الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَة]
589 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ صَلَاحِ الدِّينِ وَبَعْضِ سِيرَتِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، تُوُفِّيَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ
بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي، صَاحِبُ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَغَيْرِهَا مِنِ الْبِلَادِ، بِدِمَشْقَ، وَمَوْلِدُهُ بِتِكْرِيتَ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ انْتِقَالِهِمْ مِنْهَا، وَمُلْكِهِمْ مِصْرَ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَ سَبَبُ مَرَضِهِ أَنْ خَرَجَ يَتَلَقَّى الْحَاجَّ، فَعَادَ،
وَمَرِضَ مِنْ يَوْمِهِ مَرَضًا حَادًّا، بَقِيَ بِهِ ثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ وَتُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ قَبْلَ مَرَضِهِ قَدْ أَحْضَرَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا
وَأَخَاهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَشَارَهُمَا
فِيمَا يَفْعَلُ، وَقَالَ: قَدْ تَفَرَّغْنَا مِنَ الْفِرِنْجِ،
وَلَيْسَ لَنَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ شَاغِلٌ فَأَيُّ جِهَةٍ
نَقْصِدُ؟ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْعَادِلُ بِقَصْدِ خِلَاطَ،
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَعَدَهُ، إِذَا أَخَذَهَا، أَنْ يُسَلِّمَهَا
إِلَيْهِ.
وَأَشَارَ [عَلَيْهِ] وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ بِقَصْدِ بَلَدِ الرُّومِ
الَّتِي بِيَدِ أَوْلَادِ قَلْج أَرَسَلَانَ، وَقَالَ: هِيَ أَكْثَرُ
بِلَادًا وَعَسْكَرًا وَمَالًا، وَأَسْرَعُ مَأْخَذًا، وَهِيَ أَيْضًا
طَرِيقُ الْفِرِنْجِ إِذَا خَرَجُوا عَلَى الْبَرِّ، فَإِذَا
مَلَكْنَاهَا مَنَعْنَاهُمْ مِنَ الْعُبُورِ فِيهَا.
فَقَالَ: كِلَاكُمَا مُقَصِّرٌ نَاقِصُ الْهِمَّةِ، بَلْ أَقْصِدُ
أَنَا بَلَدَ الرُّومِ، وَقَالَ لِأَخِيهِ: تَأْخُذُ أَنْتَ بَعْضَ
أَوْلَادِي وَبَعْضَ الْعَسْكَرِ وَتَقْصِدُ خِلَاطَ، فَإِذَا فَرَغْتَ
أَنَا مِنْ بَلَدِ الرُّومِ جِئْتُ إِلَيْكُمْ، وَنَدْخُلُ مِنْهَا
أَذْرَبِيجَانَ، وَنَتَّصِلُ بِبِلَادِ الْعَجَمِ، فَمَا فِيهَا مَنْ
يَمْنَعُ عَنْهَا.
ثُمَّ أَذِنَ لِأَخِيهِ الْعَادِلِ فِي الْمُضِيِّ إِلَى الْكَرَكِ،
وَكَانَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: تَجَهَّزْ وَاحْضُرْ لِتَسِيرَ، فَلَمَّا
سَارَ إِلَى الْكَرَكِ مَرِضَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ
عَوْدِهِ.
(10/118)
وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِيمًا،
حَلِيمًا، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، مُتَوَاضِعًا، صَبُورًا عَلَى مَا
يَكْرَهُ، كَثِيرَ التَّغَافُلِ عَنْ ذُنُوبِ أَصْحَابِهِ، يَسْمَعُ
مِنْ أَحَدِهِمْ مَا يَكْرَهُ وَلَا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَلَا
يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا جَالِسًا وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ،
فَرَمَى بَعْضُ الْمَمَالِيكِ بَعْضًا بِسَرْمُوزٍ فَأَخْطَأَتْهُ،
وَوَصَلَتْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَقَعَتْ
بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى يُكَلِّمُ
جَلِيسَهُ لِيَتَغَافَلَ عَنْهَا.
وَطَلَبَ مَرَّةً الْمَاءَ فَلَمْ يَحْضُرْ، وَعَاوَدَ الطَّلَبَ فِي
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَقَالَ: يَا
أَصْحَابَنَا، وَاللَّهِ قَدْ قَتَلَنِي الْعَطَشُ! فَأُحْضِرَ
الْمَاءُ فَشَرِبَهُ وَلَمْ يُنْكِرِ التَّوَانِيَ فِي إِحْضَارِهِ.
وَكَانَ مَرَّةً قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا أَرْجَفَ عَلَيْهِ
بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا بَرِئَ مِنْهُ، وَأُدْخِلَ الْحَمَّامَ كَانَ
الْمَاءُ حَارًّا، فَطَلَبَ مَاءً بَارِدًا، فَأَحْضَرَهُ الَّذِي
يَخْدُمُهُ، فَسَقَطَ مِنَ الْمَاءِ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَنَالَهُ
مِنْهُ شَيْءٌ، فَتَأَلَّمَ لَهُ لِضَعْفِهِ.
ثُمَّ طَلَبَ الْبَارِدَ أَيْضًا فَأُحْضِرَ، فَلَمَّا قَارَبَهُ
سَقَطَتِ الطَّاسَةُ عَلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعَ الْمَاءُ جَمِيعُهُ
عَلَيْهِ، فَكَادَ يَهْلِكُ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ
لِلْغُلَامِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَعَرِّفْنِي! فَاعْتَذَرَ
إِلَيْهِ، فَسَكَتَ عَنْهُ.
وَأَمَّا كَرَمُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبَذْلِ لَا يَقِفُ فِي
شَيْءٍ يُخْرِجُهُ، وَيَكْفِي دَلِيلًا عَلَى كَرَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا
مَاتَ لَمْ يُخَلِّفْ فِي خَزَائِنِهِ غَيْرَ دِينَارٍ وَاحِدٍ
صُورِيٍّ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا نَاصِرِيَّةً.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ كُلَّ عَكَّا
قُبَالَةَ الْفِرِنْجِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ مِنْ فَرَسٍ
وَبَغْلٍ سِوَى الْجِمَالِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ وَالثِّيَابُ
وَالسِّلَاحُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَلَمَّا
انْقَرَضَتِ الدَّوْلَةُ الْعَلَوِيَّةُ بِمِصْرَ أَخَذَ مِنْ
ذَخَائِرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ مَا يَفُوتُ الْإِحْصَاءَ،
فَفَرَّقَهُ جَمِيعَهُ.
وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَتَكَبَّرْ
عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَعِيبُ الْمُلُوكَ
الْمُتَكَبِّرِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ الْفُقَرَاءُ
وَالصُّوفِيَّةُ وَيَعْمَلُ لَهُمُ السَّمَاعَ، فَإِذَا قَامَ
أَحَدُهُمْ لِرَقْصٍ أَوْ سَمَاعٍ يَقُومُ لَهُ فَلَا يَقْعُدُ حَتَّى
يَفْرَغَ الْفَقِيرُ.
وَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا مِمَّا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَكَانَ
عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ،
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ نَادِرًا فِي عَصْرِهِ، كَثِيرَ الْمَحَاسِنِ
وَالْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ، عَظِيمَ
(10/119)
الْجِهَادِ فِي الْكُفَّارِ، وَفُتُوحُهُ
تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَخَلَّفَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا.
ذِكْرُ حَالِ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَهُ
لَمَّا مَاتَ صَلَاحُ الدِّينِ بِدِمَشْقَ كَانَ مَعَهُ بِهَا وَلَدُهُ
الْأَكْبَرُ الْأَفْضَلُ نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ
لَهُ الْعَسَاكِرُ جَمِيعُهَا، غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا
مَاتَ مَلَكَ دِمَشْقَ، وَالسَّاحِلَ، وَالْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ
وَبَعْلَبَكَ، وَصَرْخَدَ، وَبُصْرَى وَبَانْيَاسَ. وَهُونِينَ
وَتِبْنِينَ. وَجَمِيعَ الْأَعْمَالِ إِلَى الدَّارُومِ.
وَكَانَ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بِمِصْرَ،
فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِهَا.
وَكَانَ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ غَازِي بِحَلَبَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا،
وَعَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهَا مِثْلَ: حَارِمٍ، وَتَلِّ بَاشَرْ،
وَإِعْزَازَ وَبَرْزَيَةَ، وَدَرْبِ سَاكْ، وَمَنْبَجَ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَكَانَ بِحَمَاةَ مَحْمُودُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ فَأَطَاعَهُ
وَصَارَ مَعَهُ.
وَكَانَ بِحِمْصَ شِيرِكُوهُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرِكُوهُ،
فَأَطَاعَ الْمَلِكَ الْأَفْضَلَ.
وَكَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ بِالْكَرَكِ قَدْ سَارَ إِلَيْهِ، كَمَا
ذَكَرْنَا، فَامْتَنَعَ فِيهِ وَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ
أَوْلَادِ أَخِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ
يَسْتَدْعِيهِ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ فَوَعَدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ،
فَأَعَادَ مُرَاسَلَتَهُ وَخَوَّفَهُ مِنَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ
صَاحِبِ مِصْرَ، وَمِنْ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ. صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ
الْعَادِلِ الْجَزَرِيَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ حَضَرْتَ جَهَّزْتُ الْعَسَاكِرَ وَسِرْتُ إِلَى
بِلَادِكَ فَحَفِظْتُهَا، وَإِنْ أَقَمْتَ قَصَدَكَ أَخِي الْمَلِكُ
الْعَزِيزُ لِمَا بَيْنَكُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَإِذَا مَلَكَ عِزُّ
الدِّينِ بِلَادَكَ فَلَيْسَ لَهُ دُونَ الشَّامِ مَانِعٌ.
وَقَالَ لِرَسُولِهِ: إِنْ حَضَرَ مَعَكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَهُ قَدْ
أَمَرَنِي: إِنْ سِرْتَ إِلَيْهِ بِدِمَشْقَ عُدْتُ مَعَكَ، وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ أَسِيرُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَزِيزِ أُحَالِفُهُ عَلَى
مَا يَخْتَارُ.
فَلَمَّا حَضَرَ الرَّسُولُ عِنْدَهُ وَعَدَهُ بِالْمَجِيءِ، فَلَمَّا
رَأَى أَنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْهُ غَيْرُ الْوَعْدِ أَبْلَغَهُ مَا
قِيلَ لَهُ فِي مَعْنَى مُوَافَقَةِ الْعَزِيزِ، فَحِينَئِذٍ سَارَ
إِلَى دِمَشْقَ، وَجَهَّزَ الْأَفْضَلُ مَعَهُ عَسْكَرًا مِنْ
عِنْدِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ حِمْصَ، وَصَاحِبِ حَمَاةَ،
وَإِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بِحَلَبَ، يَحُثُّهُمْ عَلَى
إِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ مَعَ الْعَادِلِ إِلَى الْبِلَادِ
الْجَزَرِيَّةِ لِيَمْنَعَهَا مِنْ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ،
وَيُخَوِّفَهُمْ إِنْ هُمْ لَمْ يَفْعَلُوا.
وَمِمَّا قَالَ لِأَخِيهِ الظَّاهِرِ: قَدْ عَرَفْتَ صُحْبَةَ أَهْلِ
الشَّامِ لِبَيْتِ أَتَابِكْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ
(10/120)
مَلَكَ عِزُّ الدِّينِ حَرَّانَ
لِيَقُومَنَّ أَهْلُ حَلَبَ عَلَيْكَ وَلَتَخْرُجَنَّ مِنْهَا وَأَنْتَ
لَا تَعْقِلُ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِي أَهْلُ دِمَشْقَ.
فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى تَسْيِيرِ الْعَسَاكِرِ مَعَهُ،
فَجَهَّزُوا عَسَاكِرَهُمْ وَسَيَّرُوهَا إِلَى الْعَادِلِ وَقَدْ
عَبَرَ الْفُرَاتَ، فَعَسْكَرَتْ عَسَاكِرُهُمْ بِنَوَاحِي الرُّهَا
بِمَرْجِ الرَّيْحَانِ، وَسَنَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ مَسِيرِ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ إِلَى بِلَادِ الْعَادِلِ،
وَعَوْدِهِ بِسَبَبِ مَرَضِهِ
لَمَّا بَلَغَ أَتَابِكْ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ مَوْدُودِ بْنِ
زِنْكِيٍّ - صَاحِبَ الْمَوْصِلِ - وَفَاةُ صَلَاحِ الدِّينِ جَمَعَ
أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ مُجَاهِدُ الدِّينِ
قَايْمَازْ، كَبِيرُ دَوْلَتِهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ
فِيهَا، وَهُوَ نَائِبُهُ فِيهِمْ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ:
فَسَكَتُوا.
فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ - وَهُوَ أَخِي مَجْدِ الدِّينِ أَبُو
السِّعَادَاتِ الْمُبَارَكُ -: أَنَا أَرَى أَنَّكَ تَخْرُجُ مُسْرِعًا
جَرِيدَةً فِيمَنْ خَفَّ مِنْ أَصْحَابِكَ وَحَلْقَتِكَ الْخَاصِّ،
وَتَتَقَدَّمُ إِلَى الْبَاقِينَ بِاللَّحَاقِ بِكَ، وَتُعْطِي مَنْ
هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ مَا يَتَجَهَّزُ بِهِ مَا يُخْرِجُهُ،
وَيَلْحَقُ بِكَ إِلَى نَصِيبِينَ.
