الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَة]
407 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ قَتْلِ خُوَارَزْمَشَاهِ وَمُلْكِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ خُوَارَزْمَ وَتَسْلِيمِهَا إِلَى التُّونْتَاشِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ خُوَارَزْمَشَاهِ أَبُو الْعَبَّاسِ مَأْمُونُ بْنُ مَأْمُونٍ (وَمَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ خُوَارَزْمَ) .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ كَانَ قَدْ مَلَكَ خُوَارَزْمَ وَالْجُرْجَانِيَّةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَخَطَبَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ أُمَرَاءَ دَوْلَتِهِ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَأَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ، وَنَهَوْهُ عَنْهُ، وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ إِنْ فَعَلَهُ، فَعَادَ الرَّسُولُ وَحَكَى لِيَمِينِ الدَّوْلَةِ مَا شَاهَدَهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْأُمَرَاءَ خَافُوهُ حَيْثُ رَدُّوا أَمْرَهُ، فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، وَلَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ، وَأَجْلَسُوا مَكَانَهُ أَحَدَ أَوْلَادِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ يَسُوءُهُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا طَالَبَهُمْ بِثَأْرِهِ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى مُقَاتَلَتِهِ وَمُقَارَعَتِهِ.
وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ نَحْوَهُمْ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ جَمَعَهُمْ صَاحِبُ جَيْشِهِمْ، وَيُعْرَفُ بِالْبَتْكِينِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ مُقَدِّمَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ وَالْإِيقَاعِ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْأَجْنَادِ، فَسَارُوا مَعَهُ وَقَاتَلُوا مُقَدِّمَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ.

(7/611)


وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَتَقَدَّمَ نَحْوَهُمْ فِي سَائِرِ جُيُوشِهِ، فَلَحِقَهُمْ وَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَثَبَتَ الْخُوَارَزْمِيَّةُ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَأَحْسَنُوا الْقِتَالَ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْهَزَمُوا، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَتْكِينَ رَكِبَ سَفِينَةً لِيَنْجُوَ فِيهَا، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ مَعَهُ مُنَافَرَةٌ، فَقَامُوا عَلَيْهِ وَأَوْثَقُوهُ، وَرَدُّوا السَّفِينَةَ إِلَى نَاحِيَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ وَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَسَائِرَ الْقُوَّادِ الْمَأْسُورِينَ مَعَهُ، وَصَلَبَهُمْ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي الْعَبَّاسِ خُوَارَزْمَشَاهَ، وَأَخَذَ الْبَاقِينَ مِنَ الْأَسْرَى، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى غَزْنَةَ، فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهَا أَفْرَجَ عَنْهُمْ، وَأَجْرَى لَهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِ مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ يَحْمُونَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَيَحْفَظُونَهَا مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَأَخَذَ خُوَارَزْمَ وَاسْتَنَابَ بِهَا حَاجِبَهُ التُّونْتَاشَ.

ذِكْرُ غَزْوَةِ قِشْمِيرَ وَقَنُّوجَ وَغَيْرِهِمَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الْهِنْدِ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُوَارَزْمَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى غَزْنَةَ (وَمِنْهَا إِلَى الْهِنْدِ) عَازِمًا عَلَى غَزْوِ قِشْمِيرَ، إِذْ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ الْهِنْدِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِشْمِيرَ، وَأَتَاهُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ نَحْوُ عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَغَيْرِهِ مِنِ الْبِلَادِ، وَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ غَزْنَةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ سَيْرًا دَائِمًا، وَعَبَرَ نَهْرَ سَيْحُونَ، وَجِيلُومَ، وَهُمَا نَهْرَانِ عَمِيقَانِ شَدِيدَا الْجَرْيَةِ، فَوَطِئَ أَرْضَ الْهِنْدِ، وَأَتَاهُ رُسُلُ مُلُوكِهَا بِالطَّاعَةِ وَبَذْلِ الْإِتَاوَةِ.
فَلَمَّا بَلَغَ دَرْبَ قِشْمِيرَ أَتَاهُ صَاحِبُهَا وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، وَسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَقْصِدِهِ، فَبَلَغَ مَاجُونَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَفَتَحَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ الْفَسِيحَةِ (وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ) ، حَتَّى بَلَغَ حِصْنَ هُودَبَ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْهِنْدِ، فَنَظَرَ هُودَبُ

(7/612)


مِنْ أَعْلَى حِصْنِهِ، فَرَأَى مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا هَالَهُ وَرَعَبَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِ إِلَّا الْإِسْلَامُ، فَخَرَجَ فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافٍ يُنَادُونَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، طَلَبًا لِلْخَلَاصِ فَقَبِلَهُ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَسَارَ عَنْهُ إِلَى قَلْعَةِ كُلْجُنَدَ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْهِنْدِ وَشَيَاطِينِهِمْ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقِهِ غِيَاضٌ مُلْتَفَّةٌ لَا يَقْدِرُ السَّالِكُ عَلَى قَطْعِهَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَسَيَّرَ كُلْجُنْدُ عَسَاكِرَهُ وَفُيُولَهُ إِلَى أَطْرَافِ تِلْكَ الْغِيَاضِ يَمْنَعُونَ مِنْ سُلُوكِهَا، فَتَرَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِمْ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ، وَسَلَكَ طَرِيقًا مُخْتَصَرَةً إِلَى الْحِصْنِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمْ يُطِيقُوا الصَّبْرَ عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ، فَانْهَزَمُوا، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَلَقُوا نَهْرًا عَمِيقًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَاقْتَحَمُوهُ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ وَكَانَ الْقَتْلَى وَالْغَرْقَى قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَعَمَدَ كُلْجُنْدُ إِلَى زَوْجَتِهِ فَقَتَلَهَا ثُمَّ قَتَلَ نَفْسَهُ بَعْدَهَا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْوَالَهُ وَمَلَكُوا حُصُونَهُ.
ثُمَّ سَارَ نَحْوَ بَيْتٍ مُتَعَبَّدٍ لَهُمْ، وَهُوَ مَهَرَةُ الْهِنْدِ، وَهُوَ مِنْ أَحْصَنِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى نَهْرٍ، وَلَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ كَثِيرٌ، مِنْهَا خَمْسَةُ أَصْنَامٍ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ الْمُرَصَّعِ بِالْجَوَاهِرِ، وَكَانَ فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَتِسْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُمِائَةِ مِثْقَالٍ، وَكَانَ بِهَا مِنَ الْأَصْنَامِ الْمَصُوغَةِ مِنَ النُّقْرَةِ نَحْوُ مِائَتَيْ صَنَمٍ، فَأَخَذَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَأَحْرَقَ الْبَاقِيَ، وَسَارَ نَحْوَ قَنُّوجَ، (وَصَاحِبُهَا رَاجِيَالُ) ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي شَعْبَانَ، فَرَأَى صَاحِبَهَا قَدْ فَارَقَهَا: وَعَبَرَ الْمَاءَ الْمُسَمَّى كَنْكُ، وَهُوَ مَاءٌ شَرِيفٌ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَنْ غَرَّقَ نَفْسَهُ فِيهِ طُهِّرَ مِنَ الْآثَامِ، فَأَخَذَهَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ قِلَاعَهَا وَأَعْمَالَهَا، وَهِيَ سَبْعٌ عَلَى الْمَاءِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهَا قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ بَيْتِ صَنَمٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّهَا عُمِلَتْ مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ سَنَةٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ كَذِبًا مِنْهُمْ وَزُورًا، وَلَمَّا فَتَحَهَا أَبَاحَهَا عَسْكَرُهُ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ الْبَرَاهِمَةِ، فَقَاتَلُوهُ وَثَبَتُوا، فَلَمَّا عَضَّهُمُ السِّلَاحُ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ، فَاسْتَسْلَمُوا لِلسَّيْفِ فَقُتِلُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ.

(7/613)


ثُمَّ سَارَ نَحْوَ قَلْعَةِ آسِي، وَصَاحَبِهَا جُنْدُ بَالَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا هَرَبَ جُنْدُ بَالَ، وَأَخَذَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ حِصْنَهُ وَمَا فِيهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ شَرْوَةَ، وَصَاحِبُهَا جُنْدُرَآيِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ نَقَلَ مَالَهُ وَفُيُولَهُ نَحْوَ جِبَالٍ هُنَاكَ مَنِيعَةٍ يَحْتَمِي بِهَا، وَعَمِيَ خَبَرُهُ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ، فَنَازَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ حِصْنَهُ فَافْتَتَحَهُ وَغَنِمَ مَا فِيهِ، وَسَارَ فِي طَلَبِ جُنْدُرَآيِ جَرِيدَةً، (وَقَدْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ) ، فَلَحِقَ بِهِ فِي آخِرِ شَعْبَانَ فَقَاتَلَهُ، فَقَتَلَ أَكْثَرَ جُنْدِ جَنْدُرَآيِ، وَأَسَرَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَغَنِمَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ وَفِيَلٍ، وَهَرَبَ جَنْدُرَآيُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَجَا.
وَكَانَ السَّبْيُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَثِيرًا حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُبَاعُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ ظَافِرًا، وَلَمَّا عَادَ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعِ غَزْنَةَ، فَبُنِيَ بِنَاءً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَوَسَّعَ فِيهِ، وَكَانَ جَامِعُهَا الْقَدِيمُ صَغِيرًا، وَأَنْفَقَ مَا غَنِمَهُ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ فِي بِنَائِهِ.

ذِكْرُ حَالِ ابْنِ فُولَاذٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَتْ شَوْكَةُ ابْنِ فُولَاذٍ وَكَبُرَ شَأْنُهُ.
وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ وَضِيعًا، فَنَجَمَ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ، وَعَلَا صِيتُهُ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ طَلَبَ مِنْ مَجْدِ الدَّوْلَةِ وَوَالِدَتِهِ أَنْ يُقْطِعَاهُ قَزْوِينَ لِتَكُونَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ (مِنَ الرِّجَالِ) ، فَلَمْ يَفْعَلَا، وَاعْتَذَرَا إِلَيْهِ، فَقَصَدَ أَطْرَافَ وِلَايَةِ الرَّيِّ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ، وَجَعَلَ يُفْسِدُ وَيُغِيرُ، وَيَقْطَعُ السُّبُلَ، وَمَلَكَ مَا يَلِيهِ مِنَ الْقُرَى، فَعَجَزَا عَنْهُ، فَاسْتَعَانَا بِإِصْبَهْبَذَ الْمُقِيمِ بِفِرِيمَ، فَأَتَاهُمَا فِي رِجَالِ الْجِيلِ،

(7/614)


وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابْنِ فُولَاذٍ (عِدَّةُ حُرُوبِ، وَجُرِحَ ابْنُ فُولَاذٍ، وَوَلَّى) مُنْهَزِمًا حَتَّى بَلَغَ الدَّامَغَانَ، فَأَقَامَ حَتَّى عَادَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ وَرَجَعَ إِصْبَهْبَذُ إِلَى بِلَادِهِ.
وَكَتَبَ ابْنُ فُولَاذٍ إِلَى مُنُوجَهْرَ بْنِ قَابُوسَ يَطْلُبُ أَنْ يُنْفِذَ لَهُ عَسْكَرًا لِيَمْلِكَ الْبِلَادَ، وَيُقِيمَ لَهُ الْخُطْبَةَ فِيهَا، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْمَالَ، فَأَنْفَذَ لَهُ أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِظَاهِرِ الرَّيِّ، وَأَعَادَ الْإِغَارَةَ، وَمَنَعَ الْمِيرَةَ عَنْهَا، فَضَاقَتِ الْأَقْوَاتُ بِهَا، فَاضْطَرَّ مَجْدُ الدَّوْلَةِ وَوَالِدَتُهُ إِلَى مُدَارَاتِهِ وَإِعْطَائِهِ مَا يَلْتَمِسُهُ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ أَنْ يُسَلِّمَا إِلَيْهِ مَدِينَةَ أَصْبَهَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَأَعَادَ عَسْكَرَ مُنُوجَهْرَ إِلَيْهِ، وَزَالَ الْفَسَادُ، وَعَادَ إِلَى طَاعَةِ مَجْدِ الدَّوْلَةِ.

ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَلَوِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ وَقَتْلِ سُلَيْمَانَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ الْأَنْدَلُسَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودِ بْنِ أَبِي الْعَيْشِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ (مَعَ اتِّفَاقٍ عَلَى صِحَّةِ نَسَبِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ) .
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَتَى خَيْرَانَ الْعَامِرِيَّ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِوِلَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ الْأُمَوِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤَيَّدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ قُرْطُبَةَ انْهَزَمَ خَيْرَانُ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِتْيَانِ الْعَامِرِيِّينَ، فَتَبِعَهُمُ الْبَرْبَرُ وَوَاقَعَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَجُرِحَ خَيْرَانُ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ وَتُرِكَ عَلَى أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَلَمَّا فَارَقُوهُ قَامَ يَمْشِي، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ مِنَ الْبَرْبَرِ إِلَى دَارِهِ بِقُرْطُبَةَ وَعَالَجَهُ فَبَرِأَ وَأَعْطَاهُ مَالًا، وَخَرَجَ مِنْهَا سِرًّا إِلَى شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَقَاتَلَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَمَلَكَ الْمَرِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْأَجْنَادُ، وَأَزَالَ الْبَرْبَرَ عَنِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، فَغَلُظَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ شَأْنُهُ.

(7/615)


وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَلُسِ عُدْوَةُ الْمَجَازِ مَالِكًا لَهَا، وَكَانَ أَخُوهُ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ بِالْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا، وَبَيْنَهُمَا الْمَجَازُ، وَسَبَبُ مُلْكِهِمَا أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ، فَقَوَّدَهُمَا عَلَى الْمَغَارِبَةِ، ثُمَّ وَلَّاهُمَا هَذِهِ الْبِلَادَ، وَكَانَ خَيْرَانُ يَمِيلُ إِلَى دَوْلَةِ الْمُؤَيَّدِ، وَيَرْغَبُ فِيهَا، وَيَخْطُبُ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ حَيَاتَهُ حَيْثُ فُقِدَ مِنَ الْقَصْرِ، فَحَدَثَ لِعَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ طَمَعٌ فِي مُلْكِ الْأَنْدَلُسِ لِمَا رَأَى مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَكَتَبَ إِلَى خَيْرَانَ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّ الْمُؤَيَّدَ كَانَ كَتَبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِهِ إِنْ هُوَ قُتِلَ فَدَعَا لِعَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ.
وَكَانَ خَيْرَانُ يُكَاتِبُ النَّاسَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فَتُّوحٍ وَزِيرُ الْمُؤَيَّدِ، وَهُوَ بِمَالِقَةَ، وَكَاتَبُوا عَلِيَّ بْنَ حَمُّودٍ، وَهُوَ بِسَبْتَةَ، لِيَعْبَرَ إِلَيْهِمْ وَلِيَقُومُوا مَعَهُ وَيَسِيرُوا إِلَى قُرْطُبَةَ، فَعَبَرَ إِلَى مَالِقَةَ فِي سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَخَرَجَ عَنْهَا عَامِرُ بْنُ فَتُّوحٍ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَدَعَا لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَسَارَ خَيْرَانُ وَمَنْ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا بِالْمَنْكِبِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْمَرِيَّةِ وَمَالِقَةَ، سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَرَّرُوا مَا يَفْعَلُونَهُ، وَعَادُوا يَتَجَهَّزُونَ لِقَصْدِ قُرْطُبَةَ، فَتَجَهَّزُوا وَجَمَعُوا مَنْ وَافَقَهُمْ، وَسَارُوا إِلَى قُرْطُبَةَ وَبَايَعُوا عَلِيًّا عَلَى طَاعَةِ الْمُؤَيَّدِ الْأُمَوِيِّ.
فَلَمَّا بَلَغُوا غَرْنَاطَةَ (وَافَقَهُمْ أَمِيرُهَا، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَالْبَرْبَرُ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا) وَاقْتَتَلُوا عَلَى عَشَرَةِ فَرَاسِخَ مِنْ قُرْطُبَةَ، وَنَشَبَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ وَالْبَرْبَرُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُخِذَ سُلَيْمَانُ أَسِيرًا فَحُمِلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ وَمَعَهُ أَخُوهُ وَأَبُوهُ الْحَاكِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ قُرْطُبَةَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَدَخَلَ خَيْرَانُ وَغَيْرُهُ إِلَى الْقَصْرِ طَمَعًا فِي أَنْ يَجِدُوا الْمُؤَيَّدَ حَيًّا فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَرَأَوْا شَخْصًا مَدْفُونًا فَنَبَشُوهُ، وَجَمَعُوا لَهُ النَّاسَ، وَأَحْضَرُوا بَعْضَ فِتْيَانِهِ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ وَعَرَضُوهُ عَلَيْهِ، فَفَتَّشَهُ، وَفَتَّشَ أَسْنَانَهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ سِنٌّ سَوْدَاءُ وَكَانَ يَعْرِفُهَا ذَلِكَ الْفَتَى، فَأَجْمَعَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ الْمُؤَيَّدُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوا خَيْرَانَ أَنَّهُ الْمُؤَيَّدُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَعْلَمُ أَنَّ

(7/616)


الْمُؤَيَّدَ حَيٌّ، فَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ سُلَيْمَانَ وَقَتَلَهُ سَابِعَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَقَتَلَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ.
وَلَمَّا حَضَرَ أَبُوهُ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ قَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ قَتَلْتُمُ الْمُؤَيَّدَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، وَإِنَّهُ لَحَيٌّ فَحِينَئِذٍ أَسْرَعَ فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا مُنْقَبِضًا لَمْ يَتَدَنَّسْ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ ابْنِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ عَلَى قُرْطُبَةَ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ، فَبُويِعَ، وَاجْتَمَعَ لَهُ الْمُلْكُ، وَلُقِّبَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ.
ثُمَّ إِنَّ خَيْرَانَ أَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَيْهِ لِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ طَامِعًا أَنْ يَجِدَ الْمُؤَيَّدَ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ نُقِلَ إِلَيْهِ أَنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ قَتْلَهُ فَخَرَجَ عَنْ قُرْطُبَةَ وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَيْهِ.

