المغرب في حلى المغرب

8 - ابْنه أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن جهور
وَنَشَأ لَهُ ولدان تنافسا فِي الرِّئَاسَة واضطربت بهما الدولة وَجَاء الْمَأْمُون ابْن ذِي النُّون محاصرا لقرطبة من طليلطلة فاستغاثا بالمعتمد بن عباد فَوجه لَهُم ابْنه الظافر بعسكر فأقلع الْمَأْمُون عَنْهُم فغدرهم

(1/56)


الظافر وَأخذ قرطبة مِنْهُم وَحَملهمْ إِلَى شلطيش فسجنوا هُنَالك وَأقَام الظافر ملكا إِلَى أَن دخل عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ حريز بن عكاشة فَقتله وَصَارَت قرطبة لِلْمَأْمُونِ بن ذِي النُّون
ثمَّ وصل إِلَيْهَا الْمُعْتَمد بن عباد وَولى عَلَيْهَا ابْنه الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد فَأَقَامَ فِيهَا إِلَى أَن قَتله بخارجها الملثمون
وتوالى عَلَيْهَا وُلَاة الملثمين إِلَى أَن ثار فِيهَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن حمدين قاضيها
ثمَّ صَارَت لعبد المومن فتوالت عَلَيْهَا وُلَاة دولته إِلَى أَن صَارَت للمتوكل ابْن هود ثمَّ تغلب عَلَيْهَا مُحَمَّد بن الْأَحْمَر المرواني الثائر بأرجونة إِلَى أَن توجه إِلَى إشبيلية فَعَادَت إِلَى ابْن هود فحصرها أذفنش النَّصْرَانِي ملك طليطلة فَأَخذهَا وَخرج مِنْهَا أَهلهَا وَالله يُعِيدهَا بمنه وَحَوله

(1/57)


السلك
القرشيون
من كتاب رغد الْعَيْش فِي حلى قُرَيْش
فَمن بني الْعَبَّاس
9 - الزَّاهِد أَبُو وهب عبد الرَّحْمَن العباسي
ذكر ابْن بشكوال أَنه يُقَال إِنَّه من بني الْعَبَّاس وَكَانَ مُنْقَطع القرين فِي الزّهْد والورع مجاب الدعْوَة مَقْبُولًا فِي النَّاس لَا يكلم أحدا وَلَا يجالسه وَمَا زَالَت الْبركَة وَإجَابَة الدعْوَة متعرفة عِنْد قَبره وَكَانَ بِظَاهِر قرطبة
وَبَاعَ مَا عونه قبل مَوته فَقيل لَهُ مَا هَذَا فَقَالَ أُرِيد سفرا فَمَاتَ إِلَى أَيَّام يسيرَة
وَكَانَ قد طَرَأَ على قرطبة من الْمشرق وأخفى نسبه وَكَانَ متفنناً فِي أَطْرَاف من الْعُلُوم وَمن لم يتكشف على حَاله يظْهر لَهُ أَنه مَدْخُول الْعقل وَكَانَ لَا يأنس إِلَّا بِمن يعرفهُ وَكَانَ أَكثر دهره مفكراً وَجهه على ركبته ثمَّ يرفع رَأسه فَيَقُول أَي وحله
وَأنْشد لَهُ ابْن بشكوال ... أَنا فِي حالتي الَّتِي قد تراني ... أحسن النَّاس إِن تفكرت حَالا
منزلي حَيْثُ شِئْت من مُسْتَقر ال ... أَرض أسْقى من الْمِيَاه زلالا
لَيْسَ لي كسْوَة أَخَاف عَلَيْهَا ... من مغير وَلَا ترى لي مَالا
أجعَل الساعد الْيَمين وِسَادِي ... ثمَّ أثني إِذا انقلبت الشمالا
قد تلذذت حقبة بِأُمُور ... فتدبرتها فَكَانَت خيالا ...

(1/58)


وَتُوفِّي بقرطبة سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة عَن تسعين سنة فِي أَيَّام النَّاصِر وَكَانَ حفل جنَازَته عَظِيما
وَقيل نه لم يبْق اُحْدُ من أهل قرطبة الا وسع عِنْد بَابه من يَقُول اشْهَدْ فِي غَد إِن شَاءَ الله جَنَازَة الرجل الصَّالح فِي مَقْبرَة بني هائل فَإِذا خرج إِلَى الْبَاب لم يجد أحدا
وَذكر الحجاري أَن أَبَا وهب لقِيه مرّة غُلَام وغد بِخَارِج قرطبة فآذاه بِلِسَانِهِ ثمَّ أَرَادَ أَن يرميه بطوبة فَجعل يبْحَث عَنْهَا وَيَقُول يَا عَليّ طوبة أضْرب بهَا هَذَا الأحمق فَوَقَعت عين أبي وهب على طوبة فَقَالَ لَهُ هَذِه طوبة خُذْهَا فابلغ بهَا غرضتك فارتاع الْغُلَام وأخذته كالرعدة
وَكَانَ إِذا أصبح وَنظر إِلَى اسْتِيلَاء النُّور على الظلمَة رفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء وَقَالَ
اللَّهُمَّ إِنَّك أمرتنا بِالدُّعَاءِ إِذا أسفرنا فاستجب لنا كَمَا وعدتنا اللَّهُمَّ لَا تسلط علينا فِي هَذَا الْيَوْم من لَا يراقب رضاك وَلَا سخطك اللَّهُمَّ لَا تشغلنا فِيهِ بغيرك اللَّهُمَّ لَا تجْعَل رزقنا فِيهِ على يَد سواك اللَّهُمَّ امح من قُلُوبنَا الطمع فِي هَذِه الفانية كَمَا محوت بِهَذَا النُّور هَذِه الظلمَة اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَعْرِف غَيْرك فنسأله يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ يَا غياث من لَا غياث لَهُ
وَقَالَ الاعتزال ملك من لَا مَال وَلَا اعوان لَا يجد من ينازعه وَمن لَا يستطيل عَلَيْهِ

(1/59)


وَمن بني أُميَّة
10 - بشر بن عبد الْملك بن بشر بن مَرْوَان
من المقتبس أَن أَبَاهُ قتل مَعَ يزِيد بن عمر بن هُبَيْرَة وَدخل بشر إِلَى الأندلس فِي صدر أَيَّام عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل وَكَانَ من فتيَان قُرَيْش وأدبائهم وشعرائهم ومحاسنه كَثِيرَة
وَذكر الحجاري أَن عبد الرَّحْمَن كَانَ يُحِبهُ ويشاوره وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ باصطناع البربر واتخاذ العبيد ليستعين بهم على الْعَرَب وَأنْشد لَهُ صَاحب السقط ... حنانيك مَا اقسى فُؤَادك تذْهب ... اللَّيَالِي وَلَا عطف لديك وَلَا وصل
وَإِنِّي من قوم هم شرعوا الندى ... فَكيف على أبنائهم يحسن الْبُخْل ...

11 - ايوب بن سُلَيْمَان السهلي
من السقط أَنه من ولد سُهَيْل بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان مِمَّن خمل ذكره بالفتنة كَانَ بقرطبة يخْدم بن الْحَاج فَلَمَّا ثار ابْن الْحَاج فِي

(1/60)


مُدَّة الملثمين أنْشدهُ قصيدة مِنْهَا ... إِذا أَنا لم أبلغ بك الأمل الَّذِي ... قطعت بِهِ الْأَيَّام فالصبر ضائع ...

فَاعْتَذر لَهُ بالفتنة فَقَالَ إِن لم يكن مَا ارتقبته فَلْيَكُن وعد والتفات أتعلل بهما وَأعلم مِنْهُمَا أَنِّي فِي فكر الْأَمِير فالسكوت يطمس أنوار الآمال ويغلق أَبْوَاب الرَّجَاء
وَكَانَ قد حرضه على ابْن حمدين فَلَمَّا ظفر ابْن حمدين حصل فِي يَده أَيُّوب فَكَلمهُ بِكَلَام ألان بِهِ قلبه إِلَّا أَنه أمره أَن يغيب عَنهُ فَرَحل الى سرقسطة وملكها ابْن تيفلويت فَكتب إِلَى وزيره ابْن باجة ... يَا من بِهِ لَاذَ العفاة وَنَحْوه ... رقت الْأَمَانِي دلَّنِي مَا أصنع
إِن صنت وَجْهي عَن سُؤال مت من ... جوع ومثلي للورى لَا يخضع ...