وَتُكَاتِبُ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ مِثْلَ مُظَفَّرِ الدِّينِ بْنِ
زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ، وَسَنْجَرْ شَاهْ ابْنِ أَخِيكَ
صَاحِبِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخِيكَ عِمَادِ الدِّينِ صَاحِبِ
سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ، تُعَرِّفُهُمْ أَنَّكَ قَدْ سِرْتَ،
وَتَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ، وَتَبْذُلُ لَهُمُ الْيَمِينَ
عَلَى مَا يَلْتَمِسُونَهُ، فَمَتَى رَأَوْكَ قَدْ سِرْتَ خَافُوكَ،
وَإِنْ أَجَابَكَ أَخُوكَ صَاحِبُ سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ إِلَى
الْمُوَافَقَةِ، وَإِلَّا بَدَأْتَ بِنَصِيبِينَ فَأَخَذْتَهَا،
وَتَرَكْتَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، ثُمَّ سِرْتَ نَحْوَ الْخَابُورِ،
وَهُوَ لَهُ أَيْضًا فَأَقْطِعْهُ، وَتَرَكْتَ عَسْكَرَهُ مُقَابِلَ
أَخِيكَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ إِنْ أَرَادَهَا، أَوْ قَصَدْتَ
الرَّقَّةَ فَلَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا.
وَتَأْتِي حَرَّانَ الرُّهَا، فَلَيْسَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا لَا
صَاحِبٌ وَلَا عَسْكَرٌ - وَلَا ذَخِيرَةٌ، فَإِنَّ الْعَادِلَ
أَخَذَهُمَا مِنَ ابْنِ تَقِيِّ الدِّينِ وَلَمْ يَقُمْ فِيهِمَا
لِيُصْلِحَ حَالَهُمَا.
وَكَانَ الْقَوْمُ يَتَّكِلُونَ عَلَى قُوَّتِهِمْ، فَلَمْ يَظُنُّوا
هَذَا الْحَادِثَ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ ذَلِكَ الطَّرَفِ عُدْتَ
إِلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ طَاعَتِكَ فَقَاتَلْتَهُ لَيْسَ وَرَاءَكَ
مَا تَخَافُ عَلَيْهِ فَإِنَّ بَلَدَكَ عَظِيمٌ لَا يُبَالِي بِكُلِّ
مَنْ وَرَاءَكَ.
فَقَالَ مُجَاهِدُ الدِّينِ: الْمَصْلَحَةُ أَنَّنَا نُكَاتِبُ
أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ نَأْخُذُ رَأْيَهُمْ فِي
(10/121)
الْحَرَكَةِ نَسْتَمِيلُهُمْ، فَقَالَ لَهُ
أَخِي: إِنْ أَشَارُوا بِتَرْكِ الْحَرَكَةِ تَقْبَلُونَ مِنْهُمْ؟
قَالَ: لَا! قَالَ: إِنَّهُمْ لَا يُشِيرُونَ إِلَّا بِتَرْكِهَا،
لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقْوَى هَذَا السُّلْطَانُ خَوْفًا
مِنْهُ، وَكَأَنِّي بِهِمْ يُغَالِطُونَكُمْ مَا دَامَتِ الْبِلَادُ
الْجَزَرِيَّةُ فَارِغَةً مِنْ صَاحِبِ عَسْكَرٍ، فَإِذَا جَاءَ
إِلَيْهَا مَنْ يَحْفَظُهَا جَاهَرُوكُمْ بِالْعَدَاوَةِ.
وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ خَوْفًا مِنْ
مُجَاهِدِ الدِّينِ، حَيْثُ رَأَى مَيْلَهُ إِلَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ،
فَانْفَصَلُوا عَلَى أَنْ يُكَاتِبُوا أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ،
فَكَاتَبُوهُمْ فَكُلٌّ أَشَارَ بِتَرْكِ الْحَرَكَةِ إِلَى أَنْ
يَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ صَلَاحِ الدِّينِ وَعَمِّهِمْ
فَتَثَبَّطُوا.
ثُمَّ إِنَّ مُجَاهِدَ الدِّينِ كَرَّرَ الْمُرَاسَلَاتِ إِلَى عِمَادِ
الدِّينِ، صَاحِبِ سِنْجَارَ، يَعِدُهُ وَيَسْتَمِيلُهُ، فَبَيْنَمَا
هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ كِتَابُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ مِنَ
الْمُنَاخِ بِالْقُرْبِ مِنْ دِمَشْقَ، قَدْ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى
بِلَادِهِ، يَذْكُرُ فِيهِ مَوْتَ أَخِيهِ، وَأَنَّ الْبِلَادَ قَدِ
اسْتَقَرَّتْ لِوَلَدِهِ الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ، وَالنَّاسَ
مُتَّفِقُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لِدَوْلَةِ
الْأَفْضَلِ، وَقَدْ سَيَّرَهُ فِي عَسْكَرٍ جَمٍّ، كَثِيرِ الْعَدَدِ،
لِقَصْدِ مَارْدِينَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَهَا تَعَرَّضَ إِلَى
بَعْضِ الْقُرَى الَّتِي لَهُ، وَذَكَرَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ شَيْئًا
كَثِيرًا، فَظَنُّوهُ حَقًّا وَأَنَّ قَوْلَهُ لَا رَيْبَ فِيهِ،
فَفَتَرُوا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَذَلِكَ الرَّأْيِ.
فَسَيَّرُوا الْجَوَاسِيسَ، فَأَتَتْهُمُ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُ فِي
ظَاهِرِ حَرَّانَ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْ خَيْمَةٍ لَا غَيْرَ،
فَعَادُوا فَتَحَرَّكُوا، فَإِلَى أَنْ تَقَرَّرَتِ الْقَوَاعِدُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَصَلَتْهُ الْعَسَاكِرُ
الشَّامِيَّةُ الَّتِي سَيَّرَهَا الْأَفْضَلُ وَغَيْرُهُ إِلَى
الْعَادِلِ، فَامْتَنَعَ بِهَا وَسَارَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ عَنِ
الْمَوْصِلِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَخُوهُ عِمَادُ
الدِّينِ بِهَا، وَسَارُوا عَلَى سِنْجَارَ نَحْوَ الرُّهَا، وَكَانَ
الْعَادِلُ قَدْ عَسْكَرَ قَرِيبًا مِنْهَا بِمَرْجِ الرَّيْحَانِ،
فَخَافَهُمْ خَوْفًا عَظِيمًا.
فَلَمَّا وَصَلَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ إِلَى تَلِّ مَوْزَنٍ مَرِضَ
بِالْإِسْهَالِ، فَأَقَامَ عِدَّةَ أَيَّامٍ فَضَعُفَ عَنِ
الْحَرَكَةِ، وَكَثُرَ مَجِيءُ الدَّمِ مِنْهُ فَخَافَ الْهَلَاكَ،
فَتَرَكَ الْعَسَاكِرَ مَعَ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ، وَعَادَ
جَرِيدَةً فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَمَعَهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ،
وَأَخِي - مَجْدُ الدِّينِ -، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى دَنَيْسِرَ
اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ، فَأَحْضَرَ أَخِي وَكَتَبَ وَصِيَّةً،
ثُمَّ سَارَ فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَوَّلَ رَجَبٍ.
(10/122)
ذِكْرُ وَفَاةِ أَتَابِكْ عِزِّ الدِّينِ
وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ
بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زِنْكِيِّ بْنِ آقْسُنْقُرَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ،
بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَوْدَهُ إِلَيْهَا مَرِيضًا،
فَبَقِيَ فِي مَرَضِهِ إِلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
شَعْبَانَ، فَتُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ
الَّتِي أَنْشَأَهَا مُقَابِلَ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ قَدْ
بَقِيَ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا
بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ
بِغَيْرِهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ، فَرُزِقَ خَاتِمَةَ خَيْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، خَيِّرَ الطَّبْعِ، كَثِيرَ الْخَيْرِ
وَالْإِحْسَانِ، لَا سِيَّمَا إِلَى شُيُوخٍ قَدْ خَدَمُوا أَبَاهُ،
فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَهَّدُهُمْ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ،
وَالصِّلَةِ وَالْإِكْرَامِ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَيَزُورُ
الصَّالِحِينَ، وَيُقَرِّبُهُمْ وَيُشَفِّعُهُمْ.
وَكَانَ حَلِيمًا، قَلِيلَ الْمُعَاقَبَةِ، كَثِيرَ الْحَيَاءِ، لَمْ
يُكَلِّمْ جَلِيسًا لَهُ إِلَّا وَهُوَ مُطْرِقٌ، وَمَا قَالَ فِي
شَيْءٍ يُسْأَلُهُ: لَا، حَيَاءً وَكَرَمَ طَبْعٍ.
وَكَانَ قَدْ حَجَّ، وَلَبِسَ بِمَكَّةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، خِرْقَةَ
التَّصَوُّفِ: وَكَانَ يَلْبَسُ تِلْكَ الْخِرْقَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ،
وَيَخْرُجُ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ بَنَاهُ فِي دَارِهِ، وَيُصَلِّي فِيهِ
نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ، شَفِيقًا عَلَى
الرَّعِيَّةِ.
بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعْضَ الْأَيَّامِ: إِنَّنِي سَهِرْتُ
اللَّيْلَةَ كَثِيرًا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي سَمِعْتُ صَوْتَ
نَائِحَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّ وَلَدَ فُلَانٍ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ قَدْ
سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ: قَالَ: فَضَاقَ صَدْرِي، وَقُمْتُ مِنْ
فِرَاشِي أَدُورُ فِي السَّطْحِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْأَمْرُ
أَرْسَلْتُ خَادِمًا إِلَى الْجَانْدَارِيَّةِ، فَأَرْسَلَ مِنْهُمْ
وَاحِدًا يَسْتَعْلِمُ الْخَبَرَ، فَعَادَ وَذَكَرَ إِنْسَانًا لَا
أَعْرِفُهُ، فَسَكَنَ بَعْضُ مَا عِنْدِي فَنِمْتُ، وَلَمْ يَكُنِ
الرَّجُلُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّ ابْنَهُ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ،
إِنَّمَا كَانَ مِنْ رَعِيَّتِهِ.
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَخَّرَ وَفَاتُهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهَا
لِتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِ بَعْضِهَا بَعْضًا.
ذِكْرُ قَتْلِ بُكْتُمُرْ صَاحِبِ خِلَاطَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوَّلَ جُمَادَى الْأُولَى قُتِلَ سَيْفُ
الدِّينِ بُكْتُمُرْ، صَاحِبُ خِلَاطَ،
(10/123)
وَكَانَ بَيْنَ قَتْلِهِ وَمَوْتِ صَلَاحِ
الدِّينِ شَهْرَانِ، فَإِنَّهُ أَسْرَفَ فِي إِظْهَارِ الشَّمَاتَةِ
بِمَوْتِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ صَلَاحِ الدِّينِ فَرِحَ فَرَحًا كَثِيرًا،
وَعَمِلَ تَخْتًا جَلَسَ عَلَيْهِ، وَلَقَّبَ نَفْسَهُ بِالسُّلْطَانِ
الْمُعَظَّمِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ لَقَبُهُ سَيْفَ الدِّينِ،
فَغَيَّرَهُ، وَسَمَّى نَفْسَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ، وَظَهَرَ مِنْهُ
اخْتِلَالٌ وَتَخْلِيطٌ، وَتَجَهَّزَ لِيَقْصِدَ مَيَّافَارِقِينَ
يَحْصُرُهَا، فَأَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ.
وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ هَزَارَ دِينَارِي، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ
مَمَالِيكِ شَاهْ أَرْمَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ، كَانَ قَدْ قَوِيَ
وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ بُكْتُمُرْ، فَطَمِعَ فِي
الْمُلْكِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ مَلَكَ
بَعْدَهُ هَزَارُ دِينَارِي بِلَادَ خِلَاطَ وَأَعْمَالَهَا.
وَكَانَ بُكْتُمُرْ دَيِّنًا، خَيِّرًا، صَالِحًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ،
وَالصَّلَاحِ، وَالصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِأَهْلِ الدِّينِ،
وَالصُّوفِيَّةِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، قَرِيبًا مِنْهُمْ،
وَمِنْ سَائِرِ رَعِيَّتِهِ، مَحْبُوبًا إِلَيْهِمْ، عَادِلًا فِيهِمْ،
وَكَانَ جَوَادًا شُجَاعًا عَادِلًا فِي رَعِيَّتِهِ، حَسَنَ
السِّيرَةِ فِيهِمْ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَتَّى شِهَابُ الدِّينِ مَلِكُ غَزْنَةَ فِي
بَرْشَاوُورَ، وَجَهَّزَ مَمْلُوكَهُ أَيْبَكَ فِي عَسَاكِرَ
كَثِيرَةٍ، فَأَدْخَلَهُ بِلَادَ الْهِنْدِ يَغْنَمُ وَيَسْبِي،
وَيَفْتَحُ مِنَ الْبِلَادِ مَا يُمْكِنُهُ، فَدَخَلَهَا وَعَادَ
فَخَرَجَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ سَالِمًا، وَقَدْ مَلَأُوا أَيْدِيَهُمْ
مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَفِيهَا، فِي رَمَضَانَ، تُوُفِّيَ سُلْطَانُ شَاهْ صَاحِبُ مَرْوَ
وَغَيْرِهَا مِنْ خُرَاسَانَ، وَمَلَكَ أَخُوهُ عَلَاءُ الدِّينِ
تَكْشُ بِلَادَهُ، وَسَنَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ]
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ بِعِمَارَةِ
خِزَانَةِ الْكُتُبِ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ
(10/124)
بِبَغْدَادَ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا مِنَ
الْكُتُبِ النَّفِيسَةِ أُلُوفًا لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَرَغَ مِنْ عِمَارَةِ الرِّبَاطِ
الَّذِي أَمَرَ بِإِنْشَائِهِ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا بِالْحَرِيمِ
الطَّاهِرِيِّ، غَرْبِيَّ بَغْدَادَ عَلَى دِجْلَةَ، وَهُوَ مِنْ
أَحْسَنِ الرُّبُطِ، وَنَقَلَ إِلَيْهِ كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ
أَحْسَنِ الْكُتُبَ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْخَلِيفَةُ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ،
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا سُوسَيَانَ بْنَ شَمْلَةَ جَعَلَ
فِيهَا دَزْدَارَا، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ جُنْدِهَا، فَغَدَرَ
بِهِ بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُ، وَنَادَوْا بِشِعَارِ الْخَلِيفَةِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا.
