الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَة]
428 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنِ
بَارَسْطُغَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ
وَبَيْنَ بَارَسْطُغَانَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ
وَيُلَقَّبُ حَاجِبَ الْحُجَّابِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ جَلَالَ الدَّوْلَةِ نَسَبَهُ إِلَى
فَسَادِ الْأَتْرَاكِ، وَالْأَتْرَاكَ نَسَبُوهُ إِلَى أَخْذِ
الْأَمْوَالِ، فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْتَجَأَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْخَالِيَةِ.
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَالْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ، فَدَافَعَ الْخَلِيفَةُ عَنْهُ،
وَبَارَسْطُغَانُ يُرَاسِلُ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ، فَأَرْسَلَ
أَبُو كَالِيجَارَ جَيْشًا، فَوَصَلُوا إِلَى وَاسِطٍ وَاتَّفَقَ
مَعَهُمْ عَسْكَرُ وَاسِطٍ، وَأَخْرَجُوا الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بْنَ
جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَأَصْعَدَ إِلَى أَبِيهِ، وَكَشَفَ
بَارَسْطُغَانُ الْقِنَاعَ، فَاسْتَتْبَعَ أَصَاغِرَ الْمَمَالِيكِ
وَنَادَوْا بِشِعَارِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَأَخْرَجُوا جَلَالَ
الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَسَارَ إِلَى أَوَانَا وَمَعَهُ
الْبَسَاسِيرِيُّ، وَأَخْرَجَ بَارَسْطُغَانُ الْوَزِيرَ أَبَا
الْفَضْلِ الْعَبَّاسَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ فَسَانْجَسَ، فَنَظَرَ فِي
الْأُمُورِ نِيَابَةً عَنِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَأَرْسَلَ
بَارَسْطُغَانُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لِأَبِي
كَالِيجَارَ فَاحْتَجَّ بِعُهُودِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَأَكْرَهَ
الْخُطَبَاءَ عَلَى الْخُطْبَةِ لِأَبِي كَالِيجَارَ فَفَعَلُوا.
وَجَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاوَشَاتٌ، وَسَارَ الْأَجْنَادُ
الْوَاسِطِيُّونَ إِلَى بَارَسْطُغَانَ (بِبَغْدَاذَ فَكَانُوا مَعَهُ،
وَتَنَقَّلَتِ الْحَالُ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَبَارَسْطُغَانَ)
، فَعَادَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَنَزَلَ بِالْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ وَمَعَهُ قِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيُّ،
وَدُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ
(7/780)
الْأَسَدِيُّ، وَخُطِبَ لِجَلَالِ
الدَّوْلَةِ بِهِ، وَبِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ لِأَبِي كَالِيجَارَ،
وَأَعَانَ أَبُو الشَّوْكِ، وَأَبُو الْفَوَارِسِ مَنْصُورُ بْنُ
الْحُسَيْنِ بَارَسْطُغَانَ عَلَى طَاعَةِ أَبِي كَالِيجَارَ.
ثُمَّ سَارَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَسَارَ
قِرْوَاشٌ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَقَبَضَ بَارَسْطُغَانُ عَلَى ابْنِ
فَسَانْجَسَ، فَعَادَ مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى بَلَدِهِ،
وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى بَارَسْطُغَانَ بِعَوْدِ الْمَلِكِ أَبِي
كَالِيجَارَ إِلَى فَارِسَ، فَفَارَقَهُ الدَّيْلَمُ الَّذِينَ جَاءُوا
نَجْدَةً لَهُ، فَضَعُفَ أَمْرُهُ، (فَدَفَعَ مَالَهُ) وَحُرَمَهُ
إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَانْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ، وَعَادَ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرْسَلَ الْبَسَاسِيرِيَّ
وَالْمُرْشِدَ وَبَنِي خَفَاجَةَ فِي أَثَرِهِ فَتَبِعَهُمْ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ وَدُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، فَلَحِقُوهُ
بِالْخَيْزُرَانِيَّةِ، فَقَاتَلُوهُ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأُخِذَ
أَسِيرًا وَحُمِلَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَقَتَلَهُ وَحَمَلَ
رَأْسَهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً.
(وَسَارَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ فَمَلَكَهَا، وَأَصْعَدَ
إِلَى بَغْدَاذَ) ، فَضَعُفَ أَمْرُ الْأَتْرَاكِ، وَطَمِعَ فِيهِمُ
الْأَعْرَابُ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى إِقْطَاعَاتِهِمْ فَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى كَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا، وَكَانَتْ مُدَّةُ
بَارَسْطُغَانَ مِنْ حِينِ كَاشَفَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ
قُتِلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ.
ذِكْرُ الصُّلْحِ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ
وَالْمُصَاهَرَةِ بَيْنَهُمَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ جَلَالِ
الدَّوْلَةِ وَابْنِ أَخِيهِ أَبِي كَالِيجَارَ، سُلْطَانِ
الدَّوْلَةِ، فِي الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ، وَزَوَالِ الْخُلْفِ،
وَكَانَ الرُّسُلُ (أَقْضَى الْقُضَاةِ) أَبَا الْحَسَنِ
الْمَاوَرْدِيَّ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْدُوسْتِيَّ،
وَغَيْرَهُمَا، فَاتَّفَقَا عَلَى الصُّلْحِ. وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنَ الْمَلِكَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ
بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ الْخِلَعَ
(7/781)
النَّفِيسَةَ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ لِأَبِي
مَنْصُورِ بْنِ أَبِي كَالِيجَارَ عَلَى ابْنَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ،
وَكَانَ الصَّدَاقُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةٍ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
[الْوَفَيَاتُ]
فِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
مُكْرَمٍ صَاحِبُ عُمَانَ، وَكَانَ جَوَّادًا، مُمَدَّحًا، وَقَامَ
ابْنُهُ مَقَامَهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ
سَلَامَةَ، أَمِيرُ تِهَامَةَ، بِالْيَمَنِ، وَوَلِيَ ابْنُهُ
بَعْدَهُ، فَعَصَى عَلَيْهِ خَادِمٌ كَانَ لِوَالِدِهِ. وَأَرَادَ أَنْ
يَمْلِكَ فَجَرَى بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ تَمَادَتْ
أَيَّامُهَا، فَفَارَقَ أَهْلُ تِهَامَةَ أَوْطَانَهُمْ إِلَى غَيْرِ
مَمْلَكَةِ وَلَدِ الْحُسَيْنِ هَرَبًا مِنَ الشَّرِّ وَتَفَاقُمِ
الْأَمْرِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِهْيَارُ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مَجُوسِيًّا،
فَأَسْلَمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَحِبَ
الشَّرِيفَ الرَّضِيَّ، وَقَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانَ:
يَا مِهْيَارُ قَدِ انْتَقَلْتَ بِإِسْلَامِكَ فِي النَّارِ مِنْ
زَاوِيَةٍ إِلَى زَاوِيَةٍ! قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ كُنْتَ
مَجُوسِيًّا، فَصِرْتَ تَسُبُّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي شِعْرِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ الْفَقِيهُ
الْحَنَفِيُّ، وَالْحَاجِبُ أَبُو الْحُسَيْنِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ
الْحَسَنِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُخْتِ الْفَاضِلِ، وَكَانَ مِنْ
أَهْلِ الْأَدَبِ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي
الرَّيَّانِ بِمَطِيرَابَاذَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدْ مَدَحَهُ الرَّضِيُّ وَابْنُ
نُبَاتَةَ وَغَيْرُهُمَا.
(7/782)
وَفِيهَا عَاوَدَ الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ
حَرْبَ زِنَاتَةَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَهَزَمَهُمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ
فِيهِمْ، وَخَرَّبَ مَسَاكِنَهُمْ وَقُصُورَهُمْ.
وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا الْحَكِيمُ،
الْفَيْلَسُوفُ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ السَّائِرَةِ
عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِأَصْبَهَانَ،
وَكَانَ يَخْدُمُ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ أَبَا جَعْفَرِ بْنِ
كَاكَوَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ فَاسِدَ
الِاعْتِقَادِ، فَلِهَذَا أَقْدَمَ ابْنُ سِينَا عَلَى تَصَانِيفِهِ
فِي الْإِلْحَادِ، وَالرَّدِّ عَلَى الشَّرَائِعِ (فِي بَلَدِهِ) .
(7/783)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَأَرْبَعِمِائَة]
429 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ الْأَبْخَازِ تَفْلِيسَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ مَلِكُ الْأَبْخَازِ مَدِينَةَ تَفْلِيسَ،
وَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ مُحَاصِرًا
وَمُضَيِّقًا، فَنَفِدَتِ الْأَقْوَاتُ، وَانْقَطَعَتِ الْمِيرَةُ،
فَأَنْفَذَ أَهْلُهَا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ يَسْتَنْفِرُونَ
الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْأَلُونَهُمْ إِعَانَتَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ
الْغُزُّ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَسَمِعَ الْأَبْخَازُ بِقُرْبِهِمْ،
وَبِمَا فَعَلُوا بِالْأَرْمَنِ، رَحَلُوا عَنْ تَفْلِيسَ مُجْفِلِينَ
خَوْفًا. وَلَمَّا رَأَى وَهْسُوذَانُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ قُوَّةَ
الْغُزِّ، وَأَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، لَاطَفَهُمْ
وَصَاهَرَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ)
.
ذِكْرُ مَا فَعَلَهُ طُغْرُلْبَكُ بِخُرَاسَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ رُكْنُ الدِّينِ أَبُو طَالِبٍ
طُغْرُلْبَكُ مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ مَدِينَةَ
نَيْسَابُورَ مَالِكًا لَهَا.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْغُزَّ السُّلْجُقِيَّةَ لَمَّا
ظَهَرُوا بِخُرَاسَانَ أَفْسَدُوا، وَنَهَبُوا، وَخَرَّبُوا
الْبِلَادَ، وَسَبَوْا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَمِعَ الْمَلِكُ
مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ الْخَبَرَ، فَسَيَّرَ
إِلَيْهِمْ حَاجِبَهُ سَبَاشِيَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ،
فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ غَزْنَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ خُرَاسَانَ ثَقُلَ
عَلَى مَا سَلِمَ مِنَ الْبِلَادِ بِالْإِقَامَاتِ فَخَرَّبَ
السَّالِمَ مِنْ تَخْرِيبِ الْغُزِّ، فَأَقَامَ مُدَّةَ سَنَةٍ عَلَى
الْمُدَافَعَةِ وَالْمُطَاوَلَةِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ أَثَرَهُمْ
إِذَا بَعُدُوا، وَيَرْجِعُ عَنْهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا اسْتِعْمَالًا
لِلْمُحَاجَزَةِ، وَإِشْفَاقًا مِنَ الْمُحَارَبَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ
(7/784)
وَهُوَ بِقَرْيَةٍ بِظَاهِرِ سَرَخْسَ،
وَالْغُزُّ بِظَاهِرِ مَرْوٍ مَعَ طُغْرُلْبَكَ، وَقَدْ بَلَغَهُمْ
خَبَرُهُ، أَسْرَوْا إِلَيْهِ وَقَاتَلُوهُ يَوْمَ وَصَلُوا فَلَمَّا
جَنَّهُمُ اللَّيْلُ أَخَذَ سَبَاشِي مَا خَفَّ مِنْ مَالٍ وَهَرَبَ
فِي خَوَاصِّهِ، وَتَرَكَ خِيَمَهُ وَنِيرَانَهُ عَلَى حَالِهَا، قِيلَ
فَعَلَ ذَلِكَ مُوَاطَأَةً لِلْغُزِّ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا
أَسْفَرَ الصُّبْحُ عَرَفَ الْبَاقُونَ مِنْ عَسْكَرِهِ خَبَرَهُ،
فَانْهَزَمُوا، وَاسْتَوْلَى الْغُزُّ عَلَى مَا وَجَدُوهُ فِي
مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ سَوَادِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنَ الْهُنُودِ
الَّذِينَ تَخَلَّفُوا مَقْتَلَةً عَظِيمَةً.
وَأَسْرَى دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَكَ، وَهُوَ وَالِدُ السُّلْطَانِ
أَلْبِ أَرْسِلَانَ، إِلَى نَيْسَابُورَ، وَسَمِعَ أَبُو سَهْلٍ
الْحَمْدُونِيُّ وَمَنْ مَعَهُ بِهَا، فَفَارَقُوهَا، وَوَصَلَ دَاوُدُ
وَمَنْ مَعَهُ إِلَيْهَا، فَدَخَلُوهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَلَمْ
يُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ أُمُورِهَا، وَوَصَلَ بَعْدَهُمْ
طُغْرُلْبَكُ ثُمَّ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الَّذِينَ
بِالرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ يَنْهَاهُمْ عَنِ النَّهْبِ
وَالْقَتْلِ وَالْإِخْرَابِ، وَيَعِظُهُمْ، فَأَكْرَمُوا الرُّسُلَ،
وَعَظَّمُوهُمْ، وَخَدَمُوهُمْ.
وَخَاطَبَ دَاوُدُ طُغْرُلْبَكَ فِي نَهْبِ الْبَلَدِ فَمَنَعَهُ
فَامْتَنَعَ وَاحْتَجَّ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا انْسَلَخَ
رَمَضَانُ صَمَّمَ دَاوُدُ عَلَى نَهْبِهِ، فَمَنَعَهُ طُغْرُلْبَكُ،
وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِرُسُلِ الْخَلِيفَةِ وَكِتَابِهِ، فَلَمْ
يَلْتَفِتْ دَاوُدُ إِلَيْهِ، وَقَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى النَّهْبِ،
فَأَخْرَجَ طُغْرُلْبَكُ سِكِّينًا وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ
نَهَبْتَ شَيْئًا لَأَقْتُلَنَّ نَفْسِي! فَكَفَّ عَنْ ذَلِكَ،
وَعَدَلَ إِلَى التَّقْسِيطِ، فَقَسَّطَ عَلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ
نَحْوَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَفَرَّقَهَا فِي أَصْحَابِهِ.
