الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
498 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِيَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ بْنُ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ قَدْ مَرِضَ بأَصْبَهَانَ بِالسُّلِّ، وَالْبَوَاسِيرِ، فَسَارَ مِنْهَا فِي مَحَفَّةٍ طَالِبًا بَغْدَاذَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَرُوجَرْدَ ضَعُفَ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ خَلَعَ عَلَى وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ، وَعُمُرُهُ حِينَئِذٍ أَرْبَعُ سِنِينَ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَخَلَعَ عَلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ، وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ ابْنَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي السَّلْطَنَةِ، وَجَعَلَ الْأَمِيرَ إِيَازَ أَتَابِكَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ لَهُمَا، وَمُسَاعَدَتِهِمَا عَلَى حِفْظِ السَّلْطَنَةِ لِوَلَدِهِ، وَالذَّبِّ عَنْهَا، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُمَا، وَبَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ وَسَلْطَنَتِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَلَفُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَارُوا، فَلَمَّا كَانُوا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا مِنْ بَرُوجَرْدَ وَصَلَهُمْ خَبَرُ وَفَاتِهِ، وَكَانَ بَرْكِيَارُقُ قَدْ تَخَلَّفَ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِلَى أَصْبَهَانَ فَعَاجَلَتْهُ مَنِيَّتُهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ إِيَازُ بِمَوْتِهِ أَمَرَ وَزِيرَهُ الْخَطِيرَ الْمَبْيَذِيَّ وَغَيْرَهُ بِأَنْ يَسِيرُوا مَعَ تَابُوتِهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَحُمِلَ إِلَيْهَا، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ جَدَّدَتْهَا لَهُ سُرِّيَّتُهُ، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَدُفِنَتْ بِإِزَائِهِ، وَأَحْضَرَ إِيَازُ السُّرَادِقَاتِ، وَالْخِيَامَ، وَالْجَتَرَ، وَالشِّمْسَةَ، وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ، فَجَعَلَهُ بِرَسْمِ وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ.

ذِكْرُ عُمُرِهِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ
لَمَّا تُوُفِّيَ بَرْكِيَارُقُ كَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ وُقُوعِ اسْمِ السَّلْطَنَةِ

(8/502)


عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَقَاسَى مِنَ الْحُرُوبِ وَاخْتِلَافِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُقَاسِهِ أَحَدٌ، وَاخْتَلَفَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ بَيْنَ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ، وَمُلْكٍ وَزَوَالِهِ، وَأَشْرَفَ فِي عِدَّةِ نُوَبٍ بَعْدَ إِسْلَامِ النِّعْمَةِ عَلَى ذَهَابِ الْمُهْجَةِ.
وَلَمَّا قَوِيَ أَمْرُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَطَاعَهُ الْمُخَالِفُونَ، وَانْقَادُوا لَهُ، أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ، وَلَمْ يُهْزَمْ فِي حُرُوبِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ أُمَرَاؤُهُ قَدْ طَمِعُوا فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُوَّابَهُ لِيَقْتُلُوهُمْ، فَلَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَكَانَ مَتَى خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ وَقَعَ الْغَلَاءُ، وَوَقَفَتِ الْمَعَايِشُ وَالْمَكَاسِبُ، وَكَانَ أَهْلُهَا مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّونَهُ، وَيَخْتَارُونَ سُلْطَانَهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ تَغَلُّبِ الْأَحْوَالِ بِهِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا دُخُولُهُ أَصْبَهَانَ هَارِبًا مِنْ عَمِّهِ تُتُشَ، فَمَكَّنَهُ عَسْكَرُ أَخِيهِ مَحْمُودٍ صَاحِبِهَا مِنْ دُخُولِهَا لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَخَاهُ مَحْمُودًا مَاتَ، فَاضْطَرُّوا إِلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ.
وَكَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا، صَبُورًا، عَاقِلًا، كَثِيرَ الْمُدَارَاةِ، حَسَنَ الْقُدْرَةِ، لَا يُبَالِغُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَكَانَ عَفْوُهُ أَكْثَرَ مِنْ عُقُوبَتِهِ.

ذِكْرُ الْخُطْبَةِ لِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُطِبَ لِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ بِالدِّيوَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَخُطِبَ لَهُ بِجَوَامِعِ بَغْدَاذَ مِنَ الْغَدِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِيلْغَازِي، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، سَارَ فِي الْمُحَرَّمِ إِلَى السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، وَهُوَ بِأَصْبَهَانَ، يَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَرَحَلَ مَعَ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا مَاتَ بَرْكِيَارُقُ سَارَ مَعَ وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ وَالْأَمِيرِ إِيَازَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَوَصَلُوهَا سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَلَقَوْا فِي طَرِيقِهِمْ بَرْدًا شَدِيدًا لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَهُ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمَاءِ لِجُمُودِهِ.

(8/503)


وَخَرَجَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ جَهِيرٍ، فَلَقِيَهُمْ مِنْ دَيَالَى، وَكَانُوا خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَحَضَرَ إِيلْغَازِي، وَالْأَمِيرُ طَغَايَرْكُ، بِالدِّيوَانِ، وَخَاطَبُوا فِي إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ، فَأُجِيبَ إِلَيْهَا، وَخُطِبَ لَهُ، وَلُقِّبَ بِأَلْقَابِ جَدِّهِ مَلِكْشَاهْ، وَهِيَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَلْقَابِ، وَنُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ لَهُ.

ذِكْرُ حَصْرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ جَكَرْمِشَ بِالْمَوْصِلِ
لَمَّا اصْطَلَحَ السُّلْطَانُ بَرْكِيَارُقُ وَالسُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ، وَسَلَّمَ مُحَمَّدٌ مَدِينَةَ أَصْبَهَانَ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، وَسَارَ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ مُحَمَّدٌ بِتِبْرِيزَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ إِلَى أَنْ وَصَلَ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا وَصَلُوا اسْتَوْزَرَ سَعْدَ الْمُلْكِ أَبَا الْمَحَاسِنِ لِحُسْنِ أَثَرِهِ الَّذِي كَانَ فِي حِفْظِ أَصْبَهَانَ، وَأَقَامَ إِلَى صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارَ إِلَى مَرَاغَةَ، ثُمَّ إِلَى أَرْبِلَ يُرِيدُ قَصْدَ جَكَرْمِشَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، لِيَأْخُذَ بِلَادَهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ جَكَرْمِشُ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِ جَدَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ، وَرَمَّ مَا احْتَاجَ إِلَى إِصْلَاحٍ، وَأَمَرَ أَهْلَ السَّوَادِ بِدُخُولِ الْبَلَدِ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي نَهْبِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ.
وَحَصَرَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى جَكَرْمِشَ يَذْكُرُ لَهُ الصُّلْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَقَرَّ أَنْ تَكُونَ الْمَوْصِلُ وَبِلَادُ الْجَزِيرَةِ لَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْكُتُبَ مِنْ بَرْكِيَارُقَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَالْأَيْمَانَ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَطَعْتَ فَأَنَا لَا آخُذُهَا مِنْكَ بَلْ أُقِرُّهَا بِيَدِكَ، وَتَكُونُ الْخُطْبَةُ لِي بِهَا، فَقَالَ جَكَرْمِشُ: إِنَّ كُتُبَ السُّلْطَانِ وَرَدَتْ إِلَيَّ، بَعْدَ الصُّلْحِ، تَأْمُرُنِي أَنْ لَا أُسَلِّمَ الْبَلَدَ إِلَى غَيْرِهِ.
فَلَمَّا رَأَى مُحَمَّدٌ امْتِنَاعَهُ بَاكَرَهُ الْقِتَالَ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ بِالنَّقَّابِينِ، وَالدَّبَّابَاتِ، وَقَاتَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا لِمَحَبَّتِهِمْ لِجَكَرْمِشَ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ، فَأَمَرَ جَكَرْمِشُ فَفُتِحَ فِي السُّورِ أَبْوَابٌ لِطَافٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الرَّجَّالَةُ يُقَاتِلُونَ، فَكَانُوا يُكْثِرُونَ الْقَتْلَ فِي الْعَسْكَرِ، ثُمَّ زَحَفَ مُحَمَّدٌ مَرَّةً، فَنَقَّبَ فِي السُّورِ أَصْحَابُهُ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ عَمَّرَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَشَحَنُوهُ بِالْمُقَاتِلَةِ، وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ رَخِيصَةً فِي الْحِصَارِ: كَانَتِ الْحِنْطَةُ تُسَاوِي كُلُّ ثَلَاثِينَ مَكُّوكًا بِدِينَارٍ، وَالشَّعِيرُ كُلُّ خَمْسِينَ مَكُّوكًا بِدِينَارٍ.
وَكَانَ بَعْضُ عَسْكَرِ جَكَرْمِشَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَلِّ يَعْفَرَ، فَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ

(8/504)


الْعَسْكَرِ، وَيَمْنَعُونَ الْمِيرَةَ عَنْهُمْ، فَدَامَ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ إِلَى عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى جَكَرْمِشَ بِوَفَاةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَأَحْضَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ، فَقَالُوا: أَمْوَالُنَا وَأَرْوَاحُنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنْتَ أَعْرَفُ بِشَأْنِكَ، فَاسْتَشِرِ الْجُنْدَ، فَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ.
فَاسْتَشَارَ أُمَرَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمَّا كَانَ السُّلْطَانُ حَيًّا قَدْ كُنَّا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ طُرُوقِ بَلَدِنَا، وَحَيْثُ تُوُفِّيَ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ الْيَوْمَ سُلْطَانٌ غَيْرَ هَذَا، وَالدُّخُولُ تَحْتَ طَاعَتِهِ أَوْلَى.
فَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدٍ يَبْذُلُ الطَّاعَةَ، وَيَطْلُبُ وَزِيرَهُ سَعْدَ الْمُلْكِ لِيَدْخُلَ إِلَيْهِ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ عِنْدَهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَحْضُرَ السَّاعَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُكَ فِي جَمِيعِ مَا تَلْتَمِسُهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَقَامَ، فَسَارَ مَعَهُ جَكَرْمِشُ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ الْمَوْصِلِ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى السُّلْطَانِ، جَعَلُوا يَبْكُونَ، وَيَضِجُّونَ، وَيَحْثُونَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُ، وَعَانَقَهُ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ الْجُلُوسِ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ إِلَيْكَ، وَهُمْ مُتَطَلِّعُونَ إِلَى عَوْدِكَ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَعَادَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ، وَسَأَلَ السُّلْطَانَ مِنَ الْغَدِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ لِيُزَيَّنَ لَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَمِلَ سِمَاطًا، بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ، عَظِيمًا، وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَلِوَزِيرِهِ أَشْيَاءَ جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ.

ذِكْرُ وُصُولِ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ وَصُلْحِهِ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ وَالْأَمِيرِ إِيَازَ
لَمَّا وَصَلَ خَبَرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ يُحَاصِرُ الْمَوْصِلَ، جَلَسَ لِلْعَزَاءِ، وَأَصْلَحَ جَكَرْمِشَ، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ وَمَعَهُ سُكْمَانُ الْقُطْبِيُّ، وَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى قُطْبِ الدَّوْلَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَاقُوتِي بْنِ دَاوُدَ، وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُ عَمِّ مَلِكْشَاهْ، وَسَارَ مَعَهُ جَكَرْمِشُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ.
وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، قَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَعَشَرَةَ آلَافِ رَاجِلٍ، وَأَرْسَلَ وَلَدَيْهِ بَدْرَانَ وَدُبَيْسًا إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَاسْتَصْحَبَهُمَا مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ.

(8/505)


فَلَمَّا سَمِعَ الْأَمِيرُ إِيَازُ بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِ خَرَجَ هُوَ وَالْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُ مِنَ الدُّورِ، وَنَصَبُوا الْخِيَامَ بِالزَّاهِرِ، خَارِجَ بَغْدَاذَ، وَجَمَعَ الْأُمَرَاءَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ، فَبَذَلُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَالْيَمِينَ عَلَى قِتَالِهِ وَحَرْبِهِ، وَمَنْعِهِ عَنِ السَّلْطَنَةِ، وَالِاتِّفَاقِ مَعَهُ عَلَى طَاعَةِ مَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ.
وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ يَنَّالُ وَصَبَاوَةُ، فَإِنَّهُمَا بَالَغَا فِي الْإِطْمَاعِ فِي السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَالْمَنْعِ لَهُ عَنِ السَّلْطَنَةِ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا قَالَ لَهُ وَزِيرُهُ الصَّفِيُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ: يَا مَوْلَانَا إِنَّ حَيَاتِي مَقْرُونَةٌ بِثَبَاتِ نِعْمَتِكَ وَدَوْلَتِكَ، وَأَنَا أَكْثَرُ الْتِزَامًا بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ الرَّأْيُ مَا أَشَارُوا بِهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقًا، وَأَنْ يُقِيمَ سُوقًا لِنَفْسِهِ بِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ يُنَاوِئُكَ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَإِنَّمَا يَقْعُدُ بِهِمْ عَنْ مُنَازَعَتِكَ قِلَّةُ الْعَدَدِ وَالْمَالِ، وَالصَّوَابُ مُصَالَحَةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَطَاعَتُهُ، وَهُوَ يُقِرُّكَ عَلَى إِقْطَاعِكَ، وَيَزِيدُكَ عَلَيْهِ مَهْمَا أَرَدْتَ.
فَتَرَدَّدَ رَأْيُ الْأَمِيرِ إِيَازَ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالْمُبَايَنَةِ، إِلَّا أَنَّ حَرَكَتَهُ فِي الْمُبَايَنَةِ ظَاهِرَةٌ، وَجَمَعَ السُّفُنَ الَّتِي بِبَغْدَاذَ عِنْدَهُ، وَضَبَطَ الْمَشَارِعَ مِنْ مُتَطَرِّقٍ إِلَى عَسْكَرِهِ وَإِلَى الْبَلَدِ.
وَوَصَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَاذَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَنَزَلَ عِنْدَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ بِأَعْلَى بَغْدَاذَ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَلِمَلِكْشَاهْ بْنِ بَرْكِيَارُقَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَأَمَّا جَامِعُ الْمَنْصُورِ فَإِنَّ الْخَطِيبَ قَالَ فِيهِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ سُلْطَانَ الْعَالَمِ! وَسَكَتَ.
وَخَافَ النَّاسُ مِنِ امْتِدَادِ الشَّرِّ وَالنَّهْبِ، فَرَكِبَ إِيَازُ فِي عَسْكَرِهِ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الْحَرْبِ، وَسَارَ إِلَى أَنْ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَعَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ، فَدَعَا الْأُمَرَاءَ إِلَى الْيَمِينِ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى الْمُخَالَصَةِ لِمَلِكْشَاهْ، فَأَجَابَ الْبَعْضُ، وَتَوَقَّفَ الْبَعْضُ، وَقَالُوا: قَدْ حَلَفْنَا مَرَّةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي إِعَادَةِ الْيَمِينِ، لِأَنَّنَا إِنْ وَفَّيْنَا بِالْأُولَى وَفَّيْنَا بِالثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ نَفِ بِالْأُولَى فَلَا نَفِي بِالثَّانِيَةِ.
فَأَمَرَ إِيَازُ حِينَئِذٍ وَزِيرَهُ الصَّفِيَّ أَبَا الْمَحَاسِنِ بِالْعُبُورِ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ فِي الصُّلْحِ،

(8/506)


وَتَسْلِيمِ السَّلْطَنَةِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مُنَازَعَتِهِ فِيهَا، فَعَبَرَ يَوْمَ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ إِلَى عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ بِوَزِيرِهِ سَعْدِ الْمُلْكِ أَبِي الْمَحَاسِنِ سَعْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَعَرَّفَهُ مَا جَاءَ فِيهِ، فَحَضَرَا عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَأَدَّى الصَّفِيُّ رِسَالَةَ صَاحِبِهِ إِيَازَ، وَاعْتِذَارَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُ أَيَّامَ بَرْكِيَارُقَ، فَأَجَابَهُ مُحَمَّدٌ جَوَابًا لَطِيفًا سَكَّنَ بِهِ قَلْبَهُ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَأَجَابَ إِلَى مَا الْتُمِسَ مِنْهُ مِنَ الْيَمِينِ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَالنَّقِيبَانِ، وَالصَّفِيُّ وَزِيرُ إِيَازَ، عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ وَزِيرُهُ سَعْدُ الْمُلْكِ: إِنَّ إِيَازَ يَخَافُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْعَهْدَ لِمَلِكْشَاهْ ابْنِ أَخِيكَ، وَلِنَفْسِهِ، وَلِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ. فَقَالَ السُّلْطَانُ: أَمَّا مَلِكْشَاهْ فَإِنَّهُ وَلَدِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَخِي، وَأَمَّا إِيَازُ وَالْأُمَرَاءُ فَأَحْلِفُ لَهُمْ، إِلَّا يَنَّالَ الْحُسَامِيَّ وَصَبَاوَةَ، فَاسْتَحْلَفَهُ إِلْكَيَّا الْهَرَّاسُ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، عَلَى ذَلِكَ، وَحَضَرَ الْجَمَاعَةُ الْيَمِينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ حَضَرَ الْأَمِيرُ إِيَازُ عِنْدَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَلَقِيَهُ وَزِيرُ السُّلْطَانِ، وَالنَّاسُ كَافَّةً، وَوَصَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَدَخَلَا جَمِيعًا إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُمَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، وَقِيلَ بَلْ رَكِبَ السُّلْطَانُ وَلَقِيَهُمَا، وَوَقَفَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ إِلَى شَعْبَانَ، وَسَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَفَعَلَ فِيهَا مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ قَتْلِ الْأَمِيرِ إِيَازَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، قُتِلَ الْأَمِيرُ إِيَازُ، قَتَلَهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ إِيَازَ لَمَّا سَلَّمَ السَّلْطَنَةَ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ صَارَ فِي جُمْلَتِهِ، وَاسْتَخْلَفَهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا كَانَ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَمِلَ دَعْوَةً عَظِيمَةً فِي دَارِهِ، وَهِيَ دَارُ كُرَاهْرَائِينَ، وَدَعَا السُّلْطَانَ إِلَيْهَا، وَقَدَّمَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ جُمْلَتِهِ الْحَبْلُ الْبُلْخُشُ الَّذِي أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَحَضَرَ مَعَ السُّلْطَانِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ.

(8/507)


وَكَانَ مِنْ الِاتِّفَاقِ الرَّدِيءِ أَنَّ إِيَازَ تَقَدَّمَ إِلَى غِلْمَانِهِ لِيَلْبَسُوا السِّلَاحَ مِنْ خِزَانَتِهِ، لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَبْهَرَ يَتَطَايَبُ مَعَهُمْ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، مَعَ كَوْنِهِ يَتَصَوَّفُ، فَقَالُوا لَهُ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نُلْبِسَكَ دِرْعًا وَنَعْرِضَكَ، فَأَلْبَسُوهُ الدِّرْعَ تَحْتَ قَمِيصِهِ، وَتَنَاوَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَلِشِدَّةِ مَا فَعَلُوا بِهِ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ بَيْنَ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ مُعْتَصِمًا بِهِمْ، فَرَآهُ السُّلْطَانُ مَذْعُورًا، وَعَلَيْهِ لِبَاسٌ عَظِيمٌ، فَاسْتَرَابَ بِهِ، فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ بِالتُّرْكِيَّةِ لِيَلْمِسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَفَعَلَ، فَرَأَى الدِّرْعَ تَحْتَ قَمِيصِهِ، فَأَعْلَمَ السُّلْطَانَ بِذَلِكَ، فَاسْتَشْعَرَ، وَقَالَ: إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْعَمَائِمِ قَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، فَكَيْفَ الْأَجْنَادُ! وَقَوِيَ اسْتِشْعَارُهُ لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، فَنَهَضَ وَفَارَقَ الدَّارَ وَعَادَ إِلَى دَارِهِ.
فَلَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ الشَّهْرِ اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ الْأَمِيرَ صَدَقَةَ، وَإِيَازَ، وَجَكَرْمَشَ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا حَضَرُوا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ قَصَدَ دِيَارَ بَكْرٍ لِيَتَمَلَّكَهَا، وَسَيَّرَ مِنْهَا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَجْتَمِعَ آرَاؤُهُمْ عَلَى مَنْ يَسِيرُ إِلَيْهِ لِيَمْنَعَهُ وَيُقَاتِلَهُ، فَقَالَ: الْجَمَاعَةُ: لَيْسَ لِهَذَا غَيْرُ الْأَمِيرِ إِيَازَ، فَقَالَ إِيَازُ: يَنْبَغِي أَنْ نَجْتَمِعَ أَنَا وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَالدَّفْعِ لِهَذَا الْقَاصِدِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَسْتَدْعِي إِيَازَ، وَصَدَقَةَ، وَالْوَزِيرَ سَعْدَ الْمُلْكِ لِيُحَرَّرَ الْأَمْرُ فِي حَضْرَتِهِ، فَنَهَضُوا لِيَدْخُلُوا إِلَيْهِ.
وَكَانَ قَدْ أَعَدَّ جَمَاعَةً مِنْ خَوَاصِّهِ لِيَقْتُلُوا إِيَازَ إِذَا دَخَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا ضَرَبَ أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ فَأَبَانَهُ. فَأَمَّا صَدَقَةُ فَغَطَّى وَجْهَهُ بِكُمِّهِ، وَأَمَّا الْوَزِيرُ فَإِنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَلُفَّ إِيَازُ فِي مِسْحٍ وَأُلْقِيَ عَلَى الطَّرِيقِ عِنْدَ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَرَكِبَ عَسْكَرُ إِيَازَ، فَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ دَارِهِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَنْ حَمَاهَا مِنَ النَّهْبِ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ مِنْ يَوْمِهِمْ، وَكَانَ زَوَالُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالدَّوْلَةِ الْكَبِيرَةِ، فِي لَحْظَةٍ، بِسَبَبِ هَزْلٍ وَمِزَاحٍ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ كَفَّنَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَدَفَنُوهُ فِي الْمَقَابِرِ الْمُجَاوِرَةِ لِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي جُمْلَةِ أَمِيرِ آخُرَ، فَاتَّخَذَهُ وَلَدًا، وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوَّةِ، شُجَاعًا، حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ.

(8/508)


وَأَمَّا وَزِيرُهُ الصَّفِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَفَى، ثُمَّ أُخِذَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ سَعْدِ الْمُلْكِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ وَعُمْرُهُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ رِئَاسَةٍ بِهَمَذَانَ.

ذِكْرُ وَفَاةِ سُقْمَانَ بْنِ أُرْتُقَ
كَانَ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، قَدْ كَاتَبَ سُقْمَانَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى نُصْرَتِهِ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَبَذَلَ لَهُ الْمَعُونَةَ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ أَتَاهُ كِتَابُ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، يُخْبِرُهُ أَنَّهُ مَرِيضٌ قَدْ أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يَخَافُ إِنْ مَاتَ، وَلَيْسَ بِدِمَشْقَ مَنْ يَحْمِيهَا، أَنْ يَمْلِكَهَا الْفِرِنْجُ، وَيَسْتَدْعِيهُ لِيُوصِيَ إِلَيْهِ، وَبِمَا يَعْتَمِدُهُ فِي حِفْظِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ عَازِمًا عَلَى أَخْذِ دِمَشْقَ، وَقَصْدِ الْفِرِنْجِ فِي طَرَابُلُسَ، وَإِبْعَادِهِمْ عَنْهَا، فَوَصَلَ إِلَى الْقَرْيَتَيْنِ.
وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِطُغْتِكِينَ، فَخَافَ عَاقِبَةَ مَا صَنَعَ، وَلِقُوَّةِ فَكْرِهِ زَادَ مَرَضُهُ، وَلَامَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى مَا فَرَّطَ فِي تَدْبِيرِهِ، وَخَوَّفُوهُ عَاقِبَةَ مَا فَعَلَ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ رَأَيْتَ سَيِّدَكَ تَاجَ الدَّوْلَةِ لَمَّا اسْتَدْعَاهُ إِلَى دِمَشْقَ لِيَمْنَعَهُ كَيْفَ قَتَلَهُ حِينَ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ يُدِيرُونَ الرَّأْيَ بِأَيِّ حِيلَةٍ يَرُدُّونَهُ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ وَصَلَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَمَاتَ، وَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَعَادُوا بِهِ، فَأَتَاهُمْ فَرَجٌ لَمْ يَحْسِبُوهُ، وَكَانَ مَرَضُهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْخَوَانِيقَ، يَعْتَرِيهِ دَائِمًا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى حِصْنِ كِيفَا، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: بَلْ أَسِيرُ، فَإِنْ عُوفِيتُ تَمَّمْتُ مَا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرَانِي اللَّهُ تَثَاقَلْتُ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، وَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجْلِي كُنْتُ شَهِيدًا سَائِرًا فِي جِهَادٍ. فَسَارُوا، فَاعْتُقِلَ لِسَانُهُ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَ فِي صَفَرٍ، وَبَقِيَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ فِي أَصْحَابِهِ، وَجُعِلَ فِي تَابُوتٍ وَحُمِلَ إِلَى الْحِصْنِ، وَكَانَ حَازِمًا دَاهِيًا، ذَا رَأْيٍ، كَثِيرَ الْخَبَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ أَخْذِهِ لِحِصْنِ كِيفَا.

(8/509)


وَأَمَّا مُلْكُهُ مَارْدِينَ، فَإِنَّ كَرْبُوقَا خَرَجَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَقَصَدَ آمِدَ، وَحَارَبَ صَاحِبَهَا، فَاسْتَنْجَدَ صَاحِبُهَا وَهُوَ تُرْكُمَانِيٌّ، بِسُقْمَانَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَصَافَّ كَرْبُوقَا.
وَكَانَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقَسَنْقَرَ، حِينَئِذٍ، صَبِيًّا قَدْ حَضَرَ مَعَ كَرْبُوقَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ ظَهَرَ سُقْمَانُ، فَأَلْقَى أَصْحَابُ آقَسَنْقَرَ زِنْكِي وَلَدَ صَاحِبِهِمْ بَيْنَ أَرْجُلِ الْخَيْلِ، وَقَالُوا: قَاتِلُوا عَنِ ابْنِ صَاحِبِكُمْ! فَقَاتَلُوا حِينَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ سُقْمَانُ، وَأَسَرُوا ابْنَ أَخِيهِ يَاقُوتِي بْنَ أُرْتُقَ، فَسَجَنَهُ كَرْبُوقَا بِقَلْعَةِ مَارْدِينَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا إِنْسَانًا مُغَنِيًّا لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَطَلَبَ مِنْهُ مَارْدِينَ وَأَعْمَالَهَا، فَأَقْطَعُهُ إِيَّاهَا، فَبَقِيَ يَاقُوتِي فِي حَبْسِهِ مُدَّةً، فَمَضَتْ زَوْجَةُ أُرْتُقَ إِلَى كَرْبُوقَا وَسَأَلَتْهُ إِطْلَاقَهُ، فَأَطْلَقَهُ، فَنَزَلَ عِنْدَ مَارْدِينَ، وَكَانَتْ قَدْ أَعْجَبَتْهُ، فَأَقَامَ لِيَعْمَلَ فِي تَمَلُّكِهَا، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا.
وَكَانَ مَنْ عِنْدَ مَارْدِينَ مِنَ الْأَكْرَادِ قَدْ طَمِعُوا فِي صَاحِبِهَا الْمُغَنِيِّ، وَأَغَارُوا عَلَى أَعْمَالِ مَارْدِينَ عِدَّةَ دُفْعَاتٍ، فَرَاسَلَهُ يَاقُوتِي يَقُولُ: قَدْ صَارَ بَيْنَنَا مَوَدَّةٌ وَصَدَاقَةٌ، وَأُرِيدُ أَنْ أُعَمِّرَ بَلَدَكَ بِأَنْ أَمْنَعَ عَنْهُ الْأَكْرَادَ، وَأُغِيرَ عَلَى الْأَمَاكِنِ، وَآخُذَ الْأَمْوَالَ أُنْفِقُهَا فِي بَلَدِكَ وَأُقِيمُ فِي الرَّبَضِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُغِيرُ مِنْ بَابِ خِلَاطٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَصَارَ يَنْزِلُ مَعَهُ بَعْضُ أَجْنَادِ الْقَلْعَةِ، طَلَبًا لِلْكَسْبِ.
وَهُوَ يُكْرِمُهُمْ، وَلَا يَعْتَرِضُهُمْ، فَأَمِنُوا إِلَيْهِ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَزَلَ مَعَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَلَمَّا عَادُوا مِنَ الْغَارَةِ أَمَرَ بِقَبْضِهِمْ وَتَقْيِيدِهِمْ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَنَادَى مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِيهِمْ: إِنْ فَتَحْتُمُ الْبَابَ، وَإِلَّا ضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ، فَامْتَنَعُوا، فَقَتَلَ إِنْسَانًا مِنْهُمْ، فَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ مَنْ بِهَا إِلَيْهِ وَبَقِيَ بِهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ جَمَعَ جَمَعًا وَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَأَغَارَ عَلَى بَلَدِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ لِجَكَرْمَشَ، فَلَمَّا عَادَ أَصْحَابُهُ بِالْغَنِيمَةِ أَتَاهُمْ جَكَرْمِشُ، وَكَانَ يَاقُوتِي قَدْ أَصَابَهُ مَرَضٌ عَجَزَ مَعَهُ عَنْ لُبْسِ السِّلَاحِ، وَرُكُوبِ الْخَيْلِ، فَحُمِلَ إِلَى فَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَسَقَطَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ جَكَرْمِشُ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَكَى عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى

(8/510)


مَا صَنَعْتَ يَا يَاقُوتِي؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَمَاتَ، وَمَضَتْ زَوْجَةُ أُرْتُقَ إِلَى ابْنِهَا سُقْمَانَ، وَجَمَعَتِ التُّرْكُمَانَ، وَطَلَبَتْ بِثَأْرِ ابْنِ ابْنِهَا، وَحَصَرَ سُقْمَانُ نَصِيبِينَ، وَهِيَ لِجَكَرْمَشَ، فَسَيَّرَ جَكَرْمِشُ إِلَى سُقْمَانَ مَالًا كَثِيرًا سِرًّا، فَأَخَذَهُ وَرَضِيَ، وَقَالَ: إِنَّهُ قُتِلَ فِي الْحَرْبِ، وَلَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ.
وَمَلَكَ مَارْدِينَ بَعْدَ يَاقُوتِي أَخُوهُ عَلِيٌّ، وَصَارَ فِي طَاعَةِ جَكَرْمِشَ، وَاسْتَخْلَفَ بِهَا أَمِيرًا اسْمُهُ عَلِيٌّ أَيْضًا، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ الْوَالِي بِمَارْدِينَ إِلَى سُقْمَانَ يَقُولُ لَهُ: ابْنُ أَخِيكَ يُرِيدُ أَنْ يُسَلِّمَ مَارْدِينَ إِلَى جَكَرْمِشَ، فَسَارَ سُقْمَانُ بِنَفْسِهِ وَتَسَلَّمَهَا، فَجَاءَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ ابْنُ أَخِيهِ وَطَلَبَ إِعَادَةَ الْقَلْعَةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُهَا لِئَلَّا يُخَرَّبَ الْبَيْتُ، فَأَقْطَعَهُ جَبَلَ جُورٍ، وَنَقَلَهُ إِلَيْهِ.
وَكَانَ جَكَرْمِشُ يُعْطِي عَلِيًّا كُلَّ سَنَةٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا أَخَذَ عَمُّهُ سُقْمَانُ مَارْدِينَ مِنْهُ، أَرْسَلَ إِلَى جَكَرْمِشَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمَالَ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَعْطَيْتُكَ احْتِرَامًا لِمَارْدِينَ، وَخَوْفًا مِنْ مُجَاوَرَتِكَ، وَالْآنَ فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، فَلَا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيَّ.