وَفِيهَا انْقَضَّ كَوْكَبَانِ عَظِيمَانِ، وَسُمِعَ صَوْتُ هَدَّةٍ
عَظِيمَةٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَغَلَبَ ضَوْءُهُمَا
الْقَمَرَ وَضَوْءَ النَّهَارِ.
[الْوَفَيَاتُ] وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، أَمِيرُ مَكَّةَ، وَمَا زَالَتْ
إِمَارَةُ مَكَّةَ تَكُونُ لَهُ تَارَةً، وَلِأَخِيهِ مُكْثِرٍ
تَارَةً، إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو الرَّشِيدِ الْحَاسِبُ
الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ
لِدِينِ اللَّهِ فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَاتَ هُنَاكَ.
(10/125)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ]
590 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ شِهَابِ الدِّينِ وَمَلِكِ بَنَارِسَ
الْهِنْدِيِّ
كَانَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ، مَلِكُ غَزْنَةَ، قَدْ جَهَّزَ
مَمْلُوكَهُ قُطْبَ الدِّينِ أَيْبَكْ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَلَدِ
الْهِنْدِ لِلْغُزَاةِ، فَدَخَلَهَا فَقَتَلَ فِيهَا وَسَبَى وَنَهَبَ
وَعَادَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ مَلِكُ بَنَارِسَ، وَهُوَ أَكْبَرُ مَلِكٍ فِي
الْهِنْدِ، وَوِلَايَتُهُ مِنْ حَدِّ الصِّينِ إِلَى بِلَادِ مَلَاوَا
طُولًا، وَمِنَ الْبَحْرِ إِلَى مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ
لَهَاوُورَ عَرْضًا، وَهُوَ مَلِكٌ عَظِيمٌ فَعِنْدَهَا جَمَعَ
جُيُوشَهُ، وَحَشَرَهَا، وَسَارَ يَطْلُبُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ.
وَدَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَسَارَ شِهَابُ
الدِّينِ الْغُورِيُّ، مِنْ غَزْنَةَ بِعَسَاكِرِهِ نَحْوَهُ،
فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ عَلَى مَاجُونَ، وَهُوَ نَهَرٌ كَبِيرٌ
يُقَارِبُ دِجْلَةَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَعَ الْهِنْدِيِّ
سَبْعُمِائَةِ فِيلٍ، وَمِنَ الْعَسْكَرِ عَلَى مَا قِيلَ أَلْفُ
أَلْفِ رَجُلٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ عَسْكَرِهِ عِدَّةُ أُمَرَاءَ
مُسْلِمِينَ، وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَبًّا عَنْ جَدٍّ، مِنْ
أَيَّامِ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، يُلَازِمُونَ
شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، وَيُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ،
وَأَفْعَالِ الْخَيْرِ. فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْهُنُودُ
اقْتَتَلُوا، فَصَبَرَ الْكُفَّارُ لِكَثْرَتِهِمْ، وَصَبَرَ
الْمُسْلِمُونَ لِشَجَاعَتِهِمْ، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ، وَنُصِرَ
الْمُسْلِمُونَ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْهُنُودِ، حَتَّى
امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ وَجَافَتْ.
وَكَانُوا لَا يَأْخُذُونَ إِلَّا الصِّبْيَانَ وَالْجَوَارِيَ
وَأَمَّا الرِّجَالُ فَيُقْتَلُونَ، وَأُخِذَ مِنْهُمْ تِسْعُونَ
فِيلًا، وَبَاقِي الْفِيَلَةِ قُتِلَ بَعْضُهَا، وَانْهَزَمَ
بَعْضُهَا، وَقُتِلَ مَلِكُ الْهِنْدِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ
إِلَّا أَنَّهُ كَانَتْ أَسْنَانُهُ قَدْ ضَعُفَتْ أُصُولُهَا،
فَأَمْسَكُوهَا بِشَرِيطِ الذَّهَبِ فَبِذَلِكَ عَرَفُوهُ.
(10/126)
فَلَمَّا انْهَزَمَ الْهُنُودُ دَخَلَ
شِهَابُ الدِّينِ بِلَادَ بَنَارِسَ، وَحَمَلَ مِنْ خَزَائِنِهَا عَلَى
أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ جَمَلٍ، وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ، وَمَعَهُ
الْفِيَلَةُ الَّتِي أَخَذَهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا فِيلٌ أَبْيَضُ.
حَدَّثَنِي مَنْ رَآهُ: لَمَّا أُخِذَتِ الْفِيَلَةُ، وَقُدِّمَتْ
إِلَى شِهَابِ الدِّينِ، وَأُمِرَتْ بِالْخِدْمَةِ، فَخَدَمَتْ
جَمِيعُهَا إِلَّا الْأَبْيَضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْدُمْ، وَلَا
يَعْجَبْ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِنَا الْفِيَلَةُ تَخْدُمُ فَإِنَّهَا
تَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَقَدْ شَاهَدْتُ فِيلًا بِالْمَوْصِلِ
وَفَيَّالُهُ يُحَدِّثُهُ، فَيَفْعَلُ مَا يَقُولُ لَهُ.
ذِكْرُ قَتْلِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ، وَمُلْكِ خُوَارِزْمِ شَاهْ
الرَّيَّ، وَوَفَاةِ أَخِيهِ سُلْطَانِ شَاهْ
لَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ]
خُرُوجَ السُّلْطَانِ طُغْرُلْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ طُغْرُلْ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرُسَلَانَ
السَّلْجُوقِيِّ مِنَ الْحَبْسِ، وَمُلْكَهُ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا،
وَكَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتْلُغْ إِينَانْج بْنِ
الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبِ الْبِلَادِ حَرْبٌ، انْهَزَمَ فِيهَا قُتْلُغْ
إِينَانْجُ، وَتَحَصَّنَ بِالرَّيِّ.
وَسَارَ طُغْرُلْ إِلَى هَمَذَانَ، وَأَرْسَلَ قُتْلُغْ إِينَانْجُ
إِلَى خُوَارِزْمِ شَاهْ عَلَاءِ الدِّينِ تُكْشَ يَسْتَنْجِدُهُ،
فَسَارَ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ،
فَلَمَّا تَقَارَبَا نَدِمَ قُتْلُغْ إِينَانْجُ عَلَى اسْتِدْعَاءِ
خُوَارِزْمِ شَاهْ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَمَضَى مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ، وَتَحَصَّنَ قَلْعَةً لَهُ، فَسَارَ خُوَارِزْمِ شَاهْ إِلَى
الرَّيِّ وَمَلَكَهَا.
وَحَصَرَ قَلْعَةَ طَبَرْكَ فَفَتَحَهَا فِي يَوْمَيْنِ، وَرَاسَلَهُ
طُغْرُلْ، وَاصْطَلَحَا، وَبَقِيَتِ الرَّيُّ فِي يَدِ خُوَارِزْمِ
شَاهْ فَرَتَّبَ فِيهَا عَسْكَرًا يَحْفَظُهَا، وَعَادَ إِلَى
خُوَارِزْمَ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَخَاهُ سُلْطَانَ [شَاهْ] قَدْ
قَصَدَ خُوَارِزْمَ، فَجَدَّ فِي السَّيْرِ خَوْفًا عَلَيْهَا،
فَأَتَاهُ الْخَبَرُ، وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ أَهْلَ خُوَارِزْمَ
مَنَعُوا سُلْطَانَ شَاهْ عَنْهَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُرْبِ
مِنْهَا، وَعَادَ عَنْهَا خَائِبًا.
فَشَتَّى خُوَارِزْمُ شَاهْ بِخُوَارِزْمَ، فَلَمَّا انْقَضَى
الشِّتَاءُ سَارَ إِلَى مَرْوَ لِقَصْدِ أَخِيهِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا
فِي الصُّلْحِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي تَقْرِيرِ الصُّلْحِ وَرَدَ عَلَى خُوَارِزْمِ
شَاهْ رَسُولٌ مِنْ مُسْتَحْفِظِ قَلْعَةِ سَرَخْسَ لِأَخِيهِ
سُلْطَانِ شَاهْ يَدْعُوهُ لِيُسَلِّمَ الْقَلْعَةَ ; لِأَنَّهُ قَدِ
اسْتَوْحَشَ مِنْ صَاحِبِهِ سُلْطَانِ شَاهْ، فَسَارَ خُوَارِزْمُ
شَاهْ إِلَيْهِ مُجِدًّا، فَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ وَصَارَ مَعَهُ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ سُلْطَانَ شَاهْ فَفَتَّ فِي عَضُدِهِ، وَتَزَايَدَ
كَمَدُهُ، فَمَاتَ سَلْخَ رَمَضَانَ سَنَةَ
(10/127)
تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
فَلَمَّا سَمِعَ خُوَارِزْمُ شَاهْ بِمَوْتِهِ سَارَ مِنْ سَاعَتِهِ
إِلَى مَرْوَ فَتَسَلَّمَهَا، وَتَسَلَّمَ مَمْلَكَةَ أَخِيهِ
سُلْطَانِ شَاهْ جَمِيعَهَا وَخَزَائِنَهُ.
وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ
يُلَقَّبُ حِينَئِذٍ قُطْبَ الدِّينِ، وَهُوَ بِخُوَارِزْمَ،
فَأَحْضَرَهُ فَوَلَّاهُ نَيْسَابُورَ، وَوَلَّى ابْنَهُ الْأَكْبَرَ
مَلِكْشَاهْ مَرْوَ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ.
فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قَصَدَ
السُّلْطَانُ طُغْرُلْ بَلَدَ الرَّيِّ فَأَغَارَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْ
أَصْحَابِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، [فَفَرَّ مِنْهُ قُتْلُغْ إِينَانْجُ
بْنُ الْبَهْلَوَانِ، وَأَرْسَلَ إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ] يَعْتَذِرُ
وَيَسْأَلُ إِنْجَادَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً.
وَوَافَقَ ذَلِكَ وُصُولَ رَسُولِ الْخَلِيفَةِ إِلَى خُوَارِزْمَ
شَاهْ يَشْكُو مِنْ طُغْرُلْ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ قَصْدَ بِلَادِهِ
وَمَعَهُ مَنْشُورٌ بِإِقْطَاعِهِ الْبِلَادَ، فَسَارَ مِنْ
نَيْسَابُورَ إِلَى الرَّيِّ، فَتَلْقَاهُ قُتْلُغ إِينَانْجُ وَمَنْ
مَعَهُ بِالطَّاعَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْ بِوُصُولِهِ كَانَتْ
عَسَاكِرُهُ مُتَفَرِّقَةً، فَلَمْ يَقِفْ لِيَجْمَعَهَا بَلْ سَارَ
إِلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنِ الَّذِي تَفْعَلُهُ
لَيْسَ بِرَأْيٍ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَجْمَعَ الْعَسَاكِرَ فَلَمْ
يَقْبَلْ، وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ، بَلْ تَمَّمَ مَسِيرَهُ.
فَالْتَقَى الْعَسْكَرَانِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّيِّ، فَحَمَلَ
طُغْرُلْ بِنَفْسِهِ وَسَطَ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَأَحَاطُوا
بِهِ وَأَلْقَوْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَقَتَلُوهُ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحُمِلَ رَأَسُهُ
إِلَى خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَسَيَّرَهُ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى بَغْدَادَ،
فَنُصِبَ بِهَا بِبَابِ النُّوبِيِّ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَسَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ، وَمَلَكَ تِلْكَ
الْبِلَادَ جَمِيعَهَا، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ
اللَّهِ قَدْ جَهَّزَ عَسْكَرَ إِلَى نَجْدَةَ خُوَارِزْمَ شَاهْ،
وَسَيَّرَ لَهُ الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ مَعَ وَزِيرِهِ مُؤَيِّدِ
الدِّينِ بْنِ الْقَصَّابِ، فَنَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ هَمَذَانَ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خُوَارِزْمُ شَاهْ يَطْلُبُهُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ مُؤَيِّدُ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ تَحْضُرَ أَنْتَ
وَتَلْبَسَ الْخِلْعَةَ مِنْ خَيْمَتِي وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ
بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لِخَوَارِزْمَ شَاهْ: إِنَّهَا
حِيلَةٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَحْضُرَ عِنْدَهُ، وَيَقْبِضَ عَلَيْكَ.
فَرَحَلَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَيْهِ قَصْدًا لِأَخْذِهِ فَانْدَفَعَ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَالْتَجَأَ إِلَى بَعْضِ الْجِبَالِ،
فَامْتَنَعَ بِهِ، فَرَجَعَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ،
وَلَمَّا مَلَكَ هَمَذَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادَ سَلَّمَهَا إِلَى
قُتْلُغ إِينَانْجَ، وَأَقْطَعَ كَثِيرًا مِنْهَا لِمَمَالِيكِهِ،
وَجَعَلَ الْمُقَدَّمَ عَلَيْهِمْ مَيَاجِقَ، وَعَادَ إِلَى
خُوَارِزْمَ.