ذِكْرُ ظُهُورِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ
لَمَّا خَالَفَ خَيْرَانُ عَلَيًّا أَرْسَلَ يَسْأَلُ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قُرْطُبَةَ مُسْتَخْفِيًا، وَنَزَلَ بِجَيَّانَ، وَكَانَ أَصْلَحَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَبَايَعَهُ خَيْرَانُ وَغَيْرُهُ، وَلَقَّبُوهُ الْمُرْتَضَى، وَرَاسَلَ خَيْرَانُ مُنْذِرَ بْنَ يَحْيَى التُّجِيبِيَّ أَمِيرَ سَرَقُسْطَةَ وَالثَّغْرِ الْأَعْلَى، وَرَاسَلَ أَهْلَ شَاطِبَةَ، وَبَلَنْسِيَةَ، وَطَرْطُوشَةَ، وَالْبُنْتَ، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَالْخِلَافِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ، فَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَنْدَلُسِ، وَاجْتَمَعُوا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالرَّيَاحِينِ فِي الْأَضْحَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَالشُّيُوخُ، وَجَعَلُوا الْخِلَافَةَ شُورَى، وَأَصْفَقُوا عَلَى بَيْعَتِهِ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى صِنْهَاجَةَ وَالنُّزُولِ عَلَى غَرْنَاطَةَ.
وَأَقْبَلَ الْمُرْتَضَى عَلَى أَهْلِ بَلَنْسِيَةَ، وَشَاطِبَةَ، وَأَظْهَرَ الْجَفَاءَ لِمُنْذِرِ بْنِ يَحْيَى التُّجِيبِيِّ، وَلِخَيْرَانَ، وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِمَا، فَنَدِمَا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى غَرْنَاطَةَ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا، وَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَقَاتَلُوا أَيَّامًا قِتَالًا شَدِيدًا، فَغَلَبَهُمْ أَهْلُ غَرْنَاطَةَ وَأَمِيرُهُمْ زَاوِي بْنُ زِيرِي الصِّنْهَاجِيُّ، وَانْهَزَمَ الْمُرْتَضَى وَعَسْكَرُهُ، وَاتَّبَعَتْهُمْ صِنْهَاجَةُ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَقُتِلَ الْمُرْتَضَى فِي هَذِهِ الْهَزِيمَةِ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهُوَ أَصْغَرُ

(7/617)


مِنْ أَخِيهِ هِشَامٍ، وَسَارَ أَخُوهُ هِشَامٌ إِلَى الْبُنْتِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ خُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ بَعْدَ هَذِهِ الْهَزِيمَةِ يَقْصِدُ بِلَادَ خَيْرَانَ وَالْعَامِرِيِّينَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.

ذِكْرُ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ
فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، تَجَهَّزَ (عَلِيُّ بْنُ حَمُّودٍ) ، لِلْمَسِيرِ إِلَى جَيَّانَ لِقِتَالِ مَنْ بِهَا مِنْ عَسْكَرِ خَيْرَانَ، فَلَمَّا كَانَ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهُ بَرَزَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى ظَاهِرِ قُرْطُبَةَ بِالْبُنُودِ وَالطُّبُولِ، وَوَقَفُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، فَدَخَلَ الْحَمَّامَ وَمَعَهُ غِلْمَانُهُ، فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَى النَّاسِ انْتِظَارُهُ بَحَثُوا عَنْ أَمْرِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَرَأَوْهُ مَقْتُولًا، فَعَادَ الْعَسْكَرُ إِلَى الْبَلَدِ.
وَكَانَ لَقَبُهُ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ، وَقِيلَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ، كَانَ أَسْمَرَ، أَعْيَنَ، أَكْحَلَ، خَفِيفَ الْجِسْمِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ، حَازِمًا، عَازِمًا، عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إِلَى أَهْلِ قُرْطُبَةَ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي أَخَذَهَا الْبَرْبَرُ، فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَيُجْزِلُ الْعَطَاءَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ الْقَاسِمُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ عَلِيٍّ بِعِدَّةِ أَعْوَامٍ، وَكَانَ عُمْرُ عَلِيٍّ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، بَنُوهُ يَحْيَى وَإِدْرِيسُ، وَأُمُّهُ قُرَشِيَّةٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ.

(7/618)


ذِكْرُ وِلَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ بِقُرْطُبَةَ
قَدْ ذَكَرْنَا (قَتْلَ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ) سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قُتِلَ بَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ، وَلُقِّبَ الْمَأْمُونَ، فَلَمَّا وَلِيَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ، كَاتَبَ الْعَامِرِيِّينَ وَاسْتَمَالَهُمْ وَأَقْطَعَ زُهَيْرًا جَيَّانَ، وَقَلْعَةَ رَبَاحٍ، وَبَيَّاسَةَ، وَكَاتَبَ خَيْرَانَ وَاسْتَعْطَفَهُ، فَلَجَأَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَ بِهِ، ثُمَّ عَادَ عَنْهُ إِلَى الْمَرِيَّةَ، وَبَقِيَ الْقَاسِمُ مَالِكًا لِقُرْطُبَةَ وَغَيْرِهَا إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَكَانَ وَادِعًا، لَيِّنًا، يُحِبُّ الْعَافِيَةَ، فَأَمِنَ النَّاسُ مَعَهُ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَسَارَ عَنْ قُرْطُبَةَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، فَخَالَفَهُ يَحْيَى ابْنُ أَخِيهِ فِيهَا.

ذِكْرُ دَوْلَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ وَمَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ عَمِّهِ
لَمَّا سَارَ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ عَنْ قُرْطُبَةَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ سَارَ ابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ مِنْ مَالِقَةَ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ مَانِعٍ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ بِقُرْطُبَةَ دَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ فَأَجَابُوهُ، فَكَانَتِ الْبَيْعَةُ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَلِي، وَبَقِيَ بِقُرْطُبَةَ يُدْعَى لَهُ بِالْخِلَافَةِ وَعَمُّهُ الْقَاسِمُ بِإِشْبِيلِيَّةَ يُدْعَى لَهُ بِالْخِلَافَةِ، إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. فَسَارَ يَحْيَى عَنْ قُرْطُبَةَ إِلَى مَالِقَةَ.
وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى عَمِّهِ، فَرَكِبَ وَجَدَّ فِي السَّيْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ بِإِشْبِيلِيَّةَ، قَدِ اسْتَمَالَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْبَرْبَرِ وَقَوِيَ بِهِمْ، وَبَقِيَ الْقَاسِمُ بِقُرْطُبَةَ شُهُورًا، ثُمَّ اضْطَرَبَ أَمْرُهُ بِهَا، وَسَارَ ابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ إِلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، وَغَلَبَ عَلَيْهَا

(7/619)


وَبِهَا أَهْلُ عَمِّهِ وَمَالِهِ، وَغُلِبَ أَخُوهُ إِدْرِيسُ بْنُ عَلِيٍّ، صَاحِبُ سَبْتَةَ، عَلَى طَنْجَةَ، وَهِيَ كَانَتْ عِدَّةَ الْقَاسِمِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِنْ رَأَى مَا يَخَافُ بِالْأَنْدَلُسِ، فَلَمَّا مَلَكَ ابْنَا أَخِيهِ بِلَادَهُ طَمِعَ فِيهِ النَّاسُ، وَتَسَلَّطَ الْبَرْبَرُ عَلَى قُرْطُبَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا وَبَرَزُوا إِلَى قِتَالِهِ عَاشِرَ جُمَادَى الْأُولَى إِلَى سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ سَكَنَتِ الْحَرْبُ، وَأَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، وَالْقَاسِمُ بِالْقَصْرِ يُظْهِرُ التَّوَدُّدَ لِأَهْلِ قُرْطُبَةَ، وَأَنَّهُ مَعَهُمْ، وَبَاطِنُهُ مَعَ الْبَرْبَرِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الْآخِرَةِ صَلَّى النَّاسُ الْجُمُعَةَ، فَلَمَّا فَرَغُوا تَنَادَوْا: السِّلَاحَ! السِّلَاحَ! فَاجْتَمَعُوا وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَحَفِظُوا الْبَلَدَ، وَدَخَلُوا قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَخَرَجَ عَنْهَا الْقَاسِمُ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ الْبَرْبَرُ، وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْبَلَدِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِهِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَالْقِتَالُ مُتَّصِلٌ، فَخَافَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ، وَسَأَلُوا الْبَرْبَرَ فِي أَنْ يَفْتَحُوا لَهُمُ الطَّرِيقَ وَيُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، فَصَبَرُوا حِينَئِذٍ عَلَى الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَلَدِ ثَانِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالَ مُسْتَقْتِلٍ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْبَرْبَرِ، {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] ، وَانْهَزَمَ الْبَرْبَرُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَلَحِقَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ فَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِهَا فِي إِخْلَاءِ أَلْفِ دَارٍ لِيَسْكُنَهَا الْبَرْبَرُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ بِهَا ابْنَا مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ، فَثَارَ بِهِمَا أَهْلُهَا، فَأَخْرَجُوهُمَا عَنْهُمْ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَضَبَطُوا الْبَلَدَ، وَقَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثَلَاثَةً مِنْ شُيُوخِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَهُمْ: الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ اللَّخْمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَرِيمَ الْأَلْهَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الزُّبَيْدِيُّ، وَكَانُوا يُدَبِّرُونَ أَمْرَ الْبَلَدِ وَالنَّاسِ
ثُمَّ اجْتَمَعَ ابْنُ يَرِيمَ وَالزُّبَيْدِيُّ، وَسَأَلُوا ابْنَ عَبَّادٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ، فَامْتَنَعَ

(7/620)


وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَافَ عَلَى الْبَلَدِ بِامْتِنَاعِهِ أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَانْفَرَدَ بِالتَّدْبِيرِ وَحِفْظِ الْبَلَدِ.
فَلَمَّا رَأَى الْقَاسِمُ ذَلِكَ سَارَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِشَرِيشَ، فَزَحَفَ إِلَيْهِ يَحْيَى ابْنُ أَخِيهِ عَلِيٍّ، وَمَعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَحَصَرُوهُ ثُمَّ أَخَذُوهُ أَسِيرًا، فَحَبَسَهُ يَحْيَى فَبَقِيَ فِي حَبْسِهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَحْيَى وَمَلَكَ أَخُوهُ إِدْرِيسُ، فَلَمَّا مَلَكَ قَتَلَهُ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَحُمِلَ إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِالْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ فَدَفَنَهُ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ الْقَاسِمِ بِقُرْطُبَةَ، مُذْ تَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ إِلَى أَنْ أَسَرَهُ ابْنُ أَخِيهِ، سِتَّةَ أَعْوَامٍ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى أَنْ قُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ لَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ مُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ، وَأُمُّهُمَا أَمِيرَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفِ بِقَتُّونَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أَسْمَرَ، أَعْيَنَ، أَكْحَلَ، مُصْفَرَّ اللَّوْنِ، طَوِيلًا، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ.

ذِكْرُ عَوْدِ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَى قُرْطُبَةَ وَوِلَايَةِ الْمُسْتَظْهِرِ
لَمَّا انْهَزَمَ الْبَرْبَرُ وَالْقَاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، اتَّفَقَ رَأْيُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ عَلَى رَدِّ بَنِي أُمَيَّةَ، فَاخْتَارُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيَّ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ حِينَئِذٍ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرًا وَاحِدًا وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقُتِلَ.
وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ قُرْطُبَةَ فَسَجَنَهُمْ لِمَيْلِهِمْ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُرْتَضَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَسَعَوْا عَلَيْهِ مِنَ السِّجْنِ، وَأَلَّبُوا النَّاسَ، فَأَجَابَهُمْ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ وَغَيْرُهُ، وَاجْتَمَعُوا وَقَصَدُوا السِّجْنَ فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ.

(7/621)


وَكَانَ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ (بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأُمَوِيُّ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ، فَظَفِرُوا بِالْمُسْتَظْهِرِ، فَقَتَلُوهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَمْ يُعْقِبْ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْمُطَرِّفِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ أَشْقَرَ، أَعْيَنَ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ، رَحْبَ الصَّدْرِ، وَكَانَ أَدِيبًا، خَطِيبًا، بَلِيغًا، رَقِيقَ الطَّبْعِ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَكَانَ وَزِيرُهُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُرْتَضَى قَدْ مَاتَ قَبْلَ قَتْلِهِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
لَمَّا قُتِلَ الْمُسْتَظْهِرُ بَايَعَ النَّاسُ بِقُرْطُبَةَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ النَّاصِرِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَخَطَبُوا لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَقَّبُوهُ الْمُسْتَكْفِيَ بِاللَّهِ، وَكَانَ هَمُّهُ لَا يَعْدُو فَرْجَهُ وَبَطْنَهُ، وَلَيْسَ لَهُ هَمٌّ وَلَا فِكْرٌ فِي سِوَاهُمَا، وَبَقِيَ بِهَا سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَيَّامًا، وَثَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ قُرْطُبَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَخَلَعُوهُ وَخَرَجَ عَنْ قُرْطُبَةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى صَارَ إِلَى أَعْمَالِ مَدِينَةِ سَالِمٍ فَضَجِرَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَشَوَى لَهُ دَجَاجَةً، وَعَمِلَ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْبِيشِ، فَأَكَلَهَا فَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَكَانَ فِي غَايَةِ التَّخَلُّفِ، وَلَهُ أَخْبَارٌ يَقْبُحُ ذِكْرُهَا، وَكَانَ رَبْعَةً، أَشْقَرَ، أَزْرَقَ، مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، ضَخْمَ الْجِسْمِ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَعَادَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ دَعْوَةَ الْمُعْتَلِي بِاللَّهِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ بِهَا.

(7/622)


ذِكْرُ عَوْدِ يَحْيَى الْعَلَوِيِّ إِلَى قُرْطُبَةَ وَقَتْلِهِ
لَمَّا مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، وَصَحَّ عِنْدَ أَهْلِ قُرْطُبَةَ خَبَرُ مَوْتِهِ، سَعَى مَعَهُمْ بَعْضُ أَهْلِهَا لِيَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ الْعَلَوِيِّ لِيُعِيدُوهُ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَكَانَ بِمَالِقَةَ يَخْطُبُ لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافَةِ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ وَخَاطَبُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَطَّافٍ الْيَفُرَنِيَّ وَالِيًا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَحْضُرْ هُوَ بِاخْتِيَارِهِ، فَبَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيهَا إِلَى مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَخَيْرَانُ الْعَامِرِيَّانِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا قَارَبُوا قُرْطُبَةَ ثَارَ أَهْلُهَا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخْرَجُوهُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، وَنَجَا الْبَاقُونَ.
وَأَقَامَ خَيْرَانُ وَمُجَاهِدٌ بِهَا نَحْوَ شَهْرٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَخَافَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَعَادَ خَيْرَانُ عَنْ قُرْطُبَةَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَبَقِيَ بِهَا إِلَى سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَتُوُفِّيَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَصَارَتِ الْمَرِيَّةُ بَعْدَهُ لِصَاحِبِهِ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيِّ، فَخَالَفَ حَبُّوسُ بْنُ مَاكِسَنَ الصِّنْهَاجِيُّ الْبَرْبَرِيُّ وَأَخُوهُ عَلَى طَاعَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ، وَبَقِيَ مُجَاهِدٌ مُدَّةً ثُمَّ سَارَ إِلَى دَانِيَةَ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ يَحْيَى مِنْهَا، وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ الْأُمَوِيِّينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَقِيَ يَتَرَدَّدُ عَلَيْهَا بِالْعَسَاكِرِ، وَاتَّفَقَ الْبَرْبَرُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْحُصُونِ وَالْمُدُنِ، فَقَوِيَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً.
ثُمَّ سَارَ إِلَى قَرْمُونَةَ، فَأَقَامَ بِهَا مُحَاصِرًا لِإِشْبِيلِيَّةَ، طَامِعًا فِي أَخْذِهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ يَوْمًا أَنَّ خَيْلًا لِأَهْلِ إِشْبِيلِيَّةَ قَدْ أَخْرَجَهَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ إِلَى نَوَاحِي قَرْمُونَةَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ وَلَقِيَهُمْ، وَقَدْ كَمَنُوا لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قُتِلَ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْوَلَدِ الْحَسَنَ وَإِدْرِيسَ لِأُمَّيْ وَلَدٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ

(7/623)


أَعْيَنَ، أَكْحَلَ، طَوِيلَ الظَّهْرِ، قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، وَقُورًا، هَيِّنًا، لَيِّنًا، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأُمُّهُ بَرْبَرِيَّةٌ.

