النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 645]
السنة الثامنة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وأربعين وستّمائة.

(6/357)


فيها نزل الوزير فخر الدين ابن الشيخ بعسكر الصالح نجم الدين المذكور على طبريّة ففتحها عنوة، وحاصر عسقلان وقاتل عليها قتالا عظيما [وأخذها المسلمون «1» ] .
وفيها وجّه الملك الصالح نجم الدين تاج الدين بن مهاجر من مصر إلى دمشق ومعه المبارز نسيبه ومعهما تذكرة فيها أسماء جماعة من أعيان الدّماشقة بأن يحملوا إلى مصر فحملوا، وهم: [القاضى «2» ] محيى الدين بن الزّكىّ وابن الحصيرىّ وابن العماد الكاتب وبنو صصرّى الأربعة، وشرف الدين بن المعتمد وابن الخطيب العقربانىّ والتاج [الإسكندرانىّ «3» ] الملقّب بالشّحرور وأبو الشامات والحكيمىّ «4» مملوك إسماعيل وغازى والى بصرى وابن الهادى المحتسب؛ وأخرج العماد «5» ابن خطيب بيت الأبّار من جامع دمشق، وولّى العماد «6» الحرستانىّ الخطابة عوضه. وسبب حمل هؤلاء الجماعة إلى مصر، أنّه نقل إلى الملك الصالح أيّوب أنّهم خواصّ الصالح إسماعيل، فخاف أن يجرى ما جرى فى النوبة الأولى من أخذ دمشق. ولمّا وصلوا إلى مصر حبس منهم السلطان الملك الصالح جماعة فأقاموا فى الحبس إلى أن مات الملك الصالح، فأخرجوا وعادوا إلى دمشق.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى العلّامة أبو علىّ عمر بن محمد الأزدىّ الإشبيلىّ النحوىّ الشّلوبينى «7» فى صفر، وله ثلاث وثمانون سنة.

(6/358)


وأبو مدين شعيب بن يحيى الإسكندرانىّ الزّعفرانىّ التاجر بمكّة- شرّفها الله تعالى- والشيخ علىّ الحريرىّ فى رمضان عن سنّ عالية.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 646]
السنة التاسعة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وأربعين وستمائة.
فيها قايض الملك الأشرف موسى صاحب حمص تلّ باشر بحمص مع الملك الناصر يوسف [بن العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين «1» ] صاحب حلب، ولذلك خرج الملك الصالح نجم الدين أيّوب هذا من مصر بالعساكر حسب ما ذكرناه فى ترجمته، ثم عاد مريضا لمّا بلغه مجىء الفرنج إلى دمياط.
وفيها أخذ الملك الصالح نجم الدين المذكور من الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ بيبرس البندقدارىّ الذي تسلطن، اشتراه منه ورقّاه إلى أن صار من أمره ما صار.
وفيها زار الملك الصالح فى عوده إلى مصر القدس الشريف، وأمر أن يذرع سوره، فجاء ستة آلاف ذراع، فأمر بأن يصرف مغلّ القدس فى عمارته. وتصدّق السلطان الملك الصالح بألفى دينار فى الحرم، وزار الخليل- عليه السلام- ثم عاد إلى مصر.

(6/359)


وفيها توفّى علىّ «1» بن أبى الجنّ بن منصور الشيخ أبو الجنّ. وأبو محمد «2» الحريرىّ، مقدّم الطائفة الفقراء الحريريّة، ولد بقرية بسر «3» وقدم دمشق صبيّا فنشأ بها.
وفى أحوال الحريرىّ هذا أقوال كثيرة، أثنى «4» عليه أبو شامة وغيره، وتكلّم فيه جماعة منهم الذهبىّ وغيره. والله أعلم بحاله. وقال ابن إسرائيل: وتوفّى فى الساعة التاسعة من يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان سنة خمس وأربعين من عير مرض، وكان أخبر بذلك قبل موته بمدّة.
وفيها توفّى عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس الشيخ الإمام العالم العلّامة جمال الدين أبو عمرو المعروف بابن الحاجب الكردىّ المالكىّ النحوىّ الأصولىّ صاحب التصانيف فى النحو وغيره. مولده فى سنة سبعين وخمسمائة بإسنا «5» من بلاد الصعيد، ومات فى شوّال، وفى شهرته ما يغنى عن الإطناب فى ذكره- رحمه الله تعالى-.

(6/360)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ منصور ابن سند «1» [بن منصور المعروف با «2» ] بن الدبّاغ بالإسكندريّة فى شهر ربيع الأوّل.
وأبو القاسم عبد الله بن الحسين بن عبد الله [بن الحسين «3» بن عبد الله] بن رواحة الأنصارىّ فى جمادى الآخرة. وله ستّ وثمانون سنة. وأمّ حمزة صفيّة بنت عبد الوهّاب بن علىّ القرشيّة أخت كريمة فى رجب. والعلّامة أبو الحسن علىّ بن جابر بن الدّبّاح الإشبيلىّ بها عند استيلاء الفرنج عليها. والوزير الأكرم علىّ بن يوسف جمال الدين القفطى «4» بحلب. والعلّامة جمال الدين أبو عمرو عثمان بن الحاجب. وعمرو بن عبد الله بن أبى بكر الإشبيلىّ فى شوّال بالإسكندريّة، وله ستّ وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 647]
السنة العاشرة من ولاية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر، وهى سنة سبع وأربعين وستمائة، وفهيا كانت وفاته فى شعبان، حسب ما تقدّم ذكره.
فيها فى أوّلها كان عود السلطان الملك الصالح المذكور من دمشق- حسب ما ذكرناه فى العام الماضى- قال الذهبىّ: وفيها فى أوّلها عاد الملك الصالح إلى

(6/361)


الديار المصريّة مريضا فى محفّة، وكان قد قتل أخاه الملك العادل قبل خروجه من مصر فما هنّأه الله. واستعمل على نيابة دمشق الأمير جمال الدين [موسى «1» ] ابن يغمور. قال: وفيها ولدت امرأة ببغداد ابنين وبنتين فى جوف، وشاع ذلك فطلبوا إلى دار الخلافة وأحضروا، وقد مات واحد، فأحضر ميّتا فتعجّبوا، وأعطيت الأمّ من الثياب والحلىّ ما يبلغ ألف دينار.
وفيها توجّه الملك الناصر داود صاحب الكرك إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب، وبلغ السلطان الملك الصالح نجم الدين ذلك، فأرسل إلى نائبه ابن يغمور بدمشق بخراب دار أسامة وقطع شجر بستان القصر الذي للنّاصر داود بالقابون «2» وخراب القصر، ففعل ذلك.
وفيها سار الملك الظاهر [شادى «3» ] والملك الأمجد «4» ابنا الملك الناصر داود المقدّم ذكره من الكرك إلى مصر، وسلّما الكرك إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين بغير رضا أبيهما الناصر، فأعطى الملك الصالح للظاهر بن الناصر داود عوضّا عن الكرك خبز مائتى فارس بمصر، وخمسين ألف دينار، وثلثمائة قطعة قماش، والذخائر التى بالكرك؛ وأعطى لأخيه الأمجد إخميم «5» ، وخبزمائة وخمسين فارسا بمصر؛ فلم تطل مدّتهم بمصر ومات الملك الصالح وزال ذلك كلّه من أيديهم حسب ما تقدّم ذكره، وحسب ما يأتى ذكره أيضا.
وفيها هجمت الفرنج دمياط وأحاطت بها فى شهر ربيع الأوّل، وقد ذكر ذلك كلّه.

(6/362)


وفيها توفّى الصّاحب فخر الدين يوسف بن صدر الدين شيخ الشيوخ [أبى «1» الحسن محمد بن عمر بن على بن محمد بن حمّويه الجوينىّ] . كان عاقلا جوادا ممدّحا مدبّرا خليقا بالملك محبوبا إلى الناس. ولمّا مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب على دمياط ندب إلى الملك فامتنع، ولو أجاب لما خالفوه، واستشهد على دمياط بعد أخذها.
ومن شعره قوله:
عصيت هوى نفسى صغيرا فعند ما ... رمتنى الليالى بالمشيب وبالكبر
أطعت الهوى عكس القضيّة ليتنى ... خلقت كبيرا وانتقلت إلى الصّغر
قلت: ويذكر هذا الشعر أيضا لغيره فيما يأتى- إن شاء الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو يعقوب يوسف ابن محمود بن الحسين الساوىّ «2» فى رجب بالقاهرة، وولد بدمشق فى سنة ثمان وستّين. والسلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الكامل بن العادل بالمنصورة فى شعبان، وله أربع وأربعون سنة. والأمير مقدّم الجيوش فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين الجوينىّ فى ذى القعدة شهيدا يوم وقعة المنصورة.
وأبو جعفر محمد بن عبد الكريم بن محمد ببغداد. وصفىّ الدين عمر بن عبد الوهّاب ابن البرادعىّ فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.

(6/363)


[ما وقع من الحوادث سنة 648]
ذكر سلطنة الملك المعظّم توران شاه على مصر
هو السلطان الملك المعظّم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين محمد أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى، سلطان الديار المصريّة الأيّوبىّ الكردىّ، آخر ملوك بنى أيّوب بمصر، ولا عبرة بولاية الأشرف فى سلطنة الملك المعزّ أيبك. تسلطن الملك المعظّم هذا بعد موت أبيه الملك الصالح بنحو شهرين ونصف، وقيل: أربعة أشهر ونصف وهو الأصحّ؛ لأنّ الملك الصالح أيّوب كانت وفاته فى ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين بالمنصورة، والفرنج محدقة بعساكر الإسلام، فأخفت زوجته أمّ ولده خليل شجرة الدّرّ موته مخافة على المسلمين، وبايعوا لابنه المعظّم هذا بالسلطنة فى غيبته، وصارت شجرة الدّرّ تدبرّ الأمور وتخفى موت السلطان الملك الصالح إلى أن حضر المعظّم توران شاه هذا من حصن كيفا إلى المنصورة فى أوّل المحرّم من سنة ثمان وأربعين وستمائة. وكان المعظّم هذا نائبا لأبيه الملك الصالح على حصن كيفا وغيرها من ديار بكر. ولمّا وصل المعظّم إلى المنصورة فتح الله على يديه، ونصر الله الإسلام فى يوم دخوله فتيمّن الناس بطلعته. وسبب النصر أنّه لمّا استهلّت سنة ثمان وأربعين والفرنج على المنصورة والجيوش الإسلاميّة بإزائهم، وقد طال القتال بين الفريقين أشهرا ضعف حال الفرنج لانقطاع الميرة عنهم، ووقع فى خيلهم وباء وموت، وعزم ملكهم الفرنسيس على أن يركب فى أوّل اللّيل ويسير إلى دمياط، فعلم المسلمون بذلك. وكان الفرنج قد عملوا جسرا عظيما من الصّنوبر على النيل، فسهوا عن قطعه، فعبر منه المسلمون فى الليل إلى برّهم، وخيامهم على حالها وثقلهم، وأحدق المسلمون بهم يتخطّفونهم طول الليل قتلا وأسرا، فالتجئوا

(6/364)


إلى قرية تسمّى منية «1» أبى عبد الله وتحصّنوا بها، ودار المسلمون حولها، وظفر أسطول المسلمين بأسطولهم، فغنموا جميع المراكب بمن فيها. واجتمع إلى الفرنسيس خمسمائة فارس من أبطال الفرنج، وقعد فى حوش منية أبى عبد الله؛ وطلب الطّواشى رشيد [الدين «2» ] ، والأمير سيف الدين القيمرىّ «3» فحضرا إليه؛ فطلب منهما، الأمان على نفسه ومن معه؛ فأجاباه وأمّناه فلم يرض الفرنج وحملوا «4» على حميّة؛ وأحدق المسلمون بهم؛ وبقوا يحملون عليهم حملة بعد حملة، حتّى أبيدت الفرنج، ولم يبق منهم سوى فارسين، فرموا نفوسهم بخيولهم إلى البحر فغرقوا [ولم يصل إلى دمياط من يخبر «5» بحالهم] وغنم المسلمون منهم ما لا يوصف واستغنى خلق؛ وأنزل الفرنسيس فى حرّاقة، وأحدقت به مراكب المسلمين تضرب فيها الكوسات «6» والطّبول. وفى البرّ الشرقىّ العسكر سائر منصور مؤيّد، والبرّ الغربىّ فيه العربان والعامّة فى لهو وتهان وسرور بهذا الفتح العظيم، والأسرى تقاد فى الحبال؛ فكان يوما من الأيّام العظيمة المشهودة. وقال سعد «7» الدين فى تاريخه: لو أراد الفرنسيس أن ينجو بنفسه لخلص على خيل سبق أو فى حرّاقة، لكنّه أقام فى الساقة يحمى أصحابه. وكان فى الأسر ملوك وكنود «8» من الفرنج.
وأحصى عدّة الأسرى فكانوا نيّفا وعشرين ألف آدمىّ، والذي غرق وقتل سبعة

(6/365)


آلاف نفس. قال: فرأيت القتلى وقد ستروا وجه الأرض من كثرتهم، وكان الفارس العظيم يأتيه وسائق يسوقه وراءه كأذلّ ما يكون، وكان يوما لم يشاهد المسلمون مثله؛ ولم يقتل فى ذلك اليوم من المسلمين مائة نفس، ونفّذ السلطان الملك المعظّم توران شاه للفرنسيس والملوك الذين معه والكنود خلعا. وكانوا نيّفا وخمسين، فلبس الكلّ سواه. وقال: إنّ بلادى بقدر بلاد صاحب مصر، كيف ألبس خلعته! وعمل السلطان من الغد دعوة عظيمة فامتنع الملعون أيضا من حضورها؛ وقال: أنا ما آكل طعامه وما يحضرنى إلا ليهزأ بى عسكره ولا سبيل إلى هذا! وكان عنده عقل وثبات ودين، فالنصارى كانوا يعتقدون فيه بسبب ذلك. وكان حسن الخلقة. وأبقى الملك المعظّم الأسرى، وأخذ أصحاب الصنائع، ثم أمر بضرب رقاب الجميع. انتهى. وقال غيره: وحبسوا الفرنسيس بالمنصورة بدار «1» ابن لقمان يحفظه الطواشى [جمال الدين «2» ] صبيح [المعظّمىّ «3» ] مكرما غاية الكرامة. وقال آخر: بمصر بدار ابن لقمان وهو الأصحّ، وزاد بعضهم فقال:
دار ابن لقمان هى الدار الكبيرة بالقرب من باب الخرق (يعنى دار ابن قطينة) انتهى.