ذِكْرُ حَالِ الْبَاطِنِيَّةِ هَذِهِ السَّنَةَ بِخُرَاسَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ مِنْ طُرَيْثِيثَ، عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِ بَيْهَقَ، وَشَاعَتِ الْغَارَةُ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِي أَهْلِهَا، وَالنَّهْبَ لِأَمْوَالِهِمْ، وَالسَّبْيَ لِنِسَائِهِمْ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى الْهُدْنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَلَمْ يَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَمَّنْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، لِاشْتِغَالِ السَّلَاطِينِ عَنْهُمْ، فَمِنْ جُمْلَةِ فِعْلِهِمْ: أَنَّ قَفَلَ الْحَاجِّ تَجَمَّعَ، هَذِهِ السَّنَةَ، مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْهِنْدِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَوَصَلُوا إِلَى خُوَارِ الرَّيِّ، فَأَتَاهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ وَقْتَ السَّحَرِ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ، وَقَتَلُوهُمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا.
وَقَتَلُوا هَذِهِ السَّنَةَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الْمَشَّاطِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الْخُجَنْدِيِّ، وَكَانَ يُدَرِّسُ بِالرَّيِّ، وَيَعِظُ النَّاسَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنْ كُرْسِيِّهِ أَتَاهُ بَاطِنِيٌّ فَقَتَلَهُ.

(8/511)


ذِكْرُ حَالِ الْفِرِنْجِ هَذِهِ السَّنَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طَنْكِرِي الْفِرِنْجيِّ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَبَيْنَ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، صَاحِبِ حَلَبَ، انْهَزَمَ فِيهَا رِضْوَانُ.
وَسَبَبُهَا أَنَّ طَنْكِرِي حَصَرَ حِصْنَ أَرْتَاحَ، وَبِهِ نَائِبُ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، فَضَيَّقَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ النَّائِبُ بِالْحِصْنِ إِلَى رِضْوَانَ يُعَرِّفُهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ الَّذِي أَضْعَفَ نَفْسَهُ وَيَطْلُبُ النَّجْدَةَ، فَسَارَ رِضْوَانُ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيَّالَةِ، وَسَبْعَةِ آلَافٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ، مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، فَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ قَلِيلٌ، فَلَمَّا رَأَى طَنْكِرِي كَثْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ إِلَى رِضْوَانَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ، فَمَنَعَهُ أَصْبَهْبَذْ صَبَاوَةُ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَهُ، وَصَارَ مَعَهُ بَعْدَ قَتْلِ إِيَازَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الصُّلْحِ، وَاصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ، فَانْهَزَمَتِ الْفِرِنْجُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، ثُمَّ قَالُوا: نَعُودُ وَنَحْمِلُ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا، وَإِلَّا انْهَزَمْنَا، فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَثْبُتُوا، وَانْهَزَمُوا، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَأُسِرَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الرَّجَّالَةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا مُعَسْكَرَ الْفِرِنْجِ لَمَّا انْهَزَمُوا، فَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ، فَقَتَلَهُمُ الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا الشَّرِيدُ فَأُخِذَ أَسِيرًا، وَهَرَبَ مَنْ فِي أَرْتَاحُ إِلَى حَلَبَ، وَمَلَكَهُ الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَرَبَ أَصْبَهْبَذْ صَبَاوَةُ إِلَى طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ بِدِمَشْقَ، فَصَارَ مَعَهُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ.

ذِكْرُ حَرْبِ الْفِرِنْجِ وَالْمِصْرِيِّينَ
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ.
وَسَبَبُهَا أَنَّ الْأَفْضَلَ، وَزِيرَ صَاحِبِ مِصْرَ، كَانَ قَدْ سَيَّرَ وَلَدَهُ شَرَفَ الْمَعَالِي فِي

(8/512)


السَّنَةِ الْخَالِيَةِ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَقَهَرَهُمْ، وَأَخَذَ الرَّمْلَةَ مِنْهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمِصْرِيُّونَ وَالْعَرَبُ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْفَتْحَ لَهُ، فَأَتَاهُمْ سَرِيَّةُ الْفِرِنْجِ، فَتَقَاعَدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ، حَتَّى كَادَ الْفِرِنْجُ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَرَحَلَ عِنْدَ ذَلِكَ شَرَفُ الْمَعَالِي إِلَى أَبِيهِ بِمِصْرَ، فَنَفَّذَ وَلَدَهُ الْآخَرَ، وَهُوَ سَنَاءُ الْمُلْكِ حُسَيْنٌ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ جَمَالُ الْمُلْكِ، النَّائِبُ بِعَسْقَلَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ بِدِمَشْقَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ عَسْكَرًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَصْبَهْبَذْ صَبَاوَةُ وَمَعَهُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ فَارِسٍ.
وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَقَصَدَهُمْ بَغْدَوِينُ الْفِرِنْجيُّ، صَاحِبُ الْقُدْسِ، وَعَكَّةَ، وَيَافَا، فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَثَمَانِيَةِ آلَافِ رَاجِلٍ، فَوَقَعَ الْمَصَافُّ بَيْنَهُمْ بَيْنَ عَسْقَلَانَ وَيَافَا، فَلَمْ تَظْهَرْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَمِنَ الْفِرِنْجِ مِثْلُهُمْ، وَقُتِلَ جِمَالُ الْمُلْكِ، أَمِيرُ عَسْقَلَانَ.
فَلَمَّا رَأْي الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ تَكَافَأُوا فِي النِّكَايَةِ قَطَعُوا الْحَرْبَ وَعَادُوا إِلَى عَسْقَلَانَ، وَعَادَ صَبَاوَةُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ مَعَ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَكْتَاشُ بْنُ تُتُشَ، وَكَانَ طُغْتِكِينُ قَدْ عَدَلَ فِي الْمُلْكِ إِلَى وَلَدِ أَخِيهِ دُقَاقَ، وَهُوَ طِفْلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى قَصْدِ الْفِرِنْجِ، وَالْكَوْنِ مَعَهُمْ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ فَسَادُ التُّرْكُمَانَ بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، إِلَّا أَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ مُرَاقَبَةٌ.
فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ اطَّرَحُوا الْمُرَاقَبَةَ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الشَّنِيعَةَ، فَاسْتَعْمَلَ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ، وَهُوَ شِحْنَةُ الْعِرَاقِ، عَلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ ابْنَ أَخِيهِ بَلْكَ بْنَ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ، وَأَمَرَهُ بِحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، وَمَنْعِ الْفَسَادِ عَنْهُ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ الْقِيَامَ الْمُرْضِيَ، وَحَمَى الْبِلَادَ، وَكَفَّ الْأَيْدِيَ الْمُتَطَاوِلَةَ، وَسَارَ بَلْكُ إِلَى حِصْنِ خَانِيجَارَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ سُرْخَابَ بْنِ بَدْرٍ، فَحَصَرَهُ وَمَلَكَهُ.
وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، جَعَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ سَنْقَرَ الْبُرْسُقِيَّ شِحْنَةً

(8/513)


بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْخَيْرِ، وَالدِّينِ، وَحُسْنِ الْعَهْدِ، لَمْ يُفَارِقْ مُحَمَّدًا فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْكُوفَةَ لِلْأَمِيرِ قَايُمَازَ، وَأَوْصَى صَدَقَةَ أَنْ يَحْمِيَ أَصْحَابَهُ مِنْ خَفَاجَةَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَصَلَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَمَّنَ أَهْلَهَا وَوَثَقُوا بِزَوَالِ مَا كَانَ يَشْمَلُهُمْ مِنَ الْخَبْطِ، وَالْعَسْفِ، وَالْمُصَادَرَةِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ مِنْهَا هَارِبًا مُتَخَفِّيًا، وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا مُتَمَكِّنًا، وَعَدَلَ فِي أَهْلِهَا، وَأَزَالَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَكَفَّ الْأَيْدِيَ الْمُتَطَرِّقَةَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، فَصَارَتْ كَلِمَةُ الْعَامِّيِّ أَقْوَى مِنْ كَلِمَةِ الْجُنْدِيِّ، وَيَدُ الْجُنْدِيِّ قَاصِرَةً عَنِ الْعَامِّيِّ مِنْ هَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَعَدْلِهِ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْجُدَرِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَلَا سِيَّمَا الْعِرَاقُ، فَإِنَّهُ كَانَ بِهِ كُلِّهِ، وَمَاتَ بِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ مَا لَا يُحْصَى، وَتَبِعَهُ وَبَاءٌ كَثِيرٌ، وَمَوْتٌ عَظِيمٌ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيُّ، الْحَافِظُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ ابْنَ غَيْلَانَ، وَالْبَرْمَكِيَّ، وَالْعُشَارِيَّ وَغَيْرَهُمْ.
وَتُوُفِّيَ أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَقَّالُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الْبَرْقَانِيَّ، وَأَبَا عَلِيِّ بْنَ شَاذَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

(8/514)


وَفِي رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الصَّقْرِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ أَدِيبًا، شَاعِرًا، فَمِنْ قَوْلِهِ:
مَنْ قَالَ لِي جَاهٌ، وَلِي حِشْمَةٌ
،
وَلِي قَبُولٌ عِنْدَ مَوْلَانَا ... وَلَمْ يَعُدْ ذَاكَ بِنَفْعٍ عَلَى
صَدِيقِهِ، لَا كَانَ مَنْ كَانَا
وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ أَبُو نَصْرٍ ابْنُ أُخْتِ ابْنِ الْمُوصَلَايَا، وَكَانَ كَاتِبًا لِلْخَلِيفَةِ جَيِّدَ الْكِتَابَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَهْلُهُ نَصَارَى، فَلَمْ يَرِثُوهُ، وَكَانَ يَبْخَلُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، وَأَبُو الْمُؤَيَّدِ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الْغَزْنَوِيُّ، كَانَ وَاعِظًا، شَاعِرًا، كَاتِبًا، قَدِمَ بَغْدَاذَ، وَوَعَظَ بِهَا، وَنَصَرَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ، وَخَرَجَ مِنْهَا، فَمَاتَ بِإِسْفَرَايِينَ.

(8/515)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
499 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ مَنْكُبْرُسَ عَلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي مُحَرَّمٍ، أَظْهَرَ مَنْكُبْرُسُ ابْنُ الْمَلِكِ بُورْبَرْسَ بْنِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَهُوَ عَمُّ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، الْعِصْيَانَ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَالْخِلَافَ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِأَصْبَهَانَ، فَلَحِقَتْهُ ضَائِقَةٌ شَدِيدَةٌ، وَانْقَطَعَتِ الْمَوَادُّ عَنْهُ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَسَارَ إِلَى نَهَاوَنْدَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَظَاهَرَهُ عَلَى أَمْرِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى نَهَاوَنْدَ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِهَا، وَكَاتَبَ الْأُمَرَاءَ بَنِي بُرْسُقَ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ قَبَضَ عَلَى زَنْكِي بْنِ بُرْسُقَ، فَكَاتَبَ زِنْكِي إِخْوَتَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ طَّاعَةِ مَنْكُبْرُسَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَذَى وَالْخَطَرِ، وَأَمَرَهُمْ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا أَتَاهُمْ كِتَابُ أَخِيهِمْ بِذَلِكَ أَرْسَلُوا إِلَى مَنْكُبْرُسَ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَسَارُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا بِهِ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهِيَ بَلَدُ خُوزِسْتَانَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، أَخَذُوا مَنْكُبْرُسَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَاعْتَقَلَهُ السُّلْطَانُ مَعَ بَنِي عَمِّهِ تُكُشَ، وَأَخْرَجَ زِنْكِي بْنَ بُرْسُقَ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَرْتَبَتِهِ، وَاسْتَنْزَلَهُ وَإِخْوَتَهِ عَنْ أَقْطَاعِهِمْ، وَهِيَ لِيشْتَرُ، وَسَابُورُ خُوَاسْتَ وَغَيْرُهُمَا، مَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ وَهَمَذَانَ، وَأَقْطَعَهُمْ عِوَضَهَا الدِّينَوَرَ وَغَيْرَهَا.

(8/516)


وَاتَّفَقَ أَنْ ظَهَرَ بِنَهَاوَنْدَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَجُلٌ مِنَ السَّوَادِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَأَطَاعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ السَّوَادِيَّةِ، اتَّبَعُوهُ، وَبَاعُوا أَمْلَاكَهُمْ وَدَفَعُوا إِلَيْهِ أَثْمَانَهَا، فَكَانَ يَخْرُجُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَسَمَّى أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَقُتِلَ بِنَهَاوَنْدَ، فَكَانَ أَهْلُهَا يَقُولُونَ: ظَهَرَ عِنْدَنَا، فِي مُدَّةِ شَهْرَيْنِ، اثْنَانِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا النُّبُوَّةَ، وَالْآخَرُ الْمَمْلَكَةَ، فَلَمْ يَتِمَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرُهُ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ طُغْتِكِينَ والْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَبَيْنَ قُمَّصٍ كَبِيرٍ مَنْ قَمَامِصَةِ الْفِرِنْجِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ تَكَرَّرَتِ الْحُرُوبُ، وَالْمُغَاوَرَاتُ، بَيْنَ عَسْكَرِ دِمَشْقَ وَبَغْدَوِينَ، فَتَارَةً لِهَؤُلَاءِ وَتَارَةً لَهُ، فَفِي آخِرِ الْأَمْرِ بَنَى بَغْدَوِينُ حِصْنًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِمَشْقَ نَحْوَ يَوْمَيْنِ، فَخَافَ طُغْتِكِينُ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ، وَمَا يَحْدُثُ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَخَرَجَ إِلَى مُقَاتَلَتِهِمْ، فَسَارَ بَغْدَوِينُ مَلِكُ الْقُدْسِ، وَعَكَّا، وَغَيْرِهِمَا، إِلَى هَذَا الْقُمَّصِ لِيُعَاضِدَهُ، وَيُسَاعِدَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَرَّفَهُ الْقُمَّصُ غِنَاهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مُقَارَعَةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ قَاتَلُوهُ، فَعَادَ بَغْدَوِينُ إِلَى عَكَّا.
وَتَقَدَّمَ طُغْتِكِينُ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَمِيرَانِ مِنْ عَسْكَرِ دِمَشْقَ، فَتَبِعَهُمَا طُغْتِكِينُ وَقَتَلَهُمَا، وَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ إِلَى حِصْنِهِمْ، فَاحْتَمَوْا بِهِ، فَقَالَ طُغْتِكِينُ: مَنْ أَحْسَنَ قِتَالَهُمْ وَطَلَبَ مِنِّي أَمْرًا فَعَلْتُهُ مَعَهُ، وَمَنْ أَتَانِي بِحَجَرٍ مِنْ حِجَارَةِ الْحِصْنِ أَعْطَيْتُهُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ. فَبَذَلَ الرَّجَّالَةُ نُفُوسَهُمْ، وَصَعِدُوا إِلَى الْحِصْنِ وَخَرَّبُوهُ، وَحَمَلُوا حِجَارَتَهُ إِلَى طُغْتِكِينَ، فَوَفَّى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ، وَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحِجَارَةِ

(8/517)


فِي الْوَادِي، وَأَسَرُوا مَنْ بِالْحِصْنِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ، وَاسْتَبْقَى الْفُرْسَانَ أُسَرَاءَ، وَكَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَلَمْ يَنْجُ مِمَّنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَعَادَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ مَنْصُورًا، فَزُيِّنَ الْبَلَدُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ.
وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى رَفَنِيَةَ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِ الشَّامِ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ الْفِرِنْجُ، وَصَاحِبُهُ ابْنُ أُخْتِ صَنْجِيلَ الْمُقِيمِ عَلَى حِصَارِ طَرَابُلُسَ، فَحَصَرَهُ طُغْتِكِينُ، وَمَلَكَهُ، وَقَتَلَ بِهِ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْفِرِنْجِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ.
وَسَبَبُهَا: أَنَّ رَجُلًا مِنْ عُبَادَةَ أَخَذَ مِنْهُ جَمَاعَةُ خَفَاجَةَ جَمَلَيْنِ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ وَطَالَبَهُمْ بِهِمَا، فَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا، فَأَخَذَ مِنْهُمْ غَارَةً أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، فَلَحِقَتْهُ خَفَاجَةُ، وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ رَجُلًا، وَقَطَعُوا يَدَ آخَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْمَوْقِفِ مِنَ الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ أَهْلُهَا.
فَسَمِعَتْ عُبَادَةُ الْخَبَرَ، فَتَوَاعَدَتْ، وَانْحَدَرَتْ إِلَى الْعِرَاقِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهَا، وَسَارُوا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَائِهِمْ، فَبَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ سَبْعَمِائَةِ فَارِسٍ، وَكَانَتْ خَفَاجَةُ دُونَ هَذِهِ الْعِدَّةِ، فَرَاسَلَتْهُمْ خَفَاجَةُ يَبْذُلُونَ الدِّيَةَ وَيَصْطَلِحُونَ، فَلَمْ تُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ عُبَادَةُ، وَأَشَارَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، فَلَمْ تَقْبَلْ عُبَادَةُ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ، وَمَعَ عُبَادَةَ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ بَيْنَ الْبُيُوتِ، فَكَمَّنَتْ لَهُمْ خَفَاجَةُ ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، وَقَاتَلُوهُمْ مُطَارَدَةً مِنْ غَيْرِ جِدٍّ فِي الْقِتَالِ، فَدَامُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ، وَاخْتَلَطُوا، حَتَّى تَرَكُوا الرِّمَاحَ، وَتَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَعْيَا الْفَرِيقَانِ، إِذْ طَلَعَ كَمِينُ خَفَاجَةَ، وَهُمْ مُسْتَرِيحُونَ، فَانْهَزَمَتْ عُبَادَةُ، وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهِمْ خَفَاجَةُ، وَقُتِلَ مِنْ وُجُوهِ عُبَادَةَ

(8/518)


اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْ خَفَاجَةَ جَمَاعَةٌ، وَغَنِمَتْ خَفَاجَةُ الْأَمْوَالَ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْأَبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ قَدْ أَعَانَ خَفَاجَةَ سِرًّا، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَيْهِ هَنَّأَهُمْ صَدَقَةُ بِالسَّلَامَةِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَازِلْتُ أُقَاتِلُ، وَأُضَارِبُ،، أَنَا طَامِعٌ فِي الظَّفَرِ بِهِمْ، حَتَّى رَأَيْتُ فَرَسَكَ الشَّقْرَاءَ تَحْتَ أَحَدِهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ أَجْلَبُوا عَلَيْنَا بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكِ، وَأَنَّنَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، فَنُصِرُوا عَلَيْنَا بِمَعُونَتِكَ، وَفَلُّونَا بِحَدِّكَ. فَلَمْ يُجِبْهُ صَدَقَةُ.

ذِكْرُ مُلْكِ صَدَقَةَ الْبَصْرَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، انْحَدَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْحِلَّةِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَلَكَهَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَمَكُّنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَرْسِلَانَجِقْ مِنَ الْبَصْرَةِ وَنَوَاحِيهَا، وَأَقَامَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ نَافِذَ الْأَمْرِ، وَازْدَادَ قُوَّةً وَتَمَكُّنًا بِالِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ السَّلَاطِينِ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ السُّلْطَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ رَاسَلَ صَدَقَةَ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ فِي طَاعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ مُقْطَعًا يَأْخُذُهَا مِنْ إِسْمَاعِيلَ، فَخَاطَبَ صَدَقَةُ فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى أُقِرَّتِ الْبَصْرَةُ عَلَيْهِ، فَأَنْفَذَ السُّلْطَانَ عَمِيدًا إِلَيْهَا لِيَتَوَلَّى مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ هُنَاكَ، فَمَنَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، وَفَعَلَ مَا خَرَجَ بِهِ عَنْ حَدِّ الْمُجَامَلَةِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ صَدَقَةَ بِقَصْدِهِ، وَأَخْذِ الْبَصْرَةِ مِنْهُ، فَتَحَرَّكَ لِذَلِكَ.
فَاتَّفَقَ ظُهُورُ مَنْكُبْرُسَ، وَخِلَافُهُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ وَاسِطَ، فَسُرَّ إِسْمَاعِيلُ بِذَلِكَ، وَزَادَ انْبِسَاطُهُ، وَأَرْسَلَ صَدَقَةُ حَاجِبًا لَهُ، وَكَانَ قَبْلَهُ قَدْ خَدَمَ أَبَاهُ وَجَدَّهُ، إِلَى إِسْمَاعِيلَ يَأْمُرُهُ بِتَسْلِيمِ الشُّرْطَةِ وَأَعْمَالِهَا إِلَى مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ، فَوَصَلَ إِلَى الشُّرْطَةِ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَحْضَرَهُ إِسْمَاعِيلُ وَحَبَسَهُ، وَأَخَذَ الدَّنَانِيرَ مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى صَدَقَةُ مُكَاشَفَتَهُ سَارَ مِنْ حِلَّتِهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ الرَّحْبَةِ، ثُمَّ جَدَّ السَّيْرَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِسْمَاعِيلُ إِلَّا بِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَفَرَّقَ

(8/519)


أَصْحَابَهُ فِي الْقِلَاعِ الَّتِي اسْتَجَدَّهَا بِمَطَارَا وَنَهْرِ مَعْقِلٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَاعْتَقَلَ وُجُوهَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَالْعَلَوِيِّينَ، وَقَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَمُدَرَّسَهَا، وَأَعْيَانَ أَهْلِهَا.
وَنَازَلَهُمْ صَدَقَةُ، فَجَرَى قِتَالٌ بَيْنَ طَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، قُتِلَ فِيهِ أَبُو النَّجْمِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْوَرَّامِيُّ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، فَمِمَّا مُدِحَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وِرُثِيَ بِهِ أَبُو النَّجْمِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
تَهَنَّ، يَا خَيْرَ مَنْ يَحْمِي حَرِيمَ حِمًى
،
فَتْحًا أَغَثْتَ بِهِ الدُّنْيَا مَعَ الدِّينِ ... رَكِبْتَ لِلْبَصْرَةِ الْغَرَّاءِ فِي نُخَبٍ
غُرٍّ، كَجَيْشِ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينِ ... هَوَى أَبُو النَّجْمِ كَالنَّجْمِ الْمُنِيرِ بِهَا
لَكِنَّهُ كَانَ رَجْمًا لِلشَّيَاطِينِ
وَأَقَامَ صَدَقَةُ مُحَاصِرًا لِإِسْمَاعِيلَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَشَارَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِالْعَوْدِ عَنْهَا، وَأَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَظْفَرُونَ بِطَائِلٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالْمُقَامِ، وَقَالُوا: إِنَ رَحَلْنَا كَانَتْ كَسْرَةً، وَكَانَ رَأْيُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الْمُقَامَ، وَقَالَ: إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيَّ فَتْحُ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطِعْنِي أَحَدٌ، وَاسْتَعْجَزَنِي النَّاسُ.
ثُمَّ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَاتَلَ صَدَقَةَ، فَسَارَ بَعْضُ أَصْحَابِ صَدَقَةَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْبَلَدِ، وَدَخَلُوهُ، وَقَتَلُوا مِنَ السَّوَادِيَّةِ، الَّذِينَ جَمَعَهُمْ إِسْمَاعِيلُ، خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى قَلْعَتِهِ بِالْجَزِيرَةِ، فَأَدْرَكَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَفَدَاهُ أَحَدُ غِلْمَانِهِ بِنَفْسِهِ، فَوَقَعَتِ الضَّرْبَةُ فِيهِ فَأَثْخَنَتْهُ، فَنُهِبَتِ الْبَصْرَةُ، وَغَنِمَ مَنْ مَعَهُ مِنْ عَرَبِ الْبَرِّ، وَغَيْرِهِمْ مَا فِيهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْمَحَلَّةُ الْمُجَاوِرَةُ لِقَبْرِ طَلْحَةَ وَالْمِرْبَدُ، فَإِنَّ الْعَبَّاسِيِّينَ دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ النِّظَامِيَّةَ وَامْتَنَعُوا بِهَا، وَحَمَوُا الْمِرْبَدَ، وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَامْتَنَعَ إِسْمَاعِيلُ بِقَلْعَتِهِ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمُهَذَّبَ بْنَ أَبِي الْجَبْرِ انْحَدَرَ فِي سُفُنٍ كَثِيرَةٍ، وَأَخَذَ الْقَلْعَةَ الَّتِي لِإِسْمَاعِيلَ بِمَطَارَا، وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ، وَحَمَلَ إِلَى صَدَقَةَ كَثِيرًا فَأَطْلَقَهُمْ.
فَلَمَّا عَلِمَ إِسْمَاعِيلُ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى صَدَقَةَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَأَمْوَالِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجَّلَهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَأَخَذَ كُلَّ مَا يُمْكِنُهُ حَمْلُهُ مِمَّا يَعُزُّ عَلَيْهِ،

(8/520)


وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهِ أَهْلَكَهُ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَنَزَلَ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَأَمَّنَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ أَهْلَ الْبَصْرَةِ مِنْ كُلِّ أَذًى، وَرَتَّبَ عِنْدَهُمْ شِحْنَةً، وَعَادَ إِلَى الْحِلَّةِ ثَالِثَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِالْبَصْرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ لَمَّا سَارَ صَدَقَةُ إِلَى الْحِلَّةِ قَصَدَ هُوَ الْبَاسِيَانَ إِلَى أَنْ وَصَلَهُ مَالُهُ فِي الْمَرَاكِبِ، وَسَارَ نَحْوَ فَارِسَ، وَصَارَ يَتَعَنَّتُ أَصْحَابَهُ، وَزَوْجَتَهُ، وَقُبِضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّهِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ سَقَيْتُمْ وَلَدِي أَفْرَاسِيَابَ السُّمَّ حَتَّى مَاتَ! وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، حَتَّى زَوْجَتُهُ فَارَقَتْهُ وَسَارَتْ إِلَى بَغْدَاذَ.
وَأَخَذَتْهُ الْحُمَّى، وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ رَامَهُرْمُزَ انْفَرَدَ فِي خَيْمَتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَظَهَرَ لَهُمْ مَوْتُهُ، فَنَهَبُوا مَالَهُ وَتَفَرَّقُوا، فَأَرْسَلَ الْأَمِيرُ بِرَامَهُرْمُزَ فَرَدَّهُمْ وَأَخَذَ مَا مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ إِيذَاجَ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ قَدْ حَسُنَتْ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَخِيرًا.