ذِكْرُ أَخْبَارِ أَوْلَادِ يَحْيَى وَأَوْلَادِ أَخِيهِ وَغَيْرِهِمْ وَقَتْلِ ابْنِ عَمَّارٍ
نَذْكُرُ هَاهُنَا مَا كَانَ مِنْ أَخْبَارِ أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِ أَخِيهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، مُتَتَابِعًا لِئَلَّا يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ، وَلِيَأْخُذَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ.
وَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَقِيَّةَ، وَنَجَا الْخَادِمُ الصَّقْلَبِيُّ، وَهُمَا مُدَبِّرَا دَوْلَةِ الْعَلَوِيِّينَ، فَأَتَيَا مَالِقَةَ، وَهِيَ دَارُ مَمْلَكَتِهِمْ، فَخَاطَبَا أَخَاهُ إِدْرِيسَ بْنَ عَلِيٍّ، وَكَانَ لَهُ سَبْتَةُ وَطَنْجَةُ، وَطَلَبَاهُ فَأَتَى إِلَى مَالِقَةَ، وَبَايَعَاهُ بِالْخِلَافَةِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ حَسَنَ بْنَ يَحْيَى الْمَقْتُولَ مَكَانَهُ بِسَبْتَةَ، فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، فَبَايَعَاهُ، وَسَارَ حَسَنُ بْنُ يَحْيَى، وَنَجَا إِلَى سَبْتَةَ وَطَنْجَةَ، وَتَلَقَّبَ إِدْرِيسُ بِالْمُتَأَيِّدِ بِاللَّهِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثِينَ، أَوْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
فَسَيَّرَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ فِي عَسْكَرٍ لِيَتَغَلَّبَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، فَأَخَذَ قَرْمُونَةَ، وَأَخَذَ أَيْضًا أُشْبُونَةَ، وَإِسْتَجَةَ، فَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى إِدْرِيسَ، وَإِلَى بَادِيسَ بْنِ حَبُّوسٍ، صَاحِبِ صِنْهَاجَةَ، فَأَتَاهُ صَاحِبُ صِنْهَاجَةَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَدَّهُ إِدْرِيسُ بِعَسْكَرٍ يَقُودُهُ ابْنُ بَقِيَّةَ مُدَبِّرُ دَوْلَتِهِ، فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ، فَعَادُوا عَنْهُ، فَسَارَ إِسْمَاعِيلُ مُجِدًّا لِيَأْخُذَ عَلَى صِنْهَاجَةَ الطَّرِيقَ، فَأَدْرَكَهُمْ وَقَدْ فَارَقَهُمْ عَسْكَرُ إِدْرِيسَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَاعَةٍ، فَأَرْسَلَتْ صِنْهَاجَةُ مَنْ رَدَّهُمْ فَعَادُوا، وَقَاتَلُوا إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبَّادٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَصْحَابُهُ أَنِ انْهَزَمُوا وَأَسْلَمُوهُ، فَقُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى إِدْرِيسَ.

(7/624)


وَكَانَ إِدْرِيسُ قَدْ أَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، وَانْتَقَلَ عَنْ مَالِقَةَ إِلَى جَبَلٍ يَحْتَمِي بِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّأْسُ عَاشَ بَعْدَهُ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَ وَتَرَكَ مِنَ الْوَلَدِ يَحْيَى، وَمُحَمَّدًا، وَحَسَنًا، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَقْتُولُ قَدْ حَبَسَ ابْنَيْ عَمِّهِ مُحَمَّدًا وَالْحَسَنَ ابْنَيِ الْقَاسِمِ بْنِ حَمُّودٍ بِالْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا مَاتَ إِدْرِيسُ أَخْرَجَهُمَا الْمُوكَّلُ بِهِمَا، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِمَا، فَبَايَعَهُمَا السُّودَانُ خَاصَّةً قَبْلَ النَّاسِ لِمَيْلِ أَبِيهِمَا إِلَيْهِمْ فَمَلَكَ مُحَمَّدٌ الْجَزِيرَةَ، وَلَمْ يَتَّسِمْ بِالْخِلَافَةِ.
وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ تَنَسَّكَ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَحَجَّ، وَكَانَ ابْنُ بَقِيَّةَ قَدْ أَقَامَ يَحْيَى بْنَ إِدْرِيسَ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ بِمَالِقَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا نَجَا الصَّقْلَبِيُّ مِنْ سَبْتَةَ هُوَ وَالْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، فَهَرَبَ ابْنُ بَقِيَّةَ، (وَدَخَلَهَا الْحَسَنُ وَنَجَا، فَاسْتَمَالَا ابْنَ بَقِيَّةَ) حَتَّى حَضَرَ، فَقَتَلَهُ الْحَسَنُ وَقَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ يَحْيَى بْنَ إِدْرِيسَ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ، وَرَجَعَ نَجَا إِلَى سَبْتَةَ، وَتَرَكَ مَعَ الْحَسَنِ الْمُسْتَنْصِرِ نَائِبًا لَهُ يُعْرَفُ بِالشَّطِيفِيِّ، فَبَقِيَ حَسَنٌ كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقِيلَ إِنَّ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ عَمِّهِ إِدْرِيسَ سَمَّتْهُ أَسَفًا عَلَى أَخِيهَا يَحْيَى، فَلَمَّا مَاتَ الْمُسْتَنْصِرُ، اعْتَقَلَ الشَّطِيفِيُّ إِدْرِيسَ بْنَ يَحْيَى، وَسَارَ نَجَا مِنْ سَبْتَةَ إِلَى مَالِقَةَ، (وَعَزَمَ عَلَى مَحْوِ أَمْرِ الْعَلَوِيِّينَ، وَأَنْ يَضْبُطَ الْبِلَادَ لِنَفْسِهِ، وَأَظْهَرَ) الْبَرْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَعَظُمَ عِنْدَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا الشَّطِيفِيَّ) وَأَخْرَجُوا إِدْرِيسَ بْنَ يَحْيَى، وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَتَسَمَّى بِالْعَالِي، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ يَتَصَدَّقُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَرَدَّ كُلَّ مَطْرُودٍ عَنْ وَطَنِهِ وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ أَمْلَاكَهُمْ.
وَكَانَ مُتَأَدِّبًا، حَسَنَ اللِّقَاءِ، لَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُ الْأَرْذَالَ وَلَا يَحْجُبُ نِسَاءَهُ عَنْهُمْ، وَكُلُّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ حِصْنًا مِنْ بِلَادِهِ أَعْطَاهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ صِنْهَاجَةُ

(7/625)


عِدَّةَ حُصُونٍ، وَطَلَبُوا وَزِيرَهُ وَمُدَبِّرَ أَمْرِهِ صَاحِبَ أَبِيهِ مُوسَى بْنَ عَفَّانَ لِيَقْتُلُوهُ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ قَدِ اعْتَقَلَ ابْنَيْ عَمِّهِ مُحَمَّدًا وَالْحَسَنَ ابْنَيْ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيٍّ (فِي حِصْنِ أَيْرَشَ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَتَهُ بِأَيْرَشَ اضْطِرَابَ آرَائِهِ خَالَفَ عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ ابْنُ عَمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيٍّ) ، وَثَارَ بِإِدْرِيسَ بْنِ يَحْيَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ السُّودَانِ، وَطَلَبُوا مُحَمَّدًا فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِدْرِيسُ الْأَمْرَ، وَبَايَعَ لَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَاعْتَقَلَهُ مُحَمَّدٌ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ، وَوَلَّى أَخَاهُ الْحَسَنَ عَهْدَهُ، وَلَقَّبَهُ السَّامِي.
وَظَهَرَتْ مِنَ الْمَهْدِيِّ شَجَاعَةٌ وَجُرْأَةٌ، فَهَابَهُ الْبَرْبَرُ وَخَافُوهُ، فَرَاسَلُوا الْمُوَكَّلَ بِإِدْرِيسَ بْنِ يَحْيَى، فَأَجَابَهُمْ إِلَى إِخْرَاجِهِ، وَأَخْرَجَهُ وَبَايَعَ لَهُ، وَخَطَبَ لَهُ بِسَبْتَةَ وَطَنْجَةَ بِالْخِلَافَةِ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] .
ثُمَّ إِنَّ الْمَهْدِيَّ رَأَى مِنْ أَخِيهِ السَّامِي مَا أَنْكَرَهُ، فَنَفَاهُ عَنْهُ، فَسَارَ إِلَى الْعُدْوَةِ إِلَى جِبَالِ غَمَارَةَ، وَأَهْلُهَا يَنْقَادُونَ لِلْعَلَوِيِّينَ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ إِنَّ الْبَرْبَرَ خَاطَبُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بِالْجَزِيرَةِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ أَيْضًا، فَصَارَ الْأَمْرُ فِي غَايَةِ الْأُخْلُوقَةِ وَالْفَضِيحَةِ، أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ يُسَمَّى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي رُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِقْدَارُهَا ثَلَاثُونَ فَرْسَخًا، فَرَجَعَتِ الْبَرَابِرُ عَنْهُ، عَادَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَوَلِيَ الْجَزِيرَةَ ابْنُهُ الْقَاسِمُ، وَلَمْ يَتَّسِمْ بِالْخِلَافَةِ، وَبَقِيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بِمَالِقَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَكَانَ إِدْرِيسُ بْنُ يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالْعَالِي عِنْدَ بَنِي يَفُرَنَ بِتَاكُرُنَّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيٍّ قَصَدَ إِدْرِيسُ بْنُ يَحْيَى مَالِقَةَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى صِنْهَاجَةَ.

(7/626)


ذِكْرُ وِلَايَةِ هِشَامٍ الْأُمَوِيِّ قُرْطُبَةَ
لَمَّا قُطِعَتْ دَعْوَةُ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ عَنْ قُرْطُبَةَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، أَجْمَعَ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْعَلَوِيِّينَ لِمَيْلِهِمْ إِلَى الْبَرْبَرِ، وَإِعَادَةِ الْخِلَافَةِ بِالْأَنْدَلُسِ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ رَأْسُهُمْ فِي ذَلِكَ أَبَا الْحَزْمِ جَهْوَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَهْوَرٍ، فَرَاسَلُوا أَهْلَ الثُّغُورِ وَالْمُتَغَلِّبِينَ هُنَاكَ فِي هَذَا، فَاتَّفَقُوا مَعَهُمْ، فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ هِشَامَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيَّ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْبُنْتِ مُذْ قُتِلَ أَخُوهُ الْمُرْتَضَى، فَبَايَعُوهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُعْتَدِّ بِاللَّهِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ الْمُرْتَضَى، وَنَهَضَ إِلَى الثُّغُورِ فَتَرَدَّدَ فِيهَا، وَجَرَى لَهُ هُنَاكَ فِتَنٌ وَاضْطِرَابٌ شَدِيدٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ إِلَى أَنِ اتَّفَقَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَى قُرْطُبَةَ دَارِ الْمُلْكِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَدَخَلَهَا ثَامِنَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ عِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَبَقِيَ بِهَا حَتَّى خُلِعَ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ.
وَكَانَ سَبَبُ خَلْعِهِ أَنَّ وَزِيرَهُ أَبَا عَاصِي بْنَ سَعِيدٍ الْقَزَّازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدِيمُ رِئَاسَةٍ، وَكَانَ يُخَالِفُ الْوُزَرَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيَتَسَبَّبُ إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَصِلُ الْبَرْبَرَ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُقَرِّبُهُمْ، فَنَفَرَ عَنْهُ أَهْلُ قُرْطُبَةَ، فَوَضَعُوا عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ اسْتَوْحَشُوا مِنْ هِشَامٍ فَخَلَعُوهُ بِسَبَبِهِ، فَلَمَّا خُلِعَ هِشَامٌ قَامَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ النَّاصِرِ، وَتَسَوَّرَ الْقَصْرَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَايَعَهُ مِنْ سَوَادِ النَّاسِ كَثِيرٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ: نَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ السَّعَادَةَ قَدْ وَلَّتْ عَنْكُمْ فَقَالَ: بَايِعُونِي الْيَوْمَ وَاقْتُلُونِي غَدًا. فَأَنْفَذَ أَهْلَ قُرْطُبَةَ وَأَعْيَانَهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى الْمُعْتَدِّ بِاللَّهِ يَأْمُرُونَهُمَا بِالْخُرُوجِ عَنْ قُرْطُبَةَ

(7/627)


فَوَدَّعَ الْمُعْتَدُّ أَهْلَهُ وَخَرَجَ إِلَى حِصْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّوْرِ بِجَبَلِ قُرْطُبَةَ، فَبَقِيَ مَعَهُ إِلَى أَنْ غَدَرَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِمُحَمَّدِ بْنِ الشَّوْرِ (فَقَتَلُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْمُعْتَدَّ إِلَى حِصْنٍ آخَرَ حَبَسُوهُ فِيهِ، فَاحْتَالَ فِي) الْخُرُوجِ مِنْهُ لَيْلًا، وَسَارَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ هُودٍ الْجُذَامِيِّ، فَأَكْرَمَهُ وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَدُفِنَ بِنَاحِيَةِ لَارِدَةَ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ بِالْأَنْدَلُسِ.
وَأَمَّا أُمَيَّةُ فَإِنَّهُ اخْتَفَى بِقُرْطُبَةَ، فَنَادَى أَهْلُ قُرْطُبَةَ بِالْأَسْوَاقِ وَالْأَرْبَاضِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بِهَا، وَلَا يَتْرُكُهُمْ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فَخَرَجَ أُمَيَّةُ فِيمَنْ خَرَجَ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مُدَّةً، ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَيْهَا، فَعَادَ طَمَعًا فِي أَنْ يَسْكُنَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخُ قُرْطُبَةَ مَنْ مَنَعَهُ عَنْهَا، وَقِيلَ قُتِلَ وَغُيِّبَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، ثُمَّ انْحَلَّ عِقْدُ الْجَمَاعَةِ وَانْتَشَرَ وَافْتَرَقَتِ الْبِلَادُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.

ذِكْرُ تَفَرُّقِ مَمَالِكِ الْأَنْدَلُسِ
ثُمَّ إِنَّ الْأَنْدَلُسَ اقْتَسَمَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَالرُّؤَسَاءُ، فَتَغَلَّبَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَصَارُوا مِثْلَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَضَرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَطَمِعَ بِسَبَبِهِ الْعَدُوُّ الْكَافِرُ، خَذَلَهُ اللَّهُ، فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اجْتِمَاعٌ إِلَى أَنْ مَلَكَهُ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَأَمَّا قُرْطُبَةُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا أَبُو الْحَزْمِ جَهْوَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهْوَرٍ، الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ، وَكَانَ مِنْ وَزَارَةِ الدَّوْلَةِ الْعَامِرِيَّةِ، قَدِيمَ الرِّئَاسَةِ، مَوْصُوفًا بِالدَّهَاءِ وَالْعَقْلِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِتَنِ قَبْلَ هَذَا (بَلْ كَانَ يَتَصَاوَنُ عَنْهَا) فَلَمَّا خَلَا لَهُ الْجَوُّ

(7/628)


وَأَمْكَنَتْهُ الْفُرْصَةُ، وَثَبَ عَلَيْهَا فَتَوَلَّى أَمْرَهَا وَقَامَ بِحِمَايَتِهَا، وَلَمْ يَتَنَقَّلْ إِلَى رُتْبَةِ الْإِمَارَةِ ظَاهِرًا، بَلْ دَبَّرَهَا تَدْبِيرًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ حَامٍ لِلْبَلَدِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَيَتَّفِقُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ، وَرَتَّبَ الْبَوَّابِينَ وَالْحَشَمَ عَلَى أَبْوَابِ قُصُورِ الْإِمَارَةِ، وَلَمْ يَتَحَوَّلْ هُوَ عَنْ دَارِهِ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ مَا يَرْتَفِعُ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ بِأَيْدِي رِجَالٍ رَتَّبَهُمْ لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُشْرِفُ عَلَيْهِمْ، وَصَيَّرَ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ جُنْدًا، وَجَعَلَ أَرْزَاقَهُمْ رِبْحَ أَمْوَالٍ تَكُونُ بِأَيْدِيهِمْ دَيْنًا عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الرِّبْحُ لَهُمْ، وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقِيًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَتَعَهَّدُهُمْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِيَنْظُرَ كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا، وَفَرَّقَ السِّلَاحَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ لَا يُفَارِقُهُ سِلَاحُهُ حَتَّى يُعَجِّلَ حُضُورَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَكَانَ جَهْوَرٌ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى، وَيَحْضُرُ الْأَفْرَاحَ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ تَدْبِيرَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ مَأْمُونَ الْجَانِبِ، وَأَمِنَ النَّاسُ فِي أَيَّامِهِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَامَ بِأَمْرِهَا بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ جَهْوَرٍ عَلَى هَذَا التَّدْبِيرِ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا الْأَمِيرُ الْمُلَقَّبُ بِالْمَأْمُونِ، صَاحِبُ طُلَيْطِلَةَ، فَدَبَّرَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا.