فتسبب لَهُ فِي إِحْسَان من قبل الْملك على أَن يرحل عَن بلدهم فِرَارًا من هَذَا النّسَب فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أسعدنا بِهِ أَولا وأشقانا بِهِ آخرا
وَاتفقَ لَهُ فِي طَرِيقه أَن أكْرمه بدوي نزل عِنْده وَقد تخيل أَنه رَسُول من بعض مُلُوك الملثمين أَو مِمَّن يلوذ بهم فَلَمَّا أعلمهُ غُلَامه أَنه من بني أُميَّة هاج وَأخذ رمحه وَحلف أَن لَا يبْقى لَهُ فِي منزل فَقَالَ لغلامه إِذا سُئِلت عني فَقل إِنَّه من الْيَهُود فَإِنَّهُ أمشى لحالنا وَله من شعر

(1/61)


.. قرطبة الغراء على أوبة ... إِلَيْك من قبل الْحمام الْمُصِيب
ذكرك قد صيرته ديدناً ... وَكَيف أنساك وفيك الحبيب ...

وَمَات بسرقسطة فِي الْمِائَة الْخَامِسَة
12 - بشر بن حبيب بن الْوَلِيد بن حبيب الْمَعْرُوف بدحون
ذكر صَاحب السقط أَن جده حبيب بن عبد الْملك بن عمر بن الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان صَاحب طليطلة وبنوا دحون اعيان بلكونة رأسوا بهَا وَوَصفه بالفروسية والأخلاق الملوكية وَالْأَدب وَأنْشد لَهُ قَوْله ... قل لبرق أَضَاء من نَحْو نجد ... كَيفَ بِاللَّه سَاكن الْجزع بعدِي
أَترَاهُم على العهود أَقَامُوا ... أم ترى الْبَين قد أخل بعهدي
من يكن فِي الدنو غير وَفِي ... كَيفَ يُرْجَى وفاؤه فِي الْبعد ...

قَالَ وَلما قَالَ ... لاضر من جَمِيع الارض قاطبة ... نَارا وابلغ مَالا يبلغ الْأَجَل
أَنا الَّذِي لَيْسَ فِي الدُّنْيَا لَهُ مثل ... وبارتقائي فِي الْعليا جرى الْمثل ...

سجنه عبد الرَّحْمَن الْأَوْسَط ثمَّ تشفع فِيهِ فسرحه فَرَحل إِلَى الْمشرق وَحج وروى الحَدِيث وَجَاء إِلَى الأندلس فِي صُورَة أُخْرَى

(1/62)


وَذكره ابْن حَيَّان فِي المقتبس وَأَنه قدم الأندلس بِعلم كثير وَكَانَ يتحلق فِي الْجَامِع إِلَى أَن نَهَاهُ عبد الرَّحْمَن عَن ذَلِك
وَمن بني مَخْزُوم
13 - أَبُو الْوَلِيد أَحْمد بن زيدون المَخْزُومِي
من القلائد زعيم الفئة القرطبية ونشأة الدولة الجهورية الَّذِي بهر فِي نظامه وَظهر كالبدر لَيْلَة تَمَامه فجَاء من القَوْل بِسحر وقلده أبهى نحر لم يصرفهُ إِلَّا بَين ريحَان وَرَاح وَلم يطلعه إِلَّا فِي سَمَاء مؤانسات وأفراح وَلَا تعدى بِهِ الرؤساء والملوك وَلَا تردى مِنْهُ إِلَّا حظوة كَالشَّمْسِ عِنْد الدلوك فشرف بضائعه وأرهف بدائعه وروائعه وكلفت بِهِ تِلْكَ الدولة حَتَّى صَار ملهج لسانها وَحل من عينهَا مَكَان إنسانها وَكَانَ لَهُ مَعَ أبي الْوَلِيد ابْن جهور تآلف احرما بكعبته وطافا وسقياه من تصافيهما نظافا وَكَانَ يعْتد ذَلِك حساماً مسلولاً ويظن أَنه يرد بِهِ صَعب الخطوب ذلولاً إِلَى أَن وَقع لَهُ طلب أصاره إِلَى الاعتقال وقصره عَن الوخد والإرقال فاستشفع بِأبي الْوَلِيد وتوسل واستدفع بِهِ تِلْكَ الأسنة المشرعة والأسل

(1/63)


فَمَا ثنى إِلَيْهِ عنان عطفه وَلَا كف عَنهُ فنون صرفه فتحيل لنَفسِهِ حَتَّى تسلل من حَبسه ففر فرار الْخَائِف وسرى إِلَى إشبيلية سرى الخيال الطَّائِف فوافاها غلساً قبل الاسراج والاجام وَنَجَا إِلَيْهَا بِرَأْس طمر ولجام فهشت لَهُ الدولة وباهت بِهِ الْجُمْلَة فَأَحْمَد قراره وأرهفت النكبة غراره وَحصل عِنْد المعتضد بِاللَّه بن عباد كالسويداء من الْفُؤَاد واستخلصه استخلاص المعتصم لِابْنِ أبي دؤاد وَألقى بيدَيْهِ مقاد ملكه وزمامه واستكفى بِهِ نقضه وإبرامه فأشرقت شمسه وأنارت وأنجدت محاسنه وَغَارَتْ وَمَا زَالَ يلتحف بحظوته وَيقف بربوته حَتَّى أدْركهُ حمامه ولقى السرَار تَمَامه فأخبى مِنْهُ شهباً طالعة وزهرة يانعة وَقد أصبت من مقاله فِي سراحه واعتقاله ومقامه وانتقاله مَا هُوَ أرق من النسيم وأشرق من الْمحيا الوسيم من ذَلِك قَوْله متغزلاً ... يَا قمراً أطلعه الْمغرب ... قد ضَاقَ بِي فِي حبك الْمَذْهَب
ألزمتني الذَّنب الَّذِي جِئْته ... صدقت فاصفح ايها المذنب
وان من غرب مَا مر بِي ... أَن عَذَابي فِيك مستعذب ...

ورحل عَنهُ من كَانَ يهواه وفاجأه ببينه ونواه فسايره قَلِيلا وَمَا شاه وَهُوَ يتَوَهَّم ألم الْفرْقَة حَتَّى غشاه واستعجل الْوَدَاع وَفِي كبده مَا فِيهَا من الانصداع وَأقَام يَوْمه بِحَالَة المفجوع وَبَات ليله منافر

(1/64)


الهجوع يردد الْفِكر ويجدد الذّكر فَقَالَ ... ودع الصَّبْر محب وَدعك ... ذائع من سره مَا استودعك
يقرع السن على أَن لم يكن ... زَاد فِي تِلْكَ الخطا إِذْ شيعك
يَا أَخا الْبَدْر سناء وسنا ... حفظ الله زَمَانا أطلعك
إِن يطلّ بعْدك ليلِي فلكم ... بت أَشْكُو قصر اللَّيْل مَعَك ...

وَقَالَ يتغزل فِي ولادَة بنت المستكفي الَّتِي كَانَ يهواها وَكَانَت شاعرة ... يَا نازحاً وَضمير الْقلب مثواه ... أنستك دنياك عبدا أَنْت دُنْيَاهُ
ألهتك عَنهُ فكاهات تلذ بهَا ... فَلَيْسَ يجْرِي ببال مِنْك ذكرَاهُ
عل اللَّيَالِي تبقيني إِلَى أمد ... الله يعلم وَالْأَيَّام مَعْنَاهُ ...

وَكتب إِلَى ابْن عبد الْعَزِيز صَاحب بلنسية ... راحت فصح بهَا السقيم ... ريح معطرة النسيم
مَقْبُولَة هبت قبو ... لَا فَهِيَ تعبق فِي الشميم
أفضيض مسك أم بلن ... سية لرياها نميم
بلد حبيب أفقه ... لفتى يحل بِهِ كريم
إيه أَبَا عبد الإل ... هـ نِدَاء مغلوب العزيم
إِن عيل صبري من فرا ... قك فالعذاب بِهِ أَلِيم
أَو أتبعتك حنينها ... نفس فَأَنت لَهَا قسيم ...

