النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 245]
السنة الثالثة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة خمس وأربعين
ومائتين- فيها عمّت الزلازل الدنيا فأخربت القلاع والمدن والقناطر،
وهلك خلق بالعراق والمغرب، وسقط من أنطاكية [ألف وخمسمائة «2» دار و]
نيّف وتسعون برجا وتقطّع جبلها الأقرع وسقط فى البحر؛ وسمع من السماء
أصوات هائلة، وهلك أكثر أهل اللّاذقيّة «3» تحت الرّدم، وهلك أهل «4»
جبلة، وهدمت بالس «5» وغيرها، وامتدّت الى خراسان، ومات خلائق منها.
وأمر المتوكّل بثلاثة آلاف ألف درهم للذين أصيبوا فى منازلهم. وزلزلت
مصر، وسمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة، فمات خلق من أهل بلبيس
(2/319)
وغارت عيون مكّة. وفيها أمر المتوكّل ببناء
مدينة الماحوزة «1» ، وسمّاها الجعفرىّ «2» ، وأقطع الأمراء آساسها؛
وبعد هذا أنفق عليها أكثر من ألفى ألف دينار، وبنى بها قصرا سمّاه
اللؤلؤة لم ير مثله فى علوّه وارتفاعه؛ وحفر للماحوزة نهرا كان يعمل
فيه اثنا عشر ألف رجل، فقتل المتوكّل وهم يعملون فيه، فبطل عمله، وخربت
الماحوزة ونقض القصر. وفيها أغارت الروم على مدينة سميساط، فقتلوا نحو
خمسمائة وسبوا؛ فغزاهم علىّ بن يحيى، فلم يظفر بهم.
وفيها توفى ذو النّون المصرىّ الزاهد العابد المشهور، واسمه ثوبان بن
ابراهيم، ويقال: الفيض بن أحمد «3» أبو الفيض، ويقال: الفيّاض
الإخميمى؛ كان إماما زاهدا عابدا فاضلا، روى عن الامام مالك واللّيث بن
سعد وابن لهيعة والفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة وغيرهم؛ وروى عنه أحمد
بن صبيح الفيومىّ وربيعة بن محمد الطائىّ والجنيد بن محمد وغيرهم؛ وكان
أبوه نوبيّا. وذو النون هو أوّل من تكلّم ببلده فى ترتيب الأحوال
ومقامات أهل الولاية، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم، ووقع له بسبب
ذلك أمور يلزم من ذكرها الإطالة فى ترجمته؛ وليس لذلك هنا محلّ. وقال
يوسف بن الحسين: سمعت ذا النون يقول: مهما تصوّر فى فهمك فالله بخلاف
ذلك. وقال: سمعت ذا النون يقول: الاستغفار اسم جامع لمعان كثيرة
(2/320)
ثم فسّرها. ومات ذو النون فى ذى القعدة
بمصر، ودفن بالقرافة، وقبره معروف بها يقصد للزيارة.
وفيها توفّى هشام بن عمّار بن نصير بن ميسرة الإمام حافظ دمشق وخطيبها
ومفتيها، ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة، وكنيته أبو الوليد السّلمىّ.
وفيها توفى الحسين بن على بن يزيد الإمام الحافظ أبو علىّ الكرابيسىّ،
كان يبيع الكرابيس «1» ، وهى ثياب من الكرابيس؛ روى عن الشافعىّ وغيره
وروى عنه غير واحد. وفيها توفّى سوّار بن عبد الله بن سوّار بن عبد
الله بن قدامة أبو عبد الله [التميمى «2» ] العنبرىّ البصرىّ، كان
إماما عالما فقيها زاهدا أديبا حافظا صدوقا ثقة؛ وفيه يقول بعض
الشعراء:
ما قال لا قطّ إلّا فى تشهّده ... لولا التشهّد لم تسمع له لاء
وفيها توفّى عسكر بن الحصين أبو تراب النّخشبىّ «3» الزاهد العارف، كان
من كبار مشايخ خراسان المشهورين فى العلم والورع والزهد. وفيها توفّى
محمد بن حبيب مولى بنى هاشم، كان عالما بالأنساب وأيام العرب، حافظا
متقنا صدوقا ثقة، مات بمدينة سامرّا فى ذى الحجة. وفيها توفّى محمد بن
رافع بن أبى رافع بن أبى زيد «4» القشيرىّ النّيسابورىّ إمام عصره
بخراسان؛ كان ممن جمع بين العلم والعمل والزّهد والورع، ورحل [الى]
البلاد ورأى الشيوخ وسمع الكثير.
(2/321)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفى أحمد بن عبدة الضّبّىّ، وأبو الحسن أحمد بن محمد
النبّال الفوّاس مقرئ مكّة، وأحمد بن نصر النّيسابورىّ، وإسحاق بن أبى
إسرائيل، وإسماعيل بن موسى السّدّىّ، وذو النون المصرىّ، وسوّار بن عبد
الله العنبرىّ، وعبد الله بن عمران العابدىّ، ومحمد بن رافع، وهشام بن
عمّار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا،
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 246]
السنة الرابعة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة ست وأربعين
ومائتين- فيها غزا المسلمون الروم، فسبوا وقتلوا واستنقذوا خلائق من
الأسر. وفيها فى يوم عاشوراء تحوّل الخليفة المتوكّل الى الماحوزة وهى
مدينته التى أمر ببنائها. وفيها أمطرت [السماء] بناحية بلخ مطرا [يشبه
«1» ] دما عبيطا أحمر. وفيها حجّ بالركّب العراقىّ محمد بن عبد الله بن
طاهر، فولى أعمال الموسم وأخذ معه ثلثمائة ألف دينار لأهل مكّة، ومائة
ألف دينار لأهل المدينة، ومائة ألف لإجراء الماء من عرفات الى مكّة.
وفيها توفى دعبل ابن على بن رزين بن سليمان «2» بن تميم بن نهشل
الخزاعىّ الشاعر المشهور. والدّعبل هو البعير المسنّ العظيم الخلق
(ودعبل بكسر الدال وسكون العين المهملتين وكسر الباء الموحدة وبعدها
لام) . وكان دعبل طوالا ضخما، ومولده فى سنة ثمان وأربعين ومائة، وبرع
فى علم الشعر والعربيّة، وهو من الكوفة، وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر
(2/322)
الى البلاد، وصنّف كتابا فى طبقات الشعراء،
وكان هجّاء خبيث اللسان، أطروشا فى قفاه سلعة «1» ؛ هجا الرشيد
والمأمون والمعتصم والواثق والأمير عبد الله بن طاهر وجماعة من الوزراء
والكتّاب. ومن شعره:
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعرى كيف تومكما ... يا صاحبىّ اذا دمى سفكا
لا تأخذا بظلامتى أحدا ... قلبى وطرفى فى دمى اشتركا
ورثاه البحترىّ، وكان دعبل مات بعد أبى تمّام بمدّة، فقال من قصيدة
أوّلها:
قد زاد فى كلفى وأوقد لوعتى ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل
وفيها توفّيت شجاع أمّ المتوكّل على الله جعفر فى حياة ولدها المتوكّل،
وكانت تدعى «السيّدة» وكانت أمّ ولد، وكانت صالحة كثيرة الصدقات
والمعروف؛ كانت تخرج فى السرّ على يد كاتبها أحمد بن الخصيب. ولما ماتت
قال ابنها المتوكّل فى موتها:
تذكّرت لمّا فرّق الدهر بيننا ... فعزّيت نفسى بالنبىّ محمد
فأجازه بعض من حضر فقال:
فقلت لها إنّ المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت فى يومه مات فى غد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن
ابراهيم الدّورقىّ، وأحمد بن أبى الحوارىّ، وأبو عمر الدّورىّ المقرئ
واسمه حفص»
، ودعبل الشاعر، والمسيّب بن واضح.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا،
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
(2/323)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 247]
السنة الخامسة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة سبع وأربعين
ومائتين- فيها قتل الخليفة المتوكّل على الله أمير المؤمنين أبو الفضل
جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن
الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن
عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ؛ ومولده سنة سبع «1»
ومائتين، وقيل: فى سنة خمس ومائتين، وتولّى الخلافة سنة اثنتين وثلاثين
ومائتين بعد وفاة أخيه هارون الواثق؛ وأمّه أمّ ولد تسمّى شجاع تقدّم
ذكرها فى السنة الخالية؛ وهو العاشر من خلفاء بنى العباس، قتله مماليكه
الأتراك باتفاق ولده محمد المنتصر على ذلك، لأن المتوكّل كان أراد خلع
ولده المنتصر المذكور من ولاية العهد وتقديم ابنه المعتزّ عليه، فأبى
المنتصر ذلك؛ فصار المتوكّل يوبّخ ولده المنتصر محمدا فى الملأ ويسلّط
عليه الأحداث؛ فحقد عليه المنتصر، واتفق مع وصيف وموسى بن بغا وباغر
على قتله؛ فدخلوا عليه وقد أخذ منه الشّراب وعنده وزيره الفتح بن خاقان
وهو نائم، فأوّل من ضربه بالسيف باغر ثم أخذته السيوف حتى هلك؛ فصاح
وزيره: ويحكم أمير المؤمنين! فلما رآه قتيلا قال: ألحقونى «2» به،
فقتلوه؛ ولفّ هو والفتح بن خاقان فى بساط ثم دفنا بدمائهما من غير
تغسيل فى قبر واحد؛ وذلك فى ليلة الخميس خامس شوّال من هذه السنة.
فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وأياما. وبويع بالخلافة بعده
ابنه المنتصر محمد، فلم يتهنّأ بها، ومات بعد ستة أشهر، حسبما يأتى
ذكره فى السنة الآتية. وكان المتوكّل فيه كلّ الخصال الحسنة إلا ما كان
فيه من الغضب. وقد افتتح خلافته بإظهار السّنّة ورفع
(2/324)
المحنة، وتكلّم بالسّنّة فى مجلسه؛ حتى قال
إبراهيم بن محمد التّيمىّ قاضى البصرة: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصدّيق
يوم الرّدّة، وعمر بن عبد العزيز فى ردّ مظالم بنى أميّة، والمتوكّل فى
محو البدع وإظهار السنّة. وكان المتوكّل فاضلا فصيحا؛ قال علىّ بن
الجهم: كان المتوكّل مشغوفا بقبيحة (يعنى أمّ ولده المعتزّ) لا يصبر
عنها، فوقفت له يوما وقد كتبت على خدّيها بالمسك جعفرا؛ فتأمّلها ثم
أنشد «1» يقول:
وكاتبة فى الخدّ بالمسك جعفرا ... بنفسى مخطّ «2» المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدّها ... لقد أودعت قلبى من الحبّ أسطرا
وكان المتوكّل كريما، قيل: ما أعطى خليفة شاعرا ما أعطاه المتوكّل.
