النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من
الحوادث سنة 837]
وأقام السلطان بغزة ثلاثة أيام، ثم رحل منها يريد القاهرة، حتى وصلها
فى يوم الأحد العشرين من محرم سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، ودخل فى موكب
عظيم «1» جليل من باب النصر بأبهة الملك وشعار السلطنة، وعلى رأسه
القبة والطير، تولى حمله الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن وهو مريض،
وقد ساعده جماعة من حواشيه فى حملها. وشق السلطان القاهرة وقد زينت
لقدومه أحسن زينة، وسار حتى نزل بمدرسته التى أنشأها بخط العنبربين «2»
من القاهرة، وصلى بها ركعتين، ثم ركب منها وسار حتى خرج من باب زويلة،
وطلع إلى القلعة بعد أن خرج المقام الجمالى يوسف ولده إلى ملاقاته
بالخانقاه، وعاد معه. وكان لقدومه يوم مشهود «3» ، وسر الناس بسلامته،
وعاد السلطان إلى مصر بعد أن أتلف فى هذه السّفرة نحو الخمسمائة ألف
دينار من النقد، وتلف له من
(15/34)
السلاح والمتاع والخيل والجمال والبغال مثل
ذلك، وأنفق الأمراء بمصر والشأم والعساكر المصرية والشأمية مثل ذلك،
وتلف لأهل آمد وما حولها من الغلال والزراعات والمواشى شىء كثير «1»
إلى الغاية، وقتل أيضا خلائق، ومع هذا كله كانت سفرة كثيرة «2» الضرر
قليلة النفع.
ولم ينل أحد فى هذه السفرة غرضا من الأغراض، ولا سكنت فتنة ولا قامت
حرمة، ولا ارتدع عدو. ولهج غالب الناس بأن السلطان سعده لا يعمل إلا
وهو بقلعة الجبل «3» ، وحيثما تحرّك بنفسه بطل سعده، وعدّوا حركته مع
التركمان فى نيابته بطرابلس، ثم واقعته مع الأمير جقمق نائب الشام لما
أمسكه جقمق وحبسه، ثم سفرته [هذه] «4» إلى آمد؛ قلت: الحركات والسكون
بيد الله، والحرب سجال: يوم لك ويوم عليك، والدهر تارة وتارة، والغيب
مستّر ما هو مخبّر «5» - انتهى.
ولما طلع السلطان إلى القلعة خلع على الأمراء، وأخذ فى إصلاح أمره،
وخلع على التاج بإعادته إلى ولاية القاهرة، بعد عزل دولات خجا الظاهرى،
ثم خلع السلطان على الأمير آقبغا الجمالى المعزول عن الأستادّاريّة قبل
تاريخه، باستقراره فى ولاية الوجه القبلى، عوضا عن داؤد «6» التركمانى،
وكان السلطان أنعم على آقبغا «7» المذكور بإمرة عشرة بعد موت الأمير
تنبك من سيدى بك [13] المعروف بالبهلوان بآمد.
ثم فى يوم الثلاثاء ثانى عشر شهر ربيع [الأول] «8» من سنة سبع وثلاثين
المذكورة، رسم السلطان بإخراج الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن إلى
القدس بطّالا،
(15/35)
فاستعفى من السفر، وسأل أن يقيم بداره
بطّالا، فأجيب إلى ذلك، ولزم داره إلى ما يأتى ذكره. وأنعم السلطان
بأقطاعه على الديوان المفرد، ولم يقرر أحدا غيره فى أتابكية العساكر
بديار مصر «1» ؛ وهذا شىء لم نعهد بمثله.
وضرب رنك «2» السلطان على البيمارستان المنصورى بالقاهرة، وكانت العادة
جرت من مدة سنين، أن كل من يلى الإمرة الكبرى، يكون هو الناظر على
البيمارستان المذكور، فلما نفدت «3» هذه الوظيفة، تكلم السلطان على
نظرها، وضرب اسمه على بابها.
ثم فى يوم السبت أول شهر ربيع الآخر، خلع السلطان على دولات خجا
المعزول عن ولاية القاهرة، باستقراره فى ولاية المنوفية والقليوبية، ثم
فى يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر [المذكور] «4» ركب السلطان من قلعة
الجبل ونزل إلى الصيد، وعاد فى خامسه.
ثم فى يوم الاثنين عاشره خلع السلطان على الأمير إينال الششمانى
الناصرى، ثانى رأس نوبة، باستقراره فى نيابة صفد، بعد موت الأمير مقبل
الحسامى الدوادار، ومقبل أيضا هو أحد من اتهم «5» بالوثوب على السلطان
فى آمد. ثم فى حادى عشره خلع السلطان
(15/36)
على آقبغا الجمالى [المقدم ذكره] «1»
باستقراره كاشف الوجه البحرى عوضا عن حسن بك ابن سالم الدّوكرى، وأضيف
إليه كشف الجسور أيضا. ثم فى ثالث عشره، ركب السلطان ونزل إلى
البيمارستان المنصورى للنظر فى أحواله، فنزل به وأقام ساعة ثم ركب وعاد
إلى القلعة.
ثم فى يوم الأحد ثامن عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على حسين الكردى،
باستقراره كاشف الوجه القبلى، بعد قتل آقبغا الجمالى فى خامس عشرينه فى
حرب كان بينه وبين عرب البحيرة «2» ، وقتل معه جماعة من مماليكه ومن
العربان، ثم خلع السلطان
(15/37)
على الوزير الأستادار كريم الدين ابن كاتب
المناخ، كامليّة بفرو وسمّور [بمقلب سمّور] «1» لتوجهه إلى البحيرة،
وصحبته حسين الكردى المقدم ذكره، لعمل مصالحها واسترجاع ما نهبه أهل
البحيرة من متاع آقبغا الجمالى بعد قتله، وكتب إليهم السلطان بالعفو
عنهم، وأن آقبغا تعدى عليهم فى تحريق بيوتهم وسبى أولادهم ونحو ذلك،
قصد السلطان تطمينهم، عسى أن يؤخذوا من غير قتال ولا فتنة.
ثم أمر السلطان بعدّ من بالإسكندرية من القزّازين وهم الحيّاك، فأحصى
فى يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة [المذكورون] «2» ، فبلغت عدّتهم
ثمانمائة نول، بعد ما بلغت عدتهم فى أيام نيابة ابن محمود الأستادار فى
سنة بضع وتسعين وسبعمائة أربعة عشر ألف نول ونيفا، فانظر إلى هذا «3»
التفاوت فى هذه السنين القليلة «4» ، وذلك لظلم ولاة الأمور، وسوء «5»
سيرتهم، وعدم معرفتهم، لكونهم يطمعون «6» فى النزر اليسير بالظلم،
فيفوتهم أموال كثيرة مع العدل؛ والفرق بين العامر والخراب ظاهر.
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر رجب، أدير محمل الحاج على العادة فى كل
سنة.
ثم فى سابع عشرين [شهر] «7» رجب المذكور، قدم الأمير بربغا التنمى
الحاجب الثالث بدمشق، إلى القاهرة بسيف الأمير جارقطلو نائب الشام «8»
، وقدمات بعد مرضه خمسة وأربعين يوما، فى يوم تاسع عشرة، فعين السلطان
عوضه لنيابة دمشق، الأمير قصروه من تمراز نائب حلب، وكتب له بذلك. ثم
«9» فى يوم تاسع عشرينه، عين السلطان
(15/38)
الأمير خجا سودون السيفى بلاط الأعرج، أحد
أمراء الطبلخاناه، ورأس نوبة، أن يتوجه إلى قصروه بالتقليد والتشريف.
وفى اليوم خلع السلطان على الأمير قرقماس الشعبانى الناصرى، المعروف
أهرام ضاغ «1» ، حاجب الحجاب، باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن قصروه،
وأن يكون مسفّره الأمير شاد بك الجكمى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة.
[14] وخلع السلطان على الأمير يشبك السّودونى ثم الظاهرى ططر المعروف
بالمشدّ باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن قرقماس المذكور، وأنعم بإقطاع
قرقماس على الأمير آقبغا التمرازى أمير مجلس، وخلع عليه باستقراره أمير
سلاح، وبإقطاع آقبغا على الأمير يشبك المذكور. وخلع السلطان على الأمير
إينال الجكمى أمير سلاح، باستقراره أتابك العساكر، وكانت شاغرة من يوم
لزم سودون من عبد الرحمن بيته، واستقر عوضه فى إمرة سلاح، آقبغا
التمرازى المقدم ذكره. وخلع السلطان على الأمير جقمق العلائى الأمير
آخور باستقراره أمير مجلس، عوضا عن آقبغا التّمرازى، [المقدم ذكره] «2»
. وخلع على الأمير حسين ابن أحمد المدعو تغرى برمش باستقراره أمير
آخور، عوضا عن جقمق العلائى.
فخرج الجميع، وعليهم الخلع والتشاريف، وجلسوا على المسطبة التى يجلس
عليها مقدم المماليك عند باب السر «3» ، فى انتظار الخيول التى أخرجها
السلطان لهم، بسروج الذهب والكنابيش ما خلا تغرى برمش، فإنه فارقهم من
داخل القصر، ونزل إلى باب السلسلة تسلمه من وقته، فقعدوا «4» الجميع
على المسطبة صفّا واحدا، [و] «5» جلس فوق الجميع إينال الجكمى، ثم تحته
قرقماس نائب حلب، ثم آقبغا التمرازى، الذي استقر أمير سلاح، ثم الأمير
جقمق الذي استقر أمير مجلس، ثم الأمير يشبك المولّى حاجب الحجاب،
(15/39)
إلى أن حضرت الخيول وركبوا، ونزل «1» كل
واحد إلى داره.
فلما نزل جقمق العلائى إلى داره، عرّفه أصحابه وحواشيه أن وظيفة الأمير
آخورية كانت خيرا له «2» من وظيفة أمير مجلس، وإن كان ولا بد فيولّى
«3» أمير سلاح، فيكون ما فاته من منفوع الأمير آخورية، يتعوّضه من قيام
الحرمة بوظيفة أمير «4» سلاح.
وبلغ السلطان ذلك، فرسم فى الحال إلى آقبغا التّمرازى أن يكون أمير
مجلس على عادته، وتكون الخلعة التى لبسها خلعة الرضى «5» والاستمرار،
وأن يكون جقمق أمير سلاح؛ ونزل الأمر إلى كل منهما بذلك، فامتثلا
المرسوم [الشريف] «6» ، واستمر كل منهما على ما قرره السلطان ثانيا.
وفى اليوم المذكور رسم السلطان بإخراج الأمير سودون من عبد الرحمن إلى
ثغر دمياط، وسببه أن السلطان لما بلغه «7» موت جارقطلو، استشار بعض
خواصه فيمن يوليه نيابة الشأم، فذكروا له سودون من عبد الرحمن، وأنه
يقوم للسلطان بمبلغ كبير من ذهب فى نظير ذلك.
