النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 215]
السنة التى حكم فيها عبدويه بن جبلة على مصر وهى سنة خمس عشرة ومائتين- فيها وصل أبو إسحاق المعتصم من مصر الى الموصل واجتمع بأخيه الخليفة عبد الله المأمون وعرّفه ما فعل بمصر فشكره على ذلك. وفيها سار المأمون من الموصل الى غزو دابق «1» وأنطاكية فغزاهما وتوجّه إلى الشأم ودخلها وأقام بها، وكتب الى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم أن يأخذ الجند بالتكبير اذا صلّوا الجمعة، وبعد الصلوات الخمس اذا قضوا الصلاة أن يصيحوا قياما ويكبّروا ثلاث تكبيرات، ففعل ذلك فى شهر رمضان فقال الناس: هذه بدعة ثالثة.
قلت: البدعة الأولى لبس الخضرة وتقريب للعلويّة وإبعاد بنى العباس؛ والثانية القول بخلق القرآن وهى المصيبة العظمى؛ والثالثة هذه. ثم فيها أباح المأمون أيضا المتعة فقال الناس: هذه بدعة رابعة. وفيها غضب المأمون على الأمير علىّ بن هشام وبعث اليه عجيفا «2» وأحمد بن هشام لقبض أمواله.
وفيها توفّى الأمير إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علىّ بن عبد الله بن العباس أبو الحسن الهاشمىّ العباسىّ، كان من أعيان بنى العباس وأفاضلهم، وولى الأعمال الجليلة بعدّة بلاد.
وفيها توفيت زبيدة بنت جعفر بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله ابن العباس، أم جعفر الهاشمية العبّاسيّة، واسمها أمة العزيز زوجة هارون الرشيد

(2/213)


وبنت عمّه وأمّ ولده الأمين محمد المقتول بيد طاهر بن الحسين بسيف المأمون، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه. وماتت زبيدة وهى أعظم نساء عصرها دينا وأصلا وجمالا وصيانة ومعروفا، أحصى ما أنفقته فى حجّة واحدة فكان ألفى ألف دينار، قاله أبو المظفّر فى مرآة الزمان.
قلت: ولعلّها عمّرت فى هذه الحجّة المصانع التى بطريق الحجاز أو بعضها اهـ.
وكان فى قصر زبيدة مائة جارية تقرأ القرآن. فكان يسمع من قصرها دوىّ كدوىّ النّحل من القراءة، ولم تزل زبيدة فى حشمها أيام زوجها الرشيد وفى أيام ولدها محمد الأمين وفى أيام ابن زوجها عبد الله المأمون، لم يتغيّر من حالها شىء الى أن ماتت فى هذه السنة؛ وقيل فى سنة ستّ عشرة ومائتين وهو الأشهر. وأما ما فعلته من المآثر والمصانع بالحجاز وغيره فهو معروف لا يحتاج إلى ذكره هنا، وكانت مع هذا الجمال والحشمة فصيحة لبيبة عاقلة مدبّرة؛ قيل: إنّ المأمون دخل اليها بعد قتل ابنها الأمين يعتذر اليها ويعزّيها فيه ويسكّن ما بها من الحزن، فقال لها: يا ستّاه، لا تأسفى «1» عليه فإنى عوضه لك؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا آسف «2» على ولد خلّف أخا مثلك! ثم بكت وأبكت المأمون حتى غشى عليه.
قلت: ولم يكن قتل الأمين بإرادة أخيه المأمون وانما اقتحمه طاهر بن الحسين وقتله من غير إذن المأمون، وحقد المأمون عليه لذلك ولم يسعه الا السكوت.

(2/214)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو زيد الأنصارىّ صاحب العربيّة بالبصرة واسمه سعيد بن أوس، والعلاء بن هلال الباهلىّ بالرّقّة، ومحمد ابن عبد الله الأنصارىّ القاضى بالبصرة، ومكّىّ بن ابراهيم الحنظلىّ ببلخ، وعلىّ ابن الحسن بن شقيق بمرو، ومحمد بن مبارك الصّورىّ بدمشق، وإسحاق بن عيسى ابن الطبّاع ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية عيسى بن منصور على مصر
هو عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقىّ «1» مولى بنى نصر بن معاوية أمير مصر، وليها من قبل أبى إسحاق محمد المعتصم بعد عزل عبدويه بن جبلة عنها فى مستهلّ سنة ستّ عشرة ومائتين على الصلاة، وسكن عيسى بالمعسكر على عادة الأمراء، وجعل على شرطته أبا المغيث يونس «2» بن ابراهيم. وفى أيام ولايته انتقضت عليه أسفل الأرض بغربها «3» أعنى بالوجه البحرىّ، وانضم الأقباط عليهم وذلك فى جمادى الأولى، وحشدوا وجمعوا فكثر عددهم وساروا نحو الديار المصرية؛ فتجهّز عيسى وجمع العساكر والجند لقتالهم فضعف عن لقائهم وتقهقر بمن معه، فدخلت الأقباط وأهل الغربية مصر وأخرجوا منها عيسى هذا على أقبح وجه لسوء سيرته، وخرج معه أيضا متولّى خراج مصر وخلعوا الطاعة؛ فقدم الأفشين

(2/215)


من برقة وتهيّأ لقتال القوم فى النصف من جمادى الآخرة، وانضمّ عليه عيسى ابن منصور هذا ومن انضاف اليه، وتجمعوا وتجهّزوا لقتال القوم وخرجوا فى شوّال وواقعوهم فظفروا بهم بعد أمور وحروب وأسروا وقتلوا وسبوا؛ ثم مضى الأفشين الى الحوف وقاتلهم أيضا لما بلغه عنهم وبدّد جمعهم وأسر منهم جماعة كبيرة بعد أن بضّع فيهم وأبدع؛ ودامت الحروب فى السنة المستمرّة بمصر فى كلّ قليل الى أن قدمها أمير المؤمنين عبد الله المأمون لخمس خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور المذكور وحلّ لواءه وعزله ونسب له كلّ ما وقع بمصر ولعمّاله؛ ثم جهّز العساكر لقتال أهل الفساد وأحضر بين يديه عبدوس الفهرىّ فضربت عنقه لأنه كان أيضا ممن تغلّب على مصر. ثم سار عسكره لقتال أسفل الأرض أهل الغربية والحوف وأوقعوا بهم وسبوا القبط وقتلوا مقاتلتهم وأبادوهم وقمعوا أهل الفساد من سائر أراضى مصر بعد أن قتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم رحل الخليفة المأمون من مصر لثمان عشرة خلت من صفر بعد أن أقام بمصر وأعمالها (مثل سخا «1» وحلوان وغيرهما) تسعة وأربعين يوما؛ وولّى على صلاة مصر كيدر وعلى الشّرطة أحمد بن بسطام الأزدىّ من أهل بخارا. وعمّر المقياس وجسرا آخر بالجزيرة تجاه الفسطاط.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 216]
السنة التى حكم فيها عيسى بن منصور على مصر وهى سنة ست عشرة ومائتين- فيها كرّ المأمون راجعا «2» من العراق الى غزو الروم لكونه بلغه أنّ ملك