وفيه يقول مروان بن «3» أبى الجنوب:
فأمسك ندى كفّيك عنّى ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبّرا
ويقال: إنه سلّم على المتوكّل بالخلافة ثمانية كلّ منهم أبوه خليفة،
وهم: منصور ابن المهدىّ، والعباس بن الهادى، وأبو أحمد بن الرشيد، وعبد
الله بن الأمين، وموسى ابن المأمون، وأحمد بن المعتصم، ومحمد بن
الواثق، وابنه المنتصر محمد بن المتوكّل. وفيها قتل الفتح بن خاقان
وزير المتوكّل، قتل معه على فراشه، كان أبوه خاقان معظّما عند المعتصم،
وكان من أولاد الأتراك؛ فضمّ المعتصم الفتح هذا الى ابنه المتوكّل فنشأ
معا، فلما تخلّف المتوكّل استوزره؛ وكان أهلا لذلك: كان أديبا فاضلا
جوادا ممدّحا
(2/325)
فصيحا. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن
إسحاق أبو عبد الرحمن الأزدىّ، كان حافظا ثقة سمع سفيان بن عيينة
وغيره، وهو الذي كان سببا لرجوع الواثق عن القول بخلق القرآن.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى إبراهيم بن
سعيد الجوهرىّ، وأبو عثمان المازنىّ، والمتوكّل على الله، وسلمة بن
شبيب، وسفيان ابن وكيع، والفتح بن خاقان الوزير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 248]
السنة السادسة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة ثمان وأربعين
ومائتين- فيها فى صفر خلع المؤيّد إبراهيم والمعتزّ الزّبير ابنا
المتوكّل أنفسهما من ولاية العهد مكرهين على ذلك من أخيهما الخليفة
المنتصر محمد. وفيها وقع بين أحمد ابن الخصيب وبين وصيف التركىّ وحشة؛
فأشار الوزير على المنتصر أن يبعد عنه وصيفا وخوّفه منه؛ فأرسل اليه أن
طاغية الروم أقبل يريد الإسلام فسر اليه، فاعتذر؛ فأحضره وقال له: إمّا
تخرج أو أخرج أنا؛ فقال: لا، بل أخرج أنا. فانتخب المنتصر معه عشرة
آلاف وأنفق فيهم الأموال وساروا. ثم بعث المنتصر الى وصيف يأمره
بالمقام بالثغر أربع سنين. وفيها حكم محمد بن عمر الخارجىّ بناحية
الموصل ومال اليه خلق؛ فسار لحربه إسحاق بن ثابت الفرغانىّ، فالتقوا
فقتل جماعة من الفريقين، ثم أسر محمد وجماعة فقتلوا وصلبوا الى جانب
خشبة بابك الخرّمىّ المقدّم ذكره فيما مضى. وفيها قويت شوكة يعقوب بن
اللّيث الصّفّار واستولى على معظم إقليم
(2/326)
خراسان، وسار من سجستان ونزل هراة وفرّق فى
جنده الأموال. وفيها بويع المستعين بالخلافة بعد موت ابن عمّه «1» محمد
المنتصر الآتى ذكره. وعقد المستعين لمحمد بن عبد الله ابن طاهر على
العراق والحرمين والشّرطة. وفيها حبس المستعين بالله ولدى «2» عمّه «3»
المتوكل وهما المؤيّد إبراهيم والمعتزّ الزبير، وضيّق عليهما واشترى
أكثر أملاكهما كرها، وجعل لهما فى السنة نحو ثلاثة وعشرين ألف دينار.
وفيها أخرج أهل حمص عاملهم؛ فراسلهم وخادعهم حتى دخلها، فقتل منهم
طائفة وحمل من أعيانهم مائة الى العراق ثم هدم سور حمص. وفيها عقد
الخليفة المستعين لأتامش على مصر والمغرب مع الوزارة، وفرّق المستعين
فى الجند ألفى ألف دينار. وفيها غزا وصيف التركىّ الصائفة. وفيها نفى
المستعين عبيد الله بن يحيى بن خاقان الى برقة.
وفيها مات بغا الكبير التركىّ المعتصمىّ أحد أكابر الأمراء فى جمادى
الآخرة من السنة، فعقد المستعين لابنه موسى بن بغا على أعمال أبيه.
وكان بغا يعرف بالشّرابىّ، مات وقد جاوز التسعين سنة، وباشر من الحروب
ما لم يباشره غيره، ولم يلبس سلاحا ولا جرح قط؛ فقيل له فى ذلك، فقال:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المنام، فقلت: يا رسول الله ادع
لى؛ فقال: لا بأس عليك أحسنت إلى رجل من أهل بيتى فعليك من الله واقية.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المنتصر بالله محمد ابن الخليفة
المتوكّل على الله جعفر الهاشمىّ العباسىّ؛ بقيّة نسبه تقدّمت فى ترجمة
أبيه جعفر المتوكّل فى الخالية. بويع بالخلافة يوم قتل أبيه فى يوم
الخميس خامس شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين، فلم تطل أيّامه ومات بعد
أبيه بستة أشهر فى شهر ربيع الأوّل بالخوانيق «4» . قيل: إن المنتصر
(2/327)
هذا رأى أباه المتوكّل فى المنام فقال له:
ويحك يا محمد! ظلمتنى وقتلتنى، والله لا تمتّعت فى الدنيا بعدى إلا
أياما يسيرة ومصيرك الى النار، فانتبه فزعا وقال لأمّه: ذهبت عنّى
الدنيا والآخرة، فلم يكن بعد أيّام إلا ومرض ثلاثة أيام ومات بالذّبحة
فى حلقه. وقيل: سمّه القاصد وقتل القاصد بعده. وقيل: سمّه طبيبه وقيل
غير ذلك.
وكان شهما شجاعا راجح العقل واسع الاحتمال كثير المعروف شان سؤدده بقتل
أبيه.
وبويع بالخلافة بعده ابن «1» عمّه المستعين بالله أحمد. وكانت وفاة
المنتصر هذا فى يوم السبت لخمس خلون من شهر ربيع الأوّل، وقيل: يوم
الأحد رابع ربيع الأوّل. وفيها توفّى الأمير طاهر بن عبد الله بن طاهر
بن الحسين وهو على إمرة خراسان بها. فعقد الخليفة المستعين بالله أحمد
لابنه محمد بن طاهر بن الحسين على إمرة خراسان عوضه. وفيها نفى
المستعين أحمد بن الخصيب الى أقريطش «2» بعد أن استصفى أمواله. وفيها
فرّق المستعين الأموال على الجند.
قال الصّولىّ: لما تولّى المستعين كان فى بيت المال ألف ألف دينار
ففرّق الجميع فى الجند. وفيها توفّى أحمد بن سليمان بن الحسن أبو بكر
الفقيه الحنبلىّ البغدادىّ، ومولده فى سنة ثلاث وخمسين ومائة؛ وكان
إماما فقيها عالما بارعا كانت له حلقتان بجامع المنصور.
قلت: وهو أوّل أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه وفاة. وفيها
توفى احمد بن صالح الحافظ أبو جعفر المصرىّ، وكان يعرف بالطبرىّ لأن
والده كان جنديّا من مدينة طبرستان، ومولد أحمد هذا فى سنة سبعين ومائة
بمصر؛
(2/328)
وكان فقيها محدّثا ورد بغداد وناظر الإمام
أحمد وغيره. وفيها توفى الإمام الأستاذ أبو عثمان المازنىّ البصرىّ
علّامة زمانه فى النحو والعربيّة واسمه بكر بن محمد وهو من مازن ربيعة؛
كان إماما فى النحو واللّغة والآداب وله التصانيف الحسان.
وفيها توفى مهنّا بن يحيى البغدادىّ الشيخ الإمام أبو عبد الله، كان
فقيها إماما محدّثا صحب الإمام أحمد ثلاثا وأربعين سنة ورحل معه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن صالح
المصرىّ، والحسين الكرابيسىّ، وطاهر بن عبد الله بن طاهر الأمير، وعبد
الجبّار ابن العلاء، وعبد الملك بن شعيب بن اللّيث، وعيسى بن حمّاد
زغبة، ومحمد بن حميد الرّازىّ، والمنتصر بالله محمد، ومحمد بن زنبور
المكّىّ، وأبو كريب محمد بن العلاء، وأبو هشام الرفاعىّ.
أمر النّيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وثمانية أصابع
ونصف، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 249]
السنة السابعة من ولاية يزيد بن عبد الله التركىّ على مصر وهى سنة تسع
وأربعين ومائتين- فيها فى صفر شغب الجند ببغداد عند مقتل عمر بن عبيد
«1» الله الأقطع وعلىّ بن يحيى الأرمنىّ أمير الغزاة وهما ببلاد الروم
مجاهدان، وأيضا عند استيلاء الترك على بغداد وقتلهم المتوكّل وغيره
وتمكّنهم من الخلفاء وأذيّتهم للناس؛ ففتح الترك والشاكريّة السجون
وأحرقوا الجسر وانتهبوا الدواوين، ثم خرج نحو ذلك بسرّمن رأى، فركب بغا
وأتامش وقتلوا من العامّة جماعة، فحمل العامّة عليهم
(2/329)
فقتل من الأتراك جماعة وشجّ وصيف بحجر؛
فأمر بإحراق الأسواق ثم قتل فى ربيع الأوّل أتامش وكاتبه شجاع؛ فاستوزر
المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد ابن يزداد عوضا عن أتامش. وفيها
عزل عن القضاء جعفر بن عبد الواحد.
وفيها كانت زلزلة هلك فيها خلق كثير تحت الرّدم. وفيها توفى بكر بن
خالد أبو جعفر القصير ويقال: محمد بن بكر، كان كاتب أبى يوسف القاضى
وعنه أخذ العلم، وكان فاضلا عالما. وفيها توفّى عمر بن علىّ بن يحيى بن
كثير الحافظ أبو حفص الصّيرفىّ الفلّاس البصرىّ، كان إماما محدّثا
حافظا ثقة صدوقا سمع الكثير ورحل [الى] البلاد، وقدم بغداد فتلقّاه أهل
الحديث فحدّثهم ومات بمدينة سرّ من رأى. وفيها كان الطاعون العظيم
بالعراق وهلك فيه خلائق لا تحصى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى عبد «1» بن
حميد، وأبو حفص الفلّاس، وأيّوب بن محمد الوزّان الرّقّىّ، والحسن بن
الصبّاح البزّار «2» ، وخلّاد بن أسلم الصفّار، وسعيد بن يحيى بن سعيد
الأموىّ، وعلىّ بن الجهم الشاعر، ومحمود بن خالد السّلمىّ، وهارون بن
حاتم الكوفىّ، وهشام بن خالد بن الأزرق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تسعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.