وكان فى ظن السلطان أن سودون من عبد الرحمن قد استرخت أعضاؤه، وتعطلت
حركته من طول تمادى المرض به، وقد أمن من جهته ما يختشيه «8» ، فقال
السلطان: سودون من عبد الرحمن تلف، ولم يبق فيه بقية لذلك، فقالوا: يا
مولانا السلطان، هو المتكلم فى ذلك.
فلم يحملهم السلطان على الصدق، وأرسل إليه فى الحال يعرض عليه نيابة
الشأم، فقبل، وقال: مهما أراد السلطان منى فعلته له؛ فلما عاد الجواب
على السلطان بذلك علم أن غالب ما به تضاعف، وأن فيه بقية لكل شىء؛ فأمر
فى الحال بإخراجه إلى ثغر دمياط.
ثم خلع السلطان على الأمير بربغا التّنمى أحد حجاب دمشق، وأعاده إلى
دمشق.
ثم فى يوم الخميس سابع شعبان من سنة سبع وثلاثين المذكورة، خلع
(15/40)
السلطان على الأمير [الكبير] «1» إينال
الجكمى باستقراره فى نظر البيمارستان المنصورى على العادة «2» ، وكانت
تولية إينال المذكور للإمرة الكبرى بغير إقطاع الأتابكية، بل باستمراره
على «3» إقطاعه القديم، غير أنه أنعم السلطان عليه بقرية حجّة ومردّة
من أعمال نابلس، وكانت من جملة إقطاع الأمير الكبير، ثم خلع عليه بنظر
البيمارستان المذكور، فهذا الذي حصل له من جهة الأتابكية؛ ولم ينله
منها إلا مجرد الاسم فقط.
وفى شهر رجب وشعبان، قرر السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية
والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه القبلى، خيولا تؤخذ من أهل النواحى،
فكان يؤخذ «4» من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوسا، عن ثمن الفرس المقرر
عليها، ويؤخذ من بعض النواحى عشرة آلاف عن ثمن فرسين، [15] ويحتاج أهل
الناحية إلى مغرم آخر لمن يتولى أخذ ذلك منهم، فنزل بسبب ذلك على
فلّاحى القرى «5» بلاء «6» الله المنزل. وأحصى كتّاب ديوان الجيش قرى
أرض «7» مصر العامرة كلها قبليها وبحريها «8» ، فكانت ألفين ومائة
وسبعين قرية، وقد ذكر المسبّحىّ «9» فى تاريخه: أنها كانت فى القرن
الرابع: عشرة آلاف قرية عامرة، فانظر إلى تفاوت ما بين الزمنين، مع أمن
هذا الزمان وكثرة فتن ذلك «10» الزمان، غير أن السبب معروف والسكات
أجمل.
ثم فى يوم الخميس رابع عشر شعبان، برز قرقماس نائب حلب إلى محل كفالته
وعليه جمل كبيرة من الديوان؛ ثم فى تاسع عشر شعبان ختن السلطان ولده
المقام الجمالىّ يوسف،
(15/41)
وختن معه نحو الأربعين صبيا، بعد ما كساهم
وعمل لذلك مهمّا هائلا «1» للرجال بالحوش السلطانى، وللنساء «2» بالدور
بالقلعة «3» .
ثم فى يوم السبت ثالث عشرينه، فقد [الوزير] «4» كريم الدين ابن كاتب
المناخ، بعد أن كان استعفى غير مرة من إحدى الوظيفتين: إما الوزارة «5»
[أ] و «6» الأستادّاريّة، فلم يعفه السلطان، فلما تسحّب فى هذا اليوم،
طلب السلطان [أمين الدين] «7» إبراهيم ابن الهيصم، ناظر الدولة، وخلع
عليه باستقراره وزيرا عوضا عن الصاحب كريم الدين المذكور.
ثم فى يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان المذكور، ظهر الصاحب كريم الدين
المذكور «8» ، وطلع إلى القلعة، فخلع عليه السلطان سلّاريا «9» من
قماشه. ثم طلع [كريم الدين] من الغد، فخلع عليه [السلطان] ثانيا خلعة
جليلة «10» ، باستمراره على وظيفة الأستادّارية؛ ونزل إلى داره فى موكب
جليل، وقد سرّ به غالب أعيان الدولة، فإن السلطان، كان ألزم زين الدين
عبد الباسط بوظيفة الأستادّارية، فقال له: «يا مولانا
(15/42)
السلطان، ما يليق بى هذه الوظيفة» ، فقال:
«يليها دوادارك جانبك» ، فتبرم أيضا من ذلك، فخاشنه السلطان فى الكلام
وأهانه، فأوعد بحمل مبلغ كبير من المال مساعدة للأستادّار، ثم حسّن
للسلطان فى الباطن ولاية القاضى سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص،
أستادارا، وكلمه السلطان فى ذلك، فأبى سعد الدين إبراهيم أيضا، وأخذ
يستعفى؛ وبينماهم فى ذلك، ظهر كريم الدين، فتنفّس «1» خناق عبد الباسط
وغيره بظهور كريم الدين واستمراره على وظيفته.
وقدم الخبر فى هذا الشهر من مكة [المشرّفة] «2» ، بأن الوباء «3» ، قد
اشتد بها وبأوديتها، حتى بلغ عدة من يموت بمكة «4» ، فى اليوم خمسين
نفسا، ما بين رجل وامرأة.
وفى شهر رمضان المذكور تحرك عزم السلطان على السفر إلى جهة آمد، لقتال
قرايلك، وكتب إلى بلاد الشأم بتعبئة الإقامات من الشعير وغيره على
العادة، وكان سبب حركة السلطان لذلك، لما ورد عليه الخبر فى يوم ثامن
عشره، أن الأمير إينال العلائى نائب الرها، كان بينه وبين أعوان قرايلك
وقعة هائلة «5» . وسببه أن بعض عساكر حلب أو عساكر الرّها خرج يسيّر
فرسه، فلما كان بين بساتين الرها، صادف طائفة «6» من التركمان، فقاتلهم
وهزمهم؛ وبلغ [ذلك] «7» الأمير إينال، فخرج مسرعا من مدينة الرها، نجدة
لمن تقدم ذكره، فخرجت عليه ثلاثة «8» كمائن «9» من القرايلكية،
فقاتلهم، فكانت بينهم وقعة هائلة، قتل فيها من الفريقين عدة.
(15/43)
فلما بلغ السلطان ذلك، شق عليه، وعزم على
السفر؛ ثم كتب السلطان إلى سائر البلاد الشامية، بخروج نواب الممالك
«1» للحاق «2» الأمير قرقماس «3» نائب حلب بالرّها؛ ثم بطل ذلك، وكتب
بمنعهم من المسير، حتى يصح عندهم نزول قرايلك على الرها بعساكره وجموعه
«4» ، فإذا صح لهم ذلك، ساروا لقتاله.
وفى يوم الثلاثاء ثالث «5» عشرين شوال، كتب السلطان باستقرار خليل بن
شاهين الشّيخى، ناظر الإسكندرية وحاجبها، فى نيابة الإسكندرية، مضافا
على النظر والحجوبية، عوضا عن الأمير جانبك «6» [السيفى يلبغا] «7»
الناصرى [فرج] «8» [المعروف] «9» بالثور «10» .
وفى شوال هذا، قدم على السلطان الخبر من بغداد، على يد قاصد كان
السلطان وجّهه قبل ذلك لكشف أخبار الشرق، وأخبر: أن أصبهان بن قرا يوسف
«11» ، لما
(15/44)
ملك بغداد من أخيه شاه محمد بن قرا يوسف،
أساء «1» السيرة، بحيث [16] أنه أخرج جميع أهل بغداد منها بعيالهم، بعد
أن أخذ جميع أموالهم، من جليل وحقير فتشتتوا بنسائهم «2» وأولادهم فى
نواحى الأقطار، وصارت بغداد ليس بها سوى نحو ألف رجل من جند أصبهان
المذكور لا غير، وأنه لم يبق بها سوى ثلاثة أفران تخبز الخبز «3» فقط،
ولم يبق بها سكان، ولا بيعة، ولا أسواق. فكان فعل أصبهان هذا أقبح من
فعل أخيه شاه محمد، فإن شاه محمد لما تنصّر ومال إلى دين النصرانية،
قتل العلماء وأباد الفقهاء والصلحاء لا غير، وترك من دونهم. فجاء هذا
الزنديق الفاسق، تجاوز «4» فعل شاه محمد من أنه أخرج جميع أهل بغداد؛
وكان غرض أصبهان بذلك أن يخرب بغداد، حتى لا يبقى لأخيه إسكندر ولا
غيره طمع فيها، فمد يده فى ذلك، حتى صارت بغداد خرابا يبابا لا يأويها
إلا البوم- انتهى.
قال: وإنه أخرب أيضا الموصل، حتى صارت مثل بغداد وأعظم، من أنه سلب نعم
أهلها وأمر بهم فأخرجوا منها وتمزقوا فى البلاد، واستولت عليها
العربان، فصارت الموصل منزلة من منازل العرب، بعد أن كانت تضاهى دار
السلام.
قال- أعنى القاصد: وأن أصبهان أيضا أخذ أموال أهل المشهد «5» ، وأزال
نعمهم وتشتتوا فى البلاد.
قلت: لا أعلم فى طوائف التركمان ولا فى أوباش عساكر جغتاى «6» ، ولا فى
(15/45)
جهّال التّتار، أوحش سريرة، ولا أقبح طريقة
ولا أسوأ سيرة، ولا أضعف دينا «1» ولا أعدم مروءة، ولا أقل نخوة ولا
أبشع خبرا «2» من هؤلاء الزنادقة الكفرة الفسقة، أولاد قرا يوسف، وعندى
أن النصارى أمثل من هؤلاء، فإنهم متمسكون بدين على زعمهم «3» ، وهؤلاء
زنادقة لا يتدينون بدين، كفرة ملحدون «4» .
حدّثنى الأمير على باى المؤيدى العجمى رحمه الله- بعد عوده من عند
أصبهان المذكور، لما أرسله [السلطان الملك] «5» الظاهر جقمق، فى
الرّسليّة إليه- بأشياء:
منها أنه كان يمد السماط بين يديه فى بكرة أيام شهر «6» رمضان، وأنه
سأل على باى فى الأكل معه من جملة عساكره، فامتنع، فقال له: « [أمير
علىّ باى] «7» ، بتتعب نفسك سخرة. بنى آدم، هو مثاله «8» مثال الزرع:
يطلع ويكبر، ثم يحصد ويزول إلى الأبد، وما ثم شىء غير ذلك، فخلّ عنك ما
أنت فيه، وكل واشرب» .
قال: ثم سألت عن أصبهان من بعض خواصّه، عن أحواله، فكان من جملة ما
قاله:
أنه لم يتعبد على ملة من الملل منذ بلغ الحلم، إلى يومنا، بخلاف أخيه
شاه محمد، فإنه كان أولا أيام أبيه قرا يوسف، يصوم ويصلى ويظهر الإسلام
«9» والتنسك إلى أن مات أبوه [ف] «10» أظهر الميل إلى دين النصرانية،
وصار يتعبد على ملتهم.