(1/65)


.. ذكرى لعهدك كالسهاد ... سرى فبرح بالسليم
مهما ذممت فَمَا زما ... ني فِي زمامك بالذميم
زمن كمألوف الرِّضَا ... ع يشوق ذكرَاهُ الفطيم
ايام اعقد ناظري بذلك المرأي الوسيم
فَأرى الفتوة غضة ... فِي ثوب أَواه حَلِيم
الله يعلم أَن حب ... ك من فُؤَادِي فِي الصميم
وَلَئِن تحمل عَنْك بِي ... جسم فَعَن قلب مُقيم ...

وَله فِي ولادَة القصيدة الَّتِي ضربت فِي الإبداع بِسَهْم وطلعت فِي كل خاطر وَوهم نزعت منزعاً قصر عَنهُ حبيب وَابْن الجهم ... بنتم وبنا فَمَا ابتلت جوانحنا ... شوقاً إِلَيْكُم وَلَا جَفتْ مآقينا
تكَاد حِين تناجيكم ضمائرنا ... يقْضى علينا الأسى لَوْلَا تأسينا
حَالَتْ لفقدكم أيامنا فغدت ... سُودًا وَكَانَت بكم بيضًا ليالينا
إِذْ جَانب الْعَيْش طلق من تألفنا ... ومورد اللَّهْو صَاف من تصافينا
وَإِذ هصرنا غصون الْوَصْل دانية ... قطوفها فجنينا مِنْهُ ماشينا
ليسق عهدكم عهد السرُور فَمَا ... كُنْتُم لأرواحنا إِلَّا رياحينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزنا مَعَ الدهم لَا يبْلى ويبلينا
أَن الزَّمَان الَّذِي كُنَّا نسر بِهِ ... أنسا بقربهم قد عَاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الْهوى فدعوا ... بِأَن نغص فَقَالَ الدَّهْر آمينا ...

(1/66)


.. فانحل مَا كَانَ معقودا بِأَنْفُسِنَا ... انبت مَا كَانَ مَوْصُولا بِأَيْدِينَا
وَقد نَكُون وَمَا يخْشَى تفرقنا ... فَالْآن نَحن وَمَا يُرْجَى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إِلَّا الْوَفَاء لكم ... رَأيا وَلم نتقلد غَيره دينا
لَا تحسبوا نأيكم عَنَّا يغيرنا ... أَن طَال مَا غير النأي المحبينا
وَالله مَا طلبت أهواؤنا بَدَلا ... مِنْكُم وَلَا انصرفت عَنْكُم أمانينا
وَلَا اتخذنا خَلِيلًا عَنْك يشغلنا ... وَلَا اتخذنا بديلاً مِنْك يسلينا
يَا ساري الْبَرْق غاد الْقصر فَاسق بِهِ ... من كَانَ صرف الْهوى والود يسقينا
وَيَا نسيم الصِّبَا بلغ تحيتنا ... من لَو على الْبعد حييّ كَانَ يحيينا
يَا رَوْضَة طالما اجنت لواحظنا ... وردا جناه اصبا غضا ونسرينا
وَيَا حَيَاة تملينا بزهرتنا ... منى ضروباً ولذات أفانينا
وَيَا نعيماً خطرنا من غضارته ... فِي وشي نعمي سحبنا ذيلها حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عَن ذَاك يغنينا
إِذا انْفَرَدت وَمَا شوركت فِي صفة ... فحسبنا الْوَصْف إيضاحاً وتبيينا
يَا جنَّة الْخلد بدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران فِي خاطر الظلما يكتمنا ... حَتَّى يكَاد لِسَان الصُّبْح يفشينا
لَا غرو فِي أَن ذكرنَا لحزن حِين نهت ... عَنهُ النهى وَتَركنَا الصَّبْر ناسينا
إِنَّا قَرَأنَا الأسى يَوْم النَّوَى سوراً ... مَكْتُوبَة وأخذنا الصَّبْر تلقينا
أما هَوَاك فَلم نعدل بمنهله ... شرباً وَإِن كَانَ يروينا فيظمينا ...

(1/67)


.. لم نجف أفق جمال أَنْت كوكبه ... سالين عَنهُ وَلم نهجره قالينا
نأسي عَلَيْك إِذا حثت مشعشعة ... فِينَا الشُّمُول وغنانا مغنينا
لَا اكوس الراح تبدي من شَمَائِلنَا ... سِيمَا ارتياح وَلَا الأوتار تلهينا
دومي على الْوَصْل مَا دمنا مُحَافظَة ... الْحر من دَان إنصافاً كَمَا دينا
أبدي وَفَاء وَإِن لم تبذلي صلَة ... فالطيف يقنعنا وَالذكر يكفينا
وَفِي الْجَواب مَتَاع إِن شفعت بِهِ ... بيض الأيادي الَّتِي مَا زلت تولينا
عَلَيْك مني سَلام الله مَا بقيت ... صبَابَة بك نخفيها فتخفينا ...

وَقَالَ فِيهَا ... يَا مستخفاً بعاشقيه ... ومستغشاً لناصحيه
وَمن أطَاع الوشاة فِينَا ... حَتَّى أَطعْنَا السلو فِيهِ
الْحَمد لله قد بدا لي ... بطلَان مَا كنت تدعيه
من قبل أَن يهْزم التسلي ... ويغلب الشوق مَا يَلِيهِ ...

وَقَالَ ... أيوحشني الزَّمَان وَأَنت أنسي ... وَيظْلم لي النَّهَار وَأَنت شمسي
وأغرس فِي محبتك الْأَمَانِي ... فأجني الْمَوْت من ثَمَرَات غرسي
لقد جازيت غدراً عَن وفائي ... وبعت مودتي ظلما ببخس
وَلَو أَن الزَّمَان أطَاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي ...

(1/68)


وَله ... كَأَن عشي الْقطر فِي شاطئ النَّهر ... وَقد زهرت فِيهِ الأزاهر كالزهر
ترش بِمَاء الْورْد رشاً وتنثني ... لتغليف أَفْوَاه بطييبة الْخمر ...

وَقَوله ... يَا ليل طل أَو لَا تطل ... لَا بُد لي أَن أسهرك
لَو بَات عِنْدِي قمري ... مَا بت أرعى قمرك ...

وَقَوله فِي بني جهور أَصْحَاب قرطبة ... بني جهور أحرقتم بجفائكم ... جناني فَمَا بَال المدائح تعبق
تظنوني كالتعنبر الْورْد إِنَّمَا ... تطيب لكم أنفاسه وَهُوَ يحرق ...

وَقَالَ فِيهِ صَاحب الذَّخِيرَة إِنَّه كَانَ سامحه الله مِمَّن لَا يُرْجَى خَيره وَلَا يُؤمن شَره وَالْعجب أَنه سلم من المعتضد بن عباد مَعَ كَونه كَانَ مُدبر دولته وَلم يسلم لَهُ أحد من أَصْحَابه
وَولى وَلَده بعده وَهُوَ أَبُو بكر وزارة الْمُعْتَمد بن عباد

(1/69)


وَمن = كتاب تلقيح الارء فِي حلى الْحجاب والوزراء
14 - أَبُو بكر بن ذكْوَان
ورثاه أَبُو الْوَلِيد بن زيدون بِشعر مِنْهُ ... يَا من شآ الْأَمْثَال مِنْهُ بِوَاحِد ... ضربت بِهِ السؤدد الْأَمْثَال ...