(2/216)


الروم قتل خلقا من المسلمين من أهل طرسوس والمصّيصة، فسار اليها حتى وصلها فى جمادى الأولى من السنة فأقام بها الى نصف شعبان؛ وجهّز أخاه أبا إسحاق محمدا المعتصم لغزو الروم فسار وافتتح عدّة حصون، ثم وجّه المأمون أيضا القاضى يحيى ابن أكثم الى جهة أخرى من الروم فتوجّه وأغار وقتل وسبى، ثم رجع المأمون فى آخر السنة الى دمشق وتوجّه منها الى الديار المصرية حسبما تقدّم ذكره ودخلها فى أوّل سنة سبع عشرة ومائتين.
وفيها توفى محمد بن عبّاد بن حبيب بن المهلّب بن أبى صفرة، كان من أكابر؟؟؟ مراء، ولى إمرة البصرة والصلاة بها وغيرها، وكان جوادا ممدّحا قدم مرّة على المأمون فقال له: يا محمد أردت أن أولّيك فمنعنى إسرافك فى المال؛ فقال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء الظنّ بالمعبود؛ فقال له المأمون: لو شئت أبقيت على نفسك؛ فقال محمد: من له مولى غنىّ لا يفتقر، فاستحسن المأمون ذلك منه وولّاه عملا.
وقيل للعتبىّ: مات محمد بن عبّاد؛ فقال: نحن متنا بفقده وهو حىّ بمجده.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى حبّان «1» بن هلال، وعبد الملك بن قريب الأصمعىّ، ومحمد بن كثير المصّيصىّ الصّنعانىّ، والحسن بن سوّار البغوىّ، وعبد الله بن نافع المدنىّ الفقيه، وعبد الصمد بن النعمان البزاز «2» ، ومحمد بن بكّار بن بلال قاضى دمشق، ومحمد بن عبّاد المهلّبىّ أمير البصرة، ومحمد ابن سعيد بن سابق نزيل قزوين، وزبيدة زوجة الرشيد وابنة عمه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

(2/217)


ذكر ولاية كيدر على مصر
هو كيدر واسمه نصر بن عبد الله وكيدر شهرة غلبت عليه، الأمير أبو مالك الصّغدىّ؛ ولى إمرة مصر بعد عزل عيسى بن منصور فى صفر سنة سبع عشرة ومائتين من قبل المأمون على الصلاة فسكن المعسكر على عادة الأمراء بعد رحيل المأمون، وجعل على شرطته ابن «1» إسبنديار. ثم بعث المأمون برجل من العجم يسمى بابن بسطام على الشّرطة فولى مدّة ثم عزله كيدر لسوء سيرته لرشوة ارتشاها وضربه بالسوط فى صحن الجامع، ثم ولّى ابنه المظفّر عوضه. ودام كيدر على إمرة مصر الى أن ورد عليه كتاب المأمون فى جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة ومائتين بأخذ «2» الناس بالمحنة- أعنى بالقول بخلق القرآن- وكان القاضى بمصر يومئذ هارون بن عبد الله الزهرىّ، فأجاب القاضى والشهود، ومن توقّف منهم عن القول بخلق القرآن سقطت شهادته. وأخذ كيدر يمتحن القضاة وأهل الحديث وغيرهم، وكان كتاب المأمون الى كيدر يتضمّن ذلك: «وقد عرف أمير المؤمنين أنّ الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو «3» الرعية وسفلة العامّة ممن لا نظر له ولا رويّة ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه، وقصور أن يقدروا الله حقّ قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرّقوا بينه وبين خلقه؛ وذلك أنهم ساووا بين الله «4» وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه؛ وقد قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
، وكلّ ما جعله فقد خلقه؛ كما قال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ
؛ وقال تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ

(2/218)


ما قَدْ سَبَقَ
؛ فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها. وقال عزّ وجلّ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
. والله تعالى محكم كتابه ثم مفصّله، فهو خالقه ومبتدعه.
ثم انتسبوا الى السنة وأنهم أهل الحقّ والجماعة وأنّ من سواهم أهل الكفر والباطل؛ فاستطالوا بذلك وغرّوا به الجهّال، حتى مال قوم من أهل السمت «1» الكاذب والتخشّع لغير الله الى موافقتهم، فنزعوا الحقّ الى باطلهم واتخذوا دين «2» الله وليجة «3» إلى ضلالهم. الى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أنّ أولئك شرّ الأمة المنقوصون من التوحيد حظّا، أوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق فى أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين الله؛ وأحقّ أن يتّهم فى صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به.
ومن عمى «4» عن رشده وحظه عن الإيمان بالتوحيد، كان عما سوى ذلك أعمى وأضل سبيلا. ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه وتخرّص الباطل ولم يعرف الله حقّ معرفته. فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا هذا، وامتحنهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون فى خلق الله [القرآن «5» ] وإحداثه، وأعلمهم أنى غير مستعين فى عمل ولا واثق بمن لا يوثق بدينه. فإذا أقرّوا بذلك ووافقوا [عليه «6» ] فمرهم بنظر «7» من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم عن القرآن، وترك شهادة من لم يقرّ أنه مخلوق؛ واكتب الينا بما يأتيك عن قضاة أهل أعمالك فى مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. ثم كتب المأمون بمثل ذلك الى سائر عمّاله والى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعىّ ابن عمّ طاهر بن الحسين أن يرسل اليه سبعة نفر، وهم:
محمد بن سعد كاتب الواقدىّ، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملى يزيد

(2/219)