(6/366)


وقال أبو المظفّر فى تاريخه مرآة الزمان: «وفى أوّل ليلة منها (يعنى سنة ثمان وأربعين) كان المصافّ بين الفرنج والمسلمين على المنصورة بعد وصول المعظّم توران شاه إلى المخيّم، ومسك الفرنسيس وقتل من الفرنج مائة [ألف «1» ] ، ووصل كتاب المعظّم توران شاه إلى جمال الدين بن يغمور (يعنى إلى نائب الشام) يقول: «الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن. وما النصر إلّا من عند الله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وأمّا بنعمة ربّك فحدّث. وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. نبشّر المجلس السامى الجمالىّ، بل نبشّر الإسلام كافّة بما منّ الله به على المسلمين، من الظّفر بعدوّ الدين، فإنّه كان قد استفحل أمره واستحكم شرّه؛ ويئس العباد من البلاد، [والأهل «2» ] والأولاد؛ فنودوا: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
الآية. ولمّا كان يوم الأربعاء «3» مستهلّ السنة المباركة تممّ الله على الإسلام بركتها؛ فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرّقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطّوّعة واجتمع خلق لا يحصيهم إلّا الله تعالى، فجاءوا من كلّ فجّ عميق، ومن كلّ مكان بعيد سحيق؛ ولمّا رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع عليه الاتّفاق بينهم وبين الملك العادل أبى بكر فأبينا. ولمّا كان فى الليل تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم وقصدوا دمياط هاربين، فسرنا فى آثارهم طالبين؛ وما زال السيف يعمل فيهم عامّة الليل، ويدخل فيهم الخزى والويل. فلمّا أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفا غير من ألقى نفسه فى اللّجج. وأمّا الأسرى فحدّث عن البحر ولا حرج؛ والتجأ الفرنسيس إلى المنية «4» وطلب الأمان فأمّناه، وأخذناه وأكرمناه؛ وتسلّمنا دمياط بعونه وقوته، وجلاله وعظمته» .

(6/367)


وأرسل الملك المعظّم مع الكتاب إلى ابن يغمور المذكور بغفارة «1» الفرنسيس فلبسها ابن يغمور فى دست مملكته بدمشق، وكانت سقرلاط «2» أحمر بفرو سنجاب.
فكتب ابن يغمور فى الجواب إلى السلطان الملك المعظّم المذكور بيتين لابن إسرائيل «3» ، وهما:
أسيّد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجّزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدا ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده
انتهى كلام أبى المظفّر بعد أن ساق كلاما طويلا من هذا النموذج بنحو ما حكيناه.
وقال غيره: وبقى الفرنسيس فى الاعتقال إلى أن قتل الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيّوب (يعنى صاحب الترجمة) ، فدخل حسام الدين ابن أبى علىّ فى قضيّته، على أن يسلّم للمسلمين دمياط ويحمل خمسمائة ألف دينار.
فأركبوه بغلة وساقت معه الجيوش إلى دمياط، فما وصلوا إلّا والمسلمون على أعلاها بالتكبير والتهليل، والفرنج الذين كانوا بها قد هربوا إلى المراكب وأخلوها، فخاف الفرنسيس واصفرّ لونه. فقال الأمير حسام الدين بن أبى علىّ [للملك «4» المعزّ] : هذه دمياط قد حصلت لنا، وهذا الرجل فى أسرنا وهو عظيم النصرانيّة، وقد اطّلع على عوراتنا، والمصلحة ألّا نطلقه؛ وكان قد تسلطن أيبك التّركمانىّ الصالحىّ أو صار حاكما عن الملكة شجرة الدّر؛ فقال أيبك وغيره من المماليك الصالحيّة: ما نرى

(6/368)


الغدر! وكانت المصلحة ما قاله حسام الدين. فقووا عليه وأطلقوه طمعا فى المال! فركب فى البحر الرومىّ فى شينىّ «1» . وذكر حسام الدين أنّه سأل الفرنسيس عن عدّة العسكر الذي كان معه لمّا قدم لأخذ دمياط؛ فقال: كان معى تسعة آلاف وخمسمائة فارس، ومائة ألف وثلاثون ألف طبسىّ «2» سوى الغلمان والسّوقة والبحّارة. انتهى.
قال سعد الدين فى تاريخه: اتّفقوا على أن يسلّم الفرنسيس دمياط، وأن يعطى هو والكنود ثمانمائة ألف دينار عوضا عما كان بدمياط من الحواصل، ويطلقوا أسرى المسلمين، فحلفوا على هذا؛ وركبت العساكر ثانى صفر إلى دمياط قرب الظهر، وساروا حتّى دخلوها، ونهبوا وقتلوا من بقى من الفرنج حتّى ضربتهم الأمراء وأخرجوهم، وقوّموا الحواصل التى بقيت فى دمياط بأربعمائة ألف دينار؛ وأخذوا من الملك الفرنسيس أربعمائة ألف دينار، وأطلقوه العصر هو وجماعته؛ فانحدروا فى شينى إلى البطس «3» ، وأنفذ رسولا إلى الأمراء الصالحيّة يقول: ما رأيت أقلّ عقلا ولا دينا منكم! أمّا قلّة الدين فقتلتم سلطانكم بغير ذنب (يعنى لمّا قتلوا ابن أستاذهم الملك المعظّم توران شاه بعد أخذ دمياط بأيّام) على ما سنذكره هنا إن شاء الله تعالى. قال: وأمّا قلّة العقل فكذا، مثلى ملك البحر وقع فى أيديكم بعتموه بأربعمائة ألف دينار، ولو طلبتم مملكتى دفعتها لكم حتّى أخلص. ثم لمّا سار إلى بلاده أخذ فى الاستعداد والعود إلى دمياط فأهلكه الله تعالى. وندمت الأمراء على إطلاقه. ولمّا أراد الفرنسيس العود إلى دمياط قال فى ذلك الصاحب جمال الدين «4» يحيى بن مطروح قصيدته المشهورة، وكتب بها إليه يعنى إلى الفرنسيس، وهى:

(6/369)


قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق «1» من قؤول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عبّاد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغى ملكها ... تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكلّ أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون «2» ألفا لا ترى منهم ... إلّا قتيلا أو أسيرا جريح
وفّقك الله لأمثالها ... لعلّ عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيا ... فربّ غشّ قد أتى من نصيح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لعقد «3» صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشى صبيح
قلت: لله درّه! فيما أجاب عن المسلمين مع اللطف والبلاغة وحسن التركيب، رحمه الله.
وأمّا أمر الملك المعظّم توران شاه صاحب الترجمة، قال العلّامة شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه فى سبب قتله، قال: «ذكرنا مجيئه إلى الشام وذهابه إلى مصر، واتّفق كسرة الفرنج عند قدومه فتيمّن الناس بطلعته، [واستبشروا «4» بمشاهدته] ؛ غير أنّه بدت منه أسباب نفّرت القلوب عنه فاتّفقوا على قتله وكان فيه نوع خفّة، فكان يجلس على السماط، فإذا سمع فقيها يذكر مسألة وهو بعيد عنه، يصيح: لا نسلّم!. ثمّ احتجب عن الناس أكثر من أبيه؛ وكان

(6/370)


إذا سكر يجمع الشموع ويضرب رءوسها بالسيف فيقطعها ويقول: كذا أفعل بالبحريّة! يعنى مماليك أبيه الذين كان جعلهم بقلعة البحر بجزيرة الرّوضة «1» ، ثم يسمّى مماليك أبيه بأسمائهم؛ وأهانهم وقدّم الأرذال وأبعد الأماثل. ووعد [الفارس] أقطاى «2» أن يؤمّره ولم يف له، فاستوحش منه. وكانت أمّ خليل (يعنى شجرة الدرّ) زوجة والده الملك الصالح لمّا وصل إلى القاهرة مضت هى إلى القدس، فبعث يهدّدها ويطلب المال والجواهر منها فخافت منه، فكاتبت فيه، فاتّفق الجميع عند ذلك على قتله. فلمّا كان يوم الاثنين سابع عشرين المحرّم جلس المعظّم على السّماط فضربه بعض مماليك أبيه البحريّة بالسيف فتلقّاه بيده فقطع بعض أصابعه؛ وقام من وقته ودخل البرج [الخشب «3» الذي كان قد عمل هناك بفارسكور] وصاح: من جرحنى؟ قالوا: الحشيشيّة. فقال: لا والله إلّا البحريّة، والله لا أبقيت منهم بقيّة.
واستدعى المزيّن فخيّط يده وهو يتوعّدهم، فقال بعضهم لبعض: تمّموه وإلّا أبادكم! فدخلوا عليه فانهزم إلى أعلى البرج، فأوقدوا النّيران حول البرج ورموه بالنّشّاب، فرمى بنفسه وهرب نحو البرج، وهو يقول: ما أريد ملكا! دعونى أرجع إلى الحصن «4» يا مسلمون! ما فيكم من يصطنعنى ويجيرنى! والعساكر واقفة فما أجابه أحد، والنّشّاب تأخذه، فتعلق بذيل [الفارس] أقطاى فما أجاره «5» ، فقطّعوه قطعا وبقى على جانب البحر ثلاثة أيّام منتفخا لا يجسر أحد أن يدفنه حتّى شفع فيه رسول الخليفة، فحمل إلى ذلك الجانب فدفن به. ولمّا قتلوه دخلوا على

(6/371)


الفرنسيس الخيمة بالسيوف، فقالوا: نريد المال، فقال: نعم، فأطلقوه وسار إلى عكّا على ما اتّفقوا عليه معه. قال: وكان الذي باشر قتله أربعة؛ وكان أبوه الملك الصالح أيّوب قال لمحسن الخادم «1» : اذهب إلى أخى العادل إلى الحبس، وخذ معك من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جميع المماليك فامتنعوا إلّا هؤلاء الأربعة فإنّهم مضوا معه وخنقوه، فسلّطهم الله على ولده فقتلوه أقبح قتلة، ومثّلوا به أعظم مثلة لما فعل بأخيه!
قال الأمير حسام الدين بن أبى علىّ: كان توران شاه لا يصلح للملك؛ كتا نقول لأبيه الملك الصالح نجم الدين أيّوب: ما تنفذ تحضره إلى هاهنا، فيقول: دعونى من هذا، فألححنا عليه يوما، فقال: أجيبه إلى ها هنا أقتله!
وقال عماد الدين بن درباس: رأى بعض أصحابنا الملك الصالح أيّوب فى المنام وهو يقول:
قتلوه شرّ قتله ... صار للعالم مثله
لم يراعوا [فيه «2» ] إلّا ... لا ولا من كان قبله
ستراهم عن قليل ... لأقلّ الناس أكله
وكانوا قد جمعوا فى قتله ثلاثة أشياء: السيف والنار والماء!
وتسلطن بعده زوجة والده أمّ خليل شجرة الدرّ باتّفاق الأمراء وخشدا شينها المماليك الصالحيّة، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة. وكانت ولاية توران شاه هذا على مصر دون الشهر، وقتل فى يوم الاثنين سابع عشرين المحرّم من سنة ثمان وأربعين وستّمائة، وكان قدومه من حصن كيفا إلى المنصورة فى ليلة مستهلّ المحرّم من السنة المذكورة حسب ما تقدّم ذكره.

