٍ وَزِيرَ
الْعَزِيزِ وَكَاتِبَ الْإِنْشَاءِ مِنْ جِهَتِهِ أَبَا نَصْرٍ عَبْدَ
اللَّهِ الْحُسَيْنَ الْقَيْرَوَانِيَّ، فَقَالَ:
قُلْ لِأَبِي نَصْرٍ صَاحِبِ الْقَصْرِ ... وَالْمُتَأَتِّي لِنَقْضِ
ذَا الْأَمْرِ
انْقُضْ عُرَى الْمُلْكِ لِلْوَزِيرِ تَفُزْ ... مِنْهُ بِحُسْنِ
الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ
وَأَعْطِ، وَامْنَعْ، وَلَا تَخَفْ أَحَدًا ... فَصَاحِبُ الْقَصْرِ
لَيْسَ فِي الْقَصْرِ
وَلَيْسَ يَدْرِي مَاذَا يُرَادُ بِهِ ... وَهُوَ إِذَا مَا دَرَى،
فَمَا يَدْرِي
فَشَكَاهُ ابْنُ كِلِّسٍ إِلَى الْعَزِيزِ، وَأَنْشَدَهُ الشِّعْرَ
فَقَالَ لَهُ: هَذَا شَيْءٌ اشْتَرَكْنَا فِيهِ فِي الْهِجَاءِ
فَشَارِكْنِي فِي الْعَفْوِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ هَذَا الشَّاعِرُ
أَيْضًا وَعَرَّضَ بِالْفَضْلِ الْقَائِدِ:
تَنَصَّرْ، فَالتَّنَصُّرُ دِينُ حَقٍّ ... عَلَيْهِ زَمَانُنَا هَذَا
يَدُلُّ
وَقُلْ بِثَلَاثَةٍ عَزُّوا وَجَلُّوا ... وَعَطِّلْ مَا سِوَاهُمْ
فَهُوَ عُطْلُ
فَيَعْقُوبُ الْوَزِيرُ أَبٌ، وَهَذَا ... الْعَزِيزُ ابْنٌ، وَرُوحُ
الْقُدُسِ فَضْلُ
فَشَكَاهُ أَيْضًا إِلَى الْعَزِيزِ، فَامْتَعَضَ مِنْهُ إِلَّا
أَنَّهُ قَالَ: اعْفُ عَنْهُ فَعَفَا عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَ الْوَزِيرُ عَلَى الْعَزِيزِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ
لِلْعَفْوِ عَنْ هَذَا مَعْنًى، وَفِيهِ غَضٌّ مِنَ السِّيَاسَةِ،
وَنَقْضٌ لِهَيْبَةِ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَكَ وَذَكَرَنِي
وَذَكَرَ ابْنَ زَبَارِجَ نَدِيمَكَ، وَسَبَّكَ بِقَوْلِهِ:
زَبَارِجِيٌّ نَدِيمٌ وَكِلِّسِيٌّ وَزِيرُ ... نَعَمْ عَلَى قَدْرِ
الْكَلْبِ يَصْلُحُ السَّاجُورُ
فَغَضِبَ الْعَزِيزُ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ
عَلَيْهِ (لِوَقْتِهِ، ثُمَّ بَدَا لِلْعَزِيزِ إِطْلَاقُهُ) ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ لِلْوَزِيرِ عَيْنٌ فِي
الْقَصْرِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ.
(7/476)
فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ الْعَزِيزِ فِي
طَلَبِهِ أَرَاهُ رَأْسَهُ مَقْطُوعًا، فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ،
فَاغْتَمَّ لَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ الْعَزِيزُ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَلِيٍّ
الْمَنْصُورُ، وَلُقِّبَ الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، بِعَهْدٍ مِنْ
أَبِيهِ، فَوَلِيَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً (وَسِتَّةُ
أَشْهُرٍ) ، وَأَوْصَى الْعَزِيزُ إِلَى أَرْجُوَانَ الْخَادِمِ،
وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ دَارِهِ، وَجَعَلَهُ مُدَبِّرَ دَوْلَةِ
ابْنِهِ الْحَاكِمِ، فَقَامَ بِأَمْرِهِ، وَبَايَعَ لَهُ، وَأَخَذَ
لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ الْحَسَنُ بْنُ
عَمَّارٍ، شَيْخُ كُتَامَةَ وَسَيِّدُهَا، وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ،
وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَتَلَقَّبَ بِأَمِينِ الدَّوْلَةِ، هُوَ
أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّبَ فِي دَوْلَةِ الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ ثِقَاتُهُ بِقَتْلِ الْحَاكِمِ، وَقَالُوا: لَا
حَاجَةَ [بِنَا] إِلَى مَنْ يَتَعَبَّدُنَا، فَلَمْ يَفْعَلِ
احْتِقَارًا لَهُ، وَاسْتِصْغَارًا لِسِنِّهِ.
وَانْبَسَطَتْ كُتَامَةُ فِي الْبِلَادِ، وَحَكَمُوا فِيهَا، وَمَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَحَرِيمِهِمْ،
وَأَرْجُوَانُ مُقِيمٌ مَعَ الْحَاكِمِ فِي الْقَصْرِ يَحْرُسُهُ،
وَاتَّفَقَ مَعَهُ شُكْرٌ خَادِمُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ
ذَكَرْنَا قَبْضَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ وَمَسِيرَهُ إِلَى
مِصْرَ، فَلَمَّا اتَّفَقَا، وَصَارَتْ كَلِمَتُهُمَا وَاحِدَةً،
كَتَبَ أَرْجُوَانُ إِلَى مَنْجُوتِكِينَ يَشْكُو مَا (يَتِمُّ
عَلَيْهِ) مِنِ ابْنِ عَمَّارٍ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ
نَحْوَ مِصْرَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِ عَمَّارٍ، فَأَظْهَرُ
أَنَّ مَنْجُوتِكِينَ قَدْ عَصَى عَلَى الْحَاكِمِ، وَنَدَبَ
الْعَسَاكِرَ إِلَى قِتَالِهِ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا،
وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ أَبَا تَمِيمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ
فَلَاحٍ الْكُتَامِيَّ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فَلَقُوهُ بِعَسْقَلَانَ،
فَانْهَزَمَ مَنْجُوتِكِينُ وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَلْفَا
رَجُلٍ، وَأُسِرَ مَنْجُوتِكِينُ وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَبْقَى
عَلَيْهِ ابْنُ عَمَّارٍ، وَأَطْلَقَهُ اسْتِمَالَةً لِلْمَشَارِقَةِ
بِذَلِكَ.
وَاسْتَعْمَلَ ابْنُ عَمَّارٍ عَلَى الشَّامِ أَبَا تَمِيمٍ
الْكُتَامِيَّ، وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ، فَسَارَ إِلَى
طَبَرِيَةَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ عَلِيًّا،
فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ، فَكَاتَبَهُمْ أَبُو تَمِيمٍ
(7/477)
يَتَهَدَّدُهُمْ فَخَافُوا وَأَذْعَنُوا
بِالطَّاعَةِ، وَاعْتَذَرُوا مِنْ فِعْلِ سُفَهَائِهِمْ، وَخَرَجُوا
إِلَى عَلِيٍّ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ وَرَكِبَ وَدَخَلَ الْبَلَدَ
فَأَحْرَقَ وَقَتَلَ وَعَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو تَمِيمٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ
وَأَمَّنَهُمْ، وَأَطْلَقَ الْمُحَبَّسِينَ وَنَظَرَ فِي أَمْرِ
السَّاحِلِ، وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ عَلِيًّا عَلَى طَرَابُلُسَ،
وَعَزَلَ عَنْهَا جَيْشَ بْنَ الصَّمْصَامَةِ الْكُتَامِيَّ، فَمَضَى
إِلَى مِصْرَ، وَاجْتَمَعَ مَعَ أَرْجُوَانَ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ
عَمَّارٍ، فَانْتَهَزَ أَرْجُوَانُ الْفُرْصَةَ بِبُعْدِ كُتَامَةَ
عَنْ مِصْرَ مَعَ أَبِي تَمِيمٍ، فَوَضَعَ الْمَشَارِقَةَ عَلَى
الْفَتْكِ بِمَنْ بَقِيَ بِمِصْرَ مِنْهُمْ، وَبِابْنِ عَمَّارٍ
مَعَهُمْ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَمَّارٍ، فَعَمِلَ عَلَى الْإِيقَاعِ
بِأَرْجُوَانَ وَشُكْرٍ الْعَضُدِيِّ فَأَخْبَرَهُمَا عُيُونٌ لَهُمَا
عَلَى ابْنِ عَمَّارٍ بِذَلِكَ، فَاحْتَاطَا وَدَخَلَا قَصْرَ
الْحَاكِمِ بَاكِينَ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَاجْتَمَعَتِ
الْمَشَارِقَةُ، فَفَرَّقَ فِيهِمُ الْمَالَ، وَوَاقَعُوا ابْنَ
عَمَّارٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَانْهَزَمَ وَاخْتَفَى.
فَلَمَّا ظَفِرَ أَرْجُوَانُ أَظْهَرَ الْحَاكِمَ، وَأَجْلَسَهُ،
وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَكَتَبَ إِلَى وُجُوهِ الْقُوَّادِ
وَالنَّاسِ بِدِمَشْقَ بِالْإِيقَاعِ بِأَبِي تَمِيمٍ، فَلَمْ يَشْعُرْ
إِلَّا وَقَدْ هَجَمُوا عَلَيْهِ وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ، فَخَرَجَ
هَارِبًا، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ كُتَامَةَ، وَعَادَتِ
الْفِتْنَةُ بِدِمَشْقَ، وَاسْتَوْلَى الْأَحْدَاثُ.
ثُمَّ إِنَّ أَرْجُوَانَ أَذِنَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ فِي
الْخُرُوجِ مِنِ اسْتِتَارِهِ، وَأَجْرَاهُ عَلَى إِقْطَاعِهِ،
وَأَمَرَهُ بِإِغْلَاقِ بَابِهِ.
وَعَصَى أَهْلُ صُورَ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا مَلَّاحًا
يُعْرَفُ بِعِلَاقَةَ، وَعَصَى أَيْضًا الْمُفَرِّجُ بْنُ دَغْفَلِ
بْنِ الْجَرَّاحِ، وَنَزَلَ عَلَى الرَّمْلَةِ وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ.
(7/478)
وَاتُّفِقَ أَنَّ الدُّوقَسَ، صَاحِبَ
الرُّومِ، نَزَلَ عَلَى حِصْنِ أَفَامِيَةَ، فَأَخْرَجَ أَرْجُوَانُ
جَيْشَ ابْنِ الصَّمْصَامَةِ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ، فَسَارَ حَتَّى
نَزَلَ بِالرَّمْلَةِ، فَأَطَاعَهُ وَالِيهَا، وَظَفِرَ فِيهَا بِأَبِي
تَمِيمٍ فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى صُورَ،
وَعَلَيْهِمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَغَزَاهَا بَرًّا وَبَحْرًا. فَأَرْسَلَ
عِلَاقَةُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ فَسَيَّرَ إِلَيْهِ
عِدَّةَ مَرَاكِبَ مَشْحُونَةٍ بِالرِّجَالِ، فَالْتَقَوْا بِمَرَاكِبِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَ فَاقْتَتَلُوا، وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ،
وَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا
انْخَذَلَ أَهْلُ صُورَ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، وَنَهَبَهُ، وَأُخِذَتِ
الْأَمْوَالُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ جُنْدِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ فَتْحٍ
كَانَ عَلَى يَدِ أَرْجُوَانَ، وَأُخِذَ عِلَاقَةُ أَسِيرًا
فَسَيَّرَهُ إِلَى مِصْرَ، فَسُلِخَ وَصُلِبَ بِهَا، وَأَقَامَ
بِصُورَ، وَسَارَ جَيْشُ بْنِ الصَّمْصَامَةِ لِقَصْدِ الْمُفَرِّجِ
بْنِ دَغْفَلٍ، فَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، (وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ
الْعَفْوَ فَأَمَّنَهُ.
وَسَارَ جَيْشٌ أَيْضًا إِلَى عَسْكَرِ الرُّومِ) ، فَلَمَّا وَصَلَ
إِلَى دِمَشْقَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهَا مُذْعِنِينَ، فَأَحْسَنَ إِلَى
رُؤَسَاءِ الْأَحْدَاثِ، وَأَطْلَقَ الْمُؤَنَ، وَأَبَاحَ دَمَ كُلِّ
مَغْرِبِيٍّ يَتَعَرَّضُ لِأَهْلِهَا، فَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ.