(2/330)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 250]
السنة الثامنة من ولاية يزيد بن عبد الله التركىّ على مصر وهى سنة
خمسين ومائتين- فيها فى شهر رمضان خرج الحسن بن زيد بن محمد الحسينىّ
بمدينة طبرستان واستولى عليها وجبى الخراج وامتدّ سلطانه الى الرّىّ
وهمذان، والتجأ اليه كلّ من كان يريد الفتنة والنهب؛ فانتدب ابن طاهر
لحربه، فانهزم بين يديه مرّتين؛ فبعث الخليفة المستعين بالله جيشا الى
همذان نجدة لابن طاهر. وفيها عقد الخليفة المستعين بالله لابنه العباس
على العراق والحرمين. وفيها نفى جعفر بن عبد الواحد الى البصرة لأنه
عزل من القضاء وبعث «1» الى الشاكريّة فأفسدهم. وفيها وثب أهل حمص
بعاملها الفضل بن قارن فقتلوه فى شهر رجب؛ فسار اليهم الأمير موسى بن
بغا فالتقوه عند الرّستن «2» فهزمهم وافتتح حمص، وقتل فيها «3» مقتلة
عظيمة وأحرق فيها وأسر من رءوسها. وفيها حجّ بالناس جعفر بن الفضل أمير
مكّة. وفيها توفى الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف القاضى أبو عمرو
المصرىّ «4» المالكىّ مولى محمد بن زياد ابن عبد العزيز بن مروان، ولد
سنة أربع وخمسين ومائة؛ وكان إماما فقيها عالما، كان يتفقّه على مذهب
الإمام مالك بن أنس رحمه الله؛ ولى قضاء مصر سنتين ثم صرف، وكان رأى
الليث بن سعد وسأله، وسمع سفيان بن عيينة وأقرانه، وكان ثقة مأمونا.
وفيها توفى عبد الوهاب بن عبد الحكم الشيخ الفقيه الإمام المحدّث أبو
الحسن
(2/331)
الورّاق صاحب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله
عنه، كان فقيها محدّثا زاهدا صالحا ورعا. وفيها توفى الفضل بن مروان
الوزير أبو العباس، كان إماما فاضلا بارعا رئيسا، وزّر للمعتصم
ولابنيه: الواثق هارون والمتوكل جعفر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو طاهر أحمد
بن السرّاج، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزّىّ المقرئ،
والحارث بن مسكين أبو عمرو، وعبّاد بن يعقوب الرّواجنىّ «1» شيعىّ،
وأبو حاتم السّجستانىّ سهل بن محمد بن عثمان، وعمرو «2» بن بحر أبو
عثمان الجاحظ، وكثير بن عبيد المذحجىّ، ونصر بن علىّ الجهضمىّ، ومحمد
بن علىّ بن الحسن بن شقيق المروزىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وخمسة عشر إصبعا،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 251]
السنة التاسعة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة إحدى وخمسين
ومائتين- فيها اضطربت أمور المستعين بالله بسبب قتله باغر التركىّ قاتل
المتوكّل واضطربت أمراء الأتراك، ثم وقّع بين المستعين وبين الأتراك؛
ولا زالت الأتراك بالمستعين حتى خلعوه، وأخرجوا المعتزّ بن المتوكّل من
حجرة صغيرة كان محبوسا بها هو وأخوه المؤيّد ابراهيم بن المتوكل؛
وبايعوا المعتزّ بالخلافة. وكان المعتزّ قد انحدر الى بغداد، فلما ولى
المعتزّ الخلافة لقى فى بيت المال خمسمائة ألف دينار، ففرّق المعتزّ
جميع ذلك فى الأتراك، وبايعوا للمعتزّ ومن بعده لأخيه المؤيّد ابراهيم؛
وكان
(2/332)
ذلك فى ثانى عشر المحرّم من هذه السنة. ثم
جهّز المعتزّ لقتال المستعين أخاه أبا أحمد ابن المتوكّل ومعه جيش كثيف
فى ثالث عشرين المحرّم، فتوجّهوا الى المستعين وقاتلوه وحصروه ببغداد
أشهرا الى أن انحرف عنه عامل بغداد طاهر بن عبد الله ابن طاهر؛ فعند
ذلك أذعن المستعين وخلع نفسه فى أوّل سنة اثنتين وخمسين ومائتين على ما
يأتى ذكره. وفيها خرج الحسين بن أحمد بن محمد بن اسماعيل بن محمد بن
الأرقط عبد الله بن زين العابدين علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب
بمدينة قزوين فغلب عليها فى أيّام فتنة المستعين، وقد كان هو وأحمد بن
عيسى العلوىّ قد اجتمعا على قتال أهل الرّىّ وقتلا بها خلقا كثيرا
وأفسدا وعاثا وسار لقتالهما جيش من قبل الخليفة فأسر أحدهما وقتل
الآخر. وفيها خرج إسماعيل بن يوسف ابن إبراهيم «1» بن عبد الله بن
الحسن بن الحسن الحسنىّ العلوىّ بالحجاز، وهو شابّ له عشرون سنة وتبعه
خلق من العرب، فعاث فى الحرمين وأفسد موسم الحاجّ وقتل من الحجّاج أكثر
من ألف رجل، واستحلّ المحرّمات بأفاعيله الخبيثة، وبقى يقطع الميرة عن
الحرمين حتى هلك الحجّاج وجاعوا؛ ثم نزل الوباء فهلك فى الطاعون هو
وعامّة أصحابه فى السنة الآتية. وفيها توفى إسحاق بن منصور بن بهرام
الحافظ أبو يعقوب [التّميمىّ «2» ] المروزىّ الكوسج، كان إماما عالما
محدّثا فقيها رحّالا، وهو أحد أئمة الحديث. وفيها توفى الحسين بن
الضّحّاك بن ياسر أبو علىّ الشاعر المشهور المعروف بالحسين الخليع
الباهلىّ البصرىّ؛ ولد بالبصرة سنة اثنتين وستين ومائة ونشأ بها ومدح
غير واحد من الخلفاء وجماعة من الوزراء وغيرهم، وكان شاعرا مجيدا خليعا
وهو من أقران أبى نواس وشعره كثير.
(2/333)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفى إسحاق بن منصور الكوسج، وأيوب بن الحسن النّيسابورىّ
الفقيه صاحب محمد بن الحسن، وحميد ابن زنجويه «1» ، وعمر بن عثمان
الحمصىّ، وأبو تقىّ «2» هشام بن عبد الملك اليزنىّ «3» ، ومحمد ابن سهل
بن عسكر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وأربعة عشر إصبعا،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 252]
السنة العاشرة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة اثنتين
وخمسين ومائتين- فيها استقرّ خلع المستعين من الخلافة وقتل بعد الحبس
على ما يأتى ذكره.
وكانت فيها بيعة المعتزّ بالخلافة. وفيها ولّى الخليفة المعتزّ الحسن
بن أبى الشوارب قضاء القضاة. وفيها خلع الخليفة المعتزّ على الأمير
محمد بن عبد الله بن طاهر خلعة الملك وقلّده سيفين، فأقام بغا ووصيف
الأميران ببغداد على وجل من ابن طاهر، ثم رضى المعتزّ عنهما وردّهما
الى رتبتهما. ونقل المستعين الى قصر [الحسن «4» بن سهل بالمخرّم] هو
وعياله ووكّلوا به أميرا، وكان عنده خاتم عظيم القدر فأخذه محمد بن
طاهر وبعث به الى المعتزّ. وفيها خلع الخليفة المعتزّ على أخيه أبى
أحمد خلعة الملك وتوجّه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ووشاحين مجوهرين
وقلّده سيفين. وفيها
(2/334)
فى شهر رجب خلع المعتزّ أخاه المؤيّد
ابراهيم من العهد وقيّده وضربه. وفيها حبست أرزاق الأتراك والمغاربة
والشاكريّة ببغداد وغيرها، فجاءت فى العام الواحد مائتى ألف ألف دينار
«1» ، وذلك عن خراج المملكة سنتين. وفيها مات إسماعيل بن يوسف العلوىّ
الذي كان خرج بمكّة فى السنة الخالية ووقع بسببه حروب وفتن. وفيها نفى
المعتزّ أخاه أبا أحمد الى واسط ثم ردّ أيضا الى بغداد، ثم نفى المعتزّ
أيضا علىّ بن المعتصم الى واسط ثم ردّ الى بغداد. وفيها حجّ بالناس
محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الهاشمىّ العباسىّ. وفيها توفى
المؤيّد إبراهيم ولىّ العهد ابن الخليفة المتوكّل على الله الهاشمىّ
العباسىّ وأمّه أمّ ولد، وكان أخوه المعتزّ خلعه وحبسه، وفى موته خلاف
كبير، والأقوى عندى أنه مات خنقا. وفيها توفى إبراهيم بن سعد الحافظ
أبو إسحاق الجوهرىّ، كان إماما محدّثا ديّنا صدوقا ثبتا، طاف البلاد
ولقى الشيوخ وسمع الكثير، وروى عنه غير واحد وصنّف المسند. وفيها قتل
الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله أبو العباس أحمد [بن محمد «2» ]
ابن الخليفة المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون ابن محمد المهدىّ بن
أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ
العباسىّ، وأمّه أمّ ولد رومية تسمّى مخارق «3» . بويع بالخلافة لما
مات ابن عمّه محمد المنتصر فى يوم سادس شهر ربيع الأوّل سنة سبع
وأربعين ومائتين؛ فأقام فى الخلافة الى أن انحدر الى بغداد وخلع فى سلخ
سنة إحدى وخمسين ومائتين. فكانت خلافته الى يوم انحدر الى بغداد سنتين
وتسعة أشهر؛ والى أن خلع من الخلافة ثلاث سنين وستة أشهر، ومات وهو ابن
ثلاث وثلاثين سنة. ولمّا خلعوه أرسل اليه المعتزّ الأمير أحمد ابن
طولون التركىّ ليقتله؛ فقال: لا «4» والله لا أقتل أولاد الخلفاء، فقال
له المعتزّ:
(2/335)
فأوصله الى سعيد الحاجب، فتوجّه به وسلّمه
الى سعيد الحاجب، فقتله سعيد الحاجب فى شوّال؛ وفى قتلته أقوال كثيرة.