[خَبَرُ إِشْبِيلِيَّةَ] وَأَمَّا إِشْبِيلِيَّةُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ اللَّخْمِيُّ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ فِي دَوْلَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ قَبْلَ هَذَا. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَ أَمْرُ الْمُؤَيَّدِ هِشَامِ بْنِ الْحَاكِمِ، وَكَانَ قَدِ اخْتَفَى وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَكَانَ ظُهُورُهُ بِمَالِقَةَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَرِيَّةِ، فَخَافَهُ صَاحِبُهَا زُهَيْرٌ الْعَامِرِيُّ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فَقَصَدَ قَلْعَةَ رَبَاحٍ، فَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ ذِي النُّونِ وَحَارَبَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، فَأَخْرَجُوهُ، فَاسْتَدْعَاهُ

(7/629)


الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ (بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بْنِ عَبَّادٍ إِلَيْهِ بِإِشْبِيلِيَّةَ، وَأَذَاعَ أَمْرَهُ، وَقَامَ بِنَصْرِهِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْأَنْدَلُسِ فِي طَاعَتِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ بَلَنْسِيَةَ وَنَوَاحِيهَا، وَصَاحِبُ قُرْطُبَةَ، وَصَاحِبُ دَانِيَةَ وَالْجَزَائِرِ، وَصَاحِبُ طُرْطُوشَةَ، وَأَقَرُّوا بِخِلَافَتِهِ وَخَطَبُوا لَهُ، وَجُدِّدَتْ بَيْعَتُهُ بِقُرْطُبَةَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّادٍ سَيَّرَ جَيْشًا إِلَى زُهَيْرٍ الْعَامِرِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُبْ لِلْمُؤَيَّدِ، فَاسْتَنْجَدَ زُهَيْرٌ حَبُّوسَ بْنَ مَاكِسَنَ الصِّنْهَاجِيَّ صَاحِبَ غَرْنَاطَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِجَيْشِهِ، فَعَادَتْ عَسَاكِرُ ابْنِ عَبَّادٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ قِتَالٌ، وَأَقَامَ زُهَيْرٌ فِي بَيَّاسَةَ، وَعَادَ حَبُّوسٌ إِلَى مَالِقَةَ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَادِيسُ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَزُهَيْرٌ لِيَتَّفِقَا كَمَا كَانَ زُهَيْرٌ وَحَبُّوسٌ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمَا قَاعِدَةٌ، وَاقْتَتَلَا، فَقُتِلَ زُهَيْرٌ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوَاخِرَ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] .
ثُمَّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] الْتَقَى عَسْكَرُ ابْنِ عَبَّادٍ وَعَلَيْهِمُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ بَادِيسَ بْنِ حَبُّوسٍ وَعَسْكَرِ إِدْرِيسَ الْعَلَوِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ أَخْبَارِ الْعَلَوِيِّينَ فِيمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُمُ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ أَبُوهُ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَمْرٍو عَبَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ فَضَبَطَ مَا وَلِيَ، وَأَظْهَرَ مَوْتَ الْمُؤَيَّدِ.
هَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي الْفَيَّاضِ فِي الْمُؤَيَّدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّ الْمُؤَيَّدَ لَمْ يَظْهَرْ خَبَرُهُ مُنْذُ عُدِمَ مِنْ قُرْطُبَةَ عَنْ دُخُولِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ إِلَيْهَا، وَقَتَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ

(7/630)


تَمْوِيهَاتِ ابْنِ عَبَّادٍ وَحِيَلِهِ وَمَكْرِهِ، وَأَعْجَبُ مِنِ اخْتِفَاءِ حَالِ الْمُؤَيَّدِ، ثُمَّ تَصْدِيقِ النَّاسِ ابْنَ عَبَّادٍ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ حَيَاتِهِ، أَنَّ إِنْسَانًا حَضَرِيًّا ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُؤَيَّدِ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَادَّعَى أَنَّهُ (الْمُؤَيَّدُ، فَبُويِعَ) بِالْخِلَافَةِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ جَمِيعِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ بِسَبَبِهِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ فِي أَمْرِهِ.
وَلَمَّا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّادٍ مَوْتَ هِشَامٍ الْمُؤَيَّدِ، وَاسْتَقَلَّ بِأَمْرِ إِشْبِيلِيَّةَ وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا، بَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ (مِنْ ذُبَحَةٍ لَحِقَتْهُ) لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ابْنِ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ، فَاتَّسَعَ مُلْكُهُ، وَشَمَخَ سُلْطَانُهُ، وَمَلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَمَلَكَ قُرْطُبَةَ أَيْضًا، وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَهُ الظَّافِرَ بِاللَّهِ، فَبَلَغَ خَبَرُ مُلْكِهِ لَهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ ذِي النُّونِ، صَاحِبِ طُلَيْطِلَةَ، فَحَسَدَهُ عَلَيْهَا، فَضَمِنَ لَهُ جَرِيرُ بْنُ عُكَّاشٍ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَهَا لَهُ، وَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَأَقَامَ بِهَا يَسْعَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَمَعَهُ رِيحٌ شَدِيدٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَثَارَ جَرِيرٌ فِيمَنْ مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمَانِعُهُ، فَدَخَلَ صَاحِبُ الْبَابِ إِلَى الظَّافِرِ وَأَعْلَمَهُ، فَخَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْحَرَسِ، وَكَانَ صَغِيرَ السِّنِّ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، وَدَفَعَهُمْ عَنِ الْبَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَثَرَ فِي بَعْضِ كَرَّاتِهِ فَسَقَطَ، فَوَثَبَ بَعْضُ مَنْ يُقَاتِلُهُ وَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْخَبَرُ إِلَى الْأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ إِلَّا وَالْقَصْرُ قَدْ مُلِكَ، وَتَلَاحَقَ بِجَرِيرٍ أَصْحَابُهُ وَأَشْيَاعُهُ، وَتُرِكَ الظَّافِرُ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ عُرْيَانًا، فَمَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، فَأَبْصَرَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَنَزَعَ رِدَاءَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ إِذَا ذَكَرَهُ يَتَمَثَّلُ:
وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ رِدَاءَهُ ... عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلَّ عَنْ مَاجِدٍ مَحْضِ
وَلَمْ يَزَلِ الْمُعْتَمِدُ يَسْعَى فِي أَخْذِهَا، حَتَّى عَادَ مَلَكَهَا، وَتَرَكَ وَلَدَهُ الْمَأْمُونَ

(7/631)


فِيهَا، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا جَيْشُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ، وَقُتِلَ فِيهَا بَعْدَ حُرُوبٍ كَثِيرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] .
وَأُخِذَتْ إِشْبِيلِيَّةُ مِنْ أَبِيهِ الْمُعْتَمِدِ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَقِيَ مَحْبُوسًا فِي أَغْمَاتَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ جَمِيعُهُمُ الرَّشِيدُ، وَالْمَأْمُونُ. وَالرَّاضِي، وَالْمُعْتَمِدُ، وَأَبُوهُ، وَجَدُّهُ عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ شُعَرَاءَ.

[خَبَرُ بَطْلَيُوسَ] وَأَمَّا بَطْلَيُوسُ فَقَامَ بِهَا سَابُورُ الْفَتَى الْعَامِرِيُّ وَتَلَقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ بَعْدَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْأَفْطَسِ، أَصْلُهُ مِنْ بَرْبَرِ مِكْنَاسَةَ، لَكِنَّهُ وُلِدَ أَبُوهُ بِالْأَنْدَلُسِ، وَنَشَأُوا بِهَا، وَتَخَلَّقُوا تَخَلُّقَ أَهْلِهَا، وَانْتَسَبُوا إِلَى تُجِيبَ، وَشَاكَلَهُمُ الْمُلْكُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَارَتْ بَعْدَهُ إِلَى ابْنِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَقُتِلَ صَبْرًا مَعَ (وَلَدَيْنِ لَهُ) عِنْدَ تَغَلُّبِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ (عَلَى الْأَنْدَلُسِ) .

[خَبَرُ طُلَيْطِلَةَ] وَأَمَّا طُلَيْطِلَةُ فَقَامَ بِأَمْرِهَا ابْنُ يَعِيشَ، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، وَصَارَتْ رِئَاسَتُهُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُطَرِّفِ بْنِ ذِي النُّونِ، وَلَقَبُهُ الظَّافِرُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَوُلِدَ بِالْأَنْدَلُسِ، تَأَدَّبَ بِآدَابِ أَهْلِهَا، وَكَانَ مَوْلِدُ إِسْمَاعِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ.

(7/632)


وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَحْيَى فَاشْتَغَلَ، بِالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ، وَأَكْثَرَ مُهَادَاةَ الْفِرِنْجِ وَمُصَانَعَتَهُمْ لِيَتَلَذَّذَ بِاللَّعِبِ، وَامْتَدَّتْ يَدُهُ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَلَمْ تَزَلِ الْفِرِنْجُ تَأْخُذُ حُصُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، حَتَّى أَخَذَتْ طُلَيْطِلَةَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَصَارَ هُوَ بِبَلَنْسِيَةَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ قَتَلَهُ الْقَاضِي ابْنُ جَحَّافٍ الْأَحْنَفُ، وَفِيهِ يَقُولُ الرَّئِيسُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ:
أَيُّهَا الْأَحْنَفُ مَهْلًا ... فَلَقَدْ جِئْتَ عَوِيصَا
إِذَا قَتَلْتَ الْمَلِكَ يَحْيَى ... وَتَقَمَّصْتَ الْقَمِيصَا
رُبَّ يَوْمٍ فِيهِ تَجْرِي ... إِنْ تَجِدْ فِيهِ مَحِيصَا
[خَبَرُ سَرَقُسْطَةَ] وَأَمَّا سَرَقُسْطَةُ وَالثَّغْرُ الْأَعْلَى فَكَانَ بِيَدِ مُنْذِرِ بْنِ يَحْيَى التُّجِيبِيِّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَحْيَى، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ لِسُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هُودٍ الْجُذَامِيِّ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْمُسْتَعِينِ بِاللَّهِ، وَكَانَ مِنْ قُوَّادِ مُنْذِرٍ عَلَى مَدِينَةِ لَارِدَةَ، وَلَهُ وَقْعَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالْفِرِنْجِ بِطُلَيْطِلَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ (الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ، وَوَلِيَ) بَعْدَهُ ابْنُهُ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُؤْتَمَنُ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ الْمُسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَى لَقَبِ جَدِّهِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عِمَادُ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ

(7/633)


الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ، وَعَلَيْهِ انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ عَلَى رَأْسِ الْخَمْسِمِائَةِ، فَصَارَتْ بِلَادُهُمْ جَمِيعًا (لِابْنِ تَاشِفِينَ) .
وَرَأَيْتُ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ بِدِمَشْقَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ فَقِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ قَيِّمُ الرَّبْوَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَزُولُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الدُّهُورُ.
[خَبَرُ طُرْطُوشَةَ] وَأَمَّا طُرْطُوشَةُ فَوَلِيَهَا (لَبِيبٌ الْفَتَى) الْعَامِرِيُّ.
[خَبَرُ بَلَنْسِيَةَ] وَأَمَّا بَلَنْسِيَةُ فَكَانَ بِهَا الْمَنْصُورُ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْمَعَافِرِيُّ. ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِ الْمَرِيَّةُ وَمَا كَانَ إِلَيْهَا، وَبَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَدَامَ فِيهَا إِلَى أَنْ غَدَرَ بِهِ صِهْرُهُ الْمَأْمُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ ذِي النُّونِ وَأَخَذَ مِنْهُ رِئَاسَةَ بَلَنْسِيَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَانْتَزَحَ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ خُلِعَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[خَبَرُ السَّهْلَةِ] وَأَمَّا السَّهْلَةُ فَمَلَكَهَا عَبُّودُ بْنُ رَزِينٍ، وَأَصْلُهُ بَرْبَرِيٌّ، وَمَوْلِدُهُ بِالْأَنْدَلُسِ، فَلَمَّا

(7/634)


هَلَكَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ، وَمِنْهُ مَلَكَهَا الْمُلَثَّمُونَ.

[خَبَرُ دَانِيَةَ وَالْجَزَائِرِ] وَأَمَّا دَانِيَةُ وَالْجَزَائِرُ فَكَانَتْ بِيَدِ الْمُوَفَّقِ أَبِي الْحَسَنِ مُجَاهِدٍ الْعَامِرِيِّ، وَسَارَ إِلَيْهِ مِنْ قُرْطُبَةَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمُعَيْطِيُّ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَقَامَهُ مُجَاهِدٌ شِبْهَ خَلِيفَةٍ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ، وَبَايَعَهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَقَامَ الْمُعَيْطِيُّ بِدَانِيَةَ مَعَ مُجَاهِدٍ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نَحْوَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ سَارَ هُوَ وَمُجَاهِدٌ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْجَزَائِرِ الَّتِي فِي الْبَحْرِ، وَهِيَ مَيُورْقَةُ بِالْيَاءِ، وَمَنُورْقَةُ بِالنُّونِ، وَيَابِسَةُ.
ثُمَّ بَعَثَ الْمُعَيْطِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَاهِدًا إِلَى سَرْدَانِيَةَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَرْكَبًا بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَمَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ، فَفَتَحَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّصَارَى، وَسَبَى مِثْلَهُمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْفِرِنْجُ وَالرُّومُ مِنَ الْبَرِّ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا، وَرَجَعَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَالْمُعَيْطِيُّ قَدْ تُوُفِّيَ، فَغَاصَ مُجَاهِدٌ فِي تِلْكَ الْفِتَنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَكَانَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَحَبَّةِ لِأَهْلِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَجَلَبَاهُمْ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَدَانِيهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ عَلِيٌّ فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو عَامِرٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِثْلَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ دَانِيَةَ وَسَائِرَ بِلَادِ بَنِي مُجَاهِدٍ صَارَتْ إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ هُودٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

(7/635)


[خَبَرُ مُرْسِيَةَ]
وَأَمَّا مُرْسِيَةُ فَوَلِيَهَا بَنُو طَاهِرٍ، وَاسْتَقَامَتْ رِئَاسَتُهَا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهُمْ، الْمَدْعُوُّ بِالرَّئِيسِ، وَدَامَتْ رِئَاسَتُهُ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ عَلَى يَدِ وَزِيرِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَهْرِيِّ، فَلَمَّا مَلَكَهَا عَصَى عَلَى الْمُعْتَمِدِ فِيهَا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَسْكَرًا مُقَدَّمُهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَشِيقٍ الْقُشَيْرِيُّ، (فَحَصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ حَتَّى هَرَبَ مِنْهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْقُشَيْرِيُّ عَصَى فِيهَا أَيْضًا عَلَى الْمُعْتَمِدِ) ، إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي طَاعَةِ الْمُلَثَّمِينَ، وَبَقِيَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ طَاهِرٍ بِمَدِينَةِ بَلَنْسِيَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِمُرْسِيَةَ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى تِسْعِينَ سَنَةً.

[خَبَرُ الْمَرِيَّةِ]
وَأَمَّا الْمَرِيَّةُ فَمَلَكَهَا خَيْرَانُ الْعَامِرِيُّ، وَتُوُفِّيَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ زُهَيْرٌ الْعَامِرِيُّ، وَاتَّسَعَ مُلْكُهُ إِلَى شَاطِبَةَ، إِلَى مَا يُجَاوِرُ عَمَلَ طُلَيْطِلَةَ، وَدَامَ إِلَى أَنْ قُتِلَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَتْ مَمْلَكَتُهُ إِلَى الْمَنْصُورِ أَبِي الْحَسَنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِبَلَنْسِيَةَ أَقَامَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بِالْمَرِيَّةِ، وَهُوَ يُدَبِّرُ بَلَنْسِيَةَ، فَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِيهَا الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنُ ذِي النُّونِ وَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَبَقِيَ بِالْمَرِيَّةِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ صِهْرُهُ ذُو الْوَزَارَتَيْنِ أَبُو الْأَحْوَصِ الْمُعْتَصِمُ مَعْنُ (بْنُ مُحَمَّدِ) بْنِ صُمَادِحٍ التُّجِيبِيُّ، وَدَانَتْ لَهُ لُورَقَةُ، وَبَيَّاسَةُ، وَجَيَّانُ، وَغَيْرُهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو يَحْيَى

(7/636)


مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو عُتْبَةَ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، فَبَقِيَ أَبُو يَحْيَى مُسْتَضْعَفًا لِصِغَرِهِ، وَأُخِذَتْ بِلَادُهُ الْبَعِيدَةُ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُ الْمَرِيَّةِ وَمَا يُجَاوِرُهَا.
فَلَمَّا كَبِرَ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْعُلُومِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَامْتَدَّ صِيتُهُ، وَاشْتَهَرَ ذِكْرُهُ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ، وَالْتَحَقَ بِأَكَابِرِ الْمُلُوكِ، وَدَامَ بِهَا إِلَى أَنْ نَازَلَهُ جَيْشُ الْمُلَثَّمِينَ، فَمَرِضَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْقِتَالُ تَحْتَ قَصْرِهِ، فَسَمِعَ يَوْمًا صِيَاحًا وَجَلَبَةً، فَقَالَ: نُغِّصَ عَلَيْنَا كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْمَوْتُ! وَتُوُفِّيَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدَخَلَ أَوْلَادُهُ وَأَهْلُهُ الْبَحْرَ فِي مَرْكَبٍ إِلَى بِجَايَةَ قَاعِدَةِ مَمْلَكَةِ بَنِي حَمَّادٍ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَمَلَكَ الْمُلَثَّمُونَ الْمَرِيَّةَ وَمَا مَعَهَا.

[خَبَرُ مَالِقَةَ]
وَأَمَّا مَالِقَةُ فَمَلَكَهَا بَنُو عَلِيِّ بْنِ حَمُّودٍ، فَلَمْ تَزَلْ فِي مَمْلَكَةِ الْعَلَوِيِّينَ يُخْطَبُ لَهُمْ فِيهَا إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ بَادِيسُ بْنُ حَبُّوسٍ صَاحِبُ غَرْنَاطَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَانْقَضَى أَمْرُ الْعَلَوِيِّينَ بِالْأَنْدَلُسِ.
[خَبَرُ غَرْنَاطَةَ]
وَأَمَّا غَرْنَاطَةُ فَمَلَكَهَا حَبُّوسُ بْنُ مَاكِسَنَ الصِّنْهَاجِيُّ ثُمَّ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ

(7/637)


وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ بَادِيسُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُلَكِّينَ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا مِنْهُ الْمُلَثَّمُونَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَانْقَرَضَتْ دُوَلُ جَمِيعِهِمْ، وَصَارَتِ الْأَنْدَلُسُ جَمِيعُهَا لِلْمُلَثَّمِينَ، وَمَلَكَهُمْ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشِفِينَ وَاتَّصَلَتْ مَمْلَكَتُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى إِلَى آخِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْدَلُسِ (نَعُودُ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ) .