ذِكْرُ حَصْرِ رِضْوَانَ نَصِيبِينَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَصَرَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ بْنُ تُتُشَ نَصِيبِينَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى حَرْبِ الْفِرِنْجِ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ:
إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ، الَّذِي كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، وَأَصْبَهْبَذ صَبَاوَةُ، وَأَلْبِي بْنُ أَرْسَلَانَ تَاشْ، صَاحِبُ سِنْجَارَ، وَهُوَ صِهْرُ جَكَرْمِشَ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقَالَ إِيلْغَازِي: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَقْصِدُ بِلَادَ جَكَرْمِشَ، وَمَا وَالَاهَا، فَنَمْلِكُهَا، وَنَتَكَثَّرُ بِعَسْكَرِهَا وَالْأَمْوَالِ. وَوَافَقَهُ أَلْبِي، فَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ فِيهَا أَمِيرَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي عَسْكَرٍ، فَتَحَصَّنُوا بِالْبَلَدِ، وَقَاتَلُوا مِنْ وَرَاءِ السُّورِ، فَرُمِيَ أَلْبِي بْنُ أَرْسِلَانَ تَاشْ بِنُشَّابَةٍ، فَجُرِحَ جَرْحًا شَدِيدًا، فَعَادَ إِلَى سِنْجَارَ.
وَأَمَّا جَكَرْمِشُ فَإِنَّهُ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بِنُزُولِهِمْ عَلَى نَصِيبِينَ، وَهُوَ بِالْحَامَّةِ، الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ طَنْزَةَ، يَتَدَاوَى بِمَائِهَا مِنْ مَرَضِهِ، فَرَحَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَقَدْ أَجَفَلَ إِلَيْهَا أَهْلُ السَّوَادِ، فَخَيَّمَ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ، عَازِمًا عَلَى حَرْبِ رِضْوَانَ، وَاسْتَعْمَلَ الْمُخَادِعَةَ،

(8/521)


فَكَاتَبَ أَعْيَانَ عَسْكَرِ رِضْوَانَ، وَرَغَّبَهُمْ، حَتَّى أَفْسَدَ نِيَّاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِنَصِيبِينَ بِخِدْمَةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، وَبِإِخْرَاجِ الْإِقَامَاتِ إِلَيْهِ مَعَ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى رِضْوَانَ يَبْذُلُ لَهُ خِدْمَتَهُ، وَالدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا قَدْ حَصَرَنِي، وَلَمْ يَبْلُغْ مِنِّي غَرَضًا، فَتَرَحَّلَ عَنْ صُلْحٍ، وَإِنْ قَبَضْتَ عَلَى إِيلْغَازِي الَّذِي قَدْ عَرَفْتَ أَنْتَ وَغَيْرُكَ فَسَادَهُ وَشَرَّهُ فَأَنَا مَعَكَ، وَمُعِينُكَ بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ.
فَاتَّفَقَ هَذَا، وَرِضْوَانُ قَدْ تَغَيَّرَتْ نِيَّتُهُ مَعَ إِيلْغَازِي، فَازْدَادَ تَغَيُّرًا، وَعَزَمَ عَلَى قَبْضِهِ، فَاسْتَدْعَاهُ يَوْمًا، وَقَالَ لَهُ: هَذِهِ بِلَادٌ مُمْتَنِعَةٌ، وَرُبَّمَا اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ عَلَى حَلَبَ، وَالْمَصْلَحَةُ مُصَالَحَةُ جَكَرْمِشَ، وَاسْتِصْحَابُهُ مَعَنَا، فَإِنَّهُ يَسِيرُ بِعَسَاكِرَ كَثِيرَةٍ ظَاهِرَةِ التَّجَمُّلِ، وَنَعُودُ إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعُودُ بِاجْتِمَاعِ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ لَهُ إِيلْغَازِي: إِنَّكَ جِئْتَ بِحُكْمِكَ، وَأَنْتَ الْآنُ بِحُكْمِي لَا أُمَكِّنُكَ مِنَ الْمَسِيرِ بِدُونِ أَخْذِ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَإِنْ أَقَمْتَ، وَإِلَّا بَدَأْتُ بِقِتَالِكَ.
وَكَانَ إِيلْغَازِي قَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِكَثْرَةِ مَنِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَكَانَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ قَدْ وَاعَدَ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَرَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمَرَهُمْ رِضْوَانُ فَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَقَيَّدُوهُ، فَلَمَّا سَمِعَ التُّرْكُمَانُ الْحَالَ أَظْهَرُوا الْخِلَافَ وَالِامْتِعَاضَ، فَفَارَقُوا رِضْوَانَ وَالْتَجَأُوا إِلَى سُورِ الْمَدِينَةِ، وَأَصْعَدَ إِيلْغَازِي إِلَى قَلْعَتِهَا، وَخَرَجَ مَنْ بِنَصِيبِينَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَأَعَانُوهُ، فَلَمَّا رَأَى التُّرْكُمَانُ ذَلِكَ تَفَرَّقُوا، وَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا مِنَ الْمَوَاشِي وَغَيْرِهَا، وَرَحَلَ رِضْوَانُ مِنْ وَقْتِهِ وَسَارَ إِلَى حَلَبَ.
وَكَانَ جَكَرْمِشُ قَدْ رَحَلَ مِنَ الْمَوْصِلِ قَاصِدًا لِحَرْبِ الْقَوْمِ، فَلَمَّا بَلَغَ تَلَّ يَعْفَرَ أَتَاهُ الْمُبَشِّرُونَ بِانْصِرَافِ رِضْوَانِ عَلَى اخْتِلَافٍ وَافْتِرَاقٍ، فَرَحَلَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى سِنْجَارَ، وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ رِضْوَانَ تَسْتَدْعِي مِنْهُ النَّجْدَةَ، وَيَعْتَدُّ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ بإِيلْغَازِي، فَأَجَابَهُ مُغَالَطَةً، وَلَمْ يَفِ لَهُ بِمَا وَعَدَهُ، وَنَازَلَ سِنْجَارَ لِيَشْفِيَ غَيْظَهُ مِنْ صِهْرِهِ أَلْبِي بْنِ أَرْسِلَانَ تَاشْ بِمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ مُعَادَاتِهِ، وَمُظَاهَرَةِ أَعْدَائِهِ، وَكَانَ أَلْبِي عَلَى شِدَّةٍ مِنَ الْمَرَضِ بِالسَّهْمِ الَّذِي أَصَابَهُ عَلَى نَصِيبِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ جَكَرْمِشُ عَلَيْهَا أَمَرَ أَلْبِي أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوهُ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ فِي مِحَفَّةٍ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَأَخَذَ يَعْتَذِرُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، قَالَ: جِئْتُ

(8/522)


مُذْنِبًا، فَافْعَلْ بِي مَا تَرَاهُ.
فَرَقَّ لَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا عَادَ قَضَى نَحْبَهُ، فَلَمَّا مَاتَ عَصَى عَلَى جَكَرْمِشُ مَنْ كَانَ بِسِنْجَارَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْبَلَدِ، فَقَاتَلَهُمْ بَقِيَّةَ رَمَضَانَ، وَشَوَّالًا، وَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ، فَجَاءَ تُمَيْرَكُ أَخُو أَرْسِلَانَ تَاشْ، عَمُّ أَلْبِي، فَأَصْلَحَ حَالَهُ مَعَ جَكَرْمِشَ، وَبَذَلَ لَهُ الْخِدْمَةَ، فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ.

ذِكْرُ مُلْكِ طُغْتِكِينَ بُصْرَى
قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ حَالَ بُكْتَاشَ بْنِ تُتُشَ، وَخُرُوجَهُ مِنْ دِمَشْقَ، وَاتِّصَالَهُ بالْفِرِنْجِ، وَمَعَهُ أَيْتِكِينُ الْحَلَبِيُّ، صَاحِبُ بُصْرَى، وَسَيْرَهُمَا إِلَى الرَّحْبَةِ، وَعَوْدَهُمَا عَنْهَا، فَلَمَّا ضَعُفَتْ أَحْوَالُهُمْ سَارَ طُغْتِكِينُ إِلَى بُصْرَى فَحَصَرَهَا، وَبِهَا أَصْحَابُ أَيْتِكِينَ، فَرَاسَلُوا طُغْتِكِينَ، وَبَذَلُوا لَهُ التَّسْلِيمَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَجَلٍ قَرَّرَهُ بَيْنَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا انْقَضَى الْأَجَلُ، هَذِهِ السَّنَةَ، تَسَلَّمَهَا، وَأَحْسَنَ إِلَى مَنْ بِهَا، وَوَفَّى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِمْ، وَكَثُرَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَمَالَتِ النُّفُوسُ إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوهُ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ حِصْنَ أَفَامِيَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ أَفَامِيَةَ مِنْ بَلَدِ الشَّامِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ خَلَفَ بْنَ مُلَاعِبٍ الْكِلَابِيَّ كَانَ مُتَغَلِّبًا عَلَى حِمْصَ، وَكَانَ الضَّرَرُ بِهِ عَظِيمًا، وَرِجَالُهُ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، فَكَثُرَ الْحَرَامِيَّةُ عِنْدَهُ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسِلَانَ وَأَبْعَدَهُ عَنْهَا، فَتَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ دَخَلَ إِلَى مِصْرَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا، فَأَقَامَ بِهَا.
وَاتَّفَقَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَفَامِيَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ أَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، يَسْتَدْعِي مِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْحِصْنَ، وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، وَطَلَبَ ابْنُ مُلَاعِبٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُقِيمُ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّنِي أَرْغَبُ فِي قِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَأُوثِرُ الْجِهَادَ.
فَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، وَأَخَذُوا رَهَائِنَهُ، فَلَمَّا مَلَكَهُ خَلَعَ طَاعَتَهُمْ وَلَمْ يَرْعَ حَقَّهُمْ

(8/523)


فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُونَهُ بِمَا يَفْعَلُونَهُ بِوَلَدِهِ الَّذِي عِنْدَهُمْ. فَأَعَادَ الْجَوَابَ: إِنَّنِي لَا أَنْزِلُ مِنْ مَكَانِي، وَابْعَثُوا إِلَيَّ بِبَعْضِ أَعْضَاءِ وَلَدِي حَتَّى آكُلَهُ، فَأَيِسُوا مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَقَامَ بِأَفَامِيَةَ يُخِيفُ السَّبِيلَ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ مَلَكُوا سَرْمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ، وَأَهْلُهَا غُلَاةٌ فِي التَّشَيُّعِ، فَلَمَّا مَلَكَهَا الْفِرِنْجُ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا، فَتَوَجَّهَ الْقَاضِي الَّذِي بِهَا إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ وَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحَبَّهُ، وَوَثِقَ بِهِ، فَأَعْمَلَ الْقَاضِي الْحِيلَةَ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي طَاهِرٍ، الْمَعْرُوفِ بِالصَّائِغِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَوُجُوهِ الْبَاطِنِيَّةِ وَدُعَاتِهِمْ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْفَتْكِ بِابْنِ مُلَاعِبٍ، وَأَنْ يُسَلِّمَ أَفَامِيَةَ إِلَى الْمَلِكِ رِضْوَانَ، فَظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، فَأَتَى ابْنُ مُلَاعِبٍ أَوْلَادَهُ، وَكَانُوا قَدْ تَسَلَّلُوا مِنْ مِصْرَ، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَلَغَنَا عَنْ هَذَا الْقَاضِي كَذَا وَكَذَا، وَالرَّأْيُ أَنْ تُعَاجِلَهُ، وَتَحْتَاطَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدِ اشْتَهَرَ وَظَهَرَ.
فَأَحْضَرَهُ ابْنُ مُلَاعِبٍ، فَأَتَاهُ فِي كُمِّهِ مُصْحَفٌ، لِأَنَّهُ رَأَى أَمَارَاتِ الشَّرِّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُلَاعِبٍ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنِّي أَتَيْتُكَ خَائِفًا جَائِعًا، فَأَمَّنْتَنِي، وَأَغْنَيْتَنِي، وَعَزَّزْتَنِي، فَصِرْتُ ذَا مَالٍ وَجَاهٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ حَسَدَنِي عَلَى مَنْزِلَتِي مِنْكَ، وَمَا غَمَرَنِي مِنْ نِعْمَتِكَ سَعَى بِي إِلَيْكَ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَأْخُذَ جَمِيعَ مَا مَعِي، وَأَخْرُجُ كَمَا جِئْتُ.
وَحَلَفَ لَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالنُّصْحِ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ وَأَمَّنُهُ.
وَعَاوَدَ الْقَاضِيَ مُكَاتَبَةَ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الصَّائِغِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَافِقَ رِضْوَانَ عَلَى إِنْفَاذِ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ سَرْمِينَ، وَيُنْفِذُ مَعَهُمْ خَيْلًا مِنْ خُيُولِ الْفِرِنْجِ، وَسِلَاحًا مِنْ أَسْلِحَتِهِمْ، وَرُءُوسًا مِنْ رُءُوسِ الْفِرِنْجِ، يَأْتُوا إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ وَيُظْهِرُوا أَنَّهُمْ غُزَاةً وَيَشْكُوا مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَأَصْحَابِهِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ فَارَقُوهُ، فَلَقِيَهُمْ طَائِفَةٌ

(8/524)


مِنَ الْفِرِنْجِ، فَظَفِرُوا بِهِمْ، وَيَحْمِلُوا جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ اتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى إِعْمَالِ الْحِيلَةِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ابْنُ الصَّائِغِ ذَلِكَ، وَوَصَلَ الْقَوْمُ إِلَى أَفَامِيَةَ، وَقَدِمُوا إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ، وَأَنْزَلَهُمْ فِي رَبَضِ أَفَامِيَةَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي نَامَ الْحُرَّاسُ بِالْقَلْعَةِ، فَقَامَ الْقَاضِي وَمَنْ بِالْحِصْنِ مِنْ أَهْلِ سَرْمِينَ، وَدَلُّوا الْحِبَالَ وَأَصْعَدُوا أُولَئِكَ الْقَادِمِينَ جَمِيعَهُمْ، وَقَصَدُوا أَوْلَادَ ابْنِ مُلَاعِبٍ، وَبَنِي عَمِّهِ، وَأَصْحَابَهُ، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَتَى الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ إِلَى ابْنِ مُلَاعِبٍ، وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَحَسَّ بِهِمْ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ جِئْتُ لِقَبْضِ رُوحِكَ! فَنَاشَدَهُ اللَّهَ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، وَجَرَحَهُ، وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَهَرَبَ ابْنَاهُ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا، وَالْتَحَقَ الْآخَرُ بِأَبِي الْحَسَنِ بْنِ مُنْقِذٍ، صَاحِبِ شَيْزَرَ، فَحَفِظَهُ لِعَهْدٍ كَانَ بَيْنَهُمَا.
وَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ الصَّائِغِ خَبَرَ أَفَامِيَةَ سَارَ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَشُكُّ أَنَّهَا لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِنْ وَافَقْتَنِي، وَأَقَمْتَ مَعِي، فَبِالرَّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَنَحْنُ بِحُكْمِكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ جِئْتَ.
فَأَيِسَ ابْنُ الصَّائِغِ مِنْهُ، وَكَانَ أَحَدُ أَوْلَادِ ابْنِ مُلَاعِبٍ بِدِمَشْقَ عِنْدَ طُغْتِكِينَ، غَضْبَانُ عَلَى أَبِيهِ، فَوَلَّاهُ طُغْتِكِينُ حِصْنًا، وَضَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ حِفْظَ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَأَخَذَ الْقَوَافِلَ، فَاسْتَغَاثُوا إِلَى طُغْتِكِينَ مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ طَلَبَهُ، فَهَرَبَ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى حِصْنِ أَفَامِيَةَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ قُوتِ شَهْرٍ، فَأَقَامُوا عَلَيْهِ يُحَاصِرُونَهُ، فَجَاعَ أَهْلُهُ، وَمَلَكَهُ الْفِرِنْجُ، وَقَتَلُوا الْقَاضِيَ الْمُتَغَلِّبَ عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الصَّائِغَ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَ مَذْهَبَ الْبَاطِنِيَّةِ بِالشَّامِ.
هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا طَاهِرٍ الصَّائِغَ قَتَلَهُ الْفِرِنْجُ بِأَفَامِيَةَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ابْنَ بَدِيعٍ، رَئِيسَ حَلَبَ، قَتَلَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، بَعْدَ وَفَاةِ رِضْوَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/525)


ذِكْرُ نَهْبِ الْعَرَبِ الْبَصْرَةَ
قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِلَاءَ الْأَمِيرِ صَدَقَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَنَّهُ اسْتَنَابَ بِهَا مَمْلُوكًا كَانَ لِجَدِّهِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، اسْمُهُ أَلْتُونْتَاشُ، وَجَعَلَ مَعَهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَارِسًا.
فَاجْتَمَعَتْ رَبِيعَةُ والْمُنْتَفَقُ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَصَدُوا الْبَصْرَةَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَقَاتَلَهُمْ أَلْتُونْتَاشُ، فَأَسَرُوهُ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ مَنْ بِهَا عَلَى حِفْظِهَا، فَدَخَلُوا بِالسَّيْفِ أَوَاخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَحْرَقُوا الْأَسْوَاقَ، وَالدُّورَ الْحِسَانَ، وَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَأَقَامُوا يَنْهَبُونَ وَيُحْرِقُونَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَتَشَرَّدَ أَهْلُهَا فِي السَّوَادِ، وَنُهِبَتْ خِزَانَةُ كُتُبٍ كَانَتْ مَوْقُوفَةً، وَقَفَهَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ بْنُ أَبِي الْبَقَاءِ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ صَدَقَةَ، فَأَرْسَلَ عَسْكَرًا، فَوَصَلُوا وَقَدْ فَارَقَهَا الْعَرَبُ.
ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا أَرْسَلَ شِحْنَةً وَعَمِيدًا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَخَذَهَا مِنْ صَدَقَةَ، وَعَادَ أَهْلُهَا إِلَيْهَا وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهَا.

ذِكْرُ حَالِ طَرَابُلُسَ الشَّامِ مَعَ الْفِرِنْجِ
كَانَ صَنْجِيلُ الْفِرِنْجِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ، قَدْ مَلَكَ مَدِينَةَ جَبَلَةَ، وَأَقَامَ عَلَى طَرَابُلُسَ يَحْصُرُهَا، فَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَمْلِكَهَا، بَنَى بِالْقُرْبِ مِنْهَا حِصْنًا، وَبَنَى تَحْتَهُ رَبَضًا، وَأَقَامَ مُرَاصِدًا لَهَا، وَمُنْتَظِرًا وُجُودَ فُرْصَةٍ فِيهَا، فَخَرَجَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، فَأَحْرَقَ رَبَضَهُ، وَوَقَفَ صَنْجِيلُ عَلَى بَعْضِ سُقُوفِهِ الْمُتَحَرِّقَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَمَامِصَةِ وَالْفُرْسَانِ، فَانْخَسَفَ بِهِمْ، فَمَرِضَ صَنْجِيلُ مِنْ ذَلِكَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ، وَحُمِلَ إِلَى الْقُدْسِ فَدُفِنَ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِاللَّاذِقِيَّةِ لِيَحْمِلُوا الْمِيرَةَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى طَرَابُلُسَ، فَحَمَلُوهَا فِي الْبَحْرِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ أُسْطُولًا، فَجَرَى

(8/526)


بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ بِقِطْعَةٍ مِنَ الرُّومِ، فَأَخَذُوهَا، وَأَسَرُوا مَنْ كَانَ بِهَا وَعَادُوا.
وَلَمْ تَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَهْلِ طَرَابُلُسَ والْفِرِنْجِ خَمْسَ سِنِينَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَعَدِمَتِ الْأَقْوَاتُ بِهِ، وَخَافَ أَهْلُهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَحَرَمِهِمْ، فَجَلَا الْفُقَرَاءُ، وَافْتَقَرَ الْأَغْنِيَاءُ، وَظَهَرَ مِنَ ابْنِ عَمَّارٍ صَبْرٌ عَظِيمٌ، وَشُجَاعَةٌ، وَرَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَمِمَّا أَضَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فِيهَا أَنَّ صَاحِبَهَا اسْتَنْجَدَ سُقْمَانَ بْنَ أُرْتُقَ فَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ.
وَأَجْرَى ابْنُ عَمَّارٍ الْجِرَايَاتِ عَلَى الْجُنْدِ وَالضَّعْفَى، فَلَمَّا قَلَّتِ الْأَمْوَالُ عِنْدَهُ شَرَعَ يُقَسِّطُ عَلَى النَّاسِ مَا يُخْرِجُهُ فِي بَابِ الْجِهَادِ، فَأَخَذَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مَالًا مَعَ غَيْرِهِمَا، فَخَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى الْفِرِنْجِ وَقَالَا: إِنَّ صَاحِبَنَا صَادَرَنَا، فَخَرَجْنَا إِلَيْكُمْ لِنَكُونَ مَعَكُمْ، وَذَكَرَا لَهُمْ أَنَّهُ تَأْتِيهِ الْمِيرَةُ مِنْ عَرَقَةَ وَالْجَبَلِ، فَجَعَلَ الْفِرِنْجُ جَمْعًا عَلَى ذَلِكَ الْجَانِبِ يَحْفَظُهُ مِنْ دُخُولِ شَيْءٍ إِلَى الْبَلَدِ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عَمَّارٍ وَبَذَلَ لِلْفِرِنْجِ مَالَا كَثِيرًا لِيُسَلِّمُوا الرَّجُلَيْنِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَوَضَعَ عَلَيْهِمَا مَنْ قَتَلَهُمَا غِيلَةً، وَكَانَتْ طَرَابُلُسُ مِنْ أَعْظَمِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرِهَا تَجَمُّلًا وَثَرْوَةً، فَبَاعَ أَهْلُهَا مِنَ الْحُلَى، وَالْأَوَانِي الْغَرْبِيَّةِ، مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى بِيعَ كُلُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ نُقْرَةً بِدِينَارٍ.
وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ حَالِ الرُّومِ أَيَّامَ السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ظَفَرَهُ بِهِمْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ كُمُشْتَكِينُ دَوَاتِي عَمِيدُ الْمُلْكِ، هَرَبَ مِنْهُ خَوْفًا لَمَّا قَبَضَ عَلَى صَاحِبِهِ عَمِيدِ الْمُلْكِ، وَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَمَلَكَهَا، وَصَارَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فِيهِمْ: الْأَفْشِينُ، وَأَحْمَدُ شَاهْ، فَقَتَلَاهُ، وَأَرْسَلَا أَمْوَالَهُ إِلَى أَلْبِ أَرْسِلَانَ، وَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَ الرُّومِ، وَقَاتَلَ الْفِرْدَوْسَ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، فَهَزَمَهُ، وَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقًا كَثِيرًا.
وَسَارَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِيَّةِ إِلَى مَلَطْيَةَ، فَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَهُ وَوَصَلَ إِلَى عَمُّورِيَةَ، وَقَتَلَ فِي غَزَاتِهِ مِائَةَ أَلْفِ آدَمِيٍّ، وَلَمَّا عَادَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَتَفَرَّقَ مَنْ مَعَهُ عَلَيْهِ خَرَجَ عَسْكَرُ الرُّهَا، وَهِيَ حِينَئِذٍ لِلرُّومِ، وَمَعَهُمْ بَنُو نُمَيْرٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَمَعَهُ مِائَتَا فَارِسٍ، فَهَزَمَهُمْ وَنَهَبَهُمْ، وَنَهَبَ بِلَادَ الرُّومِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ رَسُولًا إِلَى الْقَائِمِ

(8/527)


بِأَمْرِ اللَّهِ يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَلْبِ أَرْسِلَانَ فِي ذَلِكَ، فَصَالَحَ الرُّومَ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ ثَوْبٍ أَصْنَافًا، وَثَلَاثِمِائَةِ رَأْسٍ بِغَالًا.
فَشَتَّانَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ.
وَأَقُولُ شَتَّانَ بَيْنَ حَالِ أُولَئِكَ الْمَرْذُولِينِ الَّذِينَ اسْتَعْجَزَهُمْ، وَبَيْنَ حَالِ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَهُوَ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ مَعَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا والتَّتَرِ، وَسَتَرَى ذَلِكَ مَشْرُوحًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِتَعْلَمَ الْفَرْقَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُيَسِّرَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ قَائِمًا يَقُومُ بِنَصْرِهِمْ، وَأَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ بِمَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ إِنْسَانٌ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ، مُلُوكِ الْغَرْبِ، قَاصِدًا إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأُكْرِمَ، وَكَانَ مَعَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ الْفَقِيهُ، مِنَ الْمُلَثَّمِينَ أَيْضًا، فَوَعَظَهُ الْفَقِيهُ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ الْعَالَمُ الْعَظِيمُ، وَكَانَ يَعِظُ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ غَيْرُ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ هَذَا الْمُلَثَّمُ قَدْ حَضَرَ مَعَ ابْنِ الْأَفْضَلِ، أَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَقْعَتَهُ مَعَ الْفِرِنْجِ، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا.
وَكَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِ إِلَى بَغْدَاذَ: أَنَّ الْمَغَارِبَةَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْعَلَوِيِّينَ، أَصْحَابِ مِصْرَ، الِاعْتِقَادَ الْقَبِيحَ، فَكَانُوا، إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ، يَعْدِلُونَ عَنْ مِصْرَ وَكَانَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ وَالِدُ الْأَفْضَلِ أَرَادَ إِصْلَاحَهُمْ، فَلَمْ يَمِيلُوا إِلَيْهِ، وَلَا قَارَبُوهُ. فَأَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُهُ الْأَفْضَلُ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَعَانَ بِمَنْ قَارَبَهُ مِنْهُمْ عَلَى حَرْبِ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُ، فَلَمَّا خَالَطَ الْمِصْرِيِّينَ خَافَ الْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِ، فَقَدِمَ بَغْدَاذَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمِصْرِيِّينَ حَرْبٌ مَعَ الْفِرِنْجِ إِلَّا وَشَهِدَهَا، فَقُتِلَ فِي بَعْضِهَا شَهِيدًا، وَكَانَ شُجَاعًا فَتَّاكًا مِقْدَامًا.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، ظَهْرَ كَوْكَبٌ فِي السَّمَاءِ لَهُ ذُؤَابَةٌ، كَقَوْسِ قُزَحَ، آخِذَةً مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ، وَكَانَ يُرَى قَرِيبًا مِنَ الشَّمْسِ قَبْلَ ظُهُورِهِ لَيْلًا، وَبَقِيَ يَظْهَرُ عِدَّةَ لَيَالٍ، ثُمَّ غَابَ.

(8/528)


وَفِيهَا وَصَلَ الْمَلِكُ قِلْجُ أَرْسِلَانَ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ، صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى الرُّهَا لِيَحْصُرَهَا، وَبِهَا الْفِرِنْجُ، فَرَاسَلَهُ أَصْحَابُ جَكَرْمِشَ الْمُقِيمُونَ بَحَرَّانَ لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ، وَفَرِحَ بِهِ النَّاسُ لِأَجْلِ جِهَادِ الْفِرِنْجِ، فَأَقَامَ بَحَرَّانَ أَيَّامًا، وَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، أَوْجَبَ عَوْدَهُ إِلَى مَلَطْيَةَ، فَعَادَ مَرِيضًا، وَبَقِيَ أَصْحَابُهُ بَحَرَّانَ.
[الَوَفِيَّاتُ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو مَنْصُورٍ الْخَيَّاطُ الْمُقْرِي، إِمَامُ مَسْجِدِ ابْنِ جَرْدَةَ، وَكَانَ خَيِّرًا صَالِحًا.
وَفِيهَا قُتِلَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ أَصْبَهَانَ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْفَوَارِسِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْخَازِنِ، صَاحِبُ الْخَطِّ الْجَيِّدِ، وَعُمْرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، قِيلَ إِنَّهُ كَتَبَ خَمْسَمِائَةِ خَتْمَةٍ.
وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، تَفَقَّهَ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ الرَّقِيِّ، وَالدَّهَّانِ، وَابْنِ بُرْهَانَ، وَكَانَ عَفِيفًا، مُقَدَّمًا عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ.
وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَرْغِيَانِيُّ، أَبُو الْفَتْحِ الْحَاكِمُ، تَفَقَّهَ عَلَى الْجُوَيْنِيِّ، وَبَرَزَ، ثُمَّ تَرَكَ الْمُنَاظَرَةَ، وَبَنَى رِبَاطًا، وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.

(8/529)


وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مُهَارِشُ بْنُ مُجَلِّي، وَلَهُ نَحْوُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي كَانَ الْخَلِيفَةَ الْقَائِمَ عِنْدَهُ بِالْحَدِيثَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، يُحِبُّ الْخَيْرَ وَأَهْلَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ الْحَدِيثَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ.

(8/530)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِمِائَةٍ]
500 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ وَمُلْكِ ابْنِهِ عَلِيٍّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ، مَلِكُ الْغَرْبِ وَالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، خَيِّرًا، عَادِلًا، يَمِيلُ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَيَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمْ، وَلَمَّا مَلَكَ الْأَنْدَلُسَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، جَمَعَ الْفُقَهَاءَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُكَ مِنَ الْخَلِيفَةِ لِتَجِبَ طَاعَتُكَ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، رَسُولًا وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا يَذْكُرُ مَا فَتَحَ اللَّهُ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَيَطْلُبُ تَقْلِيدًا بِوِلَايَةِ الْبِلَادِ، فَكُتِبَ لَهُ تَقْلِيدٌ مِنْ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ بِمَا أَرَادَ، وَلُقِّبَ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَسُيِّرَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ سُرُورًا كَثِيرًا، وَهُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ مُرَّاكِشَ لِلْمُرَابِطِينَ، وَبَقِيَ عَلَى مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ، فَتُوُفِّيَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ الْبِلَادَ وَلَدُهُ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ، وَتَلَقَّبَ أَيْضًا أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، فَازْدَادَ فِي إِكْرَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ إِشَارَتِهِمْ، وَكَانَ إِذَا وَعَظَهُ أَحَدُهُمْ خَشَعَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمَوْعِظَةِ، وَلَانَ قَلْبُهُ لَهَا، وَظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ حَلِيمًا، كَرِيمًا، دَيِّنًا، خَيَّرًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيُحَكِّمُهُمْ فِي بِلَادِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ اجْتَمَعُوا، فَتَمَنَّى أَحَدُهُمْ أَلْفَ دِينَارٍ يَتَّجِرُ بِهَا، وَتَمَنَّى الْآخَرُ عَمَلًا يَعْمَلُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَمَنَّى الْآخَرُ زَوْجَتَهُ النَّفْزَاوِيَّةَ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، وَلَهَا الْحُكْمُ فِي بِلَادِهِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَأَحْضَرَهُمْ، وَأَعْطَى مُتَمَنِّيَ الْمَالِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَاسْتَعْمَلَ الْآخَرَ،

(8/531)


وَقَالَ لِلَّذِي تَمَنَّى زَوْجَتَهُ: يَا جَاهِلُ! مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا الَّذِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ؟ ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، فَتَرَكَتْهُ فِي خَيْمَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَحْمِلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَعَامًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَحْضَرَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا أَكَلْتَ هَذِهِ الْأَيَّامَ؟ قَالَ: طَعَامًا وَاحِدًا، فَقَالَتْ: كُلُّ النِّسَاءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَأَمَرَتْ لَهُ بِمَالٍ وَكُسْوَةٍ وَأَطْلَقَتْهُ.

ذِكْرُ قَتْلِ فَخْرِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو الْمُظَفَّرُ عَلِيُّ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وِزَارَتَهُ لِلسُّلْطَانِ بَرْكِيَارُقَ، فَلَمَّا فَارَقَ وِزَارَتَهُ قَصَدَ نَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ بْنِ مَلِكْشَاهْ، وَوَزَرَ لَهُ، وَأَصْبَحَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ صَائِمًا، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يَقُولُ: عَجَّلْ إِلَيْنَا، وَلْيَكُنْ إِفْطَارُكَ عِنْدَنَا، وَقَدِ اشْتَغَلَ فِكْرِي بِهِ، وَلَا مَحِيدَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ! وَقَالُوا لَهُ: يَحْمِيكَ اللَّهُ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا تَخْرُجَ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ مِنْ دَارِكَ، فَأَقَامَ يَوْمَهُ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ.
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ الَّتِي كَانَ بِهَا يُرِيدُ دَارَ النِّسَاءِ، فَسَمِعَ صِيَاحَ مُتَظَلِّمٍ، شَدِيدَ الْحُرْقَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: ذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَكْشِفُ مَظْلَمَةً، وَلَا يَأْخُذُ بِيَدِ مَلْهُوفٍ! فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، رَحْمَةً لَهُ، فَحَضَرَ فَقَالَ: مَا حَالُكَ؟ فَدَفَعَ إِلَيْهِ رُقْعَةً، فَبَيْنَمَا فَخْرُ الْمُلْكِ يَتَأَمَّلُهَا إِذْ ضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فَقَضَى عَلَيْهِ، فَمَاتَ، فَحُمِلَ الْبَاطِنِيُّ إِلَى سَنْجَرَ، فَقَرَّرَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ كَذِبًا، وَقَالَ: إِنَّهُمْ وَضَعُونِي عَلَى قَتْلِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقْتَلَ بِيَدِهِ وَسِعَايَتِهِ، فَقُتِلَ مَنْ ذَكَرَ، وَكَانَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قُتِلَ الْبَاطِنِيُّ بَعْدَهُمْ، وَكَانَ عُمْرُ فَخْرِ الْمُلْكِ سِتًّا وَسِتِّينَ سَنَةً.