وكان جوادا سمحا يطلق الألوف وكان متواضعا. قال يوما لأحمد بن يزيد
المهلّبىّ: يا أحمد، ما أظنّ أحدا من بنى هاشم إلا وقد طمع فى الخلافة
لما ولّيتها لبعدى عنها؛ فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، وما أنت ببعيد،
وإنما تقدّم العهد لمن رأى الله أن يقدّمه عليك؛ وكان فى لسان المستعين
لثغة تميل الى السين المهملة والى الثاء المثلّثة. وبويع بعده ابن عمه
المعتزّ.
وفيها توفى أحمد بن سعيد بن صخر الإمام الحافظ الفقيه أبو جعفر
الدارمىّ، كان إماما محدّثا وكان الإمام أحمد بن حنبل اذا كاتبه يقول
فى أوّل كتابه: لأبى جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل. وفيها توفى
إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد الشّيبانىّ عمّ الإمام أحمد بن حنبل، كان
إماما فاضلا محدّثا، ومات وله اثنتان وتسعون سنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن عبد
الله ابن [على»
بن] سويد بن منجوف، والمستعين بالله أحمد بن [محمد بن] المعتصم قتلا،
وإسحاق بن بهلول الحافظ، والأمير أشناس، وزياد بن أيّوب، وعبد الوارث
بن عبد الصمد بن عبد الوارث، ومحمد بن بشّار بندار فى رجب، وأبو موسى
محمد ابن المثنّى العنزىّ «2» الزّمن فى ذى القعدة، ومحمد بن منصور
المكّىّ الجوّاز «3» ، ويعقوب ابن ابراهيم الدّورقىّ، ومحمد بن يحيى بن
عبد الكريم الأزدىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
(2/336)
ذكر ولاية مزاحم بن
خاقان على مصر
هو مزاحم بن خاقان بن عرطوج «1» الأمير أبو الفوارس التركىّ ثم
البغدادىّ، أخو الفتح بن خاقان وزير المتوكّل قتل معه. ولى مزاحم هذا
مصر بعد عزل يزيد بن عبد الله التركىّ عنها؛ ولّاه الخليفة المعتزّ
بالله الزبير على صلاة مصر لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث
وخمسين ومائتين؛ وسكن بالمعسكر على عادة أمراء مصر، فجعل على شرطته
أرخوز «2» ، وأخذ مزاحم فى إظهار الناموس وإقماع أهل الفساد؛ فخرج
[عليه] جماعة كبيرة من المصريين، فتشمّر لقتالهم وجهّز عساكره وأنفق
فيهم؛ فأوّل ما ابتدأ بقتال أهل الحوف من الوجه البحرى، فتوجّه اليهم
بجنوده وقاتلهم وأوقع بهم وقتل منهم وأسر؛ ثم عاد الى الديار المصرية
فأقام بها مدّة يسيرة، ثم خرج أيضا من مصر ونزل بالجيزة؛ ثم سار الى
تروجة «3» بالبحيرة وقاتلهم وأوقع بهم وقتل منهم مقتلة كبيرة وأسر عدّة
من رءوسهم وعاد بهم الى ديار مصر؛ فلم تطل إقامته بها وخرج الى الفيوم
وقاتل أهلها، ووقع له بها حروب كثيرة وقتل منهم أيضا مقتلة عظيمة وأمعن
فى ذلك.
وكثر بعد هذه الواقعة إيقاعه بسكّان النواحى. ثم التفت الى أرخوز
وحرّضه على أمور أمره بها؛ فشدّد أرخوز المذكور عند ذلك ومنع النساء من
الخروج من بيوتهنّ والتوجّه الى الحمّامات والمقابر، وسجن المؤنّثين
والنوائح، ثم منع الناس من الجهر بالبسملة فى الصلاة بالجامع، وكان ذلك
فى شهر رجب سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وأمر أهل الجامع بمساواة الصفوف
فى الصلاة ووكّل بذلك رجلا «4» من العجم يقوم بالسّوط من مؤخّر المسجد؛
وأمر أهل الحلق بالتحوّل الى جهة
(2/337)
القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع المساند
التى يسند اليها فى الجوامع، وأمر أن تصلّى التراويح فى شهر رمضان خمس
تراويح، وكانوا قبل ذلك يصلّونها ستّا؛ ومنع من التثويب فى الصلاة،
وأمر بالأذان فى يوم الجمعة فى مؤخّر المسجد، ثم أمر بأن يغلّس بصلاة
الصبح؛ ونهى أيضا أن يشقّ ثوب على ميّت أو يسوّد وجه أو يحلق شعر أو
تصيح امرأة؛ وعاقب بسبب ذلك خلقا كثيرا وشدّد على الناس حتى أبادهم ولم
يزل فى التشدّد على الناس حتى مرض ومات فى ليلة الاثنين لخمس خلون من
المحرّم سنة أربع وخمسين ومائتين. واستخلف بعده ابنه أحمد ابن مزاحم
على مصر؛ فكانت ولاية مزاحم هذا على مصر سنة واحدة وعشرة أشهر ويومين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 253]
السنة الأولى من ولاية مزاحم بن خاقان على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين
ومائتين- فيها قصد يعقوب بن الليث الصفّار هراة فى جمع، وقاتل أهلها
حتى أخذها من نوّاب محمد بن طاهر ومسك من كان بها وقيّدهم وحبسهم.
وفيها سار الأمير موسى بن بغا فانتقى هو وعسكر عبد العزيز ابن الأمير
أبى دلف العجلىّ فهزمهم، وساق وراءهم الى الكرج «1» وتحصّن عنه عبد
العزيز، وأسرت والدة عبد العزيز المذكور؛ ثم بعث الى سامّرّا بتسعين
حملا من رءوس القتلى. وفى شهر رمضان خلع الخليفة المعتزّ بالله على بغا
الشرابىّ وألبسه تاج الملك «2» . وفيها فى شوّال قتل وصيف التركىّ.
ثم فى ذى القعدة كسف القمر. وفيها غزا محمد بن معاذ «3» بلاد الروم
ودخل بالعسكر من جهة ملطية فأسر وقتل. وفيها فى ذى القعدة ايضا التقى
موسى بن بغا والكوكبىّ «4»
(2/338)
بأرض قزوين، واقتتلا فانهزم الكوكبىّ ولحق
بالدّيلم. وفيها توفى سرىّ السّقطىّ الشيخ أبو الحسن، واسمه السّرىّ بن
المغلّس، وهو الزاهد العابد العارف بالله المشهور، خال الجنيد وأستاذه؛
كان أوحد أهل زمانه فى الورع وعلوم التوحيد، وهو أوّل من تكلّم بها فى
بغداد، واليه ينتهى مشايخ الطريقة، كان علم الأولياء فى زمانه؛ صحب
معروفا الكرخىّ وحدّث عن الفضيل بن عياض وهشيم وأبى بكر بن عيّاش وعلىّ
بن غراب ويزيد بن هارون؛ وحدّث عنه أبو العباس بن مسروق والجنيد بن
محمد وأبو الحسين النّورىّ. قال عبد الله بن شاكر عن السّرىّ قال:
صلّيت وقرأت وردى ليلة ومددت رجلى فى المحراب فنوديت: يا سرىّ، كذا
تجالس الملوك! فضممت رجلى وقلت: وعزّتك وجلالك لا مددتها، وقيل: إن
السرىّ رأى جارية سقط من يدها إناء فانكسر، فأخذ من دكّانه إناء
فأعطاها [إيّاه «1» ] عوض المكسور؛ فرآه معروف فقال: بغّض الله اليك
الدّنيا؛ قال السرىّ: فهذا الذي أنا فيه من بركات معروف.
قال الجنيد: سمعت السرىّ يقول: أحب أن آكل أكلة ليس لله علىّ فيها
تبعة، ولا لمخلوق [علىّ «2» ] فيها منّة، فما أجد الى ذلك سبيلا! قال:
ودخلت عليه وهو يجود بنفسه فقلت: أوصنى؛ قال: لا تصحب الأشرار ولا
تشغلنّ عن الله بمجالسة الأخيار. وعن الجنيد يقول: ما رأيت لله أعبد من
السرىّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة مارئى مضطجعا إلا فى علّة الموت. وعن
الجنيد: سمعت السرىّ يقول: إنى لأنظر إلى أنفى كلّ يوم مرارا مخافة أن
يكون وجهى قد اسودّ. قال: وسمعته يقول: ما أحبّ أن أموت حيث أعرف، أخاف
ألّا تقبلنى الأرض فأفتضح.
(2/339)
وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول اذا ذكر
السرىّ: ذاك الشيخ الذي يعرف بطيب [الريح «1» ] ونظافة الثوب وشدّة
الورع. وفيها توفى الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب
أبو العباس الخزاعىّ، كان من أجلّ الأمراء، ولى إمرة بغداد أيّام
المتوكّل جعفر، وكان فاضلا أديبا شاعرا جوادا ممدّحا شجاعا. وقد تقدّم
ذكر أبيه وجدّه فى هذا الكتاب ونبذة كبيرة من محاسنهم ومكارمهم. وفيها
فى شوّال قتل الأمير وصيف التركىّ المعتصمىّ، كان أميرا كبيرا، أصله من
مماليك المعتصم بالله محمد، وخدم من بعده عدّة خلفاء، واستولى على
المعتز، وحجر على الأموال لنفسه، فتشغّب عليه الجند فلم يلتفت لقولهم،
فوثبوا عليه وقتلوه بعد أمور وقعت له معهم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن سعيد
الهمدانىّ «2» المصرىّ، وأحمد بن سعيد الدارمىّ، وأحمد بن المقدام
العجلىّ، وخشيش ابن أصرم النّسائىّ الحافظ، وسرىّ بن المغلّس السّقطىّ
عن نيّف وتسعين سنة، وعلىّ بن شعيب السّمسار، وعلىّ بن مسلم «3»
الطّوسىّ، ومحمد بن عبد الله بن طاهر الأمير، ومحمد بن عيسى بن رزين
التّيمىّ مقرئ الرّىّ، وهارون بن سعيد الأيلىّ، والأمير وصيف التركىّ،
ويوسف بن موسى القطان، وأبو العباس العلوىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ
دة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
(2/340)
ذكر ولاية أحمد بن
مزاحم على مصر
هو أحمد بن مزاحم بن خاقان بن عرطوج الأمير أبو العباس ابن الأمير أبى
الفوارس التركىّ. ولى إمرة مصر بعد موت أبيه باستخلافه على مصر، فأقرّه
الخليفة المعتزّ بالله على ذلك. وكانت ولايته فى خامس المحرّم سنة أربع
وخمسين ومائتين، وسكن بالمعسكر على عادة الأمراء، وجعل على شرطته أرخوز
المقدّم ذكره فى أيام أبيه مزاحم. فلم تطل أيامه ومات بمصر لسبع خلون
من شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين ومائتين المذكورة. فكانت ولايته
على إمرة مصر شهرين ويوما واحدا. وتولّى إمرة مصر من بعده أرخوز بن
أولوغ طرخان التركىّ باستخلافه.