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ وَأَخِيهِ أَبِي الْفَوَارِسِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَلِكَ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَلَّى أَخَاهُ أَبَا الْفَوَارِسِ بْنَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ كِرْمَانَ، فَلَمَّا وَلِيَهَا، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الدَّيْلَمُ، وَحَسَّنُوا لَهُ مُحَارَبَةَ أَخِيهِ وَأَخْذَ الْبِلَادِ مِنْهُ، فَتَجَهَّزَ وَتَوَجَّهَ إِلَى شِيرَازَ، فَلَمْ يَشْعُرْ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ حَتَّى دَخَلَ أَبُو الْفَوَارِسِ إِلَى شِيرَازَ، فَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ فَحَارَبَهُ فَانْهَزَمَ أَبُو الْفَوَارِسِ، وَعَادَ إِلَى كِرْمَانَ، فَتَبِعَهُ إِلَيْهَا فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِبًا إِلَى خُرَاسَانَ، وَقَصَدَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ وَهُوَ بِبُسْتَ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَجْلَسَهُ فَوْقَ دَارَا بْنِ قَابُوسَ بْنِ وَشْمَكِيرَ فَقَالَ دَارَا: نَحْنُ أَعْظَمُ مَحَلًّا مِنْهُمْ لِأَنَّ أَبَاهُ وَأَعْمَامَهُ خَدَمُوا آبَائِي، فَقَالَ مَحْمُودٌ: لَكِنَّهُمْ أَخَذُوا الْمُلْكَ بِالسَّيْفِ، أَرَادَ بِهَذَا نُصْرَةَ نَفْسِهِ حَيْثُ أَخَذَ خُرَاسَانَ مِنَ السَّامَانِيَّةِ (وَوَعَدَ مَحْمُودٌ أَنْ يَنْصُرَهُ.
ثُمَّ إِنَّ) أَبَا الْفَوَارِسِ بَاعَ جَوْهَرَتَيْنِ كَانَتَا عَلَى جَبْهَةِ فَرَسِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُمَا مَحْمُودٌ وَحَمَلَهُمَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مِنْ غَلَطِكُمْ تَتْرُكُونَ هَذَا عَلَى جَبْهَةِ الْفَرَسِ وَقِيمَتُهَا سِتُّونَ أَلْفَ دِينَارٍ. ثُمَّ إِنَّ مَحْمُودًا سَيَّرَ جَيْشًا مَعَ أَبِي الْفَوَارِسِ إِلَى كِرْمَانَ، مُقَدَّمُهُمْ أَبُو سَعْدٍ الطَّائِيُّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَنِ قُوَّادِهِ، فَسَارَ إِلَى كِرْمَانَ فَمَلَكَهَا وَقَصَدَ بِلَادَ فَارِسَ وَقَدْ فَارَقَهَا سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَ شِيرَازَ.
فَلَمَّا سَمِعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَادَ إِلَى فَارِسَ فَالْتَقَوْا هُنَاكَ وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَبُو

(7/638)


الْفَوَارِسِ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ بِأَسْوَإِ حَالٍ، وَمَلَكَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ فَارِسَ، وَهَرَبَ أَبُو الْفَوَارِسِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى كِرْمَانَ، فَسَيَّرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ الْجُيُوشَ فِي أَثَرِهِ، فَأَخَذُوا كِرْمَانَ مِنْهُ، فَلَحِقَ بِشَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، صَاحِبِ هَمَذَانَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعَوْدُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ أَبِي سَعْدٍ الطَّائِيِّ.
ثُمَّ فَارَقَ شَمْسَ الدَّوْلَةِ، وَلَحِقَ بِمُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ دَارَهُ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أَخُوهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ مَالًا وَثِيَابًا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الِانْحِدَارَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، فَأَعَادَ (إِلَيْهِ كِرْمَانَ) ، وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ (وَالتَّقْلِيدُ بِذَلِكَ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ) الْأَمْوَالُ، فَعَادَ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ قَتْلِ الشِّيعَةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي مُحَرَّمٍ، قُتِلَتِ الشِّيعَةُ بِجَمِيعِ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ رَكِبَ وَمَشَى فِي الْقَيْرَوَانِ وَالنَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ، فَاجْتَازَ بِجَمَاعَةٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ رَافِضَةٌ يَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ! فَانْصَرَفَتِ الْعَامَّةُ مِنْ فَوْرِهَا إِلَى دَرْبِ الْمُعَلَّى مِنَ الْقَيْرَوَانِ، وَهُوَ [مَكَانٌ] تَجْتَمِعُ بِهِ الشِّيعَةُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ شَهْوَةَ الْعَسْكَرِ وَأَتْبَاعِهِمْ، طَمَعًا فِي النَّهْبِ، وَانْبَسَطَتْ أَيْدِي الْعَامَّةِ فِي الشِّيعَةِ، وَأَغْرَاهُمْ عَامِلُ الْقَيْرَوَانِ وَحَرَّضَهُمْ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَصْلَحَ أُمُورَ الْبَلَدِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْمُعِزَّ بْنَ بَادِيسَ يُرِيدُ عَزْلَهُ

(7/639)


فَأَرَادَ فَسَادَهُ، فَقُتِلَ مِنَ الشِّيعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُحْرِقُوا بِالنَّارِ وَنُهِبَتْ دِيَارُهُمْ، وَقُتِلُوا فِي جَمِيعِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى قَصْرِ الْمَنْصُورِ قَرِيبِ الْقَيْرَوَانِ فَتَحَصَّنُوا بِهِ فَحَصَرَهُمُ الْعَامَّةُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْجُوعُ، فَأَقْبَلُوا يَخْرُجُونَ وَالنَّاسُ يَقْتُلُونَهُمْ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَجَأَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْمَهْدِيَّةِ إِلَى الْجَامِعِ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ، وَكَانَتِ الشِّيعَةُ تُسَمَّى بِالْمَغْرِبِ الْمَشَارِقَةَ نِسْبَةً إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، وَكَانَ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَمِنْ فَرِحٍ مَسْرُورٍ وَمِنْ بَاكٍ حَزِينٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، احْتَرَقَتْ قُبَّةُ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ وَالْأَرْوِقَةِ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُمْ أَشْعَلُوا شَمْعَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ، فَسَقَطَتَا فِي اللَّيْلِ عَلَى التَّأْزِيرِ، فَاحْتَرَقَ، وَتَعَدَّتِ النَّارُ، وَفِيهِ أَيْضًا احْتَرَقَ نَهْرُ طَابِقٍ وَدَارُ الْقُطْنِ، وَكَثِيرٌ مِنْ بَابِ الْبَصْرَةِ وَاحْتَرَقَ جَامِعُ سُرَّ مَنْ رَأَى.
وَفِيهَا تَشَعَّثَ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَسَقَطَ حَائِطٌ بَيْنَ يَدَيْ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَتِ الْقُبَّةُ الْكَبِيرَةُ عَلَى الصَّخْرَةِ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ.
وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِوَاسِطٍ، فَانْتَصَرَ السُّنَّةُ وَهَرَبَ وُجُوهُ الشِّيعَةِ وَالْعَلَوِيِّينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ فَاسْتَنْصَرُوهُ.

(7/640)


[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَحَامِلِيِّ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَكِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ أَبُو عُمَرُ الْبِسْطَامِيُّ، الْوَاعِظُ، الْفَقِيهُ، الشَّافِعِيُّ وَلِيَ قَضَاءَ نَيْسَابُورَ.

(7/641)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَة]
408 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ التُّرْكِ مِنَ الصِّينِ وَمَوْتِ طُغَانَ خَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ التُّرْكُ مِنَ الصِّينِ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ خَرْكَاةٍ مِنْ أَجْنَاسِ التُّرْكِ، مِنْهُمُ الْخِطَائِيَّةُ الَّذِينَ مَلَكُوا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَسَيَرِدُ خَبَرُ مُلْكِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ أَنَّ طُغَانَ خَانَ لَمَّا مَلَكَ تُرْكِسْتَانَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، وَطَالَ بِهِ الْمَرَضُ فَطَمِعُوا فِي الْبِلَادِ لِذَلِكَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا وَمَلَكُوا بَعْضَهَا وَغَنِمُوا وَسَبَوْا وَبَقِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَلَاسَاغُونَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ كَانَ بِهَا مَرِيضًا، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَهُ لِيَنْتَقِمَ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَيَحْمِيَ الْبِلَادَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَفْعَلَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَرَادَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَشَفَاهُ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا بَلَغَ التُّرْكَ خَبَرُ عَافِيَتِهِ وَجَمْعِهِ الْعَسَاكِرَ وَكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَسَارَ خَلْفَهُمْ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، فَكَبَسَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ رَجُلٍ، وَأَسَرَ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْخَرْكَاهَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَانِي الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ وَمَعْمُولِ الصِّينِ مَا لَا عَهْدَ لِأَحَدٍ بِمِثْلِهِ، وَعَادَ إِلَى بَلَاسَاغُونَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا، عَاوَدَهُ مَرَضُهُ فَمَاتَ مِنْهُ.

(7/642)


وَكَانَ عَادِلًا، خَيِّرًا، دَيِّنًا، يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَيَمِيلُ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ، وَيَصِلُهُمْ وَيُقَرِّبُهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ قِصَّتَهُ بِقِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ قَرَاخَانَ، أَخِي طُغَانَ خَانَ، وَإِنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.

ذِكْرُ مُلْكِ أَخِيهِ أَرْسَلَانَ خَانَ
لَمَّا مَاتَ طُغَانُ خَانَ مَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ أَرْسَلَانُ خَانَ، وَلَقَبُهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، فَخَالَفَ عَلَيْهِ قَدْرُ خَانَ يُوسُفُ بْنُ بَغْرَا خَانَ هَارُونَ بْنِ سُلَيْمَانَ الَّذِي مَلَكَ بُخَارَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْ طُغَانَ خَانَ بِسَمَرْقَنْدَ، فَكَاتَبَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى أَرْسَلَانَ خَانَ، فَعَقَدَ عَلَى جَيْحُونَ جِسْرًا مِنَ السُّفُنِ، وَضَبَطَهُ بِالسَّلَاسِلِ، فَعَبَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ هُنَاكَ قَبْلَ هَذَا، وَأَعَانَهُ عَلَى أَرْسَلَانَ خَانَ.
ثُمَّ إِنَّ يَمِينَ الدَّوْلَةِ خَافَهُ، فَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَاصْطَلَحَ قَدْرُ خَانَ وَأَرْسَلَانُ خَانَ عَلَى قَصْدِ بِلَادِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ وَاقْتِسَامِهَا، وَسَارَا إِلَى بَلْخَ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَصَدَهُمَا، وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ انْهَزَمَ التُّرْكُ وَعَبَرُوا جَيْحُونَ، فَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّنْ نَجَا.
وَوَرَدَ رَسُولُ مُتَوَلِّي خُوَارَزْمَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يُهَنِّئُهُ بِالْفَتْحِ عَقِيبَ الْوَقْعَةِ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ؟ فَقَالَ: مِنْ كَثْرَةِ الْقَلَانِسِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى الْمَاءِ، وَعَبَرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ، فَشَكَا أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَى قَدْرَ خَانَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ عَسْكَرِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَالَ: قَدْ قَرُبَ الْأَمْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا، فَإِنْ ظَفِرْنَا مَنَعْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ ظَفِرَ عَدُوُّنَا فَقَدِ اسْتَرَحْتُمْ مِنَّا. ثُمَّ اجْتَمَعَ هُوَ وَقَدْرُ خَانَ، وَأَكَلَا طَعَامًا، وَكَانَ قَدْرُ خَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْجِهَادِ، فَمِنْ فُتُوحِهِ خُتَنُ، وَهِيَ بِلَادٌ بَيْنَ الصِّينِ وَتُرْكُسْتَانَ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَتُوُفِّيَ فِيهَا، وَكَانَ يُدِيمُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ.

(7/643)


وَلَمَّا تُوُفِّيَ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ [مِنْهُمْ] أَبُو شُجَاعٍ أَرْسَلَانُ خَانَ، وَكَانَ لَهُ كَاشْغَرُ، وَخُتَنُ، وَبَلَاسَاغُونُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا، وَكَانَ لَقَبُهُ شَرَفَ الدَّوْلَةِ، وَلَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَكَانَ دَيِّنًا، مُكْرِمًا لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ، فَقَصَدُوهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَوَصَلَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَّفَ أَيْضًا بَغْرَا خَانَ بْنَ قَدْرَ خَانَ، وَكَانَ لَهُ طِرَازٌ وَإِسْبِيجَابُ، (فَقَدِمَ أَخُوهُ) أَرْسَلَانُ وَأَخَذَ مَمْلَكَتَهُ، فَتَحَارَبَا، فَانْهَزَمَ أَرْسَلَانُ خَانَ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأَوْدَعُوهُ الْحَبْسَ، وَمَلَكَ بِلَادَهُ.
ثُمَّ إِنَّ بَغْرَا خَانَ عَهِدَ بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ الْأَكْبَرِ، وَاسْمُهُ حُسَيْنُ جَغْرِي تِكِينَ، وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَكَانَ لِبَغْرَا خَانَ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ، فَغَاظَهَا ذَلِكَ، فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ وَسَمَّتْهُ فَمَاتَ هُوَ وَعِدَّةٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَخَنَقَتْ أَخَاهُ أَرْسَلَانَ خَانَ بْنَ قَدْرَ خَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَتَلَتْ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، وَمَلَّكَتِ ابْنَهُ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَسَيَّرَتْهُ فِي جَيْشٍ إِلَى مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِبَرْسُخَانَ، وَصَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِيَنَالْتَكِينَ، فَظَفِرَ بِهِ يَنَالْتَكِينُ وَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُهُ إِلَى أُمِّهِ، وَاخْتَلَفَ أَوْلَادُ بَغْرَا خَانَ، فَقَصَدَهُمْ طُفْغَاجُ خَانَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ.

ذِكْرُ مُلْكِ طُفْغَاجَ خَانَ وَوَلَدِهِ
وَكَانَ طُفْغَاجُ خَانَ أَبُو الْمُظَفَّرِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرِ أَيْلَكَ يُلَقَّبُ عِمَادَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ بِيَدِهِ سَمَرْقَنْدُ وَفَرْغَانَةُ، وَكَانَ أَبُوهُ زَاهِدًا وَمُتَعَبِّدًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ سَمَرْقَنْدَ، فَلَمَّا مَاتَ وَرِثَهُ ابْنُهُ طُفْغَاجُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ، وَكَانَ طُفْغَاجُ مُتَدَيِّنًا لَا يَأْخُذُ مَالًا حَتَّى يَسْتَفْتِيَ الْفُقَهَاءَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَبُو شُجَاعٍ الْعَلَوِيُّ الْوَاعِظُ، وَكَانَ زَاهِدًا، فَوَعَظَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَصْلُحُ لِلْمُلْكِ. فَأَغْلَقَ طُفْغَاجُ بَابَهُ، وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْمُلْكِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ

(7/644)


وَقَالُوا: قَدْ أَخْطَأَ هَذَا، وَالْقِيَامُ بِأُمُورِنَا مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَحَ بَابَهُ، وَمَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ قَدْ قَصَدَ بِلَادَهُ وَنَهَبَهَا أَيَّامَ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ، فَلَمْ يُقَابِلِ الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] يُهَنِّئُهُ بِعَوْدِهِ إِلَى مُسْتَقَرِّهِ، وَيَسْأَلُ التَّقَدُّمَ إِلَى أَلْبِ أَرْسَلَانَ بِالْكَفِّ عَنْ بِلَادِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخِلَعَ وَالْأَلْقَابَ، ثُمَّ فُلِجَ سَنَةَ سِتِّينَ.
وَكَانَ فِي حَيَاتِهِ قَدْ جَعَلَ الْمُلْكَ فِي وَلَدِهِ شَمْسِ الْمُلْكِ، فَقَصَدَهُ أَخُوهُ طُغَانُ خَانَ بْنُ طُفْغَاجَ، وَحَصَرَهُ بِسَمَرْقَنْدَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهَا إِلَى شَمْسِ الْمُلْكِ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ خَرَّبَ أَخُوكَ ضَيَاعَنَا وَأَفْسَدَهَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَسَاعَدْنَاكَ، وَلَكِنَّهُ أَخُوكَ فَلَا نَدْخُلُ بَيْنَكُمَا فَوَعَدَهُمُ الْمُنَاجَزَةَ، وَخَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ نِصْفَ اللَّيْلِ فِي خَمْسِمِائَةِ غُلَامٍ مُعَدِّينَ، وَكَبَسَ أَخَاهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاطٍ، فَظَفِرَ بِهِ، فَهَزَمَهُ، وَكَانَ هَذَا وَأَبُوهُمَا حَيٌّ.
ثُمَّ قَصَدَهُ هَارُونُ بَغْرَا خَانَ بْنُ يُوسُفَ قَدْرَ خَانَ، وَطُغْرُلُ قَرَا خَانَ، وَكَانَ طُفْغَاجُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى مَمَالِكِهِمَا، وَقَارَبَا سَمَرْقَنْدَ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَمْسِ الْمُلْكِ، فَصَالَحَاهُ وَعَادَا فَصَارَتِ الْأَعْمَالُ الْمُتَاخِمَةُ لِجَيْحُونَ لِشَمْسِ الْمُلْكِ، وَأَعْمَالِ الْخَاهِرَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَالْحَدُّ بَيْنَهُمَا خُجَنْدَةُ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ قَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ قَدْرَ خَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَتَزَوَّجَ شَمْسُ الْمُلْكِ ابْنَةَ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، وَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ عِيسَى خَانَ مِنَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَهُوَ خَاتُونُ الْجَلَالِيَّةُ أَمُّ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ الَّذِي وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَلْبُ أَرْسَلَانَ وَشَمْسُ الْمُلْكِ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عِنْدَ قَتْلِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، ثُمَّ مَاتَ شَمْسُ الْمُلْكِ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ خِضْرُ خَانَ ثُمَّ مَاتَ فَوَلِيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ خَانَ وَهُوَ الَّذِي قَبَضَ عَلَيْهِ مَلِكْشَاهْ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى وِلَايَتِهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَسَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(7/645)


ثُمَّ إِنَّ جُنْدَهُ ثَارُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ وَمَلَكَ بَعْدَهُ مَحْمُودُ خَانَ، وَكَانَ جَدُّهُ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَكَانَ أَصَمَّ، فَقَصَدَهُ طُغَانُ خَانَ بْنُ قَرَا خَانَ، صَاحِبُ طِرَازَ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَاسْتَنَابَ بِسَمَرْقَنْدَ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الْعَلَوِيَّ الْبَغْدَاذِيَّ، فَوَلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ عَصَى عَلَيْهِ، فَحَاصَرَهُ طُغَانُ خَانَ وَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مَعَهُ.
ثُمَّ خَرَجَ طُغَانُ خَانَ إِلَى تِرْمِذَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ، فَلَقِيَهُ السُّلْطَانُ سِنْجَرُ وَظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ وَصَارَتْ أَعْمَالُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَهُ، فَاسْتَنَابَ بِهَا مُحَمَّدَ خَانَ بْنَ كَمَشْتَكِينَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طُفْغَاجَ خَانَ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ عُمَرُ خَانَ، وَمَلَكَ سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ هَرَبَ مِنْ جُنْدِهِ وَقَصَدَ خُوَارَزْمَ فَظَفِرَ بِهِ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ فَقَتَلَهُ وَوَلِيَ سَمَرْقَنْدَ مُحَمَّدُ خَانَ وَوَلِيَ بُخَارَى مُحَمَّدُ تِكِينَ بْنُ طُغَانْتِكِينَ.