وَأَقَامَ طُغْرُلْبَكُ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ
الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَصَارَ يَقْعُدُ لِلْمَظَالِمِ يَوْمَيْنِ فِي
الْأُسْبُوعِ عَلَى قَاعِدَةِ وُلَاةِ خُرَاسَانَ (وَسَيَّرَ أَخَاهُ
دَاوُدَ إِلَى سَرَخْسَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ اسْتَوْلَوْا عَلَى سَائِرِ
بِلَادِ خُرَاسَانَ سِوَى بَلْخَ، وَكَانُوا يَخْطُبُونَ لِلْمَلِكِ
مَسْعُودٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَطَةِ. وَكَانُوا ثَلَاثَةَ
إِخْوَةٍ: طُغْرُلْبَكَ، وَدَاوُدَ، وَبِيغُو، وَكَانَ يَنَالُ،
وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ أَخَا طُغْرُلْبَكَ وَدَاوُدَ لِأُمِّهِمَا،
ثُمَّ خَرَجَ مَسْعُودٌ مِنْ غَزْنَةَ وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(7/785)
ذِكْرُ مُخَاطَبَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ
بِمَلِكِ الْمُلُوكِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَأَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْخَلِيفَةَ
الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِيُخَاطَبَ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ،
فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهِ إِذَا أَفْتَى الْفُقَهَاءُ
بِجَوَازِهِ، فَكَتَبَ فَتْوَى إِلَى الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ
فَأَفْتَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَالْقَاضِي ابْنُ الْبَيْضَاوِيِّ،
وَأَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ بِجَوَازِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَجَرَى بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَنْ أَفْتَى بِجَوَازِهِ مُرَاجَعَاتٌ وَخُطِبَ لِجَلَالِ
الدَّوْلَةِ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ.
وَكَانَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَخَصِّ النَّاسِ بِجَلَالِ الدَّوْلَةِ،
وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ كُلَّ يَوْمٍ، فَلَمَّا
أَفْتَى بِهَذِهِ الْفُتْيَا انْقَطَعَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ خَائِفًا،
فَأَقَامَ مُنْقَطِعًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى يَوْمِ عِيدِ
النَّحْرِ، فَاسْتَدْعَاهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، فَحَضَرَ خَائِفًا
فَأَدْخَلَهُ وَحْدَهُ وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّكَ
مِنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مَالًا وَجَاهًا وَقُرْبًا مِنَّا وَقَدْ
خَالَفْتَهُمْ فِيمَا خَالَفَ هَوَايَ، وَلَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا
لِعَدَمِ الْمُحَابَاةِ مِنْكَ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَانَ
لِي مَوْضِعُكَ مِنَ الدِّينِ، وَمَكَانُكَ مِنَ الْعِلْمِ. وَجَعَلْتُ
جَزَاءَ ذَلِكَ إِكْرَامَكَ بِأَنْ أَدْخَلْتُكَ إِلَيَّ وَحْدَكَ،
وَجَعَلْتُ إِذْنَ الْحَاضِرِينَ إِلَيْكَ، لِيَتَحَقَّقُوا عَوْدِي
إِلَى مَا تُحِبُّ. فَشَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ، وَأَذِنَ لِكُلِّ مَنْ
حَضَرَ بِالْخِدْمَةِ وَالِانْصِرَافِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ
بْنِ مِرْدَاسٍ، صَاحِبُ حَلَبَ، قَتَلَهُ الدِّزْبَرِيُّ وَعَسَاكِرُ
مِصْرَ، وَمَلَكُوا حَلَبَ.
وَفِيهَا أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ
الْحَنْبَلِيِّ مَا ضَمَّنَهُ كِتَابَهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ
التَّجَسُّمَ، وَحَضَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ
بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، تَعَالَى اللَّهُ
عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
(7/786)
وَفِيهَا صَالَحَ ابْنُ وَثَّابٍ
النُّمَيْرِيُّ صَاحِبُ حَرَّانَ، الرُّومَ الَّذِينَ بِالرُّهَا
لِعَجْزِهِ عَنْهُمْ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ رَبَضَ الرُّهَا، وَكَانَ
تَسَلُّمُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، فَنَزَلُوا مِنَ
الْحِصْنِ الَّذِي لِلْبَلَدِ إِلَيْهِ، وَكَثُرَ الرُّومُ بِهَا،
وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَرَّانَ مِنْهُمْ، وَعَمَّرَ الرُّومُ
الرُّهَا الْعِمَارَةَ الْحَسَنَةَ وَحَصَّنُوهَا.
وَفِيهَا هَادَنَ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْخَلِيفَةُ
الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ، مَلِكَ الرُّومِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ
إِطْلَاقَ خَمْسَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، وَشَرَطَ الرُّومُ عَلَيْهِ أَنْ
يُعَمِّرُوا بِيعَةَ قُمَامَةَ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَيْهَا مَنْ
عَمَّرَهَا، وَأَخْرَجَ عَلَيْهَا مَالًا جَلِيلًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَتْ عَسَاكِرُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ،
بِإِفْرِيقِيَّةَ إِلَى بَلَدِ الزَّابِّ، فَفَتَحُوا مَدِينَةً
تُسَمَّى بُورَسَ، وَقَتَلُوا مِنَ الْبَرْبَرِ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَفَتَحَ مِنْ بِلَادِ زِنَاتَةَ قَلْعَةً تُسَمَّى كُرُومَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ أَبُو
الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاقَرْحِيِّ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.
(7/787)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعِمِائَة]
430 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ وُصُولِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ مِنْ غَزْنَةَ إِلَى خُرَاسَانَ
وَإِجْلَاءِ السُّلْجُقِيَّةِ عَنْهَا
فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ إِلَى
بَلْخَ مِنْ غَزْنَةَ وَزَوَّجَ (ابْنَهُ مِنْ) ابْنَةِ بَعْضِ مُلُوكِ
الْخَانِيَّةِ، كَانَ يَتَّقِي جَانِبَهُ، وَأَقْطَعَ خُوَارَزْمَ
لِشَاهْ مَلِكَ الْجُنْدِيِّ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَبِهَا
خُوَارَزْمَشَاهْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَلْتُونْتَاشَ، فَجَمَعَ
أَصْحَابَهُ، وَلَقِيَ شَاهْ مَلِكَ وَقَاتَلَهُ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ
بَيْنَهُمَا مُدَّةَ شَهْرٍ، وَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ وَالْتَجَأَ
إِلَى طُغْرُلْبَكَ وَأَخِيهِ دَاوُدَ السُّلْجُقِيَّةِ، وَمَلَكَ
شَاهْ مَلِكَ خُوَارَزْمَ.
وَكَانَ مَسِيرُ مَسْعُودٍ مِنْ غَزْنَةَ أَوَّلَ سَنَةِ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ; وَسَبَبُ خُرُوجِهِ مَا وَصَلَ
إِلَيْهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغُزِّ، وَمَا فَعَلُوهُ بِالْبِلَادِ
وَأَهْلِهَا مِنَ الْإِخْرَابِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ
وَالِاسْتِيلَاءِ، وَأَقَامَ بِبَلْخَ حَتَّى أَرَاحَ وَاسْتَرَاحَ،
وَفَرَغَ مِنْ أَمْرِ خَوَارَزْمَ وَالْخَانِيَّةِ ثُمَّ أَمَدَّ
سَبَاشِيَ الْحَاجِبَ بِعَسْكَرٍ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ وَيَهْتَمَّ
بِأَمْرِ الْغُزِّ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ
الْكِفَايَةِ مَا يَقْهَرُهُمْ بَلْ أَخْلَدَ إِلَى الْمُطَاوَلَةِ
الَّتِي هِيَ عَادَتُهُ.
وَسَارَ مَسْعُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ مِنْ بَلْخَ بِنَفْسِهِ،
وَقَصَدَ سَرَخْسَ، فَتَجَنَّبَ الْغُزُّ لِقَاءَهُ، وَعَدَلُوا إِلَى
الْمُرَاوَغَةِ وَالْمُخَاتَلَةِ، وَأَظْهَرُوا الْعَزْمَ عَلَى
دُخُولِ الْمَفَازَةِ الَّتِي بَيْنَ مَرْوَ وَخَوَارَزْمَ،
فَبَيْنَمَا عَسَاكِرُ مَسْعُودٍ تَتْبَعُهُمْ وَتَطْلُبُهُمْ إِذْ
لَقُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ فَقَاتَلُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ.
(7/788)
ثُمَّ إِنَّهُ وَاقَعَهُمْ بِنَفْسِهِ، فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقْعَةً اسْتَظْهَرَ [فِيهَا]
عَلَيْهِمْ، فَأَبْعَدُوا عَنْهُ، ثُمَّ عَاوَدُوا الْقُرْبَ مِنْهُ
بِنَوَاحِي مَرْوَ، فَوَاقَعَهُمْ وَقْعَةً أُخْرَى قَتَلَ مِنْهُمْ
[فِيهَا] نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ قَتِيلٍ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ
فَدَخَلُوا الْبَرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَمُونَ بِهَا.
وَثَارَ أَهْلُ نَيْسَابُورَ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْهُمْ، فَقَتَلُوا
بَعْضًا وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ بِالْبَرِّيَّةِ.
وَعَدَلَ مَسْعُودٌ إِلَى هَرَاةَ لِيَتَأَهَّبَ فِي الْعَسَاكِرِ
لِلْمَسِيرِ خَلْفَهُمْ وَطَلَبِهِمْ أَيْنَ كَانُوا، فَعَادَ
طُغْرُلْبَكُ إِلَى الْأَطْرَافِ النَّائِيَةِ عَنْ مَسْعُودٍ.
فَنَهَبَهَا وَأَثْخَنَ فِيهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَرَاجَعُوا
فَمَلَئُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ، فَحِينَئِذٍ سَارَ
مَسْعُودٌ يَطْلُبُهُ، فَلَمَّا قَارَبَهُ انْزَاحَ طُغْرُلْبَكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى أُسْتُوَا وَأَقَامَ بِهَا، وَكَانَ الزَّمَانُ
شِتَاءً، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ يَمْنَعُ عَنْهُ،
فَطَلَبَهُ مَسْعُودٌ إِلَيْهَا فَفَارَقَهُ طُغْرُلْبَكُ وَسَلَكَ
الطَّرِيقَ عَلَى طُوسَ، وَاحْتَمَى بِجِبَالٍ مَنِيعَةٍ، وَمَضَايِقَ
صَعْبَةِ الْمَسْلَكِ، فَسَيَّرَ مَسْعُودٌ فِي طَلَبِهِ وَزِيرَهُ
أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ فِي عَسَاكِرَ
كَثِيرَةٍ، فَطَوَى الْمَرَاحِلَ إِلَيْهِ جَرِيدَةً، فَلَمَّا رَأَى
طُغْرُلْبَكُ قُرْبَهُ مِنْهُ فَارَقَ مَكَانَهُ إِلَى نَوَاحِي
أَبِيوَرْدَ.
وَكَانَ مَسْعُودٌ قَدْ سَارَ لِيَقْطَعَهُ عَنْ جِهَةٍ إِنْ
أَرَادَهَا فَلَقِيَ طُغْرُلْبَكُ مُقَدَّمَتَهُ فَوَاقَعَهُمْ
فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَأْمَنَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً
كَثِيرَةً، وَرَأَى الطَّلَبَ لَهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَعَاوَدَ
دُخُولَ الْمَفَازَةِ إِلَى خُوَارَزْمَ وَأَوْغَلَ فِيهَا.
فَلَمَّا فَارَقَ الْغُزُّ خُرَاسَانَ قَصَدَ مَسْعُودٌ جَبَلًا مِنْ
جِبَالِ طُوسَ مَنِيعًا لَا يُرَامُ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ وَافَقُوا
الْغُزَّ وَأَفْسَدُوا مَعَهُمْ، فَلَمَّا فَارَقَ الْغُزُّ تِلْكَ
الْبِلَادَ تَحَصَّنَ هَؤُلَاءِ بِجَبَلِهِمْ ثِقَةً مِنْهُمْ
بِحَصَانَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ، فَسَرَى مَسْعُودٌ إِلَيْهِمْ
جَرِيدَةً، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا وَقَدْ خَالَطَهُمْ، فَتَرَكُوا
أَهْلَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَصَعِدُوا إِلَى قُلَّةِ الْجَبَلِ
وَاعْتَصَمُوا بِهَا وَامْتَنَعُوا، وَغَنِمَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ
أَمْوَالَهُمْ وَمَا ادَّخَرُوهُ.
ثُمَّ أَمَرَ مَسْعُودٌ أَصْحَابَهُ أَنْ يَزْحَفُوا إِلَيْهِمْ فِي
قُلَّةِ الْجَبَلِ، وَبَاشَرَ هُوَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، فَزَحَفَ
النَّاسُ إِلَيْهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ،
وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، وَالثَّلْجُ
(7/789)
عَلَى الْجَبَلِ كَثِيرًا، فَهَلَكَ مِنَ
الْعَسْكَرِ فِي مَخَارِمِ الْجَبَلِ وَشِعَابِهِ كَثِيرٌ، ثُمَّ
إِنَّهُمْ ظَفِرُوا بِأَهْلِهِ وَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ
وَالْأَسْرَ وَفَرَغُوا مِنْهُمْ، وَأَرَاحُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ
شَرِّهِمْ.
وَسَارَ مَسْعُودٌ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، لِيُرِيحَ وَيَسْتَرِيحَ،
وَيَنْتَظِرَ الرَّبِيعَ لِيَسِيرَ خَلْفَ الْغُزِّ، وَيَطْلُبَهُمْ
فِي الْمَفَاوِزِ الَّتِي احْتَمَوْا بِهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ
الْوَقْعَةُ، إِجْلَاءُ الْغُزِّ عَنْ خُرَاسَانَ، سَنَةَ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي الشَّوْكِ مَدِينَةَ خُولَنْجَانَ
كَانَ حُسَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو الشَّوْكِ قَدْ فَتَحَ قَرْمِيسِينَ
مِنْ أَعْمَالِ الْجَبَلِ، وَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَهُوَ مِنَ
الْأَكْرَادِ الْقُوهِيَّةِ، فَسَارَ أَخُوهُ إِلَى قَلْعَةِ
أَرْنَبَةَ، فَاعْتَصَمَ بِهَا مِنْ أَبِي الشَّوْكِ، وَجَعَلَ
أَصْحَابَهُ فِي مَدِينَةِ خُولَنْجَانَ يَحْفَظُونَهَا مِنْهُ
أَيْضًا.
فَلَمَّا كَانَ الْآنَ سَيَّرَ أَبُو الشَّوْكِ عَسْكَرًا إِلَى
خُولَنْجَانَ فَحَصَرُوهَا، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهَا بِشَيْءٍ،
فَأَمَرَ الْعَسْكَرَ فَعَادَ فَأَمِنَ مَنْ فِي الْبَلَدِ بِعَوْدِ
الْعَسْكَرِ عَنْهُ.