(6/372)


ذكر ولاية الملكة شجرة الدّر على مصر
هى الملكة شجرة الدرّ بنت عبد الله جارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب وزوجته وأمّ ولده خليل، وكانت حظيّة عنده إلى الغاية، وكانت فى صحبته وهو ببلاد المشرق فى حياة أبيه الملك الكامل، ثم سارت معه لمّا حبسه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالكرك، ومعها ولدها خليل أيضا، وقاست مع الصالح تلك الأهوال والمحن، ثم قدمت معه مصر لمّا تسلطن؛ وعاش ابنها خليل بعد ذلك وتوفّى صغيرا. ولا زالت فى عظمتها من الحشم والخدم وإليها غالب تدبير الديار المصريّة فى حياة سيّدها الملك الصالح وفى مرضه وبعد موته، والأمور تدبّرها على أكمل وجه إلى أن قدم ولد زوجها الملك المعظّم توران شاه، فلم يشكر لها توران شاه ما فعلته من الإخفاء لموت والده وقيامها بالتدبير أتمّ قيام، حتّى حضر إلى المنصورة وجلس فى دست السلطنة. ولم تدع أحدا يطمع فى الملك لعظمتها فى النفوس، فترك توران شاه ذلك كلّه وأخذ فى تهديدها، وطلب الأموال منها سرعة، فلم يحسن ذلك ببال أحد. واتّفقوا على ولايتها لحسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها، وجعلوا المعزّ أيبك التركمانىّ أتابكا لها، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة لكنّها لم تلبس خلعة السلطنة الخليفتى على العادة، غير أنّهم بايعوها بالسلطنة فى أيّام أرسالا وتمّ أمرها.
قال الشيخ صلاح «1» الدين خليل بن أيبك الصفدىّ فى تاريخه: «شجرة الدر أمّ خليل الصالحيّة وجارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وأمّ ولده خليل؛

(6/373)


كان الملك الصالح يحبّها حبّا عظيما، ويعتمد عليها فى أموره ومهمّاته، وكانت بديعة الجمال ذات رأى وتدبير ودهاء وعقل، ونالت من السعادة ما لم ينله أحد فى زمانها.
ولمّا مات الملك الصالح فى شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة على دمياط فى حصار الفرنج، أخفت موته وصارت تعلّم بخطّها مثل علامة الملك الصالح، وتقول:
السلطان ما هو طيّب. وتمنع الناس من الدخول إليه؛ وكان أرباب الدولة يحترمونها.
ولمّا علموا بموت السلطان ملّكوها عليهم أيّاما. وتسلطنت بعد قتل السلطان الملك المعظّم ابن الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وخطب لها على المنابر، وكان الخطباء يقولون على المنبر بعد الدعاء للخليفة: «واحفظ اللهمّ الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أمّ خليل المستعصميّة صاحبة السلطان الملك الصالح» .
انتهى كلام الصّفدىّ.
وقال غيره: وكانت تعلّم على المناشير وغيرها «والدة خليل» ، وبقيت على ذلك مدّة ثلاثة أشهر إلى أن خلعت نفسها، واستقرّ زوجها الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ الصالحىّ الآتى ذكره [مدّة «1» ، إلى أن اتّفقت المماليك البحريّة وقالوا: لا بدّ لنا من واحد من بنى أيّوب يجتمع الكلّ على طاعته، وكان القائم بهذا الأمر الأمير الفارس أقطاى الجمدار، وبيبرس «2» البندقدارىّ، وبلبان الرشيدىّ وسنقر الرّومىّ؛ فأقاموا فى السلطنة] الملك الأشرف «3» الأيّوبىّ. وقيل: إنه تزوّجها أيبك بعد سلطنته، وكانت مستولية على أيبك فى جميع أحواله ليس له معها كلام، وكانت تركيّة ذات

(6/374)


شهامة ونفس قويّة وسيرة حسنة، شديدة الغيرة. فلمّا بلغها أنّ زوجها الملك المعزّ أيبك يريد أن يتزوّج ببنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ «1» صاحب الموصل، وقد عزم على ذلك، فتخيّلت منه [أنه «2» ] ربّما عزم على إبعادها أو إعدامها [بالكليّة «3» ] لأنّه سئم من حجرها عليه واستطالتها، فعاجلته وعزمت على الفتك به وإقامة غيره فى الملك.
قال الشيخ قطب الدين: «وطلبت صفىّ الدين [إبراهيم «4» ] بن مرزوق وكان بمصر فاستشارته ووعدته بالوزارة، فأنكر عليها ونهاها عن ذلك فلم تصغ إلى قوله، وطلبت مملوكا للطّواشى محسن [الجوهرىّ «5» ] الصالحى وعرضت عليه أمرها ووعدته ومنّته إن قتل المعزّ! ثم استدعت جماعة من الخدّام واتّفقت معهم. فلمّا كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرون من شهر ربيع الأوّل «6» لعب المعزّ بالكرة ومن معه، وصعد إلى القلعة آخر النهار، وأتى الحمّام ليغتسل، فلمّا قلع ثيابه وثب عليه سنجر الجوهرىّ «7» والخدم فرموه وخنقوه؛ وطلبت شجرة الدر ابن مرزوق على لسان الملك المعزّ، فركب حماره وبادر وطلع القلعة من باب السرّ، فرآها جالسة والمعزّ بين يديها ميّت، فأخبرته الأمر فعظم عليه جدّا، واستشارته فقال: ما أعرف ما أقول، وقد وقعت فى أمر عظيم مالك منه مخلص! ثم طلبت الأمير جمال الدين بن أيدغدى [بن عبد الله «8» ] العزيزىّ وعزّ الدين أيبك الحلبىّ، وعرضت عليهما السلطنة فامتنعا؛ فلمّا ارتفع النهار شاع الخبر واضطربت الناس» . انتهى كلام قطب الدين.

(6/375)


وقيل فى قتله وجه آخر: وهو أنّ شجرة الدرّ لمّا غارت رتّبت للمعزّ سنجر الجوهرىّ مملوك الفارس أقطاى، فدخل عليه الحمّام [و] لكمه ورماه، وألزم الخدّام معاونته، وبقيت هى تضربه بالقبقاب وهو يستغيث ويتضرّع إليها إلى أن مات، وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة. فلمّا كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول ركب الأمراء الأكابر إلى القلعة على عادتهم، وليس عندهم خبر بما جرى، ولم يركب الفائزىّ «1» فى ذلك اليوم؛ وتحيّرت شجرة الدرّ فيما تفعل، فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علىّ ابن الملك المعزّ تقول له عن أبيه: إنه ينزل إلى البحر فى جمع من الأمراء لإصلاح الشوانى التى تجهّزت للمضى إلى دمياط ففعل، وقصدت بذلك لتقلّ الناس من على الباب لتتمكن ممّا تريد، فلم يتمّ مرادها.
ولمّا تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعزّ، واضطربت الناس فى البلد واختلفت أقاويلهم ولم يقفوا على حقيقة الأمر، وركب العسكر إلى جهة القلعة، وأحدقوا بها ودخلها مماليك الملك المعزّ أيبك والأمير بهاء الدين بغدى «2» الأشرفىّ مقدّم الحلقة؛ وطمع الأمير عزّ الدين الحلبىّ فى التقدّم، وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحيّة، فلم يتمّ له ذلك. ثم استحضر الذين فى القلعة الوزير شرف الدين الفائزىّ واتّفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علىّ بن الملك المعزّ أيبك، وعمره يومئذ نحو خمس عشرة سنة، فرتّبوه فى الملك ونودى فى البلد بشعاره، وسكن الناس وتفرّقوا إلى دورهم، ونزل الأمراء الصالحيّة إلى دورهم. فلمّا كان يوم الخميس خامس عشرين الشهر وقع فى البلد خبطة عظيمة وركب العسكر إلى القلعة.
واتّفق رأى الذين بالقلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ فى السلطنة، وكان أتابك الملك المعزّ ويعرف بالمشدّ، واستحلفوا العسكر له، وحلف له الأمراء الصالحيّة

(6/376)


على كره من أكثرهم، وامتنع الأمير عزّ الدين ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور، ثم انتقض بعد ذلك. وفى يوم الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأوّل خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة.
وأمّا شجرة الدر صاحبة الترجمة فإنّها امتنعت بدار السلطنة، هى والذين قتلوا الملك المعزّ أيبك، وطلب المماليك المعزيّة هجوم الدار عليهم، فحالت الأمراء الصالحيّة بينهم وبينها، حمية لشجرة الدر لأنّها خشداشتهم؛ فلمّا غلبوا مماليك المعزّ منهم ومنها أمّنوها وحلفوا لها أنّهم لا يتعرّضون لها بسوء. فلمّا كان يوم الاثنين التاسع والعشرون منه أخرجت من دار السلطنة إلى البرج «1» الأحمر فحبست به وعندها بعض جواريها، وقبض على الخدّام واقتسمت الأمراء جواريها؛ وكان نصر العزيزىّ الصالحىّ، وهو أحد الخدّام القتلة، قد تسرّب إلى الشام يوم ظهور الواقعة، وأحاطت المماليك المعزيّة بالدار السلطانيّة وجميع ما فيها؛ ويوم «2» ظهور الواقعة أحضر الصفىّ بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجرة الدر لمّا طلبته بعد قتل المعزّ واستشارته، فعرّفهم صورة الحال فصدّقوه وأطلقوه. وحضر الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ، وكان الناس قد قطعوا بموت المعزّ، فعند حضور أيدغدى العزيزىّ المذكور أمر باعتقاله بالقلعة، ثم نقل إلى الإسكندريّة، فاعتقل بها، ثمّ صلب الخدّام الذين اتّفقوا على قتل المعزّ، وهرب سنجر غلام الجوهرىّ ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن، فمات سنجر من يوم الاثنين المذكور وقت العصر على

(6/377)


الخشبة، وتأخّر موت الباقين إلى تمام يومين. واستمرّت شجرة الدرّ بالبرج الأحمر بقلعة الجبل، والملك المنصور علىّ ابن الملك المعز أيبك ووالدته يحرّضان المعزية على قتلها، والمماليك الصالحيّة تمنعهم عنها، لكونها جارية أستاذهم، ولا زالوا على ذلك إلى يوم السبت حادى عشر شهر ربيع الآخر وجدت مقتولة مسلوبة خارج القلعة، فحملت إلى التّربة «1» التى كانت بنتها لنفسها بقرب مشهد السيدة نفيسة «2» - رحمها الله تعالى- فدفنت بها. ولشجرة الدرّ أوقاف على التربة المذكورة وغيرها. وكان الصاحب «3» بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم المعروف بابن حنّا وزيرها، ووزارته لها أوّل درجة ترقّاها من المناصب الجليلة. ولما تيقّنت شجرة الدرّ أنّها مقتولة أودعت جملة من المال والجواهر، وأعدّت أيضا جملة من الجواهر النفيسة فسحقتها فى الهاون لئلا يأخذها الملك المنصور ابن المعزّ أيبك وأمّه، فإنّها كانت تكره المنصور ووالدته،

(6/378)


وكانت غير متجمّلة فى أمرها لمّا تزوّجها أيبك حتّى منعته الدخول إليهما بالكليّة، فلهذا كان المنصور وأمّه يحرّضان المماليك المعزيّة على قتلها. وكانت خيّرة ديّنة رئيسة عظيمة فى النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البرّ معروفة بها. والذي وقع لها من تملّكها الديار المصريّة لم يقع ذلك لأمرأة قبلها ولا بعدها فى الإسلام.
*** انتهى الجزء السادس من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء السابع، وأوّله: ذكر ولاية المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر

(6/379)


استدراكات
على بعض تعليقات وردت فى الأجزاء الثالث والرابع والخامس من هذا الكتاب
منبوبة
ورد فى الحاشية رقم 3 ص 99 بالجزء الثالث (من هذه الطبعة) أن منبوبة هى المعروفة اليوم باسم انبابه التى يقال لها أيضا أنبوبة. والصواب أن منبوبة وانبابه ناحيتان إحداهما منفصلة عن الأخرى:
فأما منبوبة ويقال لها أنبوبة فهذه تعرف اليوم باسم أمبوبة وقد أضيفت إلى ناحيتى وراق الحضر وميت النصارى وأصبح يتكوّن من هذه النواحى الثلاث قرية واحدة مشتركة فى الزمام والادارة باسم «وراق الحضر وأمبوبة وميت النصارى بمركز امبابة بمديرية الجيزة» .
وأما انبابة وتعرف اليوم باسم امبابة فقد وردت فى نزهة المشتاق للإدريسىّ ثم حدث أن قسمت هذه البلدة إلى خمس نواح: وهى منية تاج الدولة التى تعرف اليوم باسم تاج الدول، ومنية كرداك التى تعرف اليوم باسم ميت كردك، ومنية أبو على التى تعرف اليوم باسم كفر الشوام، وكفر الشيخ إسماعيل، وجزيرة امبابة.
وهذه النواحى مدرجة فى جدول أسماء البلاد الحالية بأسمائها المذكورة كلّ ناحية قائمة بذاتها إلّا أنّه بسبب تجاورها فى السكن لا يزال يطلق على مجموعها اسم «امبابة» وإليها ينسب مركز امبابة أحد مراكز مديرية الجيزة.
خليج القاهرة
ورد فى التعليق الخاص بهذا الخليج فى صفحة 43 من الجزء الرابع أن الخليج المصرى ردم فى سنة 1896. والصواب أنه بدئ فى ردمه من جهة قنطرة غمرة فى أول ابريل سنة 1897 وأتم ردمه من جهة فم الخليج فى يونية سنة 1899