ذِكْرُ كَاشْغَرَ وَتُرْكُسْتَانَ
وَأَمَّا كَاشْغَرُ، وَهِيَ مَدِينَةُ تُرْكُسْتَانَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَرْسَلَانَ خَانَ بْنِ يُوسُفَ قَدْرَ خَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ لِمَحْمُودِ بَغْرَا خَانَ، صَاحِبِ طِرَازَ وَالشَّاشَ، خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَاتَ فَوَلِيَ بَعْدَهُ طُغْرُلُ خَانَ بْنُ يُوسُفَ قَدْرَ خَانَ فَاسْتَوْلَى عَلَى الْمُلْكِ، وَمَلَكَ بَلَاسَاغُونَ، وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ.
وَمَلَكَ ابْنُهُ طُغْرُلْتِكِينُ، وَأَقَامَ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَتَى هَارُونُ بَغْرَا خَانَ أَخُو يُوسُفَ طُغْرُلْخَانَ بْنِ طُفْغَاجَ بَغْرَا خَانَ، وَعَبَرَ كَاشْغَرَ، وَقَبَضَ عَلَى هَارُونَ، وَأَطَاعَهُ عَسْكَرُهُ، وَمَلَكَ كَاشْغَرَ، وَخُتَنَ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا إِلَى بَلَاسَاغُونَ، وَأَقَامَ مَالِكًا تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَوَلِيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ أَرْسَلَانَ خَانَ، وَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْخِلَعَ وَالْأَلْقَابَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَا طَلَبَ، وَلَقَّبَهُ نُورَ الدَّوْلَةِ.

(7/646)


ذِكْرُ وَفَاةِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَحَالِ الْبَطِيحَةِ بَعْدَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْقَادِرُ بِاللَّهِ.
وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ افْتَصَدَ، فَانْتَفَخَ سَاعِدُهُ، وَمَرِضَ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَحَدَّثَ الْجُنْدُ بِإِقَامَةِ وَلَدِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ مَقَامَهُ، فَبَلَغَ ابْنَ أُخْتِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَنِّي، فَاسْتَدْعَى الدَّيْلَمَ وَالْأَتْرَاكَ، وَرَغَّبَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ لِنَفْسِهِ، وَقَرَّرَ مَعَهُمُ الْقَبْضَ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، فَمَضَوْا إِلَيْهِ لَيْلًا وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ وَلَدُ الْأَمِيرِ، وَوَارِثُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَوْ قُمْتَ مَعَنَا إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ لِيَظْهَرَ أَمْرُكَ وَتَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَيْكَ لَكَانَ حَسَنًا.
فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ مَعَهُمْ، فَلَمَّا فَارَقَهَا قَبَضُوا عَلَيْهِ وَحَمَلُوهُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ، فَسَمِعَتْ وَالِدَتُهُ، فَدَخَلَتْ إِلَى مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ، فَأَعْلَمَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَقْدِرُ أَعْمَلُ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ وَتُوُفِّيَ فِي الْغَدِ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَتَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَالْبَلَدَ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا تُوُفِّيَ مِنْهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَوْتِ أَبِيهِ.
وَبَقِيَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَمِيرًا إِلَى مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ، وَتُوُفِّيَ بِالذُّبَحَةِ، وَكَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: رَأَيْتُ مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ مَسَكَ حَلْقِي لِيَخْنُقَنِي، وَيَقُولُ: قَتَلْتَ ابْنِي أَحْمَدَ، وَقَابَلْتَ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بِذَاكَ. فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَكَانَ مُلْكُهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى تَأْمِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَكْرٍ الشَّرَابِيِّ، وَكَانَ مِنْ خَوَاصِّ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ فَصَارَ أَمِيرَ الْبَطِيحَةِ، وَبَذَلَ لِلْمَلِكِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بُذُولًا، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنَ فَارِسٍ

(7/647)


الْمَازِيَارِيَّ، فَمَلَكَ الْبَطِيحَةَ، وَأَسَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّرَابِيَّ، فَبَقِيَ عِنْدَهُ أَسِيرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَدَقَةُ وَخُلِّصَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ وَفَاةِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ وَإِمَارَةِ ابْنِهِ دُبَيْسٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسٌ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ، وَأَذِنَ فِي وِلَايَتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَالِدُهُ اخْتَلَفَتِ الْعَشِيرَةُ عَلَى دُبَيْسٍ، فَطَلَبَ أَخُوهُ الْمُقَلَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ الْإِمَارَةَ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَبَذَلَ لِلْأَتْرَاكِ بُذُولًا كَثِيرَةً لِيُعَاضِدُوهُ، فَسَارَ مَعَهُ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَبَسُوا دُبَيْسًا بِالنُّعْمَانِيَّةِ وَنَهَبُوا حُلَّتَهُ، فَانْهَزَمَ إِلَى نَوَاحِي وَاسِطٍ، وَعَادَ الْأَتْرَاكُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقَامَ الْأَثِيرُ الْخَادِمُ بِأَمْرِ دُبَيْسٍ حَتَّى ثَبَتَ قَدَمُهُ، وَمَضَى الْمُقَلَّدُ أَخُوهُ إِلَى بَنِي عُقَيْلٍ وَنَذْكُرُ بَاقِيَ أَخْبَارِهِ مَوْضِعَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَعُفَ أَمْرُ الدَّيْلَمِ بِبَغْدَاذَ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْعَامَّةُ، فَانْحَدَرُوا إِلَى وَاسِطٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَامَّتُهَا وَأَتْرَاكُهَا فَقَاتَلُوهُمْ، فَدَفَعَ الدَّيْلَمُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْ أَتْرَاكِ وَاسِطٍ وَعَامَّتِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَظُمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَاذَ، فَأَفْسَدُوا وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَاجِبُ أَبُو طَاهِرٍ شَبَاشِيُّ الْمُشَطَّبِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ.

(7/648)


وَأَبُو الْحَسَنِ الْهُمَانِيُّ وَكَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الَّذِي مَدَحَهُ مِهْيَارُ بِقَوْلِهِ:
أَسْتَنْجِدُ الصَّبْرَ فِيكُمْ، وَهُوَ مَغْلُوبٌ
[ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ]
وَفِيهَا قَدِمَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ، وَضُرِبَ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، إِنَّمَا كَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ.
وَفِيهَا هَرَبَ ابْنُ سَهْلَانَ مِنْ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ إِلَى هِيتَ وَأَقَامَ عِنْدَ قِرْوَاشٍ، وَوَلَّى سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ مَوْضِعَهُ أَبَا الْقَاسِمِ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ فَسَانْجِسَ، وَمَوْلِدُهُ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
(وَفِيهَا كَانَتْ بِبَغْدَاذَ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ مِنَ الشِّيعَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ السُّنَّةِ اشْتَدَّتْ.
وَفِيهَا اسْتَنَابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالشِّيعَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَهَى مِنَ الْمُنَاظَرَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُكِّلَ بِهِ وَعُوقِبَ) .

(7/649)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَة]
409 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ وِلَايَةِ ابْنِ سَهْلَانَ الْعِرَاقَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَلَى الرُّخَّجِيِّ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: وِلَايَةُ الْعِرَاقِ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ فِيهِ عَسْفٌ وَخَرَقٌ، وَلَيْسَ غَيْرُ ابْنِ سَهْلَانَ، وَأَنَا أَخْلُفُهُ هَاهُنَا. فَوَلَّاهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ فِي الْمُحَرَّمِ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ تَرَكَ ثَقَلَهُ، وَالْكُتَّابَ، وَأَصْحَابَهُ، وَسَارَ جَرِيدَةً فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ طَرَّادِ بْنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ يَطْلُبُ مُهَارِشَ وَمُضَرًا ابْنَيْ دُبَيْسٍ، وَكَانَ مُضَرُ قَدْ قُبِضَ قَدِيمًا عَلَيْهِ بِأَمْرِ فَخْرِ الْمُلْكِ، فَكَانَ يَبْغَضُهُ لِذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ جَزِيرَةَ بَنِي أَسَدٍ مِنْهُ وَيُسَلِّمُهَا إِلَى طَرَّادٍ.
فَلَمَّا عَلِمَ مُضِرُ وَمُهَارِشُ قَصْدَهُ لَهُمَا سَارَا عَنِ الْمَذَارِ، فَتَبِعَهُمَا، وَالْحَرُّ شَدِيدٌ، فَكَادَ يَهْلِكُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَطَشًا فَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ أَنَّ بَنِي أَسَدٍ اشْتَغَلُوا بِجَمْعِ أَمْوَالِهِمْ وَإِبْعَادِهَا، وَبَقِيَ الْحَسَنُ بْنُ دُبَيْسٍ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا وَنَهَبَ ابْنُ سَهْلَانَ أَمْوَالَهُمْ، وَصَانَ حُرَمَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ فِي خَيْمَتِهِ قَالَ: الْآنَ وَلَدَتْنِي أُمِّي، وَبَذَلَ الْأَمَانَ لِمُهَارِشَ وَمُضَرَ وَأَهْلِهِمَا، وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ طَرَّادٍ فِي الْجَزِيرَةِ وَرَحَلَ.
وَأَنْكَرَ عَلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ فِعْلَهُ ذَلِكَ، وَوَصَلَ إِلَى وَاسِطٍ وَالْفِتَنُ بِهَا قَائِمَةٌ، فَأَصْلَحَهَا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا.

(7/650)


وَوَرَدَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ بِاشْتِدَادِ الْفِتَنِ (بِبَغْدَاذَ، فَسَارَ إِلَيْهَا) ، فَدَخَلَهَا أَوَاخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَهَرَبَ مِنْهُ الْعَيَّارُونَ، وَنَفَى جَمَاعَةً مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ، وَنَفَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ النُّعْمَانِ فَقِيهَ الشِّيعَةِ، وَأَنْزَلَ الدَّيْلَمَ أَطْرَافَ الْكَرْخِ وَبَابَ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلُوا مِنَ الْفَسَادِ مَا لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمَسْتُورِينَ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَرَآهُمْ عَلَى حَالٍ عَظِيمٍ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْفَسَادِ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَأَكْرَهُوهُ عَلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ إِلَى دَارٍ نَزَلُوهَا، وَأَلْزَمُوهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَامْتَنَعَ فَصَبُّوهَا فِي فِيهِ قَهْرًا، وَقَالُوا لَهُ: قُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَافْعَلْ بِهَا، فَامْتَنَعَ فَأَلْزَمُوهُ فَدَخَلَ مَعَهَا إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، وَأَعْطَاهَا دَرَاهِمَ، وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ، وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ تَتَضَاعَفُ، وَأُحِبُّ أَنْ تُخْبِرِيهِمْ أَنَّنِي قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَتْ: لَا كَرَامَةَ وَلَا عَزَازَةَ، أَنْتَ تَصُونُ دِينَكَ عَنِ الزِّنَاءِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَصُونَ أَمَانَتِي فِي هَذَا الشَّهْرِ عَنِ الْكَذِبِ! فَصَارَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ سَائِرَةً فِي بَغْدَاذَ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ سَهْلَانَ أَفْسَدَ الْأَتْرَاكَ وَالْعَامَّةَ، فَانْحَدَرَ الْأَتْرَاكُ إِلَى وَاسِطٍ، فَلَقُوا بِهَا سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ فَسَكَّنَهُمْ وَوَعَدَهُمُ الْإِصْعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَإِصْلَاحَ الْحَالِ.
وَاسْتَحْضَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ ابْنَ سَهْلَانَ، فَخَافَهُ وَمَضَى إِلَى بَنِي خَفَاجَةَ ثُمَّ أَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَطِيحَةِ. فَأَرْسَلَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ رَسُولًا مِنَ الشَّرَابِيِّ، فَلَمْ يُسَلِّمْهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عَسْكَرًا فَانْهَزَمَ الشَّرَابِيُّ، وَانْحَدَرَ ابْنُ سَهْلَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَاتَّصَلَ بِالْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ الرُّخَّجِيُّ قَدْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ سَهْلَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَفَارَقَهُ بِهَا، وَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ وَعَادَ إِلَيْهِ.

(7/651)


ذِكْرُ غَزْوَةِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْهِنْدِ وَالْأَفْغَانِيَّةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْهِنْدِ غَازِيًا، وَاحْتَشَدَ وَجَمَعَ، وَاسْتَعَدَّ وَأَعَدَّ أَكْثَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَسَبَبُ هَذَا الِاهْتِمَامِ أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ قَنُّوجَ، وَهَرَبَ صَاحِبُهَا مِنْهُ، وَيُلَقَّبُ رَآي قَنُّوجَ، وَمَعْنَى رَآي هُوَ لَقَبُ الْمَلِكِ كَقَيْصَرَ وَكِسْرَى، فَلَمَّا عَادَ إِلَى غَزْنَةَ أَرْسَلَ بِيدَا اللَّعِينُ، وَهُوَ أَعْظَمُ مُلُوكِ الْهِنْدِ مَمْلَكَةً، وَأَكْثَرُهُمْ جَيْشًا، وَتُسَمَّى مَمْلَكَتُهُ كَجُورَاهَةَ، رُسُلًا إِلَى رَآي قَنُّوجَ، وَاسْمُهُ رَاجِيبَالُ، يُوَبِّخُهُ عَلَى انْهِزَامِهِ، وَإِسْلَامِ بِلَادِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَطَالَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمَا، وَآلَ أَمْرُهُمَا إِلَى الِاخْتِلَافِ.
وَتَأَهَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ رَاجِيبَالُ، وَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى أَكْثَرِ جُنُودِهِ، فَازْدَادَ بِيدَا بِمَا اتَّفَقَ لَهُ شَرًّا وَعُتُوًّا، وَبُعْدَ صِيتٍ فِي الْهِنْدِ، وَعُلُوًّا، وَقَصَدَهُ بَعْضُ مُلُوكِ الْهِنْدِ الَّذِي مَلَكَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِلَادَهُ، وَهَزَمَهُ وَأَبَادَ أَجْنَادَهُ، وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ وَخِدْمَتِهِ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، فَوَعَدَهُ بِإِعَادَةِ مُلْكِهِ إِلَيْهِ، وَحِفْظِ ضَالَّتِهِ عَلَيْهِ، وَاعْتَذَرَ بِهُجُومِ الشِّتَاءِ وَتَتَابُعِ الْأَنْدَاءِ.
فَنَمَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ فَأَزْعَجَتْهُ وَتَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ، وَقَصَدَ بِيدَا، وَأَخَذَ مُلْكَهُ مِنْهُ، وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ، وَابْتَدَأَ فِي طَرِيقِهِ بِالْأَفْغَانِيَّةِ، وَهُمْ كُفَّارٌ يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ بَيْنَ غَزْنَةَ وَبَيْنَهُ، فَقَصَدَ بِلَادَهُمْ، وَسَلَكَ مَضَايِقَهَا، وَفَتَحَ مَغَالِقَهَا، وَخَرَّبَ عَامِرَهَا، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْأَسْرَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْكَثِيرَ.
ثُمَّ اسْتَقَلَّ عَلَى الْمَسِيرِ، وَبَلَغَ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ غَزَوَاتِهِ، وَعَبَرَ نَهْرَ

(7/652)