وَذكره ابْن حَيَّان فِي كتاب الْقُضَاة وَقَالَ إِنَّه أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن ذكْوَان كَانَ أَبوهُ قَاضِي الْقُضَاة وَإِن أَعْيَان قرطبة هتفوا باسم أبي بكر فِي الْقَضَاء عِنْد ولَايَة أبي الحزم بن جهور وَأَجْمعُوا على أَنه فِي الكهول حلماً وعلماً ونزاهة وعفة وتصاوناً ومروءة وثروة فَأمْضى لَهُ الْولَايَة ابْن جهور فَامْتنعَ إِلَى أَن كَثُرُوا عَلَيْهِ فَقبل ذَلِك فنصر الْحق فَأَجْمعُوا على مقته فعزل نَفسه غرَّة شعْبَان سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ومدته سنة غير ثَلَاثَة أَيَّام وَمَات إِثْر ولَايَة صديقه أبي الْوَلِيد ابْن جهور يَوْم الثُّلَاثَاء لثلاث خلت من ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَلم يتَخَلَّف عَنهُ كَبِير أحد من أهل قرطبة وأتبعوه ثَنَاء جميلاً ومولده فِي رَجَب سنة خمس وَتِسْعين وثلاثمائة

(1/70)


15 - أَبُو إِسْحَاق
إِبْرَاهِيم بن عبيد الله الْمَعْرُوف بالنوالة
وَصفه الحجاري بِأَنَّهُ بَحر أدب لَيْسَ لَهُ سَاحل وأفق رئاسة قد زينه الله بنجوم المكارم والفضائل وَأَنه كَانَ مِمَّن يُؤْخَذ من مَاله وأدبه وَأَنه اسْتَعَانَ بخزائن كتبه الْعَظِيمَة على مَا صنفه فِي كتاب المسهب وَكتب لَهُ رِسَالَة يعتبه فِيهَا على كَونه دخل قرطبة فَلم يُبَادر إِلَى الِاجْتِمَاع بِهِ أَولهَا أَنا عَاتب على سَيِّدي عتباً لَا تمحوه بحور البلاغة وَلَا تحمله يَد الِاعْتِذَار على مر الزَّمَان وختمها بقوله وَبعد هَذَا فَإِنِّي أخبط خبط عشواء فِي تيه ظلام فَأطلع على صبح وَجهك لنصبر بِهِ سبل الْهِدَايَة على جري عادتك فِي تِلْكَ الْأَيَّام
وَمِمَّا أنْشد من شعره قَوْله ... بَادر إِلَى شاد وكأس تَدور ... ومجلس قد زينته بدور
فِي جنَّة تضحك غدرانها ... وترقص القضب وتشدو الطُّيُور
لما غَدا الرَّعْد بهَا مطرباً ... شقّ لَهُ الزهر جُيُوب السرُور ...

وَبلغ فِي دولة الملثمين من الجاه وَالْمَال وَالذكر بقرطبة مَا لم يبلغهُ أحد
وَمن كتاب أردية الشَّبَاب فِي حلى الْكتاب
16 - مُحَمَّد بن أُميَّة مولى مُعَاوِيَة بن يزِيد بن عبد الْملك
كتب عَن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ وَالِده كَاتبا لعبد الرَّحْمَن
وَمن تَارِيخ ابْن حَيَّان أَنه كتب عَن الحكم بن هِشَام فأتهمه بولائه لِعَمِّهِ سُلَيْمَان الثائر عَلَيْهِ فَعَزله وَكَانَ سُلَيْمَان قد هم بالركون حَتَّى كتب إِلَيْهِ ابْن أُميَّة

(1/71)


.. لَا تقبلن عهوداً لَا وَفَاء لَهَا ... إِن المدير عَلَيْك الرَّأْي شَيْطَان
إِن الصُّدُور الَّتِي استعذبت أَولهَا ... أعجازها لَك إِن حصلت خطبان
كَيفَ الْمقَام بِأَرْض لَيْسَ يملكهَا ... ذَاك المبرأ من نقص سُلَيْمَان ...

وَذكر الفرضي أَنه مَاتَ خاملاً فِي مُدَّة عبد الرَّحْمَن بن الحكم وبيته بَيت كِتَابَة ورئاسة
17 - أَبُو الْقَاسِم إِبْرَاهِيم بن الإفليلي
ذكر ابْن حَيَّان أَنه بذ أهل زَمَانه بقرطبة فِي علم اللِّسَان والضبط لغريب اللُّغَة والمشاركة فِي بعض الْمعَانِي وَكَانَ غيوراً على مَا يحمل من ذَلِك كثير الْحَسَد رَاكِبًا رَأسه فِي الْخَطَأ الْبَين إِذا تقلده
واستكتبه المستكفي فبرد وَوَقع كَلَامه خَالِيا من البلاغة لِأَنَّهُ كَانَ على طَريقَة المعلمين فزهد فِيهِ وَمَا بَلغنِي أَنه ألف شَيْئا إِلَّا كِتَابه فِي شعر المتنبي وَلَحِقتهُ تُهْمَة فِي دينه أَيَّام هِشَام فسجن فِي المطبق
وَابْن شَهِيد كثير الْوُقُوع فِيهِ والتنذير بِهِ قَالَ فِي كَلَام وَصفه فِيهِ وَهُوَ أَشَّدهم ضنانة بألا يكون بالأندلس محسن سواهُ وَكَانَ الرَّأْي عِنْدِي لَهُ أَن يسكن أَرض جليقية حَتَّى لَا يسمع لخطيب فِيهَا ذكرا وَلَا يحس لشاعر شعرًا فينعم هُنَالك فَردا وَلَيْسَت شيبته شيبَة أديب

(1/72)


وَلَا جلسته جلْسَة عَالم وَلَا أَنفه أنف كَاتب وَلَا نغمته نَغمَة شَاعِر
وَقَالَ فِي رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا بالتوابع والزوابع على لِسَان الْجِنّ وَأما أَبُو الْقَاسِم بن الإفليلي فمكانه من نَفسِي مكين وحبه بفؤادي دخيل على أَنه حَامِل عَليّ ومنتسب إِلَى فصاحا يَا أنف النَّاقة بن معمر من سكان خَيْبَر فَقَامَ إِلَيْهِمَا جني أشمط ربعه يتظالع فِي مَشْيه كاسراً لطرفه زاوياً لأنفه وَهُوَ ينشد ... قوم هم الْأنف والأذناب غَيرهم ... وَمن يسوى بأنف النَّاقة الذنبا ...

فَقَالَا لي هَذَا صَاحب أبي الْقَاسِم مَا قَوْلك فِيهِ يَا أنف النَّاقة قَالَ لَا اعرف على من قَرَأَ فَقلت فِي نَفسِي الْعَصَا من العصية فَقلت وَأَنا أَيْضا لَا أعرف على من قَرَأت قَالَ لمثلي يُقَال هَذَا الْكَلَام فَقلت وَكَانَ مَاذَا قَالَ فطارحني كتاب الحبيل قلت هُوَ عِنْدِي فِي زنبيل قَالَ فناظرني على كتاب سِيبَوَيْهٍ قلت خريت الْهِرَّة عِنْدِي عَلَيْهِ
وَقَالَ الحجاري كَانَ بَارِد النّظم والنثر لم ينْدر لَهُ من شعره إِلَّا قَوْله ... صَحِبت القطيع ونادمته ... وأصبحت فِي شربه ذَا انْقِطَاع
وأبصرت أنسي بِهِ وَحده ... كأنس الرَّضِيع بثدي الرَّضَاع ...

قَالَ وَهُوَ الْقَائِل فِي يحيى بن حمود من قصيدة يَكْفِي مِنْهَا مَا يَكْفِي من الترياق ... أَنْت خير النَّاس كلهم ... يَا بن من مَا مثله بشر
فَإِذا مَا لحت بَينهم ... قيل هَذَا البدو والحضر ...

قَالَ وأنشدتهما لأحد الأدباء فَقَالَ لي عِنْدَمَا سمع عجز الأول وَرَأى ترادف الميمات هَذِه عقد ذَنْب الْعَقْرَب فَلَمَّا سمع

(1/73)


الثَّانِي قَالَ سُبْحَانَ من أخلى خاطر هَذَا الرجل من التَّوْفِيق وَجعله يخرى على فَمه
18 - أَبُو يحيى أَبُو بكر بن هِشَام
هُوَ مِمَّن قَرَأت عَلَيْهِ وأدركته يكْتب عَن الْبَاجِيّ ملك إشبيلية وَالْإِشَارَة إِلَيْهِ بِأَنَّهُ شيخ كتاب الأندلس وَكَانَ سهل الطَّرِيقَة كتب عَن الْمَأْمُون أَيَّام ولَايَته قرطبة ثمَّ لحق بالبياسي الثائر وَكتب عَنهُ ثمَّ قتل البياسي فاستخفى ثمَّ لحق بإشبيلية
وتسبب إِلَى الْمَأْمُون وأنشده قصيدة مِنْهَا ... مولَايَ إِن بليتي مَعَ خدمتي ... خصمان فاحكم للَّتِي هِيَ أقدم ...