(15/46)
فهذا الخبر عن شاه محمد وأصبهان، وأضف
إليهما إسكندر أيضا، فإنه كان أيضا من هذه المقولة فى الباطن، ثم من
بعدهم «1» أخوهم «2» جهان شاه بن قرا يوسف ملك تبريز فى زماننا هذا،
فإنه أيضا على طريقهم من الفسق والفجور والانهماك فى المسكرات، وجميع
أفعاله فى الباطن تقارب أفعال إخوته، غير أنه يظهر خلاف ذلك، لئلا ينفر
الناس عنه وتسوء القالة «3» فيه؛ وقد استوعبنا أحوال هؤلاء الفسقة فى
تاريخنا «المنهل الصافى [والمستوفى بعد الوافى] » «4» بأوسع من هذا،
فلينظر هناك «5» .
ثم فى يوم الأربعاء أول ذى القعدة، توجه الأمير جقمق العلائى أمير
سلاح، إلى مكة المشرفة حاجّا، وسار معه كثير ممن قدم من المغاربة
وغيرهم، وبسط يده بالإحسان إليهم ذهابا وإيابا.
قال المقريزى: وفى هذه السنة، يعنى عن سنة سبع وثلاثين، طلّق رجل من
بنى مهدىّ من أرض البلقاء امرأة وهى حامل، فنكحها رجل غيره، ثم فارقها
فنكحها رجل ثالث، فولدت عنده ضفدعا فى قدر الطفل، فأخذوه ودفنوه خوف
العار.
[ما وقع من الحوادث سنة 838]
ثم فى يوم الاثنين ثالث محرم سنة ثمان وثلاثين «6» وثمانمائة، قدم قاصد
قرايلك صاحب آمد، بكتاب قرايلك ومعه تسعة أكاديش «7» ، تقدمة للسلطان،
ودراهم قليلة عليها اسم السلطان «8» لا غير، فلم يحسن ذلك ببال أحد.
(15/47)
ثم فى يوم الاثنين حادى عشر المحرم [سنة
ثمان وثلاثين المذكورة] «1» ، أمسك السلطان الأمير بردبك الإسماعيلى،
أحد أمراء الطبلخانات، وحاجب ثانى، وأخرجه إلى دمياط، وأنعم بإقطاعه
على الأمير تغرى بردى البكلمشى المعروف بالمؤذى، أحد رؤوس النوب، وخلع
على الأمير جانبك السيفى [17] يلبغا الناصرى المعروف بالثور، المعزول
قبل تاريخه عن نيابة الإسكندرية، باستقراره حاجبا ثانيا عوضا عن بردبك
الإسماعيلى المقدم ذكره.
وفى هذا الشهر أيضا خلع السلطان على دولات خجا وأعيد إلى ولاية القاهرة
عوضا عن التاج بن سيفة الشوبكى.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرين المحرم، عملت الخدمة السلطانية بالإيوان
المسمى دار العدل «2» من قلعة الجبل، بعد ما هجرت مدة، لقدوم رسول
القان معين الدين شاه رخ «3» بن تيمور ملك الشرق، وأحضر الرسول المذكور
إلى الموكب بدار العدل
(15/48)
وقد هاله ما رآه من حسن زى هذا الموكب،
وكان الرسول المذكور من أشراف شيراز يقال له السيد تاج الدين [علىّ،
فحضر] «1» تاج الدين المذكور إلى بين يدى السلطان، ولم يقبّل الأرض
لكونه من السادة الأشراف.
ودفع ما على يده «2» من الكتاب، ثم قدّم ما معه من الهدية، فتضمن كتابه
وصوله هديّة السلطان المجهزة إليه، وأنه نذر أن يكسو الكعبة [البيت
الحرام] «3» ، وطلب أن يبعث إليه من يتسلمها ويعلقها من داخل البيت.
وتاريخ الكتاب، فى ذى الحجة سنة ست وثلاثين، وكان قدوم القاصد من هراة
إلى هرمز ومن هرمز إلى مكة، ثم قدم صحبة [ركب] «4» الحاج، فأنزله
السلطان [بمكان] «5» ، وأجرى عليه ما يليق به من الرواتب، واشتملت هدية
شاه رخ [المذكور] «6» على ثمانين ثوب حرير «7» أطلس، وألف قطعة فيروزج،
ليست بذاك، مبلغ «8» قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار لا غير.
ثم فى يوم السبت سادس صفر، عقد السلطان مجلسا «9» بين يديه، بالقضاة
الأربعة «10» ، بسبب نذر شاه رخ بن تيمور أن يكسو الكعبة؛ فلما جلسوا
للكلام، بعد أن سألهم السلطان فى معنى ذلك، أجاب قاضى القضاة بدر الدين
محمود العينى الحنفى، بأن نذره لا ينعقد، فلم يتكلم أحد، وانفض المجلس
على ذلك، وصار السلطان يقول:
(النجوم الزاهرة ج 15)
(15/49)
للعينى «1» مندوحة فى منع شاه رخ من
الكسوة.
ثم عيّن السلطان الأمير أقطوه الموساوى المهمندار «2» أحد أمراء
العشرات «3» ، [الظاهرى برقوق] «4» للتوجه «5» إلى «6» شاه رخ بردّ «7»
الجواب، صحبة قاصده «8» الشريف تاج الدين «9» - انتهى.
ثم فى يوم الاثنين خامس عشر «10» [المذكور] «11» ، ثارت مماليك السلطان
الأجلاب «12» ، سكّان الطّباق بقلعة الجبل، وطلبوا القبض على مباشرى
الدولة، بسبب تأخر جوامكهم، ففر المباشرون منهم، ونزلوا إلى بيوتهم،
فنزل فى أثرهم جمع كبير منهم، ومضوا إلى بيت عبد الباسط ناظر الجيش
ونهبوه، وأخذوا ما قدروا عليه.
ثم خرجوا وقصدوا بيت الوزير [أمين الدين] «13» بن الهيصم، وبيت
الأستادّار كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونهبوهما أيضا، ولم يقدروا على
قبض أحد من هؤلاء الثلاثة لفرارهم منهم، وغلقت الأسواق وخاف كل أحد
[على] «14» بيته.
هذا وقد صمم المماليك على الفتك بعبد الباسط، والعجب أن السلطان لم
يغضب لعبد الباسط بل انحرف عليه، وأمر بنفيه إلى الإسكندرية لكسر الشر،
ولم يقع منه فى حق مماليكه المذكورين أمر من الأمور، إما لمحبته فيهم،
أو لبغضه فى عبد الباسط، ولزم
(15/50)
عبد الباسط داره؛ وتردد الناس للسلام عليه،
والسلطان مصمم على سفره إلى [ثغر] «1» الإسكندرية.
وأصبح الناس يوم الثلاثاء سادس عشره، وإذا بهجّة عظيمة، فغلقت جميع
شوارع المدينة لإشاعة كاذبة بأن المماليك [قد] «2» نزلوا ثانيا لنهب
بيت عبد الباسط، فاضطرب الناس، وهرب عبد الباسط من داره، وانزعج إلى
الغاية، فكان هذا اليوم أعظم وأشنع من يوم النهب. ثم ظهر للناس أن
المماليك لم يتحركوا ولا نزل أحد منهم، وأما عبد الباسط، فإنه لا زال
يسعى ويتكلم له خواص السلطان فى عدم خروجه إلى الإسكندرية حتى تم له
ذلك، وطلع إلى القلعة فى يوم سابع عشره، بعد أن التزم عبد الباسط بأن
يقوم للوزير من ماله بخمسمائة «3» ألف درهم مصرية تقوية له، وأن
السلطان يساعد أستاداره كريم الدين بعليق المماليك شهرا «4» ، هذا بعد
أن قدم عبد الباسط للأشرف تقدمة من المال فى خفية من الناس لإقامة
حرمته، ولم يخف ذلك عن «5» أحد، وأخذ أمر عبد الباسط فى انحطاط، وصار
السلطان يهدده إن لم يل الأستادارية هو [18] أو مملوكه جانبك، وهو
يتبرم من ذلك كله.
ثم استعفى الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم من الوزارة «6» ، فعين
السلطان شمس الدين بن سعد الدين بن قطارة القبطى لنظر الدولة، وألزمه
بتكفية يومه. ورسم السلطان بطلب أرغون شاه النّوروزى من دمشق، وهو
يومذاك أستادار السلطان بها «7» ، ليستقر فى الوزارة، عوضا عن ابن
الهيصم على عادته قديما، بعد ما عرض السلطان الوزارة على الأستادار
كريم الدين ابن كاتب المناخ، فأبى كريم الدين قبول ذلك، وقال:
يا مولانا السلطان، يختار السلطان إما أكون وزيرا أو أستادّارا، وأما
جمعهما «8» معا
(15/51)
فلا أقدر على ذلك. فغضب السلطان عليه وهم
بضربه ومسكه، فضمنه القاضى سعد الدين ابن كاتب جكم، ناظر الخاص، ونزل
الجميع إلى دورهم، إلى أن عملت مصالح الجماعة.
فلما كان يوم السبت عشرين صفر خلع السلطان على أستاداره الصاحب كريم
الدين باستمراره، وخلع على الصاحب أمين الدين بن الهيصم باستقراره فى
نظر الدولة على عادته قديما كما كان قبل الوزارة، وألزمه بتكفية الدولة
إلى حين قدوم أرغون «1» شاه من الشام، وانفض الموكب. فلما نزل الصاحب
أمين الدين بالخلعة إلى داره، اختفى فى ليلة الاثنين ولم يعلم له خبر،
فأصبح السلطان فى يوم الاثنين ثانى عشرينه، أمسك الصاحب كريم الدين
الأستادار، وخلع فى الحال على جانبك دوادار عبد الباسط باستقراره
أستادارا عوضا عن الصاحب كريم الدين [بن كاتب المناخ] ، «2» فلبس جانبك
الخلعة، ولم يقدر عبد الباسط أن يتكلم فى حقه كلمة واحدة، وكان قصد
الملك] «3» الأشرف، أنه متى تكلم أو «4» تمنع عبد الباسط من ذلك، قبض
عليه، فأحسّ عبد الباسط بالشر، فكف عن الكلام، ثم ألزم السلطان القاضى
سعد الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخواص بوظيفة الوزارة، فلم يوافق
على ذلك، وانفض المجلس على ذلك.
وفى هذا اليوم خرج قاصد شاه رخ، الشريف تاج الدين، من الديار المصرية
إلى جهة مرسله، وصحبته الأمير أقطوه الموساوى، وعلى يده هدية من
السلطان إلى شاه رخ [المذكور] «5» ، وكتاب جواب [كتابه] «6» يتضمن منعه
من كسوة الكعبة، بأن العادة [قد] «7» جرت قديما وحديثا، أن لا يكسو
الكعبة إلا ملوك مصر، والعادة قد اعتبرت فى الشرع فى مواضع، وأن للكسوة
أوقافا «8» تقوم بعملها، لا يحتاج إلى مساعدة فى ذلك؛ وإن أراد الملك
وفاء نذره، فليبع الكسوة ويتصدق بثمنها «9» فى
(15/52)
فقراء مكة، فهو أكثر ثوابا «1» ، حيث يتعدى
نفع ذلك إلى جماعة كبيرة، وأشياء من هذه المقولة.