(6/380)


قنطرة السدّ
بما أنّ الشرح الخاصّ بهذه القنطرة المدرج فى صفحة 44 بالجزء الرابع جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
يستفاد مما ورد فى الجزء الثانى من الخطط المقريزية ص 146: أن هذه القنطرة أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى سنة 643 هـ على الخليج المصرى (خليج القاهرة) بالقرب من فمه وكانت واقعة فى شارع الخليج المصرى تجاه النقطة التى يتلاقى فيها هذا الشارع بشارع مدرسة الطب.
وكانت هذه القنطرة موجودة ومعروفة كما شاهدتها باسم قنطرة الماوردى إلى منتصف سنة 1899 التى تم فيها ردم هذا الخليج، وبردمه اختفت هذه القنطرة من تلك السنة.
وذكر المقريزى أنها عرفت بقنطرة السد بسبب السدّ الذي كان يقام سنويا من التراب بجوار هذه القنطرة عند ما يبدأ ماء النيل فى الزيادة وقت الفيضان لكى يصد الماء، ومتى وصلت الزيادة إلى ست عشرة ذراعا يفتح السدّ حينئذ باحتفال رسمى عظيم ويمرّ الماء فى الخليج فتملأ منه صهاريج مدينة القاهرة وبركها وتروى منه بساتينها كما تروى الأراضى الزراعية الواقعة على جانبى الخليج حتى نهايته الشمالية فى مديرية الشرقية.
بركة الحبش
بما أنّ الشرح الخاصّ بهذه البركة المدرج فى صفحة 14 بالجزء الخامس جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
هذه البركة كانت واقعة جنوبى مدينة مصر فيما بين النيل والجبل. وذكر المقريزى فى الجزء الثانى من خططه عند الكلام على البرك ص 152: بأن هذه البركة كانت تعرف ببركة المغافر وبركة حمير وباصطبل قرة وباصطبل قامش وبركة الأشراف وبركة الحبش وهو الاسم الذي اشتهرت به.

(6/381)


وهذه البركة لم تكن بركة عميقة فيها ماء راكد بالمعنى المفهوم الآن من لفظ بركة وإنّما كانت تطلق على حوض من الأراضى الزراعيّة التى يغمرها ماء النيل وقت فيضانه سنويا بواسطة خليج بنى وائل الذي كان يأخذ ماءه من النيل جنوبى مصر القديمة، فكانت الأرض وقت أن يغمرها الماء تشبه البرك ولهذا سميت بركة. وبعد أن ينتهى فيضان النيل ويصرف الماء عنها تنكشف أرضها ولا تحتاج إلى الحرث للينها بل تلاق لوقا وتزرع أصنافا شتوية أسوة بأراضى الملق التى فى حياض الوجه القبلى.
وأمّا اليوم فقد بطلت طريقة الرىّ الحوضى لهذه الأرض وأصبحت تروى ريّا صيفيا وشتويّا من ترعة الخشاب التى تأخذ مياهها من النيل بواسطة طلمبات الليثى ببلدة الصف فى أيام الصيف، وبواسطة طلمبات بلدة الكريمات فى أيام فيضان النيل.
ويتّضح ممّا ذكر المقريزى أنّها سمّيت بركة الحبش لأنّه كان يوجد بجوارها من الجهة الجنوبية جنان تعرف بالحبش فنسبت إليها البركة. ويستفاد مما ذكره أبو صالح الأرمنى فى كتاب الديارات أن هذه الجنان عرفت بالحبش لأنها كانت لطائفة من الرهبان الحبش، يؤيّد ذلك ما ذكره المقريزى أيضا عند الكلام على هذه البركة حيث قال: «وفى تواريخ النصارى أن الأمير أحمد بن طولون صادر البطريق ميخائيل بطرك اليعاقبة على عشرين ألف دينار قباع النصارى رباع الكنائس بالإسكندرية وأرض الحبش بظاهر مصر» .
ومن تطبيق الحدود التى ذكرها المقريزى لهذه البركة على موضعها اليوم يتبين أنها كانت تشغل من الأرض مساحة قدرها نحو 1500 فدان: منها 213 فدانا وهو مجموع الزمام المنزرع من أرأضى قرية دير الطين، والباقى من زمام ناحية البساتين، وتحدّ هذه المنطقة اليوم من الشمال بصحراء جبانة مصر وجبل الرصد الذي يعرف اليوم بجبل اصطبل عنتر وأرض قرية أثر النبي فى الحدّ الفاصل بينها وبين دير الطين،

(6/382)


ومن الغرب جسر النيل بين قرية دير الطين ومعادى الخبيرى، ومن الجنوب والشرق باقى أراضى ناحية البساتين التابعة لمركز الجيزة بمدرية الجيزة.
قوص
يضاف إلى ما ورد فى شرحها المدرج بصفحة 292 بالجزء الخامس ما يأتى:
وكانت مدينة قوص قاعدة لإقليم يعرف بالأعمال القوصية نسبة إلى قوص من عهد الدولة الفاطمية إلى آخر أيام حكم المماليك. وفى أيام الحكم العثمانى اندمجت الأعمال القوصية كلها بما فيها مدينة قوص فى ولاية جرجا التى كانت تمتدّ فى ذاك الوقت على جانبى النيل من مدينة أسيوط شمالا إلى وادى حلفا عند الشلال الثانى جنوبا.
ولمّا أنشئت مديرية قنا فى سنة 1833 تتبعت لها مدينة قوص وجعلت قاعدة لأحد أقسام هذه المديرية ولا تزال قوص قاعدة لمركز قوص بمديرية قنا إلى اليوم.
منية ابن خصيب
ذكر سهوا فى صفحة 309 بالجزء الخامس أن منية ابن خصيب واقعة على الشاطئ الشرقى للنيل. والصواب أنها واقعة على الشاطئ الغربى للنيل كما هو معلوم.
*** تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية على اختلاف أنواعها والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تعيين وتحديد مواضعها هى من وضع حضرة الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا. فنسدى إليه حزيل الشكر ونسأل الله جلت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.

(6/383)


فهرس الولاة «1» الذين تولوا مصر من سنة 567 هـ الى سنة 648 هـ
(ا) ابن العزيز- المنصور محمد بن العزيز عثمان.
أبو بكر- العادل سيف الدين بن أيوب.
أبو المظفر- صلاح الدين يوسف بن أيوب.
أبو المظفر- الكامل محمد بن العادل.
أبو المعالى ناصر الدين- الكامل محمد بن العادل.
أم خليل المستعصمية- شجرة الدر.
(ش) شاهنشا ملك الملوك- العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب.
شجرة الدر بنت عبد الله جارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وزوجته وأم ولده خليل 373- 379
(ص) الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر ابن أيوب بن شادى بن مروان 319- 363
صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادى ابن مروان الملك الناصر أبو المظفر 1- 119
(ع) العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شادى ابن مروان 160- 226
العادل الصغير أبو بكر بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب ابن شادى بن مروان 303- 318
العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب 120- 145
(ك) الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى بن مروان 227- 302
(م) محمد بن أبى بكر بن أيوب- الكامل محمد بن العادل.
محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب 146- 159
المعظم توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل ابن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى بن مروان 364- 372
المنصور- محمد بن العزين عثمان.
(ن) الناصر- صلاح الدين يوسف بن أيوب.
ناصر الدين- محمد بن العزيز عثمان.

(6/384)


[الجزء السابع]
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 648]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء السابع «1» من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
ذكر ولاية الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر
هو السلطان الملك المعزّ عزّ الدين أيبك بن عبد الله الصالحىّ النّجمىّ المعروف بالتّركمانىّ، أوّل ملوك الترك بالديار المصرية. وقد ذكرهم بعض الناس فى أبيات مواليّا إلى يومنا هذا، وهم الملوك الذين مسّهم الرّق، غير أولادهم، فقال:
أيبك قطز يعقبو بيبرس «2» يا ذا الدين ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا لاچين
بيبرس برقوق بعدو شيخ ذو التبيين ... ططربرسباى جقمق صاحب التمكين
قلت: هذا قبل أن يتسلطن الملك الأشرف إينال العلائى، فلمّا ملك إينال قلت أنا:

(7/3)


أيبك قطز يعقبو بيبرس ذو الإكمال ... بعدو قلاوون بعدو كتغا المفضال
لاچين بيبرس برقوق شيخ ذو الإفضال ... ططر برسباى جقمق ذو العلا إينال
وقد خرجنا عن المقصود، ولنعد إلى ذكر الملك المعزّ أيبك المذكور، فنقول:
أصله من مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب، اشتراه فى حياة والده الملك الكامل محمد، وتنقّلت به الأحوال عنده، ولازم أستاذه الملك الصالح فى الشرق حتّى جعله جاشنكيره «1» ، ولهذا لمّا أمّره كان عمل رنكه «2» صورة خوانجا.
واستمرّ على ذلك إلى أن قتل المعظّم توران شاه وملكت شجرة الدّرّ بعده، اتّفق الأمراء على سلطنة الملك المعزّ أيبك هذا وسلطنوه بعد أن بقيت الديار المصريّة بلا سلطان مدّة، وتشوّف إلى السلطنة عدّة أمراء، فحيف من شرّهم؛ ومال الناس إلى أيبك المذكور، وهو من أوسط الأمراء، [و] لم يكن من أعيانهم؛ غير أنّه كان معروفا بالسّداد وملازمة الصلاة، ولا يشرب الخمر؛ وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب. وقالوا أيضا: هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته. وكونه من أوسط الأمراء. فبايعوه وسلطنوه وأجلسوه فى دست الملك فى أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستّمائة. وحملت «3» الغاشية بين يديه، وركب

(7/4)


بشعائر «1» السلطنة، وأوّل من حمل الغاشية بين يديه الأمير حسام «2» الدّين بن أبى علىّ، ثمّ تداولها أكابر الأمراء واحدا بعد واحد. وتمّ أمره فى السلطنة وخطب له على المنابر، ونودى فى القاهرة ومصر بسلطنته، إلى أن كان الخامس من جمادى الأولى بعد سلطنته بخمسة أيّام ثارت المماليك البحريّة الصالحيّة وقالوا: لابدّ لنا من سلطان يكون من بنى أيّوب يجتمع الكلّ على طاعته؛ وكان الذي قام بهذا الأمر الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار «3» ، والأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، والأمير سيف الدين بلبان «4» الرشيدىّ، والأمير شمس الدين سنقر الرّومىّ، واتّفقوا على أن يكون الملك المعزّ أيبك هذا أتابكا «5» عليهم، واختاروا أن يقيموا صبيّا عليهم من بنى أيّوب يكون له اسم السلطنة، وهم يدبّرونه كيفما شاءوا ويأكلون الدنيا به!
كلّ ذلك والملك المعزّ سامع مطيع. فوقع الاتّفاق على الملك الأشرف مظفّر الدين موسى ابن الملك الناصر يوسف ابن الملك المسعود أقسيس ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب؛ وكان هذا الصبىّ عند عمّاته القطبيّات «6» ، وتقدير عمره عشر «7» سنين، فأحضروه

(7/5)


وسلطنوه وخطبوا له، وجعلوا الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ أتابكه، وتمّ ذلك. فكان التوقيع يخرج وصورته: «رسم بالأمر العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الأشرفىّ والملكىّ المعزّىّ» . واستمرّ الحال على ذلك مدّة، والمعزّ هو المستولى بالتدبير ويعلّم على التواقيع، والأشرف المذكور صورة
وبينما هم فى ذلك ورد الخبر عليهم بخروج السلطان الملك الناصر «1» صلاح الدّين يوسف صاحب الشام وحلب، خرج من دمشق إلى المزّة «2» يريد الديار المصريّة ليملكها لمّا بلغه قتل ابن عمّه الملك المعظم توران شاه. فاجتمع الامراء عند الملك المعزّ أيبك وأجمعوا على قتاله وتأهّبوا لذلك، وجهّزوا العساكر وتهيّئوا للخروج من مصر.
وأمّا الملك الناصر فإنّه سار من دمشق نحو الديار المصرية بإشارة الأمير شمس الدين لؤلؤ [الأمينىّ] «3» ، فإنّه ألحّ عليه فى ذلك إلحاحا كان فيه سببا لحضور منيّته، وكان لؤلؤ المذكور يستهزئ بالعساكر المصريّة، ويستخفّ بالمماليك، ويقول: آخذها بمائتى قناع «4» ، وكانت تأتيه كتب من مصر من الأصاغر فيظنّها من الأعيان، ودخلوا الرّمل ودنوا من البلاد؛ وتقدّم عسكر الشام ومعهم الأمير «5» جمال الدين بن يغمور نائب الشام وسيف الدين المشدّ وجماعة؛ وانفرد شمس الدين لؤلؤ، والأمير ضياء الدين القيمرىّ؛ وخرجت العساكر المصريّة إليهم، والتقوا معهم وتقاتلوا فانهزم المصريّون ونهبت أثقالهم، ووصلت طائفة منهم من البحريّة على وجوههم إلى الصعيد،