وَسَارَ إِلَى أَفَامِيَةَ، فَصَافَّ الرُّومَ عِنْدَهَا، فَانْهَزَمَ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ، مَا عَدَا بِشَارَةَ الْإِخْشِيدِيَّ، فَإِنَّهُ
ثَبَتَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ. وَنَزَلَ الرُّومُ إِلَى سَوَادِ
الْمُسْلِمِينَ يَغْنَمُونَ مَا فِيهِ، وَالدُّوقَسُ وَاقِفٌ عَلَى
رَايَتِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَدُهُ وَعِدَّةُ غِلْمَانٍ،
فَقَصَدَهُ كُرْدِيٌّ يُعْرَفُ بِأَحْمَدَ بْنِ الضَّحَّاكِ، مِنْ
أَصْحَابِ بِشَارَةَ، وَمَعَهُ خَشَتٌ، فَظَنَّهُ الدُّوقَسُ
مُسْتَأْمَنًا، فَلَمْ
(7/479)
يَحْتَرِزُ مِنْهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ
حَمَلَ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ بِالْخَشَتِ فَقَتَلَهُ، فَصَاحَ
الْمُسْلِمُونَ: قُتِلَ عَدُوُّ اللَّهِ! وَعَادُوا وَنَزَلَ النَّصْرُ
عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ
عَظِيمَةٌ.
وَسَارَ جَيْشٌ إِلَى بَابِ أَنْطَاكِيَةَ يَغْنَمُ وَيَسْبِي
وَيَحْرِقُ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، وَكَانَ
الزَّمَانُ شِتَاءً، فَسَأَلَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ لِيَدْخُلَ الْبَلَدَ،
فَلَمْ يَفْعَلْ، وَنَزَلَ بِبَيْتِ لَهْيَا، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ
فِي أَهْلِ دِمَشْقَ، وَاسْتَخَصَّ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ،
وَاسْتَحْجَبَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَجَعَلَ يَبْسُطُ الطَّعَامَ كُلَّ
يَوْمٍ لَهُمْ وَلِمَنْ يَجِئُ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَكَانَ
يَحْضُرُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَأَشْيَاعِهِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَنْ
(يَحْضُرُوا إِلَى) حُجْرَةٍ لَهُ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهَا،
فَعَبَرَ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ
أَنَّ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ، إِذَا دَخَلُوا الْحُجْرَةَ لِغَسْلِ
أَيْدِيهِمْ، أَنْ يُغْلِقُوا بَابَ الْحُجْرَةِ عَلَيْهِمْ،
وَيَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ
حَضَرُوا الطَّعَامَ، وَقَامَ الرُّؤَسَاءُ إِلَى الْحُجْرَةِ،
فَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ
نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فَطَافَهَا،
فَاسْتَغَاثَ النَّاسُ وَسَأَلُوهُ الْعَفْوَ وَعَفَا عَنْهُمْ،
وَأَحْضَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا، وَقَتَلَ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَسَيَّرَ الْأَشْرَافَ إِلَى مِصْرَ، وَأَخَذَ
أَمْوَالَهُمْ وَنِعَمَهُمْ، ثُمَّ مَرِضَ بِالْبَوَاسِيرِ وَشِدَّةِ
الضَّرَبَانِ فَمَاتَ.
وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ هَذِهِ
تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِنَّ أَرْجُوَانَ بَعْدَ هَذِهِ
الْحَادِثَةِ رَاسَلَ بَسِيلَ مَلِكَ الرُّومِ وَهَادَنَهُ عَشْرَ
سِنِينَ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدِ أَرْجُوَانَ. وَسَيَّرَ
أَيْضًا جَيْشًا إِلَى بَرْقَةَ، وَطَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فَفَتَحَهَا،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَنَسًا الصَّقْلَبِيَّ وَنَصَحَ الْحَاكِمَ،
وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ، وَلَازَمَ خِدْمَتَهُ فَثَقُلَ مَكَانُهُ عَلَى
الْحَاكِمِ، فَقَتَلَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ]
.
(7/480)
وَكَانَ خَصِيًّا أَبْيَضَ، وَكَانَ
لِأَرْجُوَانَ وَزِيرٌ نَصْرَانِيٌّ اسْمُهُ (فَهْدُ بْنُ)
إِبْرَاهِيمَ، فَاسْتَوْزَرَهُ الْحَاكِمُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ
رَتَّبَ الْحُسَيْنَ بْنَ جَوْهَرٍ مَوْضِعَ أَرْجُوَانَ، وَلَقَّبَهُ
قَائِدَ الْقُوَّادِ ثُمَّ قَتَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَمَّارٍ،
الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ جَوْهَرٍ،
وَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ الْوَزِيرَ بَعْدَ الْوَزِيرِ وَيَقْتُلُهُمْ.
ثُمَّ جَهَّزَ يَارَخْتِكِينَ لِلْمَسِيرِ إِلَى حَلَبَ، وَحَصَرَهَا،
وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ، فَسَارَ عَنْهَا،
فَخَافَهُ حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الطَّائِيُّ، فَلَمَّا رَحَلَ
مِنْ غَزَّةَ إِلَى عَسْقَلَانَ كَمَنَ لَهُ حَسَّانٌ وَوَالِدُهُ،
وَأَوْقَعَا بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ، وَأَسَرَاهُ وَقَتَلَاهُ، وَقُتِلَ
مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَتْلَى كَثِيرٌ، وَحَصَرَا الرَّمْلَةَ،
وَنَهَبَا النَّوَاحِيَ، وَكَثُرَ جَمْعُهُمَا، وَمَلَكَا الرَّمْلَةَ
وَمَا وَالَاهَا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ، وَأَرْسَلَ
يُعَاتِبُهُمَا، وَسَبَقَ السَّيْفُ الْعَذَلَ، فَأَرْسَلَا إِلَى
الشَّرِيفِ أَبِي الْفُتُوحِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيِّ
الْحَسَنِيِّ، أَمِيرِ مَكَّةَ، وَخَاطَبَاهُ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَطَلَبَاهُ إِلَيْهِمَا لِيُبَايِعَا لَهُ
بِالْخِلَافَةِ، فَحَضَرَ، وَاسْتَنَابَ بِمَكَّةَ، وَخُوطِبَ
بِالْخِلَافَةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ رَاسَلَ حَسَّانًا وَأَبَاهُ، وَضَمِنَ لَهُمَا
الْأَقْطَاعَ الْكَثِيرَةَ وَالْعَطَاءَ الْجَزِيلَ،
وَاسْتَمَالَهُمَا، فَعَدَلَا عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ، وَرَدَّاهُ إِلَى
مَكَّةَ، وَعَادَا إِلَى طَاعَةِ الْحَاكِمِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ جَهَّزَ عَسْكَرًا إِلَى الشَّامِ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ،
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ أَزَاحَ حَسَّانَ بْنَ الْمُفَرِّجِ
وَعَشِيرَتَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ
الْحُصُونِ بِجَبَلِ الشَّرَّانِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَمْوَالِهِ
وَذَخَائِرِهِ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَوَصَلَ
إِلَيْهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
(7/481)
وَأَمَّا حَسَّانٌ فَإِنَّهُ بَقِيَ
شَرِيدًا نَحْوُ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ وَالِدَهُ إِلَى
الْحَاكِمِ فَأَمَّنَهُ وَأَقْطَعُهُ، فَسَارَ حَسَّانٌ إِلَيْهِ
بِمِصْرَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمُفَرِّجُ
وَالِدُ حَسَّانٍ قَدْ تُوُفِّيَ مَسْمُومًا، وَضَعَ الْحَاكِمُ
عَلَيْهِ مَنْ سَمَّهُ، فَبِمَوْتِهِ ضَعُفَ أَمْرُ حَسَّانٍ عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ.
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قَائِدٌ كَبِيرٌ مِنْ قُوَّادِ صَمْصَامِ
الدَّوْلَةِ، اسْمُهُ لَشُكْرِسْتَانُ، إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَجْلَى
عَنْهَا نُوَّابَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَتْرَاكَ لَمَّا عَادُوا عَنِ الْعَلَاءِ،
كَمَا ذَكَرْنَاهُ، كَانَ لَشُكْرِسْتَانُ هَذَا مَعَ الْعَلَاءِ،
فَأَتَاهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ الَّذِينَ مَعَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ مُسْتَأْمَنِينَ، فَأَخَذَهُمْ
لَشُكْرِسْتَانُ، وَسَارَ بِهِمْ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ،
فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَنَزَلُوا قُرْبَ الْبَصْرَةِ بَيْنَ
الْبَسَاتِينِ يُقَاتِلُونَ أَصْحَابَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَمَالَ
إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمُقَدَّمُهُمْ أَبُو
الْحَسَنِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ، وَكَانُوا يَحْمِلُونَ
إِلَيْهِمُ الْمِيرَةَ.
وَعَلِمَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ، فَأَنْفَذَ مَنْ يَقْبِضُ
عَلَيْهِمْ، فَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى لَشُكْرِسْتَانَ،
فَقَوِيَ بِهِمْ، وَجَمَعُوا السُّفُنَ وَحَمَلُوهُ فِيهَا، وَنَزَلُوا
إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقَاتَلُوا أَصْحَابَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بِهَا،
وَأَخْرَجُوهُمْ عَنْهَا، وَمَلَكَ لَشُكْرِسْتَانُ الْبَصْرَةَ،
وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرًا وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ
كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
فَكَتَبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبِ
الْبَطِيحَةِ، يَقُولُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِالْبَصْرَةِ. فَسَيَّرَ
إِلَيْهَا جَيْشًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْزُوقٍ، فَأَجْلَى
لَشُكْرِسْتَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَارَ عَنِ
الْبَصْرَةِ بِغَيْرِ حَرْبٍ وَدَخَلَهَا ابْنُ مَرْزُوقٍ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا فَارَقَهَا بَعْدَ أَنْ حَارَبَ فِيهَا، وَضَعُفَ
عَنِ الْمُقَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَصَفَتِ الْبَصْرَةُ لِمُهَذَّبِ
الدَّوْلَةِ.
(7/482)
ثُمَّ إِنَّ لَشُكْرِسْتَانَ عَمِلَ عَلَى
الْعَوْدِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَهَجَمَ عَلَيْهَا فِي السُّفُنِ،
وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ بِسُوقِ الطَّعَامِ، وَاقْتَتَلُوا،
فَاسْتَظْهَرَ لَشُكْرِسْتَانُ، وَكَاتَبَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ
يَطْلُبُ الْمُصَالَحَةَ، وَيَبْذُلُ الطَّاعَةَ، وَيَخْطُبُ لَهُ
بِالْبَصْرَةِ، فَأَجَابَهُ مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ،
وَأَخَذَ ابْنَهُ رَهِينَةً.
وَكَانَ لَشُكْرِسْتَانُ يُظْهِرُ طَاعَةَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ
وَبَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، وَعَسَفَ أَهْلَ
الْبَصْرَةِ مُدَّةً، فَتَفَرَّقُوا، ثُمَّ إِنَّهُ أَحْسَنَ
إِلَيْهِمْ (وَعَدَلَ فِيهِمْ) ، فَعَادُوا.
ذِكْرُ وِلَايَةِ الْمُقَلِّدِ الْمَوْصِلَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْمُقَلِّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مَدِينَةَ
الْمَوْصِلِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا الذَّوَّادِ تُوُفِّيَ
هَذِهِ السُّنَّةَ، فَطَمِعَ الْمُقَلِّدُ فِي الْإِمَارَةِ، فَلَمْ
تُسَاعِدْهُ عُقَيْلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَلَّدُوا أَخَاهُ عَلِيًّا
لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَأَسْرَعَ الْمُقَلِّدُ وَاسْتَمَالَ
الدَّيْلَمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ الْحَجَّاجِ
بِالْمَوْصِلِ، فَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ يَضْمَنُ مِنْهُ الْبَلَدَ بِأَلْفَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ
كُلَّ سَنَةٍ. ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ أَخِيهِ عَلِيٍّ، وَأَظْهَرَ لَهُ
أَنَّ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ قَدْ وَلَّاهُ الْمَوْصِلَ، وَسَأَلَهُ
مُسَاعَدَتَهُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَهُ عَنْهَا،
فَسَارُوا وَنَزَلُوا عَلَى الْمَوْصِلِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ كُلُّ
مَنِ اسْتَمَالَهُ الْمُقَلِّدُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَضَعُفَ
الْحَجَّاجُ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُ،
وَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ انْحَدَرَ فِي السُّفُنِ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ،
فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ إِلَّا بَعْدَ انْحِدَارِهِ، فَتَبِعُوهُ،
فَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَنَجَا بِمَالِهِ مِنْهُمْ، وَسَارَ
إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَدَخَلَ الْمُقَلِّدُ الْبَلَدَ،
وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ عَلَى أَنْ يُخْطَبَ
لَهُمَا، وَيُقَدَّمَ عَلِيٌّ لِكِبَرِهِ، وَيَكُونَ لَهُ
(7/483)
مَعَهُ نَائِبٌ يَجْبِي الْمَالَ،
وَاشْتَرَكَا فِي الْبَلَدِ وَالْوِلَايَةِ، وَسَارَ عَلِيٌّ (إِلَى
الْبَرِّ) ، وَأَقَامَ الْمُقَلِّدُ، وَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ
مُدَيْدَةً، ثُمَّ تَشَاجَرُوا وَاخْتَصَمُوا وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَانَ الْمُقَلِّدُ يَتَوَلَّى حِمَايَةَ غَرْبِيَّ الْفُرَاتِ مِنْ
أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ لَهُ بِبَغْدَاذَ نَائِبٌ فِيهِ تَهَوُّرٌ،
فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
(مُشَاجَرَةٌ، فَكَتَبَ إِلَى الْمُقَلِّدِ يَشْكُو، فَانْحَدَرَ مِنَ
الْمَوْصِلِ فِي عَسَاكِرِهِ وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ
بَهَاءِ الدَّوْلَةِ) حَرْبٌ انْهَزَمُوا فِيهَا، وَكَتَبَ إِلَى
بَهَاءِ الدَّوْلَةِ يَعْتَذِرُ، وَطَلَبَ إِنْفَاذَ مَنْ يَعْقِدُ
عَلَيْهِ ضَمَانَ الْقَصْرِ وَغَيْرِهِ.
وَكَانَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَشْغُولًا بِمَنْ يُقَاتِلُهُ مَنْ
عَسْكَرِ أَخِيهِ فَاضْطَرَّ إِلَى الْمُغَالَطَةِ، وَمَدَّ
الْمُقَلِّدُ يَدَهُ فَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، فَبَرَزَ نَائِبُ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ أَبُو عَلِيِّ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، وَخَرَجَ إِلَى حَرْبِ الْمُقَلِّدِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ
إِلَيْهِ، فَأَنْفَذَ أَصْحَابَهُ لَيْلًا، فَاقْتَتَلُوا، وَعَادُوا
إِلَى الْمُقَلِّدِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ بِمَجِئِ أَصْحَابِ الْمُقَلِّدِ إِلَى بَغْدَاذَ،
أَنْفَذَ أَبَا جَعْفَرٍ الْحَجَّاجَ إِلَى بَغْدَاذَ، (أَمَرَهُ
بِمُصَالَحَةِ الْمُقَلِّدِ وَالْقَبْضِ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ) ، فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ،
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا رَاسَلَهُ الْمُقَلِّدُ فِي الصُّلْحِ،
فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَشَرَةَ
آلَافِ دِينَارٍ، وَلَا يَأْخُذُ مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا رَسْمَ
الْحِمَايَةِ، وَيَخْطُبُ لِأَبِي جَعْفَرٍ بَعْدَ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ، وَأَنْ يَخْلَعَ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْخِلَعَ
السُّلْطَانِيَّةَ، وَيُلَقَّبَ بِحُسَامِ الدَّوْلَةِ، وَيُقْطَعَ
الْمَوْصِلَ، وَالْكُوفَةَ، وَالْقَصْرَ وَالْجَامِعَيْنِ،
وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَلَسَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ
لَهُ.
وَلَمْ يَفِ الْمُقَلِّدُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِحَمْلِ
الْمَالِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ، وَمَدَّ يَدَهُ فِي
الْمَالِ، وَقَصَدَهُ الْمُتَصَرِّفُونَ وَالْأَمَاثِلُ، وَعَظُمَ
قَدْرُهُ، وَقَبَضَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى أَبِي
(7/484)
عَلِيٍّ، ثُمَّ هَرَبَ أَبُو عَلِيٍّ،
نَائِبُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَتَرَ وَسَارَ إِلَى الْبَطِيحَةِ
مُسْتَتِرًا، مُلْتَجِئًا إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ
بَادِيسَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ بْنُ يُوسُفَ بُلُكِّينَ
أَمِيرُ إِفْرِيقِيَّةَ، أَوَائِلَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَارِجَ
صَبْرَةَ، وَدُفِنَ بِقَصْرِهِ.
وَكَانَ مَلِكًا كَرِيمًا، شُجَاعًا، حَازِمًا، وَلَمْ يَزَلْ
مُظَفَّرًا مَنْصُورًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْعَدْلِ
وَالرَّعِيَّةِ، أَوْسَعَهُمْ عَدْلًا، وَأَسْقَطَ الْبَقَايَا عَنْ
أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَتْ مَالًا جَلِيلًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَادِيسُ، وَيُكَنَّى
أَبَا مَنَادٍ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ سَارَ إِلَى
سَرْدَانِيَةَ، وَأَتَاهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ
لِلتَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ، وَأَرَادَ بَنُو زِيرِي أَعْمَامُ
أَبِيهِ أَنْ يُخَالِفُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمْ أَصْحَابُ أَبِيهِ
وَأَصْحَابُهُ.
وَكَانَ مَوْلِدُ بَادِيسَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَتَتْهُ الْخِلَعُ وَالْعَهْدُ بِالْوِلَايَةِ
مِنَ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ مِصْرَ، فَقُرِئَ الْعَهْدُ،
وَبَايَعَ لِلْحَاكِمِ هُوَ وَجَمَاعَةُ بَنِي عَمِّهِ وَالْأَعْيَانُ
مِنَ الْقُوَّادِ.
وَفِيهَا ثَارَ عَلَى بَادِيسَ رَجُلٌ صِنْهَاجِيٌّ اسْمُهُ خَلِيفَةُ
بْنُ مُبَارَكٍ، فَأُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى بَادِيسَ، فَأُرْكِبَ
حِمَارًا، وَجُعِلَ خَلْفَهُ رَجُلٌ أَسْوَدُ يَصْفَعُهُ، وَطِيفَ
بِهِ، وَلَمْ يُقْتَلِ احْتِقَارًا لَهُ وَسُجِنَ.
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ بَادِيسُ عَمَّهُ حَمَّادَ بْنَ يُوسُفَ
بُلُكِّينَ عَلَى أَشِيرَ، وَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا،
(7/485)
وَأَعْطَاهُ مِنَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ
وَالْعُدَدِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَخَرَجَ إِلَيْهَا، وَحَمَّادٌ هَذَا
هُوَ جَدُّ بَنِي حَمَّادٍ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ إِفْرِيقِيَّةَ،
وَالْقَلْعَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَيْهِمْ مَشْهُورَةٌ
بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَمِنْهُمْ أَخَذَهَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ
عَلِيٍّ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْفَاضِلِ
وَزِيرِهِ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَاسْتَوْزَرَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ
سَابُورَ بْنَ أَرْدَشِيَرَ، فَأَقَامَ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، وَفَرَّقَ
الْأَمْوَالَ، وَوَقَّعَ بِهَا لِلْقُوَّادِ قَصْدًا لِيُضْعِفَ
بِهَاءَ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَبَقِيَ
مَنْصِبُ الْوِزَارَةِ فَارِغًا، وَاسْتُوزِرَ أَبُو الْعَبَّاسِ
(عِيسَى) بْنُ سَرْجِسَ.
وَفِيهَا اسْتَكْتَبَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَاجِبِ النُّعْمَانِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ أَبُو حَامِدِ (بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الْمُزَكِّيُّ،
النَّيْسَابُورِيُّ، فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ إِمَامًا، وَمَوْلِدُهُ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
أَبُو إِسْحَاقَ الْحِمْيَرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالسُّكَّرِيِّ،
وَبِالْحَرْبِيِّ، وَبِالْكَيَّالِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
(7/486)
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْأَغَرِّ
دُبَيْسُ بْنُ عَفِيفٍ الْأَسَدِيُّ بِخُوزِسْتَانَ، وَأَبُو طَالِبٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ الْمَكِّيُّ، صَاحِبُ " قُوتِ
الْقُلُوبِ "، رُوِيَ أَنَّهُ صَنَّفَ " قُوتَ الْقُلُوبِ " وَكَانَ
قُوتُهُ عُرُوقَ الْبَرْدِيِّ.
(7/487)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة]
387 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ مَوْتِ الْأَمِيرِ نُوحِ بْنِ مَنْصُورٍ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ
مَنْصُورٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ الرَّضِيُّ نُوحُ بْنُ
مَنْصُورٍ السَّامَانِيُّ فِي رَجَبٍ، وَاخْتَلَّ بِمَوْتِهِ مُلْكُ
آلِ سَامَانَ، وَضَعُفَ أَمْرُهُمْ ضَعْفًا ظَاهِرًا، وَطَمِعَ فِيهِمْ
أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، فَزَالَ مُلْكُهُمْ بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو
الْحَرْثِ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ
وَالْقُوَّادُ وَسَائِرُ النَّاسِ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ بَقَايَا
الْأَمْوَالِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى طَاعَتِهِ. وَقَامَ بِأَمْرِ
دَوْلَتِهِ وَتَدْبِيرِهَا بَكْتُوزُونُ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ
مَوْتِهِ إِلَى أَيْلَكَ خَانْ سَارَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَانْضَمَّ
إِلَيْهِ فَائِقُ الْخَاصَّةِ، فَسَيَّرَهُ جَرِيدَةً إِلَى بُخَارَى،
فَلَمَّا سَمِعَ بِمَسِيرِهِ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ تَحَيَّرَ فِي
أَمْرِهِ، وَأَعْجَلَهُ عَنِ التَّجَهُّزِ، فَسَارَ عَنْ بُخَارَى،
وَقَطَعَ النَّهْرَ، وَدَخَلَ فَائِقٌ بُخَارَى، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ
إِنَّمَا قَصَدَ الْمُقَامَ بِخِدْمَةِ الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ،
رِعَايَةً لِحَقِّ أَسْلَافِهِ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَوْلَاهُمْ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَشَايِخُ بُخَارَى وَمُقَدَّمُهُمْ فِي الْعَوْدِ
إِلَى بَلَدِهِ وَمُلْكِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَطْمَئِنُّ
إِلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، فَعَادَ إِلَيْهَا
وَدَخَلَهَا وَوَلِيَ فَائِقٌ أَمْرَهُ وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ،
وَوَلِيَ بَكْتُوزُونُ إِمْرَةَ الْجُيُوشِ بِخُرَاسَانَ.
وَكَانَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ حِينَئِذٍ مَشْغُولًا
بِمُحَارَبَةِ أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَسَارَ بَكْتُوزُونُ إِلَى خُرَاسَانَ فَوَلِيَهَا،
وَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بِهَا.
(7/488)
ذِكْرُ مَوْتِ سُبُكْتِكِينَ وَمُلْكِ
وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ سُبُكْتِكِينُ
فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِبَلْخَ، وَقَدِ ابْتَنَى بِهَا
دُورًا وَمَسَاكِنَ، فَمَرِضَ، وَطَالَ مَرَضُهُ، وَانْزَاحَ إِلَى
هَوَاءِ غَزْنَةَ، فَسَارَ عَنْ بَلْخَ إِلَيْهَا، فَمَاتَ فِي
الطَّرِيقِ، فَنُقِلَ مَيِّتًا إِلَى غَزْنَةَ وَدُفِنَ فِيهَا،
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَ عَادِلًا، خَيِّرًا، كَثِيرَ الْجِهَادِ، حَسَنَ
الِاعْتِقَادِ، ذَا مُرُوَّةٍ تَامَّةٍ، وَحُسْنِ عَهْدٍ وَوَفَاءٍ،
لَا جَرَمَ بَارَكَ اللَّهُ فِي بَيْتِهِ، وَدَامَ مُلْكُهُمْ مُدَّةً
طَوِيلَةً جَازَتْ مُدَّةَ مُلْكِ السَّامَانِيَّةِ
وَالسَّلْجُوقِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَكَانَ ابْنُهُ مَحْمُودٌ أَوَّلَ مَنْ لُقِّبَ بِالسُّلْطَانِ، لَمْ
يُلَقَّبْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ
بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا مَاتَ بَايَعَ الْجُنْدُ
لِإِسْمَاعِيلَ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ،
وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ مَحْمُودٍ، فَاسْتَضْعَفَهُ الْجُنْدُ،
فَاشْتَطُّوا فِي الطَّلَبِ حَتَّى أَفْنَى الْخَزَائِنَ الَّتِي
خَلَّفَهَا أَبُوهُ.
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَلَى
الْمُلْكِ
لَمَّا تُوُفِّيَ سُبُكْتِكِينُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى وَلَدِهِ
يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٍ بِنَيْسَابُورَ، جَلَسَ لِلْعَزَاءِ،
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ يُعَزِّيهِ بِأَبِيهِ،
وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ أَبَاهُ إِنَّمَا عَهِدَ إِلَيْهِ لِبُعْدِهِ
عَنْهُ، وَيُذَكِّرُهُ مَا يَتَعَيَّنُ مِنْ تَقْدِيمِ الْكَبِيرِ،
وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْوِفَاقَ، وَإِنْفَاذَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ
تَرِكَةِ أَبِيهِ. فَلَمْ يَفْعَلْ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ
بَيْنَهُمَا فَلَمْ تَسْتَقِرَّ الْقَاعِدَةُ فَسَارَ مَحْمُودٌ عَنْ
نَيْسَابُورَ إِلَى هَرَاةَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ أَخِيهِ بِغَزْنَةَ،
وَاجْتَمَعَ بِعَمِّهِ بَغْرَاجِقَ بِهَرَاةَ، فَسَاعَدَهُ عَلَى
أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَارَ نَحْوَ بُسْتَ، وَبِهَا أَخُوهُ نَصْرٌ،
فَتَبِعَهُ وَأَعَانَهُ وَسَارَ مَعَهُ إِلَى غَزْنَةَ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ بِبَلْخَ، فَسَارَ
عَنْهَا مُجِدًّا، فَسَبَقَ أَخَاهُ مَحْمُودًا
(7/489)
إِلَيْهَا، وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ
مَعَ إِسْمَاعِيلَ كَاتَبُوا أَخَاهُ مَحْمُودًا يَسْتَدْعُونَهُ،
وَوَعَدُوهُ الْمَيْلَ إِلَيْهِ، فَجَدَّ فِي الْمَسِيرِ، وَالْتَقَى
هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ بِظَاهِرِ غَزْنَةَ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ وَصَعِدَ إِلَى قَلْعَةِ غَزْنَةَ
فَاعْتَصَمَ بِهَا، فَحَصَرَهُ أَخُوهُ مَحْمُودٌ وَاسْتَنْزَلَهُ
بِأَمَانٍ. فَلَمَّا نَزَلَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ،
وَأَعْلَى مَنْزِلَتَهُ، وَشَرَكَهُ فِي مُلْكِهِ وَعَادَ إِلَى بَلْخَ
وَاسْتَقَامَتِ الْمَمَالِكُ لَهُ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ إِسْمَاعِيلَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ
فَاضِلٌ، حَسَنُ الْمَعْرِفَةِ، لَهُ نَظْمٌ وَنَثْرٌ، وَخُطَبٌ فِي
بَعْضِ الْجُمُعَاتِ، فَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ
لِلْخَلِيفَةِ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] .