ثمَّ أَكثر عَلَيْهِ من الرّقاع فِي ذَلِك فَوَقع لَهُ يَا هَذَا قد أكثرت علينا من الرّقاع وَقد أمضينا لَك حكم ابْن الرّقاع
وَبَلغنِي فِي مصر أَنه توفّي بالجزيرة الخضراء فِي سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَمِمَّا أنشدنيه لنَفسِهِ قَوْله ... لاموا على حب الصِّبَا والكأس ... لما بدا وضح المشيب برأسي
والغصن أحْوج مَا يكون لسقيه ... أَيَّانَ يَبْدُو بالأزاهر كاسي ...

(1/74)


وَقَوله ... أَمْسَى الْفراش يطوف حول كؤوسنا ... إِذْ خالها تَحت الدجى قِنْدِيلًا
مَا زَالَ يحفق حولهَا بجناحه ... حَتَّى رمته على الْفراش قَتِيلا ...

وَمن نثره بِمَا أسلف لهَذَا الحزب الْغَالِب من انتباه وَالنَّاس نيام وانتصار بِالْمَالِ وَالنَّفس وَالْكَلَام وخوض فِي لجج المهالك وَقطع لمضيقات المسالك حَتَّى شكر إِثْر عناه رَاحَته ونجاحه وَحمد بعد مَا أَطَالَ سراه صباحه فجدير أَن يجني ثَمَرَة مَا غرس وَأَن يمشي فِي ضوء ذَلِك القبس
19 - أَخُوهُ أَبُو الْقَاسِم عَامر بن هِشَام
هُوَ صَاحب القصيدة الْمُتَقَدّمَة فِي متفرجات قرطبة وحسبه فخرا وَعلة طبقَة وَكَانَ مَشْهُورا بالمنادمة والبطالة وَمن نثره فِي مُخَاطبَة رَئِيس وَإِنِّي لكالأرض الْكَرِيمَة إِن نظر مِنْهَا وسقيت أنبتت وأزهرت وأودعت لِسَان النسيم مَا يعبر بِهِ فِي الْآفَاق من شكر الْخَيْر الجسيم وَإِن أهملت صوحت وأودعت السوافي مَا يعمى الْعين ويرغم الْأنف وَإِن لسيدي كَبِير حق ولمعظمه صَغِير حق ورعى أَحدهمَا مَنُوط بِالْآخرِ
وَمن رِسَالَة وَأَنِّي يَصح لَهُ ذَلِك مَعَ مَا اشْتهر عَنهُ من كَونه نماماً للأسرار نقالاً لما يسوء سَمَاعه من الْأَخْبَار مُولَعا بالفضول كثير الْخُرُوج وَالدُّخُول ولاجاً عِنْد فلَان وَفُلَان كثير التضريب والإفساد بَين الإخوان مَعَ لُزُوم الثقالة والمظاهرة بالتقلب والاستحالة لَا يشْكر كثير الْإِحْسَان وَلَا يغْفر قَلِيل الْإِسَاءَة بِسَاط المنادمة مَعَه لَا يطوي أبدا أسقط على المساوئ من كلب على جيفة وألح فِيهَا من ذُبَاب على قرحَة وَله مَعَ الْحَضْرَمِيّ ممازحة كَثِيرَة

(1/75)


وَهُوَ الْمُخَاطب للحضرمي ... لَا خير فِي الصاحب إِن لم يكن ... يَقُود أَو يَنِكحُ أَو يَنكَحُ
فَإِن خلت من صَاحب هَذِه ... فَإِنَّهُ للود لَا يصلحُ ...

فَقَالَ لَهُ حسبي القيادة وقاد لَهُ على مَحْبُوب لَهُ من أَبنَاء الْجند فِي حِكَايَة طَوِيلَة وَحلق أَبُو الصَّبِي شعره وَقَيده وحبسه لما سمع باجتماعه مَعَ ابْن هِشَام فَقَالَ ابْن هِشَام فِي ذَلِك ... طَال ليلِي مذ قصروا ليل شعره ... ورموا بالسرار كَامِل بدره
يَا هِلَال السَّمَاء قبل هلالاً ... قيدوه بِهِ مَخَافَة فره ...

فَلَمَّا سرح قَالَ ... صفح السرَار عَن الْقَمَر ... وبدا وَقد كَانَ استتر
كتب السرُور لناظري ... لما رَآهُ قد ظهر
هَذَا أَمَان للجفو ... ن من المدامع والسهر ...

وسكر لَيْلَة فَخرج والمطر يسح فَرَأى جريه فأعجبه وزين لَهُ السكر الرقاد فِي وسط الطَّرِيق فجَاء أحد العسس فَعرفهُ فَحَمله إِلَى دَاره وجرد ثِيَابه البليلة وَألقى عَلَيْهِ من ثِيَابه وَحمله إِلَى منزله فَلَمَّا أَفَاق أَبُو الْقَاسِم قَالَ ... أَقُول وَقد أوردت نَفسِي مورداً ... أبحت بِهِ مَا شاءه السكر من عرضي
وَقد صرت سداً بِالطَّرِيقِ لسائل ... من الْقطر إِذْ لَا بسط تحتي سوى الأَرْض
وَقد هزني فِي آخر اللَّيْل مُرْسل ... من الله أحياني وَألْحق بِي غمضي
سأثني عَلَيْك الدَّهْر فِي كل محفل ... ومل كل من أوليته نعْمَة يقْضِي
وَلم أدر من ألْقى عَليّ رِدَاءَهُ ... خلا أَنه قد سل عَن ماجد مَحْض ...

(1/76)


وَأنْشد لَهُ أَبُو الْبَحْر فِي كتاب زَاد الْمُسَافِر ... وأغن تثنيه الشبيبة خوطة ... تيهاً وتسحب ثَوْبه أذيالا
سفرت محَاسِن وَجهه عَن شجة ... نونية حشت الحشا بلبالا
لاحت كإحدى حاجبيه تقوساً ... بَيْضَاء راقت فِي الْعُيُون جمالا
فتأملوها آيَة بدعية ... قمراً جلا فِي صفحتيه هلالا ...

وَمَات قبل أَخِيه وَله موشحات
وَمن = كتاب الْيَاقُوت فِي حلى ذَوي الْبيُوت
20 - عبد الْملك بن أَحْمد بن عِيسَى بن شَهِيد مولى بني أُميَّة
ذكر الشقندي أَنه كَانَ جليس الْأَمِير مُحَمَّد وَأنْشد لَهُ ... ويلي على أحور تياه ... أجد فِيهِ وَهُوَ بِي لاه
أقبل فِي غيد حكين الظبا ... بيض تراق حمر أَفْوَاه
يَأْمر فِيهِنَّ وَيُنْهِي وَلَا ... يعصينه من آمُر ناه
حَتَّى إِذا أمكنني أمره ... تركته من خشيَة الله ...
وَذكر الحجاري أَن الامير مُحَمَّد استوزره وجالس النَّاصِر واستوزر النَّاصِر ابْنه أَحْمد الشَّاعِر وَكَانَ أَحْمد يَقُول لَا يخلص لي جاه مَا دَامَ أبي فِي الْحَيَاة فَقَالَ فِي ذَلِك شعرًا مِنْهُ

(1/77)