ثم فى يوم الخميس خامس عشرينه، بعد انقضاء الموكب من القصر، و «2» توجه
السلطان إلى الحوش على العادة، غضب على القاضى سعد الدين إبراهيم «3»
ناظر الخواص، بسبب تمنّعه من ولاية الوزارة، وأمر به فضرب [بين يديه]
«4» ضربا مبرحا، ثم أقيم، ونزل إلى داره. ثم طلب السلطان [الصاحب] «5»
كريم الدين ابن كاتب المناخ من محبسه بالقلعة، وأمر به، فعرّى من
ثيابه، وضربه بالمقارع زيادة على مائة شيب «6» ، ثم ضربه على أكتافه
بالعصى ضربا مبرحا، وعصرت رجلاه بالمعاصير «7» ، ثم أعيد إلى محبسه
يومه؛ وأنزل من الغد فى يوم الجمعة على بغل «8» فى أسوإ حال، ومضى به
إلى بيت التاج «9» والى القاهرة كان «10» ، وهو يومذاك شادّ الدواوين،
ليورد ما ألزم به، بعد أن حوسب، فوقف عليه خمسة وخمسون ألف دينار ذهبا،
صولح عنها بعشرين ألف دينار، [فنزل إلى بيت التاج وأخذ فى بيع موجوده
وإيراد المال المقرر عليه، إلى أن
(15/53)
أفرج عنه فى ثامن عشر ربيع الأول، بعد ما
حمّل نحو العشرين ألف دينار، وضمنه فيما بقى أعيان الدولة.] «1»
ثم فى يوم الثلاثاء أول شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وثلاثين المذكورة،
خلع السلطان على القاضى سعد الدين ناظر الخواص، خلعة الرضى والاستمرار
على وظيفته نظر الخواص، وخلع على أخيه القاضى جمال الدين يوسف ابن
القاضى كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب جكم باستقراره وزيرا، على كره
منه، بعد تمنع زائد؛ وكان منذ تغيب ابن الهيصم، [لا يلى الوزارة أحد]
«2» ، والقاضى سعد الدين ناظر الخاص يباشرها، ويسدد أمورها من غير لبس
تشريف، فغرم فيها جملة كبيرة، لعجز جهاتها عن مصارفها، والقاضى جمال
الدين يوسف [المذكور] «3» ، هو يوسف «4» عظيم الدولة فى زماننا هذا،
وناظر جيشها وخاصّها كان «5» ، رحمه الله تعالى. «6» وهى أول ولاياته
«7» للمناصب الجليلة على ما يأتى ذكر ولاياته «8» لغيرها مفصلا، فى هذا
الكتاب وغيره.
وخلع [19] السلطان على شمس الدين بن قطارة باستقراره ناظر الدولة، فكان
الوزير وناظر الدولة فى طرفى نقيض، فالوزير فى الغاية من حسن الشكالة
والزى البهيج، وسنه دون العشرين سنة، وناظر الدولة فى الغاية من قبح
الشكالة والزى الردىء وسنه نحو السبعين «9» سنة- انتهى.
ثم فى يوم الأحد رابع شهر ربيع الآخر، قدم الأمير أرغون شاه النوروزى
الأعور، أستادّار السلطان بدمشق إلى مصر بطلب حسبما تقدم ذكره، ليلى
الوزارة. وطلع
(15/54)
إلى القلعة من الغد بتقادم جليلة، وخلع
عليه باستمراره على أستادّارية السلطان بدمشق، على عادته. وفى هذا
الشهر تكرر ركوب السلطان إلى الصيد غير مرة.
ثم فى جمادى الأولى وقع الشروع فى حركة السلطان إلى السفر، لقتال
قرايلك والفحص أيضا عن جانبك الصّوفى. وفى خامس عشره خلع على دولات خجا
«1» والى القاهرة باستقراره فى ولاية منفلوط، وشغرت الولاية إلى يوم
الأحد سابع عشره، فاستقر «2» فيها علاء الدين على بن الطّبلاوى.
ثم فى يوم السبت أولى جمادى الآخرة، خلع السلطان على الصاحب كريم الدين
عبد الكريم ابن كاتب المناخ باستقراره كاشف «3» الوجه القبلى، ورسم
السلطان أن يستقر محمد الصغير المعزول عن الكشف قبل تاريخه دوادار
الصاحب كريم الدين، وأمير علىّ الذي كان كاشفا بالوجه القبلى والوجه
البحرى رأس نوبته، ونزل إلى داره من القلعة فى موكب جليل، كل ذلك
والصاحب «4» كريم الدين لم يغيّر «5» زيّه من لبس الكتبة، ولم يلبس
الكلفتاه «6» ، ولا تقلد بسيف.
وكان الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم قد خرج من اختفائه، وطلع إلى
السلطان بشفاعة الأمير إينال الأبوبكرى الأشرفى الخازندار، فطلبه
السلطان فى هذا اليوم وخلع عليه باستقراره شريكا لعبد العظيم بن صدقة
الأسلمى فى نظر ديوان المفرد.
ثم فى يوم الأحد سادس [عشر] «7» جمادى الآخرة [المذكورة] «8» أمسك
السلطان القاضى سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص، وأخاه الصاحب جمال الدين
يوسف،
(15/55)
ورسم عليهما، ثم أفرج عنهما من الغد، وخلع
على سعد الدين المذكور باستمراره، وأعفى الصاحب جمال الدين من الوزارة،
بعد أن ألزمهما بحمل ثلاثين ألف دينار.
وألزم السلطان تاج الدين عبد الوهاب بن الشمس نصر الله الخطير ابن
الوجيه توما ناظر الإسطبل بولاية الوزارة، وخلع عليه من الغد فى يوم
الثلاثاء ثامن عشره، فباشر ابن الخطير هذه الوزارة أقبح مباشرة من
العجز والتشكى والقلق وعدم القيام بالكلف السلطانية، مع قيام السلطان
معه وإقامة حرمته، وهو مع ذلك «1» لا يزداد فى أعين الناس إلا بهدلة.
وظهر منه فى أيام مباشرته الوزارة حدة زائدة، وطيش وخفة، بحيث أنه جلس
مرة للمباشرة، فكثر الناس عنده لقضاء «2» حوائجهم فضاق خلقه منهم، فقام
إلى باب الدخول، وضم جميع سراميج «3» الناس الذين «4» كانوا فى مجلسه
فى ذيله، وخرج حافيا إلى خارج داره وألقاهم إلى الأرض، ودخل بسرعة «5»
والناس «6» تنظر إليه «7» ، وقال: اخرجوا إلى سراميجكم لا يأخذوها فقال
له بعضهم: تعيش رأس مولانا الصاحب. وسخر الناس من ذلك مدة طويلة، وهو
إلى الآن فى قيد الحياة، يتشحط «8» فى أذيال الخمول- انتهى.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع عشر جمادى الآخرة [المذكورة] «9» ، أنعم
السلطان على تمراز المؤيدى الخازندار بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، بعد
موت الأمير أركماس الجلبانى، وأنعم بطبلخانة تمراز المذكور على الأمير
سنقر العزى الناصرى نائب
(15/56)
حمص، بعد «1» عزله عن نيابة حمص بالأمير
طغرق أحد أمراء دمشق.
ثم فى يوم الأحد ثالث عشرينه خرجت تجريدة من القاهرة إلى البحيرة «2» ،
ومقدم العساكر الأمير الكبير إينال الجكمى، والأمير جقمق أمير سلاح،
والأمير يشبك حاجب الحجاب، والأمير قانى باى الحمزاوى، فى عدة من
الأمراء، وسبب ذلك أن لبيدا «3» قدم منها «4» طائفة إلى السلطان بهدية،
وسألوا أن ينزلوا البحيرة، فلم يجابوا إلى ذلك، ولكن خلع عليهم
وتوجهوا، فعارضهم أهل البحيرة فى طريقهم، وأخذوا منهم خلعهم. [20] وكان
السلطان يلهج كثيرا بإخراج تجريدة إلى البحيرة، فبلغهم ذلك فأخذوا
حذرهم «5» . واتفق مع ذلك أن شتاء «6» هذه السنة لم يقع فيه المطر «7»
المعتاد بأراضى مصر، فقدمت طائفة من لبيد إلى البحيرة لمحل بلادهم،
وصالحوا أهل البحيرة، وساروا إلى محارب وغيرها بالوجه القبلى لرعى
الكشيح من أراضى البور من أعمال الصعيد، وكان السلطان قد كتب إلى كاشف
الصعيد، بأن لا يمكنهم من المراعى حتى يأخذ منهم مالا، فغضبوا من ذلك
وأظهروا الخلاف، فخرجت إليهم هذه التجريدة المقدم ذكرها.
وفى هذا الشهر ندب السلطان قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر أن يكشف عن
شروط واقفى المدارس والخوانك «8» ، ويعمل بها، فسرّ الناس بذلك غاية
السرور،
(15/57)
وكثر الدعاء للسلطان بسبب ذلك، فبدأ أو لا
بمدرسة الأمير صرغتمش «1» بخط الصليبة، وقرأ كتاب وقفها، وقد حضر معه
القضاة الثلاثة، فأجمل ابن حجر فى الأمر فلم يعجب الناس ذلك، لاستيلاء
المباشرين «2» على الأوقاف، والتصرف فيها بعدم شرط الواقف، وضياع
مصالحها، فشدّ فى ذلك وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها، فروجع فى ذلك،
وانفض المجلس، وقد اجتهد الأكلة فى السعى بإبطال ذلك، حتى أبطله
السلطان.
قلت: ولو ندب السلطان لهذا الأمر أحد فقهاء الأمراء والأجناد الذين هم
أهل الدين والصلاح، لينظر فى ذلك بالمعروف، لكانت هذه الفعلة تقاوم
فتحه لقبرس، لضياع مصالح أوقاف الجوامع والمساجد بالديار المصرية
والبلاد الشأمية، لاستيلاء الطّمعة عليها، وتقرير من لا يستحق فى كثير
من وظائفها، بغير شرط الواقف، ومنع من يستحق العطاء بشرط الواقف، ولهذا
قررت الملوك السالفة وظيفة نظر الأوقاف لهذا المعنى وغيره، فترك ذلك،
وصار الذي بلى نظر الأوقاف شريكا «3» لمن تقدم ذكره، فيما يتناولونه من
ريع «4» الأوقاف، والكلام فيما يعود نفعه عليه من جهة حل وقف وبيعه أو
لواحد
(15/58)
استولى على جهة وقف، وأكله بتمامه، فيبعث
خلفه ويبلصه «1» فى شىء له ولأعوانه، ويترك الذي قرّرت هذه الوظيفة
بسببه، من قديم الزمان، وهو ما تقدم ذكره، من النظر فى أمر الأوقاف
والعمل بمصالحها «2» فيما يعود نفعه على الوقف وعلى أرباب وظائفه من
الفقهاء والفقراء والأيتام وغير ذلك؛ فلا قوة إلا بالله.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب، أدير المحمل على العادة فى كل سنة.