(7/6)


وكانوا قد أساءوا إلى المصريّين ونهبوهم وارتكبوا معهم كلّ قبيح، فخافوا منهم فتوجّهوا إلى الصعيد. وخطب فى ذلك النهار بالقاهرة «1» ومصر والقلعة للملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور وفى جميع البلاد. وأيقن كلّ أحد بزوال دولة الملك المعزّ أيبك. وبات «2» فى تلك الليلة جمال الدين بن يغمور بالعبّاسة «3» ، وأحمى الحمّام للملك الناصر صلاح الدين يوسف، وهيّأ له الإقامة. كلّ ذلك والملك الناصر ما عنده خبر بما وقع من القتال والكسرة، وهو واقف بسناجقه «4» وأصحابه ينتظر ما يرد عليه من أمر جيشه.
وأمّا أمر المصريّين فإنّه لمّا وقعت الهزيمة عليهم ساق الملك المعزّ أيبك وأقطاى الجمدار المعروف ب «أقطيا» فى ثلثمائة فارس طالبين الشام هاربين، فعثروا فى طريقهم بشمس الدين لؤلؤ المقدّم ذكره والضّياء القيمرىّ، فساق شمس الدين لؤلؤ عليهم فحملوا عليه فكسروه وأسّروه وقتلوا ضياء الدين القيمرىّ، وجىء بشمس الدين لؤلؤ إلى بين يدى الملك المعزّ أيبك، فقال الأمير حسام الدين بن أبى علىّ: لا تقتلوه لنأخذ به الشام، فقال أقطاى الجمدار: هذا الذي يأخذ مصر منّا بمائتى قناع! وجعلنا مخانيث، كيف نتركه! وضربوا عنقه، وساقوا على حميّة إلى جهة، فاعترضوا طلب السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف فوقع المصافّ بينهم،

(7/7)


فخامر على الملك الناصر جماعة من المماليك العزيزيّة من مماليك أبيه، وجاءوا إلى الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ، وقالوا له: إلى أين تتوجّه؟ هذا السلطان واقف فى طلبه ليس له علم بكسرتهم، فعطفوا على الطّلب، وتقدمتهم العزيزيّة فكسروا سناجق السلطان وصناديقه ونهبوا ماله، ورموه بالنّشّاب، فأخذه نوفل الزّبيدىّ «1» وجماعة من مماليكه وأصحابه وعادوا به إلى الشام، وأسر المصريّون الملك المعظّم [توران شاه «2» ] ابن السلطان صلاح الدين بعد أن جرحوه وجرحوا ولده تاج الملوك، وأخذوا الملك الأشرف «3» صاحب حمص، والملك الزاهر عمّه، والملك الصالح إسماعيل صاحب الوقائع مع الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وجماعة كثيرة من أعيان الحلبيّين؛ ومات تاج الملوك من جراحته «4» فحمل إلى بيت المقدس ودفن به؛ وضرب الشريف المرتضى فى وجهه بالسيف ضربة هائلة عرضا وأرادوا قتله، فقال: أنا رجل شريف وابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتركوه؛ وتمزّق عساكر دمشق كلّ ممزّق، ومشوا فى الرمل أيّاما.
وأمّا المصريّون فإنّهم لمّا وقعت لهم هذه النّصرة عادوا إلى القاهرة بالأسارى، وسناجق الناصر مقلوبة وطبوله مشقّقة، ومعهم الخيول والأموال والعدد وشقّوا القاهرة، فلمّا وصلت المماليك الصالحيّة النّجميّة إلى تربة أستاذهم الملك الصالح نجم الدين أيّوب ببين القصرين أخذوا الملك الصالح إسماعيل الذي أسروه فى الوقعة،

(7/8)


وكان عدوّ أستاذهم الملك الصالح المذكور، ووقفوا به عند التّربة، وقالوا: يا خوند، أين عينك ترى عدوّك أسيرا بأيدينا! ثمّ سحبوه ومضوا به إلى الحبس، فحبسوه هو وأولاده أيّاما ثم غيّبوه إلى يومنا هذا، ولم يسمع عنه خبر إلّا ما تحدّث به العوامّ بإتلافه.
وأمّا عساكر الناضر الذين كانوا بالعبّاسة (أعنى الذين كسروا الملك المعزّ أيبك أوّلا) فإنّ المعزّ لمّا تمّ له النصر وهزم الناصر ردّ إلى المذكورين فى عوده إلى القاهرة، ومال عليهم بمن معه قتلا وأسرا حتى بدّد شملهم، ورحل إلى القاهرة بمن معه من الأسارى وغيرهم. ولمّا دخل الملك المعزّ أيبك هذا إلى القاهرة ومعه المماليك الصالحيّة مالوا على المصريّين قتلا ونهبا ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم وفعلوا بهم ما لم يفعله الفرنج بالمسلمين.
قلت: وسبب ذلك أنّه لمّا بلغهم كسرة المعزّ فرحوا وتباشروا بزوال المماليك من الديار المصريّة، وأسرعوا أيضا بالخطبة للملك «1» صلاح الدّين يوسف صاحب الشام المقدّم ذكره. وكان وزير «2» الملك الصالح إسماعيل المقدّم ذكره معتقلا بقلعة»
الجبل هو وناصر الدين [إسماعيل] «4» بن يغمور نائب الشام وسيف الدين القيمرىّ والخوارزمىّ صهر الملك الناصر يوسف، فخرجوا من الجبّ «5» وعصوا بقلعة الجبل، فلم يوافقهم سيف الدين القيمرىّ بل جاء وقعد على باب الدار التى فيها أعيان الملك المعزّ أيبك وحماها من النهب، ولم يدع أحدا يقربها؛ وأمّا الباقون فصاحوا:

(7/9)


«الملك الناصر يا منصور!» . فلما جاء الترك فتحوا باب القلعة ودخلوها، وأخذوا من كان عصى فيها، وشنقوا وزير الصالح وابن يغمور والخوارزمىّ متقابلين، وشنقوا أيضا مجير الدين بن حمدان، وكان شابّا حسنا، وكان تعدّى على بعض المماليك وأخذ خيله.
وأمّا الملك الناصر يوسف فإنّه سار حتّى وصل إلى غزّة وأقام ينتظر اصحابه، فوصل إليه منهم من سلم من عسكر الشام وعسكر الموصل ومضوا إلى الشام.
وأمّا العساكر المصريّة فإنّ الملك المعزّ أيبك المذكور لمّا دخل إلى مصر بعد هذه الوقعة عظم أمره وثبتت قواعد ملكه ورسخت قدمه. ثمّ وقع له فصول مع الملك الناصر يوسف المذكور يطول شرحها. محصول ذلك: أنّه لمّا كانت سنة إحدى وخمسين وستمائة وقع الاتّفاق بينه وبين الملك الناصر المذكور على أن يكون للعزّ وخشداشيته «1» المماليك الصالحيّة البحريّة الديار المصريّة وغزّة والقدس، وما بقى بعد ذلك من البلاد الشاميّة تكون للملك الناصر صلاح الدين يوسف. وأفرج الملك المعزّ عن الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور وعن أخيه نصرة الدين وعن الملك الأشرف صاحب حمص وغيرهم من الاعتقال، وتوجّهوا إلى الشام.
ولمّا فرغ الملك المعزّ من ذلك أخذ ينظر فى أمره مع فارس الدّين أقطاى الجمدار فإنّه كان أمره قد زاد فى العظمة والتفّت عليه المماليك البحريّة، وصار أقطاى المذكور

(7/10)


يركب بالشاويش «1» وغيره من شعار الملك، وحدّثته نفسه بالملك، وكان أصحابه يسمّونه «الملك الجواد» فيما بينهم. كلّ ذلك والمعزّ سامع مطيع، حتّى خطب أقطاى بنت الملك المظفّر تقىّ الدين محمود صاحب حماة وكان أخوها الملك المنصور «2» هو يومئذ صاحب حماة بعد موت أبيه. وتحدّث أقطاى مع الملك المعزّ أيبك أنّه يريد يسكنها فى قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك، ولا يليق سكناها بالبلد، فاستشعر الملك المعزّ منه بما عزم عليه، وأخذ يدبّر أمره وعمل على قتله فلم يقدر على ذلك.
فكاتب الملك المعزّ السلطان صلاح الدين يوسف واستشاره فى الفتك به، فلم يجبه فى ذلك بشىء، مع أنّه كان يؤثر ذلك، لكنّه علم أنّه مقتول على كلّ حال، فترك الجواب. ثم سيّر فارس الدّين أقطاى الجمدار المذكور جماعة لإحضار بنت صاحب حماة إليه، فخرجت من حماة ووصلت إلى دمشق بتجمّل عظيم فى عدّة محفّات «3» مغشّاة بالأطلس وغيره من فاخر الثياب وعليها الحليّ والجواهر، ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجّهة إلى الديار المصريّة.
وأمّا الملك المعزّ فإنّه لمّا أبطأ عليه جواب الملك الناصر صلاح الدين فى أمر أقطاى وتحقّق أن بنت صاحب حماة فى الطريق بقى متحيّرا، إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكليّة، وإن سكّنه قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكّن من إخراجه، ويترتّب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين أقطاى بالملك فعمل على معاجلته؛

(7/11)


فدخل أقطاى عليه على عادته، وقد رتّب له الملك المعزّ جماعة للفتك به، منهم:
الأمير سيف الدين قطز المعزى (أعنى الذي تسلطن بعد ذلك) ، فلمّا دخل أقطاى وثبوا عليه وقتلوه فى دار السلطنة بقلعة الجبل فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة؛ فتحرّك لقتله جماعة من خشداشيته البحريّة، ثم سكن الحال ولم ينتطح فى ذلك شاتان!.
ولمّا وقع ذلك التفت الملك المعزّ إلى خلع الملك الأشرف مظفّر الدين موسى الأيّوبىّ فخلعه وأنزله من قلعة الجبل إلى حيث كان أوّلا عند عمّاته «1» القطبيّات.
وركب الملك المعزّ بالسناجق السلطانيّة وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقلّ على الملك بمفرده استقلالا تامّا إلى أن قصدت المماليك العزيزيّة القبض عليه فى سنة ثلاث وخمسين، فشعر بذلك قبل وقوعه فقبض على بعضهم وهرب بعضهم. م وقعت الوحشة ثانيا بين الملك المعزّ هذا وبين الملك الناصر صلاح الدين يوسف، فمشى الشيخ نجم الدين البادرائىّ «2» بينهما حتّى قرّر الصلح بين المعزّ وبين الناصر، على أن تكون الشام جملة للملك الناصر، وديار مصر للملك المعزّ؛ وحدّ ما بينهما بئر القاضى «3» ،

(7/12)


وهو فيما بين الورّادة «1» والعريش «2» ؛ واستمرّ الحال على ذلك. ثم إنّ الملك المعزّ تزوّج بالملكة شجرة الدّرّ أمّ خليل فى هذه السنة ودخل بها، وكان زواجه بها سببا لقتله على ما تقدّم فى ترجمتها، وعلى ما يأتى فى هذه الترجمة أيضا.
ولمّا تزوّجها وأقام معها مدّة أراد أن يتزوّج ببنت الملك الرحيم صاحب الموصل، وكانت شجرة الدرّ شديدة الغيرة، فعملت عليه وقتلته فى الحمّام، وأعانها على ذلك جماعة من الخدّام. وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة شجرة الدرّ فيما مضى. وكان قتل الملك المعزّ فى يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستّمائة. وكان ملكا شجاعا كريما عاقلا سيوسا كثير البذل للاموال، أطلق فى مدّة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة حتّى رضى الناس بسلطان مسّه الرّقّ. وأمّا أهل مصر فلم يرضوا بذلك إلى أن مات، وهم يسمعونه ما يكره، حتّى فى وجهه إذا ركب ومرّ بالطرقات، ويقولون: لا نريد إلّا سلطانا رئيسا مولودا على الفطرة. على أنّ الملك المعزّ كان عفيفا طاهر الذّيل بعيدا عن الظلم والعسف كثير المداراة لخشداشيته والاحتمال لتجنّيهم عليه وشرّ أخلاقهم، وكذلك مع الناس. وخلّف عدّة أولاد منهم الملك المنصور علىّ الذي تسلطن بعده، وناصر الدين قان.