ذِكْرُ مُلْكِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ تِكْرِيتَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، تَسَلَّمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَزْيَدٍ قَلْعَةَ تِكْرِيتَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ لَبَنِي مُقْنٍ الْعُقَيْلِيِّينَ، وَكَانَتْ إِلَى آخِرِ سَنَةِ

(8/532)


سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِيَدِ رَافِعِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُقْنٍ، فَمَاتَ، وَوَلِيَهَا ابْنُ أَخِيهِ أَبُو مَنَعَةَ خَمِيسُ بْنُ تَغْلِبَ بْنِ حَمَّادٍ، وَوَجَدَ بِهَا خَمْسَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى الْمَصَاغِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَهَا وَلَدُهُ أَبُو غَشَّامٍ.
فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَبَ عَلَيْهِ عِيسَى فَحَبَسَهُ، وَمَلَكَ الْقَلْعَةَ وَالْأَمْوَالَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ طُغْرُلْبَكُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ صَالَحَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَالِ فَرَحَلَ عَنْهُ.
وَخَافَتْ زَوْجَتُهُ أَمِيرَةُ، بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَعُودَ أَبُو غَشَّامٍ، فَيَمْلِكُ الْقَلْعَةَ، فَقَتَلَتْهُ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الْحَبْسِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَاسْتَنَابَتْ فِي الْقَلْعَةِ أَبَا الْغَنَائِمِ بْنَ الْمَحْلَبَانِ، فَسَلَّمَهَا إِلَى أَصْحَابِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ، فَسَارَتْ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَقَتَلَهَا ابْنُ أَبِي غَشَّامٍ بِأَبِيهِ، وَأَخَذَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ مَالَهَا، وَرَدَّ طُغْرُلْبَكُ أَمْرَ الْقَلْعَةِ إِلَى إِنْسَانٍ يُعْرَفُ بِأَبِي الْعَبَّاسِ الرَّازِيِّ، فَمَاتَ بِهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَمَلَكَهَا الْمِهْرَبَاطُ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خُشْنَامٍ مِنْ بَلَدِ الثَّغْرِ، فَأَقَامَ بِهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَاتَ، وَوَلِيَهَا ابْنُهُ سَنَتَيْنِ، وَأَخَذَتْهَا مِنْهُ تَرْكَانُ خَاتُونْ، وَوَلِيَهَا لَهَا كُوهْرَائِينُ.
ثُمَّ مَلَكَهَا بَعْدَ وَفَاةِ مَلِكْشَاهْ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقَسَنْقَرُ، صَاحِبُ حَلَبَ، فَلَمَّا قُتِلَ صَارَتْ لِلْأَمِيرِ كُمُشْتَكِينَ الْجَانِدَارُ، فَجَعَلَ فِيهَا رَجُلًا يُعْرَفُ بِأَبِي الْمُصَارِعِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى كُوهْرَائِينَ إِقْطَاعًا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ مَجْدُ الْمُلْكِ الْبَلَاسَانِيُّ، فَوَلَّى فِيهَا كَيْقُبَاذَ بْنَ هَزَارْسَبَ الدَّيْلَمِيَّ، فَأَقَامَ بِهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَظَلَمَ أَهْلَهَا، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ سُقْمَانُ بْنُ أُرْتُقَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَنَهَبَهَا، كَانَ كَيْقُبَاذُ يَنْهَبُهَا لَيْلًا، وَسُقْمَانُ يَنْهَبُهَا نَهَارًا.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ بَرْكِيَارُقَ أَقْطَعَهَا لِلْأَمِيرِ آقَسَنْقَرَ الْبُرْسُقِيِّ، شِحْنَةِ بَغْدَاذَ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَحَصَرَهَا مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، حَتَّى ضَاقَ عَلَى كَيْقُبَاذَ الْأَمْرُ، فَرَاسَلَ صَدَقَةَ بْنَ مَزْيَدٍ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي صَفَرٍ هَذِهِ السَّنَةَ وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ، وَانْحَدَرَ الْبُرْسُقِيُّ وَلَمْ يَمْلِكْهَا.
وَمَاتَ كَيْقُبَاذُ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْقَلْعَةِ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَاسْتَنَابَ صَدَقَةُ بِهَا وَرَّامَ بْنَ أَبِي فِرَاسِ بْنِ وَرَّامٍ، وَكَانَ كَيْقُبَاذُ يُنْسَبُ إِلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ سَعَادَةِ صَدَقَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ أَقَامَ عِنْدَهُ لَعَرَّضَ صَدَقَةَ لِظُنُونِ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ.

(8/533)


ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ عُبَادَةَ وَخَفَاجَةَ، فَظَفِرَتْ عُبَادَةُ، وَأَخَذَتْ بِثَأْرِهَا مِنْ خَفَاجَةَ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ أَرْسَلَ وَلَدَهُ بَدْرَانَ فِي جَيْشٍ إِلَى طَرَفِ بِلَادِهِ مِمَّا يَلِي الْبَطِيحَةَ لِيَحْمِيَهَا مِنْ خَفَاجَةَ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي، فَقَرُبُوا مِنْهُ، وَتَهَدَّدُوا أَهْلَ الْبِلَادِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ يَشْكُو مِنْهُمْ، وَيُعَرِّفُهُ حَالَهُمْ، فَأَحْضَرَ عُبَادَةَ، وَكَانَتْ خَفَاجَةُ قَدْ فَعَلَتْ بِهِمُ الْعَامَ الْمَاضِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ لِيَتَجَهَّزُوا مَعَ عَسْكَرِهِ، لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ مِنْ خَفَاجَةَ، فَسَارُوا فِي مُقَدَّمِ عَسْكَرِهِ، فَأَدْرَكُوا حِلَّةً مِنْ خَفَاجَةَ مِنْ بَنِي كُلَيْبٍ لَيْلًا، وَهُمْ غَارُّونَ، لَمْ يَشْعُرُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَتْ عُبَادَةُ: نَحْنُ أَصْحَابٌ لِدُيُونٍ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ عُبَادَةُ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَصَبَرَتْ خَفَاجَةُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ إِذْ سُمِعَ طَبْلُ الْجَيْشِ، فَانْهَزَمُوا، وَقَتَلَتْ مِنْهُمْ عُبَادَةُ جَمَاعَةً، وَكَانَ فِيهِمْ عَشَرَةٌ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَتَرَكُوا حَرَمَهُمْ، فَأَمَرَ صَدَقَةُ بِحِرَاسَتِهِنَّ وَحِمَايَتِهِنَّ، وَأَمْرَ الْعَسْكَرِ أَنْ يُؤْثِرُوا عُبَادَةَ بِمَا غَنِمُوهُ مِنْ أَمْوَالِ خَفَاجَةَ، خَلَفًا لَهُمْ عَمَّا أُخِذَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي.
وَأَصَابَ خَفَاجَةَ مِنْ مُفَارَقَةِ بِلَادِهَا، وَنَهْبِ أَمْوَالِهَا، وَقَتْلِ رِجَالِهَا، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَانْتَزَحَتْ إِلَى نَوَاحِي الْبَصْرَةِ، وَأَقَامَتْ عُبَادَةُ فِي بِلَادِ خَفَاجَةَ.
وَلَمَّا انْهَزَمَتْ خَفَاجَةُ وَتَفَرَّقَتْ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهَا، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْأَمِيرِ صَدَقَةَ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ سَبَيْتَنَا، وَسَلَبْتَنَا قُوَّتَنَا، وَغَرَّبْتَنَا، وَأَضَعْتَ حُرْمَتَنَا، قَابَلَكَ اللَّهُ فِي نَفْسِكَ، وَجَعَلَ صُورَةَ أَهْلِكَ كَصُورَتِنَا، فَكَظَمَ الْغَيْظَ وَاحْتَمَلَ لَهَا ذَلِكَ، وَأَعْطَاهَا أَرْبَعِينَ جَمَلًا، وَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى قَابَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ فِي نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَلْهُوفِ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ.

(8/534)


ذِكْرُ مَسِيرِ جَاوْلِي سَقَاوُوا إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَسْرِ صَاحِبِهَا جَكَرْمِشَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدَ جَاوْلِي سِقَاوُو الْمُوصِلَ، وَالْأَعْمَالَ الَّتِي بِيَدِ جَكَرْمِشَ، وَكَانَ جَاوْلِي قَبْلَ هَذَا قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بَيْنَ خُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ، وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ، وَعَمَّرَ قِلَاعَهَا وَحَصَّنَهَا، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَجَدَعَ أُنُوفَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ.
فَلَمَّا تَمَكَّنَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنَ السَّلْطَنَةِ خَافَهُ جَاوْلِي، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ الْأَمِيرَ مَوْدُودَ بْنَ أَلْتُونْتِكِينَ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ جَاوْلِي، وَحَصَرَهُ مَوْدُودُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَأَرْسَلَ جَاوْلِي إِلَى السُّلْطَانِ: إِنَّنِي لَا أَنْزِلُ إِلَى مَوْدُودٍ، فَإِنْ أَرْسَلْتَ غَيْرَهُ نَزَلْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خَاتَمَهُ مَعَ أَمِيرٍ آخَرَ، فَنَزَلَ جَاوْلِي، وَحَضَرَ الْخِدْمَةَ بأَصْبَهَانَ، فَرَأَى مِنَ السُّلْطَانِ مَا يُحِبُّ، وَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْفِرِنْجِ لِيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْهُمْ، وَأَقْطَعَهُ الْمَوْصِلَ وَدِيَارَ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةَ كُلَّهَا.
وَكَانَ جَكَرْمِشُ لَمَّا عَادَ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى بِلَادِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ الْخِدْمَةَ، وَحَمْلَ الْمَالِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِبِلَادِهِ لَمْ يَفِ بِمَا قَالَ، وَتَثَاقَلَ فِي الْخِدْمَةِ وَحَمْلِ الْمَالِ، فَأَقْطَعَ بِلَادَهُ لِجَاوْلِي، فَجَاءَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَوَّلِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْبَوَازِيجِ، فَمَلَكَهَا وَنَهَبَهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، بَعْدَ أَنْ أَمَّنَ أَهْلَهَا، وَحَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ يَحْمِيهِمْ، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَارَ إِلَى إِرَبْلَ.
وَأَمَّا جَكَرْمِشُ فَلَمَّا بَلَغَهُ مَسِيرُهُ إِلَى بِلَادِهِ كَتَبَ فِي جَمِيعِ الْعَسَاكِرِ، فَأَتَاهُ كِتَابُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ مُوسَكَ الْكُرْدِيِّ الْهَذَبَانِيِّ، صَاحِبِ إِرَبْلَ، يَذْكُرُ اسْتِيلَاءَ جَاوْلِي عَلَى الْبَوَازِيجِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ لَمْ تُعَجِّلِ الْمَجِيءَ لِنَجْتَمِعَ عَلَيْهِ وَنَمْنَعَهُ، وَإِلَّا اضْطُرِرْتُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ وَالْمَصِيرِ مَعَهُ، فَبَادَرَ جَكَرْمِشُ وَعَبَرَ إِلَى شَرْقِيِّ دِجْلَةَ، وَسَارَ إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ قَبْلَ اجْتِمَاعِ عَسَاكِرِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَسْكَرَهُ مَعَ أَوْلَادِهِ، فَاجْتَمَعُوا بِقَرْيَةِ بَاكَلْبَا مِنْ أَعْمَالِ إِرَبْلَ.

(8/535)


وَوَافَاهُمْ جَاوْلِي وَهُوَ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَكَانَ جَكَرْمِشُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ جَاوْلِي بِالْيَدِ، فَلَمَّا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ حَمَلَ جَاوْلِي مِنَ الْقَلْبِ عَلَى قَلْبِ جَكَرْمِشَ فَانْهَزَمَ مَنْ فِيهِ، وَبَقِيَ جَكَرْمِشُ وَحْدَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَزِيمَةِ لِفَالِجٍ كَانَ بِهِ، فَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرْكَبَ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ فِي مِحَفَّةٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ قَاتَلَ عَنْهُ رِكَابِيٌّ أَسْوَدُ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقُتِلَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْمَلِكِ قَارُوتَ بِكْ بْنِ دَاوُدَ، اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَقَاتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَطُعِنَ فَجُرِحَ وَانْهَزَمَ، فَمَاتَ بِالْمَوْصِلِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَصْحَابُ جَاوْلِي عَلَى الْوُصُولِ إِلَى جَكَرْمِشَ، حَتَّى قُتِلَ الرِّكَابِيُّ الْأَسْوَدُ فَحِينَئِذٍ أَخَذُوهُ أَسِيرًا وَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ جَاوْلِي، فَأَمَرَ بِحِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ.
وَكَانَتْ عَسَاكِرُ جَكَرْمِشَ الَّتِي اسْتَدْعَاهَا، قَدْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَوْصِلِ بَعْدَ مَسِيرِهِ بِيَوْمَيْنِ، فَسَارُوا جَرَائِدَ لِيُدْرِكُوا الْحَرْبَ، فَلَقِيَهُمُ الْمُنْهَزِمُونَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

ذِكْرُ حَصْرِ جَاوْلِي سَقَاوُو الْمَوْصِلَ وَمَوْتِ جَكَرْمِشَ
لَمَّا انْهَزَمَ الْعَسْكَرُ، وَأُسِرَ جَكَرْمِشُ، وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَقْعَدُوا فِي الْأَمْرِ زِنْكِي بْنَ جَكَرْمِشَ، وَهُوَ صَبِيٌّ عَمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَخَطَبُوا لَهُ، وَأَحْضَرُوا أَعْيَانَ الْبَلَدِ، وَالْتَمَسُوا مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ.
وَكَانَ مُسْتَحْفِظُ الْقَلْعَةِ مَمْلُوكًا لِجَكَرْمِشَ اسْمُهُ غَزْغَلِي، فَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامَ الْمُرْضِيَ، وَفَرَّقَ الْأَمْوَالَ الَّتِي جَمَعَهَا جَكَرْمِشُ، وَالْخُيُولَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ عَلَى الْجُنْدِ، وَكَاتَبَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَقِلْجَ أَرْسِلَانَ، وَالْبُرْسُقِيَّ، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، بِالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِمْ، وَمَنْعِ جَاوْلِي مِنْهُمْ، وَوَعَدُوا كُلًّا مِنْهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ.
فَأَمَّا صَدَقَةُ فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَرَأَى طَاعَةَ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا الْبُرْسُقِيُّ وَقِلْجُ أَرْسِلَانَ فَنَذْكُرُ حَالَهُمَا.
ثُمَّ إِنَّ جَاوْلِي حَصَرَ الْمَوْصِلَ، وَمَعَهُ كَرْمَاوِيُّ بْنُ خُرَاسَانَ التُّرْكُمَانِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَأَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ جَكَرْمِشُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى بَغْلٍ وَيُنَادِي أَصْحَابَهُ بِالْمَوْصِلِ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ وَيُخَلِّصُوا صَاحِبَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَيَأْمُرُهُمْ هُوَ بِذَلِكَ، فَلَا

(8/536)


يَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَكَانَ يَسْجُنُهُ فِي جُبٍّ، وَيُوَكِّلُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ لِئَلَّا يُسْرَقَ، فَأُخْرِجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَيِّتًا، وَعَمْرُهُ نَحْوَ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ شَأْنُهُ قَدْ عَلَا، وَمَنْزِلَتُهُ قَدْ عَظُمَتْ، وَكَانَ قَدْ شَيَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ وَقَوَّاهُ، وَبَنَى عَلَيْهَا فَصِيلًا، وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا، وَحَصَّنَهَا غَايَةَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ مَعَ جَكَرْمِشَ رَجُلٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمَوْصِلِ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَالِبِ بْنُ كُسَيْرَاتٍ، وَبَنُو كُسَيْرَاتٍ إِلَى الْآنِ بِالْمَوْصِلِ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ جَكَرْمِشَ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، وَحَضَرَ مَعَهُ الْحَرْبَ، فَلَمَّا أُسِرَ جَكَرْمِشُ هَرَبَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى إِرْبَلَ، وَكَانَ أَوْلَادُ أَبِي الْهَيْجَاءِ، صَاحِبِ إِرْبَلَ، قَدْ حَضَرُوا الْحَرْبَ مَعَ جَكَرْمِشَ، وَأَسَرَهُمْ جَاوْلِي، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ يَطْلُبُ ابْنَ كُسَيْرَاتٍ، فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، فَأَطْلَقَ جَاوْلِي ابْنَ أَبِي الْهَيْجَاءِ، فَلَمَّا حَضَرَ ابْنُ كُسَيْرَاتٍ عِنْدَ جَاوْلِي ضَمِنَ لَهُ فَتْحَ الْمَوْصِلِ وَبِلَادِ جَكَرْمِشَ، وَتَحْصِيلَ الْأَمْوَالِ، فَاعْتَقَلَهُ اعْتِقَالًا جَمِيلًا.
وَكَانَ قَاضِي الْمَوْصِلِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ وَدْعَانَ عَدُوًّا لِأَبِي طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَاوْلِي يَقُولُ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَ أَبَا طَالِبٍ سَلَّمْتُ الْمَوْصِلَ إِلَيْكَ، فَقَتَلَهُ وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَأَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ بِهِ، وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِ وَوَدَائِعِهِ، فَثَارَ بِهِ الْأَتْرَاكُ غَضَبًا لِأَبِي طَالِبٍ وَلِتَفَرُّدِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا، وَسَمِعْنَا مَا لَا نُحْصِيهِ مِنْ قُرْبِ وَفَاةِ أَحَدِ الْمُتَعَادِيَيْنِ بَعْدَ صَاحِبِهِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مَلِكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ والْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَحْشَةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ بَيْنَ مَلِكِ الرُّومِ، صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَبَيْنَ بِيمُنْدَ الْفِرِنْجيِّ، فَسَارَ بِيمُنْدُ إِلَى بَلَدِ مَلِكِ الرُّومِ وَنَهَبَهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِهِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْمَلِكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، صَاحِبِ قُونِيَةَ وَأَقْصَرَا وَغَيْرِهِمَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَمَدَّهُ بِجَمْعٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَتَوَجَّهَ إِلَى بِيمُنْدَ، فَالْتَقَوْا وَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفِرِنْجُ بِشَجَاعَتِهِمْ، وَصَبَرَ الرُّومُ وَمَنْ مَعَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ، ثُمَّ أَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ، وَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَالَّذِينَ سَلِمُوا عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ بِالشَّامِ، وَعَادَ عَسْكَرُ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى بِلَادِهِمْ

(8/537)


عَازِمِينَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى صَاحِبِهِمْ بِدِيَارِ الْجَزِيرَةِ، فَأَتَاهُمْ خَبَرُ قَتْلِهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَرَكُوا الْحَرَكَةَ وَأَقَامُوا.

ذِكْرُ مُلْكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ الْمَوْصِلَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَ جَكَرْمِشَ كَتَبُوا إِلَى الْأَمِيرِ صَدَقَةَ، وَقَسِيمِ الدَّوْلَةِ الْبُرْسُقِيِّ، وَالْمَلِكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ السَّلْجُوقِيِّ، صَاحِبِ بِلَادِ الرُّومِ، يَسْتَدْعُونَ كُلًّا مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ لِيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَأَمَّا صَدَقَةُ فَامْتَنَعَ، وَرَأَى طَاعَةَ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا قُلْجُ أَرْسِلَانُ فَإِنَّهُ سَارَ فِي عَسَاكِرِهِ فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي سَقَاوُو بِوُصُولِهِ إِلَى نَصِيبِينَ رَحَلَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَأَمَّا الْبُرْسُقِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَهَا بَعْدَ رَحِيلِ جَاوْلِي عَنْهَا، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَلَا أَرْسَلُوا إِلَيْهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَعَادَ فِي بَاقِي يَوْمِهِ.
ثُمَّ إِنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى نَصِيبِينَ أَقَامَ بِهَا حَتَّى كَثُرَ جَمْعُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي بِقُرْبِهِ رَحَلَ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى سِنْجَارَ، وَأَوْدَعَ رَحْلَهُ بِهَا، وَاتَّصَلَ بِهِ الْأَمِيرُ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِ جَكَرْمِشَ، فَصَارَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَتَاهُ كِتَابُ الْمَلِكِ رِضْوَانَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الشَّامِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ عَجَزَ مَنْ بِالشَّامِ عَنْ مَنْعِهِمْ، فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ.
وَأَرْسَلَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ وَعَسْكَرُ جَكَرْمِشَ إِلَى قِلْجِ أَرْسِلَانَ، وَهُوَ بِنَصِيبِينَ، فَاسْتَحْلَفُوهُ لَهُمْ، فَحَلَفَ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ وَالْمُنَاصَحَةِ، وَسَارَ مَعَهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَمَلَكَهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَنَزَلَ بِالْمُعَرَّقَةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ وَلَدُ جَكَرْمِشَ وَأَصْحَابُهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَجَلَسَ عَلَى التَّخْتِ، وأَسْقَطَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَأَخَذَ الْقَلْعَةَ مِنْ غَزْغَلِي، مَمْلُوكِ جَكَرْمِشَ، وَجَعَلَ لَهُ فِيهَا دَزْدَارًا، وَرَفَعَ الرُّسُومَ الْمُحْدَثَةَ فِي الظُّلْمِ، وَعَدَلَ فِي النَّاسِ وَتَأَلَّفَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ سَعَى إِلَيَّ بِأَحَدٍ قَتَلْتُهُ، فَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ بِأَحَدٍ، وَأَقَرَّ الْقَاضِيَ

(8/538)


أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ الشَّهْرَزُورِيِّ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ الرِّئَاسَةَ لِأَبِي بَرَكَاتٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَمِيسٍ، وَهُوَ وَالِدُ شَيْخِنَا أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ.
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ الْأَمِيرُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَنَّالَ التُّرْكُمَانِيُّ، صَاحِبُ آمِدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَبْقَ التُّرْكُمَانِيُّ، صَاحِبُ حِصْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ خَرْتَبِرْتُ.
فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَنَّالَ فَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهِ لِمَدِينَةِ آمِدَ أَنَّ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشَ، حِينَ مَلَكَ دِيَارَ بَكْرٍ، سَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَبَقِيَتْ بِيَدِهِ، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَبْقَ فَكَانَ سَبَبُ مُلْكِهِ لِحِصْنِ زِيَادٍ أَنَّ هَذَا الْحِصْنَ كَانَ بِيَدِ الْفَلَادْرُوسِ الرُّومِيِّ، تُرْجُمَانِ مَلِكِ الرُّومِ، وَكَانَتِ الرُّهَا وَأَنْطَاكِيَةُ مِنْ أَعْمَالِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشَ، وَالِدُ قِلْجِ أَرْسِلَانَ هَذَا أَنْطَاكِيَةَ، وَمَلَكَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ دِيَارَ بَكْرٍ، ضَعُفَ الْفَلَادْرُوسُ عَنْ إِقَامَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حِصْنُ زِيَادٍ مِنَ الْمِيرَةِ وَالْإِقَامَةِ، فَأَخَذَهُ جَبْقُ، وَأَسْلَمَ الْفَلَادْرُوسُ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الرُّهَا، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ وَأَخَذَهَا الْأَمِيرُ بَزَّانُ بَعْدَهُ.
وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ حِصْنِ زِيَادٍ حِصْنٌ آخَرُ بِيَدِ إِنْسَانٍ مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ إِفْرِنْجِيُّ، وَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيُكْثِرُ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَبْقُ هَدِيَّةً، وَخَطَبَ إِلَيْهِ مَوَدَّتَهُ، وَأَنْ يُعِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ جَبْقُ يُعِينُ إِفْرِنْجِيَّ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِفْرِنْجِيُّ يُعِينَ جَبْقَ، فَلَمَّا وَثَقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَبْقُ: إِنِّي أُرِيدُ قَصْدَ بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، وَطَلَبَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ أَصْحَابَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَارُوا مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ تَقَدَّمَ بِكَتِفِهِمْ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى قَلْعَةِ إِفْرِنْجِيَّ، وَقَالَ لِأَهْلِيهِمْ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تُسَلِّمُوا إِلَيَّ إِفْرِنْجِيَّ لَأَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَهُمْ، وَلَآخُذَنَّ الْحِصْنَ عَنْوَةً، وَلَأَقْتُلَنَّكُمْ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ. فَفَتَحُوا لَهُ الْحِصْنَ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ إِفْرِنْجِيَّ، فَسَلَخَهُ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَسِلَاحَهُ، وَكَانَ عَظِيمًا، وَمَاتَ جَبْقُ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ.

ذِكْرُ قَتْلِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ وَمُلْكِ جَاوْلِي الْمَوْصِلِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِلْجِ أَرْسِلَانَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى نَصِيبِينَ سَارَ جَاوْلِي عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى

(8/539)


سِنْجَارَ، ثُمَّ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَوَصَلَهَا فِي رَجَبٍ، وَحَصَرَهَا إِلَى الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ صَاحِبُهَا يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ السَّبَّاقِ، وَهُوَ مَنْ بَنِي شَيْبَانَ، رَتَّبَهُ بِهَا الْمَلِكُ دُقَاقُ لَمَّا فَتَحَهَا، وَأَخَذَ وَلَدَهُ رَهِينَةً، وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَرْسَلَ هَذَا الشَّيْبَانِيُّ قَوْمًا سَرَقُوا وَلَدَهُ وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ خَلَعَ الطَّاعَةَ لِلدِّمَشْقِيِّينَ، وَخَطَبَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِقِلْجِ أَرْسِلَانَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا جَاوْلِي وَحَصَرَهَا، أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ رِضْوَانَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ عَلَى مَنْ يُحَارِبُهُ، وَيَشْرُطُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا تَسَلَّمَ الْبِلَادَ سَارَ مَعَهُ لِيَكْشِفَ الْفِرِنْجَ عَنْ بِلَادِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا حَضَرَ عِنْدَهُ رِضْوَانُ، فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ.
وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ كَانُوا بِأَحَدِ الْأَبْرَاجِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى جَاوْلِي، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى حِفْظِهِمْ وَحِرَاسَتِهِمْ، وَأَمَرُوهُ أَنْ يَقْصِدَ الْبُرْجَ الَّذِي هُمْ فِيهِ عِنْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَرَفَعَ مَنْ فِي الْبُرْجِ أَصْحَابَهُ إِلَيْهِمْ فِي الْحِبَالِ، فَضَرَبُوا بُوقَاتِهِمْ وَطُبُولَهُمْ، فَخُذِلَ مَنْ فِي الْبَلَدِ، وَدَخَلَ أَصْحَابُ جَاوْلِي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنَهَبُوهُ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَفْعِ النَّهْبِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ الشَّيْبَانِيُّ صَاحِبُ الْبَلَدِ، وَأَطَاعَهُ، وَصَارَ مَعَهُ.
ثُمَّ إِنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْمَوْصِلِ سَارَ عَنْهَا إِلَى جَاوْلِي سَقَاوُو لِيُحَارِبَهُ، وَجَعَلَ ابْنَهُ مَلِكْشَاهْ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَعَهُ أَمِيرٌ يُدَبِّرُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَكَانَتْ عِدَّةُ عَسْكَرِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ بِالْعُدَّةِ الْكَامِلَةِ وَالْخَيْلِ الْجَيِّدَةِ.
وَسَمِعَ الْعَسْكَرُ بِقُوَّةِ جَاوْلِي، فَاخْتَلَفُوا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَنَّالَ، صَاحِبُ آمِدَ، فَإِنَّهُ فَارَقَ خِيَامَهُ وَأَثْقَالَهُ وَعَادَ مِنَ الْخَابُورِ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، وَعَمِلَ قِلْجُ أَرْسِلَانُ عَلَى الْمُطَاوَلَةِ لَمَّا بَلَغَهُ مِنْ قُوَّةِ جَاوْلِي وَكَثْرَةِ جُمُوعِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بِلَادِهِ يَطْلُبُ عَسْكَرَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ مَلِكِ الرُّومِ نَجْدَةً لَهُ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْخَابُورِ بَلَغَتْ عِدَّتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ. وَكَانَ مَعَ جَاوْلِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمَلِكُ رِضْوَانُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ، إِلَّا أَنَّ شُجْعَانَهُ أَكْثَرُ، وَاغْتَنَمَ جَاوْلِي قِلَّةَ عَسْكَرِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ، فَقَاتَلَهُ قَبْلَ وُصُولِ عَسَاكِرِهِ إِلَيْهِ، فَالْتَقَوْا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَحَمَلَ قِلْجُ أَرْسِلَانَ عَلَى الْقَوْمِ بِنَفْسِهِ، حَتَّى خَالَطَهُمْ، فَضَرَبَ يَدَ صَاحِبِ الْعَلَمِ فَأَبَانَهَا، وَوَصَلَ إِلَى جَاوْلِي بِنَفْسِهِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ،

(8/540)


فَقَطَعَ الْكُزَاغَنْدَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى بَدَنِهِ، وَحَمَلَ أَصْحَابُ جَاوْلِي عَلَى أَصْحَابِهِ فَهَزَمُوهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا ثَقَلَهُمْ وَسَوَادَهُمْ. فَلَمَّا رَأَى قِلْجُ أَرْسِلَانَ انْهِزَامَ عَسْكَرِهِ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أُسِرَ فُعِلَ بِهِ فِعْلُ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَازَعَ السُّلْطَانَ فِي بِلَادِهِ، وَاسْمَ السَّلْطَنَةِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْخَابُورِ، وَحَمَى نَفْسَهُ، مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي بِالنُّشَّابِ، فَانْحَدَرَ بِهِ الْفَرَسُ إِلَى مَاءٍ عَمِيقٍ فَغَرِقَ، وَظَهَرَ بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ فَدُفِنَ بِالشَّمْسَانِيَّةِ وَهِيَ مِنْ قُرَى الْخَابُورِ.
وَسَارَ جَاوْلِي إِلَى الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا فَتَحَ أَهْلُهَا لَهُ بَابَهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ مِنْ مَنْعِهِمْ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأُخِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ جَكَرْمِشَ الَّذِينَ حَضَرُوا الْوَقْعَةَ مَعَ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى جِهَةٍ، فَلَمَّا مَلَكَ جَاوْلِي الْمَوْصِلَ أَعَادَ خُطْبَةَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَصَادَرَ جَمَاعَةَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ جَكَرْمِشَ، وَسَارَ إِلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهَا حَبَشِيُّ بْنُ جَكَرْمِشَ، وَمَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ غِلْمَانِ أَبِيهِ اسْمُهُ غَزْغَلِي، فَحَصَرَهُ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَالَحُوهُ، وَحَمَلُوا إِلَيْهِ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَغَيْرَهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَرْسَلَ مَلِكْشَاهْ بْنَ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ.