ثم فى يوم الأربعاء خامس عشر شعبان، وصل سيف الأمير طرباى نائب طرابلس،
فرسم السلطان بنقل الأمير جلبان، نائب حماه، إلى نيابة طرابلس، عوضا عن
طرباى، وأصبح من الغد فى يوم الخميس سادس عشر شعبان، خلع السلطان على
الأمير قانى باى الحمزاوى أحد مقدمى الألوف باستقراره فى نيابة حماه،
وأنعم بإقطاع قانى باى الحمزاوى وتقدمته، على الأمير خجا سودون السّيفى
بلاط الأعرج، وأضاف طبلخانة خجاسودون المذكور إلى الدولة، تقوية للوزير
التاج الخطير.
وفى هذا الشهر خرج الأمير قرقماس الشعبانى نائب حلب منها بالعساكر،
ونزل العمق «3» ، على ما سنحكيه بعد عوده إلى حلب مفصلا «4» .
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شوال قدم على السلطان كتاب القان شاه رخ ملك
الشرق، يتضمن الوعيد، وأنه عازم على زيارة القدس الشريف، وأرعد فى
كتابه وأبرق، وأنكر على السلطان أخذ الرشوة من القضاة، وأخذ المكوس من
التجار ببندرجدة، وتعاطيه نوع المتجر، فلم يلتفت السلطان إلى كلامه ولا
استوعب الكتاب لآخره، بل طلب التاج ابن سيفة وخلع عليه بإعادته إلى
ولاية القاهرة، عوضا عن علاء الدين علىّ بن الطبلاوى بحكم عزله ولزومه
داره، بعد ما غرم جملة مستكثرة، فكان حاله كقول القائل: [الرمل]
(15/59)
ركب الأهوال فى زورته ... ثم ما سلّم حتى
ودّعا
ثم فى ثامن عشره، خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الأمير تمر باى
التّمر بغاوى الدوادار الثانى، وأمير الركب الأول، الأمير صلاح الدين
محمد بن نصر الله محتسب «1» القاهرة. وحجت فى هذه السنة خوند «2» فاطمه
بنت [الملك] «3» الظاهر [21] ططر، زوجة السلطان [الملك] «4»
وفى هذا الشهر ظهر الأمير جانبك الصوفى ببلاد الروم، وكان السلطان- من
يوم فر من سجن الإسكندرية إلى يومنا هذا- لم يقف له على خبر، بعد أن
اجتهد فى تحصيله غاية الاجتهاد، وأودى بسببه خلائق لا تدخل تحت حصر،
فأخذ السلطان فى خبره وأعطى، إلى أن قدم عليه فى أواخر هذا الشهر كتاب
الأمير قرقماس نائب حلب بذلك، وكان معرفة خبر «5» قرقماس بظهوره، أنه
وصل معه إلى حلب فى يوم الثلاثاء
(15/60)
حادى عشر شوال، رجل تركمانى يقال له محمد،
كان قبض عليه قرقماس بالعمق «1» ، ومعه كتاب جانبك المذكور، فى سابع
شوال، إليه وإلى غيره، فسجنه قرقماس بقلعة حلب، وجهز الكتاب فى ضمن
كتابه إلى السلطان، فلما بلغ السلطان ذلك وتحققه، انزعج غاية «2»
الانزعاج.
ثم قدم كتاب الأمير بلبان نائب درندة «3» أنه ورد عليه كتاب الأمير
جانبك الصّوفى يدعوه إلى طاعته، فقبض على قاصده وحبسه، وأرسل بكتابه
إلى السلطان.
ثم فى يوم السبت سابع عشرين ذى القعدة، عاد الأمير قرقماس نائب حلب
إليها، بعد ما كانت غيبته عنها بالعمق ومرج دابق وعينتاب خمسة وسبعين
يوما، وقد فاته أخذ قيصريّة لاستيلاء إبراهيم بن قرمان عليها، وكان قصد
السلطان أخذها، واستنابة أحد من أمراء السلطان بها.
قلت: ولنذكر ما وعدنا بذكره لسبب سفر قرقماس نائب حلب منها، وسببه أن
الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان صاحب لارندة وقونية من بلاد الروم
«4» ، أراد أخذ مدينة قيصرية من الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، وقد
تغلب عليها ناصر الدين المذكور، وأخذها من بنى قرمان وولى عليها ابنه
سليمان، فترامى ابن قرمان فى هذه الأيام على السلطان بأن يملّكه
قيصرية، ووعد بعشرة آلاف دينار فى كل سنة، وثلاثين «5» بختيّا «6»
وثلاثين «7» فرسا، سوى خدمة أركان الدولة، فكتب السلطان إلى نائب حلب
أن يخرج إلى العمق ويجمع العساكر لأخذ قيصريّة،
(15/61)
فخرج قرقماس إلى العمق، وجمع تركمان الطاعة
وكتب إلى ابن قرمان: أن يسير بعسكره إلى قيصرية.
فلما بلغ ابن دلغادر خروج عسكر حلب لأخذ قيصرية منه، بعث فى الحال
بامرأته خديجة خاتون بتقدمة للسلطان ومعها مفاتيح قيصرية، وأن يكون
زوجها المذكور نائب السلطنة بها، وأن يفرج عن ولدها فياض المقبوض عليه
قبل تاريخه من سجنه بقلعة الجبل، ووعد لذلك أيضا بمال. فقدمت خديجة
خاتون المذكورة فى أواخر شوال إلى مصر، وقدّمت ما معها من الهدية،
وتكلمت بما هو غرض زوجها، فقبل «1» هديتها وأفرج [لها] «2» عن ولدها
فياض، وخلع عليه بنيابة مرعش.
وبينما السلطان فى ذلك، كان نزول قرقماس نائب حلب فى يوم الاثنين أول
ذى القعدة، من العساكر على عينتاب، فأتاه الخبر: بأن حمزة بن دلغادر
«3» خرج عن طاعة السلطان بمن معه وتوجه إلى ابن عمه سليمان بن ناصر
الدين بك ابن دلغادر، بعد ما بعث إليه وحلّفه، وأن دوادار جانبك
الصّوفى ومحمد بن كندغدى بن رمضان التركمانى وصلا إلى الأمير ناصر
الدين محمد بن دلغادر، بأبلستين وحلّفاه، أنه إذا قدم عليه الأمير
جانبك الصوفى لا يسلمه إلى أحد ولا يخذله، وأن جانبك كان عند الأمير
إسفنديار «4» أحد ملوك الروم، فسار من عنده يريد سليمان بن دلغادر؛
فخرج إليه سليمان، وتلقاه «5» هو وأمراء التركمان.
وقبل أن يصل هذا الخبر إلى السلطان، جهز خديجة خاتون إلى العود إلى
زوجها ناصر الدين بك، فخرجت خديجة ومعها ولدها فياض، وسارت والسلطان
ليس له علم بما وقع لابن دلغادر مع جانبك الصّوفى، واستمر قرقماس على
عينتاب، إلى أن بلغه أن الأمير صارم الدين
(15/62)
إبراهيم بن قرمان جمع عساكره ونزل على
قيصريّة، فوافقه أهلها وسلموها له، وفر سليمان بن ناصر الدين بك منها،
فبلغه ظهور جانبك الصوفى، وأنه اجتمع عليه الأمير أسلماس بن كبك، ومحمد
بن قطبكى، وهما من أمراء التركمان، ونزلوا على ملطية.
فقدم سليمان على أبيه ناصر الدين [22] بأبلستين، ولم يبلغهما إلى الآن
خبر الإفراج عن ولده فياض، وخروجه من مصر مع أمه خديجة. وأخذ ناصر
الدين بك يدارى السلطنة ليفرج عن ابنه فياض، وندب ابنه سليمان لقتال
أعوان جانبك الصوفى، كل ذلك قبل أن يرد عليه جانبك الصوفى بمدة، وقيل
إنه كان أتاه خفية، وبينما هم فى ذلك وصلت خديجة خاتون وولدها فياض إلى
زوجها ناصر الدين محمد بن دلغادر، فبلغ ناصر الدين مراده بالإفراج عن
ولده، وترك مداراة السلطان، وانضم على جانبك الصوفى حسبما نذكره فى
مواضعه من هذه الترجمة إن شاء الله تعالى. وبلغ ذلك قرقماس نائب حلب،
فعاد من سفرته بغير طائل.
ومن يومئذ اشتغل فكر السلطان الملك الأشرف بأمر جانبك الصّوفى، وتحقق
أمره بعد ما كان يظنه، وأخذ فى عزل جماعة من النواب ممن يخشى شرهم،
وتخوف من قرقماس تخوفا عظيما فى الباطن، لئلا «1» يميل إلى جانبك
الصوفى، فأول ما بدأ به السلطان، أن عزل الأمير قانصوه النّوروزى عن
نيابة طرسوس، ونقله إلى حجوبية الحجاب بحلب عوضا عن الأمير طوغان «2»
السيفى تغرى بردى أحد مماليك الوالد، ونقل طوغان المذكور إلى إمرة مائة
وتقدمة ألف بدمشق، واستقر الأمير جمال الدين يوسف ابن قلدر فى نيابة
طرسوس عوضا عن قانصوه.
[ما وقع من الحوادث سنة 839]
ثم فى صفر من سنة تسع وثلاثين وثمانمائة، ورد الخبر على السلطان: أن
شاه رخ ابن تيمور لنك أرسل إلى السلطان مراد بك ابن عثمان، متملك
الروم، وإلى الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان المقدم ذكره، وإلى
قرايلك وأولاده، وإلى ناصر الدين بك ابن دلغادر، بخلع، على أنهم نوابه
فى ممالكهم، فلبس الجميع خلعه، فشق ذلك
(15/63)
على السلطان من كون ابن عثمان «1» لبس
خلعته، حتى قيل له: إنه فعل ذلك فى مجلس أنسه استهزاء به. قلت: لبس
الخلعة والفشار ما إليه.