ذِكْرُ وَفَاةِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ وَمُلْكِ ابْنِهِ
مَجْدِ الدَّوْلَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ
بُوَيْهٍ بِقَلْعَةِ طَبَرْقَ فِي شَعْبَانَ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمًا مَشْوِيًّا، وَأَكَلَ
بَعْدَهُ عِنَبًا، فَأَخَذَهُ الْمَغَصُ، ثُمَّ اشْتَدَّ مَرَضُهُ
فَمَاتَ مِنْهُ. فَلَمَّا مَاتَ كَانَتْ مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ
بِالرَّيِّ عِنْدَ أُمِّ وَلَدِهِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَطَلَبُوا لَهُ
كَفَنًا فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَتَعَذَّرَ النُّزُولُ إِلَى الْبَلَدِ
لِشِدَّةِ شَغَبِ الدَّيْلَمِ، فَاشْتَرَوْا لَهُ مِنْ قَيِّمِ
الْجَامِعِ ثَوْبًا كَفَّنُوهُ فِيهِ، وَزَادَ شَغَبُ الْجُنْدِ فَلَمْ
يُمْكِنْهُمْ دَفْنُهُ فَبَقِيَ حَتَّى أَنْتَنَ ثُمَّ دَفَنُوهُ.
وَحِينَ تُوُفِّيَ قَامَ بِمُلْكِهِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مَجْدُ
الدَّوْلَةِ أَبُو طَالِبٍ رُسْتَمُ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ،
أَجْلَسَهُ الْأُمَرَاءُ فِي الْمُلْكِ، وَجَعَلُوا أَخَاهُ شَمْسَ
الدَّوْلَةِ بِهَمَذَانَ وَقِرْمِيسِينَ إِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ.
وَكَانَ الْمَرْجِعُ إِلَى وَالِدَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي تَدَبُّرِ
الْمُلْكِ، وَعَنْ رَأْيِهَا
(7/490)
يَصْدُرُونَ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا، فِي
مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ، أَبُو طَاهِرٍ صَاحِبُ فَخْرِ الدَّوْلَةِ،
وَأَبُو الْعَبَّاسِ الضَّبِّيُّ الْكَافِي.
ذِكْرُ وَفَاةِ مَأْمُونِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ عَلِيٍّ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَأْمُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ، صَاحِبُ خُوَارَزْمَ
وَالْجُرْجَانِيَّةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى
وَلَدِهِ عَلِيٍّ وَبَايَعُوهُ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ مَا كَانَ
لِأَبِيهِ، وَرَاسَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودَ بْنَ
سُبُكْتِكِينَ، وَخَطَبَ إِلَيْهِ أُخْتَهُ، فَزَوَّجَهُ، وَاتَّفَقَتْ
كَلِمَتُهُمَا وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً إِلَى أَنْ مَاتَ عَلِيٌّ
وَقَامَ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مَأْمُونُ بْنُ مَأْمُونٍ،
وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ
يَخْطُبُ أُخْتَهُ أَيْضًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَزَوَّجَهُ،
فَدَامَا أَيْضًا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ مُدَّةً.
وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَعَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَسَنِ وَمَا كَانَ بَعْدَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَاءُ بْنُ
الْحَسَنِ نَائِبُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ بِخُوزِسْتَانَ، وَكَانَ
مَوْتُهُ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، حَسَنَ
التَّدْبِيرِ، فَأَنْفَذَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ
أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، وَمَعَهُ الْمَالُ، فَفَرَّقَهُ فِي الدَّيْلَمِ،
وَسَارَ إِلَى جُنْدِيسَابُورَ فَدَفَعَ أَصْحَابُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
عَنْهَا، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ كَانَ الظَّفَرُ
فِيهَا لَهُ، وَأَزَاحَ الْأَتْرَاكَ عَنْ خُوزِسْتَانَ، وَعَادُوا
إِلَى وَاسِطَ، وَخَلَتْ لِأَبِي عَلِيٍّ الْبِلَادُ، وَرَتَّبَ
الْعُمَّالَ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَكَاتَبَ أَتْرَاكَ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ وَاسْتَمَالَهُمْ، فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَحْسَنَ
إِلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرَّ حَالُ أَبِي عَلِيٍّ فِي أَعْمَالِ
خُوزِسْتَانَ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مُكْرَمٍ وَالْأَتْرَاكَ عَادُوا
مِنْ وَاسِطَ، وَاسْتَعَدَّ أَبُو عَلِيٍّ لِلْحَرْبِ، وَجَرَى
بَيْنَهُمْ وَقَائِعُ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَتْرَاكِ قُوَّةٌ عَلَى
الدَّيْلَمِ، فَعَزَمُوا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى وَاسِطَ
(7/491)
ثَانِيًا، فَاتَّفَقَ مَسِيرُ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْقَنْطَرَةِ الْبَيْضَاءِ،
وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَا كَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُقَلِّدُ عَلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ
بَيْنَ أَصْحَابِهِمَا بِالْمَوْصِلِ، وَاشْتَغَلَ الْمُقَلِّدُ بِمَا
ذَكَرْنَاهُ بِالْعِرَاقِ، فَلَمَّا خَلَا وَجْهُهُ وَعَادَ إِلَى
الْمَوْصِلِ عَزَمَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْ أَصْحَابِ أَخِيهِ، ثُمَّ
خَافَهُ، فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي قَبْضِ أَخِيهِ، فَأَحْضَرَ
عَسْكَرَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَكْرَادِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ
يُرِيدُ قَصْدَ دَقُوقَا، وَحَلَّفَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَانَتْ
دَارُهُ مُلَاصِقَةً دَارَ أَخِيهِ، فَنَقَّبَ فِي الْحَائِطِ وَدَخَلَ
إِلَيْهِ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَأَخَذَهُ وَأَدْخَلَهُ الْخِزَانَةَ،
وَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ يَأْمُرُهَا بِأَخْذِ
وَلَدَيْهِ قِرْوَاشٍ وَبَدْرَانَ وَاللَّحَاقِ بَتَكْرِيتَ، قَبْلَ
أَنْ يَسْمَعَ أَخُوهُ الْحَسَنُ الْخَبَرَ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ،
وَخَلَصَتْ، وَكَانَتْ فِي الْحُلَّةِ الَّتِي لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ
فَرَاسِخَ مِنْ تَكْرِيتَ.
وَسَمِعَ الْحَسَنُ الْخَبَرَ، فَبَادَرَ إِلَى الْحُلَّةِ لِيَقْبِضَ
أَوْلَادَ أَخِيهِ، فَلَمْ يَجِدْهُمْ وَأَقَامَ الْمُقَلِّدُ
بِالْمَوْصِلِ يَسْتَدْعِي رُؤَسَاءَ الْعَرَبِ وَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ،
فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ زُهَاءُ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَسَارَ الْحَسَنُ فِي
حُلَلِ أَخِيهِ، وَمَعَهُ أَوْلَادُ أَخِيهِ عَلِيٍّ وَحُرَمُهُ،
وَيَسْتَنْفِرُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ نَحْوُ
عَشَرَةِ آلَافٍ، وَرَاسَلَ الْمُقَلِّدُ يُؤْذِنُهُ بِالْحَرْبِ،
فَسَارَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَبَقِيَ بَيْنَهُمْ مَنْزِلٌ وَاحِدٌ،
وَنَزَلَ بِإِزَاءِ الْعَلْثِ، فَحَضَرَهُ وُجُوهُ الْعَرَبِ،
وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِالْحَرْبِ
وَمِنْهُمْ رَافِعُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقْنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَشَارَ بِالْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَمِنْهُمْ
غَرِيبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقْنٍ، وَتَنَازَعَ هُوَ وَأَخُوهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ (فِي ذَلِكَ) قِيلَ لِمُقَلِّدٍ: إِنَّ أُخْتَكَ
رُهَيْلَةَ بِنْتَ الْمُسَيَّبِ تُرِيدُ لِقَاءَكَ
(7/492)
وَقَدْ جَاءَتْكَ، فَرَكِبَ وَخَرَجَ
إِلَيْهَا، فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى أَطْلَقَ أَخَاهُ عَلِيًّا،
وَرَدَّ إِلَيْهِ مَالَهُ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَأَنْزَلَهُ فِي خِيَمٍ
ضَرَبَهَا لَهُ. فَسُرَّ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَتَحَالَفَا، وَعَادَ
عَلِيٌّ إِلَى حُلَّتِهِ.
وَعَادَ الْمُقَلِّدُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ
إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزَيْدٍ الْأَسَدِيِّ لِأَنَّهُ
تَعَصَّبَ لِأَخِيهِ عَلِيٍّ، وَقَصَدَ وِلَايَةَ الْمُقَلِّدِ
بِالْأَذَى فَسَارَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْبِسِهِ اجْتَمَعَ الْعَرَبُ
إِلَيْهِ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَصْدِ أَخِيهِ الْمُقَلِّدِ،
فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَبِهَا أَصْحَابُ الْمُقَلِّدِ،
فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَافْتَتَحَهَا فَسَمِعَ الْمُقَلِّدُ
بِذَلِكَ، فَعَادَ إِلَيْهِ، وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِحُلَّةِ
أَخِيهِ الْحَسَنِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَرَأَى كَثْرَةَ عَسْكَرِهِ،
فَخَافَ عَلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ مِنْهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ
بِالْوُقُوفِ لِيُصْلِحَ الْأَمْرَ، وَسَارَ إِلَى أَخِيهِ عَلِيٍّ
وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَعْوَرَ، يَعْنِي الْمُقَلِّدَ قَدْ أَتَاكَ
بِحَدِّهِ وَحَدِيدِهِ وَأَنْتَ غَافِلٌ، وَأَمَرَهُ بِإِفْسَادِ
عَسْكَرِ الْمُقَلِّدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ، فَظَفِرَ الْمُقَلِّدُ
بِالْكُتُبِ فَأَخَذَهَا وَسَارَ مُجِدًّا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَخَرَجَ
إِلَيْهِ أَخَوَاهُ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَصَالَحَاهُ، وَدَخَلَ
الْمَوْصِلَ وَهُمَا مَعَهُ.
ثُمَّ خَافَ عَلِيٌّ فَهَرَبَ مِنَ الْمَوْصِلِ لَيْلًا، وَتَبِعَهُ
الْحَسَنُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى
أَنْ يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا الْبَلَدَ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ، وَبَقَوْا
كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .
وَمَاتَ عَلِيٌّ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] وَقَامَ
الْحَسَنُ مَقَامَهُ، فَقَصَدَهُ الْمُقَلِّدُ وَمَعَهُ بَنُو
خَفَاجَةَ، فَهَرَبَ الْحَسَنُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَتَبِعَهُ
الْمُقَلِّدُ فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَعَادَ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْمُقَلِّدِ، بَعْدَ أَخِيهِ عَلِيٍّ،
سَارَ إِلَى بَلَدِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيِّ فَدَخَلَهُ
ثَانِيَةً، وَالْتَجَأَ ابْنُ مَزْيَدٍ إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ،
فَتَوَسَّطَ مَا بَيَّنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَلِّدِ، وَأَصْلَحَ
الْأَمْرَ مَعَهُ، وَسَارَ الْمُقَلِّدُ إِلَى دَقُوقَا فَمَلَكَهَا.
ذِكْرُ مُلْكِ جُبْرَئِيلَ دَقُوقَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ جُبْرَئِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ دَقُوقَا.
وَجُبْرَئِيلُ هَذَا كَانَ مِنَ الرَّجَّالَةِ
(7/493)
الْفُرْسِ بِبَغْدَاذَ، وَخَدَمَ مُهَذَّبَ
الدَّوْلَةِ بِالْبَطِيحَةِ، فَهَمَّ بِالْغَزْوِ، وَجَمَعَ جَمْعًا
كَثِيرًا، وَاشْتَرَى السِّلَاحَ وَسَارَ فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ
بِدَقُوقَا، فَوَجَدَ الْمُقَلِّدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَاصِرُهَا،
فَاسْتَغَاثَ أَهْلُهَا بِجُبْرَئِيلَ فَحَمَاهُمْ وَمَنَعَ عَنْهُمْ.