ذِكْرُ أَحْوَالِ الْبَاطِنِيَّةِ وَقَتْلِ ابْنِ عَطَّاشٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَ الْبَاطِنِيَّةُ مَلَكُوهَا بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَاسْمُهَا شَاهْ دَزْ، وَقُتِلَ صَاحِبُهَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَّاشٍ، وَوَلَدُهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقَلْعَةُ قَدْ بَنَاهَا مَلِكْشَاهْ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَعْدَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَّاشٍ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ اتَّصَلَ بِدَزْدَارٍ كَانَ لَهَا، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَوْلَى أَحْمَدُ عَلَيْهَا، وَكَانَ الْبَاطِنِيَّةُ بِأَصْبَهَانَ قَدْ أَلْبَسُوهُ تَاجًا، وَجَمَعُوا لَهُ أَمْوَالًا، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ لِتَقَدُّمِ أَبِيهِ

(8/541)


عَبْدَ الْمَلِكِ فِي مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ أَدِيبًا بَلِيغًا، حَسَنَ الْخَطِّ، سَرِيعَ الْبَدِيهَةِ، عَفِيفًا، وَابْتُلِيَ بِحُبِّ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَكَانَ ابْنُهُ أَحْمَدُ هَذَا جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا، وَقِيلَ لِابْنِ الصَّبَّاحِ، صَاحِبِ قَلْعَةِ أَلَمَوْتَ: لِمَاذَا تُعَظِّمُ ابْنَ عَطَّاشٍ مَعَ جَهْلِهِ؟ قَالَ: لِمَكَانِ أَبِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أُسْتَاذِي.
وَصَارَ لِابْنِ عَطَّاشٍ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَبَأْسٌ شَدِيدٌ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِالْقَلْعَةِ، فَكَانَ يُرْسِلُ أَصْحَابَهُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا لَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُمْ، وَجَعَلُوا لَهُ عَلَى الْقُرَى السُّلْطَانِيَّةِ وَأَمَّلَاكِ النَّاسِ ضَرَائِبَ يَأْخُذُونَهَا لِيَكَفُّوا عَنْهَا الْأَذَى، فَتَعَذَّرَ بِذَلِكَ انْتِفَاعُ السُّلْطَانِ بِقُرَاهُ، وَالنَّاسُ بِأَمْلَاكِهِمْ، وَتَمَشَّى لَهُمُ الْأَمْرُ بِالْخُلْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ بَرْكِيَارُقَ وَمُحَمَّدٍ.
فَلَمَّا صَفَتِ السَّلْطَنَةُ لِمُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَمْرٌ أَهَمَّ مِنْ قَصْدِ الْبَاطِنِيَّةِ وَحَرْبِهِمْ، وَالِانْتِصَافِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ جَوْرِهِمْ وَعَسْفِهِمْ، فَرَأَى الْبِدَايَةَ بِقَلْعَةِ أَصْبَهَانَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ الْأَذَى بِهَا أَكْثَرُ، وَهِيَ مُتَسَلِّطَةٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فَحَاصَرَهُمْ فِي سَادِسِ شَعْبَانَ.
وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ أَوَّلَ رَجَبٍ، فَسَاءَ ذَلِكَ مَنْ يَتَعَصَّبُ لَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَأَرْجَفُوا أَنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَدْ وَرَدَ بَغْدَاذَ وَمَلَكَهَا، وَافْتَعَلُوا فِي ذَلِكَ مُكَاتَبَاتٍ، ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّ خَلَلًا قَدْ تَجَدَّدَ بِخُرَاسَانَ، فَتَوَقَّفَ السُّلْطَانُ لِتَحْقِيقِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ عَزَمَ عَزِيمَةَ مِثْلِهِ، وَقَصَدَ حَرْبَهُمْ، وَصَعِدَ جَبَلًا يُقَابِلُ الْقَلْعَةَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَنُصِبَ لَهُ التَّخْتُ فِي أَعْلَاهُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَسَوَادِهَا لِحَرْبِهِمُ الْأُمَمُ الْعَظِيمَةُ لِلذُّحُولِ الَّتِي يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا.
وَأَحَاطُوا بِجَبَلِ الْقَلْعَةِ وَدُورُهُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَرَتَّبَ الْأُمَرَاءَ لِقِتَالِهِمْ، فَكَانَ يُقَاتِلُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرٌ، فَضَاقَ الْأَمْرُ بِهِمْ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهِمْ، وَتَعَذَّرَتْ عِنْدَهُمُ الْأَقْوَاتُ.
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ كَتَبُوا فَتْوَى فِيهَا: مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ فِي

(8/542)


قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُونَ فِي الْإِمَامِ: هَلْ يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ مُهَادَنَتُهُمْ وَمُوَادَعَتُهُمْ، وَأَنْ يَقْبَلَ طَاعَتَهُمْ، وَيَحْرُسَهُمْ مِنْ كُلِّ أَذًى؟ فَأَجَابَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ، فَجُمِعُوا لِلْمُنَاظَرَةِ، وَمَعَهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَنْجَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ، بِمَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ، يَجِبُ قِتَالُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِمَكَانِهِمْ، وَلَا يَنْفَعُهُمُ التَّلَفُّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ إِمَامِكُمْ، إِذَا أَبَاحَ لَكُمْ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ، أَوْ حَظَرَ عَلَيْكُمْ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ أَتَقْبَلُونَ أَمْرَهُ؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَعَمْ، وَحِينَئِذٍ تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ. وَطَالَتِ الْمُنَاظَرَةُ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَاطِنِيَّةَ سَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنَاظِرُهُمْ، وَعَيَّنُوا عَلَى أَشْخَاصٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ يَحْيَى، شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بأَصْبَهَانَ، وَقَاضِيهَا، وَغَيْرُهُ، فَصَعِدُوا إِلَيْهِمْ وَنَاظَرُوهُمْ، وَعَادُوا كَمَا صَعِدُوا. وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمُ التَّعَلُّلَ وَالْمُطَاوَلَةَ، فَلَجَّ حِينَئِذٍ السُّلْطَانُ فِي حَصْرِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَ الْمُحَاقَّةِ، أَذْعَنُوا إِلَى تَسْلِيمِ الْقَلْعَةِ عَلَى أَنْ يُعْطَوْا عِوَضًا عَنْهَا قَلْعَةَ خَالِنْجَانَ، وَهِيَ عَلَى سَبْعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا مِنَ الْعَامَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَكَانٍ نَحْتَمِي بِهِ مِنْهُمْ، فَأُشِيرَ عَلَى السُّلْطَانِ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَسَأَلُوا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى النَّوْرُوزِ لِيَرْحَلُوا إِلَى خَالِنْجَانَ وَيُسَلِّمُوا قَلْعَتَهُمْ، وَشَرَطُوا أَنْ لَا يَسْمَعَ قَوْلَ مُتَنَصِّحٍ فِيهِمْ، وَإِنْ قَالَ أَحَدٌ عَنْهُمْ شَيْئًا سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَا أَتَاهُ مِنْهُمْ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، وَطَلَبُوا أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَا يَكْفِيهِمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَأُجِيبُوا إِلَيْهِ فِي كُلِّ هَذَا، وَقَصْدُهُمُ الْمُطَاوَلَةُ انْتِظَارًا لَفَتْقٍ أَوَحَادَثٍ يَتَجَدَّدُ.
وَرَتَّبَ لَهُمْ وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَعْدُ الْمُلْكِ مَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ، وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا هُمْ يُرْسِلُونَ، وَيَبْتَاعُونَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا يَجْمَعُونَهُ لِيَمْتَنِعُوا فِي قَلْعَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ وَضَعُوا مِنْ أَصْحَابِهِمْ مَنْ يَقْتُلُ أَمِيرًا كَانَ يُبَالِغُ فِي قِتَالِهِمْ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَجَرَحُوهُ، وَسَلِمَ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِخْرَابِ قَلْعَةِ

(8/543)


خَالِنْجَانَ، وَجَدَّدَ الْحِصَارَ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا أَنْ يَنْزِلَ بَعْضُهُمْ، وَيُرْسِلَ السُّلْطَانُ مَعَهُمْ مَنْ يَحْمِيهِمْ إِلَى أَنْ يَصِلُوا إِلَى قَلْعَةِ النَّاظِرِ بِأَرَّجَانَ، وَهِيَ لَهُمْ، وَيَنْزِلُ بَعْضُهُمْ، وَيُرْسِلُ مَعَهُمْ مَنْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى طَبَسَ، وَأَنْ يُقِيمَ الْبَقِيَّةُ مِنْهُمْ فِي ضِرْسٍ مِنَ الْقَلْعَةِ، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُخْبِرُهُمْ بِوُصُولِ أَصْحَابِهِمْ، فَيَنْزِلُونَ حِينَئِذٍ، وَيُرْسِلُ مَعَهُمْ مَنْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى ابْنِ الصَّبَّاحِ بِقَلْعَةِ أَلَمَوْتَ، فَأَجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَنَزَلَ مِنْهُمْ إِلَى النَّاظِرِ، وَإِلَى طَبَسَ، وَسَارُوا، وَتَسَلَّمَ السُّلْطَانُ الْقَلْعَةَ وَخَرَّبَهَا.
ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى قَلْعَةِ النَّاظِرِ وَطَبَسَ وَصَلَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ ابْنَ عَطَّاشٍ بِوُصُولِهِمْ، فَلَمْ يُسَلِّمِ السِّنَّ الَّذِي بَقِيَ بِيَدِهِ، وَرَأَى السُّلْطَانُ مِنْهُ الْغَدْرَ، وَالْعَوْدَ عَنِ الَّذِي قَرَّرَهُ، فَأَمَرَ بِالزَّحْفِ إِلَيْهِ، فَزَحَفَ النَّاسُ عَامَّةً ثَانِيَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ قَدْ قَلَّ عِنْدَهُ مَنْ يَمْنَعُ وَيُقَاتِلُ، فَظَهَرَ مِنْهُمْ صَبْرٌ عَظِيمٌ، وَشُجَاعَةٌ زَائِدَةٌ، وَكَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ إِلَى السُّلْطَانِ إِنْسَانٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى عَوْرَةٍ لَهُمْ، فَأَتَى بِهِمْ إِلَى جَانِبٍ لِذَلِكَ السِّنِّ لَهُمْ لَا يُرَامُ، فَقَالَ لَهُمْ: اصْعَدُوا مِنْ هَاهُنَا، فَقِيلَ إِنَّهُمْ قَدْ ضَبَطُوا هَذَا الْمَكَانَ وَشَحَنُوهُ بِالرِّجَالِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَرَوْنَ أَسْلِحَةٌ وَكُزَاغَنْدَاتٌ قَدْ جَعَلُوهَا كَهَيْئَةِ الرِّجَالِ لِقِلَّتِهِمْ عِنْدَهُمْ.
وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ بَقِيَ ثَمَانِينَ رَجُلًا، فَزَحَفَ النَّاسُ مِنْ هُنَاكَ، فَصَعِدُوا مِنْهُ وَمَلَكُوا الْمَوْضِعَ، وَقُتِلَ أَكْثَرُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَاخْتَلَطَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَعَ مَنْ دَخَلَ، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ، وَأَمَّا ابْنُ عَطَّاشٍ فَإِنَّهُ أُخِذَ أَسِيرًا، فَتُرِكَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَشُهِّرَ فِي جَمِيعِ الْبَلَدِ، وَسُلِخَ جِلْدُهُ، فَتَجَلَّدَ حَتَّى مَاتَ، وَحُشِيَ جِلْدُهُ تِبْنًا، وَقُتِلَ وَلَدُهُ، وَحُمِلَ رَأْسَاهُمَا إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَلْقَتْ زَوْجَتُهُ نَفْسَهَا مِنْ رَأْسِ الْقَلْعَةِ فَهَلَكَتْ، وَكَانَ مَعَهَا جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهَا، فَهَلَكَتْ أَيْضًا وَضَاعَتْ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْبَلْوَى بِابْنِ عَطَّاشٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.

ذِكْرُ الْخُلْفِ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ وَمُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ الْبَطِيحَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اخْتَلَفَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَمُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ السَّعِيدُ بْنُ أَبِي

(8/544)


الْجَبْرِ، صَاحِبُ الْبَطِيحَةِ، وَانْضَافَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ إِلَى صَدَقَةَ، وَأَظْهَرَ مُعَادَاةَ ابْنِ عَمِّهِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ لَمَّا أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مَدِينَةَ وَاسِطَ ضَمِنَهَا مِنْهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، وَاسْتَنَابَ فِي الْأَعْمَالِ أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ، فَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ، وَفَرَّطُوا فِيهَا، وَفَرَّقُوهَا، فَلَمَّا انْقَضَتِ السَّنَةُ طَالَبَهُ صَدَقَةُ بِالْمَالِ، وَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَعَى فِي خَلَاصِهِ بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ، وَهُوَ صِهْرُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ الْبَطِيحَةِ وَضَمِنَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ وَاسِطَ، فَانْحَلَّ عَلَى مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ كَثِيرٌ مِنْ أَمْرِهِ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْمُصْطَنَعَ إِسْمَاعِيلَ، جَدَّ حَمَّادٍ، وَالْمُخْتَصَّ مُحَمَّدًا، وَالِدَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، أَخَوَانِ، وَهُمَا ابْنَا أَبِي الْجَبْرِ، وَكَانَتْ إِلَيْهِمَا رِئَاسَةُ أَهْلِهِمَا وَجَمَاعَتِهِمَا، فَهَلَكَ الْمُصْطَنَعُ، وَقَامَ ابْنُهُ أَبُو السَّيِّدِ الْمُظَفَّرُ وَالِدُ حَمَّادٍ مَقَامَهُ وَهَلَكَ الْمُخْتَصُّ مُحَمَّدٌ، وَقَامَ ابْنُهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ مَقَامَهُ، وَصَارَا يَتَنَازَعَانِ ابْنَ الْهَيْثَمِ، صَاحِبَ الْبَطِيحَةِ، وَيُقَاتِلَانِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، أَيَّامَ كُوهْرَائِينَ، وَسَلَّمَهُ إِلَى كُوهْرَائِينَ، فَحَمَلَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَهَلَكَ فِي طَرِيقِهَا. فَعَظُمَ أَمْرُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَصَيَّرَهُ كُوهَرَائِينُ أَمِيرُ الْبَطِيحَةِ، فَصَارَ ابْنُ عَمِّهِ وَجَمَاعَةٌ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَكَانَ حَمَّادٌ شَابًّا فَأَكْرَمَهُ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، وَزَوَّجَهُ بِنْتًا لَهُ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعِهِ، فَكَثُرَ مَالُهُ، فَصَارَ يَحْسُدُ مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ، وَيُضْمِرُ بُغْضَهُ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ يُدَارِيهِ بِجُهْدِهِ، فَلَمَّا هَلَكَ كُوهَرَائِينُ انْتَقَلَ حَمَّادٌ عَنْ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ، فَاجْتَهَدَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ فِي إِعَادَتِهِ إِلَى مَا كَانَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَسَكَتَ عَنْهُ، فَجَمَعَ النَّفِيسُ بْنُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ جَمْعًا وَقَصَدَ حَمَّادًا، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِالْحِلَّةِ، فَأَعَادَهُ صَدَقَةُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَحَشَدَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ حَمَّادٌ إِلَى صَدَقَةَ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْجُنْدِ، فَقَوَّى عَزْمَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمُحَارَبَةِ لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ الْعَجْزُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنْ مَوْضِعِهِ لِحَصَانَتِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَيَّرَ سُفُنَهُ وَأَصْحَابَهُ فِي الْأَنْهُرِ، فَجَعَلَ حَمَّادٌ وَأَخُوهُ لَهُ الْكُمَنَاءَ، وَانْدَفَعُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَطَمِعَ أَصْحَابُ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَتَبِعُوهُمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْكُمَنَاءُ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ

(8/545)


إِلَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَأَسَرَ خَلْقًا كَثِيرًا، فَقَوِيَ طَمَعُ حَمَّادٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَدَقَةَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُقَدَّمَ جَيْشِهِ سَعِيدَ بْنَ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيَّ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ، وَجَمَعُوا السُّفُنَ لِيُقَاتِلُوا مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ، فَرَأَوْا أَمْرًا مُحْكَمًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ.
وَكَانَ حَمَّادٌ بَخِيلًا، وَمُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ جَوَادًا، فَأَرْسَلَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْإِقَامَاتِ الْوَافِرَةَ، وَالصِّلَاتِ الْكَثِيرَةَ، وَاسْتَمَالَهُ، فَمَالَ إِلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَتَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ أَرْسَلَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ ابْنَهُ النَّفِيسَ إِلَى صَدَقَةَ، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَمَّادٍ ابْنِ عَمِّهِمْ، وَعَادُوا إِلَى حَالٍ حَسَنَةٍ مِنَ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ صُلْحُهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ.

ذِكْرُ قَتَلِ وَزِيرِ السُّلْطَانِ وَوِزَارَةِ أَحْمَدَ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ عَلَى وَزِيرِهِ سَعْدِ الْمُلْكِ أَبِي الْمَحَاسِنِ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَصَلَبَهُ عَلَى بَابِ أَصْبَهَانَ، وَصَلَبَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ وَالْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، أَمَّا الْوَزِيرُ فَنُسِبَ إِلَى خِيَانَةِ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَنُسِبُوا إِلَى اعْتِقَادِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ يَصْحَبُ تَاجَ الْمُلْكِ أَبَا الْغَنَائِمِ، وَتَعَطَّلَ بَعْدَهُ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَجَعَلَهُ عَلَى دِيوَانِ الِاسْتِيفَاءِ، وَخَدَمَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا حَصَرَهُ أَخُوهُ السُّلْطَانُ بُرْكِيارُقَ بَأَصْبَهَانَ خِدْمَةً حَسَنَةً، وَلَمَّا فَارَقَهَا مُحَمَّدٌ حَفِظَهَا الْحِفْظَ التَّامَّ، وَقَامَ الْمَقَامَ الْعَظِيمَ، فَاسْتَوْزَرَهُ مُحَمَّدٌ، وَوَسَّعَ لَهُ فِي الْإِقْطَاعِ، وَحَكَّمَهُ فِي دَوْلَتِهِ، ثُمَّ نَكَبَهُ، وَهَذَا آخِرُ خِدْمَةِ الْمُلُوكِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَزَوْجَةٌ تُرْضِيهِ، وَلَا يَعْرِفُ أَبْوَابَنَا هَذِهِ الْخَبِيثَةَ فَتُؤْذِيَهُ.
وَلَمَّا قُبِضَ الْوَزِيرُ اسْتَشَارَ السُّلْطَانُ فِي مَنْ يَجْعَلُهُ وَزِيرًا، فَذُكِرَ لَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: إِنَّ آبَائِي دَرُّوا عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ الْبَرَكَةَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ الْكَثِيرُ، وَأَوْلَادُهُ أَغْذِيَاءُ نِعْمَتِنَا، وَلَا مَعْدِلَ عَنْهُمْ. فَأَمَرَ لِأَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ هَذَا بِالْوِزَارَةِ، وَلُقِّبَ أَلْقَابَ أَبِيهِ: قِوَامُ الدِّينِ، نِظَامُ الْمُلْكِ، صَدْرُ الْإِسْلَامِ.
وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِهِ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى انْقِرَاضَ دَوْلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ لَزِمَ

(8/546)


دَارَهُ بِهَمَذَانَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ رَئِيسَ هَمَذَانَ، وَهُوَ الشَّرِيفُ أَبُو هَاشِمٍ، آذَاهُ، فَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ شَاكِيًا مِنْهُ وَمُتَظَلِّمًا، فَقَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْوَزِيرِ، وَأَحْمَدَ هَذَا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ ذَكَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خُلَعَ الْوِزَارَةِ، وَحَكَّمَهُ وَمَكَّنَهُ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ حَضَرَ شَاكِيًا، فَصَارَ حَاكِمًا.
ذِكْرُعِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ جَهِيرٍ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فَقَصَدَ دَارَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ (صَدَقَةَ بَبَغْدَاذَ) (مُلْتَجِئًا إِلَيْهَا، وَكَانَتْ مَلْجَأً لِكُلِّ مَلْهُوفٍ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ مَنْ أَخَذَهُ إِلَيْهِ إِلَى الْحِلَّةِ، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَقْضِ دَارِهِ الَّتِي بِبَابِ الْعَامَّةِ، وَفِيهَا عِبْرَةٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ أَبَا نَصْرِ بْنَ جَهِيرٍ بَنَاهَا بِأَنْقَاضِ أَمْلَاكِ النَّاسِ، وَأَخَذَ بِسَبَبِهَا أَكْثَرَ مَا دَخَلَ فِيهَا، فَخَرِبَتْ عَنْ قَرِيبٍ.
وَلَمَّا عُزِلَ اسْتُنِيبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، ثُمَّ تَقَرَّرَتِ الْوِزَارَةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ لِأَبِي الْمَعَالِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ فِيهِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو الْفَوَارِسِ سُرْخَابُ بْنُ بَدْرِ بْنِ مُهَلْهَلٍ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي الشَّوْكِ الْكُرْدِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَخُيُولٌ لَا تُحْصَى، وَوَلِيَ الْإِمْرَةَ بَعْدَهُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ بَدْرٍ، وَقَامَ مَقَامَهُ، وَبَقِيَتِ الْإِمَارَةُ فِي بَيْتِهِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

(8/547)


وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الْفَتْحِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَدَّادُ الْأَصْبَهَانِيُّ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ، مَشْهُورًا بِالرِّوَايَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ السَّرَّاجُ الْبَغْدَاذِيُّ فِي صَفَرٍ، وَهُوَ مُكْثِرٌ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ، وَأَشْعَارٌ لَطِيفَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الزَّمَانِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَبُو مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ، الْفَقِيهُ، وَلِيَ التَّدْرِيسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَيْضًا.
وَأَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّيْرَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطُّيُورِيِّ الْبَغْدَاذِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْحَدِيثِ ثِقَةً صَالِحًا عَابِدًا، وَأَبُو الْكَرَمِ الْمُبَارَكُ بْنُ الْفَاخِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ النَّحْوِيُّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَالْجَوْهَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ.

(8/548)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَة]
501 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ قَتْلِ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، قُتِلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، أَمِيرُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْحِلَّةَ السَّيْفِيَّةَ بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ، وَعَلَا قَدْرُهُ، وَاتَّسَعَ جَاهُهُ، وَاسْتَجَارَ بِهِ صِغَارُ النَّاسِ وَكِبَارُهُمْ، فَأَجَارَهُمْ.
وَكَانَ كَثِيرَ الْعِنَايَةِ بِأُمُورِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ،، وَالتَّقْوِيَةِ لِيَدِهِ، وَالشَّدِّ مِنْهُ عَلَى أَخِيهِ بُرْكِيارُقَ، حَتَّى إِنَّهُ جَاهَرَ بُرْكِيارُقَ بِالْعَدَاوَةِ، وَلَمْ يَبْرَحْ عَلَى مُصَافَاةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَزَادَهُ مُحَمَّدٌ إِقْطَاعًا مِنْ جُمْلَتْهِ مَدِينَةُ وَاسِطَ، وَأَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَفْسَدَ مَا بَيْنَهُمَا الْعَمِيدُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَلْخِيُّ، وَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ عَنْهُ: إِنَّ صَدَقَةَ قَدْ عَظُمَ أَمْرُهُ، وَزَادَ حَالُهُ، وَكَثُرَ إِدْلَالُهُ، وَيَبْسُطُ فِي الدَّوْلَةِ حِمَايَتَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَفِرُّ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ، وَهَذَا لَا تَحْتَمِلُهُ الْمُلُوكُ لِأَوْلَادِهِمْ، وَلَوْ أَرْسَلْتَ بَعْضَ أَصْحَابِكَ لَمَلَكَ بِلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَدَّى ذَلِكَ حَتَّى طَعَنَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَنَسَبَهُ وَأَهْلَ بَلَدِهِ إِلَى مَذْهَبِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَكَذَبَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبَهُ التَّشَيُّعُ لَا غَيْرَ، وَوَافَقَ أَرْغُونُ السَّعْدِيُّ أَبَا جَعْفَرٍ الْعَمِيدَ وَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَدَقَةَ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ أَرْغُوَنَ بِالْحِلَّةِ وَأَهْلُهُ، فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ لَهُ أَيْضًا هُنَاكَ [مِنْ] بَقَايَا خَرَاجٍ بِبَلَدِهِ، فَأَمَرَ صَدَقَةُ أَنْ يَخْلُصَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِأَجْمَعِهِ وَيُسَلَّمَ إِلَى زَوْجَتِهِ.

(8/549)


وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ فَإِنَّ صَدَقَةَ كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، يَسْتَجِيرُ بِهِ كُلُّ خَائِفٍ مِنْ خَلِيفَةٍ وَسُلْطَانٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ سَخِطَ عَلَى أَبِي دُلَفَ سُرْخَابَ بْنِ كَيْخَسْرُو، صَاحِبِ سَاوَةَ وَآبَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَقَصَدَ صَدَقَةَ فَاسْتَجَارَ بِهِ، فَأَجَارَهُ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ يَطْلُبُ مِنْ صَدَقَةَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى نُوَّابِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَجَابَ: إِنَّنِي لَا أُمَكِّنُ مِنْهُ بَلْ أُحَامِي عَنْهُ، وَأَقُولُ مَا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ لِقُرَيْشٍ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَنُسْلِمَهُ، حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَظَهَرَ مِنْهُ أُمُورٌ أَنْكَرَهَا السُّلْطَانُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَتَلَافَى هَذَا الْأَمْرَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَدَقَةُ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الَّذِي يَفْعَلُهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْنُهُ دُبَيْسٌ بِأَنْ يُنْفِذَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ، وَالْخَيْلُ، وَالتُّحَفُ، لِيَسْتَعْطِفَ لَهُ السُّلْطَانَ، وَأَشَارَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، صَاحِبُ جَيْشِ صَدَقَةَ، بِالْمُحَارَبَةِ، وَجَمْعِ الْجُنْدِ، وَتَفْرِيقِ الْمَالِ فِيهِمْ، وَاسْتَطَالَ فِي الْقَوْلِ، فَمَالَ صَدَقَةُ إِلَى قَوْلِهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عِشْرُونَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ يُحَذِّرُهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَيَعْرِضُ لَهُ تَوَسُّطَ الْحَالِ، فَأَجَابَ صَدَقَةُ: إِنَّنِي عَلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ، لَكِنْ لَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَكَانَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ عَنِ الْخَلِيفَةِ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ عَلِيَّ بْنَ طَرَّادٍ الزَّيْنَبِيَّ.
ثُمَّ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبَا سَعِيدٍ الْهَرَوِيَّ إِلَى صَدَقَةَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَيُزِيلُ خَوْفَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالِانْبِسَاطِ عَلَى عَادَتِهِ، وَيُعَرِّفُهُ عَزْمَهُ عَلَى قَصْدِ الْفِرِنْجِ، وَيَأْمُرُهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغُزَاةِ مَعَهُ، فَأَجَابَ: إِنَّ السُّلْطَانَ قَدْ أَفْسَدَ أَصْحَابُهُ قَلْبَهُ عَلَيَّ، وَغَيَّرُوا حَالِي مَعَهُ، وَزَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَقِّي مِنَ الْإِنْعَامِ، وَذَكَرَ سَالِفَ خِدْمَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، صَاحِبُ جَيْشِهِ: لَمْ يَبْقَ لَنَا فِي صُلْحِ السُّلْطَانِ مَطْمَعٌ، وَلَتَرَوُنَّ خُيُولَنَا بِحُلْوَانَ، وَامْتَنَعَ صَدَقَةُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِالسُّلْطَانِ.
وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ نِظَامُ الْمُلْكِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَسَيَّرَ الْبُرْسُقِيَّ، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى صَرْصَرَ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا.