(10/128)
ذِكْرُ مَسِيرِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ إِلَى
خُوزِسْتَانَ وَمُلْكِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، خَلَعَ
الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَلَى النَّائِبِ فِي
الْوِزَارَةِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْقَصَّابِ، خِلَعَ الْوِزَارَةِ،
وَحُكِّمَ فِي الْوِلَايَةِ وَبَرَزَ فِي رَمَضَانَ، وَسَارَ إِلَى
بِلَادِ خُوزِسْتَانَ ; [وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا قَدْ
خَدَمَ فِي خُوزِسْتَانَ] ، وَوَلِيَ الْأَعْمَالَ بِهَا، وَصَارَ لَهُ
فِيهَا أَصْحَابٌ وَأَصْدِقَاءُ وَمَعَارِفُ، وَعَرَفَ الْبِلَادَ
وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يُمْكِنُ الدُّخُولُ إِلَيْهَا وَالِاسْتِيلَاءُ
عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَلِيَ بِبَغْدَادَ نِيَابَةَ الْوِزَارَةِ
أَشَارَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يُرْسِلَهُ فِي عَسْكَرٍ إِلَيْهَا
لِيَمْلِكَهَا لَهُ، وَكَانَ عَزْمُهُ أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْبِلَادَ
وَاسْتَقَرَّ فِيهَا أَقَامَ مُظْهِرًا لِلطَّاعَةِ، مُسْتَقِلًّا
بِالْحُكْمِ فِيهَا; لِيَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ.
فَاتُّفِقَ أَنَّ صَاحِبَهَا ابْنُ شَمْلَةَ تُوُفِّيَ، وَاخْتَلَفَ
أَوْلَادُهُ بَعْدَهُ، فَرَاسَلَ بَعْضُهُمْ مُؤَيِّدَ الدِّينِ
يَسْتَنْجِدُهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الصُّحْبَةِ الْقَدِيمَةِ،
فَقَوِيَ الطَّمَعُ فِي الْبِلَادِ، فَجُهِّزَتِ الْعَسَاكِرُ
وَسُيِّرَتْ مَعَهُ إِلَى خُوزِسْتَانَ، فَوَصَلَهَا سَنَةَ إِحْدَى
وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ
الْبِلَادِ مُرَاسَلَاتٌ وَمُحَارَبَةٌ عَجَزُوا عَنْهَا، وَمَلَكَ
مَدِينَةَ تُسْتَرَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَمَلَكَ غَيْرَهَا مِنَ
الْبِلَادِ، وَمَلَكَ الْقِلَاعَ مِنْهَا: قَلْعَةُ النَّاظِرِ،
وَقَلْعَةُ كَاكَرْد، وَقَلْعَةُ لَامُوجَ، وَغَيْرَهَا مِنَ
الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَأَنْفَذَ بَنِي شَمْلَةَ أَصْحَابَ بِلَادِ
خُوزِسْتَانَ إِلَى بَغْدَادَ، فَوَصَلُوا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
ذِكْرُ حَصْرِ الْعَزِيزِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَصَلَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ
صَاحِبُ مِصْرَ، إِلَى مَدِينَةِ دِمَشْقَ، فَحَصَرَهَا وَبِهَا
أَخُوهُ الْأَكْبَرُ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ عَلِيُّ بْنُ صَلَاحِ
الدِّينِ. وَكُنْتُ حِينَئِذٍ بِدِمَشْقَ، فَنَزَلَ بِنَوَاحِي
مَيْدَانِ الْحَصَى، فَأَرْسَلَ الْأَفْضَلُ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ
الْعَادِلِ. أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ صَاحِبُ الدِّيَارِ
الْجَزَرِيَّةِ، يَسْتَنْجِدُهُ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ غَايَةَ
الْوَاثِقِ بِهِ وَالْمُعْتَمِدِ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ، فَسَارَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ
(10/129)
هُوَ وَالْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِي بْنُ
صَلَاحِ الدِّينِ - صَاحِبُ حَلَبَ -، وَنَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ - صَاحِبُ حَمَاةَ -، وَأَسَدُ الدِّينِ
شِيرْكُوه بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرْكُوهْ - صَاحِبُ حِمْصَ -،
وَعَسْكَرُ الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا، كُلُّ هَؤُلَاءِ اجْتَمَعُوا
بِدِمَشْقَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حِفْظِهَا. عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ
الْعَزِيزَ إِنْ مَلَكَهَا أَخَذَ بِلَادَهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى الْعَزِيزُ اجْتِمَاعَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ
لَهُ عَلَى الْبَلَدِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ حِينَئِذٍ فِي
الصُّلْحِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ
الْمُقَدَّسُ وَمَا جَاوَرَهُ مِنْ أَعْمَالِ فِلَسْطِينَ لِلْعَزِيزِ،
وَتَبْقَى دِمَشْقُ وَطَبَرِيَّةُ وَأَعْمَالُهَا وَالْغَوْرُ
لِلْأَفْضَلِ، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُعْطِيَ
الْأَفْضَلُ أَخَاهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ جَبَلَةَ وَلَاذِقِيَّةَ
بِالسَّاحِلِ الشَّامِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْعَادِلِ بِمِصْرَ
إِقْطَاعُهُ الْأَوَّلُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَعَادَ
الْعَزِيزُ إِلَى مِصْرَ، وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنَ الْمُلُوكِ
إِلَى بَلَدِهِ.
ذِكْرُ عَدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ زَلْزَلَةٌ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
بِالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَسَقَطَتْ
مِنْهَا الْجَبَّانَةُ الَّتِي عِنْدَ مَشْهَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَفِيهَا - فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ - اجْتَمَعَتْ زِعْبٌ وَغَيْرُهَا
مِنَ الْعَرَبِ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى إِلَيْهِ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ هَاشِمُ بْنُ قَاسِمٍ -
أَخُو أَمِيرِ الْمَدِينَةِ - فَقَاتَلَهُمْ، فَقُتِلَ هَاشِمٌ،
وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ ;
فَلِهَذَا طَمِعَتِ الْعَرَبُ فِيهِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّرَسُوسِيُّ الْحَلَبِيُّ بِهَا، فِي
شَعْبَانَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -.
(10/130)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة]
591 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ مُلْكِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا مِنْ
بِلَادِ الْعَجَمِ قَدْ ذَكَرْنَا مُلْكَ مُؤَيِّدِ الدِّينِ بْنِ
الْقَصَّابِ بِلَادَ خُوزِسْتَانَ، فَلَمَّا مَلَكَهَا سَارَ مِنْهَا
إِلَى مَيْسَانَ مِنْ أَعْمَالِ خُوزِسْتَانَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ
قُتْلُغُ إِينَانْج بْنُ الْبَهْلَوَانِ، صَاحِبُ الْبِلَادِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَغَلُّبِ خُوَارِزْمَ شَاهْ عَلَيْهَا، وَمَعَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَكْرَمُهُ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَكَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِ أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ
خُوَارِزْمَ شَاهْ وَمُقَدَّمِهِمْ مَيَاجِقَ مَصَافٌّ عِنْدَ
زَنَجْانَ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ قُتْلُغُ إِينَانْج
وَعَسْكَرُهُ، وَقَصَدَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ مُلْتَجَئًا إِلَى
مُؤَيِّدِ الدِّينِ الْوَزِيرِ، فَأَعْطَاهُ الْوَزِيرُ الْخَيْلَ
وَالْخِيَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَرَحَلُوا إِلَى
كَرْمَاشَاهَانَ.
وَرَحَلَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَ بِهَا وَلَدُ خُوَارِزْمَ
شَاهْ وَمَيَاجِقُ وَالْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُمَا، فَلَمَّا
قَارَبَهُمْ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ فَارَقَهَا الْخُوَارِزْمِيُّونَ
وَتَوَجَّهُوا إِلَى الرَّيِّ، وَاسْتَوْلَى الْوَزِيرُ عَلَى
هَمَذَانَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ رَحَلَ هُوَ
وَقُتْلُغُ إِينَانْج خَلْفَهُمْ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ بَلَدٍ
جَازَوْا بِهِ مِنْهَا: خَرْقَانُ، وَمَزْدَغَانُ، وَسَاوَةُ، وَآوَةُ،
وَسَارُوا إِلَى الرَّيِّ، فَفَارَقَهَا الْخُوَارِزْمِيُّونَ إِلَى
خُوَارِ الرَّيِّ، فَسَيَّرَ الْوَزِيرُ خَلْفَهُمْ عَسْكَرًا،
فَفَارَقَهَا الْخُوَارِزْمِيُّونَ إِلَى دَامَغَانَ، وَبِسْطَامَ،
وَجُرْجَانَ، فَعَادَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الرَّيِّ
فَأَقَامُوا بِهَا، فَاتَّفَقَ قُتْلُغُ إِينَانْج وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ عَلَى الْخِلَافِ عَلَى الْوَزِيرِ وَعَسْكَرِ
الْخَلِيفَةِ،
(10/131)
لِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْبِلَادَ قَدْ
خَلَتْ مِنْ عَسْكَرِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَطَمِعُوا فِيهَا،
فَدَخَلُوا الرَّيَّ، فَحَصَرَهَا وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فَفَارَقَهَا
قُتْلُغُ إِينَانْجُ، وَمَلَكَهَا الْوَزِيرُ، وَنَهَبَهَا
الْعَسْكَرُ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ بِالنِّدَاءِ بِالْكَفِّ عَنِ
النَّهْبِ.
وَسَارَ قُتْلُغُ إِينَانْجُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى
مَدِينَةِ آوَةَ، وَبِهَا شِحْنَةُ الْوَزِيرِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ
دُخُولِهَا، فَسَارُوا عَنْهَا، وَرَحَلَ الْوَزِيرُ فِي أَثَرِهِمْ
نَحْوَ هَمَذَانَ، فَبَلَغَهُ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ قُتْلُغَ
إِينَانْجَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ عَسْكَرٌ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ
كَرَجَ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَى دَرَبَنْدَ هُنَاكَ، فَطَلَبَهُمُ
الْوَزِيرُ، فَلَمَّا قَارَبَهُمُ الْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ قُتْلُغُ إِينَانْجُ وَنَجَا بِنَفْسِهِ،
وَرَحَلَ الْوَزِيرُ مِنْ مَوْضِعِ الْمَصَافِّ إِلَى هَمَذَانَ،
فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا، فَأَقَامَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ،
فَوَصَلَهُ رَسُولُ خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشُ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَهُمْ
مُنْكِرًا أَخْذَهُ الْبِلَادَ مِنْ عَسْكَرِهِ،، وَيَطْلُبُ
إِعَادَتَهَا وَتَقْرِيرَ قَوَاعِدِ الصُّلْحِ، فَلَمْ يُجِبِ
الْوَزِيرُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُجِدًّا إِلَى
هَمَذَانَ.
وَكَانَ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الدِّينِ [بْنُ] الْقَصَّابِ قَدْ
تُوُفِّيَ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ مَصَافٌّ، نِصْفَ شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَسْكَرَيْنِ، وَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ، وَغَنِمَ
الْخُوَارِزْمِيُّونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمَلَكَ خُوَارِزْمُ
شَاهْ هَمَذَانَ، وَنَبَشَ الْوَزِيرَ مِنْ قَبْرِهِ وَقَطَعَ رَأْسَهُ
وَسَيَّرَهُ إِلَى خُوَارِزْمَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ فِي
الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ إِنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ أَتَاهُ مِنْ خُرَاسَانَ
مَا أَوْجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا، فَتَرَكَ الْبِلَادَ وَعَادَ
إِلَى خُرَاسَانَ.
ذِكْرُ غَزْوِ [ابْنِ] عَبْدِ الْمُؤْمِنَ الْفِرِنْجَ بِالْأَنْدَلُسِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ - فِي شَعْبَانَ - غَزَا أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ
بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ،
بِلَادَ الْفِرِنْجِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
أَلْفُنْشَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِهَا، وَمَقَرُّ مُلْكِهِ مَدِينَةُ
طُلَيْطُلَةَ، كَتَبَ إِلَى يَعْقُوبَ كِتَابًا نُسْخَتُهُ: "
بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَمَّا
بَعْدُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي
عَقْلٍ لَازِبٍ، وَلَا ذِي ذَكَاءٍ ثَاقِبٍ، أَنْتَ أَمِيرُ الْمِلَّةِ
الْحَنِيفِيَّةِ، كَمَا أَنَا أَمِيرُ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ،
وَأَنَّكَ
(10/132)
مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا هُمْ
عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَنْدَلُسِ مِنَ التَّخَاذُلِ وَالتَّوَاكُلِ،
وَإِهْمَالِ الرَّعِيَّةِ، وَاشْتِمَالِهِمْ عَلَى الرَّاحَاتِ،
وَأَنَا أَسُومُهُمُ الْخَسْفَ وَأُخَلِّي الدِّيَارَ، وَأَسْبِي
الذَّرَارِيَّ، وَأُمَثِّلُ بِالْكُهُولِ، وَأَقْتُلُ الشَّبَابَ،
وَلَا عُذْرَ لَكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وَقَدْ
أَمْكَنَتْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ، وَأَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ
اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ قِتَالَ عَشَرَةٍ مِنَّا بِوَاحِدٍ
مِنْكُمْ. وَالْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا، فَقَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ قِتَالَ اثْنَيْنِ مِنَّا بِوَاحِدٍ
مِنْكُمْ، وَنَحْنُ الْآنُ نُقَاتِلُ عَدَدًا مِنْكُمْ بِوَاحِدٍ
مِنَّا. وَلَا تَقْدِرُونَ دِفَاعًا، وَلَا تَسْتَطِيعُونَ
امْتِنَاعًا.