وَكَانَ بِدَقُوقَا رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ قَدْ تَمَكَّنَا فِي
الْبَلَدِ، وَحَكَمَا فِيهِ، وَاسْتَعْبَدَا أَهْلَهُ، فَاجْتَمَعَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى جُبْرَئِيلَ وَقَالُوا لَهُ:
إِنَّكَ تُرِيدُ الْغَزْوَ، وَلَسْتَ تَدْرِي أَتَبْلُغُ غَرَضًا أَمْ
لَا، وَعِنْدَنَا مِنْ هَذَيْنِ النَّصْرَانِيَّيْنِ مَنْ قَدْ
تَعَبَّدَنَا، وَحَكَمَ عَلَيْنَا، فَلَوْ أَقَمْتَ عِنْدَنَا،
وَكَفَيْتَنَا أَمْرَهُمَا، سَاعَدْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ. فَأَقَامَ
وَقَبَضَ عَلَيْهِمَا، وَأَخَذَ مَالَهُمَا، وَقَوِيَ أَمْرُهُ،
فَمَلَكَ الْبَلَدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ،
وَأَحْسَنَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَبَقِيَ
مُدَّةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
ثُمَّ مَلَكَهَا الْمُقَلِّدُ، وَمَلَكَهَا بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
عِنَازٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا بَعْدَهُ قِرْوَاشٌ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى
فَخْرِ الدَّوْلَةِ أَبِي غَالِبٍ، فَعَادَ جُبْرَئِيلُ هَذَا
حِينَئِذٍ إِلَى دَقُوقَا، وَاجْتَمَعَ مَعَ أَمِيرٍ مِنَ الْأَكْرَادِ
يُقَالُ لَهُ مُوصَكُ بْنُ جَكَوَيْهِ، وَدَفَعَا عُمَّالَ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ عَنْهَا وَأَخَذَاهَا، فَقَصَدَهَا بَدْرَانُ بْنُ
الْمُقَلِّدِ وَغَلَبَهُمَا وَأَخَذَهَا مِنْهُمَا.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ
عَنْ طَاعَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا،
فَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إِلَى مَكَانٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى
الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ
وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَهُ وَعَادَ إِلَى طَاعَتِهِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَفَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَنْدِسِيِّ
الْحَاسِبُ.
وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
(7/494)
الْعُكْبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
بَطَّةَ الْحَنْبَلِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ زَاهِدًا، عَابِدًا، عَالِمًا،
ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ.
وَفِيهَا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَمْعُونَ،
الْوَاعِظُ، الزَّاهِدُ، لَهُ كَرَامَاتٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
ثَلَاثِمِائَةٍ.
وَفِيهَا، تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ، الرَّاوِيَةُ،
الْعَلَّامَةُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَدَبِ،
وَاللُّغَةِ، وَالْأَمْثَالِ، وَغَيْرِهَا.
(7/495)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة]
388 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ عَوْدِ أَبِي الْقَاسِمِ السِّيمْجُورِيُّ إِلَى نَيْسَابُورَ
قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ سِيمْجُورَ أَخِي أَبِي
عَلِيٍّ إِلَى جُرْجَانَ وَمُقَامِهِ بِهَا. فَلَمَّا مَاتَ فَخْرُ
الدَّوْلَةِ أَقَامَ عِنْدَ وَلَدِهِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ، وَاجْتَمَعَ
عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَخِيهِ. وَكَانَ قَدْ
أَرْسَلَ إِلَى شَمْسِ الْمَعَالِي يَسْتَدْعِيهِ مِنْ نَيْسَابُورَ
لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ حَتَّى وَافَى جُرْجَانَ،
فَلَمَّا بَلَغَهَا رَأَى أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ سَارَ عَنْهَا،
فَعَادَ شَمْسُ الْمَعَالِي إِلَى نَيْسَابُورَ.
فَكَتَبَ فَائِقٌ مِنْ بُخَارَى إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ يُغْرِيهِ
بِبَكْتُوزُونَ، وَيَأْمُرُهُ بِقَصْدِ خُرَاسَانَ، وَإِخْرَاجِ
بَكْتُوزُونَ عَنْهَا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا. فَسَارَ أَبُو
الْقَاسِمِ عَنْ جُرْجَانَ نَحْوَ نَيْسَابُورَ، وَسَيَّرَ سَرِيَّةً
إِلَى أَسْفَرَايِينَ، وَبِهَا عَسْكَرٌ لِبَكْتُوزُونَ،
فَقَاتَلُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَسْفَرَايِينَ، وَاسْتَوْلَى
أَصْحَابُ أَبِي الْقَاسِمِ عَلَيْهَا، وَسَارَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى
نَيْسَابُورَ، فَالْتَقَى هُوَ وَبَكْتُوزُونُ بِظَاهِرِهَا فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ
فَانْهَزَمَ أَبُو الْقَاسِمِ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأُسِرَ
خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَسَارَ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى قُهُسْتَانَ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى
اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَسَارَ إِلَى بُوشَنْجَ وَاحْتَوَى
عَلَيْهَا، وَتَصَرَّفَ فِيهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ بَكْتُوزُونَ،
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، حَتَّى اصْطَلَحَا وَتَصَاهَرَا،
وَعَادَ بَكْتُوزُونُ إِلَى نَيْسَابُورَ.
(7/496)
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا
لَمَّا فَرَغَ مَحْمُودٌ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ، وَمَلَكَ غَزْنَةَ،
وَعَادَ إِلَى بَلْخَ رَأَى بَكْتُوزُونَ قَدْ وَلِيَ خُرَاسَانَ،
عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ
نُوحٍ يَذْكُرُ طَاعَتَهُ وَالْمُحَامَاةَ عَنْ دَوْلَتِهِ، وَيَطْلُبُ
خُرَاسَانَ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَعْتَذِرُ عَنْ خُرَاسَانَ
وَيَأْمُرُهُ بِأَخْذِ تِرْمِذَ وَبَلْخَ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ
أَعْمَالِ بُسْتَ وَهَرَاةَ، فَلَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، وَأَعَادَ
الطَّلَبَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ
الْمَنْعَ سَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَبِهَا بَكْتُوزُونُ، فَلَمَّا
بَلَغَهُ خَبَرُ مَسِيرِهِ نَحْوَهُ رَحَلَ عَنْهَا، فَدَخَلَهَا
مَحْمُودٌ وَمَلَكَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ
نُوحٍ سَارَ عَنْ بُخَارَى نَحْوَ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا عَلِمَ
مَحْمُودٌ بِذَلِكَ سَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ إِلَى مَرْوَ الرُّوذِ،
وَنَزَلَ عِنْدَ قَنْطَرَةِ رَاعُولَ يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ.
ذِكْرُ عَوْدِ قَابُوسٍ إِلَى جُرْجَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ
وَشْمَكِيرَ إِلَى جُرْجَانَ وَمَلَكَهَا، وَلَمَّا مَلَكَ فَخْرُ
الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهٍ جُرْجَانَ وَالرَّيَّ أَرَادَ أَنْ
يُسَلِّمَ جُرْجَانَ إِلَى قَابُوسٍ، فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ الصَّاحِبُ
بْنُ عَبَّادٍ، وَعَظَّمَهَا فِي عَيْنِهِ، فَأَعْرَضَ عَنِ الَّذِي
أَرَادَهُ، وَنَسِيَ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الصُّحْبَةِ
بِخُرَاسَانَ، وَأَنَّهُ بِسَبَبِهِ خَرَجَتِ الْبِلَادُ عَنْ يَدِ
قَابُوسٍ، وَالْمُلْكُ عَقِيمٌ.
(وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَمُقَامَهُ بِخُرَاسَانَ،
وَإِنْفَاذَ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ الْجُيُوشَ فِي نُصْرَتِهِ
مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ تَعَالَى عَوْدَةَ
الْمُلْكِ إِلَيْهِ) .
وَلَمَّا وَلِيَ سُبُكْتِكِينُ خُرَاسَانَ اجْتَمَعَ بِهِ وَوَعَدَهُ
أَنْ يُسَيِّرَ مَعَهُ الْجُيُوشَ لِيَرُدَّهُ إِلَى مَمْلَكَتِهِ،
فَمَضَى إِلَى بَلْخَ وَمَرِضَ وَمَاتَ.
فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ، بَعْدَ مَوْتِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ،
وَسَيَّرَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ الْأَصْبَهْبَذَ شَهْرَيَارَ
(بْنَ شَرْوِينَ إِلَى جَبَلِ شَهْرَيَارَ) ، وَعَلَيْهِ رُسْتَمُ بْنُ
الْمَرْزُبَانِ، خَالُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ،
فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ رُسْتَمُ، وَاسْتَوْلَى الْأَصْبَهْبَذُ
عَلَى الْجَبَلِ، وَخَطَبَ لِشَمْسِ الْمَعَالِي، وَكَانَ بَاتِي بْنُ
سَعِيدٍ بِنَاحِيَةِ الاسْتِنْدَارِيَّةِ، وَلَهُ مَيْلٌ إِلَى
(7/497)
شَمْسِ الْمَعَالِي، فَسَارَ إِلَى آمُلَ،
وَبِهَا عَسْكَرٌ لِمَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهَا
وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَخَطَبَ لِقَابُوسٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ
بِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ جُرْجَانَ كَتَبُوا إِلَى قَابُوسٍ
يَسْتَدْعُونَهُ، (فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ نَيْسَابُورَ) ، وَسَارَ
الْأَصْبَهْبَذُ وَبَاتِي بْنُ سَعِيدٍ إِلَى جُرْجَانَ، وَبِهَا
عَسْكَرٌ لِمَجْدِ الدَّوْلَةِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا،
فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ إِلَى جُرْجَانَ، فَلَمَّا
بَلَغُوهَا صَادَفُوا مُقَدَّمَةَ قَابُوسٍ قَدْ بَلَغَتْهَا،
فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، وَانْهَزَمُوا مِنْ أَصْحَابِ قَابُوسٍ
هَزِيمَةً ثَانِيَةً، وَكَانَتْ قَرْحًا عَلَى قَرْحٍ، وَدَخَلَ شَمْسُ
الْمَعَالِي جُرْجَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَبَلَغَ الْمُنْهَزِمُونَ الرَّيَّ، فَجُهِّزَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ
الرَّيِّ نَحْوَ جُرْجَانَ، فَسَارُوا وَحَصَرُوهَا، فَغَلَتِ
الْأَسْعَارُ بِالْبَلَدِ، وَضَاقَتِ الْأُمُورُ بِالْعَسْكَرِ
أَيْضًا، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْأَمْطَارُ وَالرِّيَاحُ،
فَاضْطَرُّوا إِلَى الرَّحِيلِ، فَتَبِعَهُمْ شَمْسُ الْمَعَالِي
فَلِحَقَهُمْ وَوَاقَعَهُمْ فَاقْتَتَلُوا، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ
الرَّيِّ وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقُتِلَ
(أَكْثَرُ مِنْهُمْ) ، فَأَطْلَقَ شَمْسُ الْمَعَالِي الْأَسْرَى،
وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ مَا بَيْنَ جُرْجَانَ
وَأَسْتَرَابَاذَ.
ثُمَّ إِنَّ الْأَصْبَهْبَذَ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِقْلَالِ،
وَالتَّفَرُّدِ عَنْ قَابُوسٍ، وَاغْتَرَّ بِمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ، فَسَارَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ
مِنَ الرَّيِّ، وَعَلَيْهَا الْمَرْزُبَانُ، خَالُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ،
فَهَزَمُوا الْأَصْبَهْبَذَ وَأَسَرُوهُ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ شَمْسِ
الْمَعَالِي لِوَحْشَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْمَرْزُبَانِ مِنْ مَجْدِ
الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ إِلَى شَمْسِ الْمَعَالِيَ بِذَلِكَ،
وَانْضَافَتْ مَمْلَكَةُ الْجَبَلِ جَمِيعُهَا إِلَى مَمَالِكِ
جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، فَوَلَّاهَا شَمْسُ الْمَعَالِي وَلَدَهُ
مَنُوجَهْرَ، فَفَتَحَ الرُّويَانَ وَسَالُوسَ، وَرَاسَلَ قَابُوسٌ
يَمِينَ الدَّوْلَةِ مَحْمُودًا، وَهَادَاهُ، وَصَالَحَهُ، وَاتَّفَقَا
عَلَى ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَسِيرِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ وَمَا كَانَ مِنْهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى
طَاعَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِوَاسِطَ،
(7/498)
فَوَزَرَ لَهُ، وَدَبَّرَ أَمْرَهُ،
وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُكْرَمٍ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ،
وَسَارَ عَلَى كُرْهٍ وَضِيقٍ، فَنَزَلَ بِالْقَنْطَرَةِ الْبَيْضَاءِ،
وَثَبَّتَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ وَعَسْكَرُهُ،
وَجَرَى لَهُمْ مَعَهُ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ.