.. سرني فرعى وَقد أث ... مر واستعلت غصونه
غير أَنِّي بجلوسي ... مَعَه صرت أشينه
يَا بني اصبر فَإِن ال ... شيخ قد حانت منونه
وسيبدو لَك فرع ... وَترى كَيفَ فنونه ...
21 - أَبُو عَامر احْمَد بن عبد الْملك
ابْن أَحْمد بن عبد الْملك بن عمر بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن شَهِيد
وَهُوَ أعظم هَذَا الْبَيْت شهرة فِي البلاغة وَقَالَ ابْن بسام فِي وَصفه شيخ الحضرة وفتاها ونادرة الْفلك الدوار وأعجوبة اللَّيْل وَالنَّهَار وَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاء على نظمه ونثره وأدبه وَكَذَلِكَ ابْن حَيَّان وصاحبا المسهب والسقط وَقَالَ عَنهُ ابْن حَيَّان كَانَ يبلغ الْمَعْنى وَلَا يُطِيل سفر الْكَلَام وَلم يُوجد لَهُ بعد مَوته كتب يستعان بهَا على مَا جرت بِهِ عَادَة البلغاء والأدباء وَكَانَ قَدِيرًا على فنون الْهزْل إِلَّا أَنه غلبت عَلَيْهِ البطالة فَلم يحفل فِي ايثارها بضيع دين أَو مُرُوءَة وَكَانَ منهمكاً فِي الْجُود حَتَّى شَارف الإملاق عِنْد مَوته
وَله رِسَالَة إِلَى عبد الْعَزِيز بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور أبي عَامر يمت

(1/78)


فِيهَا تبربيته فِي قُصُور بني أبي عَامر وَأَن عَمه المظفر بن الْمَنْصُور أعطَاهُ ألف دِينَار وَهُوَ صَغِير وَأَن حظية الْمَنْصُور أَعطَتْهُ ألفا عَنْهَا وَثَلَاثَة آلَاف عَن سَيِّدهَا وَانْصَرف عَن قصرهم بالغنى وَأَن أَبَاهُ احتوى على ذَلِك فَبلغ الْمَنْصُور فَأمر لَهُ بِخَمْسِمِائَة دِينَار وَأقسم على أَبِيه أَلا يمنعهُ مِنْهَا فِيمَا شاءه
وَله فِي جَوَاب رِسَالَة
فتنفضت تنفض الْعقَاب وهزتني أريحية كأريحية الشَّبَاب وَجعل يوهمني أَنِّي مَلَأت الأَرْض بجسمي وأومأت إِلَى الجوزاء بكفي أَن تأملى والى العواء أَن أقبلى وَقلت المجرة فِي عَيْني أَن تكون لي منديلاً وَصغر الزبْرِقَان عِنْدِي أَن أتخذه إكليلاً فَقلت هَكَذَا تكون الألوك وبمثل هَذَا تنفح الْمُلُوك
وَمن قصيدة يمدح بهَا ابْن النَّاصِر الْمَذْكُور ... ورعيت من وَجه السَّمَاء خميلة ... خضراء لَاحَ الْبَدْر من غدرانها
وَكَأن نثر النَّجْم ضان عِنْدهَا ... وكأنما الجوزاء راعي ضانها ...

وَله رِسَالَة يُخَاطب بهَا أَبَا بكر بن حزم سَمَّاهَا بالتوابع والزوابع وبناها على مخاطبات الْجِنّ قَالَ فِي أَولهَا
كَانَ لي فِي أول صبوتي هوى اشْتَدَّ بِهِ كلفي ثمَّ لَحِقَنِي فِي أثْنَاء ذَلِك ملل وَتَوَلَّى بِهِ عني الْحمام فَجَزِعت وَأخذت فِي رثائه فِي الحائر وَقد أبهمت على أبوابه وانفردت فَقلت ... تولى الْحمام بِظَبْيٍ الْخُدُور ... وفاز الردى بالغزال الغرير ...

(1/79)


إِلَى أَن انْتَهَيْت إِلَى الِاعْتِذَار من الْملَل الَّذِي كَانَ فَقلت ... وَكنت مللتك لَا عَن قلى ... وَال عَن فَسَاد ثوى فِي ضميري ...

وأفحمت فَإِذا بِفَارِس على بَاب الْمجْلس على فرس أدهم قد اتكأ على رمحه وَصَاح بِي أعجزاً يَا فَتى الأندلس قلت لَا وَأَبِيك وَلَكِن للْكَلَام أحيان وَهَذَا شَأْن الْإِنْسَان فَقَالَ قل ... كَمثل ملال الْفَتى للنعيم ... إِذا دَامَ فِيهِ وَحَال السرُور ...

فَأثْبت إِجَازَته وَقلت بِأبي أَنْت من أَنْت قَالَ أَنا زُهَيْر بن نمير من أَشْجَع الْجِنّ فَقلت وَمَا الَّذِي حداك إِلَى التَّصَوُّر لي قَالَ هوى ورغبة فِي اصطفائك قلت أَهلا بك أَيهَا الْوَجْه الوضاح صادفت قلبا اليك مقلوبا وَهوى فِي اصطفائك قلت أَهلا بك أَيهَا الْوَجْه الوضاح صادفت قلبا اليك مقلوبا نَحْوك مَجْنُونا وتحادثنا حينا ثمَّ قَالَ مَتى شِئْت استحضاري فَأَنْشد هَذِه الأبيات ... وآلى زُهَيْر الْحبّ يَا عز أَنه ... مَتى ذكرتك الذاكرات أَتَاهَا
إِذا جرت الأفواه يَوْمًا بذكرها ... تخيل لي أَنِّي أقبل فاها
فأغشى ديار الذَّاكِرِينَ وَإِن نأت ... أجارع من دارى هوى لهواها ...

وأوثب الأدهم جِدَار الْحَائِط وَغَابَ عني وَكنت مَتى أرتج عَليّ أنْشد الأبيات فيتمثل لي فأسير إِلَى مَا أَرغب

(1/80)


وَمِمَّا ضمن هَذِه الرسَالَة من محَاسِن الشّعْر قَوْله ... ومرقبة لَا يدْرك الطّرف رَأسهَا ... تزل بهَا ريح الصِّبَا فتحدر
تكلفتها وَاللَّيْل قد ماج بحره ... وَقد جعلت أمواجه تتكسر
وَمن تَحت حضني من ظبا الْهِنْد أَبيض ... وَفِي الْكَفّ من عسالة الْخط أسمر
هما صَاحِبَايَ من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جد الْفَتى حِين يعثر
فَذا جدول فِي الغمد تسقى بِهِ المنى ... وَإِذا غُصْن فِي الْكَفّ يجنى فيثمر ...

وَقَوله ... أَفِي كل حِين مصرع لعَظيم ... أصَاب المنايا حادثي وقديمي
وَكَيف اهتدائي فِي الخطوب إِذا دجت ... وَقد فقدت عَيْنَايَ ضوء نُجُوم ...

وَقَوله ... وَكَأن النُّجُوم فِي اللَّيْل جَيش ... دخلُوا للكمين فِي جَوف غَابَ
وَكَأن الصَّباح قانص طير ... قبضت كَفه بِرَجُل غراب ...

وَقَوله ... ولرب حَان قد أدرت بديره ... خمر الصِّبَا مزجت بصفو خموره
فِي فتية جعلُوا الزقاق تكاءهم ... متصاغرين تخشعاً لكبيره
وترنم الناقوس عِنْد صلَاتهم ... ففتحت من عَيْني لرجع هديره ...

(1/81)


وَقَوله ... أصبيح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا
هَب من نعسته منفتلاً ... مسبلاً للكم مرخ للردا
يمسح النعسة من عَيْني رشاً ... صائد فِي كل يَوْم أسدا
قلت هَب لي يَا حَبِيبِي قبْلَة ... تشف من عمك تبريح الصدا
فانثنى يَهْتَز من مَنْكِبه ... قَائِلا لَا ثمَّ أَعْطَانِي اليدا
كلما كلمني قبلته ... فَهُوَ إِمَّا قَالَ قولا رددا
كَاد أَن يرجع من لثمي لَهُ ... وارتشافي الثغر مِنْهُ أدردا
قَالَ لي يلْعَب خذلي طائراً ... فتراني الدَّهْر أَمْشِي فِي الكدا
شربت أعطافه خمر الصِّبَا وثناه الْحسن حَتَّى عربدا
وَإِذا بت بِهِ فِي رَوْضَة ... أغيداً يقرو نباتاً أغيدا
قَامَ فِي اللَّيْل بجيد أتلع ... ينفض اللمة من دمع الندى
أححت من غصتي فِي نهدها ... ثمَّ عضت حر خدي عمدا
فَأَنا الْمَجْرُوح من عضتها ... لَا شفاني الله مِنْهَا أبدا ...
وَمن محاسنة قَوْله ... وَفد فغرت فاها دجى كل زهرَة ... إِلَى كل ضرع للغمامة حافل
وَمَرَّتْ جيوش الزن رهوا كَأَنَّهَا ... عَسَاكِر زنج مذهبات المناصل ...