ابن هارون، واسماعيل بن داود، واسماعيل بن أبى مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدّورقىّ؛ فأشحصوا اليه، فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه فردّهم من الرّقة الى بغداد؛ وكانوا توقّفوا أوّلا ثم أجابوه خوفا من العقوبة. ثم كتب المأمون أيضا الى إسحاق بن ابراهيم المذكور بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم «1» بما أجاب به هؤلاء السبعة؛ ففعل ذلك، فأجابه طائفة وامتنع آخرون. ثم كتب اليه كتابا آخر من جنس الأوّل وأمره بإحضار من امتنع فأحضر جماعة: منهم أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وبشر بن الوليد الكندىّ، وأبو حسّان الزّيادىّ، وعلىّ بن أبى مقاتل، والفضل بن غانم، وعبيد الله بن عمر القواريرىّ، وعلىّ بن الجعد، وسجّادة- واسمه الحسن بن حمّاد- والذّيّال بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد «2» ، وكان حينئذ ببغداد، وسعدويه الواسطىّ، وإسحاق بن أبى إسرائيل وابن الهرش، وابن عليّة الأكبر، ومحمد بن نوح العجلىّ، ويحيى بن عبد الرحمن العمرىّ، وأبو نصر التمّار، وأبو معمر القطيعىّ، ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم؛ وعرض عليهم كتاب المأمون فعرّضوا وورّوا ولم يجيبوا ولم ينكروا؛ فقال لبشر بن الوليد: ما تقول؟ قال: قد عرّفت أمير المؤمنين غير مرّة؛ قال: فالآن قد تجدّد من أمير المؤمنين كتاب؛ قال: أقول: كلام الله؛ قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير هذا الذي قلت لك، إنى قد استعهدت أمير المؤمنين أنى لا أتكلّم فيه. ثم قال لعلىّ بن أبى مقاتل: ما تقول؟ قال: القرآن كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشىء سمعنا وأطعنا. ثم أجاب أبو حسّان الزيادىّ بنحو من ذلك. ثم قال لأحمد بن حنبل رضى الله عنه: ما تقول؟ قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد على ذلك.

(2/220)


قلت: والامام أحمد بن حنبل رضى الله عنه هو أعظم من قام فى إظهار السنّة وثبّته الله على ذلك، ولولاه لفسدت عقائد جماعة كثيرة، وقد تداولته الخلفاء بالعقوبة على القول بخلق القرآن وهو يمتنع من ذلك أشدّ امتناع، ويأتى بالأدلّة القاطعة، الى أن خلّصه الله منهم وهو على كلمة الحق. ثم قال لابن البكّاء الأكبر:
ما تقول؟ قال: أقول القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك؛ فقال إسحاق ابن ابراهيم: والمجعول مخلوق! قال نعم؛ قال: فالقرآن مخلوق! قال: لا أقول مخلوق. ثم وجّه إسحاق بن إبراهيم بجواباتهم الى المأمون. فورد عليه كتاب المأمون:
بلغنا ما أجاب به متصنّعة أهل القبلة وملتمسو الرياسة فيما ليسوا له بأهل؛ فمن لم يجب بأنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية «1» . ثم قال فى الكتاب: وأمّا ما قال بشر فقد كذب، لم يكن جرى بينه وبين أمير المؤمنين فى ذلك عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الاخلاص والقول بأن القرآن مخلوق. فادع به اليك فإن تاب فاشهر أمره، وان أصرّ على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه وابعث الينا برأسه؛ وكذلك ابراهيم. وأما علىّ بن أبى مقاتل فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلّل وتحرّم. وأما الذيّال فأعلمه أنه كان فى الطعام الذي سرقه من الأنبار ما يشغله. وأمّا أحمد بن يزيد وقوله: إنه لا يحسن الجواب فى القرآن، فأعلمه أنه صبىّ فى عقله لا فى سنّه، جاهل «2» سيحسن الجواب اذا أدّب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك. وأمّا أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى مقالته واستدلّ على جهله وآفته بها. وأمّا الفضل

(2/221)


ابن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر وما اكتسب من الأموال فى أقل من سنة، يعنى فى ولايته القضاء. وأمّا الزّيادىّ فأعلمه واذكر له ما يشينه «1» . وأمّا أبو نصر التّمّار فانّ أمير المؤمنين شبّه خساسة عقله بخساسة «2» متجره.
وأمّا ابن نوح وابن حاتم [والمعروف «3» بأبى معمر] ، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ «4» محاربتهم فى الله [ومجاهدتهم «5» إلا لإربائهم «6» ] وما نزل به كتاب الله فى أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع «7» الإرباء شركا وصاروا للنصارى شبها! ثم ذكر لكل واحد منهم شيئا وبّخه به.
حتى قال: ومن لم يرجع عن شركه ممن سمّيت بعد بشر وابن المهدىّ فآحملهم موثقين الى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم، فإن لم يرجعوا حملهم على السيف؛ قال: فأجابوا كلّهم عند ذلك الا أحمد بن حنبل وسجّادة ومحمد بن نوح والقواريرىّ، فأمر بهم فقيّدوا، ثم سألهم من الغد وهم فى القيود؛ فأجاب سجادة، ثم عاودهم بالثانى فأجاب القواريرىّ. فوجّه بأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح. ثم بلغ المأمون أنهم إنما أجابوا مكرهين، فغضب وأمر بإحضارهم اليه؛ فلما صاروا الى الرقّة بلغهم وفاة المأمون، وكذا «8» ورد الخبر على أحمد بن حنبل. وأمّا محمد بن نوح فكان عديلا لأحمد بن حنبل فى المحمل فمات، فوليه أحمد وصلّى عليه ودفنه. هذا ما كان بالعراق.
وأمّا مصر، فبينما كيدر فى امتحان علمائها وفقهائها ورد عليه الخبر بموت المأمون فى شهر رجب قبل أن يقبض على من طلبه المأمون، وأنّ المعتصم محمدا بويع بالخلافة

(2/222)


من بعده. ثم عقيب ذلك ورد على كيدر كتاب المعتصم ببيعته ويأمره بإسقاط من فى الديوان من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعل كيدر ذلك؛ فخرج يحيى بن الوزير الجروىّ «1» فى جمع من لخم وجذام عن الطاعة، فتجهز كيدر لحربهم، فأدركته المنية ومات فى شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر بن كيدر بعده على مصر، فأقرّه المعتصم على إمرة مصر؛ فكانت ولايته على مصر سنتين [وشهرين «2» ] تنقص أياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 217]
السنة الأولى التى ولى فيها كيدر على مصر وهى سنة سبع عشرة ومائتين- فيها خرج المأمون من مصر وتوجّه الى الشأم ثم غزا الروم وأقبل ملك الروم توفيل فى جيوشه فجهز المأمون لحربه الجيوش، ثم كتب توفيل للمأمون كتابا يطلب فيه الصلح فبدأ بنفسه فى المكاتبة وأغلظ فاستشاط المأمون غضبا وقصد الروم فكلموه فى هجوم الشتاء ووعدوه للقابل فثنى عزمه.
وفيها وقع حريق عظيم بالبصرة، يقال: إنه أتى على أكثرها، وكان حريقا عظيما فوق الوصف.
وفيها قتل المأمون عليا وحسينا ابنى هاشم بأذنة «3» فى جمادى الأولى لسوء سيرته «4» .