ثُمَّ جَهَّزَ عَسْكَرًا آخَرَ جَرِيدَةً لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَحَدٌ،
وَسَيَّرَهُمْ لِيَوْمِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِنَهْبِ رَبَضِ قَلْعَةِ
أَرْنَبَةَ، وَقَتْلِ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ وَالْإِتْمَامِ لِوَقْتِهِمْ
إِلَى خُولَنْجَانَ لِيَسْبِقُوا خَبَرَهُمْ إِلَيْهَا، فَفَعَلُوا
ذَلِكَ، وَوَصَلُوا إِلَيْهَا وَمَنْ بِهَا غَيْرُ مُتَأَهِّبِينَ
فَاقْتَتَلُوا شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ اسْتَسْلَمَ مَنْ
بِالْمَدِينَةِ إِلَيْهِمْ فَتَسَلَّمُوهَا، وَتَحَصَّنَ مَنْ كَانَ
بِهَا مِنَ الْأَجْنَادِ فِي قَلْعَةٍ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ،
فَحَصَرَهَا أَصْحَابُ أَبِي الشَّوْكِ، فَمَلَكُوهَا فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ذِكْرُ الْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِحَرَّانَ وَالرَّقَّةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ شَبِيبُ بْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ،
صَاحِبُ حَرَّانَ وَالرَّقَّةِ، لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَلَوِيِّ.
(7/790)
وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ نَصْرَ
الدَّوْلَةِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنِ الدِّزْبَرِيِّ
نَائِبِ الْعَلَوِيِّينَ بِالشَّامِ أَنَّهُ يَتَهَدَّدُهُ وَيُرِيدُ
قَصْدَ بِلَادِهِ، فَرَاسَلَ قِرْوَاشًا، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ،
وَطَلَبَ مِنْهُ عَسْكَرًا (وَرَاسَلَ شَبِيبًا النُّمَيْرِيَّ
يَدْعُوهُ) إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ،
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَطَعَ الْخُطْبَةَ الْعَلَوِيَّةَ،
وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
الدِّزْبَرِيُّ يَتَهَدَّدُهُ، ثُمَّ أَعَادَ الْخُطْبَةَ
الْعَلَوِيَّةَ بِحَرَّانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
[الْوَفَيَاتُ]
فِيهَا تُوُفِّيَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْحَسَنِ الرُّخَّجِيُّ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ
ثُمَّ تَرَكَ الْوَزَارَةَ، وَكَانَ فِي عُطْلَتِهِ يَتَقَدَّمُ عَلَى
الْوُزَرَاءِ.
وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو الْفُتُوحِ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْعَلَوِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَاكُولَا
مَحْبُوسًا بِهِيتَ، (وَكَانَ مُقَامُهُ فِي الْحَبْسِ سَنَتَيْنِ
وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ) وَكَانَ وَزِيرَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ
وَالِدُ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ، مُصَنِّفِ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ
فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ " وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ
سَلَّمَهُ إِلَى قِرْوَاشٍ فَحَبَسَهُ بِهِيت َ.
وَفِيهَا سَقَطَ الثَّلْجُ بِبَغْدَاذَ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، فَارْتَفَعَ عَلَى الْأَرْضِ شِبْرًا وَرَمَاهُ النَّاسُ
عَنْ (السُّطُوحِ إِلَى الشَّوَارِعِ) وَجَمَدَ الْمَاءُ سِتَّةَ
أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَكَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ الثَّاِثَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ كَانُونَ الثَّانِي.
(7/791)
[تَابِعُ الْوَفَيَاتِ]
وَتُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ (أَحْمَدَ بْنِ) إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ،
وَأَبُو الرِّضَا الْفَضْلُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الظَّرِيفِ
الْفَارِقِيُّ، الْأَمِيرُ الشَّاعِرُ، لَهُ دِيوَانٌ حَسَنٌ، وَشِعْرٌ
جَيِّدٌ فَمِنْهُ:
وَمُخْطَفِ الْخَصْرِ مَطْبُوعٍ عَلَى صَلَفٍ ... عَشِقْتُهُ
وَدَوَاعِي الْبَيْنِ تَعْشَقُهُ
وَقَدْ تَسَامَحَ قَلْبِي فِي مُوَاصَلَةٍ ... وَكُلَّ يَوْمٍ لَنَا
شَمْلٌ يُفَرِّقُهُ
وَقَدْ تَسَامَحَ قَلْبِي فِي مُوَاصَلَتِي ... عَلَى السُّلُوِّ
وَلَكِنْ مَنْ يُصَدِّقُهُ
أَهَابَهُ وَهُوَ طَلْقُ الْوَجْهِ مُبْتَسِمٌ ... وَكَيْفَ
يُطْمِعُنِي فِي السَّيْفِ رَوْنَقُهُ
(7/792)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
431 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ قَلْعَةً بِخُرَاسَانَ كَانَتْ بِيَدِ الْغُزِّ،
وَقَتَلَ فِيهَا جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ
وَقَعَاتٌ أَجْلَتْ عَنْ فِرَاقِهِمْ خُرَاسَانَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] .
ذِكْرُ مُلْكِ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ الْبَصْرَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ عَسَاكِرَهُ
مَعَ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ مَافَنَّةَ إِلَى الْبَصْرَةِ،
فَمَلَكَهَا فِي صَفَرٍ، وَكَانَتْ بِيَدِ الظَّهِيرِ أَبِي
الْقَاسِمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَلِيَهَا بَعْدَ بَخْتَيَارَ،
وَأَنَّهُ عَصَى عَلَى أَبِي كَالِيجَارَ مَرَّةً، وَصَارَ فِي طَاعَةِ
جَلَالِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ فَارَقَ طَاعَتَهُ وَعَادَ إِلَى طَاعَةِ
الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَكَانَ يَتْرُكُ مُحَاقَّتَهُ
وَمُعَارَضَتَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَيَضْمَنُ الظَّهِيرُ أَنْ
يَحْمِلَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ كُلَّ سَنَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ وَدَامَتْ أَيَّامُهُ وَثَبَتَ
قَدَمُهُ وَطَارَ اسْمُهُ.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ تَعَرَّضَ إِلَى أَمْلَاكِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ
أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُكْرَمٍ، صَاحِبِ عُمَانَ، وَأَمْوَالِهِ،
وَكَاتَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَلِكَ أَبَا كَالِيجَارَ، وَبَذَلَ لَهُ
زِيَادَةً ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي ضَمَانِ الْبَصْرَةِ كُلَّ
سَنَةٍ، وَجَرَى الْحَدِيثُ فِي قَصْدِ الْبَصْرَةِ، فَصَادَفَ قَلْبًا
مُوغَرًا مِنَ الظَّهِيرِ، فَحَصَلَتِ الْإِجَابَةُ، وَجَهَّزَ
الْمَلِكُ الْعَسَاكِرَ مَعَ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورٍ فَسَارَ
إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا.
وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ عُمَانَ أَيْضًا فِي الْبَحْرِ وَحُصِرَتِ
الْبَصْرَةُ وَمُلِكَتْ، وَأُخِذَ الظَّهِيرُ وَقُبِضَ عَلَيْهِ،
وَأُخِذَ جَمِيعُ مَالِهِ، وَقُرِّرَ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ
وَعَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ
(7/793)
يَحْمِلُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا،
بَعْدَ تِسْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أُخِذَتْ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَوَصَلَ
الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا ثُمَّ
عَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ وَلَدَهُ عِزَّ الْمُلُوكِ فِيهَا،
وَمَعَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ فَسَانْجَسَ، وَلَمَّا سَارَ
أَبُو كَالِيجَارَ عَنِ الْبَصْرَةِ أَخَذَ مَعَهُ الظَّهِيرَ إِلَى
الْأَهْوَازِ.
ذِكْرُ مَا جَرَى بِعُمَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ
مُكْرَمٍ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُكْرَمٍ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ
بَنِينَ: أَبُو الْجَيْشِ، وَالْمُهَذَّبُ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ، وَآخَرُ
صَغِيرٌ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْجَيْشِ، وَأَقَرَّ
عَلِيَّ بْنَ هَطَّالٍ الْمَنُوجَانِيَّ، صَاحِبجَيْشِ أَبِيهِ، عَلَى
قَاعِدَتِهِ، وَأَكْرَمَهُ وَبَالَغَ فِي احْتِرَامِهِ، فَكَانَ إِذَا
جَاءَ إِلَيْهِ قَامَ لَهُ، فَأَنْكَرَ هَذِهِ الْحَالَ عَلَيْهِ
أَخُوهُ الْمُهَذَّبُ، فَطَعَنَ عَلَى ابْنِ هَطَّالٍ، وَبَلَغَهُ
ذَلِكَ فَأَضْمَرَ لَهُ سُوءًا، وَاسْتَأْذَنَ أَبَا الْجَيْشِ فِي
أَنْ يَحْضُرَ أَخَاهُ الْمُهَذَّبَ لِدَعْوَةٍ عَمِلَهَا لَهُ،
فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا حَضَرَ الْمُهَذَّبُ عِنْدَهُ
خَدَمَهُ وَبَالَغَ فِي خِدْمَتِهِ، فَلَمَّا أَكَلَ وَشَرِبَ
وَانْتَشَى وَعَمِلَ السُّكْرُ فِيهِ قَالَ لَهُ ابْنُ هَطَّالٍ: إِنَّ
أَخَاكَ أَبَا الْجَيْشِ فِيهِ ضَعْفٌ وَعَجْزٌ عَنِ الْأَمْرِ،
وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَقُومُ مَعَكَ، وَتَصِيرُ أَنْتَ الْأَمِيرَ،
وَخَدَعَهُ، فَمَالَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَخَذَ ابْنُ هَطَّالٍ
خَطَّهُ بِمَا فَوَّضُ إِلَيْهِ، وَبِمَا يُعْطِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ
إِذَا عَمِلَ مَعَهُ هَذَا الْأَمْرَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ
ابْنُ هَطَّالٍ عِنْدَ أَبِي الْجَيْشِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَخَاكَ
كَانَ قَدْ أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَيْكَ تَحَدَّثَ
مَعِي، وَاسْتَمَالَنِي فَلَمْ أُوَافِقْهُ، فَلِهَذَا كَانَ
يَذُمُّنِي، وَيَقَعُ فِيَّ، وَهَذَا خَطُّهُ بِمَا اسْتَقَرَّ هَذِهِ
اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا رَأَى خَطَّ أَخِيهِ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ
عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَاعْتَقَلَهُ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ
خَنَقَهُ وَأَلْقَى جُثَّتَهُ إِلَى مُنْخَفَضٍ مِنَ الْأَرْضِ،
وَأَظْهَرَ أَنَّهُ سَقَطَ فَمَاتَ.
ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو الْجَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ، وَأَرَادَ
ابْنُ هَطَّالٍ أَنْ يَأْخُذَ أَخَاهُ أَبَا مُحَمَّدٍ فَيُوَلِّيَهُ
عُمَانَ ثُمَّ يَقْتُلَهُ، فَلَمْ تُخْرِجْهُ إِلَيْهِ وَالِدَتُهُ،
وَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ تَتَوَلَّى الْأُمُورَ، هَذَا صَغِيرٌ لَا
يَصْلُحُ لَهَا. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، وَصَادَرَ
التُّجَّارَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ.
(7/794)
وَبَلَغَ مَا كَانَ مِنْهُ مَعَ بَنِي
مُكْرَمٍ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَالْعَادِلِ أَبِي
مَنْصُورِ بْنِ مَافَنَّةَ، فَأَعْظَمَا الْأَمْرَ وَاسْتَكْبَرَاهُ،
وَشَدَّ الْعَادِلُ فِي الْأَمْرِ، وَكَاتَبَ نَائِبًا كَانَ لِأَبِي
الْقَاسِمِ بْنِ مُكْرَمٍ بِجِبَالِ عُمَانَ يُقَالُ لَهُ
الْمُرْتَضَى، وَأَمَرَهُ بِقَصْدِ ابْنِ هَطَّالٍ، وَجَهَّزَ
الْعَسَاكِرَ مِنَ الْبَصْرَةِ لِتَسِيرَ إِلَى مُسَاعَدَةِ
الْمُرْتَضَى، فَجَمَعَ الْمُرْتَضَى الْخَلْقَ، وَتَسَارَعُوا
إِلَيْهِ، وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ ابْنِ هَطَّالٍ، وَضَعُفَ أَمْرُهُ،
وَاسْتَوْلَى الْمُرْتَضَى عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ، ثُمَّ وَضَعُوا
خَادِمًا كَانَ لِابْنِ مُكْرَمٍ، وَقَدِ الْتَحَقَ بِابْنِ هَطَّالٍ
عَلَى قَتْلِهِ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَرَّاشٌ كَانَ لَهُ،
فَلَمَّا سَمِعَ الْعَادِلُ بِقَتْلِهِ سَيَّرَ إِلَى عُمَانَ مَنْ
أَخْرَجَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مُكْرَمٍ، وَرَتَّبَهُ فِي
الْإِمَارَةِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ أَنَّ الْأَمْرَ لِأَبِي
مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ أَبِي الشَّوْكِ
وَبَيْنَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بَيْنَ أَبِي
الشَّوْكِ وَبَيْنَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ) .
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ كَانَ نَائِبًا عَنْ
وَالِدِهِ فِي الدِّينَوَرِ، وَقَدْ عَظُمَ مَحَلُّهُ، وَافْتَتَحَ
عِدَّةَ قِلَاعٍ، وَحَمَى أَعْمَالَهُ مِنَ الْغُزِّ، وَقَتَلَ
فِيهِمْ، فَأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، وَصَارَ لَا يَقْبَلُ أَمْرَ
وَالِدِهِ.
فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ، فِي شَعْبَانَ، سَارَ إِلَى قَلْعَةِ
بُلْوَارَ لِيَفْتَحَهَا، وَكَانَ فِيهَا زَوْجَةُ صَاحِبِهَا، وَكَانَ
مِنَ الْأَكْرَادِ، فَعَلِمَتْ أَنَّهَا تَعْجَزُ عَنْ حِفْظِهَا،
فَرَاسَلَتْ مُهَلْهِلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَنَّازٍ، وَهُوَ
بِحُلَلِهِ فِي نَوَاحِي الصَّامَغَانِ، وَاسْتَدْعَتْهُ لِتُسَلِّمَ
إِلَيْهِ الْقَلْعَةَ، فَسَأَلَ الرَّسُولَ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ: هُوَ
هُوَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْقَلْعَةِ أَمْ عَسْكَرُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ
أَنَّهُ عَادَ عَنْهَا وَبَقِيَ عَسَرُهُ، فَسَارَ مُهَلْهِلٌ
إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ رَأَى أَبَا الْفَتْحِ قَدْ عَادَ إِلَى
الْقَلْعَةِ، فَقَصَدَ مَوْضِعًا يُوهِمُ أَبَا الْفَتْحِ أَنَّهُ لَمْ
يُرِدْ هَذِهِ الْقَلْعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ عَائِدًا، وَتَبِعَهُ أَبُو
الْفَتْحِ وَلَحِقَهُ وَتَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ، فَعَادَ مُهَلْهِلٌ
إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَرَأَى أَبُو الْفَتْحِ مِنْ أَصْحَابِهِ
تَغَيُّرًا
(7/795)
فَخَافَهُمْ، فَوَلَّى مُنْهَزِمًا،
وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ فِي الْهَزِيمَةِ، وَقَتَلَ عَسْكَرُ
مُهَلْهِلٍ مَنْ كَانَ فِي عَسْكَرِ أَبِي الْفَتْحِ مِنَ
الرَّجَّالَةِ، وَسَارُوا فِي أَثَرِ الْمُنْهَزِمِينَ يَقْتُلُونَ
وَيَأْسِرُونَ، وَوَقَفَ فَرَسُ أَبِي الْفَتْحِ بِهِ فَأُسِرَ
وَأُحْضِرَ عِنْدَ عَمِّهِ مُهَلْهِلٍ، فَضَرَبَهُ عِدَّةَ مَقَارِعَ،
وَقَيَّدَهُ، وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ وَعَادَ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا الشَّوْكِ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَى
شَهْرَزُورَ وَحَصَرَهَا، وَقَصَدَ بِلَادَ أَخِيهِ لِيُخَلِّصَ
ابْنَهُ أَبَا الْفَتْحَ، فَطَالَ الْأَمْرُ وَلَمْ يُخَلِّصِ ابْنَهُ،
وَحَمَلَ مُهَلْهِلٌ اللَّجَاجَ عَلَى أَنِ اسْتَدْعَى عَلَاءَ
الدَّوْلَةِ بْنَ كَاكَوَيْهِ إِلَى بَلَدِ أَبِي الْفَتْحِ، فَدَخَلَ
الدِّينَوَرَ وَقَرْمِيسِينَ، وَأَسَاءَ إِلَى أَهْلِهَا وَظَلَمَهُمْ
وَمَلَكَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعِمِائِةٍ.
ذِكْرُ شَغَبِ الْأَتْرَاكِ عَلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَغَبَ الْأَتْرَاكُ عَلَى الْمَلِكِ جَلَالِ
الدَّوْلَةِ بِبَغْدَاذَ، وَأَخْرَجُوا خِيَامَهُمْ إِلَى ظَاهِرِ
الْبَلَدِ، ثُمَّ أَوْقَعُوا النَّهْبَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ،
فَخَافَهُمْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، فَعَبَّرَ خِيَامَهُ إِلَى
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ فِي
الصُّلْحِ، وَأَرَادَ الرَّحِيلَ عَنْ بَغْدَاذَ، فَمَنَعَهُ
أَصْحَابُهُ، فَرَاسَلَ دُبَيْسَ بْنَ مَزْيَدٍ، وَقِرْوَاشًا، صَاحِبَ
الْمَوْصِلِ، وَغَيْرَهُمَا، وَجَمَعَ عِنْدَهُ الْعَسَاكِرَ،
فَاسْتَقَرَّتِ الْقَوَاعِدُ بَيْنَهُمْ، وَعَادَ إِلَى دَارِهِ،
وَطَمِعَ الْأَتْرَاكُ، وَآذَوُا النَّاسَ، وَنَهَبُوا وَقَتَلُوا،
وَفَسَدَتِ الْأُمُورُ بِالْكُلِّيَّةِ (إِلَى حَدٍّ لَا يُرْجَى
صَلَاحُهُ) .
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ
وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَهُوَ ذَخِيرُ الدِّين ِ.
(7/796)
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَبِيبُ بْنُ وَثَّابٍ النُّمَيْرِيُّ، صَاحِبُ
الرَّقَّةِ وَسَرُوجَ وَحَرَّانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرِ بْنُ مُشْكَانَ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ
لِمَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَلِوَلَدِهِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مِنَ
الْكُتَّابِ الْمُفْلِقِينَ، (رَأَيْتُ لَهُ كِتَابَةً فِي غَايَةِ
الْجَوْدَةِ) .
(7/797)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
432 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ وَسِيَاقَةُ
أَخْبَارِهِمْ مُتَتَابِعَةً
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ مُلْكُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَك
مُحَمَّدٍ وَأَخِيهِ جَغْرِي بِكْ دَاوُدَ ابْنَيْ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ بْنِ تَقَّاقٍ، فَنَذْكُرُ أَوَّلًا حَالَ آبَائِهِ، ثُمَّ
نَذْكُرُ حَالَهُ كَيْفَ تَنَقَّلَتْ حَتَّى صَارَ سُلْطَانًا، عَلَى
أَنَّنِي قَدْ ذَكَرْتُ أَكْثَرَ أَخْبَارِهِمْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى
السِّنِينَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهَا هَاهُنَا مَجْمُوعَةً لِتَرِدَ
سِيَاقًا وَاحِدًا، فَهِيَ أَحْسَنُ، فَأَقُولُ: فَأَمَّا تَقَّاقٌ
فَمَعْنَاهُ الْقَوْسُ الْجَدِيدُ، وَكَانَ شَهْمًا ذَا رَأْيٍ
وَتَدْبِيرٍ، وَكَانَ مُقَدَّمَ الْأَتْرَاكِ الْغُزِّ، وَمَرْجِعُهُمْ
إِلَيْهِ، لَا يُخَالِفُونَ لَهُ قَوْلًا، وَلَا يَتَعَدَّوْنَ
أَمْرًا.
فَاتَّفَقَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ أَنَّ مَلِكَ التُّرْكِ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ بَيْغُو جَمَعَ عَسَاكِرَهُ، وَأَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى
بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُ تَقَّاقٌ عَنْ ذَلِكَ، وَطَالَ
الْخِطَابُ بَيْنَهُمَا فِيهِ، فَأَغْلَظَ لَهُ مَلِكُ التُّرْكِ
الْكَلَامَ، فَلَطَمَهُ تَقَّاقٌ فَشَجَّ رَأْسَهُ، فَأَحَاطَ بِهِ
خَدَمُ مَلِكِ التُّرْكِ، وَأَرَادُوا أَخْذَهُ، فَمَانَعَهُمْ
وَقَاتَلَهُمْ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَهُ،
فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، ثُمَّ صَلُحَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، وَأَقَامَ
تَقَّاقٌ عِنْدَهُ، وَوُلِدَ لَهُ سَلْجُوقُ.
وَأَمَّا سَلْجُوقُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَبِرَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ
أَمَارَاتُ النَّجَابَةِ وَمَخَايِلُ التَّقَدُّمِ، فَقَرَّبَهُ
(8/5)
مَلِكُ التُّرْكِ وَقَدَّمَهُ، وَلَقَّبَهُ
سُبَاشِيَ، وَمَعْنَاهُ قَائِدُ الْجَيْشِ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ
الْمَلِكِ تُخَوِّفُهُ مِنْ سَلْجُوقَ لِمَا تَرَى مِنْ تَقَدُّمِهِ،
وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَأَغْرَتْهُ
بِقَتْلِهِ وَبَالَغَتْ فِي ذَلِكَ.
وَسَمِعَ سَلْجُوقُ الْخَبَرَ، فَسَارَ بِجَمَاعَتِهِ كُلِّهِمْ وَمَنْ
يُطِيعُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دِيَارِ الْإِسْلَامِ، وَسَعِدَ
بِالْإِيمَانِ وَمُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَازْدَادَ حَالُهُ
عُلُوًّا، (وَإِمْرَةً، وَطَاعَةً) ، وَأَقَامَ بِنَوَاحِي جَنَدَ،
وَأَدَامَ غَزْوَ كُفَّارِ التُّرْكِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يَأْخُذُ
الْخَرَاجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَطَرَدَ
سَلْجُوقُ عُمَّالَهُ مِنْهَا، وَصَفَتْ لِلْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ كَانَ هَارُونُ بْنُ
أَيْلَكِ الْخَانُ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِ أَطْرَافِ بِلَادِهِ،
فَأَرْسَلَ إِلَى سَلْجُوقَ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ بِابْنِهِ
أَرْسِلَانَ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَوِيَ بِهِمُ
السَّامَانِيُّ عَلَى هَارُونَ، وَاسْتَرَدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ،
وَعَادَ أَرْسِلَانُ إِلَى أَبِيهِ.
وَكَانَ لِسَلْجُوقَ مِنَ الْأَوْلَادِ: أَرْسِلَانُ، وَمِيكَائِيلُ،
وَمُوسَى، وَتُوُفِّيَ سَلْجُوقُ بِجَنَدَ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةَ
سَنَةٍ وَسَبْعَ سِنِينَ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَبَقِيَ أَوْلَادُهُ،
فَغَزَا مِيكَائِيلُ بَعْضَ بِلَادِ الْكُفَّارِالْأَتْرَاكِ،
فَقَاتَلَ وَبَاشَرَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، فَاسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَخَلَفَ مِنَ الْأَوْلَادِ: بَيْغُو، وَطُغْرُلْبَك
مُحَمَّدًا، وَجَغْرِي بِكْ دَاوُدَ، فَأَطَاعَهُمْ عَشَائِرُهُمْ،
وَوَقَفُوا عِنْدَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِمْ، وَنَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْ
بُخَارَى عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْهَا، فَخَافَهُمْ أَمِيرُ
بُخَارَى فَأَسَاءَ جِوَارَهُمْ، وَأَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ
وَالْإِيقَاعَ بِهِمْ، فَالْتَجَئُوا إِلَى بُغْرَاخَانْ مَلِكِ
تُرْكِسْتَانَ، وَأَقَامُوا فِي بِلَادِهِ، وَاحْتَمَوْا بِهِ
وَامْتَنَعُوا، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ
(8/6)
طُغْرُلْبَك وَأَخِيهِ دَاوُدَ أَنَّهُمَا
لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَ بُغْرَاخَانْ، إِنَّمَا يَحْضُرُ عِنْدَهُ
أَحَدُهُمَا، وَيُقِيمُ الْآخَرُ فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنْ مَكْرٍ
يَمْكُرُهُ بِهِمْ، فَبَقَوْا كَذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ بُغْرَاخَانِ اجْتَهَدَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عِنْدَهُ،
فَلَمْ يَفْعَلَا، فَقَبَضَ عَلَى طُغْرُلْبَك وَأَسَرَهُ، فَثَارَ
دَاوُدُ فِي عَشَائِرِهِ وَمَنْ يَتْبَعُهُ، وَقَصَدَ بُغْرَاخَانْ
لِيُخَلِّصَ أَخَاهُ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بُغْرَاخَانْ عَسْكَرًا،
فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ بُغْرَاخَانْ وَكَثُرَ الْقَتْلُ
فِيهِمْ، وَخَلَّصَ أَخَاهُ مِنَ الْأَسْرِ، وَانْصَرَفُوا إِلَى
جَنَدَ، وَهِيَ قَرِيبُ بُخَارَى، فَأَقَامُوا هُنَاكَ.
فَلَمَّا انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ السَّامَانِيَّةِ، وَمَلَكَ أَيْلَكُ
الْخَانُ بُخَارَى عَظُمَ مَحِلُّ أَرْسِلَانَ بْنِ سَلْجُوقَ عَمِّ
دَاوُدَ وَطُغْرُلْبَك بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَ عَلِيُّ
تِكِينُ فِي حَبْسِ أَرْسِلَانَ خَانْ، فَهَرَبَ، (وَهُوَ أَخُو
أَيْلَكَ الْخَانْ) وَلَحِقَ بِبُخَارَى وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا،
وَاتَّفَقَ مَعَ أَرْسِلَانَ بْنِ سَلْجُوقَ فَامْتَنَعَا،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا، وَقَصَدَهُمَا أَيْلَكُ أَخُو أَرْسِلَانَ
خَانْ وَقَاتَلَهُمَا، فَهَزَمَاهُ وَبَقِيَا بِبُخَارَى
وَكَانَ عَلِيُّ تِكِينُ يُكْثِرُ مُعَارَضَةَ يَمِينِ الدَّوْلَةِ
مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ فِيمَا يُجَاوِرُهُ فِي بِلَادِهِ،
وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى رُسُلِهِ الْمُتَرَدِّدِينَ إِلَى مُلُوكِ
التُّرْكِ، فَلَمَّا عَبَرَ مَحْمُودُ جَيْحُونَ، عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ، هَرَبَ عَلِيُّ تِكِينُ مِنْ بُخَارَى، وَأَمَّا
أَرْسِلَانُ بْنُ سَلْجُوقَ وَجَمَاعَتُهُ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا
الْمَفَازَةَ وَالرَّمْلَ، فَاحْتَمَوْا مِنْ مَحْمُودٍ، فَرَأَى
مَحْمُودٌ قُوَّةَ السَّلْجُوقِيَّةِ وَمَا لَهُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ
وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَكَاتَبَ أَرْسِلَانَ بْنَ سَلْجُوقَ
وَاسْتَمَالَهُ وَرَغَّبَهُ، فَوَرَدَ إِلَيْهِ، فَقَبَضَ يَمِينُ
الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُمْهِلْهُ، وَسَجَنَهُ فِي
قَلْعَةٍ وَنَهَبَ خَرْكَاهَاتِهِ، وَاسْتَشَارَ فِيمَا يَفْعَلُ
بِأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَأَشَارَ أَرْسِلَانُ الْجَاذِبُ، وَهُوَ
مِنْ أَكْبَرِ خَوَاصِّ مَحْمُودٍ، بِأَنْ يُقْطَعَ أَبَاهِمُهُمْ
لِئَلَّا يَرْمُوا بِالنُّشَّابِ، أَوْ يُغَرَّقُوا فِي جَيْحُونَ،
فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا قَاسِي الْقَلِ! ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ
فَعَبَرُوا نَهْرَ جَيْحُونَ، فَفَرَّقَهُمْ فِي نَوَاحِي خُرَاسَانَ،
وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، فَجَارَ الْعُمَّالُ عَلَيْهِمْ،
وَامْتَدَّتِ
(8/7)
الْأَيْدِي إِلَى أَمْوَالِهِمْ
وَأَوْلَادِهِمْ، انْفَصَلَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ،
وَسَارُوا إِلَى كِرْمَانَ، وَمِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، وَجَرَى
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِهَا عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ
حَرْبٌ، قَدْ ذَكَرْنَاهَا، فَسَارُوا مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى
أَذْرَبِيجَانَ، وَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةُ أَرْسِلَانَ. فَأَمَّا
أَوْلَادُ إِخْوَتِهِ فَإِنَّ عَلِيَّ تِكِينَ صَاحِبَ بُخَارَى
أَعْمَلَ الْحِيَلَ فِي الظَّفَرِ بِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى يُوسُفَ
بْنِ مُوسَى بْنِ سَلْجُوقَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ طُغْرُلْبَك مُحَمَّدٍ
وَجَغْرِي بِكْ دَاوُدَ، وَوَعَدَهُ الْإِحْسَانَ، وَبَالَغَ فِي
اسْتِمَالَتِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْحُضُورَ عِنْدَهُ، فَفَعَلَ،
فَفَوَّضَ إِلَيْهِ عَلِيُّ تِكِينُ التَّقَدُّمَ عَلَى جَمِيعِ
الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ فِي وِلَايَتِهِ، وَأَقْطَعَهُ أَقْطَاعًا
كَثِيرَةً، وَلُقِّبَ بِالْأَمِيرِ إِينَانْجَ بَيْغُو.
وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ بِهِ أَنْ يَسْتَعِينَ
بِهِ وَبِعَشِيرَتِهِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى طُغْرُلْبَك وَدَاوُدَ
ابْنَيْ عَمِّهِ، وَيُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَيَضْرِبَ بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ، فَعَلِمُوا مُرَادَهُ، فَلَمْ يُطِعْهُ يُوسُفُ إِلَى شَيْءٍ
مِمَّا أَرَادَهُ مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيُّ تِكِينُ أَنَّ
مَكْرَهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي يُوسُفَ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ غَرَضًا،
أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ يُوسُفُ، تَوَلَّى قَتْلَهُ أَمِيرٌ مِنْ
أُمَرَاءِ عَلِيِّ تِكِينَ اسْمُهُ أَلْبُ قُرَّا.
فَلَمَّا قُتِلَ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى طُغْرُلْبَك وَأَخِيهِ دَاوُدَ
وَجَمِيعِ عَشَائِرِهِمَا، وَلَبِسُوا ثِيَابَ الْحِدَادِ، وَجَمَعَا
مِنَ الْأَتْرَاكِ مَنْ قَدَرَا عَلَى جَمْعِهِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهِ،
وَجَمَعَ عَلِيُّ تِكِينُ أَيْضًا جُيُوشَهُ، وَسَيَّرَهَا إِلَيْهِمْ،
فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ عَلِيِّ تِكِينَ، وَكَانَ قَدْ وُلِدَ
السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسِلَانَ بْنُ دَاوُدَ أَوَّلَ مُحَرَّمٍ
سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قَبْلَ الْحَرْبِ، فَتَبَرَّكُوا
بِهِ، وَتَيَمَّنُوا بِطَلْعَتِهِ، وَقِيلَ فِي مَوْلِدِهِ غَيْرُ
ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] قَصَدَ
طُغْرُلْبَك وَدَاوُدُ أَلْبَ قُرَّا الَّذِي قَتَلَ يُوسُفَ ابْنَ
عَمِّهِمَا، فَقَتَلَاهُ وَأَوْقَعَا بِطَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِ
عَلِيِّ تِكِينَ، فَقَتَلَا مِنْهَا نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ، فَجَمَعَ
عَلِيُّ تِكِينُ عَسْكَرَهُ وَقَصَدَهُمْ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَمَنْ
حَمَلَ السِّلَاحَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ
الْبِلَادِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَقَصَدُوهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَأَوْقَعُوا بِهِمْ وَقْعَةً عَظِيمَةً قُتِلَ [فِيهَا] كَثِيرٌ مِنْ
عَسَاكِرِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَأَخُذِتْ أَمْوَالُهُمْ
وَأَوْلَادُهُمْ، وَسَبَوْا كَثِيرًا مِنْ نِسَائِهِمْ
وَذَرَارِيِّهِمْ، فَأَلْجَأَتْهُمُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْعُبُورِ
إِلَى خُرَاسَانَ.
(8/8)
فَلَمَّا عَبَرُوا جَيْحُونَ كَتَبَ
إِلَيْهِمْ خُوَارَزْمُشَاهْ هَارُونُ بْنُ التُّونْتَاشِ
يَسْتَدْعِيهِمْ لِيَتَّفِقُوا مَعَهُ، وَتَكُونَ أَيْدِيهِمْ
وَاحِدَةً. فَسَارَ طُغْرُلْبَك وَأَخَوَاهُ دَاوُدُ وَبَيْغُو
إِلَيْهِ، وَخَيَّمُوا بِظَاهِرِ خُوَارزْمَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ
[وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَوَثِقُوا بِهِ، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ،
فَغَدَرَ بِهِمْ، فَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ شَاهْمَلَكْ،
فَكَبَسَهُمْ وَمَعَهُ عَسْكَرٌ مِنْ هَارُونَ، فَأَكْثَرَ الْقَتْلَ
فِيهِمْ وَالنَّهْبَ وَالسَّبْيَ، وَارْتَكَبَ مِنَ الْغَدْرِ خُطَّةً
شَنِيعَةً، فَسَارُوا عَنْ خُوَارَزْمَ بِجُمُوعِهِمْ إِلَى مَفَازَةِ
نَسَا، وَقَصَدُوا مَرْوَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، وَلَمْ
يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ بِشَرٍّ، وَبَقِيَ أَوْلَادُهُمْ
وَذَرَارِيُّهِمْ فِي الْأَسْرِ.
وَكَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ هَذِهِ
السَّنَةَ بِطَبَرِسْتَانَ قَدْ مَلَكَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ،
فَرَاسَلُوهُ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ، وَضَمِنُوا أَنَّهُمْ
يَقْصِدُونَ الطَّائِفَةَ الَّتِي تُفْسِدُ فِي بِلَادِهِ،
وَيَدْفَعُونَهُمْ عَنْهَا وَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَكُونُونَ مِنْ
أَعْظَمِ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ. فَقَبَضَ عَلَى
الرُّسُلِ، وَجَهَّزَ عَسْكَرًا جَرَّارًا إِلَيْهِمْ مَعَ
إِيلْتُغْدِي حَاجِبِهِ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَكَبِرِ،
فَسَارُوا إِلَيْهِمْ، وَالْتَقَوْا عِنْدَ نَسَا فِي شَعْبَانَ مِنَ
السَّنَةِ، وَاقْتَتَلُوا وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَانْهَزَمَ
السَّلْجُوقِيَّةُ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَجَرَى بَيْنَ عَسْكَرِ
مَسْعُودٍ مُنَازَعَةٌ فِي الْغَنِيمَةِ أَدَّتْ إِلَى الْقِتَالِ.
وَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّ السَّلْجُوقِيَّةَ لَمَّا
انْهَزَمُوا قَالَ لَهُمْ دَاوُدُ: إِنَّ الْعَسْكَرَ الْآنَ قَدْ
نَزَلُوا وَاطْمَأَنُّوا وَأَمِنُوا الطَّلَبَ، وَالرَّأْيُ أَنْ
نَقْصِدَهُمْ لَعَلَّنَا نَبْلُغُ مِنْهُمْ غَرَضًا. فَعَادُوا
فَوَصَلُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ
الِاخْتِلَافِ وَقِتَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا، وَاسْتَرَدُّوا مَا أَخَذُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ وَرِجَالِهِمْ، وَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ مِنَ
الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَلِكِ مَسْعُودٍ وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ،
فَنَدِمَ عَلَى رَدِّهِ طَاعَتَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ هَيْبَتَهُمْ قَدْ
تَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِ عَسَاكِرِهِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ طَمِعُوا
بِهَذِهِ الْهَزِيمَةِ، وَتَجَرَّءُوا عَلَى قِتَالِ الْعَسَاكِرِ
السُّلْطَانِيَّةِ بَعْدَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ، وَخَافَ مِنْ
أَخَوَاتِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَتَهَدَّدُهُمْ
وَيَتَوَعَّدُهُمْ، فَقَالَ طُغْرُلْبَك لِإِمَامِ صَلَاتِهِ: اكْتُبْ
إِلَى السُّلْطَانِ قُلِ اللَّهُمَّ مَا الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَلَا تَزِدْ عَلَى هَذَا.
(8/9)
فَكَتَبَ مَا قَالَ، فَلَمَّا وَرَدَ
الْكِتَابُ عَلَى مَسْعُودٍ أَمَرَ فَكُتِبَ إِلَيْهِمْ كِتَابٌ
مَمْلُوءٌ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْجَمِيلَةِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ
الْخِلَعَ النَّفِيسَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالرَّحِيلِ إِلَى آمُلِ
الشَّطِّ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَلَى جَيْحُونَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ
الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَأَقْطَعَ دِهِسْتَانَ لِدَاوُدَ، وَنَسَا
لِطُغْرُلْبَك، وَفَرَاوَةَ لِبَيْغُو، وَلَقَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ بِالدِّهْقَانِ.
فَاسْتَخَفُّوا بِالرَّسُولِ وَالْخِلَعَ وَقَالُوا لِلرَّسُولِ: لَوْ
عَلِمْنَا أَنَّ السُّلْطَانَ يُبْقِي عَلَيْنَا إِذَا قَدَرَ،
لَأَطَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى ظَفِرَ بِنَا
أَهْلَكَنَا لِمَا عَمِلْنَاهُ وَأَسْلَفْنَاهُ، فَنَحْنُ لَ
نُطِيعُهُ، وَلَا نَثِقُ بِهِ.
وَأَفْسَدُوا، ثُمَّ كَفُّوا وَتَرَكُوا ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ
لَنَا قُدْرَةٌ عَلَى الِانْتِصَافِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَإِلَّا فَلَا
حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِهْلَاكِ الْعَالَمِ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ،
وَأَرْسَلُوا إِلَى مَسْعُودٍ يُخَادِعُونَهُ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ
لَهُ، وَالْكَفِّ عَنِ الشَّرِّ، وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يُطْلِقَ
عَمَّهُمْ أَرْسِلَانَ بْنَ سَلْجُوقَ مِنَ الْحَبْسِ، فَأَجَابَهُمْ
إِلَى ذَلِكَ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ بِبَلْخَ، وَأَمَرَهُ
بِمُرَاسَلَةِ بَنِي أَخِيهِ بَيْغُو وَطُغْرُلْبَك وَدَاوُدَ
يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَالْكَفِّ عَنِ الشَّرِّ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ
إِشْفَى، وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ
الرَّسُولُ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمُ الْإِشْفَى
نَفَرُوا وَاسْتَوْحَشُوا، وَعَادُوا إِلَى أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ فِي
الْغَارَةِ وَالشَّرِّ، فَأَعَادَهُ مَسْعُودٌ إِلَى مَحْبِسِهِ،
وَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ، فَقَصَدَ السَّلْجُوقِيَّةُ بَلْخَ
وَنَيْسَابُورَ وَطُوسَ وَجُوزْجَانَ، (عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) .
وَأَقَامَ دَاوُدُ بِمَدِينَةِ مَرْوَ، وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُ
السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاسْتَوْلَى
الرُّعْبُ عَلَى أَصْحَابِهِ، لَاسِيَّمَا مَعَ بُعْدِهِ إِلَى
غَزْنَةَ، فَتَوَالَتْ كُتُبُ نُوَّابِهِ وَعُمَّالِهِ إِلَيْهِ
يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَيَشْكُونَ إِلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ مَا يَفْعَلُ
السَّلْجُوقِيَّةُ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ لَا يُجِيبُهُمْ وَلَا
يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَعْرَضَ عَنْ خُرَاسَانَ
وَالسَّلْجُوقِيَّةِ، وَاشْتَغَلَ بِأُمُورِ بِلَادِ الْهِنْدِ.
فَلَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ بِخُرَاسَانَ وَعَظُمَتْ حَالُهُمُ
اجْتَمَعَ وُزَرَاءُ مَسْعُودٍ وَأَرْبَابُ الرَّأْيِ فِي دَوْلَتِهِ،
وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ قِلَّةَ الْمُبَالَاةِ بِخُرَاسَانَ مِنْ
أَعْظَمِ سَعَادَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَبِهَا يَمْلِكُو الْبِلَادَ،
وَيَسْتَقِيمُ لَهُمُ الْمُلْكُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ، وَكُلُّ عَاقِلٍ،
أَنَّهُمْ إِذَا تُرِكُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ اسْتَوْلَوْا عَلَى
خُرَاسَانَ سَرِيعًا، ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا إِلَى غَزْنَةَ،
وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُنَا
(8/10)
حَرَكَاتُنَا وَلَا نَتَمَكَّنُ مِنَ
الْبِطَالَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَالطَّرَبِ.
فَاسْتَيْقَظَ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَأَبْصَرَ رُشْدَهُ بَعْدَ
غَفْلَتِهِ، وَجَهَّزَ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مَعَ أَكْبَرِ
أَمِيرٍ عِنْدَهُ يُعْرَفُ بِسُبَاشِي، وَكَانَ حَاجِبَهُ، وَقَدْ
سَيَّرَهُ قَبْلُ إِلَى الْغُزِّ الْعِرَاقِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ مَعَهُ أَمِيرًا كَبِيرًا اسْمُهُ
مَرْدَاوَيْجُ بْنُ بِشُّو.