ثُمَّ حُكِيَ لِي عَنْكَ أَنَّكَ أَخَذْتَ فِي الِاحْتِفَالِ،
وَأَشْرَفْتَ عَلَى رَبْوَةِ الْقِتَالِ، وَتُمْطِلُ نَفْسَكَ عَامًا
بَعْدَ عَامٍ، تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَلَا أَدْرِي
الْجُبْنُ أَبْطَأَ بِكَ أَمِ التَّكْذِيبُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ؟ .
ثُمَّ حُكِيَ لِي عَنْكَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ سَبِيلًا لِلْحَرْبِ
لَعَلَّكَ مَا يَسُوغُ لَكَ التَّقَحُّمَ فِيهَا، فَهَا أَنَا أَقُولُ
لَكَ، مَا فِيهِ الرَّاحَةُ، وَأَعْتَذِرُ عَنْكَ، وَلَكَ أَنْ
تُوَافِيَنِي بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْأَيْمَانِ، وَأَنْ
تَتَوَجَّهَ بِجُمْلَةِ مَنْ عِنْدَكَ فِي الْمَرَاكِبِ وَالشَّوَانِي،
وَأَجُوزُ إِلَيْكَ بِجُمْلَتِي، وَأُبَارِزُكَ فِي أَعَزِّ
الْأَمَاكِنِ عِنْدَكَ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فَغَنِيمَةٌ عَظِيمَةٌ
جَاءَتْ إِلَيْكَ، وَهَدِيَّةٌ مَثُلَتْ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَإِنْ
كَانَتْ لِي كَانَتْ يَدِي الْعُلْيَا عَلَيْكَ. وَاسْتَحْقَقْتُ
إِمَارَةَ الْمِلَّتَيْنِ، وَالتَّقَدُّمَ عَلَى الْفِئَتَيْنِ،
وَاللَّهُ يُسَهِّلُ الْإِرَادَةَ، وَيُوَفِّقُ السَّعَادَةَ بِمَنِّهِ
لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُهُ ".
(10/133)
فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ وَقَرَأَهُ
يَعْقُوبُ كَتَبَ فِي أَعْلَاهُ هَذِهِ الْآيَةَ {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]
وَأَعَادَهُ إِلَيْهِ. وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ الْعَظِيمَةَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَعَبَرَ الْمَجَازَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ.
وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ عُبُورِهِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ أَنَّ يَعْقُوبَ
لَمَّا قَاتَلَ الْفِرِنْجَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
[وَخَمْسِمِائَةٍ] وَصَالَحَهُمْ، بَقِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ
لَمْ تَرْضَ الصُّلْحَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ
جَمَعَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ جَمْعًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَخَرَجُوا
إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَغَنِمُوا
وَأَسَرُوا، وَعَاثُوا فِيهَا عَيْثَا شَدِيدًا، فَانْتَهَى ذَلِكَ
إِلَى يَعْقُوبَ، فَجَمَعَ الْعَسَاكِرِ، وَعَبَرَ الْمَجَازَ إِلَى
الْأَنْدَلُسِ فِي جَيْشٍ يَضِيقُ عَنْهُ الْفَضَاءُ، فَسَمِعَتِ
الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ، فَجَمَعَتْ قَاصِيَهُمْ وَدَانِيَهُمْ،
وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مُجِدِّينَ عَلَى قِتَالِهِ وَوَاثِقِينَ
بِالظَّفَرِ لِكَثْرَتِهِمْ، فَالْتَقَوْا تَاسِعَ شَعْبَانَ،
شَمَالِيَّ قُرْطُبَةَ عِنْدَ قَلْعَةِ رِيَاحٍ، بِمَكَانٍ يُعْرَفُ
بِمَرْجِ الْحَدِيدِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَتِ
الدَّائِرَةُ أَوَّلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ عَادَتْ عَلَى
الْفِرِنْجِ، فَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَانْتَصَرَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا
السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
وَكَانَ عَدَدُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ مِائَةَ أَلْفٍ وَسِتَّةً
وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأُسِرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَغَنِمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا عَظِيمًا، فَمِنَ الْخِيَامِ مِائَةُ
أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْخَيْلِ سِتَّةٌ
وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْبِغَالِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِنَ
الْحَمِيرِ مِائَةُ أَلْفٍ. وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ نَادَى فِي
عَسْكَرِهِ: مَنْ غَنِمَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ سِوَى السِّلَاحِ،
وَأَحْصَى مَا حُمِلَ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَانَ زِيَادَةً عَلَى
سَبْعِينَ أَلْفَ لَبْسٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ
عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَلَمَّا انْهَزَمَ الْفِرِنْجُ اتَّبَعَهُمْ أَبُو يُوسُفَ فَرَآهُمْ
قَدْ أَخَذُوا قَلْعَةَ رَبَاحٍ، وَسَارُوا
(10/134)
عَنْهَا مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ،
فَمَلَكَهَا وَجَعَلَ فِيهَا وَالِيًا وَجُنْدًا يَحْفَظُونَهَا
وَعَادَ إِلَى مَدِينَةِ إِشْبِيلِيَّةَ.
وَأَمَّا أَلْفُنْشُ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ حَلَقَ رَأَسَهُ،
وَنَكَّسَ صَلِيبَهُ، وَرَكِبَ حِمَارًا، وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يَرْكَبَ
فَرَسًا وَلَا بَغْلًا حَتَّى تُنْصَرَ النَّصْرَانِيَّةُ، فَجَمَعَ
جُمُوعًا عَظِيمَةً، وَبَلَغَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى يَعْقُوبَ،
فَأَرْسَلَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مُرَّاكِشَ وَغَيْرِهَا
يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَأَتَاهُ مِنَ
الْمُتَطَوِّعَةِ وَالْمُرْتَزِقِينَ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَالْتَقَوْا فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ
مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ
وَغَيْرِهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ فَحَصَرَهَا،
وَقَاتَلَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَطَعَ أَشْجَارَهَا، وَشَنَّ
الْغَارَةَ عَلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَفَتَحَ فِيهَا
عِدَّةَ حُصُونٍ، فَقَتَلَ رِجَالَهَا، وَسَبَى حَرِيمَهَا، وَخَرَّبَ
دُورَهَا، وَهَدَمَ أَسْوَارَهَا، فَضَعُفَتِ النَّصْرَانِيَّةُ
حِينَئِذٍ، وَعَظُمُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَعَادَ
يَعْقُوبُ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَأَقَامَ بِهَا.
فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ،
سَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ [وَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ
فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَضَاقَتِ الْأَرْضُ عَلَى
الْفِرِنْجِ] ، وَذُلُّوا وَاجْتَمَعَ مُلُوكُهُمْ، وَأَرْسَلُوا
يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ
عَازِمًا عَلَى الِامْتِنَاعِ، مُرِيدًا لِمُلَازَمَةِ الْجِهَادِ
إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمْ، فَأَتَاهُ خَبَرُ عَلِيِّ بْنِ
إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ الْمَيُورْقِيِّ أَنَّهُ فَعَلَ
بِإِفْرِيقِيَّةَ مَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الشَّنِيعَةِ،
فَتَرَكَ عَزْمَهُ، وَصَالَحَهُمْ مُدَّةَ خَمْسِ سِنِينَ، وَعَادَ
إِلَى مُرَّاكِشَ آخِرَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
(10/135)
ذِكْرُ فِعْلَةِ الْمُلَثَّمِ
بِإِفْرِيقِيَّةَ
لَمَّا عَبَرَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ إِلَى
الْأَنْدَلُسِ - كَمَا ذَكَرْنَا - وَأَقَامَ مُجَاهِدًا ثَلَاثَ
سِنِينَ. انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَوِيَ
طَمَعُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُلَثَّمِ الْمَيُورْقِيِّ، وَكَانَ
بِالْبَرِّيَّةِ مَعَ الْعَرَبِ، فَعَاوَدَ قَصْدَ إِفْرِيقِيَّةَ،
فَانْبَثَّ جُنُودُهُ فِي الْبِلَادِ فَخَرَّبُوهَا، وَأَكْثَرُوا
الْفَسَادَ فِيهَا، فَمُحِيَتْ آثَارُ تِلْكَ الْبِلَادِ
وَتَغَيَّرَتْ، وَصَارَتْ خَالِيَةً مِنَ الْأَنِيسِ خَاوِيَةً عَلَى
عُرُوشِهَا.
وَأَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى بِجَايَةَ وَمُحَاصَرَتَهَا لِاشْتِغَالِ
يَعْقُوبَ بِالْجِهَادِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى
بِجَايَةَ سَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى
يَعْقُوبَ بِذَلِكَ، فَصَالَحَ الْفِرِنْجَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ،
وَعَادَ إِلَى مُرَّاكِشَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِهِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنَ
الْبِلَادِ، كَمَا فَعَلَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
ذِكْرُ مُلْكِ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ أَصْفَهَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ
جَيْشًا وَسَيَّرَهُ إِلَى أَصْفَهَانَ، وَمُقَدَّمُهُمْ سَيْفُ
الدِّينِ طُغْرُلْ، مُقْطَعُ بَلَدِ اللِّحْفِ مِنَ الْعِرَاقِ،
وَكَانَ بِأَصْفَهَانَ عَسْكَرٌ لِخُوَارِزْمَ شَاهْ مَعَ وَلَدِهِ.
وَكَانَ أَهْلُ أَصْفَهَانَ يَكْرَهُونَهُمْ، فَكَاتَبَ صَدْرُ
الدِّينِ الْخُجَنْدِيُّ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْفَهَانَ
الدِّيوَانَ بِبَغْدَادَ يَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ
إِلَى مَنْ يَصِلُ الدِّيوَانَ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَكَانَ هُوَ
الْحَاكِمُ بِأَصْفَهَانَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهَا، فَسُيِّرَتِ
الْعَسَاكِرُ، فَوَصَلُوا إِلَى أَصْفَهَانَ، وَنَزَلُوا بِظَاهِرِ
الْبَلَدِ، وَفَارَقَهُ عَسْكَرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَعَادُوا إِلَى
خُرَاسَانَ، وَتَبِعَهُمْ بَعْضُ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ، فَتَخَطَّفُوا
مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا مِنْ سَاقَةِ الْعَسْكَرِ مَنْ قَدَرُوا
عَلَيْهِ، وَدَخَلَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَصْفَهَانَ
وَمَلَكُوهَا.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ حَالِ كُوكْجَه وَمُلْكِهِ بَلَدَ الرَّيِّ
وَهَمَذَانَ وَغَيْرَهُمَا لَمَّا عَادَ خُوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى
خُرَاسَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا وَاتَّفَقَ الْمَمَالِيكُ الَّذِينَ
لِلْبَهْلَوَانِ وَالْأُمَرَاءُ، وَقَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
كُوكْجَه، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَمَالِيكِ الْبَهْلَوَانِيَّةِ،
(10/136)
وَاسْتَوْلَى عَلَى الرَّيِّ وَمَا
جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَارُوا إِلَى أَصْفَهَانَ لِإِخْرَاجِ
الْخُوَارِزْمِيَّةِ مِنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهَا سَمِعُوا
بِعَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ عِنْدَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى مَمْلُوكِ
الْخَلِيفَةِ سَيْفِ الدِّينِ طُغْرُلْ، يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى
خِدْمَةِ الدِّيوَانِ، وَيُظْهِرُ الْعُبُودِيَّةَ، وَإِنَّهُ لَمَّا
قَصَدَ أَصْفَهَانَ فِي طَلَبِ الْعَسَاكِرِ الْخُوَارِزْمِيَّةِ،
وَحَيْثُ رَآهُمْ فَارَقُوا أَصْفَهَانَ سَارَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَمْ
يُدْرِكْهُمْ، وَسَارَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ مِنْ أَصْفَهَانَ إِلَى
هَمَذَانَ.
وَأَمَّا كُوكْجَه فَإِنَّهُ تَبِعَ الْخُوَارِزْمِيَّةَ إِلَى طَبَسَ
- وَهِيَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ - وَعَادَ فَقَصَدَ
أَصْفَهَانَ وَمَلَكَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ الرَّيُّ وَخُوَارُ الرَّيِّ، وَسَاوَةُ، وَقُمُّ،
وَقَاجَانُ، وَمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهَا إِلَى حَدِّ مَزْدَغَانَ،
وَتَكُونُ أَصْفَهَانُ، وَهَمَذَانُ، وَزَنْجَانُ، وَقَزْوِينُ،
لِدِيوَانِ الْخَلِيفَةِ. فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَكُتِبَ لَهُ
مَنْشُورٌ بِمَا طَلَبَ، وَأُرْسِلَتْ لَهُ الْخِلَعُ، فَعَظُمَ
شَأْنُهُ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، وَتَعَظَّمَ
عَلَى أَصْحَابِهِ.