(1/82)


.. وخلفت الخضراء فِي غر زهرها ... كلجة بَحر كللت باليعالل
تخال بهَا زهر الْكَوَاكِب نرجساً ... على شط نهر للمجرة سَائل ...

وَمن بدائعه قَوْله فِي صفة برغوث
أسود زنجي وَأَهلي وَحشِي لَيْسَ بوان وَلَا زميل كَأَنَّهُ جُزْء لَا يتَجَزَّأ من ليل وشونيزة وثبتها غريزة أَو نقطة مداد أَو سويداء قلب فَوَائِد شربه عب ومشيه وثب يكمن نَهَاره ويسري ليله يدْرك بطعن مؤلم ويستحل دم كل مُسلم مساور للأساورة يجر ذيله على الْجَبَابِرَة يتكفر بأرفع الثِّيَاب ويهتك ستر كل حجاب وَلَا يحفل ببواب يرد مناهل الْعَيْش العذبة ويصل إِلَى الأحراج الرّطبَة لَا يمْنَع مِنْهُ أَمِير وَلَا ينفع فِيهِ غيرَة غيور شَره مبثوث وَعَهده منكوث وَهَكَذَا كل برغوث
وَقَوله ... وقفنا على جمر من الْمَوْت وَقْفَة ... صلى لظاه دأب قومِي ودابها
إِذا الشَّمْس رامت فِيهِ أكل لحومنا ... جرى جشعاً فَوق الْجِيَاد لُعَابهَا ...

وَقَوله ... وَقَالَت النَّفس لما أَن خلوت بهَا ... أَشْكُو إِلَيْهَا الْهوى خلوا من النعم
حتام أَنْت على الضراء مُضْطَجع ... معرس فِي ديار الظُّلم وَالظُّلم ...

وَقَوله ... ومنتن الرّيح إِن نَاجَيْته أبدا ... كَأَنَّمَا مَاتَ فِي خيشومه فار ...

(1/83)


وَقَوله فِي أبي عَامر بن المظفر ... جمعت بِطَاعَة حبك الأضداد ... وتألف الأفصاح والأعياد
كتب الْقَضَاء بِأَن جدك صاعد ... وَالصُّبْح رق والظلام مداد ...

وَقَوله ... كَأَن هامته وَالرمْح يحملهَا ... غراب بَين على بَان النقا نعقا ...

وَقَوله ... أَبى دمعنا يجْرِي مَخَافَة شامت ... فنظمه فَوق المحاجر ناظم
وراق الْهوى منا عيُونا كَرِيمَة ... تبسمن حَتَّى مَا تروق المباسم ...

وقاسى فِي مَرضه شدَّة فَقَالَ عِنْد مَوته ... خليلي من ذاق الْمنية مرّة ... فقد ذقتها خمسين قولة صَادِق ...

وَكَانَ مَوته من فالج أَقَامَ بِهِ مُدَّة ورام أَن يقتل نَفسه لشدَّة الآلام وَقَالَ فِي تِلْكَ الْعلَّة ... تَأَمَّلت مَا أفنيت من طول مدتي ... فَلم أره إِلَّا كلمحة نَاظر
وحصلت مَا أدْركْت من طول لذتي ... فَلم أَلفه إِلَّا كصفقة خاسر
وَمَا أَنا إِلَّا أهل مَا قدمت يَدي ... إِذا خلفوني بَين أهل الْمَقَابِر
سقى الله فتياناً كَأَن وُجُوههم ... وُجُوه مصابيح النُّجُوم الزواهر
يوقولن قد أودى أَبُو عَامر الْعلَا ... أقلوا فَقدما مَاتَ آبَاء عَامر
هُوَ الْمَوْت لم يحرس بأسجاع خَاطب ... بليغ وَلم يعْطف بِأَنْفَاسِ شَاعِر ...

(1/84)


وَتُوفِّي يَوْم الْجُمُعَة آخر جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَلم يشْهد على قبر أحد مَا شهد على قَبره من الْبكاء والعويل وَأنْشد عَلَيْهِ من المراثي جملَة موفورة وَمِمَّنْ رثاه أَبُو حَفْص بن برد الْأَصْغَر
وَقَالَ الحجاري كَانَ ألزم للكأس من الأطيار بالاغصان واولع بهَا من خيال الأَصْل بالهجران واستوزره المستظهر ثمَّ اصطفاه هِشَام المعتد ورثاه لما خلع بقصيدة مِنْهَا ... أحللتني بمحلة الجوزاء ... وَرويت عنْدك من دم الْأَعْدَاء
وحملتني كالصقر فَوق معاشر ... تحتي كَأَنَّهُمْ بَنَات المَاء ...

وَذكره الثعالبي فِي الْيَتِيمَة وَأنْشد لَهُ الشقندي مَا تقدم فِي رسَالَته والحجاري فِي الحديقة
22 - عَم أبي عَامر بن شَهِيد
اشند هَل فِي حَانُوت عطار ... صدوداً وَإِن كَانَ الحبيب مساعفاً ... وبعداً وَإِن كَانَ المزار قَرِيبا
وَمَا فتئت تِلْكَ الديار حَبِيبَة ... لنا قبل أَن نلقى بِهن حبيباً
وَلَو أسعفتنا بالمودة فِي الْهوى ... لأدنين إلفاً أَو شغلن رقيباً
وَمَا كَانَ يجفو ممرضي غير أَنه ... عدته العوادي أَن يكون طَبِيبا ...

(1/85)


23 - أَخُو أبي عَامر بن شَهِيد
أنْشد لَهُ فِي الْكتاب الْمَذْكُور ... شَكَوْت إِلَيْك صروف الزَّمَان ... فَلم تعد أَن كنت عون الزَّمَان
وتقصر عَن نعمتي قدرتي ... فيا لَيْتَني لسوى من نماني
وَلَا غرو للْحرّ عِنْد الْمضيق ... أَن يتَمَنَّى وضيع الْأَمَانِي ...

42 - أَبُو حَفْص أَحْمد الْأَصْغَر بن مُحَمَّد بن أبي حَفْص أَحْمد الْأَكْبَر بن برد
قَالَ ابْن بسام عَنهُ فلك البلاغة الدائر وَمثلهَا السائر وَوَصفه بالنظم والنثر وَمَا أورد لَهُ يُغني عَن الإطناب فِي وَصفه وَلحق جده أَبَا حَفْص وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَسَيذكر فِي مَدِينَة الزاهرة وصنف كتابا رَفعه للمعتصم بن صمادح صَاحب المرية فِي بعض فصوله فِي الْحَمد
الْحَمد لله وَاصل الْحَبل بعد انْقِطَاعه وملائم الشّعب بعد انصداعه المصبح بِنَا من ليل الخطوب والماحي عَنَّا غياهب الكروب
الْحَمد لله وَإِن عثرت الجدود وهوت نُجُوم السُّعُود المرجو للإدالة

(1/86)