وَكَانَ سُبَاشِي جَبَانًا، فَأَقَامَ بِهَرَاةَ وَنَيْسَابُورَ، ثُمَّ
أَغَارَ بَغْتَةً عَلَى مَرْوَ وَبِهَا دَاوُدُ، فَسَارَ مُجِدًّا،
فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَصَابَ جُيُوشَهُ
وَدَوَابَّهُ التَّعَبُ وَالْكَلَالُ، فَانْهَزَمَ دَاوُدُ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلَحِقَهُ الْعَسْكَرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ
جُوزَجَانَ، فَقَاتَلَهُ دَاوُدُ، فَقُتِلَ صَاحِبُ جُوزَجَانَ
وَانْهَزَمَتْ عَسَاكِرُهُ، فَعَظُمَ قَتْلُهُ عَلَى سُبَاشِي وَكُلِّ
مَنْ مَعَهُ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَقَوِيَتْ نُفُوسُ
السَّلْجُوقِيَّةِ وَزَادَ طَمَعُهُمْ.
وَعَادَ دَاوُدُ إِلَى مَرْوَ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا،
وَخُطِبَ لَهُ فِيهَا أَوَّلُ جُمُعَةٍ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلُقِّبَ فِي الْخُطْبَةِ بِمَلِكِ
الْمُلُوكِ. وَسُبَاشِي يُمَادِي الْأَيَّامَ، وَيَرْحَلُ مِنْ
مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، وَالسَّلْجُوقِيَّةُ يُرَاوِغُونَهُ
مُرَاوَغَةَ الثَّعْلَبِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ
جُبْنًا وَخَوَرًا، وَقِيلَ: بَلْ رَاسَلَهُ السَّلْجُوقِيَّةُ
وَاسْتَمَالُوهُ وَرَغَّبُوهُ، فَنَفَّسَ عَنْهُمْ، وَتَرَاخَى فِي
تَتَبُّعِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا طَالَ مُقَامُ سُبَاشِي وَعَسَاكِرِهِ وَالسَّلْجُوقِيَّةِ
بِخُرَاسَانَ، وَالْبِلَادُ مَنْهُوبَةٌ، وَالدِّمَاءُ مَسْفُوكَةٌ،
قَلَّتِ الْمِيرَةُ وَالْأَقْوَاتُ عَلَى الْعَسَاكِرِ خَاصَّة ً.
فَأَمَّا السَّلْجُوقِيَّةُ فَلَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ
يَقْنَعُونَ بِالْقَلِيلِ، فَاضْطَرَّ سُبَاشِي إِلَى مُبَاشَرَةِ
الْحَرْبِ وَتَرْكِ الْمُحَاجَزَةِ، فَسَارَ إِلَى دَاوُدَ،
وَتَقَدَّمَ دَاوُدُ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] عَلَى بَابِ سَرَخْسَ.
وَلِدَاوُدُ مُنَجِّمٌ يُقَالُ لَهُ الصَّوْمَعِيُّ، فَأَشَارَ عَلَى
دَاوُدَ بِالْقِتَالِ، وَضَمِنَ لَهُ الظَّفَرَ، وَأَشْهَدَ عَلَى
نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ أَخْطَأَ فَدَمُهُ مُبَاحٌ لَهُ فَاقْتَتَلَ
الْعَسْكَرَانِ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَسْكَرُ سُبَاشِي وَانْهَزَمُوا
أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَسَارُوا أَخْزَى مَسِيرٍ إِلَى هَرَاةَ،
فَتَبِعَهُمْ دَاوُدُ وَعَسْكَرُهُ إِلَى طُوسٍ يَأْخُذُونَهُمْ
بِالْيَدِ، وَكَفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ،
فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ هِيَ الَّتِي مَلَكَ السَّلْجُوقِيَّةُ
بَعْدَهَا خُرَاسَانَ، وَدَخَلُوا قَصَبَاتِ الْبِلَادِ، فَدَخَلَ
طُغْرُلْبَك نَيْسَابُورَ،
(8/11)
وَسَكَنَ الشَّاذِيَاخَ، وَخُطِبَ لَهُ
فِيهَا فِي شَعْبَانَ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ، وَفَرَّقُوا
النُّوَّابَ فِي النَّوَاحِي.
وَسَارَ دَاوُدُ إِلَى هَرَاةَ، فَفَارَقَهَا سُبَاشِي وَمَضَى إِلَى
غَزْنَةَ، فَعَاتَبَهُ مَسْعُودٌ وَحَجَبَهُ، وَقَالَ لَهُ: ضَيَّعْتَ
الْعَسَاكِرَ، وَطَاوَلْتَ الْأَيَّامَ حَتَّى قَوِيَ أَمْرُ
الْعَدُوِّ وَصَفَا لَهُمْ مَشْرَبُهُمْ، وَتَمَكَّنُ مِنَ الْبِلَادِ
مَا أَرَادُوا. فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْقَوْمَ تَفَرَّقُوا ثَلَاثَ
فِرَقٍ، كُلَّمَا تَبِعْتُ فِرْقَةً سَارَتْ بَيْنَ يَدَيَّ، وَخَلْفِي
الْفَرِيقَانِ فِي الْبِلَادِ يَفْعَلُونَ مَا أَرَادُوا، فَاضْطَرَّ
مَسْعُودٌ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ
وَفَرَّقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ، وَسَارَ عَنْ غَزْنَةَ
فِي جُيُوشٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَضَاءُ وَمَعَهُ مِنَ الْفِيَلَةِ
عَدَدٌ كَثِيرٌ، فَوَصَلَ إِلَى بَلْخَ، وَقَصَدَهُ دَاوُدُ إِلَيْهَا
أَيْضًا، وَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، فَدَخَلَهَا يَوْمًا جَرِيدَةً
(فِي طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ) عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْعَسَاكِرِ،
فَأَخَذَ الْفِيلَ الْكَبِيرَ الَّذِي عَلَى بَابِ دَارِ الْمَلِكِ
مَسْعُودٍ، وَأَخَذَ مَعَهُ عِدَّةَ جَنَائِبَ، فَعَظُمَ قَدْرُهُ فِي
النُّفُوسِ، وَازْدَادَ الْعَسْكَرُ هَيْبَةً لَهُ.
ثُمَّ سَارَ مَسْعُودٌ مِنْ بَلْخَ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ
تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ فَارِسٍ
سِوَى الْأَتْبَاعِ، وَسَارَ عَلَى جُوزَجَانَ، فَأَخَذَ وَالِيَهَا
الَّذِي كَانَ بِهَا لِلسَّلْجُوقِيَّةِ، فَصَلَبَهُ، وَسَارَ مِنْهَا
فَوَصَلَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ، وَسَارَ دَاوُدُ إِلَى سَرَخْسَ،
وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخَوَاهُ طُغْرُلْبَك وَبَيْغُو، فَأَرْسَلَ
مَسْعُودٌ إِلَيْهِمْ رُسُلًا فِي الصُّلْحِ، فَسَارَ فِي الْجَوَابِ
بَيْغُو، فَأَكْرَمَهُ مَسْعُودٌ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَضْمُونُ
رِسَالَتِهِ: إِنَّا لَا نَثِقُ بِمُصَالَحَتِكَ بَعْدَ مَا فَعَلْنَا
هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي سَخِطْتَهَا، كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا
مُوبِقٌ مُهْلِكٌ. وَآيَسُوهُ مِنَ الصُّلْحِ، فَسَارَ مَسْعُودٌ مِنْ
مَرْوَ إِلَى هَراةَ، وَقَصَدَ دَاوُدُ مَرْوَ، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا
عَلَيْهِ، فَحَصَرَهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ
وَأَلَحَّ فِي قِتَالِهِمْ، فَمَلَكَهَا.
فَلَمَّا سَمِعَ مَسْعُودٌ هَذَا الْخَبَرَ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَسَارَ
مِنْ هَرَاةَ إِلَى نَيْسَابُورَ، ثُمَّ مِنْهَا
(8/12)
إِلَى سَرَخْسَ، وَكُلَّمَا تَبِعَ
السَّلْجُوقِيَّةَ إِلَى مَكَانٍ سَارُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ،
وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَأَدْرَكَهُمُ الشِّتَاءُ، فَأَقَامُوا
بِنَيْسَابُورَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبِيعَ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّبِيعُ
كَانَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ مَشْغُولًا بِلَهْوِهِ وَشُرْبِهِ،
فَتَقَضَّى الرَّبِيعُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الصَّيْفُ
عَاتَبَهُ وُزَرَاؤُهُ وَخَوَاصُّهُ عَلَى إِهْمَالِهِ أَمْرَ
عَدُوِّهِ، فَسَارَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى مَرْوَ يَطْلُبُ
السَّلْجُوقِيَّةَ، فَدَخَلُوا الْبَرِّيَّةَ، فَدَخَلَهَا وَرَاءَهُمْ
مَرْحَلَتَيْنِ وَالْعَسْكَرُ الَّذِي لَهُ قَدْ ضَجِرُوا مِنْ طُولِ
سَفَرِهِمْ وَبِيكَارِهِمْ، وَسَئِمُوا الشَّدَّ وَالتَّرَحُّلَ،
فَإِنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ فِي السَّفَرِ نَحْوُ ثَلَاثِ سِنِينَ،
بَعْضُهَا مَعَ سُبَاشِي، وَبَعْضُهَا مَعَ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ،
فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَرِّيَّةَ نَزَلَ مَنْزِلًا قَلِيلَ الْمَاءِ،
وَالْحَرُّ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَكْفِ الْمَاءُ لِلسُّلْطَانِ
وَحَوَاشِيهِ.
وَكَانَ دَاوُدُ فِي مُعْظَمِ السَّلْجُوقِيَّةِ بِإِزَائِهِ،
وَغَيْرُهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ مُقَابِلَ سَاقَةِ عَسَاكِرِهِ،
يَتَخَطَّفُونَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ. فَاتَّفَقَ لِمَا يُرِيدُهُ
اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ حَوَاشِيَ مَسْعُودٍ اخْتَصَمُوا هُمْ
جَمْعٌ مِنَ الْعَسْكَرِ عَلَى الْمَاءِ وَازْدَحَمُوا، وَجَرَى
بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ، حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يُقَاتِلُ بَعْضًا،
(وَبَعْضُهُمْ نَهَبَ بَعْضًا) فَاسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ أَمْرُ
الْعَسْكَرِ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي التَّخَلِّي عَنْ
مَسْعُودٍ، فَعَلِمَ دَاوُدُ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ
التَّنَازُعِ وَالْقِتَالِ وَالنَّهْبِ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لَا
يَلْوِي أَوَّلٌ عَلَى آخَرَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ،
وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ وَوَزِيرُهُ يُنَادِيَانِهِمْ،
وَيَأْمُرَانِهِمْ بِالْعَوْدِ فَلَا يَرْجِعُونَ، وَتَمَّتِ
الْهَزِيمَةُ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَثَبَتَ مَسْعُودٌ فَقِيلَ لَهُ: مَا
تَنْتَظِرُ؟ قَدْ فَارَقَكَ أَصْحَابُكَ، وَأَنْتَ فِي
بَرِّيَّةٍمُهْلِكَةٍ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ عَدُوٌّ، وَخَلْفَكَ عَدُوٌّ،
وَلَا وَجْهَ لِلْمُقَامِ. فَمَضَى مُنْهَزِمًا وَمَعَهُ نَحْوُ
مِائَةِ فَارِسٍ، فَتَبِعَهُ فَارِسٌ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ فَعَطَفَ
عَلَيْهِ مَسْعُودٌ فَقَتَلَهُ، وَصَارَ لَا يَقِفُ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى أَتَى غَرْشِسْتَانَ.
وَأَمَّا السَّلْجُوقِيَّةُ فَإِنَّهُمْ غَنِمُوا مِنَ الْعَسْكَرِ
الْمَسْعُودِيِّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ، وَقَسَّمَهُ
دَاوُدُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَآثَرَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَنَزَلَ فِي
سُرَادِقِ مَسْعُودٍ وَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ
عَسْكَرُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَنْ ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ، لَا
يُفَارِقُونَهَا إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُمْ
(8/13)
مِنْهُ، مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْعَسْكَرِ، وَأَطْلَقَ
الْأَسْرَى، وَأَطْلَقَ خَرَاجَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ.
وَسَارَ طُغْرُلْبَك إِلَى نَيْسَابُورَ فَمَلَكَهَا، وَدَخَلَ
إِلَيْهَا آخِرَ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
(وَأَوَّلَ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ) وَنَهَبَ أَصْحَابُهُ
النَّاسَ، فَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ رَأَى لَوْزِينَجًا فَأَكَلَهُ
وَقَالَ: هَذَا قَطْمَاجٌ طَيِّبٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا ثُومَ فِيهِ.
وَرَأَى الْغُزُّ الْكَافُورَ (فَظَنُّوهُ مِلْحًا) وَقَالُوا: هَذَا
مِلْحٌ مُرٌّ، وَنُقِلَ عَنْهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ.
وَكَانَ الْعَيَّارُونَ قَدْ عَظُمَ ضَرَرُهُمْ، وَاشْتَدَّ
أَمْرُهُمْ، وَزَادَتِ الْبَلِيَّةُ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ نَيْسَابُورَ،
فَهُمْ يَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَقْتُلُونَ النُّفُوسَ،
وَيَرْتَكِبُونَ الْفُرُوجَ الْحَرَامَ، وَيَفْعَلُونَ كُلَّ
مَايُرِيدُونَهُ، لَا يَرْدَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَادِعٌ، وَلَا
يَزْجُرُهُمْ زَاجِرٌ، فَلَمَّا دَخَلَ طُغْرُلْبَك الْبَلَدَ خَافَهُ
الْعَيَّارُونَ، وَكَفُّوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَسَكَنَ
النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا.
وَاسْتَوْلَى السَّلْجُوقِيَّةُ حِينَئِذٍ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ،
فَسَارَ بَيْغُو إِلَى هَرَاةَ فَدَخَلَهَا، وَسَارَ دَاوُدُ إِلَى
بَلْخَ وَبِهَا أَلْتُونْتَاقُ الْحَاجِبُ وَالِيًا عَلَيْهَا
لِمَسْعُودٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ دَاوُدُ يَطْلُبُ مِنْهُ تَسْلِيمَ
الْبَلَدِ إِلَيْهِ، وَيُعَرِّفُهُ عَجْزَ صَاحِبِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ،
فَسَجَنَ أَلْتُونْتَاقُ الرُّسُلَ، فَنَازَلَهُ دَاوُدُ وَحَصَرَ
الْمَدِينَةَ، فَأَرْسَلَ أَلْتُونْتَاقُ إِلَى مَسْعُودٍ وَهُوَ
بِغَزْنَةَ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ
الْحِصَارِ، فَجَهَّزَ مَسْعُودٌ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ
وَسَيَّرَهَا، فَجَاءَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الرُّخَّجِ وَبِهَا
جَمْعٌ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَانْهَزَمَ
السَّلْجُوقِيَّةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأُسِرَ
كَثِيرٌ، وَخَلَا ذَلِكَ الصُّقْعُ مِنْهُمْ.
وَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى هَرَاةَ وَبِهَا بَيْغُو،
فَقَاتَلُوهُ وَدَفَعُوهُ عَنْهَا، ثُمَّ إِنَّ مَسْعُودًا سَيَّرَ
وَلَدَهُ مَوْدُودًا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ مَدَدًا لِهَذِهِ
الْعَسَاكِرِ، فَقُتِلَ مَسْعُودٌ وَهُوَ بِخُرَاسَانَ
(8/14)
عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ -
تَعَالَى - فَسَارُوا عَنْ غَزْنَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قَارَبُوا بَلْخَ سَيَّرَ دَاوُدُ
طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ، فَأَوْقَعُوا بِطَلَائِعِ مَوْدُودٍ،
وَانْهَزَمَتِ الطَّلَائِعُ وَتَبِعَهُمْ عَسْكَرُ دَاوُدَ، فَلَمَّا
أَحَسَّ بِهِ عَسْكَرُ مَوْدُودٍ رَجَعُوا إِلَى وَرَائِهِمْ
وَأَقَامُوا، فَلَمَّا سَمِعَ أَلْتُونْتَاقُ صَاحِبُ بَلْخَ الْخَبَرَ
أَطَاعَ دَاوُدَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَوَطِئَ بُسَاطَهُ.
ذِكْرُ قَبْضِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَقَتْلِهِ وَمُلْكِ أَخِيهِ
مُحَمَّدٍ
قَدْ ذَكَرْنَا عَوْدَ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
إِلَى غَزْنَةَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَوَصَلَهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَبَضَ عَلَى سُبَاشِي
وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، (وَأَثْبَتَ
غَيْرَهُمْ) وَسَيَّرَ وَلَدَهُ مَوْدُودًا إِلَى خُرَاسَانَ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ لِيَمْنَعَ السَّلْجُوقِيَّةَ عَنْهَا، فَسَارَ
مَوْدُودٌ إِلَى بَلْخَ لِيَرُدَّ عَنْهَا دَاوُدَ أَخَا طُغْرُلْبَك،
وَجَعَلَ أَبُوهُ مَسْعُودٌ مَعَهُ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَدَ
بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَكَانَ
مَسِيرُهُمْ (مِنْ غَزْنَةَ) فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ
اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ.
وَسَارَ مَسْعُودٌ بَعْدَهُمْ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ يُرِيدُ بِلَادَ
الْهِنْدِ لِيَشْتُوَ بِهَا عَلَى عَادَةِ وَالِدِهِ، فَلَمَّا سَارَ
أَخَذَ مَعَهُ أَخَاهُ مُحَمَّدًا مَسْمُولًا، وَاسْتَصْحَبَ
الْخَزَائِنَ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى الِاسْتِنْجَادِ بِالْهِنْدِ
عَلَى قِتَالِ السَّلْجُوقِيَّةِ ثِقَةً بِعُهُودِهِمْ. فَلَمَّا
عَبَرَ سَيْحُونَ وَهُوَ نَهْرٌ كَبِيرٌ نَحْوَ دِجْلَةَ، وَعَبَّرَ
بَعْضَ الْخَزَائِنِ - اجْتَمَعَ أَنُّوشْ تِكِينُ الْبَلْخِيُّ
وَجَمْعٌ مِنَ الْغِلْمَانِ الدَّارِيَةِ، وَنَهَبُوا مَا خَلَّفَ مِنَ
الْخِزَانَةِ، وَأَقَامُوا أَخَاهُ مُحَمَّدًا ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْآخِرِ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ، فَامْتَنَعَ مِنْ
قَبُولِ ذَلِكَ، فَتَهَدَّدُوهُ وَأَكْرَهُوهُ، فَأَجَابَ، وَبَقِيَ
مَسْعُودٌ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ وَحَفِظَ نَفْسَهُ،
فَالْتَقَى الْجَمْعَانِ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَاقْتَتَلُوا،
وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، ثُمَّ انْهَزَمَ عَسْكَرُ
مَسْعُودٍ، وَتَحَصَّنَ هُوَ فِي رِبَاطِ مَارِيكْلَةَ،
(8/15)
فَحَصَرَهُ أَخُوهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ،
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: إِنَّ مَكَانَكَ لَا يَعْصِمُكَ، وَلَأَنْ
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ بِعَهْدٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذُوكَ قَهْرًا.
فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَبَضُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ
مُحَمَّدٌ: وَّهِ لَا قَابَلْتُكَ عَلَى فِعْلِكَ بِي، وَلَا
عَامَلْتُكَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ
تُقِيمَ حَتَّى أَحْمِلَكَ إِلَيْهِ وَمَعَكَ أَوْلَادُكَ وَحُرَمُكَ.
فَاخْتَارَ قَلْعَةَ كَيْكِي، فَأَنْفَذَهُ إِلَيْهَا مَحْفُوظًا،
وَأَمَ بِإِكْرَامِهِ وَصِيَانَتِهِ.
وَأَرْسَلَ مَسْعُودٌ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا
يُنْفِقُهُ، فَأَنْفَذَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَبَكَى
مَسْعُودٌ وَقَال َ: كَانَ بِالْأَمْسِ حُكْمِي عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ
حِمْلٍ مِنَ الْخَزَائِنِ، وَالْيَوْمَ لَا أَمْلِكُ
الدِّرْهَمالْفَرْدَ. فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ
دِينَارٍ فَقَبِلَهَا، وَكَانَتْ سَبَبَ سَعَادَةِ الرَّسُولِ ;
لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ بَالَغَ فِي
الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا فَوَّضَ أَمْرَ دَوْلَتِهِ إِلَى وَلَدِهِ
أَحْمَدَ، وَكَانَ فِيهِ خَبْطٌ وَهَوَجٌ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَابْنُ
عَمِّهِ يُوسُفُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ وَابْنُ عَلِيٍّ خُويْشَاوَنْدُ
عَلَى قَتْلِ مَسْعُودٍ، لِيَصْفُوَ الْمُلْكُ لَهُ وَلِوَالِدِهِ،
فَدَخَلَ إِلَى أَبِيهِ فَطَلَبَ خَاتَمَهُ لِيَخْتِمَ بِهِ بَعْضَ
الْخَزَائِنِ، فَأَعْطَاهُ، فَسَارَ بِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ،
وَأَعْطَوُا الْخَاتَمَ لِمُسْتَحْفِظِهَا وَقَالُوا: مَعَنَا
رِسَالَةٌ إِلَى مَسْعُودٍ، فَأَدْخَلَهُمْ إِلَيْهِ فَقَلُوهُ،
فَلَمَّا عَلِمَ مُحَمَّدٌ بِذَلِكَ سَاءَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ
وَأَنْكَرَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَسْعُودًا لَمَّا حُبِسَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَلَدُ
أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَاسْمُ أَحَدِهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَالْآخَرِ
عَبْدُ الرَّحِيمِ، فَمَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَدَهُ فَأَخَذَ
الْقَلَنْسُوَةَ مِنْ رَأْسِ عَمِّهِ مَسْعُودٍ، فَمَدَّ عَبْدُ
الرَّحِيمِ يَدَهُ وَأَخَذَ الْقَلَنْسُوَةَ مِنْ أَخِيهِ، وَأَنْكَرَ
عَلَيْهِ ذَلِكَ وَسَبَّهُ وَقَبَّلَهَا، وَتَرَكَهَا عَلَى رَأْسِ
عَمِّهِ، فَنَجَا بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحِيمِ مِنَ الْأَسْرِ لَمَّا
مَلَكَ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ.
ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا أَغْرَاهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بِقَتْلِ عَمِّهِ
مَسْعُودٍ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ
(8/16)
قَتَلَهُ، وَأَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ وَسَدَّ
رَأْسَهَا، وَقِيلَ: بَلَى أُلْقِيَ فِي بِئْرٍ حَيًّا وَسُدَّ
رَأْسُهَا فَمَاتَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا مَاتَ كَتَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَوْدُودٍ وَهُوَ
بِخُرَاسَانَ يَقُولُ: إِنَّ وَالِدَكَ قُتِلَ قِصَاصًا، قَتَلَهُ
أَوْلَادُ أَحْمَدَ يَنَّالَ تِكِينَ بِلَا رِضًا مِنِّي. فَأَجَابَ
مَوْدُودٌ يَقُولُ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ الْأِيرِ الْعَمِّ،
وَرَزَقَ وَلَدَهُ الْمَعْتُوهَ أَحْمَدَ عَقْلًا يَعِيشُ بِهِ، فَقَدْ
رَكِبَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَقْدَمَ عَلَى إِرَاقَةِ دَمِ مَلِكٍ
مِثْلِ وَالِدِي الَّذِي لَقَّبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ سَيِّدَ
الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، وَسَتَعْلَمُونَ فِي أَيِّ حَتْفٍ
تَوَرَّطْتُمْ، وَأَيِّ شَرٍّ تَأَبَّطْتُمْ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. نُفَلِّقُ هَامًا مِنْ
رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا، وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
وَطَمِعَ جُنْدُ مُحَمَّدٍ فِيهِ، وَزَالَتْ عَنْهُمْ هَيْبَتُهُ،
فَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعَايَا فَنَهَبُوهَا،
فَخَرِبَتِ الْبِلَادُ وَجَلَا أَهْلُهَا، لَاسِيَّمَا مَدِينَةُ
بَرْشَاوُورَ، فَإِنَّهَا هَلَكَ أَهْلُهَا، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ،
وَكَانَ الْمَمْلُوكُ بِهَا يُبَاعُ بِدِينَارٍ، وَتُبَاعُ الْخَمْرُ
كُلُّ مَنًا بِدِينَارٍ، ثُمَّ رَحَلَ مُحَمَّدٌ عَنْهَا
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ شُجَاعًا كَرِيمًا، ذَا فَضَائِلَ
كَثِيرَةٍ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ
وَالتَّقَرُّبِ لَهُمْ، صَنَّفُوا لَهُ التَّصَانِيفَ الْكَثِيرَةَ فِي
فُنُونِ الْعُلُومِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى
أَهْلِ الْحَاجَةِ، تَصَدَّقَ مَرَّةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَكْثَرَ الْإِدْرَارَاتِ وَالصِّلَاتِ، وَعَمَرَ
كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ فِي مَمَالِكِهِ، وَكَانَتْ صَنَائِعُهُ
ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً تَسِيرُ بِهَا الرُّكْبَانُ، مَعَ عِفَّةٍ عَنْ
أَمْوَالِ رَعَايَاهُ، وَأَجَازَ الشُّعَرَاءَ بِجَوَائِزَ عَظِيمَةٍ،
أَعْطَى شَامِرًا عَلَى قَصِيدَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَعْطَى آخَرَ
بِكُلِّ بَيْتٍ أَلْفَ
(8/17)
دِرْهَمٍ، وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا
حَسَنًا، وَكَانَ مُلْكُهُ عَظِيمًا، فَسِيحًا، مَلَكَ أَصْبَهَانَ
وَالرَّيَّ وَهَمَذَانَ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَمَلَكَ
طَبَرِسْتَانَ، وَجُرْجَانَ، وَخُرَاسَانَ، وَخُوَارَزْمَ، وَبِلَادَ
الرَّوَانِ، وَكِرْمَانَ، وَسِجِسْتَانَ، وَالسِّنْدَ، وَالرُّخَّجَ،
وَغَزْنَةَ، وَبِلَادَ الْغَوْرِ، وَالْهِنْدَ، وَمَلَكَ كَثِيرًا
مِنْهَا، وَأَطَاعَهُ أَهْلُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنَاقِبُهُ
كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صُنِّفَتْ فِيهَا التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ،
فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطَالَةِ بِذِكْرِهَا.
ذِكْرُ مُلْكِ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَتْلِهِ عَمَّهُ مُحَمَّدًا
لَمَّا قُتِلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِهِ
مَوْدُودٍ وَهُوَ بِخُرَاسَانَ، فَعَادَ مُجِدًّا فِي عَسَاكِرِهِ
إِلَى غَزْنَةَ، فَتَصَافَّ هُوَ وَعَمُّهُ مُحَمَّدٌ فِي ثَالِثِ
شَعْبَانَ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَعَسْكَرُهُ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ
وَعَلَى وَلَدِهِ أَحْمَدَ، وَأَنُّوشْتِكِينَ الْخَصِيِّ
الْبَلْخِيِّ، وَابْنِ عَلِيٍّ خُويْشَاوَنْدَ، فَقَتَلَهُمْ، وَقَتَلَ
أَوْلَادَ عَمِّهِ جَمِيعَهُمْ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحِيمِ
لِإِنْكَارِهِ عَلَى أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا فَعَلَهُ
بِعَمِّهِ مَسْعُودٍ، وَبَنَى مَوْضِعَ الْوَقْعَةِ قَرْيَةً
وَرِبَاطًا، وَسَمَّاهَا فَتْحَ آبَاذَ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ لَهُ فِي
الْقَبْضِ عَلَى وَالِدِهِ صُنْعٌ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ فَدَخَلَهَا
فِي ثَالِثٍ وَعِشْرِينَ شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
[وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَاسْتَوْزَرَ أَبَا نَصْرٍ وَزِيرَ أَبِيهِ،
وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ، وَسَلَكَ سِيرَةَ جَدِّهِ
مَحْمُودٍ.