ذِكْرُ حَصْرِ الْعَزِيزِ دِمَشْقَ ثَانِيَةً وَانْهِزَامِهِ عَنْهَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا رَجَعَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ
بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى دِمَشْقَ
يُرِيدُ حَصْرَهَا، فَعَادَ عَنْهَا مُنْهَزِمًا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ مَمَالِيكَ أَبِيهِ - وَهُمُ
الْمَعْرُوفُونَ بِالصَّلَاحِيَّةِ -: فَخْرُ الدِّينِ جَرْكَسُ،
وَسَرَا سُنْقُرُ، وَقَرَاجَا، وَغَيْرُهُمْ، كَانُوا مُنْحَرِفِينَ
عَنِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
أَخْرَجَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُمْ مِثْلَ: مَيْمُونٍ الْقَصْرِيِّ،
وَسُنْقُرَ الْكَبِيرِ، وَأَيْبَكْ، وَغَيْرِهِمْ، فَكَانُوا لَا
يَزَالُونَ يُخَوِّفُونَ الْعَزِيزَ مِنْ أَخِيهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ
الْأَكْرَادَ وَالْمَمَالِيكَ الْأَسَدِيَّةَ مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ
يُرِيدُونَ أَخَاكَ، وَنَخَافُ أَنْ يَمِيلُوا إِلَيْهِ وَيُخْرِجُوكَ
مِنَ الْبِلَادِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نَأْخُذَ دِمَشْقَ، فَخَرَجَ
فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَعَادَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - فَتَجَهَّزَ
هَذِهِ السَّنَةَ لِيَخْرُجَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَفْضَلِ،
فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ،
فَاجْتَمَعَ بِهِ بِقَلْعَةِ جَعْبَرَ وَدَعَاهُ إِلَى نُصْرَتِهِ،
وَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى حَلَبَ، إِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ غَازِي، فَاسْتَنْجَدَ بِهِ، وَسَارَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَبَقَ الْأَفْضَلَ
إِلَيْهَا، وَدَخَلَهَا، وَكَانَ الْأَفْضَلُ لِثِقَتِهِ بِهِ قَدْ
أَمَرَ نُوَّابَهُ بِإِدْخَالِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ، ثُمَّ عَادَ
الْأَفْضَلُ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ وَوَصَلَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ
إِلَى قُرْبِ دِمَشْقَ،
(10/137)
فَأَرْسَلَ مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ
وَهُوَ سَيْفُ الدِّينِ أَيَازَكُوشُ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَمِنَ
الْأَكْرَادِ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ وَغَيْرُهُ، إِلَى
الْأَفْضَلِ وَالْعَادِلِ، بِالِانْحِيَازِ إِلَيْهِمَا وَالْكَوْنِ
مَعَهُمَا وَيَأْمُرُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَزِيزِ
وَالْخُرُوجِ مِنْ دِمَشْقَ لِيُسَلِّمُوهُ إِلَيْهِمَا.
وَكَانَ سَبَبُ الِانْحِرَافِ عَنِ الْعَزِيزِ وَمَيْلِهِمْ إِلَى
الْأَفْضَلِ أَنَّ الْعَزِيزَ لَمَّا مَلَكَ مِصْرَ مَالَ إِلَى
الْمَمَالِيكِ النَّاصِرِيَّةِ وَقَدَّمَهُمْ، وَوَثِقَ بِهِمْ، وَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ، فَامْتَعَضُوا مِنْ ذَلِكَ،
وَمَالُوا إِلَى أَخِيهِ وَأَرْسَلُوا إِلَى الْأَفْضَلِ وَالْعَادِلِ
فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بِحُضُورِ
رُسُلِ الْأُمَرَاءِ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَمْلِكُ الدِّيَارَ
الْمِصْرِيَّةَ، وَيُسَلِّمُ دِمَشْقَ إِلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ
الْعَادِلِ، وَخَرَجَا مِنْ دِمَشْقَ فَانْحَازَ إِلَيْهِمَا مَنْ
ذَكَرْنَا، فَلَمْ يُمْكِنِ الْعَزِيزَ الْمُقَامُ، بَلْ عَادَ
مُنْهَزِمًا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ خَوْفَ الطَّلَبِ وَلَا يُصَدِّقُ
بِالنَّجَاةِ، وَتَسَاقَطَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى
مِصْرَ.
وَأَمَّا الْعَادِلُ وَالْأَفْضَلُ، فَإِنَّهُمَا أَرْسَلَا إِلَى
الْقُدْسِ، وَفِيهِ نَائِبُ الْعَزِيزِ، فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمَا،
وَسَارَا فِيمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْأَسَدِيَّةِ وَالْأَكْرَادِ إِلَى
مِصْرَ، فَرَأَى الْعَادِلُ انْضِمَامَ الْعَسَاكِرِ إِلَى
الْأَفْضَلِ، وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنَّهُ يَأْخُذُ
مِصْرَ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلَيْهِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ
سِرًّا إِلَى الْعَزِيزِ يَأْمُرُهُ بِالثَّبَاتِ وَأَنْ يَجْعَلَ
بِمَدِينَةِ بِلْبِيسَ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَتَكَفَّلَ بِأَنَّهُ
يَمْنَعُ الْأَفْضَلَ وَغَيْرَهُ مِنْ مُقَاتَلَةِ مَنْ بِهَا،
فَجَعَلَ الْعَزِيزُ النَّاصِرِيَّةَ وَمُقَدَّمَهُمْ فَخْرَ الدِّينِ
جَرْكَسَ بِهَا وَمَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَوَصَلَ الْعَادِلُ
وَالْأَفْضَلُ إِلَى بِلْبِيسَ، فَنَازَلُوا مَنْ بِهَا مِنَ
النَّاصِرِيَّةِ، وَأَرَادَ الْأَفْضَلُ مُنَاجَزَتَهُمْ، أَوْ
تَرْكَهُمْ بِهَا وَالرَّحِيلَ إِلَى مِصْرَ، فَمَنَعَهُ الْعَادِلُ
مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ: هَذِهِ عَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا
اقْتَتَلُوا فِي الْحَرْبِ فَمَنْ يَرُدُّ الْعَدُوَّ الْكَافِرَ،
وَمَا بِهَا حَاجَةٌ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ الْبِلَادَ لَكَ
وَبِحُكْمِكَ وَمَتَى قَصَدْتَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةَ وَأَخَذْتَهُمَا
قَهْرًا زَالَتْ هَيْبَةُ الْبِلَادِ، وَطَمِعَ فِيهَا الْأَعْدَاءُ،
وَلَيْسَ فِيهَا مَنْ يَمْنَعُكَ عَنْهَا.
وَسَلَكَ مَعَهُ أَمْثَالَ هَذَا، فَطَالَتِ الْأَيَّامُ، وَأَرْسَلَ
إِلَى الْعَزِيزِ سِرًّا يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ،
وَكَانَ مُطَاعًا عِنْدَ الْبَيْتِ الصَّلَاحِيِّ لِعُلُوِّ
مَنْزِلَتِهِ وَكَانَتْ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، فَحَضَرَ
عِنْدَهُمَا، وَأَجْرَى ذِكْرَ الصُّلْحِ، وَزَادَ الْقَوْلَ وَنَقَصَ،
وَانْفَسَخَتِ الْعَزَائِمُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ
يَكُونَ لِلْأَفْضَلِ الْقُدْسُ وَجَمِيعُ الْبِلَادِ بِفِلَسْطِينَ
وَطَبَرِيَّةَ وَالْأُرْدُنِّ
(10/138)
وَجَمِيعُ مَا بِيَدِهِ، وَيَكُونُ
لِلْعَادِلِ إِقْطَاعُهُ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا، وَيَكُونُ مُقِيمًا
بِمِصْرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْأَسَدِيَّةَ وَالْأَكْرَادَ لَا يُرِيدُونَ الْعَزِيزَ، فَهُمْ
يَجْتَمِعُونَ مَعَهُ، فَلَا يَقْدِرُ الْعَزِيزُ مَنْعَهُ عَمَّا
يُرِيدُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَاهَدُوا
عَادَ الْأَفْضَلُ إِلَى دِمَشْقَ وَبَقِيَ الْعَادِلُ بِمِصْرَ عِنْدَ
الْعَزِيزِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ، التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ، وَقَعَ حَرِيقٌ
عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ بِعَقْدِ الْمُصْطَنَعِ، فَاحْتَرَقَتِ
الْمِرْبَعَةُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدُكَّانُ ابْنِ الْبَخِيلِ
الْهَرَّاسِ، وَقِيلَ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ دَارِ ابْنِ الْبَخِيلِ.
(10/139)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة]
592 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ مُلْكِ شِهَابِ الدِّينِ بَهَنْكَرَ وَغَيْرَهَا مِنْ بَلَدِ
الْهِنْدِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ شِهَابُ الدِّينِ الْغُورِيُّ -
صَاحِبُ غَزْنَةَ - إِلَى بَلَدِ الْهِنْدِ، وَحَصَرَ قَلْعَةَ
بَهَنْكَرَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ عَظِيمَةٌ مَنِيعَةٌ، فَحَصَرَهَا،
فَطَلَبَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا
إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُمْ وَتَسَلَّمَهَا، وَأَقَامَ عِنْدَهَا عَشَرَةَ
أَيَّامٍ وَرَتَّبَ جُنْدَهَا وَأَحْوَالَهَا وَسَارَ عَنْهَا إِلَى
قَلْعَةِ كُوَالِيرَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ،
وَفِي الطَّرِيقِ نَهْرٌ كَبِيرٌ فَجَازَهُ وَوَصَلَ إِلَى كُوَالِيرَ،
وَهِيَ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ حَصِينَةٌ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ لَا يَصِلُ
إِلَيْهَا حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ، وَلَا نُشَّابٌ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ،
فَأَقَامَ عَلَيْهَا صَفَرًا جَمِيعَهُ يُحَاصِرُهَا، فَلَمْ يَبْلُغْ
مِنْهَا غَرَضًا، فَرَاسَلَهُ مَنْ بِهَا فِي الصُّلْحِ فَأَجَابَهُمْ
إِلَيْهِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ الْقَلْعَةَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى مَالٍ
يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِ فِيلًا حِمْلُهُ ذَهَبٌ،
فَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ آيِ وَسُورٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا
وَنَهَبَهَا، وَسَبَى وَأَسَرَ مَا يَعْجِزُ الْعَادُّ عَنْ حَصْرِهِ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ سَالِمًا.
ذِكْرُ مُلْكِ الْعَادِلِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ مِنَ الْأَفْضَلِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ،
مَلَكَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ مَدِينَةَ
دِمَشْقَ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ صَلَاحِ
الدِّينِ.
وَكَانَ أَبْلَغُ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ وُثُوقَ الْأَفْضَلِ
بِالْعَادِلِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ مِنْ وُثُوقِهِ بِهِ أَنَّهُ
أَدْخَلَهُ بَلَدَهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، وَلَقَدْ أَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَخُوهُ الظَّاهِرُ غَازِي - صَاحِبُ حَلَبَ - يَقُولُ لَهُ:
أَخْرِجْ عَمَّنَا مِنْ بَيْنِنَا فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ عَلَيْنَا
مِنْهُ خَيْرٌ، وَنَحْنُ نَدْخُلُ لَكَ تَحْتَ كُلِّ مَا تُرِيدُ،
وَأَنَا أَعْرَفُ بِهِ مِنْكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ عَمِّي
مِثْلُ مَا هُوَ عَمُّكَ، وَأَنَا زَوْجُ ابْنَتِهِ،
(10/140)
وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ لَنَا
خَيْرًا لَكُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهُ الْأَفْضَلُ:
أَنْتَ سَيِّيءُ الظَّنِّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، أَيُّ مَصْلَحَةٍ
لِعَمِّنَا فِي أَنْ يُؤْذِيَنَا؟ وَنَحْنُ إِذَا اجْتَمَعَتْ
كَلِمَتُنَا، وَسَيَّرْنَا مَعَهُ الْعَسَاكِرَ مِنْ عِنْدِنَا
كُلِّنَا، مَلَكَ مِنَ الْبِلَادِ أَكْثَرَ مِنْ بِلَادِنَا،
وَنَرْبَحُ سُوءَ الذِّكْرِ.
وَهَذَا كَانَ أَبْلَغَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَعْلَمُهَا كُلُّ
وَاحِدٍ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَا فَقَدَ ذَكَرْنَا مَسِيرَ الْعَادِلِ
وَالْأَفْضَلِ إِلَى مِصْرَ وَحِصَارَهُمْ بِلْبِيسَ، وَصُلْحَهُمْ
مَعَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَمُقَامَ
الْعَادِلِ مَعَهُ بِمِصْرَ، فَلَمَّا أَقَامَ عِنْدَهُ اسْتَمَالَهُ،
وَقَرَّرَ مَعَهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ
وَيَأْخُذُهَا مِنْ أَخِيهِ وَيُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ، فَسَارَ مَعَهُ
مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَحَصَرُوهَا، وَاسْتَمَالُوا أَمِيرًا
مِنْ أُمَرَاءِ الْأَفْضَلِ يُقَالُ لَهُ الْعِزُّ [بْنُ] أَبِي
غَالِبٍ الْحِمْصِيُّ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ
إِلَيْهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَالْوُثُوقِ بِهِ، فَسَلَّمَ
إِلَيْهِ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ يُعْرَفُ بِالْبَابِ
الشَّرْقِيِّ لِيَحْفَظَهُ، فَمَالَ إِلَى الْعَزِيزِ وَالْعَادِلِ،
وَوَعَدَهُمَا أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمَا الْبَابَ، وَيَدْخُلُ
الْعَسْكَرُ مِنْهُ الْبَلَدَ غِيلَةً، فَفَتَحَهُ الْيَوْمَ
السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقْتَ الْعَصْرِ، وَأَدْخَلَ
الْمَلِكَ الْعَادِلَ مِنْهُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَلَمْ يَشْعُرِ الْأَفْضَلُ إِلَّا وَعَمُّهُ مَعَهُ فِي دِمَشْقَ،
وَرَكِبَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ، وَوَقَفَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ
غَرْبِيَّ دِمَشْقَ.