ثم فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين المذكورة،
خلع السلطان على القاضى شرف الدين أبى بكر نائب كاتب السر باستقراره فى
كتابة سر حلب، عوضا عن زين الدين عمر بن السفاح، بعد امتناع شرف الدين
من ذلك أشد امتناع. وسبب ذلك: أن ابن السفاح المذكور كتب إلى السلطان
مرارا عديدة بالحطّ على قرقماس نائب حلب، وأنه يريد الوثوب على السلطان
والخروج عن الطاعة، وآخر ما ورد كتابه بذلك فى نصف صفر من هذه السنة،
[أعنى سنة تسع وثلاثين، فلما وقع ذلك كتب السلطان إلى الأمير قرقماس
المذكور بالحضور، وقد يئس السلطان من حضوره] «2» لما قوى عنده من خروجه
عن الطاعة، وقلق السلطان قلقا زائدا بعد ما «3» طلبه خوفا من عدم
حضوره، فلم يكن بأسرع من مجىء نجّاب قرقماس نائب حلب المقدم ذكره، فى
خامس عشرين صفر، يستأذن فى قدوم قرقماس إلى الديار المصرية، وقد بلغه
شىء مما رمى به، فغضب السلطان عند ذلك على زين الدين عمر بن السفاح،
ورسم بعزله واستقرار شرف الدين المذكور عوضه، وتحقق السلطان أنه لو كان
قرقماس مخامرا، لما استأذن فى الحضور، فسرّ السلطان بذلك، وكتب له
الجواب بأنه تقدم الطلب له.
وأما قرقماس فإنه لما ورد عليه الطلب من السلطان، خرج على الفور من حلب
على الهجن فى خواصه، وسار حتى قدم إلى خارج القاهرة فى يوم الجمعة سادس
شهر ربيع الأول المذكور، وطلع من الغد إلى القلعة، فلم يخلع السلطان
عليه خلعة الاستمرار لكونه استعفى عن نيابة حلب، فما صدق السلطان بأنه
تلفظ بذلك.
(15/64)
ولما كان يوم الاثنين تاسع شهر ربيع الأول،
خلع السلطان على الأمير الكبير إينال الجكمى أتابك العساكر بالديار
المصرية باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن الأمير قرقماس الشعبانى
المذكور «1» ، وخلع على الأمير جقمق العلائى أمير سلاح باستقراره أتابك
العساكر بالديار المصرية عوضا عن إينال الجكمى، وخلع على قرقماس نائب
حلب باستقراره أمير سلاح عوضا عن الأمير جقمق العلائى. وكان استقرار
إينال الجكمى [23] بعد الأتابكية فى نيابة حلب، بخلاف القاعدة، غير أن
السلطان أكرمه غاية «2» الإكرام، ووعده بنيابة دمشق، لطول مرض الأمير
قصروه نائب الشأم، وبالغ حتى أنه أسرّ له إن مات قصروه قبل وصول إينال
إلى حلب فليقم بدمشق، حتى يرسل إليه السلطان بنيابتها، وظهر أيضا للناس
أنه لم يولّه نيابة حلب إلا لثقته به؛ [ثم] «3» خرج الأمير إينال إلى
محل كفالته فى ثالث عشره.
ثم فى سابع عشره خلع السلطان على الأمير الكبير جقمق العلائى بنظر
البيمارستان المنصورى على العادة، وورد الخبر على السلطان: أن بمدينة
بروسا، التى يقال لها برصا من بلاد الروم، وباء عظيما «4» دام بممالك
الروم نحو أربعة أشهر.
ثم ورد الخبر على السلطان بأن الأمير ناصر الدين بك ابن دلغادر قبض على
الأمير جانبك الصوفى فى سابع عشر [شهر] «5» ربيع الأول، وكان السلطان
قدم عليه من البلاد الشامية كتاب، وفى ضمنه كتاب من عند شاه رخ بن
تيمور لنك، يتضمن تحريض جانبك الصّوفى على أخذ البلاد الشامية، وأنه
سيقدم عليه ابنه «6» أحمد جوكى «7» وبابا حاجى نجدة له على قتال سلطان
مصر، فقبض على حامل هذا الكتاب
(15/65)
وحبس، فلما بلغ السلطان ذلك كتب إلى نواب
البلاد الشامية بالتأهب والاستعداد لنجدة نائب حلب الأمير إينال الجكمى
إذا استدعاهم، ولم يكترث السلطان بقبض جانبك الصوفى وقال: هذه حيلة.
وكان من خبر جانبك الصوفى والقبض عليه وهو خلاف ما نقل عنه قبل ذلك
لاختلاف الأقوال فى أمره، فخبره من هذا الوجه: أنه لما فرّ «1» من
الإسكندرية، دخل القاهرة بعد أمور، ودام بها سنين مختفيا «2» فى
حاراتها وظواهرها، إلى أن خرج منها متنكرا وسار إلى البلاد الشامية، ثم
إلى بلاد الروم، فظهر بتوقات «3» فى شوال من السنة الماضية، أعنى سنة
ثمان وثلاثين وثمانمائة، فقام متوليها الأمير أركج باشا بمعاونته
وأكرمه «4» وأنعم عليه، وكتب إلى ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب
أبلستين، وإلى أسلماس بن كبك، وإلى محمد بن قطبكى، وإلى قرايلك ونحوهم
من أمراء التركمان بالقيام معه والاستعداد لنصرته، فانضم على جانبك
الصّوفى عند ذلك جماعة كبيرة، فتهيأ وخرج بهم من توقات، فوافاه الأمير
قرمش الأعور أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية المقدم ذكره فى واقعة
جانبك الصّوفى لما قبض عليه بالقاهرة.
وكان من خبر قرمش المذكور، أن الملك الأشرف أمسكه بعد أن قبض على
الأمير جانبك الصّوفى بمدة يسيرة، وحبسه بثغر الإسكندرية، ثم أطلقه
وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، فلما خرج الأمير تنبك البجاسى
عن طاعة [الملك] «5» الأشرف وافقه قرمش هذا وبقى من حزبه، إلى أن انكسر
البجاسى وقبض عليه، فاختفى «6» قرمش المذكور ولم يظهر له خبر إلى هذا
اليوم، فكأنه كان مختفيا بتلك
(15/66)
البلاد، فلما ظهر أمر جانبك الصّوفى توجه
إليه- انتهى.
وسار الأمير جانبك الصّوفى بمن انضم عليه، ومعه الأمير قرمش، من توقات
إلى الأمير محمد بن قرايلك صاحب قلعة جمركشك، فأكرمهم محمد المذكور
وقواهم، فشنّوا منها الغارات على مدينة دوركى وضايقوا أهلها ونهبوا
نواحيها، فاتفق ورود كتاب شاه رخ ملك الشرق على قرايلك يأمره «1»
بالمسير بأولاده وعساكره لقتال إسكندر بن قرا يوسف سريعا عاجلا، فكتب
«2» قرايلك إلى ولده محمد بالقدوم عليه لذلك، فترك محمد جانبك الصّوفىّ
ومن معه على دوركى وتوجه إلى أبيه.
فسار جانبك إلى أسلماس وابن قطبكى، واجتمعوا ونزلوا على ملطية وحصروها،
وكادهم سليمان بن ناصر الدين بك ابن دلغادر، وكتب إلى جانبك: أنه معه؛
فكتب إليه أنه يقدم عليه، وكان تقدم بينهما مكاتبات حسبما تقدم ذكره،
ومواعدات (بمجيء) «3» جانبك إلى أبلستين «4» ، فلم يقع ذلك وأرسل جانبك
إليه بالقدوم عليه مع الأمير قرمش الأعور، فأكرمه سليمان، وركب وسار
[24] مع الأمير قرمش فى مائة وخمسين فارسا إلى جهة جانبك الصوفى، حتى
قدم عليه، فتلقاه جانبك وعانقه وعادا بمن معهما على حصار ملطية، فأظهر
سليمان من النّصاحة ما أوجب ركون جانبك إليه، فأخذ سليمان فى الحيلة
على جانبك المذكور بكل ما تصل قدرته إليه، ولا زال به حتى خرج جانبك
معه فى عدة من أصحابه ليستريحا بمكلن للنزهة فيه؛ ورتبا «5» قرمش وبقية
العسكر على حصار ملطية، فلما نزل «6» سليمان وجانبك للنزهة ورأى أن
حيلته تمت، وثب جماعة سليمان على جانبك الصّوفى وقيدوه وأركبوه «7»
(15/67)
على أكديشى، وسار به ليلته و «1» من الغد
حتى وصل إلى بيوته بأبلستين وحبسه عنده، فلم يفطن قرمش وأصحابه بمسك
جانبك، حتى جاوز جانبك بلادا بعيدة، ولما قبض سليمان على جانبك الصّوفى
أرسل يعرّف السلطان بذلك ويطلب من يأتيه من قبل السلطان ويتسلمه-
انتهى:
وأما السلطان لما بلغه خبر القبض على جانبك الصّوفى، لم يحمل ذلك على
الصدق وأخذ فيما هو فيه، فورد عليه فى يوم الخميس حادى عشر شهر ربيع
الآخر سيف الأمير قصروه نائب الشأم، على يد الأمير علىّ بن إينال باى
بن قجماس، فعيّن السلطان الأمير إينال الجكمى نائب حلب إلى نيابة دمشق
عوضا عن قصروه، ورسم لتغرى برمش الأمير آخور الكبير بنيابة حلب عوضا عن
إينال الجكمى، غير أنه لم يخلع على تغرى برمش المذكور إلا بعد أيام
حسبما يأتى ذكره.
ثم فى ثالث عشره نودى بعرض أجناد الحلقة ليستعدوا للسفر إلى الشام ولا
يعفى أحد منهم، وجمع السلطان قضاة القضاة بين يديه وسألهم فى أخذ أموال
الناس للنفقة المتحوجة «2» لقتال شاه رخ بن تيمور، فكثر الكلام وانفضوا
من غير أن يفتوه بذلك، فقيل إن بعض الفقهاء قال: «كيف نفتيه بأخذ أموال
المسلمين، وكان لبس زوجته يوم طهور ولدها- يعنى [الملك] «3» العزيز
يوسف- ما قيمته ثلاثون ألف دينار، وهى بدلة واحدة، وإحدى نسائه!» ، ولم
يعرف القائل لذلك من هو من الفقهاء، غير أنه أشيع ذلك فى أفواه الناس.
ولما بلغ الناس ذلك كثر قلقهم من هذا الخبر.
ثم فى يوم الاثنين خامس عشر [شهر] «4» ربيع الآخر المذكور ابتدأ
السلطان بعرض أجناد الحلقة، فتجمع بالحوش السلطانى منهم عدة مشايخ
وأطفال وعميان، وعرضوا على السلطان فقال لهم: «أنا ما أعمل كما عمل
الملك المؤيّد شيخ من أخذ المال منكم، ولكن اخرجوا
(15/68)
جميعكم، فمن قدر منكم على فرس ركب فرسا،
ومن قدر على حمار ركب حمارا» ؛ فنزلوا على ذلك إلى بيت الأمير أركماس
الظاهرى الدوادار الكبير، فحل بهم عند ذلك بلاء الله المنزل، وتحكم
فيهم الأكلة، وصاروا فى أيديهم كالفريسة فى يد فارسها، وذلك لعدم معرفة
أركماس المذكور بالأحكام، وقلة دربته بالأمور- فإنه كان رجلا غتميّا لا
يعرف باللغة التركية فكيف اللغة العربية؟ - ففاز المتموّلون وتورط
المفلسون.