وَضَاقَ الْأَمْرُ بِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ
الْأَقْوَاتُ، فَاسْتَمَدَّ بَدْرَ بْنَ حَسْنُوَيْهِ، فَأَنْفَذَ
إِلَيْهِ شَيْئًا قَامَ بِبَعْضِ مَا يُرِيدُهُ، وَأَشْرَفَ بَهَاءُ
الدَّوْلَةِ عَلَى الْخَطَرِ، وَسَعَى أَعْدَاءُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بِهِ حَتَّى كَادَ يَبْطِشُ بِهِ، فَتَجَدَّدَ مِنْ
أَمْرِ ابْنَيْ بَخْتِيَارَ وَقَتْلِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ مَا
يَأْتِي ذِكْرُهُ، وَأَتَاهُ الْفَرَجُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ،
وَصَلُحَ أَمْرُ أَبِي عَلِيٍّ عِنْدَهُ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ
عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ قَتْلِ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، قُتِلَ صَمْصَامُ
الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الدَّيْلَمِ
اسْتَوْحَشُوا مِنْ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ لِأَنَّهُ أَمَرَ
بِعَرْضِهِمْ، وَإِسْقَاطِ مَنْ لَيْسَ بِصَحِيحِ النَّسَبِ،
فَأَسْقَطَ مِنْهُمْ مِقْدَارَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَبَقَوْا حَيَارَى لَا
يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ.
وَاتُّفِقَ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ وَأَبَا نَصْرٍ ابْنَيْ عِزِّ
الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ كَانَا مَقْبُوضَيْنِ، فَخَدَعَا
الْمُوَكَّلِينَ بِهِمَا فِي الْقَلْعَةِ، فَأَفْرَجُوا عَنْهُمَا
فَجَمَعَا لَفِيفًا مِنَ الْأَكْرَادِ، وَاتَّصَلَ خَبَرُهُمَا
بِالَّذِينِ أُسْقِطُوا مِنَ الدَّيْلَمِ، فَأَتَوْهُمْ، وَقَصَدُوا
إِلَى أَرَّجَانَ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهَا الْعَسَاكِرُ، وَتَحَيَّرَ
صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُدَبِّرُهُ.
وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ مُقِيمًا بِفَسَا،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ بِتَفْرِيقِ مَا عِنْدَهُ
مِنَ الْمَالِ فِي الرِّجَالِ، وَالْمَسِيرِ إِلَى صَمْصَامِ
الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَهُ إِلَى عَسْكَرِهِ
(7/499)
بِالْأَهْوَازِ وَخَوَّفَهُ إِنْ لَمْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ. فَشَحَّ بِالْمَالِ، فَثَارَ بِهِ الْجُنْدُ
وَنَهَبُوا دَارَهُ وَهَرَبُوا، فَاخْتَفَى، فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ
إِلَى ابْنِي بَخْتِيَارَ، فَحُبِسَ، ثُمَّ احْتَالَ فَنَجَا.
وَأَمَّا صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ
أَصْحَابُهُ بِالصُّعُودِ إِلَى الْقَلْعَةِ الَّتِي عَلَى بَابِ
شِيرَازَ وَالِامْتِنَاعِ بِهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عَسْكَرُهُ وَمَنْ
يَمْنَعُهُ، فَأَرَادَ الصُّعُودَ إِلَيْهَا، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ
الْمُسْتَحْفِظُ بِهَا، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ،
فَقَالُوا لَهُ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَأْخُذُكَ وَوَالِدَتَكَ،
وَنَسِيرُ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ، وَأَشَارَ
بَعْضُهُمْ بِقَصْدِ الْأَكْرَادِ وَأَخْذِهِمْ وَالتَّقَوِّي بِهِمْ،
فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ بِخَزَائِنِهِ وَأَمْوَالِهِ،
فَنَهَبُوهُ، وَأَرَادُوا أَخْذَهُ فَهَرَبَ وَسَارَ إِلَى
الدُّودَمَانِ، عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ شِيرَازَ.
وَعَرَفَ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ الْخَبَرَ، فَبَادَرَ إِلَى
شِيرَازَ، وَوَثَبَ رَئِيسُ الدُّودَمَانِ، وَاسْمُهُ طَاهِرٌ،
بِصَمْصَامِ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَهُ، وَأَتَاهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ
بَخْتِيَارَ وَأَخَذَهُ مِنْهُ فَقَتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهِ قَالَ: هَذِهِ سُنَّةٌ سَنَّهَا
أَبُوكَ، يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
بَخْتِيَارَ.
وَكَانَ عُمْرُ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً
وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَمُدَّةُ إِمَارَتِهِ بِفَارِسَ تِسْعَ سِنِينَ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ كَرِيمًا حَلِيمًا. وَأَمَّا
وَالِدَتُهُ فَسُلِّمَتْ إِلَى بَعْضِ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ،
فَقَتَلَهَا وَبَنَى عَلَيْهَا دَكَّةً فِي دَارِهِ فَلَمَّا مَلَكَ
بَهَاءُ الدَّوْلَةِ فَارِسَ أَخْرَجَهَا وَدَفَنَهَا فِي تُرْبَةِ
بَنِي بُوَيْهٍ.
ذِكْرُ هَرَبِ ابْنِ الْوَثَّابِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْوَثَّابِ مِنَ الِاعْتِقَالِ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ.
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَقْرُبُ بِالنَّسَبِ مِنَ الطَّائِعِ،
فَلَمَّا خُلِعَ الطَّائِعُ هَرَبَ هَذَا وَصَارَ
(7/500)
عِنْدَ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ
الْقَادِرُ بِاللَّهِ فِي أَمْرِهِ، فَأَخْرَجَهُ، فَسَارَ إِلَى
الْمَدَائِنِ، وَأَتَى خَبَرُهُ إِلَى الْقَادِرِ فَأَخَذَهُ
وَحَبَسَهُ، فَهَرَبَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَمَضَى إِلَى كِيلَانَ،
وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الطَّائِعُ لِلَّهِ، وَذَكَرَ مِنْ أُمُورِ
الْخِلَافَةِ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، وَزَوَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْعَبَّاسِ، مُقَدَّمُ كِيلَانَ، وَشَدَّ مِنْهُ، وَأَقَامَ لَهُ
الدَّعْوَةَ، وَأَطَاعَهُ أَهْلُ نَوَاحٍ أُخَرَ، وَأَدَّوْا إِلَيْهِ
الْعُشْرَ عَلَى عَادَتِهِمْ.
وَوَرَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ جَمَاعَةٌ يَحُجُّونَ،
فَأَحْضَرَهُمُ الْقَادِرُ وَكَشَفَ لَهُمْ حَالَهُ، وَكَتَبَ عَلَى
أَيْدِيهِمْ كُتُبًا فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهِ.
وَكَانَ أَهْلُ كِيلَانَ يَرْجِعُونَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ كَجٍّ، فَكُوتِبَ مِنْ بَغْدَاذَ فِي الْمَعْنَى، فَكَشَفَ لَهُمُ
الْأَمْرَ، فَأَخْرَجُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُمْ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ أَمْرُ بَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ، وَعَلَا
شَأْنُهُ، وَلُقِّبَ، مِنْ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، نَاصِرَ الدِّينِ
وَالدَّوْلَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ بِالْحَرَمَيْنِ،
وَيُكْثِرُ الْخَرْجَ عَلَى الْعَرَبِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ لِيَكُفُّوا
عَنْ أَذَى الْحُجَّاجِ، وَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْفَسَادِ
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَعَظُمَ مَحَلُّهُ وَسَارَ ذِكْرُهُ.
وَفِيهَا نَظَرَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي الرَّيَّانِ فِي
الْوِزَارَةِ بِوَاسِطَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يُوسُفَ
الْجَكَّارُ.
(7/501)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَة]
389 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ وَمُلْكِ
أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ عَلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحِ
بْنِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ، صَاحِبِ بُخَارَى وَمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ.
وَسَبَبُ قَبْضِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَصْدِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ بَكْتُوزُونَ بِخُرَاسَانَ، وَعَوْدِهِ عَنْ
نَيْسَابُورَ إِلَى مَرْوَ الرُّوذِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا سَارَ
بَكْتُوزُونُ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ وَهُوَ بِسَرَخْسَ،
فَاجْتَمَعَ بِهِ فَلَمْ يَرَ مِنْ إِكْرَامِهِ وَبِرِّهِ مَا كَانَ
يُؤَمِّلُهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى فَائِقٍ فَقَابَلَهُ فَائِقٌ
بِأَضْعَافِ شَكْوَاهُ، فَاتَّفَقَا عَلَى خَلْعِهِ مِنَ الْمُلْكِ،
وَإِقَامَةِ أَخِيهِ مَقَامَهُ، وَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَعْيَانِ الْعَسْكَرِ، فَاسْتَحْضَرَهُ بَكْتُوزُونُ بِعِلَّةِ
الِاجْتِمَاعِ لِتَدَبُّرِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ أَمْرِ مَحْمُودٍ،
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهِ قَبَضُوا عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بَكْتُوزُونُ
مَنْ سَمَلَهُ فَأَعْمَاهُ، وَلَمْ يُرَاقِبِ اللَّهَ وَلَا إِحْسَانَ
مَوَالِيهِ، وَأَقَامُوا أَخَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ مَقَامَهُ فِي
الْمُلْكِ، وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ مَنْصُورٍ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ.
وَمَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَرْسَلَ مَحْمُودٌ إِلَى
فَائِقٍ وَبَكْتُوزُونَ يَلُومُهُمَا وَيُقَبِّحُ فِعْلَهُمَا،
وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ عَلَى لِقَائِهِمَا، وَطَمِعَ فِي الِاسْتِقْلَالِ
بِالْمُلْكِ، فَسَارَ نَحْوَهُمَا عَازِمًا عَلَى الْقِتَالِ.
(7/502)
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ
مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ عَلَى خُرَاسَانَ
لَمَّا قُبِضَ الْأَمِيرُ مَنْصُورٌ سَارَ مَحْمُودٌ نَحْوَ فَائِقٍ
وَبَكْتُوزُونَ، وَمَعَهُمَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحٍ، فَلَمَّا
سَمِعُوا بِمَسِيرِهِ سَارُوا إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا بِمَرْوَ آخِرَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ
إِلَى اللَّيْلِ، فَانْهَزَمَ بَكْتُوزُونُ وَفَائِقٌ وَمَنْ
مَعَهُمَا.
فَأَمَّا عَبْدُ الْمَلِكِ وَفَائِقٌ فَإِنَّهُمَا لَحِقَا بِبُخَارَى،
وَقَصَدَ بَكْتُوزُونُ نَيْسَابُورَ، وَقَصَدَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
سِيمْجُورُ قُهُسْتَانَ، فَرَأَى مَحْمُودٌ أَنْ يَقْصِدَ بَكْتُوزُونَ
وَأَبَا الْقَاسِمِ، وَيُعَجِّلَهُمَا عَنِ الِاجْتِمَاعِ
وَالِاحْتِشَادِ فَسَارَ إِلَى طُوسَ، فَهَرَبَ مِنْهُ بَكْتُوزُونُ
إِلَى نَوَاحِي جُرْجَانَ، فَأَرْسَلَ مَحْمُودٌ خَلْفَهُ أَكْبَرَ
قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ وَهُوَ أَرْسِلَانُ الْجَاذِبُ فِي عَسْكَرٍ
جَرَّارٍ، فَاتَّبَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُ بِجُرْجَانَ، وَعَادَ
فَاسْتَخْلَفَهُ مَحْمُودٌ عَلَى طُوسَ، وَسَارَ إِلَى هَرَاةَ.
فَلَمَّا عَلِمَ بَكْتُوزُونُ بِمَسِيرِ مَحْمُودٍ عَنْ نَيْسَابُورَ
عَادَ إِلَيْهَا فَمَلَكَهَا، فَقَصَدَهُ مَحْمُودٌ، فَأَجْفَلَ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ إِجْفَالَ الظَّلِيمِ، وَاجْتَازَ بِمَرْوَ
فَنَهَبَهَا، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى بُخَارَى، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ
مَحْمُودٍ بِخُرَاسَانَ، فَأَزَالَ عَنْهَا اسْمَ السَّامَانِيَّةِ،
وَخُطِبَ (فِيهَا لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ إِلَى هَذَا
الْوَقْتِ لَا يُخْطَبُ لَهُ فِيهَا، إِنَّمَا كَانَ يُخْطَبُ)
لِلطَّائِعِ لِلَّهِ، وَاسْتَقَلَّ بِمُلْكِهَا مُنْفَرِدًا، وَتِلْكَ
سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ،
وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ.