(2/223)


وفيها توفى عمرو بن مسعدة بن صول أبو الفضل الصّولىّ أحد كتاب المأمون وخاصته، وكان جوادا ممدّحا فاضلا نبيلا جليلا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى حجّاج بن منهال الأنماطىّ بالبصرة، وشريح بن النعمان الجوهرىّ، وموسى بن داود الضّبّىّ الكوفىّ ببغداد، وهشام بن إسماعيل العطّار العابد بدمشق، وعمرو بن مسعدة أبو الفضل الصّولىّ كاتب الإنشاء للمأمون- وقد ذكرناه- وإسماعيل بن مسلمة أخو القعنبىّ بمصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 218]
السنة الثانية من ولاية كيدر على مصر وهى سنة ثمان عشرة ومائتين- فيها اهتمّ المأمون ببناء طوانة «1» وجمع فيها الرجال والصّنّاع وأمر ببنائها ميلا فى ميل، وقرّر ولده العباس على بنائها وغرم عليها أموالا عظيمة، وهى على فم الدّرب مما يلى طرسوس، ثم افتتح المأمون عدّة حصون.
وفيها كانت المحنة العظيمة المقدّم ذكرها، أعنى القول بخلق القرآن، وأجاب غالب علماء الدنيا بذلك ما خلا جماعة يسيرة؛ وعظم البلاء بالعلماء وضربوا وأهينوا وردعوا «2» بالسيف وغيره، فلم يكن بعد ذلك الا أيام يسيرة ومرض المأمون ببلاد الروم، ولم يزل مرضه يزداد به الى أن مات.

(2/224)


ذكر وفاته ونسبه
هو الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس عبد الله المأمون ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، ولد سنة سبعين ومائة قبل أخيه الأمين محمد بن زبيدة بشهر عند ما استخلف أبوه الرشيد، وأمّه أمّ ولد تسمّى مراجل، ماتت أيام نفاسها به. بويع بالخلافة بعد قتل أخيه الأمين محمد فى أواخر سنة خمس وتسعين ومائة وغيّر لقبه بأبى جعفر «1» وكان أوّلا أبا العباس؛ وكان نبيلا قرأ العلم فى صغره وسمع من هشيم وعبّاد بن العوّام ويوسف ابن عطيّة وأبى معاوية الضّرير وطبقتهم، وبرع فى الفقه على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه والعربية وأيام الناس. ولما كبر عنى بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها، فجرّه ذلك لقوله بخلق القرآن؛ فكان من رجال بنى العباس حزما وعزما وحلما وعلما ورأيا ودهاء وهيبة وشجاعة وسؤددا وسماحة، لولا أنه شان ذلك كلّه بقوله بخلق القرآن.
قال ابن أبى الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه يعلوه صفرة قد وخطه الشيب، أعين «2» طويل اللحية رقيقها ضيّق الجبين على خدّه خال.
وعن إسحاق الموصلىّ قال: كان المأمون قد سخط على الحسين الخليع الشاعر لكونه هجاه عند ما قتل الأمين؛ فبينما أنا ذات يوم عند المأمون اذ دخل الحاجب برقعة فاستأذن فى إنشادها، فأذن له، فأنشد قصيدة أوّلها:

(2/225)


أجزنى «1» فإنى قد ظمئت إلى الوعد ... متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد
الى أن قال:
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال له المأمون: أحسنت، فقال الحاجب: أحسن قائلها، قال: ومن هو؟
قال: عبدك الحسين بن الضحاك؛ فقال المأمون: لا حيّاه الله! أليس هو القائل:
فلا تمّت الأشياء بعد محمد ... ولا زال شمل الملك فيها مبدّدا
ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال فى الدنيا طريدا مشرّدا
هذه بتلك ولا شىء له عندنا. قال الحاجب: فأين عادة عفو أمير المؤمنين؟
قال: أمّا هذه فنعم، ائذنوا له. فدخل الحسين فقال له المأمون: هل عرفت يوم قتل أخى الأمين أن هاشميّة هتكت؟ قال: لا، قال: فما معنى قولك:
وممّا «2» شجا قلبى وكفكف عبرتى ... محارم من آل الرسول استحلّت
ومهتوكة بالخلد «3» عنها سجوفها ... كعاب «4» كقرن الشمس حين تبدّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالهم ما تمنّت

(2/226)


فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتنى، وروعة فاجأتنى، ونعمة استلبتها بعد أن غمرتنى، فإن عاقبت فبحقّك وإن عفوت فبفضلك؛ فدمعت عينا المأمون وأمر له بجائزة. ومما ينسب الى المأمون من الشعر قوله:
لسانى كتوم لأسراركم ... ودمعى نموم لسرّى مذيع
فلولا دموعى كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لى دموع
وكانت وفاة المأمون فى يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب وحمل الى طرسوس فدفن بها. وكان المأمون حليما عادلا. قيل: إن بعض المشايخ كتب إليه «1» رقعة فيها مرافعة فى إنسان، فكتب عليها المأمون: السّعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أخرجتها من النّصح، فخسرانك فيها أكثر من الرّبح؛ وأنا لا أسعى فى محظور ولا أسمع قول مهتوك فى مستور؛ ولولا أنت فى خفارة شيبك لعاقبتك على جريرتك مقابلة تشبه أفعالك. وكتب بعضهم إلى المأمون رقعة فيها: إن رجلا مات وخلّف مالا عظيما وليس له وارث إلا طفل مرضع، وإن تحكّم القضاء فيه أضاع ماله، وأمير المؤمنين أولى به. قال: فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها، الطفل حبّره الله وأنشاه، والمال ثمّره الله وأنماه، والميّت رحمه الله ورضى عنه وأرضاه؛ وأمّا الساعى لى فى أخذه فلعنه الله وأخزاه.
وقيل: إنه لما مات عمرو بن مسعدة وزير المأمون رفعت اليه رقعة: أن عمرا المذكور خلّف ثمانين ألف ألف دينار. فوقّع المأمون على ظهرها: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا.
وقيل: إن رجلا قدّم الى المأمون رقعة فيها مظلمة، وكان المأمون راكبا بغلة فنفرت منه فألقت المأمون عن ظهرها إلى الأرض فأوهنته؛ فقال: والله لأقتلنّك،

(2/227)