قلت: وعدّت «1» هذه الفعلة من غلطات [الملك] «2» الأشرف، كونه يندب «3»
لهذا الأمر المهم «4» مثل أركماس هذا، وقد تقدم أن الملوك السالفة كانت
تندب لهذا الأمر «5» مثل الأمير طشتمر الدوادار، ومثل سودون الشّيخونى،
ومثل يونس الدوادار، وآخرهم جقمق دوادار المؤيد، وكل واحد من هؤلاء كان
شأنه مع من يعرضه كالطبيب الحاذق العارف بمرض من يعالجه: ينظر إلى وجه
المعروض عليه، ويسأله عن إقطاعه «6» وعن متحصله «7» سؤالا لا يخفاه بعد
[ذلك] «8» شىء من حاله، فعند ذلك ينظر فى أمره بفراسته، إن كان إقطاعه
يقوم بسفره ألزمه بالسفر غصبا على رغم أنفه، لا يسمع فى أمره رسالة ولا
شفاعة، وإن كان لا يقوم بسفره ألزمه بالإقامة، وندبه لحفظ جهة من
الجهات، ومشى فى جميع عرضه على ذلك. وقد انتصف الناس من كونه ألزم كلّ
واحد بما هو فى قدرته، فكان هذا العرض بخلاف [35] هذا جميعه: ترك فيه
من إقطاعه يعمل فى السنة مائة «9» . ألف، حيث هو من جهته رجل من أرباب
الشوكة أو باذل مال، وألزم بالسفر من إقطاعه يعمل فى السنة «10» خمسة
آلاف درهم فلوسا، كونه فقيرا ولا عصبية له- انتهى.
(15/69)
وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه كتاب
أصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد، يشتمل على التودد وأنه هو وأخاه «1»
إسكندر يقاتلان شاه رخ؛ وتاريخه قبل قدوم أحمد جوكى بن شاه رخ وبابا
حاجى بعساكر شاه رخ، وقبل موت قرايلك.
ثم فى سابع عشره قدم أيضا قصّاد إسكندر بن قرا يوسف صحبة الأمير شاهين
الأيدكارى الناصرى أحد حجاب حلب، وعلى يدهم رأس الأمير عثمان بن طرعلى
المدعو قرايلك، ورأس ولديه وثلاثة رؤوس أخر، وكان السلطان توجه فى هذا
اليوم إلى الصيد، فقدم من الغد يوم الخميس ثامن عشره، فأمر بالرؤوس
الستة فطيف بها على رماح، وقد زينت القاهرة لذلك فرحا بموت قرايلك، ثم
علقت الرءوس على باب زويلة ثلاثة أيام.
وكان من خبر موته أنه لما سار إسكندر بن قرا يوسف من تبريز لقتاله إلى
أن نزل بالقرب من أرزن «2» ، وبلغ قرايلك مجيئه «3» ، جهز ابنه على بك
ومعه فرقة من العسكر وهو تابعهم، فالتقوا هم وإسكندر فاستظهر عسكر
قرايلك فى أول الأمر، ثم إن إسكندر ثبت وحمل عليه بمن معه حملة رجل
واحد على عسكر قرايلك فكسرهم، وذلك خارج أرزن الروم المذكورة، فعند ما
انهزم قرايلك ساق إسكندر خلفه، فقصد عسكر قرايلك أرزن الروم، ليتحصنوا
بها فحيل بينهم وبينها؛ وقبل أن يتجاوزوا عنها، أرمى قرايلك بنفسه إلى
خندقها ليفوز بمهجته، وعليه آلة الحرب، فوقع على حجر فشج دماغه، ثم قام
فحمل إلى قلعة أرزن الروم بحبال فدام بها أياما قليلة، ومات فى العشر
الأول من صفر فى هذه السنة، بعد أن أقام فى الأمر نيفا وخمسين سنة،
ومات وقد قارب المائة سنة من العمر، ودفن خارج أرزن الروم، فتتبع
إسكندر بن قرا يوسف قبره، حتى
(15/70)
عرفه ونبش عليه وأخرجه وقطع رأسه ورأس
ولديه وثلاثة رؤوس أخر من أمرائه ممن ظفر به إسكندر فى الوقعة، وأرسل
الجميع مع قاصده إلى الملك الأشرف، حسبما تقدم ذكره. هذا ما كان من
موتة قرايلك، ويأتى بقية ترجمته وأصله فى الوفيات [من هذا الكتاب إن
شاء الله تعالى] «1» .
ثم فى [يوم] «2» السبت عشرينه خلع السلطان على الأمير حسين بن أحمد
البهسنى «3» المدعو تغرى برمش، الأمير آخور الكبير باستقراره نائب حلب،
عوضا عن الأتابك إينال الجكمى وسافر من الغد إلى محل كفالته «4» ،
وتولى الأمير آخورية عوضه الأمير جانم الأشرفى، وكتب بانتقال الجكمى
إلى نيابة الشام عوضا عن قصروه بحكم وفاته «5» .
[و] «6» فى هذا اليوم حضر قصاد إسكندر بن قرا يوسف بين يدى السلطان
بكتابه، فقرئ وأجيب بالشكر والثناء، وحمل إليه مالا وغيره من القماش
السكندرى ما قيمته عشرة آلاف دينار، ووعده بمسير السلطان إلى تلك
البلاد. ثم نزل السلطان إلى الإسطبل السلطانى وعرضه بنفسه، وأرسل إلى
الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ وإلى الأمير يلخجا بجمال كثيرة،
وكان ندبهما للسفر إلى بندر جدة.
ثم فى تاسع عشرين [شهر] «7» ربيع الآخر المذكور توجه الأمير شاد بك
الجكمى، أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، إلى الأمير ناصر الدين محمد
بن دلغادر بمال وخيل وقماش سكندرى وغير ذلك، وإلى ولده سليمان بمثل
ذلك، وكتب لهما أن يسلما شاد بك المذكور الأمير جانبك الصّوفى ليحمله
إلى قلعة حلب، فسار شاد بك فى هذا اليوم؛ تأتى بقية أمره فى عوده.
(15/71)
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى
خلع السلطان على جوهر الصفوى «1» الجلبانى اللّالا «2» باستقراره زمام
الدار، بعد موت خشقدم الظاهرى الرومى، وكانت شاغرة من يوم مات خشقدم
المذكور.
[26] ولما «3» كان يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة «4» المذكورة برز
الصاحب كريم الدين والأمير يلخجا الساقى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة،
بمن معهما «5» من الحاج إلى ظاهر القاهرة، ثم ساروا فى تاسع عشره إلى
جهة مكة المشرفة.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشرين جمادى الآخرة المذكورة «6» خلع السلطان
على السيفىّ آقباى اليشبكى الجاموس أحد دوادارية السلطان الأجناد
باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن خليل بن شاهين الشّيخى بحكم
عزله.
ثم فى ثانى عشرينه وصل الأمير أقطوه الموساوى الظاهرى برقوق المتوجه فى
الرسالة إلى شاه رخ بن تيمورلنك، وقدم من الغد إلى القاهرة الشيخ «7»
صفا رسول شاه رخ المذكور بكتابه، فأنزل وأجرى عليه الرواتب؛ ثم ورد
الخبر على السلطان: أن رسل أصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد سارت إلى
القان معين الدين شاه رخ، وهو مقيم على قراباغ «8» بدخوله تحت طاعته
وأنه من جملة خدمه، فأقامت رسله ثلاثين يوما لا تصل إلى شاه رخ، ثم
قدموا بين يديه فأجابه بالإنكار على أصبهان المذكور من كونه أخرب
(15/72)
العراق وبغداد «1» وأبطل مسير الحج من
بغداد، ثم أمره بعمارة بغداد وأن يعمرها، وإلا فقد «2» مشى عليه وأخرب
دياره، وأكثر له من الوعيد، وأنه أمهله فى ذلك مدة سنة؛ وكان أصبهان
بعث بهدية فأخذها ولم يعوضه عنها شيئا «3» وإنما جهز له خلعة بنيابة
بغداد وتقليدا، ثم خلع «4» على رسله وأمرهم بالعود إليه وتبليغه ما
ذكره لهم بتمامه وكماله.
قلت: وفى الجملة أن جور أولاد تيمورلنك أحسن من عدل بنى قرا يوسف.
ثم فى يوم السبت ثانى [شهر] «5» رجب أحضر السلطان [الملك الأشرف] «6»
الشيخ صفا رسول شاه رخ إلى بين يديه، وهو جالس على المقعد «7» بالإسطبل
السلطانى، بمن معه من قصاد شاه رخ، وقرئ كتابه فإذا هو يتضمن: أنه يأمر
السلطان أن يخطب له، ويضرب السكة باسمه؛ ثم أخرج الشيخ صفا خلعة
السلطان بنيابة مصر، ومعها تاج ليلبسه «8» السلطان، وخاطب السلطان
بكلام «9» لم يسع السلطان معه صبرا.
وعند ما رأى السلطان الخلعة أمر بها فمزقت تمزيقا، وأمر بالشيخ صفا
المذكور فضرب ضربا مبرحا خارجا «10» عن الحد، ثم أقيم بعد ذلك وأمر به
فسحب إلى بركة ماء بالإسطبل، فألقى فيها منكوسا وغمس فيها غير مرة حتى
أشرف على الهلاك، وكان الوقت شتاء شديد البرد. كل ذلك ولم يستجرئ «11»
أحد من الأمراء أن يتكلم فى أمر الشيخ صفا بكلمة واحدة من نوع الشفاعة
لشدة غضب السلطان، ولقد لازمت الملك الأشرف
(15/73)
كثيرا من أوائل سلطنته إلى هذا اليوم، [و]
«1» لم أره غضب مثلها [قبلها] «2» .
ثم طلب السلطان الشيخ صفا المذكور وحدثه بكلام طويل، محصوله يقول لصفا:
إنك تتوجه إلى شاه رخ وتذكر له ما حلّ بك من الإخراق والبهدلة والعذاب،
وأنه قد ولّانى نيابة مصر إلا أنا فإنى لا أرتضيه شحنة «3» لى على بعض
قرى أقل أعمالى، وإن كان له قوة فهو يظهر «4» ذلك بعد هذا الإخراق بك
ويمشى على أعمالنا «5» ، وإن لم يأت فى العام القابل فكل ما «6» يأتى
منه بعد ذلك فهو من المهملات، ويظهر عجزه وضعف حالته وكثرة فشاره لكل
أحد.
ثم رسم السلطان بإخراجه مع رفقته فى البحر المالح إلى مكة، فتوجهوا
وحجّوا ثم عادوا إلى شاه رخ وبلغوه ذلك فلم يتحرك بحركة، وهاب ملوك مصر
بهذه الفعلة إلى أن مات. ولعمرى «7» لقد كانت هذه الواقعة من الملك
الأشرف حسنة من حسناته التى قامت بفعلتها حرمة العساكر المصرية إلى يوم
القيامة.