(7/13)


قال الشيخ قطب «1» الدين اليونينىّ فى الذيل على مرآة الزمان: «ورأيت له ولدا آخر بالديار المصريّة فى سنة تسع وثمانين وستمائة، وهو فى زىّ الفقراء الحريريّة «2» » .
انتهى. وكان للمعزّ برّ ومعروف وعمائر، من ذلك: المدرسة المعزّيّة «3» على النيل بمصر القديمة ووقف عليها أوقافا. ودهليز المدرسة متّسع طويل مفرط؛ قيل: إنّ بعض الأكابر دخل إلى هذه المدرسة المذكورة فرآها صغيرة بالنسبة إلى دهليزها، فقال:
هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة! انتهى. وكان مدرّسها القاضى برهان «4» الدين الخضر ابن الحسن السّنجارىّ إلى أن مات. وكانت مدّة سلطنة الملك المعزّ على مصر سبع سنين. ومات وقد ناهز الستّين سنة- رحمه الله تعالى-.
قلت: وقد تقدّم أنّ الملك المعزّ أيبك هذا هو أوّل من ملك الديار المصريّة من الأتراك الذين مسّهم الرّقّ. وقد ذكرنا مبدأ أمره وما وقع له من الحروب

(7/14)


وغيرها على سبيل الاختصار. ولنذكر هنا أيضا من عاصره من ملوك الأقطار ليعلم الناظر فى هذه الترجمة بأصل جماعة كبيرة من الملوك الآتى ذكرهم فى الحوادث، وأيضا بحدّ مملكة الملك المعزّ يوم ذاك، وحد تحكّمه من البلاد؛ ومع هذا كان له من المماليك والحشم والعساكر أضعاف ما لملوك زماننا هذا مع اتّساع ممالكهم. انتهى.
ونذكر أيضا من أمر النار التى كانت بأرض الحجاز فى أيّام سلطنته فى سنة أربع وخمسين وستمائة، فنقول:
استهلّت سنة أربع وخمسين المذكورة والخليفة المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله العباسىّ ببغداد، وسلطان مصر الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ هذا، وسلطان الشام إلى الفرات الملك الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبىّ ما خلا حماة وحمص والكرك وبلادا أخر نذكر ملوكها فيما يأتى- إن شاء الله تعالى- وهم: صاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب. وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبى بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب. وصاحب صهيون «1» وبرزيه «2» وبلاطنس «3» الأمير مظفّر الدين عثمان ابن الأمير ناصر الدين منكورس. وصاحب تلّ «4» باشر والرّحبة «5» وتدمر الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن إبراهيم بن شير كوه بن محمد بن شير كوه بن شادى.
وصاحب الموصل وأعمالها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكىّ. وصاحب ميّافارقين

(7/15)


وديار بكر وتلك الأعمال الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر شهاب الدين غازى بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب. وصاحب ماردين الملك السعيد إيلغازى الأرتقىّ. وصاحب إربل «1» وأعمالها الصاحب تاج الدين «2» بن صلايا العلوىّ من جهة الخليفة. والنائب فى حصون الإسماعيليّة الثمانية «3» بالشام رضىّ الدين أبو المعالى. وصاحب المدينة الشريفة- صلوات الله وسلامه على ساكنها- الأمير عزّ «4» الدين أبو ملك منيف بن شيحة بن قاسم الحسينىّ. وصاحب مكّة المشرّفة- شرفّها الله تعالى- الشريف قتادة الحسينىّ. وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن عمر.
وأمّا ملوك الشرق: فسلطان ما وراء النهر وخوارزم السلطان «5» ركن الدين وأخوه «6» عزّ الدين والبلاد بينهما مناصفة، وهما فى طاعة هولاكو ملك التّتار.
وأمّا أمر النار التى ظهرت بالحجاز قال قاضى المدينة سنان «7» الحسينىّ: «لمّا كان ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستّمائة، ظهر بالمدينة الشريفة

(7/16)


دوىّ عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت «1» منها المدينة والحيطان والسّقوف ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة خامس الشهر المذكور ظهرت نار عظيمة، وقد سالت أودية منها بالنّار إلى وادى «2» شظا حيث يسيل الماء، وقد سدّت مسيل شظا وما عاد يسيل.
ثم قال: والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا، وقد سدّت الحرّة طريق الحاجّ العراقىّ، وسارت إلى أن وصلت إلى الحرّة «3» فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجىء إلينا؛ ورجعت تسير فى الشرق، يخرج من وسطها مهود وجبال نيران تأكل الحجارة»
، كما أخبر الله فى كتابه العزيز فقال عزّ من قائل: (إنّها ترمى بشرر كالقصر. كأنّه جمالت صفر) . قال: وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين والنار فى زيادة ما تغيّرت؛ وقد عادت إلى الحرّة وفى قريظة طريق الحاجّ العراقىّ.
وأمّا أمر النار الكبيرة فهى جبال نيران حمر، والأمّ الكبيرة النار التى سالت النيران منها من عند قريظة وقد زادت، وما عاد الناس يدرون أىّ شىء يتمّ بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير؛ وما أقدر أصف هذه النار» . انتهى كلام القاضى فى كتابه.
وقال غيره بعد ما ساق من أمر النار المذكورة عجائب نحوا ممّا ذكرناه وأعظم إلى أن قال: «وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ وعرضه

(7/17)


أربعة أميال وعمقه قامة ونصفا، وهى تجرى على وجه الأرض، وتخرج منها أمهاد وجبال صغار تسير على الأرض، وهو صخر يذوب حتّى يبقى مثل الآنك «1» ، فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر؛ وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصى والتقرّب إلى الله تعالى بالطاعات؛ وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة» .
ثم قال قطب الدين فى الذّيل: «ومن كتاب شمس الدين سنان بن نميلة الحسينىّ قاضى المدينة إلى بعض أصحابه يصف الزّلزلة إلى أن ذكر قصّة النار وحكى منها شيئا إلى أن قال: وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما، وطلعت إلى الأمير وكلّمته وقلت:
قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله! فاعتق كلّ مماليكه، وردّ على جماعة أموالهم، فلمّا فعل هذا قلت له: اهبط الساعة معنا إلى النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- فهبط، وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقى أحد لا فى النخيل ولا فى المدينة إلّا عند رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأشفقنا منها وظهر ضوءها إلى أن أبصرت من مكّة، ومن الفلاة جميعها. ثم سال من ذلك نهر من نار وأخذ فى وادى أحيلين «2» وسدّ الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاجّ، وهو بحر نار يجرى وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادى: وادى الشّظا، وما عاد يجرى سيل قطّ لأنّها حفرته نحو قامتين. والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقى يسمع فيها رباب ولا دفّ. ثمّ ذكر أشياء مهولة من هذا الجنس إلى أن قال: والشمس والقمر من يوم طلعت النار ما يطلعان إلّا كاسفين! قال: وأقامت هذه النار أكثر من شهرين» . وفيها يقول بعضهم:

(7/18)


يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق «1» لها ... حملا ونحن بها حقّا أحقّاء
زلازلا تخشع الصمّ الصّلاب لها ... وكيف يقوى على الزّلزال شمّاء
أقام سبعا يرجّ الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء «2»
والقصيدة طويلة جدّا كلّها على هذا المنوال. ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمر هذه النار وما وقع منها، فرأينا أنّ الشرح يطول، والمقصود هنا بقيّة ترجمة السلطان الملك المعزّ أيبك.
ولمّا مات المعزّ رثاه سراج «3» الدّين الورّاق بقصيدة أوّلها:
نقيم عليه مأتما بعد مأتم ... ونسفح دمعا دون سفح المقطّم
ولو أنّنا نبكى على قدر فقده ... لدمنا عليه نتبع الدّمع بالدم
وسل طرفى ينبيك عنّى أنّنى ... دعوت الكرى من بعده بالمحرّم
ومنها فى ذكر ولده الملك المنصور علىّ- رحمه الله-:
بنى الله بالمنصور ما هدّم الرّدى ... وإنّ بناء الله غير مهدّم
مليك الورى بشرى لمضمر طاعة ... وبؤسى لطاغ فى زمانك مجرم
فما للذى قدّمت من متأخّر ... ولا للذى أخّرت من متقدّم
وأيبك صوابه كما هو مكتوب، وهو لفظ تركىّ مركّب من كلمتين. فأى هو القمر، وبك أمير، فمعنى الاسم باللغة العربية أمير قمر، ولا عبرة بالتقديم والتأخير فى اللفظ، وأيبك (بفتح الهمزة وسكون الياء المثناة من تحت وتفخيمهما معا) وبك معروف لا حاجة إلى التعريف به. انتهى.

(7/19)


السنة التى حكم فى محرّمها الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين، ثم فى صفر والربيعين منها الملكة شجرة الدّرّ أمّ خليل الصالحيّة، ثمّ فى باقيها الملك المعزّ أيبك صاحب الترجمة، ومعه الملك الأشرف مظفّر الدين موسى، والعمدة فى ذلك على المعزّ هذا، وهى سنة ثمان وأربعين وستّمائة.
فيها كانت كسرة الفرنج على دمياط وقبض على الفرنسيس كما تقدّم.
وفيها قتل الملك المعظّم توران شاه، وقد مرّ أيضا.
وفيها كانت الوقعة بين الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبين الملك المعزّ هذا.
وفيها حجّ طائفة من العراق، ولم يحجّ أحد من الشام ولا مصر فى هذه السنة.
وفيها ثارت الجند ببغداد لقطع أرزاقهم. وكلّ ذلك كان من عمل الوزير «1» ابن العلقمىّ الرافضىّ، فإنّه كان حريصا على زوال دولة بنى العبّاس ونقلها إلى العلوييّن، وكان يرسل إلى التّتار فى السرّ والخليفة المستعصم لا يطّلع على باطن الأمور.
وفيها لمّا فرغوا من حرب دمياط وتفرّق أهلها نقلوا أخشاب بيوتهم وأبوابهم منها وتركوها خاوية على عروشها، ثم بنيت بعد ذلك بليدة بالقرب منها تسمّى المنشيّة «2» .
وكان سور دمياط من أحسن الأسوار.

(7/20)


وفيها توفّيت أرغوان «1» الحافظية عتيقة الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، سمّيت الحافظيّة لأنّها ربّت الملك الحافظ صاحب [قلعة] «2» جعبر، وكانت امرأة عاقلة صالحة، وكانت مدّة حبس الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين أيّوب بدمشق تهيّي له الأطعمة والأشربة وتبعث له النياب، فحقد عليها الملك الصالح إسماعيل فصادرها وأخذ منها أموالا عظيمة، يقال: إنّه أخذ منها أربعمائة صندوق. ولها تربة ومسجد ووقفت عليهما أوقافا.
وفيها قتل الأمير شمس الدين لؤلؤ بن عبد الله مقدّم عسكر حلب، وهو الذي قتلته المماليك الصالحيّة فى الوقعة التى كانت بين الناصر والمعزّ صاحب الترجمة. وكان أميرا شجاعا مقداما زاهدا مدبّرا عظيم الشأن، وكان فيه قوّة وبأس غير أنّه كان مستخفّا بالمماليك، ويقول: كلّ عشرة من المماليك فى مقابلة كرىّ، ولا زال يمعن فى ذلك حتى كانت منيته بأيدى المماليك الصالحيّة كما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى ابو «3» الحسن المتطبّب وزير الملك الصالح إسماعيل، وهو الذي كان السبب زوال ملك مخدومه، فإنّه كان سيىء السّيرة كثير الظلم قليل الخير، وكان يتستّر بالإسلام، وكان يرمى فى دينه بعظائم؛ وقيل: إنّه كان أوّلا سامريّا فلم يحسن إسلامه؛ وظهر له بعد موته من الأموال والجواهر والتّحف والذخائر ما لا يوجد فى خزائن الخلفاء، وأقاموا ينقلونه مدّة سنين. وقيمة ما ظهر له غير ما ذهب عند الناس ثلاثة آلاف ألف دينار؛ ووجد له عشرة آلاف مجلّد من الكتب النفيسة والخطوط المنسوبة. قال الشيخ إسماعيل [بن علىّ «4» ] الكورانىّ يوما وقد زاره الوزير

(7/21)


المذكور: لو بقيت على دينك كان أصلح لأنّك تتمسّك بدين فى الجملة؛ وأمّا الآن فأنت مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام أبو محمد إبراهيم بن محمود بن سالم بن الخيّر «1» فى شهر ربيع الاخر، وله خمس وثمانون سنة. والحافظ شمس الدين يوسف بن خليل الدّمشقىّ الأدمىّ بحلب فى جمادى الاخرة، وله ثلاث وتسعون سنة. والقاضى أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحبّاب «2» التّميمىّ السّعدىّ، وله سبع وثمانون سنة فى شهر رمضان. والمحدّث أبو محمد عبد الوهاب ابن رواح «3» ، واسمه ظافر بن علىّ بن فتوح القرشىّ المالكىّ، وله أربع وتسعون سنة.
وأبو المنصور مظفّر بن عبد الملك بن الفوّىّ المالكىّ. ونائب الملك الناصر الأمير شمس الدين لؤلؤ قتل فى جماعة فى الوقعة الكائنة بين المصريّين والشامييّن.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
[ما وقع من الحوادث سنة 649]
السنة الثانية من ولاية السلطان الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة تسع وأربعين وستمائة.