وكان أحمد هذا شابا عارفا مدبّرا محبّبا للرعيّة «1» ، لم تطل أيّامه
لتشكر أو تذمّ.
ذكر ولاية أرخوز على مصر
هو أرخوز بن أولوغ «2» طرخان التركىّ. وأولوغ طرخان كان تركيا وقدم
بغداد فولد له أرخوز المذكور بها؛ ونشأ أرخوز حتى صار من كبار أمراء
الدولة العباسيّة وتوجّه الى مصر وولى بها الشّرطة لعدّة «3» أمراء كما
تقدّم ذكره، ثم ولى إمرة مصر بعد موت أحمد بن مزاحم، فى العشر الأول من
شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين ومائتين باستخلاف أحمد بن مزاحم له،
فأقرّه الخليفة المعتزّ بالله على ذلك، وجعل اليه إمرة مصر وأمرها
جميعه، كما كان لمزاحم وابنه.
(2/341)
وقال صاحب «البغية والاغتباط فيمن ملك
الفسطاط» : وليها باستخلاف أحمد بن مزاحم على الصلاة فقط، وجعل على
شرطة مصر بولغيا «1» ، ثم خرج الى الحجّ فى شهر رمضان سنة أربع وخمسين
ومائتين وله خمسة أشهر ونصف شهر.
وقال غيره: ودام أرخوز على إمرة مصر الى أن صرف عنها بالأمير أحمد بن
طولون فى شهر رمضان من سنة أربع وخمسين ومائتين، فكانت ولايته على مصر
خمسة أشهر ونصفا؛ وخرج الى بغداد فى أوّل ذى القعدة من السنة، ووفد على
الخليفة فأكرم مقدمه وصار من جملة القوّاد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 254]
السنة التى حكم فيها أربعة أمراء على مصر: ففى أوّل محرّمها مزاحم ابن
خاقان، ثم ابنه أحمد بن مزاحم، ثم الأمير أرخوز بن أولوغ طرخان من شهر
ربيع الآخر الى شهر رمضان، ثم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، وهى
سنة أربع وخمسين ومائتين- فيها قتل بغا الشّرابىّ التركىّ المعتصمىّ
الصغير، كان فاتكا قد طغى وتجبّر وخالف أمر المعتزّ؛ وكان المعتزّ
يقول: لا ألتذ بطيب الحياة حتى أنظر رأس بغا بين يدىّ؛ فوقعت أمور بعد
ذلك بين بغا والأتراك حتى قتل بغا وأتى برأسه الى المعتز، فأعطى
المعتزّ قاتله عشرة آلاف دينار. وفيها توفى علىّ بن محمد ابن علىّ بن
موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، أبو
الحسن «2» الهاشمىّ العسكرىّ أحد الأئمة الاثنى عشر المعدودين عند
الرافضة، وسمىّ بالعسكرىّ لأنّ الخليفة المتوكّل جعفرا أنزله مكان
العسكر. وكان مولده سنة
(2/342)
أربع وعشرين ومائتين. ومات بمدينة سرّ من
رأى فى جمادى الآخرة من السنة.
وفيها توفى محمد بن منصور بن داود الشيخ أبو جعفر الطّوسىّ الزاهد
العابد.
كان من الأبدال، مات فى يوم الجمعة لستّ بقين من شوّال وله ثمان
وثمانون سنة؛ وسمع سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه البغوىّ وغيره؛ وكان
صدوقا ثقة صالحا. وفيها توفى المؤمّل بن إهاب بن عبد العزيز الحافظ أبو
عبد الرحمن الكوفىّ، أصله من كرمان، ونزل الكوفة وقدم بغداد وحدّث بها
وبدمشق، وأسند عن يزيد ابن هارون وغيره، وروى عنه ابن أبى الدنيا
وجماعة أخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ
الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
صورة ما ورد بآخر الجزء الاوّل من النسخة الفتوغرافية:
برسم خزانة الجناب الكريم العالى المولوى الزينى فرج بن المعز الأشرف
المرحوم السيفى برديك أمير أخور وأحد مقدّمى الألوف والده كان وأمير
حاجب هو الملكىّ الأشرفىّ أدام الله نعمته ورحم سلفه بمحمد وآله وصحبه
وسلم.
وكان الفراغ من كتابته فى يوم الجمعة المبارك مستهل شعبان المكرم سنة
خمس وثمانين وثمانمائة أحسن الله عاقبتها على يد الفقير الحقير المعترف
بالتقصير الراجى لطف ربه الخفىّ محمد بن محمد بن أحمد بن محمد القادرى
الحنفى عفا الله تعالى عنهم أجمعين.
انتهى الجزء الثانى من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثالث وأوّله ذكر
ولاية أحمد بن طولون على مصر
(2/343)
[الجزء الثالث]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته
والمسلمين.
الجزء الثالث من كتاب النجوم
الزاهرة
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 254]
ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر
«1»
هو أحمد بن طولون «2» الأمير أبو العبّاس التركىّ أمير مصر، ولى مصر
بعد عزل أرخوز «3» بن أولوغ طرخان فى شهر رمضان سنة أربع وخمسين
ومائتين، وقد مضى من عمره أربع وثلاثون سنة ويوم واحد. وكان أبوه طولون
مولى نوح [بن أسد «4» ابن سامان السامانىّ] عامل بخارى وخراسان، أهداه
نوح فى جملة مماليك إلى المأمون ابن الرشيد، فرقّاه المأمون حتى صار من
جملة الأمراء. وولد له ابنه أحمد هذا فى سنة عشرين ومائتين، وقيل فى
سنة أربع عشرة ومائتين، ببغداد، وقيل بسرّمن رأى وهو الأشهر، من جارية
تسمّى هاشم، وقيل قاسم. وقيل: إن أحمد
(3/1)
هذا لم يكن ابن طولون وإنما طولون تبنّاه؛
قال أبو عبد الله محمد «1» بن أبى نصر الحميدىّ: قال بعض المضريين: إن
طولون تبنّاه لما رأى فيه من مخايل النجابة. ودخل عليه يوما [وهو صغير
«2» ] ، فقال: بالباب قوم ضعفاء فلو كتبت لهم بشىء! فقال [له «3» ]
طولون: ادخل إلى المقصورة وأتنى بدواة؛ فدخل أحمد فرأى بالدّهليز جارية
من حظايا طولون قد خلا بها خادم، فأخذ أحمد الدواه وخرج ولم يتكلّم؛
فحسبت الجارية أنه يسبقها إلى طولون بالقول، فجاءت إلى طولون وقالت:
إنّ أحمد راودنى الساعة فى الدهليز، فصدّقها طولون، وكتب كتابا لبعض
خدمه يأمره بقتل حامل الكتاب من غير مشورة، وأعطاه لأحمد وقال: اذهب به
إلى فلان؛ فأخذ أحمد الكتاب ومرّ بالجارية؛ فقالت له: إلى أين؟ فقال:
فى حاجة مهمّة للأمير فى هذا الكتاب؛ فقالت:
أنا أرسله، ولى بك حاجة؛ فدفع إليها الكتاب فدفعته إلى الخادم المذكور،
وقالت:
اذهب به إلى فلان؛ وشاغلت أحمد بالحديث، أرادت بذلك أن يزداد عليه
الأمير طولون غضبا. فلما وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم وبعث
به إلى طولون؛ فلما رآه عجب واستدعى أحمد وقال له: اصدقنى! ما الذي
رأيت فى طريقك إلى المقصورة؟ قال: لا شىء؛ قال: اصدقنى وإلا قتلتك!
فصدقه الحديث؛ وعلمت الجارية بقتل الخادم، فخرجت «4» ذليلة؛ فقال لها
طولون:
اصدقينى فصدقته فقتلها؛ وحظى أحمد عنده.
(3/2)
وقال أحمد بن يوسف: قلت لأبي العباس بن
خاقان: الناس فرقتان فى ابن طولون، فرقة تقول: إنّ أحمد ابن طولون،
وأخرى تقول: هو ابن يلبخ «1» التركىّ، وأمّه قاسم جارية طولون؛ فقال:
كذبوا، إنما هو ابن طولون. ودليله أنّ الموفّق لما لعنه نسبه إلى طولون
ولم ينسبه إلى يلبخ، ويلبخ مضحاك يسخر منه، وطولون معروف بالسّتر. وقال
أحمد بن يوسف المذكور: كان طولون رجلا من أهل طغزغز «2» حمله «3» نوح
بن أسد عامل بخارى إلى المأمون [فيما كان موظّفا عليه من المال والرقيق
والبراذين وغير ذلك فى كلّ سنة «4» ] . وولد [له «5» ] أحمد [سنة عشرين
«6» ومائتين] من جارية، ومات أبوه طولون فى سنة أربعين ومائتين، وقيل:
فى سنة ثلاثين ومائتين، والأوّل أصح. انتهى كلام ابن يوسف.
ونشأ أحمد بن طولون على مذهب جميل، وحفظ القرآن وأتقنه «7» ، وكان من
نشأته أطيب الناس صوتا به، مع كثرة الدرس وطلب العلم؛ وتفقّه على مذهب
الإمام
(3/3)
الأعظم أبى حنيفة. ولما ترعرع «1» أحمد
تزوّج بابنة عمّه خاتون فولدت له العباس سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
ولما مات أبوه طولون فوّض إليه الخليفة المتوكّل ما كان لأبيه، ثم
تنقّلت به الأحوال إلى أن ولى إمرة الثغور وإمرة دمشق ثم ديار مصر.