(8/550)


وَكَانَ وُصُولُ السُّلْطَانِ، جَرِيدَةً، لَا يَبْلُغُ عَسْكَرُهُ أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ بِبَغْدَاذَ مُكَاشَفَةَ صَدَقَةَ، أَرْسَلَ إِلَى الْأُمَرَاءِ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ، وَتَعْجِيلِ ذَلِكَ، فَوَرَدُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
ثُمَّ وَصَلَ كِتَابُ صَدَقَةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَذْكُرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ مَا يَرْسُمُ لَهُ وَيُقَرِّرُ مِنْ حَالِهِ مَعَ السُّلْطَانِ، وَمَهْمَا أَمَرْتَهُ مِنْ ذَلِكَ امْتَثَلَهُ، فَأَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ الْكِتَابَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: أَنَا مُمْتَثِلٌ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَلَا مُخَالَفَةَ عِنْدِي، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى صَدَقَةَ يُعَرِّفُهُ إِجَابَةَ السُّلْطَانِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ ثِقَتِهِ لِيَسْتَوْثِقَ لَهُ، وَيَحْلِفَ السُّلْطَانُ عَلَى مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ. فَعَادَ (صَدَقَةُ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَقَالَ: إِذَا رَحَلَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ) أَمْدَدْتُهُ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَأَمَّا الْآنَ وَهُوَ بِبَغْدَاذَ، وَعَسْكَرُهُ بِنَهْرِ الْمَلِكِ، فَمَا عِنْدِي مَالٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّ جَاوْلِي سَقَّاوُو، وَإِيلْغَازِي بْنَ أُرْتُقَ، قَدْ أَرْسَلَا إِلَيَّ بِالطَّاعَةِ لِي وَالْمُوَافَقَةِ مَعِي عَلَى مُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَمَتَى أَرَدْتُهُمَا وَصَلَا إِلَيَّ (فِي عَسَاكِرِهِمَا.
وَوَرَدَ إِلَى) السُّلْطَانِ قِرْوَاشُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَكَرْمَاوِي بْنُ خُرَاسَانَ التُّرْكُمَانِيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ فَضْلُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، وَآبَاؤُهُ كَانُوا أَصْحَابَ الْبَلْقَاءِ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الَّذِي مَدَحَهُ التِّهَامِيُّ، وَكَانَ فَضْلٌ تَارَةً مَعَ الْفِرِنْجِ، وَتَارَةً مَعَ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا رَآهُ طُغْتِكِينُ أَتَابِكُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ طَرَدَهُ مِنَ الشَّامِ، فَلَمَّا طَرَدَهُ الْتَجَأَ إِلَى صَدَقَةَ وَعَاقَدَهُ، فَأَكْرَمَهُ صَدَقَةُ، وَأَهْدَى لَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً مِنْهَا سَبْعَةُ آلَافِ دِينَارٍ عَيْنًا.
فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ بَيْنَ صَدَقَةَ وَالسُّلْطَانِ سَارَ فِي الطَّلَائِعِ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ خَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ صَدَقَةَ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى قِتَالِ صَدَقَةَ اسْتَأْذَنَهُ فَضْلٌ فِي إِتْيَانِ الْبَرِّيَّةِ لِيَمْنَعَ صَدَقَةَ مِنَ الْهَرَبِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَعَبَرَ بِالْأَنْبَارِ وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَأَنْفَذَ السُّلْطَانُ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى وَاسِطَ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ بُوقَا التُّرْكُمَانِيَّ، فَأَخْرَجَ عَنْهَا نَائِبَ صَدَقَةَ، وَأَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، إِلَّا أَصْحَابَ صَدَقَةَ، فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ يُنْهَبْ

(8/551)


أَحَدٌ، وَأَنْفَذَ خَيْلَهُ إِلَى بَلَدِ قَوْسَانَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ صَدَقَةَ، فَنَهَبَهُ أَقْبَحَ نَهْبٍ، وَأَقَامَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَأَرْسَلَ صَدَقَةُ إِلَيْهِ ثَابِتَ بْنَ سُلْطَانٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ صَدَقَةَ، وَمَعَهُ عَسْكَرٌ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا خَرَجَ مِنْهَا الْأَتْرَاكُ، وَأَقَامَ ثَابِتٌ بِهَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ دِجْلَةُ.
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ بُوقَا عَبَّرَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ ارْتَضَاهُمْ، وَعَرَفَ شَجَاعَتَهُمْ، فَوَقَفُوا عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَلَى نَهْرٍ سَالِمٍ، يَكُونُ ارْتِفَاعُهُ نَحْوَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَقَصَدَهُمْ ثَابِتٌ وَعَسْكَرُهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْرَبُوا التُّرْكَ مِنَ النُّشَّابِ، وَالْمَدَدُ يَأْتِيهِمْ مِنِ ابْنِ بُوقَا، وَجُرِحَ ثَابِتٌ فِي وَجْهِهِ، وَكَثُرَ الْجِرَاحُ فِي أَصْحَابِهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَبِعَهُمُ الْأَتْرَاكُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَأَسَرُوا، وَنَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ مَدِينَةَ وَاسِطَ، وَاخْتَلَطَ بِهِمْ رَجَّالَةُ ثَابِتٍ، فَنَهَبَتْ مَعَهُمْ، فَسَمِعَ ابْنُ بُوقَا الْخَبَرَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمْ، وَقَدْ نَهَبُوا بَعْضَ الْبَلَدِ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَأَقْطَعَ السُّلْطَانُ، أَوَاخِرَ جُمَادَى الْأُولَى، مَدِينَةَ وَاسِطَ لِقَسِيمَ الدَّوْلَةِ الْبُرْسُقِيِّ وَأَمَرَ ابْنَ بُوقَا بِقَصْدِ بَلَدِ صَدَقَةَ وَنَهْبِهِ، فَنَهَبُوا فِيهِ مَا لَا يُحَدُّ.
وَأَمَّا السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى الزَّعْفَرَانِيَّةِ، ثَانِيَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ الْمُطَّلِبِ يَأْمُرُهُ بِالتَّوَقُّفِ، وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ خَوْفًا عَلَى الرَّعِيَّةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، وَأَشَارَ قَاضِي أَصْبَهَانَ بِذَلِكَ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَأَجَابَ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى صَدَقَةَ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ عَلِيَّ بْنَ طَرَّادٍ، وَجَمَالَ الدَّوْلَةِ مُخْتَصًّا الْخَادِمَ، فَسَارُوا إِلَى صَدَقَةَ فَأَبْلَغَاهُ رِسَالَةَ الْخَلِيفَةِ يَأْمُرُهُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، فَاعْتَذَرَ صَدَقَةُ، وَقَالَ: مَا خَالَفْتُ الطَّاعَةَ، وَلَا قَطَعْتُ الْخُطْبَةَ فِي بَلَدِي. وَجَهَّزَ ابْنَهُ دُبَيْسًا لِيَسِيرَ مَعَهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ.
(فَبَيْنَمَا الرُّسُلُ) وَصَدَقَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، إِذْ وَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ قَدْ عَبَرُوا مِنْ مَطِيرَابَاذَ، وَأَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ صَدَقَةَ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، فَتَجَلَّدَ صَدَقَةُ لِأَجْلِ الرُّسُلِ، وَهُوَ يَشْتَكِي الرُّكُوبَ إِلَى أَصْحَابِهِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الرُّسُلُ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ يُنْكِرُونَهُ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمُوا إِلَى الْعَسْكَرِ، عِنْدَ عُبُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى حَرْبٍ، حَتَّى نَعُودَ، فَإِنَّ الصُّلْحَ قَدْ قَارَبَ. فَقَالَ صَدَقَةُ لِلرَّسُولِ: كَيْفَ أَثِقُ أُرْسِلُ وَلَدِيَ الْآنَ وَكَيْفَ آمَنُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَرَى مَا تَرَوْنَ؟ فَإِنْ

(8/552)


تَكَفَّلْتُمْ بِرَدِّهِ إِلَيَّ أَنَفَذْتُهُ. فَلَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى كَفَالَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَعْتَذِرُ عَنْ إِنْفَاذِ وَلَدِهِ بِمَا جَرَى.
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَنَّ عَسْكَرَ السُّلْطَانِ لَمَّا رَأَوُا الرُّسُلَ اعْتَقَدُوا وُقُوعَ الصُّلْحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَنْهَبُ شَيْئًا قَبْلَ الصُّلْحِ، فَأَجَابَ الْبَعْضُ وَامْتَنَعَ الْبَعْضُ، فَعَبَرَ مَنْ أَجَابَ النَّهْرَ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ مَنْ لَمْ يُجِبْ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى خَوَرٍ وَجُبْنٍ، وَلِئَلَّا يَتِمَّ عَلَى مَنْ عَبَرَ وَهَنٌ، فَيَكُونَ عَارُهُ وَأَذَاهُ عَلَيْهِمْ، فَعَبَرُوا بَعْدَهُمْ أَيْضًا، فَأَتَاهُمْ أَصْحَابُ صَدَقَةَ وَقَاتَلُوهُمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْأَتْرَاكِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَغَرِقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ: الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ يَاغِي سِيَّانَ الَّذِي كَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ عُمُرُهُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُحِبًّا (لِلْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ) ، وَبَنَى بِإِقْطَاعِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ عِدَّةَ مَدَارِسَ. وَلَمْ يَجْسُرِ الْأَتْرَاكُ عَلَى أَنْ يُعَرِّفُوا السُّلْطَانَ بِمَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدَّوَابِّ خَوْفًا مِنْهُ، حَيْثُ فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَطَمِعَ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْهَزِيمَةِ، وَظَهَرَ مِنْهُمُ الْفَخْرُ وَالتِّيهُ وَالطَّمَعُ، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ بَاعُوا كُلَّ أَسِيرٍ بِدِينَارٍ، وَأَنَّ ثَلَاثَةً بَاعُوا أَسِيرًا بِخَمْسَةِ قَرَارِيطَ وَأَكَلُوا بِهَا خُبْزًا وَهَرِيسَةً، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ: مَنْ يَتَغَدَّى بِأَسِيرٍ، وَيَتَعَشَّى بِآخَرَ؟ وَظَهَرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ.
وَأَعَادَ الْخَلِيفَةُ مُكَاتَبَةَ صَدَقَةَ بِتَحْرِيرِ أَمْرِ الصُّلْحِ، فَأَجَابَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَكَتَبَ صَدَقَةُ أَيْضًا إِلَى السُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُ، وَمِنَ الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ، وَأَنَّ جُنْدَ السُّلْطَانِ (عَبَرَتْ إِلَى) أَصْحَابِهِ، فَمَنَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ، وَلَمْ يَنْزِعْ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَا قَطَعَ خُطْبَتَهُ مِنْ بَلَدِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ صَدَقَةُ كَاتَبَهُ قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ، وَأَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ إِلَى صَدَقَةَ، (فَقَصَدَ السُّلْطَانَ أَوَّلًا، وَأَخَذَ يَدَهُ بِالْأَمَانِ لِمَنْ يَقْصِدُهُ مَنْ أُقَارِبِ صَدَقَةَ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى صَدَقَةَ) وَقَالَا لَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ: إِنَّ إِصْلَاحَ قَلْبِ السُّلْطَانِ

(8/553)


مَوْقُوفٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَسْرَى، وَرَدِّ جَمِيعِ مَا أُخِذَ مِنَ الْعَسْكَرِ الْمُنْهَزِمِ، فَأَجَابَ أَوَّلًا بِالْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَى الرَّحِيلِ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ فَعَلْتُ، لَكِنَّ وَرَائِي مِنْ ظَهْرِي، وَظَهْرِ أَبِي وَجَدِّي، ثَلَاثَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَلَا يَحْمِلُهُنَّ مَكَانٌ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّنِي إِذَا جِئْتُ السُّلْطَانَ مُسْتَسْلِمًا قَبِلَنِي وَاسْتَخْدَمَنِي لَفَعَلْتُ، لَكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ لَا يُقِيلُ عَثْرَتِي، وَلَا يَعْفُو عَنْ زَلَّتِي.
وَأَمَّا مَا نُهِبَ فَإِنَّ الْخَلْقَ كَثِيرٌ، وَعِنْدِي مَنْ لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ نَهَبُوا وَدَخَلُوا الْبَرَّ، فَلَا طَاقَةَ لِي عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ لَا يُعَارِضُنِي فِيمَا فِي يَدِي، وَلَا فِيمَنْ أَجَرْتُهُ، وَأَنْ يُقِرَّ سُرْخَابَ بْنَ كَيْخَسْرُو عَلَى إِقْطَاعِهِ بِسَاوَةَ، وَأَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى ابْنِ بُوقَا بِإِعَادَةِ مَا نُهِبَ مِنْ بِلَادِي، وَأَنْ يَخْرُجَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ يُحَلِّفُهُ بِمَا أَثِقُ بِهِ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَحِينَئِذٍ أَخْدِمُ بِالْمَالِ، وَأَدُوسُ بِسَاطَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَعَادُوا بِهَذَا، وَمَعَهُمْ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ مَعْرُوفٍ، رَسُولُ صَدَقَةَ، فَرَدَّهُمُ الْخَلِيفَةُ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَعَهُمْ قَاضِيَ أَصْبَهَانَ أَبَا إِسْمَاعِيلَ، فَأَمَّا أَبُو إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَعَادَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَأَصَرَّ صَدَقَةُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَحِينَئِذٍ سَارَ السُّلْطَانُ، ثَامِنَ رَجَبٍ، مِنَ الزَّعْفَرَانِيَّةِ، وَسَارَ صَدَقَةُ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى قَرْيَةِ مَطَرٍ، وَأَمَرَ جُنْدَهُ بِلُبْسِ السِّلَاحِ، وَاسْتَأْمَنَ ثَابِتَ بْنَ السُّلْطَانِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ صَدَقَةَ، إِلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَحْسُدُ صَدَقَةَ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّهُ كَانَ بِوَاسِطَ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَوَعَدَهُ الْإِقْطَاعَ.
وَوَرَدَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْهُمْ: بَنُو بُرْسُقَ، وَعَلَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ كَرْشَاسِبُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ فَرَامَرْزَ (أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَاوَيْهِ وَآبَاؤُهُ كَانُوا أَصْحَابَ أَصْبَهَانَ، وَفَرَامَرْزَ) هُوَ الَّذِي سَلَّمَهَا إِلَى طُغْرَلْبَكْ، وَقُتِلَ أَبُوهُ مَعَ تُتُشَ.
وَعَبَرَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ دِجْلَةَ، وَلَمْ يَعْبُرْ هُوَ، فَصَارُوا مَعَ صَدَقَةَ عَلَى أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، بَيْنَهُمَا نَهَرٌ، وَالْتَقَوْا تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَكَانَتِ الرِّيحُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا صَارَتْ فِي ظُهُورِهِمْ، وَفِي وُجُوهِ أَصْحَابِ صَدَقَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْأَتْرَاكَ رَمَوْا بِالنُّشَّابِ، فَكَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ رَشْقَةٍ عَشْرَةُ آلَافِ نَشَّابَةٍ، فَلَمْ يَقَعْ سَهْمٌ إِلَّا فِي فَرَسٍ أَوْ فَارِسٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ صَدَقَةَ كُلَّمَا حَمَلُوا مَنَعَهُمُ النَّهْرُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْأَتْرَاكِ وَالنُّشَّابُ، وَمَنْ عَبَرَ مِنْهُمْ لَمْ يَرْجِعْ، وَتَقَاعَدَتْ عُبَادَةُ وَخَفَاجَةُ، وَجَعَلَ صَدَقَةُ يُنَادِي: يَا آلَ خُزَيْمَةَ، يَا آلَ

(8/554)


نَاشِرَةَ، يَا آلَ عَوْفٍ، وَوَعَدَ الْأَكْرَادَ بِكُلِّ جَمِيلٍ لِمَا ظَهَرَ مِنْ شَجَاعَتِهِمْ، وَكَانَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسِهِ الْمَهْلُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَجُرِحَ الْفَرَسُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ وَأَخَذَهُ الْأَمِيرُ أَحْمَدَيْلُ بَعْدَ قَتْلِ صَدَقَةَ، فَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي سَفِينَةٍ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ.
وَكَانَ لِصَدَقَةَ فَرَسٌ آخَرُ قَدْ رَكِبَهُ حَاجِبُهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ تُفَّاحَةَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ وَقَدْ غَشُوا صَدَقَةَ هَرَبَ عَلَيْهِ، فَنَادَاهُ صَدَقَةُ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَحَمَلَ صَدَقَةُ عَلَى الْأَتْرَاكِ، وَضَرَبَهُ غُلَامٌ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ فَشَوَّهَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا مَلِكُ الْعَرَبِ، أَنَا صَدَقَةُ! فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي ظَهْرِهِ، وَأَدْرَكَهُ غُلَامٌ اسْمُهُ بَزْغَشُ، كَانَ أَشَلَّ، فَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، وَجَذَبَهُ عَنْ فَرَسِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ هُوَ وَالْغُلَامُ، فَعَرَفَهُ صَدَقَةُ، فَقَالَ: يَا بَزْغَشُ ارْفُقْ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ وَحَمْلَهُ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ، فَحَمَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا رَآهُ عَانَقَهُ، وَأَمَرَ لِبَزْغَشَ بِصِلَةٍ.
وَبَقِيَ صَدَقَةُ طَرِيحًا إِلَى أَنْ سَارَ السُّلْطَانُ، فَدَفَنَهُ إِنْسَانٌ مِنَ الْمَدَائِنِ. وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَحُمِلُ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ ابْنُهُ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، وَسُرْخَابُ بْنُ كَيْخَسْرُو الدَّيْلَمِيُّ الَّذِي كَانَتْ هَذِهِ الْحَرْبُ بِسَبَبِهِ، فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، فَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَقَالَ: قَدْ عَاهَدْتُ اللَّهَ أَنَّنِي لَا أَقْتُلُ أَسِيرًا، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْكَ أَنَّكَ بَاطِنِيٌّ قَتَلْتُكَ، وَأُسِرَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيُّ، صَاحِبُ جَيْشِ صَدَقَةَ، وَهَرَبَ بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ إِلَى الْحِلَّةِ، فَأَخَذَ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ مَا أَمْكَنَهُ، وَسَيَّرَ أُمَّهُ وَنِسَاءَهُ إِلَى الْبَطِيحَةِ إِلَى مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ، وَكَانَ بَدْرَانُ صِهْرَ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ عَلَى ابْنَتِهِ، وَنَهَبَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ الْخَطِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ، أُلُوفٌ مُجَلَّدَاتٌ، وَكَانَ يُحْسِنُ يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ، وَكَانَ جَوَادًا، حَلِيمًا، صَدُوقًا، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، مَا بَرِحَ مَلْجَأً

(8/555)


لِكُلِّ مَلْهُوفٍ، يَلْقَى مَنْ يَقْصِدُهُ بِالْبِرِّ وَالتَّفَضُّلِ، وَيَبْسُطُ قَاصِدِيهِ، وَيَزُورُهُمْ، وَكَانَ عَادِلًا، وَالرَّعَايَا مَعَهُ فِي أَمْنٍ وَدَعَةٍ، وَكَانَ عَفِيفًا لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَلَا تَسَرَّى عَلَيْهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ هَذَا؟ وَلَمْ يُصَادِرْ أَحَدًا مِنْ نُوَّابِهِ، وَلَا أَخْذَهُمْ بِإِسَاءَةٍ قَدِيمَةٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُودِعُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي خِزَانَتِهِ، وَيُدِلُّونَ عَلَيْهِ إِدْلَالَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِرَعِيَّةٍ أَحَبَّتْ أَمِيرَهَا كَحُبِّ رَعِيَّتِهِ لَهُ.
وَكَانَ مُتَوَاضِعًا، مُحْتَمِلًا، يَحْفَظُ الْأَشْعَارَ، وَيُبَادِرُ إِلَى النَّادِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا.
وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْحِلَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَطِيحَةِ أَمَانًا لِزَوْجَةِ صَدَقَةَ، وَأَمَرَهَا بِالظُّهُورِ فَأَصْعَدَتْ إِلَى بَغْدَاذَ، فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ ابْنَهَا دُبَيْسًا، وَأَنْفَذَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى لِقَائِهَا، فَلَمَّا لَقِيَهَا ابْنُهَا بَكَيَا بُكَاءً شَدِيدًا، وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى بَغْدَاذَ أَحْضَرَهَا السُّلْطَانُ، وَاعْتَذَرَ مِنْ قَتْلِ زَوْجِهَا، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَيَّ حَتَّى كُنْتُ أَفْعَلُ مَعَهُ مَا يَعْجَبُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْجَمِيلِ وَالْإِحْسَانِ، لَكِنَّ الْأَقْدَارَ غَلَبَتْنِي. وَاسْتَحْلَفَ ابْنَهَا دُبَيْسًا أَنَّهُ لَا يَسْعَى بِفَسَادٍ.

ذِكْرُ وَفَاةِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ يَحْيَى
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسٍ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، ذَكِيًّا، لَهُ مَعْرِفَةٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ حَلِيمًا، كَثِيرَ الْعَفْوِ عَنِ الْجَرَائِمِ الْعَظِيمَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ أَنَّهُ وَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُمْ عَدِيٌّ، وَرَيَاحٌ، فَقُتِلَ رَجُلٌ مِنْ رَيَاحٍ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، وَأَهْدَرُوا دَمَهُ، وَكَانَ صُلْحُهُمْ مَا يَضُرُّ بِهِ وَبِبِلَادِهِ، فَقَالَ أَبْيَاتًا يُحَرِّضُ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ، وَهِيَ:
مَتَّى كَانَتْ دِمَاؤُكُمْ تُطِلُّ ... أَمَا فِيكُمْ بِثَأْرٍ مُسْتَقِلُّ
أَغَانِمُ ثُمَّ سَالِمُ إِنْ فَشِلْتُمْ ... فَمَا كَانَتْ أَوَائِلُكُمْ تَذِلُّ

(8/556)


وَنِمْتُمْ عَنْ طِلَابِ الثَّأْرِ حَتَّى
كَأَنَّ الْعِزَّ فِيكُمْ مُضْمَحِلٌّ ... وَمَا كَسَّرْتُمُ فِيهِ الْعَوَالِي
وَلَا بِيضٌ تُفَلُّ، وَلَا تُسَلُّ
فَعَمَدَ إِخْوَةُ الْمَقْتُولِ فَقَتَلُوا أَمِيرًا مِنْ عَدِيٍّ، وَاشْتَدَّ بَيْنَهُمُ الْقِتَالُ، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى، حَتَّى أَخْرَجُوا بَنِي عَدِيٍّ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ.
قِيلَ: إِنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً بِثَمَنٍ كَثِيرٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّ مَوْلَاهَا الَّذِي بَاعَهَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَأَسِفَ عَلَى فِرَاقِهَا، فَأَحْضَرَهُ تَمِيمٌ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَأَرْسَلَ الْجَارِيَةَ إِلَى دَارِهِ، وَمَعَهَا الْكِسْوَاتُ، وَالْأَوَانِي الْفِضَّةُ، وَغَيْرُهَا، وَمِنَ الطِّيبِ، وَغَيْرِهِ، شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ أَمَرَ مَوْلَاهَا بِالِانْصِرَافِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دَارِهِ وَرَآهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ سُرُورِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَخَذَ الثَّمَنَ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهَا، وَحَمَلَهُ إِلَى دَارِ تَمِيمٍ، فَانْتَهَرَهُ، وَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى دَارِهِ.
وَكَانَ لَهُ فِي الْبِلَادِ أَصْحَابُ أَخْبَارٍ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَرْزَاقًا سَنِيَّةً لِيُطَالِعُوهُ بِأَحْوَالِ أَصْحَابِهِ لِئَلَّا يَظْلِمُوا النَّاسَ، فَكَانَ بِالْقَيْرَوَانِ تَاجِرٌ لَهُ مَالٌ وَثَرْوَةٌ، فَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ التُّجَّارُ تَمِيمًا، وَدَعَوْا لَهُ، وَذَلِكَ التَّاجِرُ حَاضِرٌ، فَتَرَحَّمَ عَلَى أَبِيهِ الْمُعِزِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى تَمِيمٍ، فَأَحْضَرَهُ إِلَى قَصْرِهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ ظَلَمْتُكَ؟ فَقَالَ: لَا! قَالَ: فَهَلْ ظَلَمَكَ بَعْضُ أَصْحَابِي؟ قَالَ: لَا! قَالَ: فَلِمَ أَطْلَقْتَ لِسَانَكَ أَمْسِ بِذَمِّي؟ فَسَكَتَ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ شَرِهَ فِي مَالِهِ لَقَتَلْتُكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُفِعَ فِي حَضْرَتِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَخَرَجَ، وَأَصْحَابُهُ يَنْتَظِرُونَهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَقَالَ: أَسْرَارُ الْمُلُوكِ لَا تُذَاعُ، فَصَارَتْ بِإِفْرِيقِيَّةَ مَثَلًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ تِسْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَخَلَّفَ مِنَ الذُّكُورِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ، وَمِنَ الْبَنَاتِ سِتِّينَ بِنْتًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ حِينَ وُلِّيَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا وُلِّيَ فَرَّقَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ.

(8/557)


ذِكْرُ مُلْكِ يَحْيَى قَلْعَةَ قُلَيْبِيَّةَ
لَمَّا مَلَكَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ بَعْدَ أَبِيهِ، جَرَّدَ عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى قَلْعَةِ قُلَيْبِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ قِلَاعِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَحَصَرَهَا حِصَارًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى فَتَحَهَا وَحَصَّنَهَا، وَكَانَ أَبُوهُ تَمِيمٌ قَدْ رَامَ فَتْحَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ مُظَفَّرًا، مَنْصُورًا، لَمْ يُهْزَمْ لَهُ جَيْشٌ.

ذِكْرُ قُدُومِ ابْنِ عَمَّارٍ بَغْدَاذَ مُسْتَنْفِرًا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَدَ الْقَاضِي فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، إِلَى بَغْدَاذَ، قَاصِدًا بَابَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، مُسْتَنْفِرًا عَلَى الْفِرِنْجِ، طَالِبًا تَسْيِيرَ الْعَسَاكِرِ لِإِزَاحَتِهِمْ، وَالَّذِي حَثَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا طَالَ حَصْرُ الْفِرِنْجِ لِمَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَاتُ وَقَلَّتْ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ، بِمِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ مِنْ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، وَجَزَائِرِ الْبَنَادِقَةِ، فَاشْتَدَّتْ قُلُوبُهُمْ وَقَوُوا عَلَى حِفْظِ الْبَلَدِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا اسْتَسْلَمُوا.
فَلَمَّا بَلَغَ فَخْرَ الْمُلْكِ انْتِظَامُ الْأُمُورِ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَزَوَالُ كُلِّ مُخَالِفٍ رَأَى لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَصْدَهُ وَالِانْتِصَارَ بِهِ، فَاسْتَنَابَ بِطَرَابُلُسَ ابْنَ عَمِّهِ ذَا الْمَنَاقِبِ، وَأَمَرَ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَرَتَّبَ مَعَهُ الْأَجْنَادَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَأَعْطَاهُمْ جَامِكِيَّةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ سَلَفًا، وَجَعَلَ كُلَّ مَوْضِعٍ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ ابْنَ عَمِّهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَظْهَرَ ابْنُ عَمِّهِ الْخِلَافَ لَهُ، وَالْعِصْيَانَ عَلَيْهِ، وَنَادَى بِشِعَارِ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا عَرَفَ فَخْرُ الْمُلْكِ ذَلِكَ كَتَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَحَمْلِهِ إِلَى حِصْنِ الْخَوَابِيِّ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ.
وَكَانَ ابْنُ عَمَّارٍ قَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ الْهَدَايَا مَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ مَلِكٍ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ، وَالْخَيْلِ الرَّائِقَةِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا لَقِيَهُ عَسْكَرُهَا، وَطُغْتِكِينُ أَتَابِكُ، وَخَيَّمَ عَلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَسَأَلَهُ طُغْتِكِينُ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى الطَّعَامِ، وَأَدْخَلَهُ حَمَّامَهُ، وَسَارَ عَنْهَا وَمَعَهُ وَلَدُ طُغْتِكِينَ يُشَيِّعُهُ.

(8/558)


فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ أَمَرَ السُّلْطَانُ الْأُمَرَاءَ كَافَّةً بِتَلَقِّيهِ وَإِكْرَامِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شَبَّارَتَهُ وَفِيهَا دَسْتُهُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِيهَا، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَيْهَا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ مَوْضِعِ السُّلْطَانِ، فَقَالَ لَهُ مَنْ بِهَا مِنْ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ: قَدْ أُمِرْنَا أَنْ يَكُونَ جُلُوسُكَ فِي دَسْتِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ أَجْلَسَهُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِهِ.
وَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ خَوَاصَّهُ، وَجَمَاعَةَ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، فَلَقُوهُ، وَأَنْزَلَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْجِرَايَةَ الْعَظِيمَةَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَ السُّلْطَانُ، وَفَعَلَ مَعَهُ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مَعَهُمْ أَمْثَالِهِ، وَهَذَا جَمِيعُهُ ثَمَرَةُ الْجِهَادِ فِي الدُّنْيَا، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ.
وَلَمَّا اجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ قَدَّمَ هَدِيَّتَهُ، وَسَأَلَ السُّلْطَانَ عَنْ حَالِهِ، وَمَا يُعَانِيهِ فِي مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ، وَيُقَاسِيهِ مِنْ رُكُوبِ الْخُطُوبِ فِي قِتَالِهِمْ، فَذَكَرَ لَهُ حَالَهُ، وَقُوَّةَ عَدُّوِهِ، وَطُولَ حَصْرِهِ، وَطَلَبَ النَّجْدَةَ، وَضَمِنَ أَنَّهُ إِذَا سُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مَعَهُ أَوْصَلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا يَلْتَمِسُونَهُ، فَوَعَدَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَحَضَرَ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَحَمَلَ هَدِيَّةً جَمِيلَةً نَفِيسَةً، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ رَحَلَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ فِي شَوَّالٍ، فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ بِالنَّهْرَوَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَى الْأَمِيرِ حُسَيْنِ بْنِ أَتَابِكَ قَتْلُغْ تِكِينَ لِيُسَيِّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الَّتِي سَيَّرَهَا إِلَى الْمَوْصِلِ مَعَ الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ لِقِتَالِ جَاوْلِي سَقَّاوُو، لِيَمْضُوا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ خِلَعًا نَفِيسَةً، وَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَوَدَّعَهُ، وَسَارَ وَمَعَهُ الْأَمِيرُ حُسَيْنٌ فَلَمْ يَجِدْ ذَلِكَ نَفْعًا، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ إِنَّ فَخْرَ الْمُلْكِ بْنَ عَمَّارٍ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَتَوَجَّهَ مِنْهَا مَعَ عَسْكَرٍ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى جَبَلَةَ، فَدَخَلَهَا وَأَطَاعَهُ أَهْلُهَا.