كُنْكَ، وَلَمْ يَعْبُرْهُ قَبْلَهَا، فَلَمَّا جَازَهُ رَأَى قَفَلًا قَدْ بَلَغَتْ عِدَّةُ أَحْمَالِهِمْ أَلْفَ عَدَدٍ، فَغَنِمَهَا، وَهِيَ مِنَ الْعُودِ، وَالْأَمْتِعَةِ الْفَائِقَةِ، وَجَدَّ بِهِ السَّيْرُ، فَأَتَاهُ فِي الطَّرِيقِ خَبَرُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ يُقَالُ لَهُ تُرُوجِنْبَالُ، قَدْ سَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُلْتَجِئًا إِلَى بِيدَا لِيَحْتَمِيَ بِهِ عَلَيْهِ، فَطَوَى الْمَرَاحِلَ، فَلَحِقَ تُرُوجِنْبَالَ وَمَنْ مَعَهُ، رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُنُودِ نَهْرٌ عَمِيقٌ فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَشَغَلَهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ عَبَرَ هُوَ وَبَاقِي الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا عَامَّةَ نَهَارِهِمْ وَانْهَزَمَ تُرُوجِنْبَالُ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَثُرَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، وَأَسْلَمُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَغَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَأُخِذَ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَتَيْ فِيلٍ، وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتَصُّونَ آثَارَهُمْ، وَانْهَزَمَ مَلِكُهُمْ جَرِيحًا وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَقُتِلَ مِنْ عَسَاكِرِهِ مَا لَا يُحْصَى.
وَسَارَ تُرُوجِنْبَالُ لِيَلْحَقَ بِبِيدَا، فَانْفَرَدَ [بِهِ] بَعْضُ الْهُنُودِ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا رَأَى مُلُوكُ الْهِنْدِ ذَلِكَ تَابَعُوا رُسُلَهُمْ إِلَى يَمِينِ الدَّوْلَةِ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْإِتَاوَةَ، وَسَارَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ إِلَى مَدِينَةِ بَارِي، وَهِيَ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَالْبِلَادِ وَأَقْوَاهَا، فَرَآهَا مِنْ سُكَّانِهَا خَالِيَةً، وَعَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَةً، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا وَتَخْرِيبِهَا وَعَشْرِ قِلَاعٍ مَعَهَا مُتَنَاهِيَةِ الْحَصَانَةِ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَارَ يَطْلُبُ بِيدَا الْمَلِكَ فَلَحِقَهُ وَقَدْ نَزَلَ إِلَى جَانِبِ نَهْرٍ، وَأَجْرَى الْمَاءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَصَارَ وَحْلًا، وَتَرَكَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ طَرِيقًا يَبَسًا يُقَاتِلُ مِنْهُ إِذَا أَرَادَ الْقِتَالَ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَعَهُ سِتَّةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَسَبْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَأَرْبَعِينَ فِيلًا. فَأَرْسَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ

(7/653)


طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ لِلْقِتَالِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ بِيدَا مِثْلَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ كُلُّ عَسْكَرٍ يَمُدُّ أَصْحَابَهُ، حَتَّى كَثُرَ الْجَمْعَانِ، وَاشْتَدَّ الضَّرْبُ وَالطِّعَانُ، فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ وَحَجَزَ بَيْنَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَكَّرَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى الدِّيَارَ مِنْهُمْ بَلَاقِعَ، وَرَكِبَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا مُخَالِفًا لِطَرِيقِ الْأُخْرَى. وَوَجَدَ خَزَائِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ بِحَالِهَا، فَغَنِمُوا الْجَمِيعَ، وَاقْتَفَى آثَارَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَلَحِقُوهُمْ فِي الْغِيَاضِ وَالْآجَامِ، وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، وَنَجَا بِيدَا فَرِيدًا وَحِيدًا، وَعَادَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ إِلَى غَزْنَةَ مَنْصُورًا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ فَسَانْجَسَ وَإِخْوَتِهِ، وَوَلَّى وَزَارَتَهُ ذَا السَّعَادَتَيْنِ أَبَا غَالِبٍ الْحَسَنَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَمَوْلِدُهُ بِسِيرَافَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْغَالِبُ بِاللَّهِ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِيهِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتُوُفِّيَ أَيْضًا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلَّانَ، قَاضِي الْأَهْوَازِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ، صَاحِبُ " الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ "، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

(7/654)


وَتُوُفِّيَ رَجَاءُ بْنُ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصِنَاوِيُّ، وَأَنْصِنَا مِنْ قُرَى مِصْرَ، وَهُوَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَسَمِعَ (الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ) .

(7/655)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَة]
410 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
[ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْوَزِيرِ ابْنِ مَاكُولَا]
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي سَعْدٍ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَاكُولَا، وَكَانَ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ كَاتِبًا فَاضِلًا، وَكَانَ يَعْرِضُ الدَّيْلَمَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَلِأَبِي سَعْدٍ شِعْرٌ مِنْهُ:
وَإِنَّ لِقَائِي لِلشُّجَاعِ لَهَيِّنٌ ... وَلَكِنَّ حَمْلَ الضَّيْمِ مِنْهُ شَدِيدُ
إِذَا كَانَ قَلْبُ الْقِرْنِ يَنْبُو عَنِ الْوَغَى ... فَإِنَّ جَنَانِي جَلْمَدٌ وَحَدِيدُ
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ وَثَّابُ بْنُ سَابِقٍ النُّمَيْرِيُّ، صَاحِبُ حَرَّانَ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَسَدٍ الْكَاتِبُ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْهَاشِمِيُّ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ، وَأَبُو الْفَضْلِ (عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) التَّمِيمِيُّ، (الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْبَغْدَاذِيُّ) ، عَمُّ أَبِي مُحَمَّدٍ.
قَالَ أَبُو الْفَضْلِ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْقَصَّابِ الصُّوفِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَجَمَاعَةٌ إِلَى الْبَيْمَارِسْتَانِ بِبَغْدَاذَ، فَرَأَيْنَا شَابًّا مَجْنُونًا شَدِيدَ الْهَوَسِ فَوَلِعْنَا بِهِ، فَرَدَّ بِفَصَاحَةٍ وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى شُعُورٍ مُطَرَّرَةٍ. وَأَجْسَادٍ مُعَطَّرَةٍ. . . وَقَدْ جَعَلُوا اللَّهْوَ صِنَاعَةً.

(7/656)


وَاللَّعِبَ بِضَاعَةً. وَجَانَبُوا الْعِلْمَ رَأْسًا. فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ فَنَسْأَلُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّ عِنْدِي عِلْمًا جَمًّا، فَاسْأَلُونِي.
فَقَالَ بَعْضُنَا: مَنِ الْكَرِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ؟ قَالَ: مَنْ رُزِقَ أَمْثَالُكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُسَاوُونَ ثُومَةً. فَأَضْحَكَنَا. فَقَالَ آخَرُ: مَنْ أَقَلُّ النَّاسِ شُكْرًا؟ فَقَالَ: مَنْ عُوفِيَ مِنْ بَلِيَّةٍ ثُمَّ رَآهَا فِي غَيْرِهِ فَتَرَكَ الِاعْتِبَارَ، فَإِنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ. فَأَبْكَانَا بَعْدَ أَنْ أَضْحَكَنَا. فَقُلْنَا: مَا الظُّرْفُ؟ قَالَ: خِلَافُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ تَرُدَّ عَقْلِي، فَرُدَّ يَدِي لِأَصْفَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَفْعَةً! فَتَرَكْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا.
وَفِيهَا مَاتَ الْأُصَيْفِرُ الْمُنْتَفِقِيُّ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي الْحَاجَّ فِي طَرِيقِهِمْ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ بَابَكَ (أَبُو الْقَاسِمِ) الشَّاعِرُ، قَدِمَ عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ بَابَكَ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ بَابِكَ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ.

(7/657)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
411 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ قَتْلِ الْحَاكِمِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الظَّاهِرِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، فُقِدَ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ الْمَنْصُورُ بْنُ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ نِزَارِ بْنِ الْمُعِزِّ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ بِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ.
وَكَانَ سَبَبُ فَقْدِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يَطُوفُ لَيْلَةً عَلَى رَسْمِهِ، وَأَصْبَحَ عِنْدَ قَبْرِ الْفُقَّاعِيِّ، وَتَوَجَّهَ إِلَى شَرْقَيْ حُلْوَانَ وَمَعَهُ رِكَابِيَّانِ، فَأَعَادَ أَحَدَهُمَا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِجَائِزَةٍ ثُمَّ عَادَ الرِّكَابِيُّ الْآخَرُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَّفَهُ عِنْدَ الْعَيْنِ وَالْمَقْصَبَةِ.
وَبَقِيَ النَّاسُ عَلَى رَسْمِهِمْ يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَلْتَمِسُونَ رُجُوعَهُ إِلَى سَلْخِ شَوَّالٍ، فَلَمَّا كَانَ ثَالِثُ ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ مُظَفَّرٌ الصَّقْلَبِيُّ، صَاحِبُ الْمِظَلَّةِ وَغَيْرُهُ مِنْ خَوَاصِّ الْحَاكِمِ، وَمَعَهُمُ الْقَاضِي، فَبَلَغُوا سُلْوَانَ، وَدَخَلُوا فِي الْجَبَلِ، فَبَصُرُوا بِالْحِمَارِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَاكِبًا، وَقَدْ ضُرِبَتْ يَدَاهُ بِسَيْفٍ فَأَثَّرَ فِيهِمَا، وَعَلَيْهِ سَرْجُهُ وَلِجَامُهُ، فَاتَّبَعُوا الْأَثَرَ، فَانْتَهَوْا بِهِ إِلَى الْبِرْكَةِ الَّتِي شَرْقَيْ حُلْوَانَ، فَرَأَوْا ثِيَابَهُ، وَهِيَ سَبْعُ قِطَعٍ

(7/658)


صُوفٍ، وَهِيَ مُزَرَّرَةٌ بِحَالِهَا، لَمْ تُحَلَّ وَفِيهَا أَثَرُ السَّكَاكِينِ، فَعَادُوا وَلَمْ يَشُكُّوا فِي قَتْلِهِ.
وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ أَفْعَالِهِ، فَكَانُوا يَكْتُبُونَ إِلَيْهِ الرِّقَاعَ فِيهَا سَبُّهُ، وَسَبُّ أَسْلَافِهِ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ عَمِلُوا مِنْ قَرَاطِيسَ صُورَةَ امْرَأَةٍ وَبِيَدِهَا رُقْعَةٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّ أَنَّهَا امْرَأَةٌ تَشْتَكِي، (فَأَمَرَ بِأَخْذِ) الرُّقْعَةِ مِنْهَا، فَقَرَأَهَا، وَفِيهَا كُلُّ لَعْنٍ وَشَتِيمَةٍ قَبِيحَةٍ، وَذِكْرِ حُرَمِهِ بِمَا يَكْرَهُ، فَأَمَرَ بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ، فَقِيلَ إِنَّهَا مِنْ قَرَاطِيسَ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ مِصْرَ وَنَهْبِهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَاتَلَ أَهْلُهَا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ الْأَتْرَاكُ وَالْمَشَارِقَةُ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ وَأَرْسَلُوا إِلَى الْحَاكِمِ يَسْأَلُونَهُ الصَّفْحَ وَيَعْتَذِرُونَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَصَارُوا إِلَى التَّهْدِيدِ، فَلَمَّا رَأَى قُوَّتَهُمْ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَحْرَقَ بَعْضَ مِصْرَ وَنَهَبَ بَعْضَهَا، وَتَتَبَّعَ الْمِصْرِيُّونَ مَنْ أَخَذَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَابْتَاعُوا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَضَحُوهُنَّ، فَازْدَادَ غَيْظُهُمْ مِنْهُ وَحُنْقُهُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَوْحَشَ أُخْتَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مُرَاسَلَاتٍ قَبِيحَةً يَقُولُ فِيهَا: بَلَغَنِي أَنَّ الرِّجَالَ يُدْخِلُونَ إِلَيْكِ، وَتَهَدَّدَهَا بِالْقَتْلِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى قَائِدٍ كَبِيرٍ مِنْ قُوَّادِ الْحَاكِمِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ دَوَّاسٍ، وَكَانَ أَيْضًا يَخَافُ الْحَاكِمَ، تَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَلْقَاكَ فَحَضَرَتْ عِنْدَهُ وَقَالَتْ لَهُ: قَدْ جِئْتُ إِلَيْكَ فِي أَمْرٍ تَحْفَظُ فِيهِ نَفْسَكَ وَنَفْسِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا يَعْتَقِدُهُ أَخِي فِيكَ، وَأَنَّهُ مَتَى تَمَكَّنَ مِنْكَ لَا يُبْقِي عَلَيْكَ، وَأَنَا كَذَلِكَ، وَقَدِ انْضَافَ إِلَى هَذَا مَا تَظَاهَرَ بِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ، وَأَخَافُ أَنْ يَثُورُوا بِهِ فَيَهْلِكَ هُوَ وَنَحْنُ مَعَهُ، وَتَنْقَلِعَ هَذِهِ الدَّوْلَةُ، فَأَجَابَهَا إِلَى مَا تُرِيدُ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَصْعَدُ إِلَى هَذَا الْجَبَلِ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَهُ غُلَامٌ إِلَّا الرِّكَابِيُّ وَصَبِيٌّ، وَيَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ، فَتُقِيمُ رَجُلَيْنِ تَثِقُ بِهِمَا

(7/659)


يَقْتُلَانِهِ، وَيَقْتُلَانِ الصَّبِيَّ، وَتُقِيمُ وَلَدَهُ بَعْدَهُ، وَتَكُونُ أَنْتَ مُدَبِّرَ الدَّوْلَةِ، وَأَزِيدُ فِي إِقْطَاعِكَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
فَأَقَامَ رَجُلَيْنِ، وَأَعْطَتْهُمَا هِيَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَضَيَا إِلَى الْجَبَلِ، وَرَكِبَ الْحَاكِمُ عَلَى عَادَتِهِ، وَسَارَ مُنْفَرِدًا إِلَيْهِ، فَقَتَلَاهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَوِلَايَتُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ جَوَّادًا بِالْمَالِ، سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، قَتَلَ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْ أَمَاثِلِ دَوْلَتِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ سِيرَتُهُ عَجِيبَةً.
مِنْهَا: أَنَّهُ أَمَرَ فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ بِسَبِّ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (وَأَنْ تُكْتَبَ) عَلَى حِيطَانِ الْجَوَامِعِ وَالْأَسْوَاقِ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ عُمَّالِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ بِالْكَفِّ عَنِ السَّبِّ، وَتَأْدِيبِ مَنْ يَسُبُّهُمْ، أَوْ يَذْكُرُهُمْ بِسُوءٍ، ثُمَّ أَمَرَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] بِتَرْكِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْجَامِعِ الْعَتِيقِ وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامٌ جَمِيعَ رَمَضَانَ، فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ، وَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ التَّرَاوِيحَ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِقَامَتِهَا عَلَى الْعَادَةِ.
وَبَنَى الْجَامِعَ بِرَاشِدَةَ، وَأَخْرَجَ إِلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مِنَ الْآلَاتِ

(7/660)


وَالْمَصَاحِفِ، وَالسُّتُورِ، وَالْحُصْرِ، مَا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، وَحَمَلَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمَسِيرِ إِلَى مَأْمَنِهِمْ أَوْ لُبْسِ الْغِيَارِ، فَأَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْقَاهُ فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّنِي أُرِيدُ الْعَوْدَةَ إِلَى دِينِي، فَيَأْذَنُ لَهُ، وَمَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَقَتَلَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُنَّ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ مَنْ لَا قَيِّمَ لَهَا يَقُومُ بِأَمْرِهَا، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَحْمِلُوا كُلَّ مَا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ إِلَى الدُّرُوبِ وَيَبِيعُوهُ (عَلَى النِّسَاءِ) ، وَأَمَرَ مَنْ يَبِيعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شِبْهُ الْمِغْرَفَةِ بِسَاعِدٍ طَوِيلٍ يَمُدُّهُ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَفِيهِ مَا تَشْتَرِيهِ، فَإِذَا رَضِيَتْ وَضَعَتِ الثَّمَنَ فِي الْمِغْرَفَةِ، وَأَخَذَتْ مَا فِيهَا لِئَلَّا يَرَاهَا، فَنَالَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ.
(وَلَمَّا فُقِدَ الْحَاكِمُ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَلُقِّبَ الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَأُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ، وَرَدَّ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ جَمِيعِهَا إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيِّ) .

ذِكْرُ مُلْكِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ الْعِرَاقَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، عَظُمَ أَمْرُ أَبِي عَلِيٍّ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَخُوطِبَ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ مَلِكِ الْعِرَاقِ، وَأَزَالَ عَنْهُ أَخَاهُ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ.
وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْجُنْدَ شَغَبُوا عَلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَمَنَعُوهُ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَأَرَادَ تَرْتِيبَ أَخِيهِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ فِي الْمُلْكِ، فَأُشِيرَ عَلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ الِانْحِدَارَ إِلَى وَاسِطٍ، فَقَالَ الْجُنْدُ: إِمَّا أَنْ تَجْعَلَ

(7/661)


عِنْدَنَا وَلَدَكَ أَوْ أَخَاكَ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ. فَرَاسَلَ أَخَاهُ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ بَعْدَ مُعَاوَدَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمَا اتَّفَقَا، وَاجْتَمَعَا بِبَغْدَاذَ، وَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا لَا يَسْتَخْدِمَانِ ابْنَ سَهْلَانَ، وَفَارَقَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بَغْدَاذَ، وَقَصَدَ الْأَهْوَازَ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعِرَاقِ.
فَلَمَّا انْحَدَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ وَوَصَلَ إِلَى تُسْتَرَ اسْتَوْزَرَ ابْنَ سَهْلَانَ، فَاسْتَوْحَشَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ، فَأَنْفَذَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ ابْنَ سَهْلَانَ لِيُخْرِجَ أَخَاهُ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَجَمَعَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ عَسْكَرًا كَثِيرًا مِنْهُمْ أَتْرَاكُ وَاسِطٍ، وَأَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَلَقِيَ ابْنَ سَهْلَانَ عِنْدَ وَاسِطٍ، فَانْهَزَمَ ابْنُ سَهْلَانَ وَتَحَصَّنَ بِوَاسِطٍ، وَحَاصَرَهُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ حَتَّى بَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الطَّعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةٍ، وَأَكَلَ النَّاسُ الدَّوَابَّ، حَتَّى الْكِلَابَ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ سَهْلَانَ إِدْبَارَ أُمُورِهِ سَلَّمَ الْبَلَدَ، وَاسْتَحْلَفَ مُشَرِّفَ الدَّوْلَةِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَخُوطِبَ حِينَئِذٍ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ بِشَاهِنْشَاهْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَضَتِ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ كَانُوا بِوَاسِطٍ فِي خِدْمَتِهِ، وَسَارُوا مَعَهُ، فَحَلَفَ لَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَأَخُوهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ، فَلَمَّا سَمِعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ سَارَ عَنِ الْأَهْوَازِ إِلَى أَرَّجَانَ، وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ مِنَ الْعِرَاقِ، وَخُطِبَ لِأَخِيهِ بِبَغْدَاذَ آخِرَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقُبِضَ عَلَى ابْنِ سَهْلَانَ وَكُحِّلَ.
وَلَمَّا سَمِعَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ، وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَقَلَّتْ عَلَيْهِمُ الْمِيرَةُ، فَنَهَبُوا السَّوَادَ فِي طَرِيقِهِمْ، فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ بِالْأَهْوَازِ، (وَقَاتَلُوا أَصْحَابَ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ) ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ وَسَارُوا مِنْهَا، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَافِلَةٍ وَأَخَذُوهَا وَانْصَرَفُوا.