وكان يقول: ينبغى للرئيس أن يجعل اقتصاده على نفسه وسماحته على من
يقصده ويشتمل عليه، فإنه يملكهم ملكا لا يزول به عن قلوبهم. ونشأ أحمد
بن طولون فى الفقه والصلاح والدين والجود حتى صار له فى الدنيا الذكر
الجميل.
وكان شديد الإزراء «2» على الترك وأولادهم لما يرتكبونه فى أمر
الخلفاء، غير راض بذلك، ويستقلّ عقولهم؛ ويقول: حرمة الدّين عندهم
مهتوكة.
وقال الخاقانىّ «3» - وكان خصيصا عند ابن طولون-: وقال لى يوما (يعنى
ابن طولون) : يا أخى [الى «4» ] كم نقيم على هذا الإثم مع هؤلاء
الموالى! (يعنى الأتراك) ، لا يطئون موطئا إلا كتب علينا الخطأ والإثم؛
والصواب أن نسأل الوزير «5» أن يكتب «6» أرزاقنا الى الثغر؛ فسأله فكتب
له وخرجنا إلى طرسوس؛ فلما «7» رأى ما الناس عليه
(3/4)
من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر سرّ
بذلك؛ فأقمنا نسمع الحديث مدّة، ثم رجعت أنا الى سرّ من رأى،
فآستقبلتنى أمّه قاسم بالبكاء وقالت: مات ابنى! فحلفت لها إنه فى
عافية؛ ثم عدت الى طرسوس فأخبرته بما رأيت من أمّه وقلت له: إن كنت
أردت بمقامك فى هذه البلاد وجه الله وتدع أمّك كذلك فقد أخطأت؛ فوعدنى
بالخروج من طرسوس؛ ثم خرجنا ونحن زهاء «1» خمسمائة رجل- والخليفة يومئذ
المستعين بالله- وخرج معنا خادم الخليفة ومعه ثياب مثمّنة «2» من عمل
الروم، فسرنا إلى الرّها «3» ؛ فقيل لنا: إنّ جماعة من قطّاع الطريق
على انتظاركم، والمصلحة دخولكم حصن الرّها حتى يتفرّقوا «4» ؛ فقال
أحمد: لا يرانى الله فارّا «5» وقد خرجت على نيّة الجهاد! فخرجنا
والتقينا، فأوقع بالقوم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون؛ فزاد فى أعين
الناس مهابة وجلالة؛ ووصل الخادم الى المستعين بالثياب، فلما رآها
استحسنها؛ فقال له الخادم: لولا ابن طولون ما سلمت ولا سلمنا وحكى له
الحكاية؛ فبعث إليه مع الخادم ألف دينار سرّا، وقال له: عرّفه أننى
أحبّه، ولولا خوفى عليه قرّبته.
وكان ابن طولون إذا أدخل على المستعين مع الأتراك في الخدمة أومأ اليه
الخليفة بالسلام سرّا، واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية اسمها ميّاس
«6» ، فولدت
(3/5)
له ابنه خمارويه فى المحرّم من سنة خمسين
ومائتين. ولما تنكّر «1» الأتراك للمستعين وخلعوه وأحدروه إلى واسط،
قالوا «2» له: من تختار أن يكون فى صحبتك؟ فقال:
أحمد بن طولون، فبعثوه معه فأحسن صحبته. ثم كتب الأتراك إلى أحمد: اقتل
المستعين ونولّيك واسطا؛ فكتب إليهم لا رآنى «3» الله قتلت خليفة بايعت
له أبدا! فبعثوا سعيدا «4» الحاجب فقتل المستعين، فوارى أحمد بن طولون
جثّته. ولما رجع أحمد الى سرّ من رأى بعد ما قتل المستعين أقام بها،
فزاد محلّه عند الأتراك فولّوه مصر نيابة عن أميرها سنة أربع وخمسين
ومائتين. فقال حين دخلها: غاية ما وعدت به فى قتل المستعين واسط، فتركت
ذلك لله تعالى، فعوّضنى ولاية مصر والشام.
فلما قتل والى مصر من الأتراك فى أيّام الخليفة المهتدى صار أحمد بن
طولون مستقلّا بها فى أيام المعتمد. وقيل: إنّه ولى الشام نيابة عن
باكباك «5» ، فلمّا قتل باكباك استقلّ، وكان حكمه من الفرات الى
المغرب. وأوّل ما دخل مصر خرج بغا الأصغر، وهو أحمد بن محمد بن عبد
الله بن طباطبا، فيما بين برقة والإسكندريّة فى جمادى الأولى سنة خمس
وخمسين ومائتين، وسار إلى الصعيد، فقتل هناك وحمل رأسه «6» الى مصر فى
شعبان. ثم خرج ابن الصوفىّ العلوىّ، وهو إبراهيم ابن محمد بن يحيى [بن
«7» عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب] ، وتوجّه إلى إسنا فى
ذى القعدة فنهب [وقتل «8» أهلها] ؛ وقيل: إنّ أحمد بن طولون بعث
(3/6)
اليه جيشا فكسر الجيش فى ربيع الأوّل سنة
ست وخمسين ومائتين، وأرسل اليه ابن طولون جيشا آخر فواقعوه بإخميم
فهزموه الى الواح «1» . ثم خرج ابن طولون بنفسه لمحاربة عيسى بن الشيخ،
ثم عاد وأرسل جيشا؛ ثم ورد عليه كتاب الخليفة بأنه يتسلّم الأعمال
الخارجة عن أرض مصر؛ فتسلّم الإسكندرية وخرج اليها لثمان خلون من شهر
رمضان، واستخلف على مصر طغلج «2» صاحب شرطته، ثم عاد الى مصر لأربع «3»
عشرة بقيت من شوّال، وسخط على أخيه موسى وأمره بلباس البياض؛ ثم خرج
الى الإسكندرية ثانيا [لثمان «4» بقين من] شعبان سنة تسع وخمسين
ومائتين، ثم عاد فى شوّال. ثم ورد عليه كتاب المعتمد يستحثّه فى جمع
الأموال؛ فكتب اليه ابن طولون: لست أطيق ذلك والخراج فى يد غيرى؛ فأرسل
المعتمد على الله اليه نفيسا الخادم بتقليده الخراج وبولايته الثغور
الشاميّة. فأقرّ أحمد بن طولون عند ذلك أبا أيّوب أحمد بن محمد [بن
شجاع «5» ] على الخراج، وعقد لطخشىّ بن بلبرد «6» على الثغور، فخرج
اليها فى سنة أربع وستين ومائتين، فصار الأمر كلّه بيد أحمد ابن طولون،
وقويت شوكته بذلك وعظم أمره بديار مصر.
ولما كان فى بعض الأيام ركب يوما ليتصيّد بمصر فغاصت قوائم فرسه فى
الرمل فأمر بكشف ذلك الموضع فظفر بمطلب فيه ألف ألف دينار، فأنفقها فى
أبواب
(3/7)
البرّ والصدقات، كما سيأتى ذكرها. وكان
يتصدّق فى كل يوم بمائة دينار غير ما كان عليه من الرواتب، وكان ينفق
على مطبخه فى كلّ يوم ألف دينار، وكان يبعث بالصدقات الى دمشق والعراق
والجزيرة والثغور وبغداد وسرّ من رأى والكوفة والبصرة والحرمين وغيرها؛
فحسب ذلك فكان ألفى «1» ألف دينار ومائتى ألف دينار.
ثم بنى الجامع الذي بين مصر وقبّة «2» الهواء على جبل يتسكر خارج
القاهرة وغرم عليه أموالا عظيمة.
قال أحمد الكاتب: أنفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقال له
الصنّاع: على أىّ مثال نعمل المنارة؟ وما كان يعبث قطّ فى مجلسه، فأخذ
درجا من الكاغد وجعل يعبث به فخرج بعضه وبقى بعضه فى يده، فعجب
الحاضرون، فقال: اصنعوا المنارة على هذا المثال، فصنعوها.
ولما تمّ بناء الجامع رأى أحمد بن طولون فى منامه كأنّ الله تعالى قد
تجلّى للقصور «3» التى حول الجامع ولم يتجلّ للجامع، فسأل المعبّرين
فقالوا: يخرب ما حوله ويبقى قائما وحده؛ فقال: من أين لكم هذا؟ قالوا:
من قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تجلّى الله لشىء خضع له» .
وكان كما قالوا.
(3/8)
وقال بعضهم: إنّ الكنز «1» الذي لقيه ابن
طولون منه عّمر الجامع المذكور. وكان بناؤه فى سنة تسع وخمسين ومائتين.
وأما أمر الكنز فانه ذكر غير واحد من المؤرّخين أنّ أحمد بن طولون كان
له كاتب يعرف بابن دشومة «2» وكان واسع الحيلة بخيل اليد زاهدا فى شكر
الشاكرين، لا يهشّ الى شىء من أعمال البرّ، وكان ابن طولون من أهل
القرآن إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع؛ واتّفق أنّ الخليفة المعتمد
أمر ابن طولون أن يتسلّم «3» الخراج حسبما ذكرناه، فامتنع من المظالم
لدينه، ثم شاور كاتبه ابن دشومة المذكور، فقال ابن دشومه: يؤمّننى
الأمير لأقول له ما عندى؟ فقال أحمد بن طولون: قل وأنت آمن؛ فقال: يعلم
الأمير أن الدنيا والآخرة ضرّتان، والشهم من لم يخلط إحداهما بالأخرى،
والمفرّط من جمع بينهما؛ وأفعال الأمير أفعال الجبابرة، وتوكّله توكّل
الزهّاد، وليس «4» مثله من ركب خطّة لم يحكمها، ولو كنّا نثق بالنصر
وطول العمر لما كان شىء آثر عندنا من التضييق على أنفسنا فى العاجل
لعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر كثير المصائب والآفات؛ وهذه
المظالم قد اجتمع
(3/9)
لك منها فى السنة ما قدره مائة ألف دينار؛
فبات أحمد بن طولون ليلته وقد حرّكه قول ابن دشومة، فرأى فيما يرى
النائم صديقا له كان من الزهّاد مات لمّا كان ابن طولون بالثغر قبل
دخوله الى مصر، وهو يقول له: بئس ما أشار عليك ابن دشومة فى أمر
الارتفاق «1» ، واعلم أنه من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه؛ فارجع
الى ربّك، وإن كان التكاثر والتفاخر قد شغلاك عنه فى هذه الدنيا. فأمض
ما عزمت عليه وأنا ضامن لك من الله تعالى أفضل العوض منه قريبا غير
بعيد.