(8/559)


وَأَمَّا أَهْلُ طَرَابُلُسَ، فَإِنَّهُمْ رَاسَلُوا الْأَفْضَلَ أَمِيرَ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُ وَالِيًا يَكُونُ عِنْدَهُمْ، وَمَعَهُ الْمِيرَةُ فِي الْبَحْرِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ شَرَفَ الدَّوْلَةِ بْنَ أَبِي الطَّيِّبِ وَالِيًا، وَمَعَهُ الْغَلَّةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبِلَادُ فِي الْحِصَارِ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا قَبَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ ابْنِ عَمَّارٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَخَذَ مَا وَجَدَهُ مِنْ ذَخَائِرِهِ وَآلَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَى مِصْرَ فِي الْبَحْرِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، أَطْلَقَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الضَّرَائِبَ وَالْمُكُوسَ، وَدَارَ الْبَيْعِ، وَالِاجْتَيَازَاتِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُنَاسِبُهُ بِالْعِرَاقِ، وَكُتِبَتْ بِهِ الْأَلْوَاحُ، وَجُعِلَتْ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَفِيهَا، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وُلِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ الْحِسْبَةَ بِبَغْدَاذَ.
وَفِيهِ أَيْضًا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ الْمُطَّلِبِ بِرِسَالَةٍ مِنَ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، وَشَرَّطَهُ عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْهَا: الْعَدْلُ وَحُسْنُ السِّيرَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَفِيهَا عَادَ أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةَ مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَ هَرَبَ عِنْدَ قَتْلِ إِيَازَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَأَقْطَعُهُ رَحْبَةَ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ.
وَفِيهَا، سَابِعَ شَوَّالٍ، خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَاذَ، عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ مُقَامُهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.

(8/560)


وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، احْتَرَقَتْ خَرَابَةُ ابْنِ جَرْدَةَ، فَهَلَكَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْأَمْتِعَةُ، وَالْأَمْوَالُ، وَأَثَاثُ الْبُيُوتِ، فَهَلَكَ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَخَلَصَ خَلْقٌ بِنَقْبٍ نَقَبُوهُ فِي سُورِ الْمَحَلَّةِ إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ أَبْرَزَ، وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ بِهَا مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمْ يَنْقُلُوا شَيْئًا لِتَمَسُّكِهِمْ بِسَبْتِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ قَدْ عَبَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ لِلْفُرْجَةِ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي السَّبْتِ الَّذِي يَلِي الْعِيدَ، فَعَادُوا فَوَجَدُوا بُيُوتَهُمْ قَدْ خَرِبَتْ، وَأَهْلَهَا قَدِ احْتَرَقُوا، وَأَمْوَالَهُمْ قَدْ هَلَكَتْ.
ثُمَّ تَبِعَ حَرِيقٌ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْهَا: دَرْبُ الْقَيَّارِ، وَقَرَاحُ ابْنُ رَزِينٍ، فَارْتَاعَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَبَطَّلُوا مَعَايِشَهُمْ، وَأَقَامُوا لَيْلًا وَنَهَارًا يَحْرُسُونَ بُيُوتَهُمْ فِي الدُّرُوبِ، وَعَلَى السُّطُوحِ، وَجَعَلُوا عِنْدَهُمُ الْمَاءَ الْمُعَدَّ لِإِطْفَاءِ النَّارِ، فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَرِيقِ أَنَّ جَارِيَةً أَحَبَّتْ رَجُلًا، فَوَافَقَتْهُ عَلَى الْمَبِيتِ عِنْدَهَا فِي دَارِ مَوْلَاهَا سِرًّا، وَأَعَدَّتْ لَهُ مَا يَسْرِقُهُ إِذَا خَرَجَ، وَيَأْخُذُهَا هِيَ أَيْضًا مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَهَا طَرَحَا النَّارَ فِي الدَّارِ، فَخَرَجَا، فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، وَعَجَّلَ الْفَضِيحَةَ لَهُمَا، فَأُخِذَا وَحُبِسَا.
وَفِيهَا جَمَعَ بَغْدُوِينُ مَلِكُ الْفِرِنْجِ عَسْكَرَهُ وَقَصَدَ مَدِينَةَ صُورَ وَحَصَرَهَا، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ حِصْنٍ عِنْدَهَا، عَلَى تَلِّ الْمَعْشُوقَةِ، وَأَقَامَ شَهْرًا مُحَاصِرًا لَهَا، فَصَانَعَهُ وَالِيهَا عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهَا وَرَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ.
وَقَصَدَ مَدِينَةَ صَيْدَا، فَحَصَرَهَا بَرًّا وَبَحْرًا وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْبُرْجَ الْخَشَبَ، وَوَصَلَ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ فِي الدَّفْعِ عَنْهَا، وَالْحِمَايَةِ لِمَنْ فِيهَا، فَقَاتَلَهُمْ أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّصَلَ بِالْفِرِنْجِ مَسِيرُ عَسْكَرِ دِمَشْقَ نَجْدَةً لَأَهِلِ صَيْدَا، فَرَحَلُوا عَنْهَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.

(8/561)


وَفِيهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ لَهُ ذَوَائِبُ، فَبَقِيَ لَيَالِيَ كَثِيرَةً ثُمَّ غَابَ.
الْوَفَيَاتُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيَّاسِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَبُو إِسْحَاقَ الْقُشَيْرِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْمُحَدِّثُ، كَانَ يَقْرَأُ الْحَدِيثَ لِلْغُرَبَاءِ، قَرَأَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ عَلَى عَبْدِ الْغَافِرِ الْفَارِسِيِّ عِشْرِينَ مَرَّةً.

(8/562)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ]
502 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَوْدُودٍ وَعَسْكَرِ السُّلْطَانِ عَلَى الْمُوصِلِ وَوِلَايَةِ مَوْدُودٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، اسْتَوْلَى مَوْدُودٌ، وَالْعَسْكَرُ الَّذِي أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ مَعَهُ، عَلَى مَدِينَةِ الْمَوْصِلِ، وَأَخَذُوهَا مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي سَقَّاوُو، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ اسْتِيلَاءَ جَاوْلِي عَلَيْهَا، وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَكَرْمِشَ وَالْمَلِكِ قَلْج أَرْسِلَانَ، وَهَلَاكَهِمَا عَلَى يَدِهِ، وَصَارَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَسْكَرُ الْكَثِيرُ، وَالْعُدَّةُ التَّامَّةُ، وَالْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ جَعَلَ إِلَيْهِ وِلَايَةَ كُلِّ بَلَدٍ يَفْتَحُهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَمْوَالِ.
وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِ الْبِلَادِ مِنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَعَلَى الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ مِنْهَا، لَمْ يَحْمِلْ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، لِقَصْدِ بِلَادِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، أَرْسَلَ إِلَى جَاوْلِي يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ بِالْعَسَاكِرِ، وَكَرَّرَ الرُّسُلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَحْضُرْ، وَغَالَطَ فِي الِانْحِدَارِ إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، حَتَّى كَاتَبَ صَدَقَةَ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَعَهُ، وَمُسَاعِدَهُ عَلَى حَرْبِ السُّلْطَانِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْخِلَافِ وَالْعِصْيَانِ.
فَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْرِ صَدَقَةَ، وَقَتَلَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، تَقَدَّمَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بَنِي بُرْسُقَ، وَسَكْمَانَ الْقُطْبِيِّ، وَمَوْدُودِ بْنِ أَلْتُونْتِكِينَ، وَآقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيِّ، وَنَصْرِ ابْنِ مُهَلْهَلِ بْنِ

(8/563)


أَبِي الشَّوْكِ الْكُرْدِيِّ، وَأَبِي الْهَيْجَاءِ، صَاحِبِ إِرْبَلَ، بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَبِلَادِ جَاوْلِي، وَأَخْذِهَا مِنْهُ، فَتَوَجَّهُوا نَحْوَ الْمَوْصِلِ، فَوَجَدُوا جَاوْلِي عَاصِيًا قَدْ شَيَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ، وَأَحْكَمَ مَا بَنَاهُ جَكَرْمِشُ، وَأَعَدَّ الْمِيرَةَ وَالْأَقْوَاتِ وَالْآلَاتِ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَى الْأَعْيَانِ بِالْمَوْصِلِ، فَحَبَسَهُمْ، وَأَخْرَجَ مِنْ أَحْدَاثِهَا مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا، وَنَادَى: مَتَى اجْتَمَعَ عَامِّيَّانِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَتَلَهَمَا، وَخَرَجَ عَنِ الْبَلَدِ، وَنَهَبَ السَّوَادَ.
وَتَرَكَ بِالْبَلَدِ زَوْجَتَهُ ابْنَةَ بُرْسُقَ، وَأَسْكَنَهَا الْقَلْعَةَ، وَمَعَهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ، سِوَى غَيْرِهِمْ، وَسِوَى الرَّجَّالَةِ، وَنَزَلَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ، وَصَادَرَتْ زَوْجَتُهُ مَنْ بَقِيَ بِالْبَلَدِ، وَعَسَفَتْ نِسَاءَ الْخَارِجِينَ عَنْهُ، وَبَالَغَتْ فِي الِاحْتِرَازِ عَلَيْهِمْ، فَأَوْحَشَهُمْ ذَلِكَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الِانْحِرَافِ عَنْهَا، وَقُوتِلَ أَهْلُ الْبَلَدِ قِتَالًا مُتَتَابِعًا، فَتَمَادَى الْحِصَارُ بِأَهْلِهَا مِنْ خَارِجٍ، وَالظُّلْمُ مِنْ دَاخِلٍ إِلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَالْجُنْدُ بِهَا يَمْنَعُونَ عَامِّيًّا مِنَ الْقُرْبِ مِنَ السُّورِ.
فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، اتَّفَقَ نَفَرٌ مِنَ الْجَصَّاصِينَ - وَمُقَدَّمُهُمْ جَصَّاصٌ يُعْرَفُ بِالسَّعْدِيِّ - عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى التَّسَاعُدِ، وَأَتَوْا وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالنَّاسُ بِالْجَامِعِ، وَصَعِدُوا بُرْجًا، وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُ، وَقَتَلُوا مَنْ بِهِ مِنَ الْجُنْدِ، وَكَانُوا نِيَامًا، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِشَيْءٍ، حَتَّى قُتِلُوا، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُمْ، وَأَلْقَوْهُمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَمَلَكُوا بُرْجًا آخَرَ.
وَوَقَعَتِ الصَّيْحَةُ، وَقَصَدَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَرَمَوْهُمْ بِالنُّشَّابِ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ، وَيُنَادُونَ بِشِعَارِ السُّلْطَانِ، فَزَحَفَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ، وَمَلَكُوهُ، وَدَخَلَهُ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ، وَنُودِيَ بِالسُّكُونِ وَالْأَمْنِ، وَأَنْ يَعُودَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، وَأَقَامَتْ زَوْجَةُ جَاوْلِي بِالْقَلْعَةِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَرَاسَلَتِ الْأَمِيرَ مَوْدُودًا فِي أَنْ يُفْرِجَ لَهَا عَنْ طَرِيقِهَا، وَأَنْ يَحْلِفَ لَهَا عَلَى الصِّيَانَةِ وَالْحِرَاسَةِ، فَحَلَفَ، وَخَرَجَتْ إِلَى أَخِيهَا بُرْسُقَ بْنِ بُرْسُقَ، وَمَعَهَا أَمْوَالُهَا وَمَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ وَوَلِيَ مَوْدُودٌ الْمَوْصِلَ وَمَا يَنْضَافُ إِلَيْهَا.

(8/564)


ذِكْرُ حَالِ جَاوْلِي مُدَّةَ الْحِصَارِ
وَأَمَّا جَاوْلِي فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ عَسْكَرُ السُّلْطَانِ، وَحَصَرَهَا، سَارَ عَنْهَا، وَأَخَذَ مَعَهُ الْقُمَّصَ، صَاحِبَ الرُّهَا، الَّذِي كَانَ قَدْ أَسَرَهُ سَقْمَانُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ جَكَرْمِشُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، وَهِيَ حِينَئِذٍ لِلْأَمِيرِ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، وَرَاسَلَهُ وَسَأَلَهُ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى مُعَاضَدَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَا يَدًا وَاحِدَةً، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ خَوْفَهُمَا مِنَ السُّلْطَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَهُمَا عَلَى الِاحْتِمَاءِ مِنْهُ. فَلَمْ يُجِبْهُ إِيلْغَازِي إِلَى ذَلِكَ، وَرَحَلَ عَنْ نَصِبِينَ، وَرَتَّبَ بِهَا وَلَدَهُ، وَأَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مِنْ جَاوْلِي، وَأَنْ يُقَاتِلَهُ إِنْ قَصَدَهُ، وَسَارَ إِلَى مَارِدِينَ.
فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي ذَلِكَ عَدَلَ عَنْ نَصِيبِينَ، وَقَصَدَ دَارَا وَأَرْسَلَ إِلَى إِيلْغَازِي ثَانِيًا فِي الْمَعَانِي، وَسَارَ بَعْدَ الرَّسُولِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُهُ عِنْدَ إِيلْغَازِي بِمَارِدِينَ، لَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَجَاوْلِي مَعَهُ فِي الْقَلْعَةِ وَحْدَهُ، وَقَصَدَ أَنْ يَتَأَلَّفَهُ وَيَسْتَمِيلَهُ، فَلَمَّا رَآهُ إِيلْغَازِي قَامَ إِلَيْهِ، وَخَدَمَهُ، وَلَمَّا رَأَى جَاوْلِي مُحْسِنًا لِلظَّنِّ فِيهِ، غَيْرَ مُسْتَشْعِرٍ مِنْهُ، لَمْ يَجِدْ إِلَى دَفْعِهِ سَبِيلًا، فَنَزَلَ مَعَهُ، وَعَسْكَرَا بِظَاهِرِ نَصِبِينَ، وَسَارَا مِنْهَا إِلَى سِنْجَارَ، وَحَاصَرَاهَا مُدَّةً، فَلَمْ يُجِبْهُمَا صَاحِبُهَا إِلَى صُلْحٍ فَتَرَكَاهُ وَسَارَا نَحْوَ الرَّحْبَةِ، وَإِيلْغَازِي يُظْهِرُ لِجَاوْلِي الْمُسَاعَدَةَ، وَيُبْطِنُ الْخِلَافَ، وَيَنْتَظِرُ فُرْصَةً لِيَنْصَرِفَ عَنْهُ، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى عَرَبَانَ، مِنَ الْخَابُورِ، هَرَبَ إِيلْغَازِي لَيْلًا وَقَصَدَ نَصِيبِينَ.

ذِكْرُ إِطْلَاقِ جَاوْلِي لِلْقُمُّصِ الْفِرِنْجِيِّ
لَمَّا هَرَبَ إِيلْغَازِي مِنْ جَاوْلِي سَارَ جَاوْلِي إِلَى الرَّحْبَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَاكِسِينَ أَطْلَقَ الْقُمَّصَ الْفِرِنْجِيَّ، الَّذِي كَانَ أَسِيرًا بِالْمَوْصِلِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ، وَاسْمَهُ بَرْدَوِيلُ، وَكَانَ صَاحِبَ الرُّهَا وَسَرُوجَ وَغَيْرِهِمَا، وَبَقِيَ فِي الْحَبْسِ إِلَى الْآنِ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، فَلَمْ يُطْلَقْ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَطْلَقَهُ جَاوْلِي، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُقَامُهُ فِي السِّجْنِ مَا يُقَارِبُ خَمْسَ سِنِينَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِمَالٍ، وَأَنْ يُطْلِقَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي سِجْنِهِ، وَأَنْ يَنْصُرَهُ مَتَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ وَمَالِهِ.
فَلَمَّا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ سَيَّرَ الْقُمَّصَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَسَلَّمَهُ إِلَى صَاحِبِهِمَا سَالِمِ بْنِ

(8/565)


مَالِكٍ، حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ ابْنُ خَالَتِهِ جُوسْلِينُ، وَهُوَ مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ وَشُجْعَانِهَا، وَهُوَ صَاحِبُ تَلِّ بَاشِرَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أُسِرَ مَعَ الْقُمَّصِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ، فَفَدَى نَفْسَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا وَصَلَ جُوسْلِينَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ أَقَامَ رَهِينَةً عِوَضَ الْقُمَّصِ، وَأُطْلِقَ الْقُمَّصُ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَأَخَذَ جَاوْلِي جُوسْلِينَ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ فَأَطْلَقَهُ، وَأَخَذَ عِوَضَهُ أَخَا زَوْجَتِهِ، وَأَخَا زَوْجَةِ الْقُمَّصِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْقُمَّصِ لِيَقْوَى بِهِ، وَلِيُحِثَّهُ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَسْرَى، وَإِنْفَاذِ الْمَالِ وَمَا ضَمِنَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ جُوسْلِينُ إِلَى مَنْبِجَ أَغَارَ عَلَيْهَا وَنَهَبَهَا، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ جَاوْلِي، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَدِينَةَ لَيْسَتْ لَكُمْ.

ذِكْرُ مَا جَرَى بَيْنَ هَذَا الْقُمَّصِ وَبَيْنَ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ
لَمَّا أُطْلِقَ الْقُمَّصُ وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أَعْطَاهُ طَنْكَرِي صَاحِبُهَا ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَيْلًا، وَثِيَابًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ طَنْكَرِي قَدْ أَخَذَ الرُّهَا مِنْ أَصْحَابِ الْقُمَّصِ حِينَ أُسِرَ، فَخَاطَبَهُ الْآنَ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى تَلِّ بَاشِرَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ جُوسْلِينُ، وَقَدْ أَطْلَقَهُ جَاوْلِي، سَرَّهُ ذَلِكَ، وَفَرِحَ بِهِ.
وَسَارَ إِلَيْهِمَا طَنْكَرِي، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، بِعَسَاكِرِهِ لِيُحَارِبَهُمَا، قَبْلَ أَنْ يَقْوَى أَمْرُهُمَا، وَيَجْمَعَا عَسْكَرًا، وَيَلْحَقَ بِهِمَا جَاوْلِي وَيُنْجِدَهُمَا، فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ اجْتَمَعُوا وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَتَحَادَثُوا.
وَأَطْلَقَ الْقُمَّصَ مِنَ الْأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِائَةً وَسِتِّينَ أَسِيرًا كُلُّهُمْ مِنْ سَوَادِ حَلَبَ، وَكَسَاهُمْ وَسَيَّرَهُمْ.
وَعَادَ طَنْكَرِي إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلِ حَالٍ فِي مَعْنَى الرُّهَا، فَسَارَ الْقُمَّصُ وَجُوسْلِينُ وَأَغَارَا عَلَى حُصُونِ طَنْكَرِي صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَالْتَجَآ إِلَى وِلَايَةِ كَوَاسِيلَ، وَهُوَ رَجُلٌ أَرْمِنِيٌّ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ صَاحِبُ رَعْبَانَ، وَكَيْسُومَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقِلَاعِ، شَمَالِيِّ حَلَبَ، فَأَنْجَدَ الْقُمَّصَ بِأَلْفِ فَارِسٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ، فَقَصَدَهُمْ طَنْكَرِي، فَتَنَازَعُوا فِي أَمْرِ الرُّهَا، فَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمُ

(8/566)


الْبِطْرَكُ الَّذِي لَهُمْ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَالْإِمَامِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، لَا يُخَالَفُ أَمْرُهُ، وَشَهِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَطَارِنَةِ وَالْقِسِّيسِينَ:
أَنَّ بَيْمُنْدَ خَالَ طَنْكَرِي قَالَ لَهُ، لَمَّا أَرَادَ رُكُوبَ الْبَحْرِ، وَالْعَوْدَ إِلَى بِلَادِهِ، لِيُعِيدَ الرُّهَا إِلَى الْقُمَّصِ، إِذَا خَلَصَ مِنَ الْأَسْرِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ طَنْكَرِي تَاسِعَ صَفَرٍ، وَعَبَرَ الْقُمَّصُ الْفُرَاتَ، لِيُسَلِّمَ إِلَى أَصْحَابِ جَاوْلِي الْمَالَ، وَالْأَسْرَى، فَأَطْلَقَ فِي طَرِيقِهِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْأَسْرَى مِنْ حَرَّانَ وَغَيْرِهَا.
وَكَانَ بِسَرُوجَ ثَلَاثُمِائَةِ مُسْلِمٍ ضَعْفَى، فَعَمَّرَ أَصْحَابُ جَاوْلِي مَسَاجِدَهُمْ، وَكَانَ رَئِيسُ سَرُوجَ مُسْلِمًا قَدِ ارْتَدَّ، فَسَمِعَهُ أَصْحَابُ جَاوْلِي يَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا شَنِيعًا، فَضَرَبُوهُ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ بِسَبَبِهِ نِزَاعٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْقُمُّصِ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَصْلُحُ لَنَا وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَهُ.

ذِكْرُ حَالِ جَاوْلِي بَعْدَ إِطْلَاقِ الْقُمَّصِ
لَمَّا أَطْلَقَ جَاوْلِي الْقُمَّصَ بِمَاكِسِينَ سَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَأَتَاهُ أَبُو النَّجْمِ بَدْرَانُ، وَأَبُو كَامِلٍ مَنْصُورٌ، ابْنَا سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، وَكَانَا، بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِمَا بِقَلْعَةِ جَعْبَرَ، عِنْدَ سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى الْمُسَاعَدَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ، وَوَعَدَهُمَا أَنَّهُ يَسِيرُ مَعَهُمَا إِلَى الْحِلَّةِ، وَعَزَمُوا أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِمْ بِكْتَاشَ بْنَ تَكْشَ بْنِ أَلْب أَرْسِلَانَ.
فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ عَلَى هَذَا الْعَزْمِ، أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ السُّلْطَانَ فَأَقْطَعَهُ الرَّحْبَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَاجْتَمَعَ بِجَاوْلِي، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ الشَّامَ، فَإِنَّ بِلَادَهُ خَالِيَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ، وَالْفِرِنْجُ قَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا، وَعَرَّفَهُ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ الْعِرَاقَ، وَالسُّلْطَانُ بِهَا، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، لَمْ يَأْمَنْ شَرًّا يَصِلُ إِلَيْهِ.
فَقَبِلَ قَوْلَهُ، وَأَصْعَدَ عَنِ الرَّحْبَةِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ رُسُلُ سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، صَاحِبِ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، يَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ، وَكَانَتِ الرَّقَّةُ بِيَدِ وَلَدِهِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ، فَوَثَبَ جَوْشَنُ النُّمَيْرِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ، فَقَتَلَ عَلِيًّا وَمَلَكَ الرَّقَّةَ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ رِضْوَانَ، فَسَارَ مِنْ حَلَبَ إِلَى صِفِّينَ، فَصَادَفَ تِسْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْفِرِنْجِ مَعَهُمْ مَالٌ مِنْ فِدْيَةِ الْقُمَّصِ، صَاحِبِ الرُّهَا، قَدْ سَيَّرَهُ إِلَى جَاوْلِي، فَأَخَذَهُ،

(8/567)


وَأَسَرَ عَدَدًا مِنْهُمْ، وَأَتَى الرَّقَّةَ، فَصَالَحَهُ بَنُو نُمَيْرٍ عَلَى مَالٍ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَنْجَدَ سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ جَاوْلِي، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْحَلَ إِلَى الرَّقَّةِ وَيَأْخُذَهَا، وَوَعَدَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
فَقَصْدَ الرَّقَّةَ، وَحَصَرَهَا سَبْعِينَ يَوْمًا، فَضَمِنَ لَهُ بَنُو نُمَيْرٍ مَالًا وَخَيْلًا، فَأَرْسَلَ إِلَى سَالِمٍ: إِنَّنِي فِي أَمْرٍ أَهَمَّ مِنْ هَذَا، وَأَنَا بِإِزَاءِ عَدُوٍّ، وَيَجِبُ التَّشَاغُلُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَا عَازِمٌ عَلَى الِانْحِدَارِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنْ تَمَّ أَمْرِي فَالرَّقَّةُ وَغَيْرُهَا لَكَ، وَلَا أَشْتَغِلُ عَنْ هَذَا الْمُهِمِّ بِحِصَارِ خَمْسَةِ نَفَرٍ مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ.
وَوَصَلَ إِلَى جَاوْلِي الْأَمِيرُ حُسَيْنُ بْنُ أَتَابِكَ قَتْلُغْ تِكِينَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَتَابِكَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَقَتَلَهُ، وَتَقَدَّمَ وَلَدُهُ هَذَا عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَاخْتُصَّ بِهِ، فَسَيَّرَهُ السُّلْطَانُ مَعَ فَخْرِ الْمُلْكِ بْنِ عَمَّارٍ لِيُصْلِحَ الْحَالَ مَعَ جَاوْلِي، وَيَأْمُرَ الْعَسَاكِرَ بِالْمَسِيرِ مَعَ ابْنِ عَمَّارٍ إِلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ، فَحَضَرَ عِنْدَ جَاوْلِي، وَأَمَرَ بِتَسْلِيمِ الْبِلَادِ وَطَيَّبَ قَلْبَهُ عَنِ السُّلْطَانِ، وَضَمِنَ الْجَمِيلَ، إِذَا سَلَّمَ الْبِلَادَ، وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، فَقَالَ جَاوْلِي: أَنَا مَمْلُوكُ السُّلْطَانِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا وَثِيَابًا لَهَا مِقْدَارٌ جَلِيلٌ، وَقَالَ لَهُ: سِرْ إِلَى الْمَوْصِلِ وَرَحِّلِ الْعَسْكَرَ عَنْهَا، فَإِنِّي أُرْسِلُ مَعَكَ مَنْ يُسَلِّمُ وَلَدِي إِلَيْكَ رَهِينَةً، وَيُنْفِذُ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا وَجِبَايَةَ أَمْوَالِهَا، فَفَعَلَ حُسَيْنٌ ذَلِكَ، وَسَارَ وَمَعَهُ صَاحِبُ جَاوْلِي، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى الْعَسْكَرِ الَّذِي عَلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانُوا لَمْ يَفْتَحُوهَا بَعْدُ، أَمَرَهُمْ حُسَيْنٌ بِالرَّحِيلِ، فَكُلُّهُمْ أَجَابَ، إِلَّا الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أَرْحَلُ إِلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِ جَاوْلِي، وَأَقَامَ عَلَى الْمَوْصِلِ، حَتَّى فَتَحَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَعَادَ حُسَيْنُ بْنُ قَتْلُغْ تِكِينَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَحْسَنَ النِّيَابَةَ عَنْ جَاوْلِي عِنْدَهُ، وَسَارَ جَاوْلِي إِلَى مَدِينَةِ بَالِسَ، فَوَصَلَهَا ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ، فَاحْتَمَى أَهْلُهَا مِنْهُ، وَهَرَبَ مَنْ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ وَصَاحِبِ حَلْبَ، فَحَصَرَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَمَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ نَقَبَ بُرْجًا مَنْ أَبْرَاجِهَا، فَوَقَعَ عَلَى النَّقَّابِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَصَلَبَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِهِ عِنْدَ النَّقْبِ، وَأَحْضَرَ الْقَاضِيَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ إِلْيَاسَ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ صَالِحًا، وَنَهَبَ الْبَلَدَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا.

(8/568)


ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ جَاوْلِي وَالْفِرِنْجِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، كَانَ الْمُصَافُّ بَيْنَ جَاوْلِي سَقَّاوُو وَبَيْنَ طَنْكَرِي الْفِرِنْجِيِّ، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ رِضْوَانَ كَتَبَ إِلَى طَنْكَرِي، صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، يُعَرِّفُهُ مَا هُوَ جَاوْلِي عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ، وَالْمَكْرِ، وَالْخِدَاعِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْهُ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ عَلَى قَصْدِ حَلَبَ، وَأَنَّهُ إِنْ مَلَكَهَا لَا يَبْقَى لِلْفِرِنْجِ مَعَهُ بِالشَّامِ مُقَامٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى مَنْعِهِ.
فَأَجَابَهُ طَنْكَرِي إِلَى مَنْعِهِ وَبَرَزَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رِضْوَانُ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، فَلَمَّا سَمِعَ جَاوْلِي الْخَبَرَ أَرْسَلَ إِلَى الْقُمَّصِ، صَاحِبِ الرُّهَا، يَسْتَدْعِيهِ إِلَى مُسَاعَدَتِهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُفَادَاةِ، فَسَارَ إِلَى جَاوْلِي فَلِحَقَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى مَنْبِجَ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، بِأَنَّ الْمَوْصِلَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا السُّلْطَانُ، وَمَلَكُوا خَزَائِنَهُ وَأَمْوَالَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَفَارَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ أَتَابِكُ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ، وَبِكْتَاشُ النَّهَاوَنْدِيُّ، وَبَقِيَ جَاوْلِي فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَنَزَلَ بِتَلِّ بَاشِرَ.
وَقَارِبَهُمْ طَنْكَرِي، وَهُوَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَسِتِّمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ رِضْوَانَ، سِوَى الرَّجَّالَةِ، فَجَعَلَ جَاوْلِي فِي مَيْمَنَتِهِ الْأَمِيرَ أَقْسَيَانَ، وَالْأَمِيرَ أَلْتُونْتَاشَ الْأَبَرِّيَّ، وَغَيْرَهُمَا، وَفِي الْمَيْسَرَةِ الْأَمِيرَ بَدْرَانَ بْنَ صَدَقَةَ، وَأَصْبَهْبَذَ صَبَاوَةَ، وَسُنْقُرَ دِرَازَ، وَفِي الْقَلْبِ الْقُمَّصَ بَغْدُوِينَ، وَجُوسْلِينَ الْفِرِنْجِيِّينَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ، فَحَمَلَ أَصْحَابُ أَنْطَاكِيَةَ عَلَى الْقُمَّصِ، صَاحِبِ الرُّهَا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَأَزَاحَ طَنْكَرِي الْقَلْبَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ جَاوْلِي عَلَى رَجَّالَةِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، فَقَتَلَتْ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ هَزِيمَةِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، فَحِينَئِذٍ عَمَدَ أَصْحَابُ جَاوْلِي إِلَى جَنَائِبِ الْقُمَّصِ، وَجُوسْلِينَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَرَكِبُوهَا وَانْهَزَمُوا، فَمَضَى جَاوْلِي وَرَاءَهُمْ لِيَرُدَّهُمْ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ قَدْ زَالَتْ عَنْهُمْ حِينَ أُخِذَتِ الْمَوْصِلُ مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ مَعَهُ أَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، وَخَافَ مِنَ الْمُقَامِ، فَانْهَزَمَ، وَانْهَزَمَ بَاقِي عَسْكَرِهِ.