ذِكْرُ وِلَايَةِ الظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ
لَمَّا قُتِلَ الْحَاكِمُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، بَقِيَ الْجُنْدُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اجْتَمَعُوا إِلَى أُخْتِهِ

(7/662)


وَاسْمُهَا سِتُّ الْمُلْكِ، وَقَالُوا: قَدْ تَأَخَّرَ مَوْلَانَا وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ. فَقَالَتْ: قَدْ جَاءَتْنِي رُقْعَتُهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ غَدٍ. فَتَفَرَّقُوا، وَبَعَثَتْ بِالْأَمْوَالِ إِلَى الْقُوَّادِ عَلَى يَدِ ابْنِ دَوَّاسٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ أَلْبَسَتْ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيًّا ابْنَ أَخِيهَا الْحَاكِمِ أَفْخَرَ الْمَلَابِسِ، وَكَانَ الْجُنْدُ قَدْ حَضَرُوا لِلْمِيعَادِ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَقَدْ أُخْرِجَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ صَبِيٌّ، وَالْوَزِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَصَاحَ: يَا عَبِيدَ الدَّوْلَةِ، مَوْلَاتُنَا تَقُولُ لَكُمْ: هَذَا مَوْلَاكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِ! فَقَبَّلَ ابْنُ دَوَّاسٍ الْأَرْضَ، وَالْقُوَّادُ الَّذِينَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ، وَدَعَوْا لَهُ، فَتَبِعَهُمُ الْبَاقُونَ وَمَشَوْا مَعَهُ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبًا إِلَى الظُّهْرِ، فَنَزَلَ وَدَعَا النَّاسَ مِنَ الْغَدِ فَبَايَعُوا لَهُ، وَلُقِّبَ الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَكُتِبَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْبِلَادِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ بِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ.
وَجَمَعَتْ أُخْتُ الْحَاكِمِ النَّاسَ، وَوَعَدَتْهُمْ، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِمْ، وَرَتَّبَتِ الْأَمْرَ تَرْتِيبًا حَسَنًا، وَجَعَلَتِ الْأَمْرَ بِيَدِ ابْنِ دَوَّاسٍ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَرُدَّ جَمِيعَ أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ إِلَيْكَ، وَنَزِيدُ فِي إِقْطَاعِكَ، وَنُشَرِّفُكَ بِالْخِلَعِ، فَاخْتَرْ يَوْمًا يَكُونُ ذَلِكَ. فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَدَعَا، وَظَهَرَ الْخَبَرُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَحْضَرَتْهُ، وَأَحْضَرَتِ الْقُوَّادَ مَعَهُ، وَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَ الْقَصْرِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمًا وَقَالَتْ لَهُ: قُلْ لِلْقُوَّادِ إِنَّ هَذَا قَتَلَ سَيِّدَكُمْ، وَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَتَلَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ رَجُلَانِ، وَبَاشَرَتِ الْأُمُورَ بِنَفْسِهَا، وَقَامَتْ هَيْبَتُهَا عِنْدَ النَّاسِ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَعَاشَتْ بَعْدَ الْحَاكِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَمَاتَتْ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالْأَكْرَادِ بِهَمَذَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ شَغَبُ الْأَتْرَاكِ بِهَمَذَانَ عَلَى صَاحِبِهِمْ شَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ يَحْلُمُ عَنْهُمْ بَلْ يَعْجِزُ، فَقَوِيَ طَمَعُهُمْ

(7/663)


فَزَادُوا فِي التَّوَثُّبِ وَالشَّغَبِ، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَ الْقُوَّادِ الْقُوهِيَّةِ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَعَزَمُوا عَلَى الْإِيقَاعِ بِهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَاعْتَزَلَ الْأَكْرَادُ مَعَ وَزِيرِهِ تَاجِ الْمُلْكِ أَبِي نَصْرِ بْنِ بَهْرَامَ إِلَى قَلْعَةِ بَرْجِينَ، فَسَارَ الْأَتْرَاكُ إِلَيْهِمْ فَحَصَرُوهُمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَمْسِ الدَّوْلَةِ فَكَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ صَاحِبِ أَصْبَهَانَ، يَسْتَنْجِدُهُ، وَعَيَّنَ لَهُ لَيْلَةً يَكُونُ قُدُومُ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ فِيهَا بَغْتَةً، لِيَخْرُجَ هُوَ أَيْضًا تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِيَكْبِسُوا الْأَتْرَاكَ. (فَفَعَلَ أَبُو) جَعْفَرٍ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَضَبَطُوا الطُّرُقَ لِئَلَّا يَسْبِقَهُمُ الْخَبَرُ، وَكَبَسُوا الْأَتْرَاكَ سَحَرًا عَلَى غَفْلَةٍ، وَنَزَلَ الْوَزِيرُ وَالْقُوهِيَّةُ مِنَ الْقَلْعَةِ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنَ الْأَتْرَاكِ نَجَا فَقِيرًا.
وَفَعَلَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ بِمَنْ عِنْدَهُ فِي هَمَذَانَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُمْ، فَمَضَى ثَلَاثُمِائَةٍ مِنْهُمْ إِلَى كِرْمَانَ، وَخَدَمُوا أَبَا الْفَوَارِسِ بْنَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ صَاحِبَهَا.

ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ وَابْنِ فَهْدٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ مُعْتَمَدُ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ، وَعَلَى أَبِي الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ ابْنُ فَهْدٍ يَكْتُبُ فِي حَدَاثَتِهِ بَيْنَ يَدَيِ الصَّابِي، وَخَدَمَ الْمُقَلَّدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاقْتَنَى بِهَا ضِيَاعًا، وَنَظَرَ فِيهَا لِقِرْوَاشٍ، فَظَلَمَ أَهْلَهَا وَصَادَرَهُمْ، ثُمَّ سَخِطَ قِرْوَاشٌ عَلَيْهِمَا فَحَبَسَهُمَا، وَطُولِبَ سُلَيْمَانُ بِالْمَالِ، فَادَّعَى الْفَقْرَ فَقُتِلَ.
وَأَمَّا الْمَغْرِبِيُّ فَإِنَّهُ خَدَعَ قِرْوَاشًا، وَوَعَدَهُ بِمَالٍ لَهُ فِي الْكُوفَةِ وَبَغْدَاذَ، فَأَمَرَ بِحَمْلِهِ وَتُرِكَ. وَفِي قِرْوَاشٍ وَابْنِ فَهْدٍ يَقُولُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ ابْنُ الزَّمَكْدَمِ:
وَلَيْلٍ كَوَجْهِ الْبَرْقَعِيدِيِّ ظُلْمَةً ... وَبَرْدِ أَغَانِيهِ، وَطُولِ قُرُونِهِ
سَرَّيْتُ، وَنَوْمِي فِيهِ نَوْمٌ مُشَرَّدٌ ... كَعَقْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ وَدِينِهِ

(7/664)


عَلَى أَوْلَقٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ كَأَنَّهُ
أَبُو جَابِرٍ فِي خَطْبِهِ وَجُنُونِهِ ... إِلَى أَنْ بَدَا ضَوْءُ الصَّبَاحِ كَأَنَّهُ
سَنَا وَجْهِ قِرْوَاشٍ وَضَوْءَ جَبِينِهِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّهَا غَايَةٌ فِي الْجَوْدَةِ لَمْ يُقَلْ خَيْرٌ مِنْهَا فِي مَعْنَاهَا.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ قِرْوَاشٍ وَغَرِيبِ بْنِ مَقْنٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، اجْتَمَعَ غَرِيبُ بْنُ مَقْنٍ، وَنُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَأَتَاهُمْ عَسْكَرٌ مِنْ بَغْدَاذَ، فَقَاتَلُوا قِرْوَاشًا، وَمَعَهُ رَافِعُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عِنْدَ كَرْخِ سُرَّ مَنْ رَأَى، فَانْهَزَمَ قِرْوَاشٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَأُسِرَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَنُهِبَتْ خَزَائِنَهُ وَأَثْقَالُهُ، وَاسْتَجَارَ رَافِعٌ بِغَرِيبٍ، وَفَتَحُوا تَكْرِيتَ عَنْوَةً، وَعَادَ عَسْكَرُ بَغْدَاذَ إِلَيْهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
ثُمَّ إِنَّ قِرْوَاشًا خَلَصَ، وَقَصَدَ سُلْطَانَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ ثِمَالٍ، أَمِيرَ خَفَاجَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَعَادَ قِرْوَاشٌ وَانْهَزَمَ ثَانِيًا هُوَ وَسُلْطَانٌ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَهُمْ غَرْبَيِ الْفُرَاتِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ قِرْوَاشٌ مَدَّ نُوَّابُ السُّلْطَانِ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْمَالِهِ، فَأَرْسَلَ يَسْأَلُ الصَّفْحَ عَنْهُ، وَيَبْذُلُ الطَّاعَةَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِيهَا أَغَارَتْ زِنَاتَةُ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى دَوَابِّ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبِ الْبِلَادِ لِيَأْخُذُوهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَامِلُ مَدِينَةِ قَابِسٍ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، نَشَأَتْ سَحَابَةٌ بِإِفْرِيقِيَّةَ أَيْضًا شَدِيدَةُ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ

(7/665)


فَأَمْطَرَتْ حِجَارَةً كَثِيرَةً مَا رَأَى النَّاسُ أَكْبَرَ مِنْهَا، فَهَلَكَ كُلُّ مَنْ أَصَابَهُ (شَيْءٌ مِنْهَا) .
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَنْبَرِيُّ الشَّاعِرُ، وَدِيوَانُهُ مَشْهُورٌ، وَمِنْ قَوْلِهِ:
ذَنْبِي إِلَى الدَّهْرِ أَنِّي لَمْ أَمُدَّ يَدِي ... فِي الرَّاغِبِينَ، وَلَمْ أَطْلُبْ وَلَمْ أَسَلِ
وَأَنَّنِي كُلَّمَا نَابَتْ نَوَائِبُهُ ... أَلْفَيْتَنِي بِالرَّزَايَا غَيْرَ مُحْتَفِلِ

(7/665)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَة]
412 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ وَقَتْلِ وَزِيرِهِ أَبِي غَالِبٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، قُطِعَتْ خُطْبَةُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعِرَاقِ، وَخُطِبَ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، فَطَلَبَ الدَّيْلَمُ مِنْ مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَنْحَدِرُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ بِخُوزِسْتَانَ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَبَا غَالِبٍ بِالِانْحِدَارِ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي إِنْ فَعَلْتُ خَاطَرْتُ بِنَفْسِي، وَلَكِنْ أَبْذُلُهَا فِي خِدْمَتِكَ.
ثُمَّ انْحَدَرَ فِي الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَهْوَازِ نَادَى الدَّيْلَمُ بِشِعَارِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَهَجَمُوا عَلَى أَبِي غَالِبٍ فَقَتَلُوهُ، فَسَارَ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ إِلَى طَرَّادِ بْنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ بِالْجَزِيرَةِ الَّتِي لِبَنِي دُبْيَسٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا [أَنْ] يَدْفَعُوا عَنْهُ، فَكَانَتْ وَزَارَتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعُمْرُهُ سِتِّينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَأُخِذَ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَصُودِرَ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَلَمَّا بَلَغَ سُلْطَانَ الدَّوْلَةِ قَتْلُهُ اطْمَأَنَّ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ قَدْ خَافَهُ، وَأَنْفَذَ ابْنَهُ أَبَا كَالِيجَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَمَلَكَهَا.
ذِكْرُ وَفَاةِ صَدَقَةَ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ صَدَقَةُ صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، فَقَصَدَهَا أَبُو الْهَيْجَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ، فِي صَفَرٍ، لِيَمْلِكَهَا، وَكَانَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ قَدْ تَمَزَّقَ فِي الْبِلَادِ ; تَارَةً بِمِصْرَ، وَتَارَةً عِنْدَ بَدْرِ بْنِ حَسَنَوَيْهِ، وَتَارَةً بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا وَلِيَ الْوَزِيرُ أَبُو غَالِبٍ أَنْفَقَ عَلَيْهِ لِأَدَبٍ كَانَ فِيهِ، فَكَاتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبَطِيحَةِ لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ

(7/667)


فَسَمِعَ بِهِ صَدَقَةُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمَيْنِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَقَاتَلُوهُ فَانْهَزَمَ أَبُو الْهَيْجَاءِ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَأَرَادَ اسْتِبْقَاءَهُ فَمَنَعَهُ سَابُورُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَتَلَهُ بِيَدِهِ.
ثُمَّ تُوُفِّيَ صَدَقَةُ، بَعْدَ قَتْلِهِ، فِي صَفَرٍ فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَطِيحَةِ عَلَى وِلَايَةِ سَابُورَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ فَوَلِيَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى مُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى صَدَقَةَ مِنَ الْحَمْلِ، وَيَسْتَعْمِلَ عَلَى الْبَطِيحَةِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَزَادَ فِي الْقَرَارِ عَلَيْهِ وَاسْتَقَرَّ فِي الْأَمْرِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَصْرٍ شِيرَازَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ زَادَ فِي الْمُقَاطَعَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ سَابُورُ فِي الزِّيَادَةِ، فَوَلِيَ أَبُو نَصْرٍ الْبَطِيحَةَ، وَسَارَ إِلَيْهَا وَفَارَقَهَا سَابُورُ إِلَى جَزِيرَةِ بَنِي دُبَيْسٍ، وَاسْتَقَرَّ أَبُو نَصْرٍ فِي الْوِلَايَةِ، وَأَمِنَتْ بِهِ الطُّرُقُ.
[ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ]
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَوَّابِ، الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، وَإِلَيْهِ انْتَهَى الْخَطُّ، وَدُفِنَ بِجِوَارِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ يَقُصُّ بِجَامِعِ بَغْدَاذَ، وَرَثَاهُ الْمُرْتَضَى، وَقِيلَ كَانَ مَوْتُهُ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَفِيهَا حَجَّ النَّاسُ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ قَدِ انْقَطَعَ سَنَةَ عَشْرٍ وَسَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ قَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ خُرَاسَانَ السُّلْطَانَ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ أَعْظَمُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ، وَأَثَرُكَ فِي الْجِهَادِ مَشْهُورٌ، وَالْحَجُّ قَدِ انْقَطَعَ كَمَا تَرَى، وَالتَّشَاغُلُ بِهِ وَاجِبٌ، وَقَدْ كَانَ بَدْرُ بْنُ حَسَنَوَيْهِ، وَفِي أَصْحَابِكَ كَثِيرٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، يَسِيرُ الْحَاجُّ بِتَدْبِيرِهِ، وَمَا لَهُ عِشْرُونَ، فَاجْعَلْ لِهَذَا الْأَمْرِ حَظًّا مِنِ اهْتِمَامِكَ.
فَتَقَدَّمَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيِّ قَاضِي قُضَاةِ بِلَادِهِ بِأَنْ يَسِيرَ بِالْحَاجِّ، وَأَعْطَاهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ يُعْطِيهَا لِلْعَرَبِ وَسِوَى النَّفَقَةِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَنَادَى فِي خُرَاسَانَ بِالتَّأَهُّبِ لِلْحَجِّ، فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَسَارُوا، وَحَجَّ بِهِمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْسَاسِيُّ، فَلَمَّا

(7/668)


بَلَغُوا فَيْدَ حَصَرَهُمُ الْعَرَبُ، فَبَذَلَ لَهُمُ النَّاصِحِيُّ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَقْنَعُوا، وَصَمَّمُوا الْعَزْمَ عَلَى أَخْذِ الْحَاجِّ، وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حِمَارُ بْنُ عُدَيٍّ، بِضَمِّ الْعَيْنِ، مِنْ بَنِي نَبْهَانَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ وَسِلَاحُهُ، وَجَالَ جَوْلَةً يُرْهِبُ بِهَا، وَكَانَ مِنْ سَمَرْقَنْدَ شَابٌّ يُوصَفُ بِجَوْدَةِ الرَّمْيِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَسَلِمَ الْحَاجُّ فَحَجُّوا، وَعَادُوا سَالِمِينَ.
وَفِيهَا قَلَّدَ أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ الْحِسْبَةَ، وَالْمَوَارِيثَ، بِبَغْدَاذَ، وَالْمَوْتَى.
[الْوَفَيَاتُ]
وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِينِيُّ الصُّوفِيُّ بِمِصْرَ، فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رِزْقٍ الْبَزَّازُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَزْقَوَيْهِ، شَيْخُ الْخَطِيبِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ الصُّوفِيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، صَاحِبُ " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ "، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ النَّيْسَابُورِيُّ، الصُّوفِيُّ، شَيْخُ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ (وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ) .

(7/669)