وَوَلَّى مَحْمُودٌ قِيَادَةَ جُيُوشِ خُرَاسَانَ أَخَاهُ نَصْرًا،
وَجَعَلَهُ بِنَيْسَابُورَ عَلَى مَا كَانَ يَلِيهِ آلُ سِيمْجُورَ
لِلسَّامَانِيَّةِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى بَلْخَ، مُسْتَقَرِّ وَالِدِهِ،
فَاتَّخَذَهَا دَارَ مُلْكٍ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ
بِخُرَاسَانَ عَلَى طَاعَتِهِ كَآلِ فَرِيغُونَ، أَصْحَابِ
الْجُوزَجَانِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَكَالشَّارِ الشَّاهْ، صَاحِبِ غَرْشِسْتَانَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ
هَاهُنَا
(7/503)
أَخْبَارَ هَذَا الشَّارِ، فَاعْلَمْ أَنَّ
هَذَا اللَّقَبَ هُوَ الشَّارُ، لَقَبُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ بِلَادَ
غَرْشِسْتَانَ، كَكِسْرَى لِلْفُرْسِ، وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ،
وَالنَّجَّاشِيِّ لِلْحَبَشَةِ، وَكَانَ الشَّارُ أَبُو نَصْرٍ قَدِ
اعْتَزَلَ الْمُلْكَ وَسَلَّمَهُ إِلَى وَلَدِهِ الشَّاهْ، وَفِيهِ
لُوثَةٌ وَهَوَجٌ، وَاشْتَغَلَ وَالِدُهُ أَبُو نَصْرٍ بِالْعُلُومِ
وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ.
وَلَمَّا عَصَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِيمْجُورَ عَلَى الْأَمِيرِ نُوحٍ
أَرْسَلَ إِلَى غَرْشِسْتَانَ مَنْ حَصَرَهَا، وَأَجْلَى عَنْهَا
الشَّاهِ الشَّارَ وَوَالِدَهُ أَبَا نَصْرٍ، فَقَصَدَا حِصْنًا
مَنِيعًا فِي آخِرِ وِلَايَتِهِمَا، فَتَحَصَّنَا بِهِ إِلَى أَنْ
جَاءَ سُبُكْتِكِينُ إِلَى نُصْرَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ، فَنَزَلَا
إِلَيْهِ وَأَعَانَاهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ وَعَادَا إِلَى
مُلْكِهِمَا. فَلَمَّا مَلَكَ الْآنَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودٌ
خُرَاسَانَ أَطَاعَاهُ وَخَطَبَا لَهُ.
ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ، بَعْدَ هَذَا، أَرَادَ الْغَزْوَةَ
إِلَى الْهِنْدِ، فَجَمَعَ لَهَا وَتَجَهَّزَ، وَكَتَبَ إِلَى الشَّاهِ
الشَّارِ يَسْتَدْعِيهِ لِيَشْهَدَ مَعَهُ غَزْوَتَهُ فَامْتَنَعَ
وَعَصَى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غَزْوَتِهِ، سَيَّرَ إِلَيْهِ
الْجُيُوشَ لِيَمْلِكُوا بِلَادَهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبِلَادَ
طَلَبَ وَالِدُهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَمَانَ، فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ،
وَحُمِلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ فَأَكْرَمَهُ، وَاعْتَذَرَ أَبُو
نَصْرٍ بِعُقُوقِ وَلَدِهِ، وَخِلَافِهِ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ
بِالْمُقَامِ بِهَرَاةَ مُتَوَسَّعًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ
اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَأَمَّا وَلَدُهُ الشَّاهْ، فَإِنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ الْحِصْنَ
الَّذِي احْتَمَى بِهِ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ، فَأَقَامَ بِهِ وَمَعَهُ
أَمْوَالُهُ وَأَصْحَابُهُ، فَحَصَرَهُ عَسْكَرُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ
فِي حِصْنِهِ، وَنَصَبُوا عَلَيْهِ الْمَجَانِيقَ، وَأَلَحُّوا
عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَانْهَدَمَتْ أَسْوَارُ
حِصْنِهِ، وَتَسَلَّقَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ
بِالْعَطَبِ طَلَبَ الْأَمَانَ، وَالْعَسْكَرُ يُقَاتِلُهُ، فَلَمْ
يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أُخِذَ أَسِيرًا، وَحُمِلَ إِلَى يَمِينِ
الدَّوْلَةِ، فَضُرِبَ تَأْدِيبًا لَهُ، ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ إِلَى
أَنْ مَاتَ، وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ وَالِدِهِ.
وَرَأَيْتُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ مِنْ كِتَابِ " التَّهْذِيبِ "
لِلْأَزْهَرِيِّ فِي اللُّغَةِ بِخَطِّهِ، وَعَلَيْهِ مَا
(7/504)
هَذِهِ نُسْخَتُهُ: " يَقُولُ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِيِّ: قَرَأَ عَلَيَّ الشَّارُ أَبُو
نَصْرٍ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَكَتَبَهُ
بِيَدِهِ صَحَّ ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِهِ وَعِلْمِهِ
بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ يَصْحَبُ مِثْلَ الْأَزْهَرِيِّ،
وَيَقْرَأُ كِتَابَهُ " التَّهْذِيبَ "، يَكُونُ فَاضِلًا.
ذِكْرُ انْقِرَاضِ دَوْلَةِ السَّامَانِيَّةِ وَمُلْكِ التُّرْكِ مَا
وَرَاءَ النَّهْرِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ آلِ سَامَانَ عَلَى يَدِ
مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَأَيْلَكَ الْخَانِ التُّرْكِيِّ،
وَاسْمُهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَلَقَبُهُ شَمْسُ
الدَّوْلَةِ.
فَأَمَّا مَحْمُودٌ فَإِنَّهُ مَلَكَ خُرَاسَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ،
وَبَقِيَ بِيَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نُوحٍ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ،
فَلَمَّا انْهَزَمَ مِنْ مَحْمُودٍ قَصَدَ بُخَارَى وَاجْتَمَعَ بِهَا
هُوَ وَفَائِقٌ وَبَكْتُوزُونُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَالْأَكَابِرِ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَرَعُوا فِي جَمْعِ
الْعَسَاكِرِ، وَعَزَمُوا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى خُرَاسَانَ،
فَاتُّفِقَ أَنْ مَاتَ فَائِقٌ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا مَاتَ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَوَهَنَتْ
قُوَّتُهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ
بَيْنِهِمْ، وَكَانَ خَصِيًّا مِنْ مَوَالِي نُوحِ بْنِ نَصْرٍ.
وَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى أَيْلَكَ الْخَانِ، فَسَارَ فِي جَمْعِ
الْأَتْرَاكِ إِلَى بُخَارَى، وَأَظْهَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
الْمَوَدَّةَ وَالْمُوَالَاةَ، وَالْحَمِيَّةَ لَهُ، فَظَنُّوهُ
صَادِقًا، وَلَمْ يَحْتَرِسُوا مِنْهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ بَكْتُوزُونُ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُوَّادِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا
قَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ بُخَارَى يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ
يَدْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ مَا يَصْنَعُ لِقِلَّةِ عَدَدِهِ، فَاخْتَفَى
وَنَزَلَ أَيْلَكُ الْخَانُ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَبَثَّ الطَّلَبَ
وَالْعُيُونَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِ،
فَأَوْدَعَهُ بَافْكَنْدَ فَمَاتَ بِهَا، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ
السَّامَانِيَّةِ، وَانْتَقَضَتْ دَوْلَتُهُمْ عَلَى يَدِهِ كَأَنْ
لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، كَدَأْبِ الدُّوَلِ قَبْلَهَا، إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ. وَحُبِسَ مَعَهُ أَخُوهُ
أَبُو الْحَرْثِ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ الَّذِي كَانَ فِي الْمُلْكِ
قَبْلَهُ، وَأَخَوَاهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَبُو
يَعْقُوبَ ابْنَا نُوحٍ، وَعَمَّاهُ أَبُو زَكَرِيَّاءَ وَأَبُو
سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ آلِ سَامَانَ، وَأَفْرَدَ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُجْرَةٍ.
(7/505)
وَكَانَتْ دَوْلَتُهُمْ قَدِ انْتَشَرَتْ
وَطَبَّقَتْ كَثِيرًا مِنَ الْأَرْضِ مِنْ حُدُودِ حُلْوَانَ إِلَى
بِلَادِ التُّرْكِ، بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ
الدُّوَلِ سِيرَةً وَعَدْلًا، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هَذَا هُوَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ نُوحِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحِ بْنِ نَصْرِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ كُلُّهُمْ مَلَكُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ
لَيْسَ مَذْكُورًا فِي هَذَا النَّسَبِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحِ
بْنِ نَصْرٍ مَلَكَ قَبْلَ أَخِيهِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ الْمَذْكُورِ،
وَكَانَ مِنْهُمْ أَيْضًا مَنْصُورُ بْنُ نُوحِ بْنِ مَنْصُورٍ أَخُو
عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا الْأَخِيرِ الَّذِي زَالَ الْمُلْكُ فِي
وِلَايَتِهِ وَلِيَ قَبْلَهُ.
ذِكْرُ مُلْكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فَارِسَ وَخُوزِسْتَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ مَعَ أَبِي عَلِيِّ
بْنُ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ بِالْأَهْوَازِ فِي طَاعَةِ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَيْ بَخْتِيَارَ لَمَّا قَتَلَا
صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَلَكَا بِلَادَ فَارِسَ،
كَتَبَا إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ بِالْخَبَرِ،
وَيَذْكُرَانِ تَعْوِيلَهُمَا عَلَيْهِ، وَاعْتِضَادَهُمَا بِهِ،
وَيَأْمُرَانِهِ بِأَخْذِ الْيَمِينِ لَهُمَا عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ
الدَّيْلَمِ، وَالْمُقَامِ بِمَكَانِهِ، وَالْجِدِّ بِمُحَارَبَةِ
بَهَاءِ الدَّوْلَةِ. فَخَافَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ لِمَا كَانَ
أَسْلَفَهُ إِلَيْهِمَا مِنْ قِبَلِ أَخَوَيْهِمَا وَأَسْرِهِمَا،
فَجَمَعَ الدَّيْلَمَ الَّذِي مَعَهُ وَأَخْبَرَهُمُ الْحَالَ،
وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ، فَأَشَارُوا بِطَاعَةِ ابْنَيْ
بَخْتِيَارَ وَمُقَاتَلَةِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ
عَلَى ذَلِكَ، وَرَأَى أَنْ يُرَاسِلَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ
وَيَسْتَمِيلَهُ وَيُحَلِّفَهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ
الْأَتْرَاكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَسَكَتَ
عَنْهُمْ وَتَفَرَّقُوا.
وَرَاسَلَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَبْذُلُ لَهُ
وَلِلدَّيْلَمِ الْأَمَانَ وَالْإِحْسَانَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ،
وَقَالَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ: إِنَّ ثَأْرِي وَثَأْرَكُمْ عِنْدَ مَنْ
قَتَلَ أَخِي، فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْأَخْذِ
بِثَأْرِهِ، وَاسْتَمَالَ الدَّيْلَمَ فَأَجَابُوهُ إِلَى الدُّخُولِ
فِي طَاعَتِهِ، وَأَنْفَذُوا
(7/506)
جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِمْ إِلَى
بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فَحَلَّفُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ، وَكَتَبُوا
إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْمُقِيمِينَ بِالسُّوسِ بِصُورَةِ الْحَالِ.
وَرَكِبَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْغَدِ إِلَى بَابِ السُّوسِ،
رَجَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مَنْ فِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَخَرَجُوا
إِلَيْهِ فِي السِّلَاحِ، وَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ
يُقَاتِلُوا مِثْلَهُ، فَضَاقَ صَدْرُهُ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ
عَادَةُ الدَّيْلَمِ أَنْ يَشْتَدَّ قِتَالُهُمْ عِنْدَ الصُّلْحِ،
لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِمْ، ثُمَّ كَفُّوا عَنِ الْقِتَالِ وَأَرْسَلُوا
مَنْ يُحَلِّفُهُ لَهُمْ، وَنَزَلُوا إِلَى خِدْمَتِهِ، وَاخْتَلَطَ
الْعَسْكَرَانِ، وَسَارُوا إِلَى الْأَهْوَازِ، فَقَرَّرَ أَبُو
عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أُمُورَهَا، وَقَسَّمَ الْإِقْطَاعَاتِ
بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالدَّيْلَمِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى رَامَهُرْمُزَ
فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَعَلَى أَرَّجَانَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ
خُوزِسْتَانَ.
وَسَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى شِيرَازَ، فَنَزَلَ
بِظَاهِرِهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنَا بَخْتِيَارَ فِي
أَصْحَابِهِمَا، فَحَارَبُوهُ، فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ مَالَ
بَعْضُ مَنْ مَعَهُمَا إِلَيْهِ، وَدَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ
الْبَلَدَ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ
النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ بِشِيرَازَ قَدْ وَرَدَهَا
رَسُولًا مِنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ إِلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ،
فَلَمَّا قُتِلَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ كَانَ بِشِيرَازَ، فَلَمَّا
سَمِعَ النِّدَاءَ بِشِعَارِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ ظَنَّ أَنَّ
الْفَتْحَ قَدْ تَمَّ، فَقَصَدَ الْجَامِعَ، وَكَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ.