(قالها ثلاث مرّات) ؛ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن الملهوف يركب الخطر وهو عالم بركوبه، وينسى الأدب وهو غير جاهل به، ولو أحسنت الأيام إنصافا لأحسنت التقاضى، ولأن تلقى الله يا أمير المؤمنين حانثا فى يمينك خير من أن تلقاه قاتلا لى. فأعجب المأمون كلامه وأمر بإزالة ظلامته.
وفيها توفى إبراهيم بن إسماعيل أبو إسحاق البصرىّ الأسدىّ المعتزلىّ، كان يعرف بابن عليّة، وهو أيضا من القائلين بخلق القرآن؛ وله مع الشافعىّ مناظرات فى الفقه بمصر، ومع أحمد بن حنبل مناظرات ببغداد بسبب القرآن. فكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: ابن عليّة ضالّ مضلّ. ومات بمصر ليلة عرفة. وكان من أعيان علماء عصره.
وفيها توفّى بشر بن غياث بن أبى كريمة أبو عبد الرحمن المرّيسىّ «1» مولى زيد ابن الخطاب، كان أبوه يهوديا يسكن ببغداد، وتفقّه هو بالقاضى أبى يوسف حتى برع فى علوم كثيرة، ثم اشتغل بعلم الكلام والقول بخلق القرآن. وكان أبو زرعة الرازىّ يقول: بشر بن غياث زنديق.
قلت: ذكر أن عبد الله بن المبارك رأى فى منامه زبيدة وفى وجهها أثر صفرة، فقال لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى فى أوّل معول ضرب بطريق مكة؛ فقال: فما هذه الصّفرة التى فى وجهك؟ فقالت: دفن بين أظهرنا رجل يقال له بشر المرّيسىّ زفرت عليه جهنّم زفرة فاقشعرّ الجلد منّى بسببها، فهذه الصفرة من تلك الزفرة.
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد علىّ الجرجانىّ كان يسكن جبال لبنان.
قال بشر الحافى: رأيته يوما على عين ماء، فهرب منّى وقال: بذنب منّى رأيت

(2/228)


اليوم إنسانا؛ فعدوت خلفه وقلت: أوصنى؛ فقال: عانق الفقر، عاشر الصبر، وعاد الهوى، وعاقّ الشهوات.
وفيها توفّى محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد العجلىّ صاحب الإمام أحمد ابن حنبل، كان عالما زاهدا مشهورا بالسنّة والدّين، امتحن بخلق القرآن فثبت على السّنّة حتى حمل هو والإمام أحمد فى القيود الى المأمون فمات محمد فى الطريق بعانة «1» قبل أن ينظر وجه المأمون. وقد تقدّم ذكره فى أوّل ترجمة كيدر صاحب مصر بأوسع من هذا، رحمه الله
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا سواء.
ذكر ولاية المظفّر بن كيدر على مصر
هو المظفّر بن كيدر أمير مصر، ولى إمرة مصر بعد موت أبيه كيدر باستخلافه، وأقرّه المعتصم على عمل مصر وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين، وسكن المعسكر على عادة الأمراء وتمّ أمره؛ فخرج عليه يحيى بن الوزير الذي كان خرج على أبيه أيضا قبل موته بمدّة يسيرة، فتهيّأ المظفّر هذا لقتاله وحشد وجمع الجند والعساكر وخرج من مصر حتى التقى مع يحيى بن الوزير المذكور وقاتله، فكانت بينهم وقعة هائلة انكسر فيها يحيى بن الوزير المذكور وظفر به المظفّر هذا، وذلك فى جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة ومائتين. ولمّا ولى المعتصم الخلافة أنعم بولاية مصر على أبى جعفر أشناس، ودعى لأشناس على منابر مصر، وبعد مدّة يسيرة صرف أشناس المظفّر هذا عن إمرة مصر فى شعبان من السنة، وولى مصر، بعده موسى بن أبى العباس. وكانت ولاية المظفّر على مصر نحوا من أربعة أشهر

(2/229)


تخمينا، على أنه لم يهنأ له بها عيش من كثرة ما وقع له من الحروب والوقائع فى هذه المدّة اليسيرة، مع أنه ورد عليه كتاب المعتصم يذكر له أن يمتحن العلماء بخلق القرآن بمصر فامتحن جماعة. وبالجملة فكانت أيّامه على مصر قليلة ووقائعه وشروره كثيرة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 219]
السنة التى حكم فى أوّلها كيدر وفى آخرها ابنه المظفّر على مصر وهى سنة تسع عشرة ومائتين- فيها كانت ظلمة شديدة بين الظهر والعصر وزلازل هائلة.
وفيها ظهر محمد بن القاسم العلوىّ الحسينىّ بالطّالقان «1» يدعو الى الرّضى من آل محمد فاجتمع عليه خلق، فأرسل عبد الله بن طاهر له جيوشا فواقعوه عدّة وقعات حتى انهزم محمد، وقصد كورة خراسان فظفر به متولّى نسا «2» فقيّده وبعث به الى ابن طاهر فأرسله الى المعتصم فحبسه، فهرب من السجن ليلة عيد الفطر واختفى فلم يقع له المعتصم على أثر ولا خبر.
وفيها فى جمادى الأولى قدم بغداد إسحاق بن إبراهيم بسبى عظيم من أهل الخرّميّة الذين أوقع بهم بهمذان.
وفيها عاثت الزّطّ بنواحى البصرة فانتدب لحربهم عجيف بن عنبسة فظفر بهم وقتل منهم نحو ثمانمائة، ثم جرت له معهم بعد ذلك حروب، وكانت عدّتهم خمسة «3» آلاف.
وفيها امتحن الخليفة المعتصم أحمد بن حنبل بالقول بخلق القرآن وعاقبه رضى الله عنه، ووقع له أمور يطول شرحها من المناظرات والأسئلة، فثبّته الله على الحق.

(2/230)


وفيها حجّ بالناس العباس بن محمد بن علىّ العباسىّ.
وفيها توفّى على بن عبيدة أبو الحسن الكاتب المعروف بالرّيحانىّ، كان أديبا فصيحا بليغا، صنّف الكتب فى الحكم والأمثال واختصّ بالمأمون. ومن شعره قوله:
تهنّ بمنزليك وجود بذل ... سعودك فيهما خبرا وخبرا
فمن دار السعادة كلّ يوم ... إلى دار الهنا وهلمّ جرّا
وفيها توفّى محمد بن على بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن على ابن أبى طالب أبو جعفر، وقيل: أبو محمد، وكان يلقّب بالجواد وبالمرتضى وبالقانع؛ ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وكان خصيصا عند المأمون، وزوّجه المأمون بابنته أمّ الفضل، وكان يعطيه فى كل سنة ألف ألف درهم؛ ومات لخمس ليال بقين من ذى الحجّة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى علىّ بن عيّاش الألهانى بحمص، وأبو بكر عبد الله بن الزّبير الحميدىّ بمكّة، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأبو غسّان مالك بن اسماعيل النّهدىّ بالكوفة، وإبراهيم بن حميد الطويل، وسعد بن شعبة بن الحجّاج بالبصرة، وأبو الأسود النّضر بن عبد الجبار بمصر، وسليمان ابن داود الهاشمىّ، وغسّان بن الفضل الغلانىّ ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وإصبع واحد، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرة أصابع ونصف.
ذكر ولاية موسى بن أبى العبّاس على مصر
هو موسى بن أبى العباس ثابت، ولى إمرة مصر نيابة عن أشناس بعد عزل المظفّر بن كيدر عنها فى مستهلّ شهر رمضان سنة تسع عشرة ومائتين، ولى