والمدعو فِي الْإِقَالَة والقادر على تَعْجِيل الِانْتِصَار والاخذ للاسلام بالثار أما بعد فَأَما أتيت البصائر من تَعْلِيل وَلَا الْأَعْدَاد من تقليل وَلَا الْقُلُوب من خور وَلَا السواعد من قصر وَلَا الْجِيَاد من لؤم أعراق وَلَا الصُّفُوف من سوء اتساق وَلَكِن النَّصْر تَأَخّر وَالْوَقْت الْمَقْدُور حضر وَلم تكن لتمضي سيوف لم يشإ الله إمضاءها وَلَا لتبقى نفوس لم يرد الله بقاءها وَفِي قَوْله تَعَالَى أجمل التأسي وَأحسن التعزي {إِن يمسسكم قرح فقد مس الْقَوْم قرح مثله وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس}
الْحَمد لله مولف الآراء وجامع الْأَهْوَاء على مَا أغمد من سيف الْفِتْنَة وأخمد من نَار الإحنة
الْحَمد لله الَّذِي صير اعداءنا فِي اعدادنا واضدادنا من أعضادنا وَالسُّيُوف المسلولة علينا مسلولة دُوننَا
وَفِي بعض فصوله فِي الشُّكْر
الشُّكْر عوذة على العارفة وتميمة فِي جيد النِّعْمَة الْكفْر غراب ينعب على منَازِل النعم الشُّكْر بيد النِّعْمَة أَمَان وعَلى وَجه العارفة صوان
وَفِي بعض فصوله فِي وصف الْقَلَم
المداد كالبحر والقلم كالغواص وَاللَّفْظ كالجوهر والطرس كالسلك مَا أعجب شَأْن الْقَلَم يشرب ظلمَة ويلفظ نورا قَاتل الله الْقَلَم كَيفَ

(1/87)


يفل السنان وَهُوَ يكسر بالأسنان فَسَاد الْقَلَم خدر فِي أَعْضَاء الْخط رداءة الْخط قذى فِي عين الْقِرَاءَة
وَفِي بعض فصوله فِي الْأمان
أما بعد فَإِنَّكُم سَأَلْتُم الْأمان أَوَان تلمظت السيوف إِلَيْكُم وحامت الحتوف عَلَيْكُم وهمت حظائر الخذلان أَن تنفرج لنا عَنْكُم وأيدي الْعِصْيَان أَن تتحفنا بكم وَلَو كلنا لكم بصاعكم وَلم نرع فِيكُم ذمَّة اصطناعكم لضاق عَلَيْكُم ملبس الغفران وَلم ينسدل عَلَيْكُم ستر الامان وَلَكنَّا عَملنَا أَن كهولكم الخلوف عَنْكُم وَذَوي الْأَسْنَان العاصين لكم مِمَّن يهاب وسم الخلعان وَيخَاف السُّلْطَان وَأَنَّهُمْ لَا يراسلونكم فِي ميدان مَعْصِيّة وَلَا يزاحمونكم فِي منهل حيرة وَلَا يماشونكم إِلَى موقف وداع وَلَو تحرجنا أَن نقطع أعضادهم بكم ورجاؤنا أَن يكون الْعَفو على الْمقدرَة تأديباً لكم لشربت دماءكم سِبَاع الكماة وأكلت لحوكم ضباع الفلاة وَقد أعطينا بتأميننا إيَّاكُمْ عهد الله وذمته وَنحن لَا نخفرهما أَيَّام حياتنا إِلَّا أَن تكون لكم كرة ولغدرتكم ضرَّة فَيَوْمئِذٍ لَا إعذار إِلَيْكُم وَلَا إقْصَار عَنْكُم حَتَّى تحصدكم ظباة السيوف وتقضيى دُيُون أَنفسكُم غرَّة الحتوف
وَفِي بدأة عتاب أظلم لي جو صفائك وتوعر على أَرض اخائك

(1/88)


وَفِي بعض فصوله فِي الاستزارة
نَحن من منزل فلَان اعزه بِحَيْثُ نلتمح سناك ونتنسم رياك وَقد رَاعنا الْيَوْم باكفهرار وَجهه وَمَا ذَر من كافور ثلجه فادرعنا لَهُ بالستور وانغمسنا بَين جُيُوب السرُور ورفعنا لبنات الزِّنَاد ألوية حَمْرَاء وأجرينا لبنات الكروم خيلاً شقراء وأحببنا أَن نشْهد جَيش الشتَاء كَيفَ يهْزم وأنفاس الْبرد كَيفَ تكظم
فصل فِي ذمّ مؤاخ وَهُوَ من أبدع مَا قيل فِي ذَلِك
خليت عَنهُ يَدي وخلدي قلاه خلدي بيض الأنوف من رفده أمكن وَصفا المشقر من خَدّه أَلين منزور النوال رث الْمقَال أَحَادِيث وعده لَا تعود بنفع وَلَا هِيَ من غرب وَلَا نبع مطحلب الْوَجْه مراق مَاء الْحيَاء مظلم الْخلق دبوري الرّيح مُقْشَعِر الْوَجْه طاشت عَنهُ الصنيعة وضاعت فِيهِ الْيَد على وَجهه من التعبيس فَقل ضَاعَ مفتاحه وليل مَاتَ صباحه غنى من الْجَهْل مُفلس من الْعقل تتضاءل النعم لَدَيْهِ وتقبح محَاسِن الْإِحْسَان إِلَيْهِ لم ينظم عَلَيْهِ قطّ در ثَنَاء وَلَا اسْتحق أَن يلبس بزَّة مديح غربال حَدِيث كلما أجال قدحاً كَانَ غير فائز أَو رمى سَهْما جَاءَهُ غير صائب كبد الزَّمَان عَلَيْهِ قاسية وَنعم الله لَهُ ناسية شَرّ بقة لغرس الْمَوَدَّة وبذر الإخاء قصير عمر الْوَفَاء للإخوان عون عَلَيْهِم مَعَ الزَّمَان كدر الدُّنْيَا وسقم الْحَيَاة

(1/89)


وَمن محَاسِن مَا أوردهُ ابْن بسام من نظمه قَوْله ... لما بدا فِي لَا زور ... دي الْحَرِير وَقد بهر
كَبرت من فرط الْجمال ... وَقلت مَا هَذَا بشر
فاجابني لَا نتكرن ... ثوب السَّمَاء على الْقَمَر ...

وَقَوله ... أقبل فِي ثوب لازورد ... قد افرع التبر من عَلَيْهِ
كَأَنَّهُ الْبَدْر فِي سَمَاء ... قد طرز الْبر جانبيه ...

وَقَوله ... صَحَّ الْهوى منا ولكنني ... أعجب من بعد لنا يقدر
كأننا فِي فلك وَاحِد ... فَأَنت تخفى وَأَنا أظهر ...
وَقَوله ... لما رمته الْعُيُون ظالمة ... وأثرت فِي جاله الحدق
لبس من نسج شعره زرداً ... صيغت لَهُ من زمرد حلق ...

وَقَوله ... رقم العذار غلالتيه بأحرف ... مَعنا الْهوى فِي طيها متناهي
نَادَى عَلَيْهِ الْحسن حِين لَقيته ... هَذَا المنمنم فِي طراز الله ...

وَقَوله ... ومازلت أَحسب فِيهِ السَّحَاب ... ونار بوارقها فِي لَهب
بَخَاتِي تُوضَع فِي سَيرهَا ... وَقد قرعت بسياط الذَّهَب ...

(1/90)


وَقَوله ... وَقد فتح الْأُفق للناظري ... ن عَن شهلة الصُّبْح جفن الغبش ...

وَقَوله ... عَارض أقبل فِي جنح الدجى ... يتهاذى كتهادي ذالوجى لؤلؤه
بددت ريح الصِّبَا لؤلؤه ... فانبرى يُوقد عَنهُ سرجا ...

وَقَوله ... وَكَأن اللَّيْل حِين لوى ... ذَاهِبًا وَالصُّبْح قد لاحا
كلة سَوْدَاء أحرقها ... عَامِد أَسْرج مصباحا ...

وَقَوله ... والبدر كالمرآة غير صقله ... عَبث العذارى فِيهِ بالأنفاس
وَاللَّيْل ملتبس بضوء صباحه ... مثل التباس النقس بالقرطاس ...

وحعله الحجاري فَوق جده فِي النثر قَالَ وَأما النّظم فَلَا أستجيز أَن أجعَل بَينهمَا أفعل
رَحل من قرطبة إِلَى المرية فاستوزره المعتصم بن صمادح ثمَّ رَحل إِلَى مُجَاهِد صَاحب دانية

(1/91)


بَيت بني الطبني
أصلهم من طبنة قَاعِدَة الزاب والوافد مِنْهُم على الأندلس فِي أَيَّام ابْن أبي عَامر أَبُو مُضر