فلما أصبح أحمد بن طولون دعا ابن دشومة فأخبره بما رأى فى نومه؛ فقال
له ابن دشومة: أشار عليك رجلان: أحدهما فى اليقظة والآخر فى المنام،
وأنت لمن فى اليقظة أوجد وبضمانه أوثق؛ فقال ابن طولون: دعنى من هذا؛
وأزال جميع المظالم ولم يلتفت الى كلامه. ثم ركب أحمد بن طولون الى
الصيد، فلما سار فى البرّيّة انخسفت الأرض برجل فرس بعض أصحابه فى قبر
فى وسط الرمل؛ فوقف أحمد بن طولون عليه وكشفه فوجد مطلبا واسعا، فأمر
بحمله فحمل منه من المال ما قيمته ألف ألف دينار؛ فبنى منه هذا الجامع
والبئر «2» بالقرافة الكبرى والبيمارستان «3» بمصر ووجوه البرّ؛ ثم دعا
بابن دشومة المقدّم ذكره وقال: والله لولا أنّى أمّنتك لصلبتك، ثم بعد
مدّة صادره واستصفى أمواله، وحبسه حتى مات.
وقيل: إن ابن طولون لما فرغ من بناء جامعه المذكور أمر حاشيته بسماع ما
يقول الناس فيه من الأقوال والعيوب؛ فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر:
ما فيه
(3/10)
عمود، وقال آخر: ليست له ميضأة؛ فبلغه ذلك
فجمع الناس وقال: أما المحراب فإنى رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم
وقد خطّه لى فى منامى، وأصبحت فرأيت النمل قد طافت بذلك المكان الذي
خطّه لى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما العمد فإنّى بنيت هذا
الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره؛ وهذه العمد إما
أن تكون فى مسجد أو كنيسة فنزّهته عنها؛ وأما الميضأة فإنّى نظرت فوجدت
ما يكون بها من النجاسات فطهّرته عنها، وهأنا أبنيها خلفه، وأمر
ببنائها.
وقيل: إنه لمّا فرغ من بنائه رأى فى منامه كأنّ نارا نزلت من السماء
فأخذت الجامع دون ما حوله من العمران؛ فلمّا أصبح قصّ رؤياه فقيل له:
أبشر بقبول الجامع المبارك، لأنّ النار كانت فى الزمن الماضى إذا قبل
الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته، ودليله «1» قصة قابيل وهابيل
«2» .
وكان حول الجامع العمران ملاصقة له، حتى قيل: إن مسطبة كانت خلف
الجامع، وكانت ذراعا فى ذراع لا غير، فكانت أجرتها فى كلّ يوم اثنى عشر
درهما:
فى بكرة النهار يقعد فيها شخص يبيع الغزل ويشتريه بأربعة دراهم؛ ومن
الظهر الى العصر لخبّاز بأربعة دراهم؛ ومن العصر الى المغرب لشخص يبيع
فيها الحمّص والفول بأربعة دراهم. قلت: هذا مما يدل على أن الجامع
المذكور كان فى وسط العمران.
(3/11)
وهذا الجامع على جبل يشكر- كما ذكرناه- وهو
مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل: إنّ موسى عليه السلام ناجى ربّه- جلّ
جلاله- عليه بكلمات. ويشكر المنسوب إليه هذا الجبل هو ابن جزيلة من
لخم. انتهى.
وأنفق ابن طولون على البيمارستان ستين ألف دينار، وعلى حصن «1» الجزيرة
ثمانين ألف دينار، وعلى الميدان خمسين ألف دينار؛ وحمل إلى الخليفة
المعتمد فى مدة أربع سنين ألفى ألف دينار ومائتى ألف دينار. وكان خراج
مصر فى أيامه أربعة آلاف ألف وثلثمائة ألف دينار؛ هذا مع كثرة صدقاته
وإنفاقه على مماليكه وعسكره.
وقد قال له وكيله «2» فى الصدقات: ربما امتدّت الىّ الكفّ المطوّقة
والمعصم فيه السّوار والكمّ الناعم، أفأمنع هذه الوظيفة؟ «3» فقال له:
ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن
تردّ يدا امتدّت اليك.
وقيل: إنه حسّن له بعض التجار التجارة، فدفع له أحمد بن طولون خمسين
ألف دينار يتّجر له بها؛ فرأى ابن طولون بعد ذلك فى منامه كأنه يمشمش
عظما، فدعا المعبّر وقصّ عليه؛ فقال: قد سمت همّتك إلى مكسب لا يشبه
خطرك «4» ؛ فأرسل ابن طولون فى الحال إلى التاجر وأخذ المال منه فتصدّق
به.
(3/12)
وكان جميع خصال ابن طولون محمودة، إلا أنه
كان حادّ الخلق والمزاج؛ فإنه لما ولى مصر والشام ظلم كثيرا وعسف وسفك
كثيرا من الدماء. يقال: إنه مات فى حبسه «1» ثمانية عشر ألفا، فرأى فى
منامه كأنّ الحق سبحانه قد مات فى داره فاستعظم ذلك وانتبه فزعا، وجمع
المعبّرين فلم يدروا؛ فقال له بعضهم: أقول ولى الأمان؟
قال نعم؛ قال: أنت رجل ظالم، قد أمتّ الحقّ فى دارك! فبكى.
وكان فيه ذكاء وفطنة وحدس ثاقب. قال محمد بن عبد الملك الهمذانىّ:
إن ابن طولون جلس يأكل، فرأى سائلا فأمر له بدجاجة ورغيف وحلواء، فجاءه
الغلام فقال: ناولته فما هشّ له؛ فقال ابن طولون: علىّ به، فلما مثل
بين يديه لم يضطرب من الهيبة؛ فقال له ابن طولون: أحضر لى الكتب التى
معك واصدقنى، فقد صحّ عندى أنك صاحب خبر، وأحضر السياط فاعترف؛ فقال له
بعض من حضر: هذا والله السحر الحلال! قال ابن طولون: ما هو سحر ولكنّه
قياس صحيح، رأيت سوء حاله فسيّرت له طعاما يشره له الشبعان فما هشّ له،
فأحضرته فتلقّانى بقوّة جأش، فعلمت أنه صاحب خبر لا فقير، فكان كذلك.
وقال أبو الحسين الرازىّ: سمعت أحمد [بن أحمد «2» ] بن حميد بن أبي
العجائز وغيره من شيوخ دمشق قالوا: لما دخل أحمد بن طولون دمشق وقع بها
حريق عند كنيسة مريم، فركب ابن طولون إليه ومعه أبو زرعة البصرى «3»
وأبو عبد الله أحمد ابن محمد الواسطىّ كاتبه؛ فقال ابن طولون لأبى
زرعة: ما يسمّى هذا الموضع؟
قال: كنيسة مريم؛ فقال أبو عبد الله: أكان لمريم كنيسة؟ قال: ماهى من
بناء
(3/13)
مريم، وإنما بنوها على اسمها؛ فقال ابن
طولون: مالك [و] للاعتراض على الشيخ! ثم أمر بسبعين ألف دينار من ماله،
وأن يعطى لكل من احترق له شىء ويقبل قوله ولا يستحلف، فأعطوا لمن ذهب
ماله. وفضل من المال أربعة عشر ألف دينار؛ ثم أمر بمال عظيم أيضا ففرّق
فى فقراء أهل دمشق والغوطة، وأقلّ «1» ما أصاب الواحد من المستورين
دينار.
وعن محمد بن على الماذرائىّ «2» قال: كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون
فأرى شيخا ملازما للقراءة «3» على قبره، ثم إنى لم أره مدّة، ثم رأيته
فسألته فقال: كان له علينا بعض العدل إن لم يكن الكلّ، فأحببت أن أصله
بالقراءة؛ قلت: فلم انقطعت؟
قال: رأيته فى النوم وهو يقول: أحبّ ألّا تقرأ عندى، فما تمرّ بآية إلا
قرّعت بها وقيل: أما سمعت هذه! انتهى.
قلت: ولمّا ولى أحمد بن طولون مصر سكن العسكر على عادة أمراء مصر من
قبله، ثم أحب أن يبنى له قصرا فبنى القطائع. والقطائع قد زالت آثارها
الآن من مصر ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها من قبّة الهواء، التى
صار مكانها الآن قلعة الجبل، الى جامع ابن طولون المذكور وهو طول «4»
القطائع، وأما عرضها فانه كان من أوّل الرّميلة من تحت القلعة الى
الموضع الذي يعرف الآن بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له
الآن زين العابدين؛ وكانت مساحة القطائع ميلا فى ميل.
(3/14)
وقبّة الهواء كانت فى السطح «1» الذي عليه
قلعة الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصر ابن طولون. وموضع هذا القصر
الميدان السلطانى الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرّميلة «2» .
وكان موضع سوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانا. ويجاورها الميدان
الذي يعرف اليوم بالقبيبات؛ فيصير الميدان فيما بين القصر والجامع الذي
أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دار الإمارة فى جهته
القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه الى المقصورة المحيطة
بمصلّى الأمير الى جوار المحراب، وهناك دار الحرم. والقطائع عدّة قطع
يسكن فيها عبيد الأمير أحمد بن طولون وعساكره وغلمانه.
قلت: والقطائع كانت بمعنى الأطباق التى للمماليك السلطانية الآن، وكانت
كلّ قطيعة لطائفة تسمّى بها، فكانت قطيعة تسمّى قطيعة السودان، وقطيعة
الروم، وقطيعة الفرّاشين- وهم نوع من الجمدارية الآن- ونحو ذلك. وكانت
كل قطيعة لسكن جماعة ممن ذكرنا وهى «3» بمنزلة الحارات اليوم. وسبب
بناء ابن طولون القصر والقطائع كثرة مماليكه وعبيده، فضاقت دار الإمارة
عليه، فركب الى سفح الجبل وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختطّ
موضعهما وبنى القصر والميدان المقدّم ذكرهما؛ ثم أمر لأصحابه وغلمانه
أن يختطّوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا؛ واختطّوا وبنوا حتى اتصل
البناء بعمارة الفسطاط- أعنى بمصر القديمة- ثم بنيت القطائع وسمّيت كل
قطيعة باسم من سكنها. قال القضاعىّ: وكان للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم،
وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفرّاشين قطيعة [مفردة «4» ] تعرف بهم،
ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم؛ وبنى القوّاد مواضع
[متفرّقة «5» ] ،
(3/15)
وعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرّقت فيما
السكك والأزقّة، وعمرت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمّامات
والأفران والحوانيت والشوراع.