(2/231)


على الصلاة وجمع له الخراج فى بعض الأجيان. ولما ولى مصر سكن بالمعسكر على عادة الأمراء، واستعمل على الشّرطة بعض حواشيه، وحسنت أيّامه وطالت وسكنت الشرور والفتن بآخر أيامه، فإنه فى أوّل الأمر خالفه بعض أهل الحوف ووقع له معهم أمور حتى سكن الأمر وصلح، على أنه كان فى أيام المحنة بخلق القرآن، وأباد فقهاء مصر وعلماءها إلى أن أجاب غالبهم بالقول بخلق القرآن. ودام على إمرة مصر نائبا لأبى جعفر أشناس الى أن صرف عنها فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائتين. وكانت ولايته على إمرة مصر أربع سنين وسبعة أشهر، وولّى أشناس على إمرة مصر بعده مالك بن كيدر الصّغدىّ.
وأما التعريف بأشناس فإنه كان من كبار القوّاد بحيث إن المعتصم جعله فى فتح عمّوريّة من بلاد الروم على مقدّمته، ويتلوه محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى ميمنته إيتاخ القائد، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخيّاط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة. وفيما ذكرناه كفاية لمعرفة مقام أشناس عند الخلفاء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 220]
السنة الأولى من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة عشرين ومائتين- فيها عقد الخليفة المعتصم على حرب بابك الخرّمىّ، وعلى بلاد الجبال للأفشين، واسمه حيدر بن كاوس، فتجهّز الأفشين وحشد وجمع وسار لحرب بابك وغيره. وفيها وجّه المعتصم أبا سعيد محمد بن «1» يوسف الى أردبيل «2» لعمارة الحصون التى خرّبها بابك فى أيّام عصيانه.

(2/232)


قلت: وقد أفسد بابك هذا فى مدّة عصيانه مدنا كثيرة وأخرب عدّة حصون وأباد العالم، وعجزت الخلفاء والملوك عنه لفراره؛ وطالت أيامه نحو العشرين سنة أو أكثر.
وفيها بنى المعتصم مدينة سرّ من رأى وسكنها، وهى التى تسمّى أيضا سامرّا.
وسبب بنائه لهذه المدينة كثرة مماليكه الأتراك، لأنهم كثروا وتولّعوا بحرم الناس، فشكا أهل بغداد ذلك للمعتصم وقالوا له: تحوّل عنّا وإلا قاتلناك؛ قال: وكيف تقاتلونى وفى عسكرى ثمانون ألف دارع «1» ! قالوا: نقاتلك بسهام الليل- يعنون الدعاء- فقال المعتصم: والله مالى بها طاقة، فبنى لذلك سرّ من رأى وسكنها.
وفيها أسر عجيف جماعة من الزّطّ وقدم بهم بغداد، وكانت عدّتهم سبعة وعشرين ألفا؛ المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا. قاله صاحب المرآة.
وفيها غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وصادره وأخذ منه أموالا عظيمة تفوق الوصف، حتى قيل: إنه أخذ منه عشرة آلاف ألف دينار، واستأصله وأهل بيته ونفاه الى قرية بطريق الموصل؛ وولّى بعده الوزارة محمد بن عبد الملك ابن الزيّات.
وفيها اعتنى المعتصم باقتناء الترك، فبعث الى سمرقند وفرغانة والنواحى لشرائهم وبذل فيهم الأموال وألبسهم أنواع الدّيباج ومناطق الذهب، وأمعن فى شرائهم حتى بلغت عدّتهم ثمانية آلاف مملوك، وقيل: ثمانية عشر ألفا، وهو الأشهر؛ ولأجلهم بنى مدينة سامرّا، كما تقدّم ذكره.

(2/233)


ذكر بناء مدينة سامرّا على سبيل الاختصار
ولمّا ولى المعتصم وكثرت مماليكه صاروا يؤذون الناس، فكانوا يطردون خيلهم الى بغداد فيصدم أحدهم المرأة والشيخ الكبير والصغير، فعظم ذلك على أهل بغداد فكلّموا المعتصم، كما تقدّم ذكره، فعزم على التحوّل من بغداد، فخرج من بغداد وتنقّل على دجلة والقاطول، وهو نهر منها، فانتهى الى موضع فيه دير لرهبان؛ فرأى فضاء واسعا جدّا والهواء طيّبا فاستمرأه وتصيّد به ثلاثا، فوجد نفسه يطلب أكثر من أكله، فعلم أن ذلك لتأثير الهواء والتّربة والماء؛ فاشترى من أهل الدّير أرضهم بأربعة آلاف دينار وأسّس قصره بالوزيرية التى ينسب اليها التّين الوزيرىّ، وجمع الفعلة والصّنّاع من الممالك، ونقل اليها أنواع الأشجار والغروس، واختطّت الخطط والدّروب، وجدّوا فى بنائها، وشيّدت القصور، واستنبطت اليها المياه من دجلة وغيرها؛ وتجامع الناس بها فقصدوها وسكنوها، فكثرت بها المعايش الى أن صارت من أعظم البلدان.
وفيها ظهر إبراهيم النّظّام وقرّر مذهب الفلاسفة وتكلّم فى القدر فتبعه خلق.
وفيها حجّ بالناس صالح بن العبّاس بن محمد بن على العباسىّ. وفيها توفى خلف بن أيوب أبو سعيد العامرىّ البلخىّ الامام الفقيه الحنفىّ مفتى أهل بلخ وخراسان، وكان إماما زاهدا ورعا؛ أخذ الفقه عن القاضى أبى يوسف يعقوب وابن أبى ليلى، وأخذ الزهد عن إبراهيم بن أدهم. وانتهت اليه رياسة المذهب فى زمانه، رحمه الله تعالى. وفيها توفى سليمان بن داود بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس الأمير أبو أيوب الهاشمىّ العبّاسىّ، كان صالحا زاهدا عفيفا جوادا. قال الشافعىّ: ما رأيت أعقل

(2/234)