فَلَمَّا رَأَى الْأَفْضَلُ أَنَّ الْبَلَدَ قَدْ مُلِكَ، خَرَجَ إِلَى
أَخِيهِ، وَقْتَ الْمَغْرِبِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ، وَدَخْلَا كِلَاهُمَا
الْبَلَدَ، وَاجْتَمَعَا بِالْعَادِلِ وَقَدْ نَزَلَ فِي دَارِ أَسَدِ
الدِّينِ شِيرْكُوه، وَتَحَادَثُوا، فَاتَّفَقَ الْعَادِلُ
وَالْعَزِيزُ عَلَى أَنْ أَوْهَمَا الْأَفْضَلَ أَنَّهُمَا يُبْقِيَانِ
عَلَيْهِ الْبَلَدَ خَوْفًا أَنَّهُ رُبَّمَا جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ
مِنَ الْعَسْكَرِ وَسَارَ بِهِمَا، وَمَعَهُ الْعَامَّةُ،
فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْبَلَدِ، لِأَنَّ الْعَادِلَ لَمْ يَكُنْ فِي
كَثْرَةٍ، وَعَادَ الْأَفْضَلُ إِلَى الْقَلْعَةِ وَبَاتَ الْعَادِلُ
فِي دَارِ شِيرْكُوهْ، وَخَرَجَ الْعَزِيزُ إِلَى الْخِيَمِ فَبَاتَ
فِيهَا، وَخَرَجَ الْعَادِلُ مِنَ الْغَدِ إِلَى جَوْسَقِهِ فَأَقَامَ
بِهِ، وَعَسَاكِرُهُ فِي الْبَلَدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَخْرُجُ
الْأَفْضَلُ إِلَيْهِمَا، وَيَجْتَمِعُ بِهِمَا، فَبَقَوْا كَذَلِكَ
أَيَّامًا، ثُمَّ أَرْسَلَا إِلَيْهِ وَأَمَرَاهُ بِمُفَارَقَةِ
الْقَلْعَةِ وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ عَلَى قَاعِدَةٍ، أَنْ تُعْطَى
قَلْعَةُ صَرْخَدَ لَهُ، وَيُسَلِّمَ جَمِيعَ أَعْمَالِ دِمَشْقَ،
فَخَرَجَ الْأَفْضَلُ، وَنَزَلَ فِي جَوْسَقٍ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ،
غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، وَتَسَلَّمَ الْعَزِيزُ الْقَلْعَةَ، وَدَخَلَهَا،
وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، فَجَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ،
فَلَمَّا أَخَذَتْ مِنْهُ الْخَمْرُ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنَّهُ
يُعِيدُ الْبَلَدَ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَنُقِلَ ذَلِكَ إِلَى
الْعَادِلِ فِي وَقْتِهِ، فَحَضَرَ الْمَجْلِسَ فِي سَاعَتِهِ،
وَالْعَزِيزُ سَكْرَانُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى سَلَّمَ الْبَلَدَ
إِلَيْهِ، وَخَرَجَ
(10/141)
مِنْهُ، وَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَسَارَ
الْأَفْضَلُ إِلَى صَرْخَدَ.
وَكَانَ الْعَادِلُ يَذْكُرُ أَنَّ الْأَفْضَلَ سَعَى فِي قَتْلِهِ ;
فَلِهَذَا أَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ يُنْكِرُ
ذَلِكَ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113]
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ
بِالْعِرَاقِ، وَاسْوَدَّتْ لَهَا الدُّنْيَا، وَوَقَعَ رَمْلٌ
أَحْمَرٌ، وَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وَكَبَّرُوا، وَاشْتَعَلَتِ
الْأَضْوَاءُ بِالنَّهَارِ.
وَفِيهَا قُتِلَ صَدْرُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ، رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ
بِأَصْفَهَانَ، قَتَلَهُ فَلَكُ الدِّينِ سُنْقُرُ الطَّوِيلُ،
شِحْنَةُ أَصْفَهَانَ بِهَا، وَكَانَ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَوَلِيَ النَّظَرَ
فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَلَمَّا سَارَ
مُؤَيِّدُ الدِّينِ بْنُ الْقَصَّابِ إِلَى خُوزِسْتَانَ سَارَ فِي
صُحْبَتِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ الْوَزِيرُ أَصْفَهَانَ أَقَامَ ابْنُ
الْخُجَنْدِيِّ بِهَا فِي بَيْتِهِ وَمُلْكِهِ وَمَنْصِبِهِ، فَجَرَى
بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُنْقُرَ الطَّوِيلِ شِحْنَةِ أَصْفَهَانَ
لِلْخَلِيفَةِ مُنَافَرَةٌ فَقَتَلَهُ سُنْقُرُ.
وَفِي رَمَضَانَ دَرَّسَ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ
بْنُ الْمُبَارَكِ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا اسْتُنِيبَ نَصِيرُ الدِّينِ نَاصِرُ بْنُ
مَهْدِيِّ الْعَلَوِيُّ الرَّازِيُّ فِي الْوَزَارَةِ بِبَغْدَادَ،
وَكَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى بَغْدَادَ لَمَّا مَلَكَ ابْنُ
الْقَصَّابِ الرَّيَّ.
وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ زِيَادَةَ
دِيوَانَ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ كَاتِبًا
(10/142)
مُفْلِقًا وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْفَخْرُ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيٍّ
الْقُوفَانِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ بِالْكُوفَةِ عَائِدًا مِنَ
الْحَجِّ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْمُعَلِّمِ الشَّاعِرُ الْهُرْثِيُّ، وَالْهُرْثُ:
بِضَمِّ الْهَاءِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ; قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ
وَاسِطَ، عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً.
وَفِي رَابِعِ شَعْبَانَ مِنْهَا تُوَفِّيَ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ
الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَصَّابُ
بِهَمَذَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كِفَايَتِهِ وَنَهْضَتِهِ مَا
فِيهِ كِفَايَةٌ.
(10/143)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَة]
593 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ إِرْسَالِ الْأَمِيرِ أَبِي الْهَيْجَاءِ إِلَى هَمَذَانَ وَمَا
فَعَلَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ أَمِيرٌ
كَبِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ مِصْرَ وَاسْمُهُ أَبُو الْهَيْجَاءِ -
وَيُعْرَفُ بِالسَّمِينِ - لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ السِّمَنِ، وَكَانَ
مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ مِصْرَ، وَكَانَ فِي إِقْطَاعِهِ أَخِيرًا
الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُجَاوِرُهُ، فَلَمَّا
مَلَكَ الْعَزِيزُ وَالْعَادِلُ مَدِينَةَ دِمَشْقَ مِنَ الْأَفْضَلِ
أُخِذَ الْقُدْسُ مِنْهُ، فَفَارَقَ الشَّامَ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ
إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَادَ، لِأَنَّهُ طُلِبَ
مِنْ دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا أُكْرِمَ
إِكْرَامًا كَثِيرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالتَّجْهِيزِ وَالْمَسِيرِ إِلَى
هَمَذَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ الْبَغْدَادِيَّةِ، فَسَارَ
إِلَيْهَا وَالْتَقَى عِنْدَهَا بِالْمَلِكِ أُوزْبَكْ بْنِ
الْبَهْلَوَانِ وَأَمِيرِ عَلَمَ وَابْنِهِ، وَابْنِ سَطْمَسَ،
وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ قَدْ كَاتَبُوا الْخَلِيفَةَ بِالطَّاعَةِ،
فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِمْ وَثِقُوا بِهِ وَلَمْ يَحْذَرُوهُ، فَقَبَضَ
عَلَى أُوزْبَكْ وَابْنِ سَطْمَسَ وَابْنِ قَرَّا بِمُوَافَقَةٍ مِنْ
أَمِيرِ عَلَمَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ،
أُنْكِرَتْ هَذِهِ الْحَالُ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ، وَأُمِرَ
بِالْإِفْرَاجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَسُيِّرَتْ لَهُمُ الْخِلَعُ مِنْ
بَغْدَادَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، فَلَمْ يَسْكُنُوا بَعْدَ هَذِهِ
الْحَادِثَةِ وَلَا أَمِنُوا، فَفَارَقُوا أَبَا الْهَيْجَاءِ
السَّمِينَ، فَخَافَ الدِّيوَانَ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَلَمْ
يُمْكِنْهُ أَيْضًا الْمُقَامُ، فَعَادَ يُرِيدُ إِرْبِلَ لِأَنَّهُ
مِنْ بَلَدِهَا هُوَ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا وَهُوَ
مِنَ الْأَكْرَادِ الْحَكَمِيَّةِ مِنْ بَلَدِ إِرْبِلَ.
ذِكْرُ مُلْكِ الْعَادِلِ يَافَا مِنَ الْفِرِنْجِ
وَمُلْكِ الْفِرِنْجِ بَيْرُوتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَصْرِ
الْفِرِنْجِ تِبْنِينَ وَرَحِيلِهِمْ عَنْهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، مَلَكَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَيُّوبَ مَدِينَةَ يَافَا مِنَ السَّاحِلِ
(10/144)
الشَّامِيِّ، وَهِيَ بَيْدِ الْفِرِنْجِ -
لَعَنَهُمُ اللَّهُ -.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُمُ الْكُنْد
هِرِي، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، وَكَانَ الصُّلْحُ قَدِ
اسْتَقَرَّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ أَيَّامَ صَلَاحِ
الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -،
فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَمَلَكَ أَوْلَادُهُ بَعْدَهُ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ
- جَدَّدَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ الْهُدْنَةَ مَعَ الْكُنْد هِرِي
[مَلِكِ الْفِرِنْجِ] وَزَادَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ، وَبَقِيَ
ذَلِكَ إِلَى الْآنِ.
وَكَانَ بِمَدِينَةِ بَيْرُوتَ أَمِيرٌ يُعْرَفُ بِأُسَامَةَ، وَهُوَ
مُقْطَعُهَا، فَكَانَ يُرْسِلُ الشَّوَانِيَ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى
الْفِرِنْجِ، فَاشْتَكَى الْفِرِنْجُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ إِلَى
الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ، وَإِلَى الْمَلِكِ الْعَزِيزِ
بِمِصْرَ، فَلَمْ يَمْنَعَا أُسَامَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى
مُلُوكِهِمُ الَّذِينَ دَاخَلَ الْبَحْرِ يَشْتَكُونَ إِلَيْهِمْ مَا
يَفْعَلُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَقُولُونَ: إِنْ لَمْ
تَنْجِدُونَا، وَإِلَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ،
فَأَمَدَّهُمُ الْفِرِنْجُ بِالْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ
أَكْثَرُهُمْ مِنْ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ
عَلَيْهِمْ قِسِّيسٌ يُعْرَفُ بِالْخُنْصِلِيرِ، فَلَمَّا سَمِعَ
الْعَادِلُ بِذَلِكَ، أَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ يَطْلُبُ
الْعَسَاكِرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ
يَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ، فَجَاءَتْهُ الْأَمْدَادُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى
عَيْنِ الْجَالُوتِ، فَأَقَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ وَبَعْضَ شَوَّالٍ،
وَرَحَلُوا إِلَى يَافَا، وَمَلَكُوا الْمَدِينَةَ، وَامْتَنَعَ مَنْ
بِهَا بِالْقَلْعَةِ الَّتِي لَهَا، فَخَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ
الْمَدِينَةَ، وَحَصَرُوا الْقَلْعَةَ، فَمَلَكُوهَا عَنْوَةً
وَقَهْرًا بِالسَّيْفِ فِي يَوْمِهَا، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ،
وَأُخِذَ كُلُّ مَا بِهَا غَنِيمَةً وَأَسْرًا وَسَبْيًا، وَوَصَلَ
الْفِرِنْجُ مِنْ عَكَّا إِلَى قَيْسَارِيَةَ، لِيَمْنَعُوا
الْمُسْلِمِينَ عَنْ يَافَا، فَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِهَا بِمِلْكِهَا
فَعَادُوا.
وَكَانَ سَبَبُ تَأَخُّرِهِمْ أَنَّ مَلِكَهُمُ الْكُنْد هِرِي سَقَطَ
مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ بِعَكَّا فَمَاتَ، فَاخْتَلَّتْ أَحْوَالُهُمْ
فَتَأَخَّرُوا لِذَلِكَ.