(8/569)


فَأَمَّا أَصْبَهْبَذُ صَبَاوَةَ فَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ، وَأَمَّا بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ فَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَأَمَّا ابْنُ جَكَرْمِشُ فَقَصَدَ جَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا جَاوْلِي فَقَصَدَ الرَّحْبَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَهَبَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ أَمْوَالَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَهَرَبَ الْقُمَّصُ وَجُوسْلِينُ إِلَى تَلِّ بَاشِرَ وَالْتَجَأَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفَعَلَا مَعَهُمُ الْجَمِيلَ، وَدَاوَيَا الْجَرْحَى وَكَسَوَا الْعُرَاةَ، وَسَيَّرَاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ.

ذِكْرُ عَوْدِ جَاوْلِي إِلَى السُّلْطَانِ
لَمَّا انْهَزَمَ جَاوْلِي سَقَّاوُو قَصَدَ الرَّحْبَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا بَاتَ دُونَهَا فِي عِدَّةِ فَوَارِسَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِ الْأَمِيرِ مَوْدُودٍ، الَّذِينَ أَخَذُوا الْمَوْصِلَ مِنْهُ، أَغَارُوا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ يُجَاوِرُونَ الرَّحْبَةَ فَقَارَبُوا جَاوْلِي وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَوْ عَلِمُوا لَأَخَذُوهُ.
فَلَمَّا رَأَى الْحَالَ كَذَلِكَ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُقِيمَ بِالْجَزِيرَةِ، وَلَا بِالشَّامِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَحْفَظُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَيُدَاوِي بِهِ مَرَضَهُ، غَيْرَ قَصْدِ بَابِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ عَنْ رَغْبَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَكَانَ وَاثِقًا بِالْأَمِيرِ حُسَيْنِ بْنِ قَتْلُغْتِكِينَ، فَرَحَلَ مِنْ مَكَانِهِ وَهُوَ خَائِفٌ حَذِرٌ، قَدْ أَخْفَى شَخْصَهُ وَكَتَمَ أَمْرَهُ، وَسَارَ إِلَى عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ مَكَانِهِ لِجِدِّهِ فِي السَّيْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُعَسْكَرَ قَصَدَ الْأَمِيرَ حُسَيْنًا، فَحَمَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ وَكَفَنُهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَّنَهُ، وَأَتَاهُ الْأُمَرَاءُ يُهَنُّونَهُ بِذَلِكَ، وَطَلَبَ مِنْهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ بِكْتَاشُ بْنُ تَكْشَ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَاعْتَقَلَهُ بَأَصْبَهَانَ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ طُغْتِكِينَ وَالْفِرِنْجِ وَالْهُدْنَةِ بَعْدَهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ طُغْتِكِينَ أَتَابِكَ وَالْفِرِنْجِ وَسَبَبُهَا أَنَّ طُغْتِكِينَ سَارَ إِلَى طَبَرِيَّةَ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا ابْنُ أُخْتِ بَغْدُوِينَ الْفِرِنْجِيِّ، مَلِكِ الْقُدْسِ، فَتَحَارَبَا وَاقْتَتَلَا، وَكَانَ طُغْتِكِينُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ وَكَانَ ابْنُ أُخْتِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ.

(8/570)


فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقَتْلُ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَتَرَجَّلَ طُغْتِكِينُ، وَنَادَى بِالْمُسْلِمِينَ، وَشَجَّعَهُمْ فَعَادُوا الْحَرْبَ، وَكَسَرُوا الْفِرِنْجَ، وَأَسَرُوا ابْنَ أُخْتِ الْمَلِكِ، وَحُمِلَ إِلَى طُغْتِكِينَ، فَعَرَضَ طُغْتِكِينُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَامْتَنَعَ مِنْهُ، وَبَذَلَ فِي فِدَاءِ نَفْسِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِطْلَاقَ خَمْسِمِائَةِ أَسِيرٍ، فَلَمْ يَقْنَعْ طُغْتِكِينُ مِنْهُ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ الْأَسْرَى، ثُمَّ اصْطَلَحَ طُغْتِكِينُ وَبَغْدُوِينُ مَلِكَ الْفِرِنْجِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْهُدْنَةُ لَكَانَ الْفِرِنْجُ بَلَغُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَعْدَ الْهَزِيمَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا، أَمْرًا عَظِيمًا.

ذِكْرُ انْهِزَامِ طُغْتِكِينُ مِنَ الْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، انْهَزَمَ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ مِنَ الْفِرِنْجِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حِصْنَ عِرْقَةَ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ طَرَابُلُسَ، كَانَ بِيَدِ غُلَامٍ لِلْقَاضِي فَخْرِ الْمُلْكِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ عَمَّارٍ، صَاحِبِ طَرَابُلُسَ، وَهُوَ مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، فَعَصَى عَلَى مَوْلَاهُ، فَضَاقَ بِهِ الْقُوتُ، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمِيرَةُ، لِطُولِ مُكْثِ الْفِرِنْجِ فِي نَوَاحِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْ مَنْ يَتَسَلَّمُ هَذَا الْحِصْنَ مِنِّي، قَدْ عَجَزْتُ عَنْ حِفْظِهِ، وَلَأَنْ يَأْخُذَهُ الْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ لِي دُنْيَا وَآخِرَةً مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ الْفِرِنْجُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ طُغْتِكِينُ صَاحِبًا لَهُ اسْمُهُ إِسْرَائِيلُ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ، فَلَمَّا نَزَلَ غُلَامُ ابْنِ عَمَّارٍ مِنْهُ رَمَاهُ إِسْرَائِيلُ فِي الْأَخْلَاطِ، بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُطْلِعَ أَتَابِكَ طُغْتِكِينَ عَلَى مَا خَلَّفَهُ بِالْقَلْعَةِ مِنَ الْمَالِ.
وَأَرَادَ طُغْتِكِينُ قَصْدَ الْحِصْنِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَتَقْوِيَتِهِ بِالْعَسَاكِرِ، وَالْأَقْوَاتِ، وَآلَاتِ الْحَرْبِ، فَنَزَلَ الْغَيْثُ وَالثَّلْجُ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، لَيْلًا وَنَهَارًا، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ سَارَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَفَتَحَ حُصُونًا لِلْفِرِنْجِ مِنْهَا حِصْنُ الْأَكَمَةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ السَّرَدَانِيُّ الْفِرِنْجِيُّ بِمَجِيءِ طُغْتِكِينَ، وَهُوَ عَلَى حِصَارِ طَرَابُلُسَ، تَوَجَّهَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ،

(8/571)


فَلَمَّا أَشْرَفَ أَوَائِلُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَسْكَرِ طُغْتِكِينَ انْهَزَمُوا وَخَلَّوْا ثِقَلَهُمْ وَرِحَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ لِلْفِرِنْجِ، فَغَنِمُوا، وَقَوُوا بِهِ، وَزَادَ فِي تَجَمُّلِهِمْ.
وَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حِمْصَ، عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ مِنَ التَّقَطُّعِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ حَرْبٌ، وَقَصَدَ السَّرَدَانِيُّ إِلَى عِرْقَةَ، فَلَمَّا نَازَلَهَا طَلَبَ مَنْ كَانَ بِهَا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ، فَلَمَّا خَرَجَ مَنْ فِيهِ قَبَضَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ: لَا أُطْلِقُهُ إِلَّا بِإِطْلَاقِ فُلَانٍ، وَهُوَ أَسِيرٌ كَانَ بِدِمَشْقَ مِنَ الْفِرِنْجِ، مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، فَفُودِيَ بِهِ وَأُطْلِقَا مَعًا.
وَلَمَّا وَصَلَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ، بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْقُدْسِ يَقُولُ لَهُ: لَا تَظُنَّ أَنَّنِي أَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لِلَّذِي تَمَّ عَلَيْكَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَالْمُلُوكُ يَنَالُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا نَالَكَ، ثُمَّ تَعُودُ أُمُورُهُمْ إِلَى الِانْتِظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَكَانَ طُغْتِكِينُ خَائِفًا أَنْ يَقْصِدَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْكَسْرَةِ فَيَنَالَ مِنْ بَلَدِهِ كُلَّ مَا أَرَادَ.

ذِكْرُ صُلْحِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِبَغْدَاذَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، اصْطَلَحَ عَامَّةُ بَغْدَاذَ السَّنَةُ وَالشِّيعَةُ، وَكَانَ الشَّرُّ مِنْهُمْ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَدِ اجْتَهَدَ الْخُلَفَاءُ، وَالسَّلَاطِينُ، وَالشِّحَنُ فِي إِصْلَاحِ الْحَالِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَكَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا قَتَلَ مَلِكَ الْعَرَبِ صَدَقَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، خَافَ الشِّيعَةُ بِبَغْدَاذَ - أَهْلُ الْكَرْخِ وَغَيْرُهُمْ - لِأَنَّ صَدَقَةَ كَانَ يَتَشَيَّعُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَشَنَّعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَالَهُمْ غَمٌّ وَهَمٌّ لِقَتْلِهِ، فَخَافَ الشِّيعَةُ، وَأَغْضَوْا عَلَى سَمَاعِ هَذَا، وَلَمْ يَزَالُوا خَائِفِينَ إِلَى شَعْبَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ شَعْبَانُ تَجَهَّزَ السُّنَّةُ لِزِيَارَةِ قَبْرِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانُوا قَدْ تَرَكُوا ذَلِكَ سِنِينَ كَثِيرَةً وَمُنِعُوا مِنْهُ لِتَنْقَطِعَ الْفِتَنُ الْحَادِثَةُ بِسَبَبِهِ.
فَلَمَّا تَجَهَّزُوا لِلْمَسِيرِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا طَرِيقَهُمْ فِي الْكَرْخِ، فَأَظْهَرُوا ذَلِكَ،

(8/572)


فَاتَّفَقَ رَأْيُ أَهْلِ الْكَرْخِ عَلَى تَرْكِ مُعَارَضَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَهُمْ، فَصَارَتِ السُّنَّةُ تُسَيِّرُ أَهْلَ كُلِّ مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدِينَ، وَمَعَهُمْ مِنَ الزِّينَةِ وَالسِّلَاحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَجَاءَ أَهْلُ بَابِ الْمَرَاتِبِ، وَمَعَهُمْ فِيلٌ قَدْ عُمِلَ مِنْ خَشَبٍ، وَعَلَيْهِ الرِّجَالُ بِالسِّلَاحِ، وَقَصَدُوا جَمِيعُهُمُ الْكَرْخَ لِيَعْبُرُوا فِيهِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ أَهْلُهُ بِالْبَخُورِ وَالطِّيبِ وَالْمَاءِ الْمُبَرَّدِ، وَالسِّلَاحِ الْكَثِيرِ، وَأَظْهَرُوا بِهِمُ السُّرُورَ وَشَيَّعُوهُمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْمَحَلَّةِ.
وَخَرَجَ الشِّيعَةُ، لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْهُ، إِلَى مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَعْتَرِضْهُمْ أَحَدٌ مِنَ السُّنَّةِ، فَعَجِبَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَلَمَّا عَادُوا مِنْ زِيَارَةِ مُصْعَبٍ لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْكَرْخِ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَهْلَ بَابِ الْمَرَاتِبِ انْكَسَرَ فِيلُهُمُ عِنْدَ قَنْطَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، فَقَرَأَ لَهُمْ قَوْمٌ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَزْيَدٍ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، فَتَقَبَّلَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ، بَعْدَ قَتْلِ وَالِدِهِ، إِلَى الْآنِ، وَالْتَحَقَ أَخُوهُ بَدْرَانُ بْنُ صَدَقَةَ بِالْأَمِيرِ مَوْدُودٍ الَّذِي أَقْطَعُهُ السُّلْطَانُ الْمَوْصِلَ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ.
وَفِيهَا، فِي نِيسَانَ، زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ، وَغَرِقَتِ الْغَلَّاتُ الشِّتْوِيَّةُ وَالصَّيْفِيَّةُ، وَحَدَثَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ بِالْعِرَاقِ، بَلَغَتْ كَارَةُ الدَّقِيقِ الْخُشْكَارِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِمَامِيَّةٍ، وَعُدِمَ الْخُبْزُ رَأْسًا، وَأَكَلَ النَّاسُ التَّمْرَ وَالْبَاقِلَّاءَ الْخَضْرَاءَ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنِصْفَ شَوَّالٍ، سِوَى الْحَشِيشِ وَالتُّوتِ.
وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، عُزِلَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْمَعَالِي هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَوَزَرَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ جَهِيرٍ.
وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ ابْنَةَ السُّلْطَانِ مُلْكِشَاهْ، وَهِيَ أُخْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ الَّذِي خَطَبَ النِّكَاحَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ صَاعِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِقَبُولِ الْعَقْدِ نِظَامُ الْمُلْكِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ،

(8/573)


وَزِيرُ السُّلْطَانِ، بِوَكَالَةٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الصَّدَاقُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَنُثِرَتِ الْجَوَاهِرُ وَالدَّنَانِيرُ، وَكَانَ الْعَقْدُ بَأَصْبَهَانَ.
وَفِيهَا تَوَلَّى مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَاذَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا كَانَ قَبَضَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، صَاحِبِ الْمَخْزَنِ، وَعَلَى أَبِي الْفَرَجِ بْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَاعْتَقَلَهُمَا عِنْدَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمَا الْآنَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمَا مَالًا يَحْمِلَانِهِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ بَهْرُوزَ لِقَبْضِ الْمَالِ، وَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَعَمَّرَ الدَّارَ، وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ، فَلَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ وَلَّاهُ شِحْنَكِيَّةَ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِ، وَخَلَعَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيِّ، صَاحِبِ جَيْشِ صَدَقَةَ، وَوَلَّاهُ الْحِلَّةِ السَّيْفِيَّةَ، وَكَانَ صَارِمًا، حَازِمًا، ذَا رَأْيٍ وَجَلَدٍ.
وَفِيهَا، فِي شَوَّالٍ، مَلَكَ الْأَمِيرُ سُكْمَانُ الْقُطْبِيُّ، صَاحِبُ خِلَاطَ، مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ بِالْأَمَانِ، بَعْدَ أَنْ حَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا عِدَّةَ شُهُورٍ، فَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ بِهَا، وَاشْتَدَّ الْجُوعُ بِأَهْلِهَا فَسَلَّمُوهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، قُتِلَ قَاضِي أَصْبَهَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْخَطِيبِيُّ بِهَمَذَانَ، وَكَانَ قَدْ تَجَرَّدَ، فِي أَمْرِ الْبَاطِنِيَّةِ، تَجَرُّدًا عَظِيمًا، وَصَارَ يَلْبَسُ دِرْعًا حَذَرًا مِنْهُمْ، وَيَحْتَاطُ، وَيَحْتَرِزُ، فَقَصَدَهُ إِنْسَانٌ عَجَمِيٌّ، يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَتَلَهُ.
وَقُتِلَ صَاعِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْعَلَاءِ قَاضِي نَيْسَابُورَ، يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَقُتِلَ الْبَاطِنِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ قَفْلٌ عَظِيمٌ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، فَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى مَلِكِ

(8/574)


الْفِرِنْجِ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَعَارَضَهُ فِي الْبَرِّ، وَأَخَذَ كُلَّ مَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَنْ سَلِمَ أَخَذَهُ الْعَرَبُ.
وَفِيهَا، فِي فِصْحِ النَّصَارَى، ثَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي حِصْنِ شَيْزَرَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ، فَمَلَكُوهُ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ فِيهِ، وَأَغْلَقُوا بَابَهُ وَصَعِدُوا إِلَى الْقَلْعَةِ فَمَلَكُوهَا، وَكَانَ أَصْحَابُهَا بَنُو مُنْقِذٍ قَدْ نَزَلُوا مِنْهَا لِمُشَاهَدَةِ عِيدِ النَّصَارَى، وَكَانُوا قَدْ أَحْسَنُوا، إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا، كُلَّ الْإِحْسَانِ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَاشُورَةَ، فَأَصْعَدَهُمُ النِّسَاءُ فِي الْحِبَالِ مِنَ الطَّاقَاتِ، وَصَارُوا مَعَهُمْ، وَأَدْرَكَهُمُ الْأُمَرَاءُ بَنُو مُنْقِذٍ، أَصْحَابُ الْحِصْنِ، فَصَعِدُوا إِلَيْهِمْ، فَكَبَّرُوا عَلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ، فَانْخَذَلَ الْبَاطِنِيَّةُ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقُتِلَ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ فِي الْبَلَدِ.
وَفِيهَا وَصَلَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ غُرَبَاءُ، فَكَتَبُوا إِلَى أَمِيرِهَا يَحْيَى بْنِ تَمِيمٍ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الْكِيمْيَاءَ، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا شَيْئًا يَرَاهُ مِنْ صِنَاعَتِهِمْ، فَقَالُوا: نَعْمَلُ النَّقْرَةَ، فَأَحْضَرَ لَهُمْ مَا طَلَبُوا مِنْ آلَةٍ وَغَيْرِهَا، وَقَعَدَ مَعَهُمْ هُوَ وَالشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ، وَقَائِدُ جَيْشِهِ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَا يَخْتَصَّانِ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْكِيمَاوِيَّةُ الْمَكَانَ خَالِيًا مِنْ جَمْعٍ ثَارُوا بِهِمْ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمْ يَحْيَى بْنَ تَمِيمٍ عَلَى رَأْسِهِ، فَوَقَعَتِ السِّكِّينُ فِي عِمَامَتِهِ فَلَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا، وَرَفَسَهُ يَحْيَى فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَدَخَلَ يَحْيَى بَابًا وَأَغْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَضَرَبَ الثَّانِي الشَّرِيفَ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ الْقَائِدُ إِبْرَاهِيمُ السَّيْفَ فَقَاتَلَ الْكِيمَاوِيَّةَ، وَوَقَعَ الصَّوْتُ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْأَمِيرِ يَحْيَى فَقَتَلُوا

(8/575)


الْكِيمَاوِيَّةَ، وَكَانَ زِيُّهُمْ زِيَّ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، فُقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى مِثْلِ زِيِّهِمْ، وَقِيلَ لِلْأَمِيرِ يَحْيَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ رَآهُمْ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ الْمُقَدَّمِ بْنِ خَلِيفَةَ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الْأَمِيرَ أَبَا الْفُتُوحِ بْنَ تَمِيمٍ، أَخَا يَحْيَى، وَصَلَ تِلْكَ السَّاعَةَ إِلَى الْقَصْرِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، فَمُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ، فَثَبَتَ عِنْدَ الْأَمِيرِ يَحْيَى أَنَّ ذَلِكَ بِوَضْعٍ مِنْهُمَا، فَأَحْضَرَ الْمُقَدَّمَ بْنَ خَلِيفَةَ، وَأَمَرَ أَوْلَادَ أَخِيهِ فَقَتَلُوهُ قِصَاصًا، لِأَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُمْ، وَأَخْرَجَ الْأَمِيرَ أَبَا الْفُتُوحِ وَزَوْجَتَهُ بَلَارَةَ بِنْتَ الْقَاسِمِ بْنِ تَمِيمٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ، وَوَكَّلَ بِهِمَا فِي قَصْرِ زِيَادٍ بَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ وَسَفَاقِسَ، فَبَقِيَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ مَاتَ يَحْيَى، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَلِيٌّ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَسَيَّرَ أَبَا الْفُتُوحِ وَزَوْجَتَهُ بَلَارَةَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فِي الْبَحْرِ، فَوَصَلَا إِلَى إِسْكَنْدَرِيَّةَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ الطَّبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ حَافِظًا لِلْمَذْهَبِ، وَيَقُولُ: لَوِ احْتَرَقَتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ لَأَمْلَيْتُهَا مِنْ قَلْبِي.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيُّ، الشَّيْبَانِيُّ، اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ لَيْسَ بِالْجَيِّدِ.
وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ السَّيِّدُ أَبُو هَاشِمٍ زَيْدٌ الْحُسَيْنِيُّ، الْعَلَوِيُّ، رَئِيسُ هَمَذَانَ، وَكَانَ نَافِذَ الْحُكْمِ، مَاضِيَ الْأَمْرِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ رِئَاسَتِهِ لَهَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَجَدُّهُ لِأُمِّهِ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ، وَكَانَ عَظِيمَ الْمَالِ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَبِعْ لِأَجْلِهَا مِلْكًا وَلَا

(8/576)


اسْتَدَانَ دِينَارًا، وَأَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، عِدَّةَ شُهُورٍ، فِي جَمِيعِ مَا يُرِيدُهُ، وَكَانَ قَلِيلَ الْمَعْرُوفِ.
وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْفَوَارِسِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَازِنُ، الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ بِجَوْدَةِ الْخَطِّ، وَلَهُ شِعْرٌ مِنْهُ:
عَنَّتِ الدُّنْيَا لِطَالِبِهَا ... وَاسْتَرَاحَ الزَّاهِدُ الْفَطِنُ
عَرَفَ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَرَهَا ... وَسِوَاهُ حَظُّهُ الْفِتَنُ
كُلُّ مَلْكٍ نَالَ زُخْرُفَهَا ... حَظُّهُ مِمَّا حَوَى كَفَنُ
يَقْتَنِي مَالًا، وَيَتْرُكُهُ ... فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مُفْتَتَنُ
أَمَلِي كَوْنِي عَلَى ثِقَةٍ ... مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ مُرْتَهَنُ
أَكْرَهُ الدُّنْيَا، وَكَيْفَ بِهَا ... وَالَّذِي تَسْخُو بِهِ وَسَنٌ
لَمْ تَدُمْ قَبْلِي عَلَى أَحَدٍ ... فَلِمَاذَا الْهَمُّ وَالْحَزَنُ؟
وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ.

(8/577)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ]
503 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ طَرَابُلُسَ وَبَيْرُوتَ مِنَ الشَّامِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ طَرَابُلُسَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ طَرَابُلُسَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي حُكْمِ صَاحِبِ مِصْرَ وَنَائِبِهِ فِيهَا، وَالْمَدَدُ يَأْتِي إِلَيْهَا مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ.
فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، أَوَّلَ شَعْبَانَ، وَصَلَ أُسْطُولٌ كَبِيرٌ مِنْ بَلَدِ الْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ، وَمُقَدَّمُهُمْ قُمُّصٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ رِيمُنْدَ بْنُ صَنْجِيلَ وَمَرَاكِبُهُ مَشْحُونَةٌ بِالرِّجَالِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْمِيرَةِ، فَنَزَلَ عَلَى طَرَابُلُسَ، وَكَانَ نَازِلًا عَلَيْهَا قَبْلَهُ السُّرْدَانِيُّ ابْنُ أُخْتِ صَنْجِيلَ، وَلَيْسَ بِابْنِ أُخْتِ رِيمُنْدَ هَذَا، بَلْ هُوَ قُمُّصٌ آخَرُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا فِتْنَةٌ أَدَّتْ إِلَى الشَّرِّ وَالْقِتَالِ، فَوَصَلَ طَنْكَرِي صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ إِلَيْهَا، مَعُونَةً لِلسُّرْدَانِيِّ، وَوَصَلَ الْمَلِكُ بَغْدُوِينُ، صَاحِبُ الْقُدْسِ، فِي عَسْكَرِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَنَزَلَ الْفِرِنْجُ جَمِيعُهُمْ عَلَى طَرَابُلُسَ، وَشَرَعُوا فِي قِتَالِهَا، وَمُضَايَقَةِ أَهْلِهَا، مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ، وَأَلْصَقُوا أَبْرَاجَهُمْ بِسُورِهَا، فَلَمَّا رَأَى الْجُنْدُ وَأَهْلُ الْبَلَدِ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَذَلَّتْ نُفُوسُهُمْ، وَزَادَهُمْ ضَعْفًا تَأَخُّرُ الْأُسْطُولِ الْمِصْرِيِّ عَنْهُمْ بِالْمِيرَةِ وَالنَّجْدَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ تَأَخُّرِهِ: أَنَّهُ فُرِّغَ مِنْهُ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَسَارَ، فَرَدَّتْهُ الرِّيحُ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ الْوُصُولُ إِلَى طَرَابُلُسَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.
وَمَدَّ الْفِرِنْجُ الْقِتَالَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَبْرَاجِ وَالزَّحْفِ، فَهَجَمُوا عَلَى الْبَلَدِ وَمَلَكُوهُ عَنْوَةً وَقَهْرًا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا،

(8/578)


وَأَسَرُوا الرِّجَالَ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَغَنِمُوا مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَكُتُبِ دُورِ الْعِلْمِ الْمَوْقُوفَةِ، مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى، فَإِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا مَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْبِلَادِ أَمْوَالًا وَتِجَارَةً، وَسَلَّمَ الْوَالِي الَّذِي كَانَ بِهَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِهَا كَانُوا الْتَمَسُوا الْأَمَانَ قَبْلَ فَتْحِهَا، فَوَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ، وَعَاقَبَ الْفِرِنْجُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَأُخِذَتْ دَفَائِنُهُمْ وَذَخَائِرُهُمْ فِي مَكَامِنِهِمْ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ جَبَلَةَ وَبَانْيَاسَ
لَمَّا فَرَغَ الْفِرِنْجُ مِنْ طَرَابُلُسَ سَارَ طَنْكَرِي، صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، إِلَى بَانْيَاسَ، وَحَصَرَهَا، وَافْتَتَحَهَا، وَأَمَّنَ أَهْلَهَا، وَنَزَلَ مَدِينَةَ جَبَلَةَ، وَفِيهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ، وَكَانَ الْقُوتُ فِيهَا قَلِيلًا، فَقَاتَلَهَا إِلَى أَنْ مَلَكَهَا فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ بِالْأَمَانِ، وَخَرَجَ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ سَالِمًا.
وَوَصَلَ عُقَيْبَ مَلِكِ طَرَابُلُسَ، الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ بِالرِّجَالِ، وَالْمَالِ، وَالْغِلَالِ، وَغَيْرِهَا، مَا يَكْفِيهِمْ سَنَةً، فَوَصَلَ إِلَى صُورَ بَعْدَ أَخْذِهَا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ لِلْقَضَاءِ النَّازِلِ بِأَهْلِهَا، وَفُرِّقَتِ الْغِلَالُ الَّتِي فِيهِ وَالذَّخَائِرُ فِي الْجِهَاتِ الْمُنْفَذَةِ إِلَيْهَا: صُورَ، وَصَيْدَا، وَبَيْرُوتَ.
وَأَمَّا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ فَإِنَّهُ قَصَدَ شَيْزَرَ، فَأَكْرَمَهُ صَاحِبُهَا الْأَمِيرُ سُلْطَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُنْقِذٍ الْكِنَانِيُّ، وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَنْزَلَهُ طُغْتِكِينُ صَاحِبُهَا، وَأَجْزَلَ لَهُ فِي الْحَمْلِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَقْطَعَهُ أَعْمَالَ الزَّبَدَانِيِّ، وَهُوَ

(8/579)


عَمَلٌ كَبِيرٌ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مُحَمَّدْ خَانْ وَسَاغَرْبِكْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ سَاغَرْبِكْ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ وَقَصَدَ أَعْمَالَ مُحَمَّدْ خَانْ بِسَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا، فَأَرْسَلَ مُحَمَّدْ خَانْ إِلَى سَنْجَرَ يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْجُنُودَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ أَيْضًا كَثِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَسَارَ إِلَى سَاغَرْبِكْ فَالْتَقَوْا بِنَوَاحِي الْخَشَبِ وَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ سَاغَرْبِكْ وَعَسَاكِرُهُ وَأَخَذَتِ السُّيُوفُ مِنْهُمْ مَأْخَذَهَا وَكَثُرَ الْأَسْرُ فِيهِمْ وَالنَّهْبُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ حَرْبِهِمْ وَأَمِنَ خَانْ مِنْ شَرِّ سَاغَرْبِكْ عَادَ الْعَسْكَرُ السَّنْجَرِيُّ إِلَى خُرَاسَانَ فَعَبَرُوا النَّهْرَ إِلَى بَلْخَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، سَيَّرَ السُّلْطَانُ وَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ أَحْمَدَ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى قَلْعَةِ أَلْمُوتَ لِقِتَالِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَحَصَرُوهُمْ، وَهَجَمَ الشِّتَاءُ عَلَيْهِمْ فَعَادُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْهُ غَرَضًا.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، عَادَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ أَيْضًا.
وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، تَوَجَّهَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الْجَامِعِ، فَوَثَبَ بِهِ الْبَاطِنِيَّةُ فَضَرَبُوهُ بِالسَّكَاكِينِ، وَجُرِحَ فِي رَقَبَتِهِ، فَبَقِيَ مَرِيضًا مُدَّةً، ثُمَّ بَرَأَ، وَأُخِذَ الْبَاطِنِيُّ الَّذِي جَرَحَهُ فَسُقِيَ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ بِمَسْجِدِ الْمَأْمُونِيَّةِ، فَأُخِذُوا وَقُتِلُوا.

(8/580)


وَفِيهَا عُزِلَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ الزَّعِيمُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جَهِيرٍ، فَخَرَجَ ابْنُ الْمُطَّلِبِ مِنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ مُسْتَتِرًا هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَاسْتَجَارَ بِدَارِ السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا جَهَّزَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، خَمْسَةَ عَشَرَ شِينِيًّا وَسَيَّرَهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَقِيَهَا أُسْطُولُ الرُّومِ، وَهُوَ كَبِيرٌ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا سِتَّ قِطَعٍ مِنْ شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَنْهَزِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَحْيَى جَيْشٌ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ.
وَسَيَّرَ ابْنَهُ أَبَا الْفُتُوحِ إِلَى مَدِينَةِ سَفَاقِسَ وَالِيًا عَلَيْهَا، فَثَارَ بِهِ أَهْلُهَا، فَنَهَبُوا قَصْرَهُ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْيَى يُعْمِلُ الْحِيلَةَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى فَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَمَلَكَ رِقَابَهُمْ فَسَجَنَهُمْ، وَعَفَا عَنْ دِمَائِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالَ، صَاحِبُ آمِدَ، وَكَانَ قَبِيحَ السِّيرَةِ، مَشْهُورًا بِالظُّلْمِ، فَجَلَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا لِجَوْرِهِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ، وَكَانَ أَصْلَحَ حَالًا مِنْهُ.
وَفِيهَا، فِي ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ، ظَهَرَ فِي السَّمَاءِ كَوْكَبٌ مِنَ الشَّرْقِ لَهُ ذُؤَابَةٌ مُمْتَدَّةٌ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَبَقِيَ يَطْلُعُ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ غَابَ.

(8/581)