من رجلين: أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمىّ. وفيها توفى فتح بن سعيد أبو نصر الموصلىّ، كان من أقران بشر الحافى وسرىّ السّقطىّ؛ كان زاهدا عابدا كبير الشأن. قال فتح: صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدّون من الأبدال وكلّهم أوصانى عند فراقى له: إياك ومعاشرة الأحداث. وفيها توفى الحافظ أبو نعيم الفضل بن دكين، ودكين اسمه عمرو بن حمّاد بن زهير بن درهم مولى أبى طلحة بن عبد الله التّيمىّ، ولد سنة ثلاثين ومائة؛ وهو أحد الأعلام المشهورين بعلم الحديث المتقدّمين فيه. وفيها توفى قالون المقرئ واسمه عيسى وكنيته أبو موسى، كان إماما عالما انتهت اليه الرياسة فى النحو والعربية والقراءة فى زمانه بالحجاز، وهو أحد أصحاب نافع، ورحل اليه الناس وطال عمره وبعد صيته.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 221]
السنة الثانية من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة إحدى وعشرين ومائتين- فيها تكامل بناء مدينة سرّ من رأى. وفيها ولى إمرة مكّة محمد ابن داود بن عيسى العباسىّ، ووقع فى ولايته بمكّة حروب وفتن. وفيها كانت وقعة كبيرة بين بغا الكبير المعتصمىّ وبين بابك الخرّمىّ انهزم فيها بابك. وفيها توفى ابراهيم بن شمّاس أبو إسحاق السّمرقندى الإمام الزاهد الورع، كان ثقة ثبتا شجاعا بطلا عظيم الهامة؛ خرج من مدينة سمرقند غازيا، فالتقاه الترك فقتلوه فى المحرّم من السنة. وفيها توفى عيسى بن أبان بن صدقة الإمام القاضى أبو موسى

(2/235)


الحنفىّ، كان عالما سخيّا جدّا، كان يقول: والله لو أتيت برجل يفعل فى ماله كفعلى لحجرت عليه؛ وكان مع كرمه من أعيان الفقهاء، وولى القضاء سنتين.
وفيها توفى أبو جعفر المحوّلىّ الزاهد العابد، كان يسكن بباب المحوّل فعرف به؛ كان يقول: حرام على قلب مأسور بحبّ الدنيا أن يسكنه الورع، وحرام على نفس مغرمة برياء الناس أن تذوق حلاوة الآخرة، وحرام على كل عالم لم يعمل بعلمه أن تنجده التقوى. وفيها كان الطاعون بالبصرة، ذكره ابن الجوزىّ فى المنتظم «1» فقال:
كان لشخص تسعة أولاد فماتوا فى يوم واحد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو اليمان الحمصىّ، وعاصم بن علىّ بن عاصم، والقعنبىّ، وعبدان المروزىّ واسمه عبد الله بن عثمان، وهشام بن عبيد الله الرازىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا ونصف إصبع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 222]
السنة الثالثة من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين ومائتين- فيها كانت وقعة الأفشين مع الكافر بابك الخرّمىّ، فهزمه الأفشين واستباح عسكره وهرب بابك، ثم أسروه بعد فصول طويلة؛ وكان بابك من أبطال زمانه وشجعانهم، عاث فى البلاد وأفسد، وأخاف الإسلام وأهله، وغلب على أذربيجان وغيرها، وأراد أن يقيم ملّة المجوس؛ وظهر فى أيامه المازيّار القائم بملّة المجوس بمدينة

(2/236)


طبرستان فعظم شرّه؛ وكان الخليفة المعتصم قد جعل لمن جاء به حيّا ألفى ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم، فجاء به سهل البطريق، فأعطاه المعتصم ألفى ألف درهم وحطّ عنه خراج عشرين سنة؛ ثم قتل بابك فى سنة ثلاث وعشرين ومائتين (أعنى فى الآتية) . ولما أدخل بابك مقيّدا الى بغداد انقلبت بغداد الكبير والضّجيج «1» ، فلله الحمد.
وفيها توفى أحمد بن الحجّاج الشّيبانىّ ثم الذّهلىّ، كان إماما عالما فاضلا ثقة.
قدم الى بغداد وحدّث بها عن عبد الله بن المبارك وغيره، وروى عنه محمد بن اسماعيل البخارىّ، وكان الإمام أحمد يثنى عليه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى عمر بن حفص ابن غياث، وخالد بن نزار الأيلىّ «2» ، وأحمد بن محمد الأزرقىّ الذي ذكرناه فى الطبقة الماضية، وعلى بن عبد الحميد، ومسلم بن ابراهيم، والوليد بن هشام القحذمىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 223]
السنة الرابعة من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين ومائتين- فيها قدم الأفشين بغداد فى ثالث صفر ببابك الكافر الخرّمىّ وأخيه، وكان المعتصم يبعث للأفتين منذ توجّه الى بغداد فى كلّ يوم خلعة وفرسا بفرحته ببابك.
ومن عظم فرح المعتصم وعنايته بأمر بابك رتّب البريد من سرّ من رأى الى الأفشين

(2/237)


بحيث إن الخبر يأتيه من مسيرة شهر فى أربعة أيام. وكان بابك يقول بتناسخ الأرواح ويستحلّ البنت وأمّها. وقد تقدّم فى العام الماضى أنّ المعتصم أعطى لمن أحضره الى بغداد ألفى ألف درهم. ولمّا أن أراد المعتصم قتل بابك المذكور أمر بعد عقوبته بقطع أربعته، فلمّا قطعت يده مسح بالدم على وجهه حتى لا يرى أحد أنّ وجهه اصفرّ خيفة من القتل، وقتل وعلّق رأسه وقطعت أعضاؤه ثم أحرق.
وفيها أيضا جهّز المعتصم الأفشين المذكور بالجيوش لغزو الروم، فتهيّأ وسافر والتقى مع طاغية الروم، فاقتتلوا أياما وثبت كلّ من الفريقين الى أن هزم الله طاغية الروم ونصر الاسلام، ولله الحمد.
وفيها أخرب المعتصم مدينة أنقرة وغيرها من بلاد الروم، وأنكى فى بلاد الروم وأوطأهم خوفا وذلّا وصغارا، وافتتح عمّوريّة بالسيف، وشتّت جمعهم وخرّب ديارهم.
وكان ملكهم توفيل بن ميخائيل بن جرجس قد نزل زبطرة «1» فى مائة ألف وأغار على ملطية «2» وأباد المسلمين، حتى أخذ المعتصم بثأرهم وأخرب ديار الكفر.
وفيها دفع المعتصم خاتمه الى ابنه هارون للواثق وأقامه مقام نفسه، واستكتب له سليمان بن محمد بن عبد الملك بن الزيّات. وفيها فى شوّال زلزلت فرغانة، فمات تحت الهدم خمسة عشر ألفا من الناس. وفيها حجّ بالناس محمد بن داود. وفيها توفيت فاطمة النيسابوريّة الزاهدة، جاورت بمكة مدّة، وكانت تتكلم فى معانى القرآن؛ قال ذو النون المصرىّ: فاطمة وليّة الله وهى أستاذتى.