(10/145)
وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَيْنِ
الْجَالُوتِ، فَوَصَلَهُمُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ عَلَى عَزْمِ
قَصْدِ بَيْرُوتَ، فَرَحَلَ الْعَادِلُ وَالْعَسْكَرُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ إِلَى مَرْجِ الْعُيُونِ، وَعَزَمَ عَلَى تَخْرِيبِ
بَيْرُوتَ، فَسَارَ إِلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَهَدَمُوا
سُورَ الْمَدِينَةِ سَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَشَرَعُوا تَخْرِيبَ
دُورِهَا وَتَخْرِيبَ الْقَلْعَةِ، فَمَنَعَهُمْ أُسَامَةُ مِنْ
ذَلِكَ، وَتَكَفَّلَ بِحِفْظِهَا
وَرَحَلَ الْفِرِنْجُ مِنْ عَكَّا إِلَى صَيْدَا، وَعَادَ عَسْكَرُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْرُوتَ، فَالْتَقُوا الْفِرِنْجَ بِنَوَاحِي
صَيْدَا، وَجَرَى بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ، فَقُتِلَ بَيْنَ
الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَحَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَسَارَ
الْفِرِنْجُ تَاسِعَ ذِي الْحِجَّةِ، فَوَصَلُوا إِلَى بَيْرُوتَ،
فَلَمَّا قَارَبُوهَا، وَهَرَبَ مِنْهَا أُسَامَةُ وَجَمِيعُ مَنْ
مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَلَكُوهَا صَفْوًا عَفْوًا بِغَيْرِ
حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، فَكَانَتْ غَنِيمَةً بَارِدَةً، فَأَرْسَلَ
الْعَادِلُ إِلَى صَيْدَا مَنْ خَرَّبَ مَا كَانَ بَقِيَ مِنْهَا،
فَإِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ قَدْ خَرَّبَ أَكْثَرَهَا، وَسَارَتِ
الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى صُورٍ، فَقَطَعُوا أَشْجَارَهَا،
وَخَرَّبُوا مَا لَهَا مِنْ قُرًى وَأَبْرَاجٍ، فَلَقَدْ سَمِعَ
الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ رَحَلُوا مِنْ بَيْرُوتَ إِلَى صُورٍ،
وَأَقَامُوا عَلَيْهَا.
وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ قَلْعَةِ هُونِينَ وَأَذِنَ
لِلْعَسَاكِرِ الشَّرْقِيَّةِ بِالْعَوْدِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ
(10/146)
الْفِرِنْجَ يُقِيمُونَ بِبِلَادِهِمْ،
وَأَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ الْعَسَاكِرَ الْمِصْرِيَّةَ دُسْتُورًا
بِالْعَوْدِ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ، أَنَّ
الْفِرِنْجَ قَدْ نَازَلُوا حِصْنَ تِبْنِينَ، فَسَيَّرَ الْعَادِلُ
إِلَيْهِ عَسْكَرَا يَحْمُونَهُ وَيَمْنَعُونَ عَنْهُ، وَرَحَلَ
الْفِرِنْجُ مِنْ صُورٍ، وَنَازَلُوا تِبْنِينَ أَوَّلَ صَفَرٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَقَاتَلُوا مَنْ بِهِ،
وَجَدُّوا فِي الْقِتَالِ، وَنَقَبُوهُ مِنْ جِهَاتِهِمْ، فَلَمَّا
عَلِمَ الْعَادِلُ بِذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ بِمِصْرَ
يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْضُرَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنْ
حَضَرْتَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ حِفْظُ هَذَا الثَّغْرِ، فَسَارَ
الْعَزِيزُ مُجِدًّا فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ.
وَأَقَامَ مَنْ بِحِصْنِ تِبْنِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا
النُّقُوبَ قَدْ خَرَّبَتْ تَلَّ الْقَلْعَةِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا
أَنْ يَمْلِكُوهَا بِالسَّيْفِ، وَنَزَلَ بَعْضُ مِنْ فِيهَا إِلَى
الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
لِيُسَلِّمُوا الْقَلْعَةَ، وَكَانَ الْمَرْجِعُ إِلَى الْقِسِّيسِ
الْخُنْصِلِيرِ مِنْ أَصْحَابِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، فَقَالَ
لِهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ مِنْ سَاحِلِ
الشَّامِ: إِنْ سَلَّمْتُمُ الْحِصْنَ أَسْتَأْسَرَكُمْ هَذَا
وَقَتَلَكُمْ، فَاحْفَظُوا نُفُوسَكُمْ، فَعَادُوا كَأَنَّهُمْ
يُرَاجِعُونَ مَنْ فِي الْقَلْعَةِ لِيُسَلِّمُوا، فَلَمَّا صَعِدُوا
إِلَيْهَا أَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَقَاتَلُوا قِتَالَ مَنْ
يَحْمِي نَفْسَهُ، فَحَمَوْهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ
إِلَى عَسْقَلَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا سَمِعَ
الْفِرِنْجُ بِوُصُولِهِ وَاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ
الْفِرِنْجَ لَيْسَ لَهُمْ مَلِكٌ يَجْمَعُهُمْ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ
إِلَى امْرَأَةٍ - وَهِيَ الْمَلِكَةُ - اتَّفَقُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى
مَلِكِ قُبْرُسَ وَاسْمُهُ هِيمْرِي، فَأَحْضَرُوهُ، وَهُوَ أَخُو
الْمَلِكِ الَّذِي أُسِرَ بِحِطِّينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَزَوَّجُوهُ
بِالْمَلِكَةِ زَوْجَةِ الْكُنْد هِرِي، وَكَانَ رَجُلًا عَاقِلًا
يُحِبُّ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ، فَلَمَّا مَلَكَهُمْ، لَمْ
يَعُدْ إِلَى الزَّحْفِ عَلَى الْحِصْنِ، وَلَا قَاتَلَهُ.
وَاتَّفَقَ وُصُولُ الْعَزِيزِ أَوَّلَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَرَحَلَ هُوَ وَالْعَسَاكِرُ إِلَى جَبَلِ الْخَلِيلِ الَّذِي
يُعْرَفُ بِجَبَلِ عَامِلَةَ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا، وَالْأَمْطَارُ
مُتَدَارِكَةٌ، فَبَقِيَ إِلَى ثَالِثَ عَشْرَ الشَّهْرِ، ثُمَّ سَارَ
وَقَارَبَ الْفِرِنْجَ، وَأَرْسَلَ رُمَاةَ النُّشَّابِ، فَرَمَوْهُمْ
سَاعَةً وَعَادُوا، وَرَتَّبَ الْعَسَاكِرَ لِيَزْحَفَ إِلَى
الْفِرِنْجِ وَيَجِدَّ فِي قِتَالِهِمْ، فَرَحَلُوا إِلَى صُورٍ
خَامِسَ عَشْرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ لَيْلًا، ثُمَّ رَحَلُوا إِلَى
عَكَّا، فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ فَنَزَلُوا اللُّجُونَ، وَتَرَاسَلُوا
فِي الصُّلْحِ، وَتَطَاوَلَ الْأَمْرُ، فَعَادَ الْعَزِيزُ إِلَى
مِصْرَ قَبْلَ انْفِصَالِ الْحَالِ.
(10/147)
وَسَبَبُ رَحِيلِهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَهُمْ مَيْمُونٌ الْقَصْرِيُّ، وَأُسَامَةُ، وَسَرَا
سُنْقُرُ، وَالْحَجَّافُ، وَابْنُ الْمَشْطُوبِ، وَغَيْرُهُمْ، قَدْ
عَزَمُوا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ وَبِفَخْرِ الدِّينِ جَرْكَسَ مُدَبِّرِ
دَوْلَتِهِ، وَضَعَهُمُ الْعَادِلُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ
بِذَلِكَ سَارَ إِلَى مِصْرَ وَبَقِيَ الْعَادِلُ، وَتَرَدَّدَتِ
الرُّسُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا
عَلَى أَنْ تَبْقَى بَيْرُوتُ بِيَدِ الْفِرِنْجِ، وَكَانَ الصُّلْحُ
فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] فَلَمَّا
انْتَظَمَ الصُّلْحُ وَعَادَ الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ، وَسَارَ
مِنْهَا إِلَى مَارْدِينَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَكَانَ مَا
نَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.
ذِكْرُ وَفَاةِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ وَمُلْكِ وَلَدِهِ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ سَيْفُ الْإِسْلَامِ
طُغْتِكِينُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخُو صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ صَاحِبُ
الْيَمَنِ، بِزَبِيدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ مَلَكَ. وَكَانَ
شَدِيدَ السِّيرَةِ، مُضَيِّقًا عَلَى رَعِيَّتِهِ، يَشْتَرِي
أَمْوَالَ التُّجَّارِ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُهَا كَيْفَ شَاءَ.
وَأَرَادَ مُلْكَ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - فَأَرْسَلَ
الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ إِلَى أَخِيهِ صَلَاحِ
الدِّينِ فِي الْمَعْنَى، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ مِنَ
الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، حَتَّى أَنَّهُ مِنْ كَثْرَتِهِ كَانَ
يَسْبِكُ الذَّهَبَ وَيَجْعَلُهُ كَالطَّاحُونِ وَيَدَّخِرُهُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ
أَهْوَجَ، كَثِيرَ التَّخْلِيطِ بِحَيْثُ إِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ
قُرَشِيٌّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافَةِ،
وَتَلَقَّبَ بِالْهَادِي، فَلَمَّا سَمِعَ عَمُّهُ الْمَلِكُ
الْعَادِلُ ذَلِكَ، سَاءَهُ وَأَهَمَّهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ
وَيُوَبِّخُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى نَسَبِهِ الصَّحِيحِ،
وَبِتَرْكِ مَا ارْتَكَبَهُ مِمَّا يُضْحِكُ النَّاسَ مِنْهُ، فَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَبَقِيَ كَذَلِكَ، وَانْضَافَ
إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَسَاءَ السِّيرَةَ مَعَ أَجْنَادِهِ
وَأُمَرَائِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا
عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ أَمِيرًا مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ.
(10/148)
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
[الْوَفَيَاتُ]
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِمْرَانَ الْبَاقِلَّانِيُّ
الْمُقْرِيُّ الْوَاسِطِيُّ بِهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً
وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ
أَصْحَابِ الْقَلَانِسِيِّ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو طَالِبٍ
عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْبُخَارِيِّ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ فِي مَشْهَدِ بَابِ التِّينِ.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ مَلِكْشَاهْ بْنُ
خُوَارِزْمَ شَاهْ تُكُشُ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ
جَعَلَهُ فِيهَا، وَأَضَافَ إِلَيْهِ عَسَاكِرَ جَمِيعِ بِلَادِهِ
الَّتِي بِخُرَاسَانَ وَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ فِي الْمُلْكِ،
وَخَلَّفَ وَلَدًا اسْمُهُ هِنْدُوخَانْ، فَلَمَّا مَاتَ، جَعَلَ
فِيهَا (أَبُوهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ) بَعْدَهُ وَلَدَهُ الْآخَرَ قُطْبَ
الدِّينِ مُحَمَّدًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ
بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ عَدَاوَةٌ مُسْتَحْكِمَةً أَفْضَتْ إِلَى أَنَّ
مُحَمَّدًا لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ هَرَبَ هِنْدُوخَانْ بْنُ
مَلِكْشَاهْ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
[وَفِيهَا تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ يَعِيشُ بْنُ صَدَقَةَ
بْنِ عَلِيٍّ الْفُرَاتِيُّ الضَّرِيرُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ، مُدَرِّسًا صَالِحًا كَثِيرَ
الصَّلَاحِ، سَمِعْتُ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْهُ عَجَبًا يَدُلُّ عَلَى دِينِهِ
وَإِرَادَتِهِ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنِّي
كُنْتُ أُسْمِعُ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ " سُنَنَ " عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّسَائِيِّ، وَهُوَ كِتَابٌ كَبِيرٌ، وَالْوَقْتُ ضَيِّقٌ لِأَنِّي
كُنْتُ مَعَ الْحُجَّاجِ قَدْ عُدْنَا مِنْ مَكَّةَ، حَرَسَهَا
اللَّهُ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نُسْمِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَخِي الْأَكْبَرِ
مَجْدِ الدِّينِ أَبِي السَّعَادَاتِ، إِذْ قَدْ أَتَاهُ إِنْسَانٌ
مِنْ أَعْيَانِ بَغْدَادَ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ بَرَزَ الْأَمْرُ
لِتَحْضُرَ لِأَمْرِ كَذَا فَقَالَ: أَنَا مَشْغُولٌ بِسَمَاعِ
هَؤُلَاءِ السَّادَةِ، وَوَقْتُهُمْ يَفُوتُ، وَالَّذِي يُرَادُ مِنِّي
لَا يَفُوتُ، فَقَالَ: أَنَا لَا أُحْسِنُ أَذْكُرُ هَذَا فِي
مُقَابِلِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ. فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ! قُلْ: قَالَ:
أَبُو الْقَاسِمِ لَا أَحْضُرُ حَتَّى يَفْرُغَ السَّمَاعُ،
فَسَأَلْنَاهُ لِيَمْشِيَ مَعَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَقَالَ:
اقْرَأُوا، فَقَرَأْنَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرَ غُلَامٌ لَنَا،
وَذَكَرَ أَنَّ أَمِيرَ الْحَاجِّ الْمَوْصِلِيَّ قَدْ رَحَلَ،
فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْنَا فَقَالَ: وَلِمَ يَعْظُمُ عَلَيْكُمُ
الْعَوْدُ إِلَى
(10/149)
أَهْلِكُمْ وَبَلَدِكُمْ؟ فَقُلْنَا:
لِأَجْلِ فَرَاغِ هَذَا الْكِتَابِ. فَقَالَ: إِذَا رَحَلْتُمْ
أَسْتَعِيرُ دَابَّةً وَأَرْكَبُهَا، فَأَسِيرُ مَعَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَقْرَأُونَ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ عُدْتُ. فَمَضَى الْغُلَامُ
لِيَتَزَوَّدَ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ، فَعَادَ وَذَكَرَ أَنَّ الْحُجَّاجَ
لَمْ يَرْحَلُوا، فَفَرَغْنَا مِنَ الْكِتَابِ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا
الدِّينِ الْمَتِينِ يَرُدُّ أَمْرَ الْخَلِيفَةِ وَهُوَ يَخَافُهُ
وَيَرْجُوهُ، وَيُرِيدُ [أَنْ] يَسِيرَ مَعَنَا وَنَحْنُ غُرَبَاءُ لَا
يَخَافُنَا وَلَا يَرْجُونَا.
(10/150)
|