(7/22)


فيها عاد الملك الناصر صلاح الدين يوسف من غزّة إلى دمشق، وأرسل المعزّ عسكر مصر فنزل إلى غزّة والساحل، ثم عادوا إلى القاهرة «1» .
وفيها أيضا أخذ الملك المغيث ابن الملك العادل بن الملك الكامل الكرك والشّوبك، أعطاه إيّاهما الخادم «2» . ولمّا سمع الملك المعزّ بذلك جهّز الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار فى ألف فارس إلى غزّة.
وفيها نقلوا تابوت الملك الصالح نجم الدين أيّوب إلى تربته بالقاهرة ببين القصرين، ولبس الأمراء ثياب العزاء وناحوا عليه ببين القصرين، وتصدّقت جاريته شجرة الدّرّ فى ذلك اليوم بمال عظيم.
وفيها أخرب الترك دمياط «3» وحملوا «4» آلاتها إلى مصر وأخربوا الجزيرة «5» (أعنى الروضة) وأخلوها.
وفيها كثر الظلم بالديار المصريّة وعظم الجور والمصادرات لكلّ أحد حتى أخذوا مال الأوقاف ومال الأيتام على نيّة القرض، ومن أرباب الصنائع كالأطباء والشهود «6» .

(7/23)


وفيها توفّى الفقيه بهاء الدين علىّ بن هبة الله بن سلامة بن الجميزىّ، كان إماما فاضلا عارفا بمذهب الشافعىّ ديّنا، وكان يخالط الملوك. ولمّا حجّ قبل هدية صاحب اليمن فأعرض عنه الملك الصالح نجم الدين أيّوب لذلك. وكانت وفاته فى ذى الحجة بمصر، ودفن بالقرافة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى الإمام عبد الظاهر ابن نشوان السّعدىّ «1» المقرئ النحوىّ الضرير فى جمادى الأولى. وأبو نصر عبد العزيز ابن يحيى بن الزبيدىّ، وله تسع وثمانون سنة. والإمام أبو المظفّر محمد بن مقبل ابن فتيان النّهروانىّ بن المنّىّ فى جمادى الآخرة. وأبو نصر الأعزّ بن فضائل ببغداد فى رجب. والأمير الصاحب جمال الدين يحيى بن عيسى المصرى ابن مطروح الأديب. وأبو القاسم عيسى بن أبى الحرم «2» مكّىّ بن حسين العامرىّ المصرىّ المقرئ فى شوّال. والإمام أبو محمد عبد الخالق بن الأنجب بن المعمّر النّشتبرىّ «3» بماردين فى ذى الحجة. والإمام العلّامة بهاء الدين أبو الحسن علىّ بن هبة الله بن سلامة بن الجمّيزىّ فى ذى الحجّة، وله تسعون سنة وأسبوعان. والفقيه عبيد «4» الله بن عاصم خطيب رندة «5» ، وله سبع وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.

(7/24)


[ما وقع من الحوادث سنة 650]
السنة الثالثة من ولاية الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر، وهى سنة خمسين وستّمائة.
فيها وصلت التّتار إلى الجزيرة ونهبوا ديار بكر وميّافارقين، وجاءوا إلى رأس «1» عين وسروج «2» وغيرها، وقتلوا زيادة على عشرة آلاف إنسان، وصادفوا قافلة خرجت من حرّان «3» تقصد بغداد، فأخذوا منها أموالا عظيمة: منها ستّمائة حمل سكّر مصرىّ وستّمائة ألف دينار، قاله أبو المظفّر فى مرآة الزمان، قال: وقتلوا الشيوخ والعجائز وساقوا من النساء والصّبيان ما أرادوا، ثم رجعوا إلى خلاط «4» . وقطع أهل الشرق الفرات وخاض الناس فى القتلى من دنيسر «5» إلى الفرات. قال بعض التّجار:
عددت على جسر بين حرّان ورأس عين فى مكان واحد ثلثمائة وثمانين قتيلا من المسلمين؛ ثم قتل ملك التّتار كشلوخان.
وفيها حجّ بالناس من بغداد بعد أن كان بطل الحجّ منذ عشر سنين من سنة مات الخليفة المستنصر.
وفيها قدم الشيخ نجم «6» الدين البادرانىّ رسولا من الخليفة وأصلح بين المعزّ أيبك صاحب الترجمة وبين الناصر يوسف، وقد تقدّم ذلك، وكان كلّ واحد من الطائفتين قد سئم وضرس «7» من الحرب، وسكنت الفتنة بين الملوك واستراح الناس.

(7/25)


وفيها توفّى العلّامة رضىّ الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علىّ القرشىّ العدوىّ العمرىّ الصاغانىّ «1» الأصل الهندىّ اللاهورىّ «2» المولد البغدادىّ الوفاة المحدّث الفقيه الحنفىّ اللغوىّ الإمام صاحب التصانيف، ولد بمنية لاهور فى عاشر صفر سنة سبع وسبعين وخمسمائة ونشأ بغزنة «3» ، ودخل بغداد فسمع الكثير فى عدّة بلاد ورحل. وكان إليه المنتهى فى علم العربية واللغة، وصنّف كتاب «مجمع البحرين» فى اللغة، اثنا عشر مجلّدا، وكتاب «العباب الزاخر» فى اللّغة أيضا عشرون مجلدا، وأشياء غير ذلك. قال الحافظ «4» الدّمياطى: وكان شيخا صدوقا صالحا صموتا عن فضول الكلام إماما فى اللّغة والفقه والحديث؛ قرأت عليه يوم الأربعاء وتوفّى ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان، وحضرت دفنه بداره بالحريم «5» الطاهرىّ ببغداد. ثم ترجمه الدمياطى ترجمة طويلة وأثنى على علمه وفضله ودينه.
وفيها توفّى الشيخ شمس الدين محمد بن سعد [ «6» بن عبد الله بن سعد بن مفلح بن هبة الله] الكاتب المقدسىّ نشأ بقاسيون على الخير والصلاح وقرأ النحو والعربيّة وسمع الحديث الكثير، وبرع فى الأدب. وكان ديّنا حسن الخط وكتب للملك الصالح إسماعيل وللملك الناصر داود. ومن شعره:

(7/26)


لنا بقدوم طلعتك الهناء ... وللأعداء ويحهم الفناء
قدمت فكنت شبه الغيث وافى ... بلادا قد أحلّ بها الظّماء
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول القائل ولم أدر لمن هو:
قدومك أشهى من زلال على ظما ... وأحسن من نيل المنى فى المآرب
حكى الغيث وافى الأرض من بعد جدبها ... وأطلع فيها النبت من كلّ جانب
وفيها توفّى الأمير الصاحب «1» جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم ابن الحسين بن علىّ بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين «2» بن مطروح. كان أصله من صعيد «3» مصر، وولد به ونشأ هناك، ثم قدم القاهرة واشتغل وبرع فى الأدب والكتابة واتّصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيّوب. قال أبو المظفّر: كان فاضلا كيّسا شاعرا. ومن شعره لمّا فتح الناصر داود برج داود بالقدس، قال:
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت «4» مثلا سائرا
إذا غدا للكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهّره أوّلا ... وناصر طهّره آخرا
قال: وتوفى فى شعبان ودفن بسارية «5» بالقرافة وكانت له أخبار عظيمة، وكان قد دخل بين الخوارزميّة والصالح أيّوب، واستنابه أيّوب بالشام ولبس ثياب الجند وما كانت تليق به. ثمّ غضب عليه الصالح وأعرض عنه إلى أن مات، فأقام خاملا

(7/27)


إلى أن مات. وقد كان جوادا ذا مروءة متعصّبا سمحا حليما حسن الظنّ «1» بالفقراء عارفا فاضلا. انتهى كلام أبى المظفّر. قلت: وديوان شعره مشهور. ومن شعره القصيدة المشهورة:
هى رامة فخذوا يمين الوادى ... وذروا السيوف تقرّ فى الأغماد
وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الاساد
من كان منكم واثقا بفؤاده ... فهناك ما أنا واثق بفؤادى
يا صاحبىّ ولى بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادى
سلبته منّى يوم بانوا مقلّة ... مكحولة أجفانها بسواد
وبحىّ «2» من أنا فى هواه ميّت ... عين على العشّاق بالمرصاد
وأغنّ مسكىّ اللّمى معسوله ... لولا الرقيب بلغت منه مرادى
كيف السبيل إلى وصال محجّب ... ما بين بيض ظبا وسمر صعاد
فى بيت شعر نازل من شعره ... فالحسن منه عاكف فى بادى
حرسوا مهفهف قدّه بمثقّف ... فتشابه الميّاس بالميّاد
قالت لنا ألف العذار بخدّه ... فى ميم مبسمه شفاء الصادى
وهى أطول من ذلك اختصرتها خوف الإطالة. ويعجبنى قصيدة الجزّار «3» فى مدح ابن مطروح هذا. أذكر غزلها:
هو ذا الرّبع ولى نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى «4» أقضى حقوقه
فقبيح بى فى شرع الهوى ... بعد ذاك البرّ أن أرضى «5» عقوقه

(7/28)


لست أنسى فيه ليلات مضت ... مع من أهوى وساعات أنيقة
ولئن أضحى مجازا بعدهم ... فغرامى فيه ما زال حقيقة
يا صديقي والكريم الحرّ فى ... مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه
ضع يدا منك على قلبى عسى ... أن تهدّى بين جنبىّ خفوقه
فاض دمعى مذ رأى ربع الهوى ... ولكم فاض وقد شام بروقه
نفد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر فى التّرب عقيقه
قف [معى «1» ] واستوقف الركب فإن ... لم يقف فاتركه يمضى «2» وطريقه
فهى أرض قلّما يلحقها ... آمل والرّكب لم أعدم لحوقه
طالما استجليت فى أرجائها ... من يتيه البدر إذ يدعى شقيقه
يفضح الورد احمرارا خدّه ... وتودّ الخمر لو تشبه ريقه
فبه الحسن خليق لم يزل ... والمعالى بابن مطروح خليقه
وله بيتان ضمّنهما بيت المتنبّى الذي هو أوّل قصيدته، وهو:
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
فقال ابن مطروح مضمّنا:
إذا ما سقانى ريقه وهو باسم ... تذكّرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرنى من قدّه ومدامعى ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو البركات هبة الله ابن محمد بن الحسين [المعروف «3» بآ] بن الواعظ المقدسىّ ثم الإسكندرانىّ عن إحدى

(7/29)


وثمانين سنة. وأبو القاسم يحيى بن أبى السعود [نصر «1» ] بن قميرة «2» التاجر فى جمادى الأولى، وله خمس وثمانون سنة. والعلّامة أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن العدوى العمرىّ الصّغانىّ النحوىّ اللغوىّ. والأديب شمس الدين محمد بن سعد بن عبد الله المقدسىّ الكاتب فى شوّال. والمسند رشيد الدين أحمد بن المفرّج «3» بن علىّ [بن عبد «4» العزيز] بن مسلمة العدل فى ذى القعدة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 651]
السنة الرابعة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة إحدى وخمسين وستمائة.
فيها كانت الوقفة الجمعة.
وفيها عظم بمصر أمر الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار ورشّح للسلطنة، وكان من حزبه من خشداشيته بيبرس البندقدارىّ، وبلبان الرّشيدىّ، وسنقر الرّومىّ، وسنقر الأشقر «5» . وصار الملك المعزّ فى خوف. وقد تقدّم ذكر هذه الحكاية فى ترجمة المعزّ.
وفيها كان الغلاء بمكّة المشرّفة، وأبيع فيها الشّربة الماء بدرهم، والشاة بأربعين درهما.

(7/30)


وفيها توفّى الشيخ الإمام سعد الدين محمد بن المؤيّد [بن عبد «1» الله بن علىّ] بن حمّويه ابن عمّ شيخ الشيوخ صدر «2» الدين. مات بخراسان، وكان زاهدا عابدا ديّنا متكلّما فى الحقيقة، وله مجاهدات ورياضات، وقدم الشام «3» وحجّ وسكن بدمشق، ثمّ عاد إلى الشرق بعد أن افتقر بالشام، واجتمع بملك التّتار فأحسن به الظنّ وأعطاه مالا كثيرا، وأسلم على يده خلق كثير من التّتار، وبنى هناك خانقاه وتربة إلى جانبها، وأقام يتعبّد، وكان له قبول عظيم هناك- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو البقاء صالح بن شجاع بن محمد بن سيّدهم المدلجىّ الخيّاط فى المحرّم. وسبط السّلفىّ «4» أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى الحرم مكّىّ بن عبد الرحمن الطّرابلسىّ الإسكندرانىّ فى شوّال عن إحدى وثمانين سنة. وأبو محمد عبد القادر بن حسين [بن محمد «5» بن جميل] البندنيجىّ البوّاب آخر من روى عن عبد الحق «6» اليوسفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 652]
السنة الخامسة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر؛ وهى سنة اثنتين وخمسين وستمائة.