وَكَانَ دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَك قَدْ مَلَكَ مَدِينَةَ بَلْخَ
وَاسْتَبَاحَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَوْدُودٌ
(8/18)
مُقَابِلُهُ، فَتَجَدَّدَ قَتْلُ
مَسْعُودٍ، فَعَادَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا،
فَلَمَّا تَجَدَّدَ هَذَا الظَّفَرُ لِمَوْدُودٍ ثَارَ أَهْلُ هَرَاةَ
بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغُزِّ السَّلْجُوقِيَّةِ، فَأَخْرَجُوهُمْ
وَحَفِظُوهَا لِمَوْدُودٍ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمَوْدُودٍ
بِغَزْنَةَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ هَمٌّ إِلَّا أَمْرُ أَخِيهِ
مَجْدُودٍ، فَإِنَّ أَبَاهُ قَدْ سَيَّرَهُ إِلَى الْهِنْدِ سَنَةَ
سِتٍّ وَعِشْرِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَخَافَ أَنْ يُخَالَفَ
عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ خَبَرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ لَهَاوُورَ وَمُلْتَانَ،
فَمَلَكَهُمَا، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَجَمَعَ بِهَا الْعَسَاكِرَ،
وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ عَلَى أَخِيهِ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ مَوْدُودٌ
جَيْشًا لِيَمْنَعُوهُ وَيُقَاتِلُوهُ، وَعَرَضَ مَجْدُودٌ عَسْكَرَهَ
لِلْمَسِيرِ، وَحَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى، فَبَقِيَ بَعْدَهُ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَأَصْبَحَ مَيِّتًا بِلَهَاوُورَ لَا يُدْرَى كَيْفَ كَانَ
مَوْتُهُ، وَأَطَاعَتِ الْبِلَادُ بِأَسْرِهَا مَوْدُودًا، وَرَسَتْ
قَدَمُهُ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ، وَلَمَّا سَمِعَتِ الْغُزُّ
السَّلْجُوقِيَّةُ ذَلِكَ خَافُوهُ، وَاسْتَشْعَرُوا مِنْهُ،
وَرَاسَلَهُ مَلِكُ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ بِالِانْقِيَادِ
وَالُمْتَابَعَةِ.
ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَقِرْوَاشٍ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ
مَلِكُ الْعِرَاقِ وَقِرْوَاشُ بْنُ الْمُقَلَّدِ الْعُقَيْلِيُّ
صَاحِبُ الْمَوْصِلِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قِرْوَاشًا كَانَ قَدْ أَنْفَذَ عَسْكَرًا
سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَحَصَرُوا خَمِيسَ
بْنَ ثَعْلَبٍ بِتَكْرِيتَ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حَرْبٌ
شَدِيدَةٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ خَمِيسٌ وَلَدَهُ
إِلَى الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَبَذَلَ بَذُولًا كَثِيرَةً
لِيَكُفَّ عَنْهُ قِرْوَاشًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ
إِلَى قِرْوَاشٍ يَأْمُرُهُ بِالْكَفِّ عَنْهُ، فَغَالَطَ وَلَمْ
يَفْعَلْ، وَسَارَ بِنَفْسِهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ يُحَاصِرُهُ،
فَتَأَثَّرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مِنْهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ كُتُبًا إِلَى الْأَتْرَاكِ بِبَغْدَادَ
يُفْسِدُهُمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالشَّغَبِ عَلَى الْمَلِكِ
وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ مَعَهُ، فَوَصَلَ خَبَرُهَا إِلَى جَلَالِ
الدَّوْلَةِ، وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ
(8/19)
الْأَصْلَ، فَأَرْسَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ
أَبَا الْحَارِثِ أَرْسِلَانَ الْبَسَاسِيرِيَّ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ
اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِيَقْبِضَ عَلَى نَائِبِ قِرْوَاشٍ
بِالسِّنْدِيَّةِ، فَسَارَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ،
(وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعَرَبِ) فَرَأَى فِي طَرِيقِهِ جِمَالًا
لِبَنِي عِيسَى، فَتَسَرَّعَ إِلَيْهَا الْأَتْرَاكُ وَالْعَرَبُ
فَأَخَذُوا مِنْهَا قِطْعَةً، وَأَوْغَلَ الْأَتْرَاكُ فِي الطَّلَبِ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْعَرَبِ، وَرَكِبُوا وَتَبِعُوا
الْأَتْرَاكَ، وَجَرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حَرْبٌ انْهَزَمَ
فِيهَا الْأَتْرَاكُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَعَادَ
الْمُنْهَزِمُونَ فَأَخْبَرُوا الْبَسَاسِيرِيَّ بِكَثْرَةِ الْعَرَبِ،
فَعَادَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَقْصِدِهِ.
وَسَارَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي عِيسَى، فَكَمَنُوا بَيْنَ صَرْصَرٍ
وَبَغْدَاذَ لِيُفْسِدُوا فِي السَّوَادِ، فَاتَّفَقَ أَنْ وَصَلَ
بَعْضُ أَكَابِرِ الْقُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحُمِلُوا إِلَى
بَغْدَاذَ، فَارْتَجَّ الْبَلَدُ وَاسْتُحْكِمَتِ الْوَحْشَةُ مَعَ
مُعْتَمَدِ الدَّوْلَةِ قِرْوَاشٍ، فَجَمَعَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ
الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَهِيَ لِقِرْوَاشٍ، عَلَى
عَزْمِ أَخْذِهَا مِنْهُ وَغَيْرِهَا مِنْ أَقْطَاعِهِ بِالْعِرَاقِ،
فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْأَنْبَارِ أُغْلِقَتْ، وَقَاتَلَهُمْ
أَصْحَابُ قِرْوَاشٍ، وَسَارَ قِرْوَاشٌ مِنْ تَكْرِيتَ إِلَى خُصَّةَ
عَلَى عَزْمِ الْقِتَالِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَلِكُ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَنْبَارِ قَلَّتْ عَلَيْهِمُ الْعَلُوفَةُ،
فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ وَالْعَرَبِ إِلَى الْحَدِيثَةِ
لِيَمْتَارُوا مِنْهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عِنْدَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ
مِنَ الْعَرَبِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، فَانْهَزَمَ بَعْضُهُمْ
وَعَادُوا إِلَى الْعَسْكَرِ، وَنَهَبَتِ الْعَرَبُ مَا مَعَهُمْ مِنَ
الدَّوَابِّ الَّتِي تَحْمِلُ الْمِيرَةَ، وَبَقِيَ الْمُرْشِدُ أَبُو
الْوَفَاءِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَسْكَرِ الَّذِينَ سَارُوا
لِإِحْضَارِ الْمِيرَةِ، وَثَبَتَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ.
وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَنَّ الْمُرْشِدَ أَبَا
الْوَفَاءِ (يُقَاتِلُ، وَأُخْبِرَ سَلَامَتُهُ وَصَبْرُهُ لِلْعَرَبِ)
وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَهُ وَهُوَ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ، فَسَارَ
الْمَلِكُ إِلَيْهِ بِعَسْكَرٍ، فَوَصَلُوا وَقَدْ عَجَزَ الْعَرَبُ
عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَعَادُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ حَمَلُوا
عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ
(8/20)
مَعَهُ عِدَّةَ حَمَلَاتٍ صَبَرَ لَهَا فِي
قِلَّةِ مَنْ مَعَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عُقَيْلُ عَلَى قِرْوَاشٍ،
فَرَاسَلَ جلَالَ الدَّوْلَةِ وَطَلَبَ رِضَاهُ، وَبَذَلَ لَهُ بَذْلًا
أَصْلَحَهُ بِهِ، وَعَادَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَتَحَالَفَا وَعَادَ كُلٌّ
إِلَى مَكَانِهِ.
ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي الشَّوْكِ دَقُوقَا
كَانَتْ دَقُوقَا لِأَبِي الْمَاجِدِ الْمُهَلْهِلِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عِنَّازٍ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا أَخُوهُ حُسَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو
الشَّوْكِ وَلَدَهُ سَعْدِي، فَحَصَرَهَا، فَقَاتَلَهُ مَنْ بِهَا.
ثُمَّ سَارَ أَبُو الشَّوْكِ إِلَيْهَا فَجَدَّ فِي حِصَارِهَا،
وَنَقَبَ سُورَهَا، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَنَهَبَ أَصْحَابُهُ بَعْضَ
الْبَلَدِ، وَأَخَذُوا سِلَاحَ الْأَكْرَادِ وَثِيَابَهُمْ، وَأَقَامَ
حُسَامُ الدَّوْلَةِ بِالْبَلَدِ لَيْلَةً، وَعَادَ خَوْفًا عَلَى
الْبَنْدَنِيجَيْنِ وَحُلْوَانَ، فَإِنَّ أَخَاهُ سُرْخَابَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ عِنَّازٍ كَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى عِدَّةِ مَوَاضِعَ
مِنْ وِلَايَتِهِ، وَحَالَفَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ وَرَّامٍ
وَالْجَاوَانِيَّةَ عَلَيْهِ، فَأَشْفَقَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ
إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ نَجْدَةً، فَسَيَّرَ
إِلَيْهِ عَسْكَرًا امْتَنَعَ بِهِمْ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ مِصْرَ وَالرُّومِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ عَسْكَرِ
الْمِصْرِيِّينَ (سَيَّرَهُ الدُّزْبَرِيُّ) وَبَيْنَ الرُّومِ،
فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَدْ هَادَنَهُ
الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الْعَلَوِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ. فَلَمَّا كَانَ الْآنَ شَرَعَ يُرَاسِلُ ابْنَ صَالِحِ
بْنَ مِرْدَاسٍ وَيَسْتَمِيلُهُ، وَرَاسَلَهُ قَبْلَهُ
صَالِحٌلِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الدُّزْبَرِيِّ، خَوْفًا أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهُ الرَّقَّةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الدُّزْبَرِيَّ، فَتَهَدَّدَ ابْنَ
صَالِحٍ، فَاعْتَذَرَ وَجَحَدَ.
ثُمَّ إِنَّ جَمْعًا مِنْ بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ دَخَلُوا
وِلَايَةَ أَفَامِيَةَ، فَعَاثُوا فِيهَا وَنَهَبُوا
(8/21)
عِدَّةَ قُرَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ جَمْعٌ
مِنَ الرُّومِ فَقَاتَلَهُمْ وَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَنَكُّوا فِيهِمْ،
وَأَزَالُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّاظِرَ بِحَلَبَ، فَأَخْرَجَ مَنْ بِهَا مِنْ
تُجَّارِ الْفِرِنْجِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُتَوَلِّي بِأَنْطَاكِيَةَ
يَأْمُرُهُ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ،
فَأَغْلَظَ لِلرَّسُولِ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ،
فَأَرْسَلَ النَّاظِرُ بِحَلَبَ إِلَى الدُّزْبَرِيِّ يُعَرِّفُهُ
الْحَالُ، وَأَنَّ الْقَوْمَ عَلَى التَّجَهُّزِ لِقَصْدِ الْبِلَادِ،
فَجَهَّزَ الدُّزْبَرِيُّ جَيْشًا وَسَيَّرَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ،
فَاتَّفَقَ أَنَّهُمْ لَقَوْا جَيْشًا لِلرُّومِ وَقَدْ خَرَجُوا
لِمِثْلِ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ
بَيْنَ مَدِينَةِ حَمَاةَ وَأَفْامِيَةَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ
بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ نَصَرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَذَلَّ
الْكَافِرِينَ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْهُمْ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ،
وَأُسِرَ ابْنُ عَمٍّ لِلْمَلِكِ، بَذَلُوا فِي فِدَائِهِ مَالًا
جَزِيلًا وَعِدَّةً وَافِرَةً مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ،
وَانْكَفَّ الرُّومُ عَنِ الْأَذَى بَعْدَهَا.
ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ الْمُعِزِّ وَبَنِي حَمَّادٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَوْلَادُ حَمَّادٍ عَلَى الْمُعِزِّ
بْنِ بَادِيسَ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا
عَلَيْهِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالْخِلَافِ عَلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ
الْمُعِزُّ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَحَشَدَهَا، وَحَصَرَ قَلْعَتَهُمُ
الْمَعْرُوفَةَ بِقَلْعَةِ حَمَّادٍ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَأَقَامَ
عَلَيْهِمْ نَحْوَ سَنَتَيْنِ.
ذِكْرُ صُلْحِ أَبِي الشَّوْكِ وَعَلَاءِ الدَّوْلَةِ
وَفِيهَا سَارَ مُهَلْهِلٌ أَخُو أَبِي الشَّوْكِ إِلَى عَلَاءِ
الدَّوْلَةِ بْنِ كَاكَوَيْهِ وَاسْتَصْرَخَهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ
عَلَى أَخِيهِ أَبِي الشَّوْكِ، فَسَارَ مَعَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ
قِرْمِيسِينَ رَجَعَ أَبُو الشَّوْكِ إِلَى
(8/22)
حُلْوَانَ، فَعَرَفَ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ
رُجُوعَهُ، فَسَارَ يَتْبَعُهُ حَتَّى بَلَغَ الْمَرْجَ، وَقَرُبَ مِنْ
أَبِي الشَّوْكِ، فَعَزَمَ أَبُو الشَّوْكِ عَلَى قَصْدِ قَلْعَةِ
السِّيرَوَانِ وَالتَّحَصُّنِ بِهَا، ثُمَّ تَجَلَّدَ وَأَرْسَلَ إِلَى
عَلَاءِ الدَّوْلَةِ: إِنَّنِي لَمْ أَنْصَرِفْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ
إِلَّا مُرَاقَبَةً لَكَ، وَإِعْظَامًا لِقَدْرِكَ، وَاسْتِعْطَافًا
لَكَ، فَإِذَا اضْطَرَرْتَنِي إِلَى مَا لَا أَجِدُ بُدًّا مِنْهُ
كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا لِي فِيهِ، فَإِنْ ظَفِرْتُ بكَ طَمِعَ فِيكَ
الْأَعْدَاءُ، وَإِنْ ظَفِرْتَ بِي سَلَّمْتُ قِلَاعِي وَبِلَادِي
إِلَى الْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ. فَأَجَابَهُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ
إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الدِّينَوَرُ، وَعَادَ
فَلَحِقَهُ الْمَرَضُ فِي طَرِيقِهِ وَتُفِّيَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ
غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَسَبَبُهُ عَدَمُ الْأَمْطَارِ، فَسُمِّيَتْ سَنَةَ
الْغُبَارِ، وَدَامَ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
[وَأَرْبَعِمِائَةٍ] فَخَرَجَ النَّاسُ فَاسْتَسْقَوْا.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ قُزُلُ أَمِيرُ الْغُزِّ الْعِرَاقِيَّةِ
بِالرَّيِّ، وَدُفِنَ بِنَاحِيَةٍ مِنْ أَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاعِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَلَاءِ
النَّيْسَابُورِيُّ ثُمَّ الْأُسْتُوَائِيُّ، قَاضِي نَيْسَابُورَ،
وَكَانَ عَالِمًا فَقِيهًا حَنَفِيًّا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ
الْحَنَفِيَّةِ بِخُرَاسَانَ.
(8/23)
|