ثُمَّ عَادَ ابْنَا بَخْتِيَارَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا
أَصْحَابُهُمَا، فَخَافَ النَّقِيبُ، فَاخْتَفَى، وَحُمِلَ فِي سَلَّةٍ
إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ ابْنَيْ
بَخْتِيَارَ قَصَدُوا أَبَا عَلِيٍّ وَأَطَاعُوهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى
شِيرَازَ، وَهَرَبَ ابْنَا بَخْتِيَارَ فَأَمَّا أَبُو نَصْرٍ
فَإِنَّهُ لَحِقَ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ
أَبُو الْقَاسِمِ، فَلَحِقَ بِبَدْرِ بْنِ حَسْنُوَيْهِ ثُمَّ قَصَدَ
الْبَطِيحَةَ.
وَلَمَّا مَلَكَ أَبُو عَلِيٍّ شِيرَازَ كَتَبَ إِلَى بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ بِالْفَتْحِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَنَزَلَهَا، فَلَمَّا
اسْتَقَرَّ بِهَا أَمَرَ بِنَهْبِ قَرْيَةِ الدُّودَمَانِ
وَإِحْرَاقِهَا، وَقَتْلِ كُلِّ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَهْلِهِمْ
فَاسْتَأْصَلَهُمْ، وَأَخْرَجَ أَخَاهُ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ
وَجَدَّدَ أَكْفَانَهُ، وَحُمِلَ إِلَى التُّرْبَةِ بِشِيرَازَ
فَدُفِنَ
(7/507)
بِهَا، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا مَعَ أَبِي
الْفَتْحِ أُسْتَاذِ هُرْمُزَ إِلَى كَرْمَانَ فَمَلَكَهَا وَأَقَامَ
بِهَا نَائِبًا عَنْ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ.
إِلَى هَاهُنَا آخِرُ مَا فِي " ذَيْلِ " الْوَزِيرِ أَبِي شُجَاعٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
ذِكْرُ مَسِيرِ بَادِيسَ إِلَى زَنَاتَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ صَفَرَ، أَمَرَ بَادِيسُ بْنُ
الْمَنْصُورِ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، نَائِبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي
الْعَرَبِ بِالتَّجَهُّزِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْعَسَاكِرِ
وَالْعُدَدِ، وَالْمَسِيرِ إِلَى زَنَاتَةَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَّهُ يَطُّوفَتَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ
أَنَّ زِيرِيَ بْنَ عَطِيَّةَ الْمُلَقَّبَ بِالْقِرْطَاسِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، نَزَلَ عَلَيْهِ بِتَاهَرْتَ مُحَارِبًا، فَأَمَرَ
مُحَمَّدًا بِالتَّجَهُّزِ إِلَيْهِ، فَسَارَ فِي عَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ
حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَشِيرَ، وَبِهَا حَمَّادُ بْنُ يُوسُفَ عَمُّ
بَادِيسَ، كَانَ قَدْ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا بَادِيسُ، فَرَحَلَ
حَمَّادٌ مَعَهُ، فَوَصَلَ إِلَى تَاهَرْتَ، وَاجْتَمَعَا
بَيَطُّوفَتَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زِيرِي بْنِ عَطِيَّةَ
مَرْحَلَتَانِ، فَزَحَفُوا إِلَيْهِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ
عَظِيمَةٌ.
وَكَانَ أَكْثَرُ عَسْكَرِ حَمَّادٍ يَكْرَهُونَهُ لِقِلَّةِ
عَطَائِهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ انْهَزَمُوا، فَتَبِعَهُمْ
جَمِيعُ الْعَسْكَرِ، فَأَرَادَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَرَبِ أَنْ
يَرُدَّ النَّاسَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَمَّتِ
الْهَزِيمَةُ، وَمَلَكَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ مَالَهُمْ وَعُدَدَهُمْ
وَرَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى أَشِيرَ.
وَبَلَغَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى بَادِيسَ، فَرَحَلَ، فَلَمَّا
قَارَبَ طُبْنَةَ بَعَثَ فِي طَلَبِ فُلْفُلِ بْنِ سَعِيدٍ، فَخَافَ
فَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَطَلَبَ عَهْدًا بِإِقْطَاعِ
مَدِينَةِ طُبْنَةَ، فَكَتَبَ لَهُ، وَسَارَ بَادِيسُ، فَلَمَّا
أَبْعَدَ قَصَدَ فُلْفُلٌ مَدِينَةَ طُبْنَةَ، وَغَلَبَ عَلَى مَا
حَوْلَهَا، وَقَصَدَ بَاغَايَةَ فَحَصَرَهَا، وَبَادِيسُ سَائِرٌ إِلَى
أَشِيرَ. فَلَمَّا سَمِعَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّهُ قَدْ قَرُبَ
مِنْهُ رَحَلَ إِلَى تَاهَرْتَ، فَقَصَدَهُ بَادِيسُ، فَسَارَ زِيرِي
إِلَى الْعَرَبِ. فَلَمَّا سَمِعَ بَادِيسُ بِرَحِيلِهِ اسْتَعْمَلَ
عَمَّهُ يَطُّوفَتَ عَلَى أَشِيرَ، وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا وَعُدَدًا،
وَعَادَ إِلَى أَشِيرَ، فَبَلَغَهُ مَا
(7/508)
فَعَلَ فُلْفُلُ بْنُ سَعِيدٍ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ الْعَسَاكِرَ، وَبَقِيَ يَطُّوفَتُ وَمَعَهُ أَعْمَامُهُ
وَأَوْلَادُ أَعْمَامِهِ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْهُمْ بَادِيسُ
عَصَوْا، وَخَالَفُوا عَلَيْهِ، مِنْهُمْ مَاكْسَنُ، وَزَاوِي
وَغَيْرُهُمَا، وَقَبَضُوا عَلَى يَطُّوفَتَ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا
مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَهَرَبَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَعَادَ إِلَى
بَادِيسَ.
وَأَمَّا فُلْفُلُ بْنُ سَعِيدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ
الْعَسْكَرُ (الْمُسَيَّرُ إِلَى قِتَالِهِ لَقِيَهُمْ) وَقَاتَلَهُمْ
وَهَزَمَهُمْ، وَقَتَّلَ فِيهِمْ، وَسَارَ يَطْلُبُ الْقَيْرَوَانَ.
فَسَارَ عِنْدَ ذَلِكَ بَادِيسُ إِلَى بَاغَايَةَ، فَلَقِيَهُ
أَهْلُهَا، فَعَرَّفُوهُ مَا قَاسَوْهُ مِنْ قِتَالِ فُلْفُلٍ،
وَأَنَّهُ حَصَرَهُمْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَشَكَرَهُمْ،
وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ، وَسَارَ يَطْلُبُ فُلْفُلًا، فَوَصَلَ
إِلَى مَرْمَجَنَّةَ، وَسَارَ فُلْفُلٌ إِلَيْهِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ
مِنَ الْبَرْبَرِ وَزَنَاتَةَ، وَمَعَهُ كُلُّ مَنْ فِي نَفْسِهِ
حِقْدٌ عَلَى بَادِيسَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَالْتَقَوْا بِوَادِي
أَغْلَانَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِهَا، وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ،
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ عَلَى بَادِيسَ
وَصِنْهَاجَةَ، وَانْهَزَمَ الْبَرْبَرُ وَزَنَاتَةُ هَزِيمَةً
قَبِيحَةً، وَانْهَزَمَ فُلْفُلٌ فَأَبْعَدَ فِي الْهَزِيمَةِ،
وَقُتِلَ مِنْ زُوَيْلَةَ تِسْعَةُ آلَافِ قَتِيلٍ سِوَى مَنْ قُتِلَ
مِنَ الْبَرْبَرِ، وَعَادَ بَادِيسُ إِلَى قَصْرِهِ، وَفَرِحَ أَهْلُ
الْقَيْرَوَانِ لِأَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ فُلْفُلٌ.
ثُمَّ إِنَّ عُمُومَةَ بَادِيسَ اتَّصَلُوا بِفُلْفُلٍ، وَصَارُوا
مَعَهُ عَلَى بَادِيسَ، فَلَمَّا سَمِعَ بَادِيسُ بِذَلِكَ سَارَ
إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ قَصْرَ الْإِفْرِيقِيِّ وَصَلَهُ أَنَّ
عُمُومَتَهُ فَارَقُوا فُلْفُلًا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى
مَاكْسَنَ بْنِ زِيرِي، وَذَلِكَ أَوَّلُ سَنَةِ تِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ.
ذِكْرُ مُلْكِ الْحَاكِمِ طَرَابُلُسِ الْغَرْبِ وَعَوْدِهَا إِلَى
بَادِيسَ
كَانَ لِبَادِيسَ نَائِبٌ بِطَرَابُلُسِ الْغَرْبِ، فَكَاتَبَ
الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ بِمِصْرَ، وَطَلَبَ أَنْ يُسَلِّمَ
إِلَيْهِ طَرَابُلُسَ وَيَلْتَحِقَ بِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
الْحَاكِمُ يَأْنَسَ الصِقِلِّيَّ، وَكَانَ خِصِّيصًا
(7/509)
بِالْحَاكِمِ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّي
لِبِلَادِ بَرْقَةَ، فَوَصَلَ يَأْنَسُ وَتَسَلَّمَ طَرَابُلُسَ
وَأَقَامَ بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .
فَأَرْسَلَ بَادِيسُ إِلَى يَأْنَسَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ وُصُولِهِ
إِلَى طَرَابُلُسَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ اسْتَعْمَلَكَ
عَلَيْهَا فَأَرْسِلِ الْعَهْدَ لِأَقِفَ عَلَيْهِ. فَقَالَ يَأْنَسُ:
إِنَّمَا أَرْسَلَنِي مُعِينًا وَنَجْدَةً إِنِ احْتِيجَ إِلَيَّ،
مِثْلِي لَا يُطْلَبُ مِنْهُ عَهْدٌ بِوِلَايَةٍ لِمَحَلِّي مِنْ
دَوْلَةِ الْحَاكِمِ. فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَلَقِيَهُمْ
يَأْنَسُ خَارِجَ طَرَابُلُسَ فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَانْهَزَمَ
أَصْحَابُهُ وَدَخَلُوا طَرَابُلُسَ فَتَحَصَّنُوا بِهَا.
وَكَانَ قَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ كَثِيرٌ، وَنَزَلَ
عَلَيْهِمُ الْجَيْشُ وَحَصَرَهُمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْحَاكِمِ
يَسْتَمِدُّونَهُ، فَجَهَّزَ جَيْشًا عَلَيْهِمْ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ
الْأَنْدَلُسِيُّ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ
مَالًا عَلَى بَرْقَةَ، فَلَمْ يَجِدْ يَحْيَى فِيهَا مَالًا،
فَاخْتَلَّتْ حَالُهُ، فَسَارَ إِلَى فُلْفُلٍ وَكَانَ قَدْ دَخَلَ
إِلَى طَرَابُلُسَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَأَقَامَ مَعَهُ فِيهَا،
وَاسْتَوْطَنَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ
خَبَرِهِمْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .
(وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] سَارَ مَاكْسَنُ
بْنُ زِيرِي، عَمُّ أَبِي بَادِيسَ، إِلَى أَشِيرَ، وَبِهَا ابْنُ
أَخِيهِ حَمَّادُ بْنُ يُوسُفَ بُلُكِّينَ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ
شَدِيدَةٌ قُتِلَ فِيهَا مَاكْسَنُ وَأَوْلَادُهُ مُحْسِنٌ،
وَبَادِيسُ، وَحَبَّاسَةُ، وَتُوُفِّيَ زِيرِي بْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ
قَتْلِ مَاكْسَنَ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ) .
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ
عَظِيمٌ ضَحْوَةَ نَهَارٍ.
وَفِيهَا عَمِلَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ يَوْمَ السَّادِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ زِينَةً عَظِيمَةً وَفَرَحًا
كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ عَمِلُوا ثَامِنَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِثْلَ مَا
يَعْمَلُ الشِّيعَةُ فِي عَاشُورَاءَ،
(7/510)
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشِّيعَةَ
بِالْكَرْخِ كَانُوا يَنْصِبُونَ الْقِبَابَ، (وَتُعَلَّقُ الثِّيَابُ)
لِلزِّينَةِ، الْيَوْمَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ
يَوْمُ الْغَدِيرِ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ
الْمَأْتَمِ، وَالنَّوْحِ، وَإِظْهَارِ الْحُزْنِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ،
فَعَمِلَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ، بَعْدَ
يَوْمِ الْغَدِيرِ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، مِثْلُهُمْ قَالُوا: هُوَ
يَوْمٌ دَخَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، وَأَبُو
بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْغَارَ، وَعَمِلُوا بَعْدَ
عَاشُورَاءَ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِثْلَ مَا يَعْمَلُونَ يَوْمَ
عَاشُورَاءَ، وَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ
الزُّبَيْرِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ [زَاهِرُ بْنُ] أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عِيسَى أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ الْمُقْرِئُ الْفَقِيهُ
الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
وَلَهُ رِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ أَيْضًا، وَكَانَ شَيْخَ خُرَاسَانَ فِي
زَمَانِهِ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ، وَالْأَدَبَ
عَلَى ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَمَاتَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ
سَنَةً، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
سُلَيْمَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَزَّازُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
حَبَابَةَ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَنَابِلَةِ فِي زَمَانِهِ.
(7/511)
|