(7/31)


فيها وصلت الأخبار من مكّة بأنّ نارا ظهرت فى أرض عدن «1» فى بعض جبالها، بحيث يطير شررها إلى البحر فى الليل، ويصعد منها دخان عظيم فى النهار، فما شكّوا أنّها النار التى ذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها تظهر فى آخر الزمان. فتاب الناس وأقلعوا عمّا كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا فى أفعال الخير والصدقات.
قلت: وقد تقدّم «2» ذكر هذه النار بأوسع من هذا فى ترجمة الملك المعزّ هذا.
وفيها وصلت الأخبار من الغرب باستيلاء إنسان على إفريقيّة وادّعى أنّه خليفة، وتلقّب بالمستنصر «3» ، وخطب له فى تلك النواحى، وأظهر العدل وبنى برجا وأجلس الوزير والقاضى والمحتسب بين يديه يحكمون بين الناس، وأحبّته الرعيّة وتمّ أمره.
وفيها توفّى الإمام عبد الحميد بن عيسى الخسرو «4» شاهىّ. كان إماما فاضلا فى فنون، وصحب الفخر الرازىّ ابن خطيب الرّىّ، وأقام عند الملك الناصر داود سنين كثيرة بدمشق والكرك، وكان متواضعا كبير القدر كثير الإحسان. مات بدمشق ودفن بقاسيون فى تربة المعظّم عيسى.

(7/32)


وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله [ابن «1» أبى القاسم الخضر بن محمد بن علىّ] بن تيميّة الحرّانىّ الحنبلىّ جدّ الشيخ تقىّ الدين «2» ابن تيميّة. ولد فى حدود سنة تسعين «3» وخمسمائة وتفقّه فى صغره على عمّه الخطيب فخر الدين «4» ؛ وسمع الكثير ورحل البلاد وبرع فى الحديث والفقه وغيره، ودرّس وأفتى وانتفع به الطلبة، ومات يوم الفطر بحرّان.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى سديد [الدين «5» ] أبو محمد مكّى [بن أبى الغنائم «6» ] ابن المسلم [بن مكّى «7» ] بن علّان القيسى فى صفر، وله تسع وثمانون سنة. والرشيد إسماعيل بن أحمد بن الحسين العراقىّ الحنبلىّ عن نيّف وثمانين سنة فى جمادى الأولى. والمفتى كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة النّصيبىّ بحلب عن سبعين سنة. وأبو البقاء محمد بن على بن بقاء [بن «8» ] السبّاك. والعلّامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم ابن تيميّة بحرّان يوم الفطر عن اثنتين وستين سنة. وأبو الغيث فرج [بن عبد الله «9» ] الحبشىّ فتى أبى جعفر «10» القرطبى فى شوّال. والإمام شمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسرو شاهىّ بدمشق. وأبو العزائم عيسى بن سلامة بن سالم الخيّاط بحرّان فى أواخر «11» السنة، وله مائة وسنة. والفارس أقطاى مقدّم البحريّة، قتله المعزّ بمصر.

(7/33)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 653]
السنة السادسة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
فيها عزمت المماليك العزيزيّة على القبض على الملك المعزّ وكاتبوا الملك الناصر فلم يوافقهم أيدغدىّ العزيزىّ، واستشعر الملك المعزّ منهم بذلك وعلم الخبر، وعلموا هم أيضا فهربوا على حميّة، وكبيرهم آقوش البرنلى، ولم يهرب أيدغدى وأقام بمخيّمه، فجاء الملك المعزّ راكبا إلى قرب خيمته فخرج إليه أيدغدى فأمر المعزّ بحمله، وقبض أيضا على الأمير الأتابكى ونهبت خيام العزيزيّة وكانوا بالعبّاسة، والأعيان الذين هربوا: هم بلبان الرّشيدىّ، وعزّ الدين أزدمر، وبيبرس البندقدارىّ، وسنقر الأشقر، وسيف الدين قلاوون الألفى، وبدر الدين بيسرى، وسنقر الرّومى، وبلبان المستنصرىّ. «1»
وفيها عاد الملك الناصر داود من الأنبار إلى دمشق بعد أن حبسه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بقلعة حمص ثلاث سنين وبعث به إلى بغداد، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، ثم عاد فى سنة ثلاث وخمسين إلى العراق، وحجّ وأقام بالحلّة «2» ، وكان قد جرى بين الحجّ العراقىّ وأصحاب أمير مكّة فتنة، فأصلح بينهم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المفتى ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم الحلبىّ فى صفر عن نيّف وتسعين سنة. والمحدّث

(7/34)


شهاب الدين أبو العرب إسماعيل بن حامد الأنصارى القوصىّ فى شهر ربيع الأوّل عن ثمانين سنة. والنور محمد بن أبى بكر بن أحمد بن خلف البلخىّ ثم الدّمشقىّ، فى شهر ربيع الآخر، وقد رأى السّلفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 654]
السنة السابعة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة أربع وخمسين وستمائة.
فيها فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف مدرسته التى أنشأها بدمشق بباب الفراديس.
وفيها غرقت بغداد الغرق العظيم الذي لم يعهد مثله بحيث انتقل الخليفة، ودخل الماء إلى دار الوزير وغرقت خزائن الخليفة، وجرى شىء لم يجر مثله، وكان ذلك فى شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى.
وفيها توفّى الشيخ الزاهد العابد الورع المجاهد عماد الدين عبد الله [بن «1» أبى المجد الحسن بن الحسين بن علىّ الأنصارىّ] ابن النحّاس، خدم فى مبادئ أمره الملوك، وولى الوزارة لبعضهم، ثم انقطع فى آخر عمره بقاسيون بزاويته، فأقام بها ثلاثين سنة صائما قائما مشغولا بالله تعالى ويقضى حوائج الناس بنفسه وماله، ودفن بقاسيون، وكان له مشهد هائل.

(7/35)


وفيها كان ظهور النار العظيمة بالمدينة الشريفة وهى غير التى ذكرناها فى السنة الماضية «1» ، وهذه النار التى تقدّم ذكرها فى ترجمة الملك المعزّ هذا.
وفيها احترق مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان، وهذا غير النار التى ظهرت بنواحى المدينة، فإن هذا الحريق له سبب «2» ، ابتدأ من زاوية الحرم النبوىّ [الغربية «3» من الشمال] ، فعلقت فى آلات الحرم ثم دبّت فى السّقوف، فما كان إلّا ساعة حتّى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقع بعض أساطينه، وكان ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق أيضا سقف الحجرة، وأصبح الناس فى يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة. ونظم فى حريق المسجد غير واحد من الشعراء، فقال معين الدين بن تولو المغربىّ:
قل للرّوافض بالمدينة مالكم ... يقتادكم للذّمّ كلّ سفيه
ما أصبح الحرم الشريف محرّقا ... إلّا لسبّكم الصحابة فيه
وقال غيره:
لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار
لكنها أيدى الرّوافض لامست ... ذاك الجناب فطهّرته النار
قال: وعدّ ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات.
وقال أبو شامة: فى ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أوّل الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسفت الشمس فى غده، احمرّت وقت طلوعها

(7/36)


و [قريب «1» ] غروبها، واتّضح بذلك ما صوّره الإمام الشافعىّ من اجتماع الخسوف والكسوف، واستبعده أهل النّجامة.
وفيها تواترت الأخبار بوصول هولاكو إلى أذربيجان قاصدا بلاد الشام، فتصالح العسكر المصرىّ والشامىّ على قتاله وتهيّأ كلّ منهم للقاء التّتار.
وفيها توفّى الأمير مجاهد الدين إبراهيم بن أونبا [بن عبد الله] «2» الصّوابى نائب دمشق، وليها بعد حسام الدّين بن أبى علىّ، وكان فى أوّل أمره أمير جاندار الملك الصالح نجم «3» الدين أيّوب، وكان أميرا كبيرا عاقلا فاضلا شاعرا. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
أشبهك الغصن فى خصال ... القدّ واللّين والتثنّى
لكن [تجنّيك «4» ] ما حكاه ... الغصن يجنى وأنت تجنى
وفيها توفّى الإمام العلّامة عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن الحسن زكىّ الدين أبو محمد البغدادىّ ثم المصرىّ المعروف بابن أبى الإصبع. كان أحد الشعراء المجيدين، وهو صاحب التصانيف المفيدة فى الأدب وغيره. ومولده فى سنة خمس وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر وتوفّى بها.
ومن شعره فى نوع «التصدير» وسمّاه الأوائل «ردّ العجز على الصدر» على خلاف وقع فى ذلك:
اصبر على خلق من تصاحبه «5» ... واصحب صبورا على أذى خلقك

(7/37)


وذكر أيضا فى نوع «المدح فى معرض الذم» أبياتا يعارض بها القاضى السعيد ابن سناء الملك فى قوّاد. فقال هو فيمن ادّعى الفقه والكرم:
إنّ فلانا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه «1»
وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نصّ على التقليد فى درسه
فيحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدّخل على نفسه
وأمّا قول ابن سناء الملك فى قوّاد:
لى صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأتّى حسن الاحتيال
لو شاء من رقّة ألفاظه ... ألّف [ما «2» ] بين الهدى والضلال
يكفيك منه أنّه ربّما ... قاد إلى المهجور طيف الخيال
قلت: ويعجبنى قول من قال فى هذا المعنى- أعنى فى قوّاد-:
إذا كان الذي تهواه غصنا ... وأقسم لا يرقّ لمن يهيم «3»
فدونك والنّسيم له رسولا ... فإنّ الغصن يعطفه النسيم
وأحسن من هذا قول من قال:
لى صاحب ما زلت أشكر فعله ... قد عمّنى بلطائف الإحسان
لو لم يكن مثل النسيم لطافة ... ما كان يعطف لى غصون البان

(7/38)


وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه الواعظ المؤرّخ العلّامة شمس الدين أبو المظفّر يوسف بن قزأوغلى بن عبد الله البغدادىّ ثم الدّمشقىّ الحنفىّ سبط الحافظ أبى الفرج ابن الجوزىّ. كان والده حسام الدين قزأوغلى من مماليك الوزير «1» عون الدين يحيى ابن هبيرة، وكان عنده بمنزلة الولد، ربّاه وأعتقه وأدّبه. ومولد الشيخ شمس الدين هذا فى سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ببغداد، وبها نشأ تحت كنف جدّه لأمّه الحافظ أبى الفرج ابن الجوزىّ إلى أن مات فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، واشتغل وبرع فى عدّة علوم، ووعظ ببغداد وغيرها، وقدم دمشق واستوطنها، ونالته السعادة والوجاهة عند الملوك، لا سيّما الملك المعظّم عيسى، فإنّه كان عنده بالمنزلة العظمى؛ ورحل البلاد وسمع الحديث وجلس للوعظ فى الأقطار، وكان له لسان حلو فى الوعظ والتّذكار، ولكلامه موقع فى القلوب، وعليه قابليّة من الخاص والعام؛ وله مصنّفات مفيدة: تاريخه المسمّى «مرآة الزمان» وهو من أجلّ الكتب فى معناها. ونقلت منه فى هذا الكتاب معظم حوادثه. وكانت وفاته فى ذى الحجّة. رحمه الله تعالى.
وقد استوعبنا ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» بأوسع من هذا إذ هو كتاب تراجم وليس للإطناب فى ذكره هنا محلّ، كون أننا شرطنا فى هذا الكتاب ألّا نطنب إلّا فى تراجم ملوك مصر الذين تأليف هذا الكتاب بصددهم، وما عداهم يكون على سبيل الاختصار فى ضمن الحوادث المتعلقة بالمترجم من ملوك مصر. انتهى.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبى الفوارس بن موسك القيمرىّ واقف المارستان بجبل الصالحيّة «2» ، كان أكبر الأمراء فى آخر عمره وأعظمهم

(7/39)


مكانة، وجميع أمراء الأكراد القيمريّة «1» وغيرهم كانوا يتأدّبون ويقفون فى خدمته إلى أن مات فى شعبان، وهو أجلّ الأمراء مرتبة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العماد أبو بكر عبد الله بن أبى المجد الحسن بن الحسين الأنصارىّ ابن النحّاس الأصمّ فى المحرّم، وله اثنتان وثمانون سنة. والإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد [بن عبد الرحمن «2» ] بن وثيق الإشبيلىّ المقرئ بالإسكندريّة، وله سبع وثمانون سنة، توفّى فى شهر ربيع الآخر.
والقاضى أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد السلام بن المقدسيّة السّفاقسىّ «3» ، آخر من حضر على السّلفىّ فى جمادى الأولى. والمفتى شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسىّ. والواعظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى سبط ابن الجوزىّ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث أصابع.

(7/40)