(2/238)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى عبد الله بن صالح كاتب الليث، وخالد بن خداش، ومحمد بن سنان العوقىّ «1» ، ومحمد بن كثير العبسىّ، وموسى بن اسماعيل التّبوذكىّ، ومعاذ بن أسد المروزىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا ونصف إصبع.
ذكر ولاية مالك بن كيدر على مصر
هو مالك بن كيدر، واسم كيدر نصر، وقد تقدّم ذكره فى ولايته على مصر، وكيدر ابن عبد الله الصّغدىّ. وولى مالك إمرة مصر بعد عزل الأمير موسى بن أبى العبّاس عنها من قبل الأمير أبى جعفر أشناس، ولّاه على صلاة مصر؛ وكان الخراج للخليفة يولّى عليه من شاء فى هذه السنين؛ فقدم مالك بن كيدر الى مصر لسبع بقين من شهر ربيع الآخر من سنة أربع وعشرين ومائتين، وسكن بالمعسكر على عادة أمراء بنى العباس؛ وولّى على الشّرطة بعض حواشيه، وساس الناس الى أن صرف عن إمرة مصر فى ثالث شهر ربيع الآخر من سنة ستّ وعشرين ومائتين؛ وتولّى مصر من بعده الأمير علىّ بن يحيى؛ فكانت ولاية مالك هذا على مصر سنتين وأحد عشر يوما، ودام بعد ذلك بطّالا سنين الى أن توفّى فجاءة فى عاشر شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائتين؛ وكان أميرا ساكنا عاقلا مدبّرا سيوسا وقورا فى الدول، ولى الأعمال الجليلة، وتنقّل فى خدم الخلفاء، وكان من أكابر القوّاد والأمراء.

(2/239)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 224]
السنة الأولى من ولاية مالك بن كيدر على مصر وهى سنة أربع وعشرين ومائتين- فيها أظهر مازيّار بن قارن الخلاف بطبرستان وحارب أعوان الخليفة، وكان مباينا لآل طاهر؛ وكان المعتصم يأمره بحمل الخراج اليهم، فيقول مازيّار: لا أحمله إلّا الى أمير المؤمنين. وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم ما يدلّ على أنه يريد عزل عبد الله بن طاهر؛ فلمّا ظفر الأفشين ببابك ونزل من المعتصم المنزلة الرفيعة طمع فى إمرة خراسان، وبلغه منافرة مازيّار، فكتب اليه الأفشين يمنّيه ويستميله ويقؤى عزمه. ثم كتب المعتصم الى عبد الله بن طاهر بمحاربة مازيّار، ثم جهّز بعد ذلك المعتصم جيشا لمحاربة مازيّار وعلى الجيش الأفشين المذكور. هذا، ومازيّار قد ج؟؟؟ ى الأموال وعسف وأخرب أسوار آمد والرّىّ وجرجان، وهرب الناس الى نيسابور.
ووقع لمازيّار أمور وحروب، آخرها أنه قتل بعد أن أهلك الحرث والنسل.
وفيها توفى إبراهيم ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو إسحاق أخو الرشيد وعمّ الأمين والمأمون والمعتصم؛ كان يعرف بابن شكلة «1» وهى أمّه أمّ ولد سوداء؛ مولده فى سنة اثنتين وستين ومائة. وإبراهيم هذا هو الذي كان بويع بالخلافة بعد قتل الأمين ولقّب بالمبارك المنير فى سنة اثنتين ومائتين، فلم يتمّ أمره؛ ووقع له مع عسكر المأمون حروب ووقائع أسفرت عن هزيمة إبراهيم واختفائه سنين الى أن ظفر به المأمون وعفا عنه. وكان إبراهيم قد انتزع الى أمّه فكان أسود حالكا عظيم اللحية، على أنه لم يكن فى أولاد الخلفاء أفصح منه ولا أشعر؛ وكان حاذقا بالغناء وصناعة

(2/240)


العود، يضرب به المثل فيهما. وله فى هروبه واختفائه وكيفية الظّفر به أمور وحكايات مهولة؛ منها أنه لما وقف بين يدى المأمون شاور فى قتله أصحابه، فالكل أشاروا بالقتل غير أنهم اختلفوا فى القتلة؛ فالتفت المأمون الى أحمد بن خالد «1» الوزير وشاوره؛ فقال:
يا أمير المؤمنين، إن قتلته فلك نظير، وإن عفوت عنه فما لك نظير؛ فأنشد المأمون:
فلئن عفوت لأعفون جللا «2» ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى
فكشف إبراهيم بن المهدى رأسه وقال: الله أكبر، عفا عنى أمير المؤمنين! فقال المأمون: يا غلمان، خلّوا عن عمّى وغيّروا من حالته وجيئونى به. ففعلوا وأحضروه «3» بين يدى المأمون فى مجلسه، ونادمه وسأله أن يغنّى فأبى، وقال: نذرت لله عند خلاصى تركه؛ فعزم عليه وأمر أن يوضع العود فى حجره، فغنّى.
وقال الذهبىّ: وعن منصور بن المهدىّ قال: كان أخى إبراهيم إذا تنحنح طرب من يسمعه، فإذا غنّى أصغت اليه الوحوش ومدّت أعناقها اليه حتى تضع رءوسيها فى حجره فإذا سكت نفرت وهربت؛ وكان إذا غنّى لم يبق أحد إلا ذهل ويترك ما فى يده حتى يفرغ.
قلت: وحكايات إبراهيم فى الغناء والعود مشهورة يضيق هذا المحل عن ذكرها، وقد ذكره ابن عساكر فى تاريخ دمشق فى سبع عشرة ورقة.
وفيها توفى أبو عبيد القاسم بن سلّام، وكان أبوه عبدا روميا لرجل من أهل هراة «4» ، وكان القاسم إماما عالما مفنّنا، له المصنفات الكثيرة المفيدة: منها غريب الحديث وغيره. وفيها توفى سليمان بن حرب الحافظ أبو أيوب الأزدىّ البصرىّ،

(2/241)


ولد فى صفر سنة أربعين ومائة؛ وكان إماما فاضلا- قال القاضى يحيى بن أكثم:
لما عدت من البصرة الى بغداد قال لى المأمون: من تركت بالبصرة؟ قلت:
سليمان بن حرب- حافظا للحديث ثقة عاقلا فى نهاية الصيانة «1» والسلامة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع ونصف، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.