وجعل ابن طولون قصرا كبيرا فيه ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وسمّى
القصر كلّه الميدان؛ وعمل للقصر «1» أبوابا لكل باب اسم؛ فباب الميدان
الكبير كان منه الدخول والخروج لجيشه وخدمه؛ وباب الخاصّة لا يدخل منه
إلا خاصّته؛ وباب الجبل «2» الذي يلى جبل المقطم؛ وباب الحرم «3» لا
يدخل منه إلا خادم خصىّ أو حرمة؛ وباب الدّرسون كان يجلس فيه حاجب أسود
عظيم الخلقة يتقلّد جنايات الغلمان السودان الرّجّالة فقط، واسمه
الدرمون وبه سمّى الباب المذكور؛ وباب دعناج لأنه كان يجلس فيه حاجب
يقال له دعناج؛ وباب الساج لأنه كان عمل من خشب الساج؛ وباب الصلاة
لأنه كان يخرج [منه] إلى الصلاة وكان بالشارع الأعظم، وكان هذا الباب
يعرف بباب السباع لأنه كانت عليه صورة سبعين من جبس؛ وكانت «4» هذه
الأبواب لا تفتح كلّها إلا فى يوم العيد [أو] يوم عرض الجيش [أو يوم
«5» صدقة] ، وما «6» كانت تفتح الأبواب إلا بترتيب فى أوقات معروفة؛
وكان للقصر شبابيك «7» تفتح من سائر نواحى الأبواب تشرف كلّ جهة على
باب.
(3/16)
ولما بنى هذا القصر والميدان وعظم أمره
زادت صدقاته ورواتبه حتى بلغت صدقاته المرتّبة فى الشهر ألفى دينار،
سوى ما كان يغطى ويطرأ عليه؛ وكان يقول:
هذه صدقات الشكر على تجديد النعم؛ ثم جعل مطابخ للفقراء والمساكين فى
كلّ يوم، فكان يذبح فيها البقر والغنم ويفرّق للناس فى القدور الفخّار
والقصع، ولكل قصعة أو قدر أربعة أرغفة: فى اثنين منها فالوذج، والاثنان
الآخران على القدر أو القصعة؛ وكان فى الغالب يعمل سماط عظيم وينادى فى
مصر: من أحبّ [أن] يحضر سماط الأمير فليحضر؛ ويجلس هو بأعلى القصر ينظر
ذلك ويأمر بفتح جميع أبواب الميدان ينظرهم وهم يأكلون ويحملون فيسّره
ذلك ويحمد الله على نعمته. ثم جعل بالقرب من قصره حجرة فيها رجال
سمّاهم بالمكبّرين عدّتهم اثنا عشر رجلا، يبيت فى كلّ ليلة منهم أربعة
يتعاقبون بالليل نوبا، يكبّرون ويهلّلون ويسبّحون ويقرءون القرآن بطيّب
الألحان ويترسّلون بقصائد زهديّة ويؤذّنون أوقات الأذان؛ وكان هو أيضا
[من] أطيب الناس صوتا. قلت: ولهذا كان فى هذه الرتبة، لأن الجنسيّة علة
الضم.
ولا زال على ذلك حتى خرج من مصر الى طرسوس، ثم عاد الى أنطاكية فى
جيوشه، بعد أن كان وقع له مع الموفّق أمور ووقائع يأتى ذكرها فى حوادث
سنيه على مصر.
وكان قد أكل من لبن الجاموس وأكثر منه، وكان له طبيب اسمه سعد «1» بن
نوفيل نصرانى؛ فقال له: ما الرأى؟ فقال له: لا تقرب الغذاء اليوم وغدا،
وكان جائعا فاستدعى خروفا وفراريج فأكل منها، وكان به علّة القيام
فامتنع؛ «2» فأخبر الطبيب؛ فقال: إنا لله! ضعفت القوّة المدافعة بقهر
الغذاء لها، [فعالجه] «3» فعاوده الإسهال؛
(3/17)
فخرج من أنطاكية فى محفه «1» تحمله الرجال،
فضعف عن ذلك فركب البحر الى مصر؛ فقيل لطبيبه: لست بحاذق؛ فقال: والله
ما خدمتى له إلا خدمة الفأر للسّنّور، وإن قتلى عنده أهون علىّ من
صحبته!.
ولما دخل ابن طولون الى مصر على تلك الهيئة استدعى الأطباء وفيهم الحسن
ابن زيرك، فقال لهم: والله لئن لم تحسنوا فى تدبيركم لأضرينّ أعناقكم
قيل موتى؛ فخافوا منه، وما كان يحتمى، ويخالفهم. ولما اشتدّ مرضه خرج
المسلمون بالمصاحف، واليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل، والمعلّمون
بالصّبيان، الى الصحراء ودعوا له؛ وأقام المسلمون بالمساجد يختمون
القرآن ويدعون له؛ فلما أيس من نفسه رفع يديه إلى السماء وقال: يا ربّ
ارحم من جهل مقدار نفسه، وأبطره «2» حلمك عنه؛ ثم تشهّد ومات بمصر فى
يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين، وولى مصر
بعده ابنه أبو الجيش خمارويه؛ ومات وعمره خمسون سنة بحساب من قال إنّ
مولده سنة عشرين ومائتين. وكانت ولايته على مصر سبع عشرة سنة. وقيل:
إنّه لمّا ثقل فى الضعف أرسل الى القاضى بكّار بن قتيبة الحنفىّ- وكان
قد حبسه فى دار بسبب نحكيه هنا بعد ما نذكر ما أرسل يقول له- فجاء
الرسول إلى بكّار يقول له: أنا أردّك الى منزلتك وأحسن؛ فقال القاضى
بكّار:
قل له: شيخ فان وعليل مدنف، والملتقى قريب، والقاضى الله عزّ وجلّ؛
فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك؛ فأطرق ساعة، ثم أقبل يقول: شيخ فان وعليل
مدنف والملتقى قريب والقاضى الله! وكرّر ذلك الى أن غشى عليه؛ ثم أمر
بنقله من السجن الى دار اكتريت له.
(3/18)
وأما سبب انحراف أحمد بن طولون على القاضى
بكّار فلكون «1» أنّ ابن طولون دعا القاضى بكّارا لخلع الموفق من ولاية
العهد للخلافة فامتنع؛ فحبسه لأجل هذا؛ وكرر عليه القول فلم يقبل وئالا
«2» ؛ وكان «3» أوّلا من أعظم الناس عند ابن طولون.
قال الطحاوىّ: ولا أحصى كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكار وهو
يملى «4» الحديث ومجلسه مملوء بالناس، ويتقدّم الحاجب ويقول: لا يتغيّر
أحد من مكانه؛ فما يشعر بكّار إلّا وابن طولون إلى جانبه؛ فيقول له:
أيها الأمير ألا تركتنى [حتى] «5» كنت أقضى حقّك [وأؤدّى «6» واجبك!
أحسن الله جزاءك وتولّى مكافأتك] ؛ ثم فسد الحال بينهما حتى حبسه.
قال القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان: كان أحمد بن طولون يدفع
الى القاضى بكّار فى العام ألف دينار سوى المقرّر له فيتركها بكّار
بختمها [ «7» ولا يتصرّف فيها] ؛ فلما دعاه ابن طولون لخلع الموفّق من
ولاية العهد امتنع، فاعتقله وطالبه بحمل الذهب فحمله اليه بختومه، وكان
ثمانية عشر كيسا فى كل كيس ألف دينار؛ فاستحى ابن طولون عند ذلك من
الملأ. قلت: هذا هو القاضى الذي فى الجنة؛ رحمه الله تعالى. وقال أبو
عيسى اللؤلؤيّ: رآه بعض أصحابه المتزهّدين فى حال حسنة فى المنام (يعنى
ابن طولون) ، فقال له: ما فعل الله بك؟ وكيف حالك؟ قال: لا ينبغى لمن
سكن الدنيا [أن] يحتقر حسنة فيدعها ولا سيئة فيرتكبها، عدل بى عن النار
الى الجنة
(3/19)
بتريّثى «1» على متظلّم عيّ «2» اللسان
شديد التهيّب «3» ، فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجته وتقدّمت «4»
بإنصافه؛ وما فى الآخرة على الرؤساء أشدّ من الحجاب «5» لملتمسى «6»
الإنصاف.
ورثاه كثير من الشعراء، من ذلك ما قاله بعض المصريّين:
يا غرّة «7» الدنيا الذي أفعاله ... غرر بها كلّ الورى تتعلّق
أنت الأمير على الشآم وثغره ... والرّقّتين «8» وما حواه المشرق
واليك مصر وبرقة وحجازها ... كلّ «9» إليك مع المدى يتشوّق
وخلّف ابن طولون ثلاثة وثلاثين ولدا، منهم سبعة عشر ذكرا، وهم:
العباس وخمارويه الذي ولى مصر بعد موته، وعدنان ومضر وشيبان وربيعة
وأبو العشائر، وهؤلاء أعيانهم، فأما العباس فهو الذي كان عصى على والده
ودخل الغرب وحمل الى أبيه أحمد فحبسه ومات وهو فى حبسه، ومات بعد أبيه
بيسير؛ وكان شاعرا، وهو القائل:
(3/20)
لله درّى إذ أعدو على فرسى ... الى الهياج ونار الحرب تستعر
وفى يدى صارم أفرى الرءوس به ... فى حدّه الموت لا يبقى ولا يذر
إن كنت سائلة عنى وعن خبرى ... فهأنا الليث والصّمصامة الذّكر
من آل طولون أصلى إن سألت فما ... فوقى لمفتخر فى الجود مفتخر «1»
وكان أبوه أحمد بن طولون لما خرج الى الشام فى السنة الماضية أخذه
مقيّدا معه وعاد به على ذلك.
وخلّف أحمد بن طولون فى خزائنه من الذهب النقد عشرة آلاف ألف دينار؛
ومن المماليك سبعة آلاف مملوك، [ومن «2» الغلمان أربعة وعشرين ألف
غلام] ، ومن الخيل [الميدانية «3» ] سبعة آلاف رأس، ومن البغال والحمير
ستة آلاف رأس، ومن الدوابّ لخاصته ثلثمائة، ومن مراكبه الجياد مائة.
وكان ما يدخل إلى خزائنه فى كل سنة بعد مصاريفه ألف ألف دينار. رحمه
الله تعالى. |