قلت: ولا أعرف للملك الأشرف فعلة فعلها فى أيام سلطنته أحسن ولا أعظم
ولا أجمل من إقدامه على هذا الأمر، من ضرب قاصد [27] شاه رخ وتمزيق
خلعته، فإنه خالف فى ذلك جميع أمرائه وأرباب دولته، لأن الجميع أشاروا
عليه بالمحاسنة فى رد الجواب، إلا هو، فإن الله عز وجل وفقه إلى ما فعل
ولله الحمد؛ ومن يومئذ عظم أمر [الملك] «8» الأشرف وتلاشى أمر شاه رخ
فى جميع بلاد الإسلام.
ثم خلع [السلطان] «9» على شيخ الشيوخ بخانقاه سرياقوس محب الدين [محمد]
«10»
(15/74)
ابن الأشقر، باستقراره فى كتابة السّر
بالديار المصرية «1» عوضا عن القاضى كمال الدين ابن «2» البارزى بحكم
عزله.
ثم جهز السلطان تجريدة من الأمراء والمماليك السلطانية إلى البلاد
الشامية، بسبب ظهور جانبك الصّوفى وغيره، وقد بلغ السلطان أن ابن
دلغادر أطلق جانبك الصّوفى.
ثم فى حادى عشر [شهر] «3» رجب المذكور قدم الأمير شاد بك الجكمى من
بلاد أبلستين لأخذ جانبك الصّوفى بغير طائل، بعد أن قاسى شدائد من عظم
البرد والمطر والثلوج، حتى أنه هلك من أصحابه جماعة كبيرة من ذلك، وكان
من خبر شاد بك:
أنه لما وصل إلى ناصر الدين بك ابن دلغادر، تلقاه وأكرمه وأخذ ما معه
من الهدية والتحف والمال.
قلت: الدورة على هذا لا [على] «4» غيره.
ثم أخذ ناصر الدين بك ابن دلغادر يسوّف بالأمير شاد بك من يوم إلى يوم،
إلى أن طال الأمر وظهر لشاد بك أنه «5» لا يمكنه منه، فكلمه فى ذلك
فاعتذر ناصر الدين [بك] «6» بعد [م] «7» تسليمه من أنه يخاف من أن
يعاير بذلك، وأيضا مما ورد عليه من كتب شاه رخ وغيره من ملوك الأقطار
بالتوصية عليه وأشياء من هذه المقولة؛ والمقصود: أنه منعه منه، ثم
أطلقه وأعاده إلى حاله الأول وأحسن، فعظم ذلك على السلطان إلى الغاية،
ولم أسأل الأمير شاد بك هل اجتمع بالأمير جانبك الصّوفى عند ابن دلغادر
أم لا.
ولما أن عاد شاد بك من عند ابن دلغادر «8» من غير قضاء حاجة اضطرب
الناس، وتحدث كل أحد بما فى نفسه من المغيبات، وكثر القلق وأخذ السلطان
يستحث
(15/75)
الأمراء «1» المجردين فى السفر. وأدير محمل
الحاج فى يوم الاثنين خامس عشرين [شهر] «2» رجب من غير لعب الرمّاحة
«3» على العادة فى كل سنة، لشغل خاطر السلطان.
[ثم فى يوم الأربعاء خامس عشرين شعبان، برز الأمراء المجردون من
القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة] «4» ، وهم: الأمير الكبير جقمق
العلائى الناصرى الظاهرى، والأمير أركماس الظاهرى الدوادار، والأمير
يشبك السودونى المشد، وهو يومذاك حاجب الحجاب، والأمير تنبك البردبكى
نائب القلعة كان، والأمير قرا خجا الحسنى، والأمير تغرى بردى البكلمشى
المؤذى «5» والأمير خجا سودون السيفى بلاط الأعرج، فأقاموا إلى يوم
سابع عشرينه، وسافروا إلى جهة البلاد الشامية؛ ثم نقل حسن بن أحمد
البهسنى نائب القدس إلى حجوبية الحجاب بحلب، بسفارة أخيه تغرى برمش
نائب حلب، عوضا عن الأمير قانصوه النوروزى، بحكم انتقال قانصوه إلى
إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق.
ثم فى يوم الاثنين سابع [شهر] «6» رمضان خلع السلطان على الأمير غرس
الدين خليل بن شاهين الشيخى المعزول عن نيابة الإسكندرية، باستقراره
وزيرا بالديار المصرية،
(15/76)
عوضا عن التاج الخطير الأسلمى.
ثم فى يوم الخميس رابع عشرين [شهر] «1» رمضان قدم إلى القاهرة الأمير
أسلماس ابن كبك التركمانى مفارقا لجانبك الصّوفى، فأكرمه السلطان وأنعم
عليه، ثم خلع عليه فى يوم الخميس أول شوال خلعة السفر ورسم بتجهيزه.
ثم فى يوم الخميس ثامن شوال عزل السلطان [الوزير] «2» خليل بن شاهين
الشيخى عن الوزارة، وألزم الصاحب أمين الدين بن الهيصم بشدّ أمور
الدولة، ومراجعة عبد الباسط فى جميع أحوال الدولة، فمشت الأحوال.
قلت: وهذا كان قصد السلطان أن يلقى الأستادّاريّة والوزارة فى رقبة عبد
الباسط، وقد وقع ذلك- انتهى.
ومن [يوم] «3» ذلك، أخذ عبد الباسط يحسّن [28] للسلطان طلب الصاحب كريم
الدين ابن كاتب المناخ وإعادته للوزارة، فيقول له السلطان: «هذا شىء
صار يتعلق بك، افعل [فيه] «4» ما شئت» ؛ فكتب فى يوم تاسعه بإحضار
الصاحب كريم الدين من «5» بندر جدة على يد نجّاب بعد فراغ شغله ليلى
الوزارة.
حدثنى الصاحب كريم الدين «6» قال: «كان أولا إذا كتب إلىّ عبد الباسط
ورقة فى حاجة، يخاطبنى فيها مخاطبة ليست بذاك، إلى أن أضيف إليه التكلم
فى الوزارة وطلبت «7» من بندر جدة، فصارت كتبه تأتينى بعبارة عظيمة
وترقّق زائد وتحشّم كبير، فلما أن قدمت وعدت إلى الوزارة، امتنع مما
كان يفعله مع فى ولايتى الأولى من الإفراجات التى كان «8» لا يخلو يوم
«9» إلا ويأتينى شىء منها، فصار فى ولايتى هذه كلما قيل له أن يرسل
إلىّ لأفرج «10» له عن شىء، يقول: خلّوه! يكفيه الذي هو فيه، نحن
(15/77)
يجب علينا مساعدته» ؛ قلت له: «فكان
يساعد؟» ، قال: «أى والله! غصبا ومروءة» - انتهى.
ثم فى سابع عشرين شوال، كتب بعزل الأمير إينال العلائى الناصرى نائب
الرّها وقدومه إلى القاهرة. وخلع [السلطان] «1» على الأمير شادبك
الجكمى أحد أمراء الطبلخاناه ورأس نوبة ثانى باستقراره فى نيابة الرّها
على إقطاعه، عوضا عن إينال المذكور.
وكتب أيضا بعزل الأمير إينال الششمانى الناصرى عن نيابة صفد، وأن يتوجه
إلى القدس بطالا، وأن يستقر عوضه فى نيابة صفد الأمير تمراز المؤيدى
أحد مقدمى الألوف بدمشق.
ثم فى أواخر ذى القعدة قدم الخبر على السلطان: أن شاه رخ بن تيمورلنك
رحل عن مملكة أذربيجان، وهى تبريز، بعد أن استناب عليها جهان شاه بن
قرا يوسف عوضا عن أخيه إسكندر، وزوّج جهان شاه المذكور أيضا بنساء
إسكندر المذكور بحكم الشرع، لكون إسكندر كان فى عصمته أزيد من ثمانين
امرأة.
ونزل شاه رخ فى أواخر ذى القعدة على مدينة السلطانية، وعزم [على] «2»
أن «3» لا يرحل عنها إلى ممالكه حتى يبلغ غرضه من إسكندر بن قرا يوسف،
فلم يلتفت السلطان إلى ذلك وأخذ فيما هو فيه من أمر جانبك الصّوفى، غير
أنه صار فى تخوف من أن يردف شاه رخ جانبك الصوفى بعسكر، إذا تم أمره من
إسكندر.
وأما العسكر المجرد من مصر وغيرها فإنه لما توجه إلى حلب، سار منها
نائبها تغرى برمش البهسنى بعساكر حلب، وصحبته الأمير قانى باى الحمزاوى
نائب حماه بعساكر حماه، ونزل على عينتاب، وقد نزل جانبك الصوفى على
مرعش، فتوجهوا إليه من الدّربند أمام العسكر المصرى، ونزلوا على بزرجق-
يعنى: سويقة باللغة العربية- ثم عدوا الجسر، وقصدوا ناصر الدين بك ابن
دلغادر نائب أبلستين من طريق دربند كينوك، فلم يقدروا على سلوكه لكثرة
الثلوج، فمضوا إلى دربند آخر من عمل بهسنا، وساروا منه بعد مشقة يريدون
أبلستين، وساروا حتى طرقها تغرى برمش المذكور بمن معه فى يوم
(15/78)
الثلاثاء تاسع شهر رمضان، فلم يدرك ناصر
الدين بن دلغادر بها، فأمر تغرى برمش بنهب أبلستين وإحراقها فنهبت «1»
وأحرقت بأجمعها، ثم أمر العسكر بنهب جميع قراها وإحراقها «2» فنهبوها
وأخذوا منها شيطئا كثيرا، ثم عاد نائب حلب بمن معه والأغنام تساق بين
يديه بعد أن امتلأت أيدى العساكر من النهب، وترك أبلستين خرابا قاعا
صفصفا، وعاد إلى حلب بعد غيبته عنها خمسين يوما، كل ذلك وأمراء مصر
بحلب.
ثم بلغ تغرى برمش بعد قدومه إلى حلب: أن ناصر الدين بن دلغادر نزل
[بالقرب] «3» من كينوك فجهز إليه أخاه حسنا «4» حاجب حجاب حلب، وحسن هو
الأسنّ، ومعه مائة وخمسون فارسا إلى عينتاب تقوية للأمير خجاسودون، وقد
نزل بها بعد أن انفرد عن العسكر المصرى [29] من [يوم] «5» خرج من
الديار المصرية، فتوجه حسن المذكور بمن معه إلى خجاسودون وأقام عنده،
فلما كان يوم رابع عشرين ذى الحجة من سنة تسع وثلاثين المذكورة، وصل
إليهم الأمير جانبك الصّوفى، ومعه الأمير «6» قرمش الأعور، والأمير
كمشبغا «7» المعروف بأمير [عشرة] «8» أحد أمراء حلب، وكان توجه من حلب
وانضم على جانبك الصّوفى قبل تاريخه بمدة طويلة، ومعه أيضا أولاد ناصر
الدين بك ابن دلغادر الجميع، ما عدا سليمان، فنزلوا على مرج دلوك «9» ،
ثم ركبوا وساروا منه إلى قتال خجاسودون بعينتاب، فركب خجا سودون أيضا
(15/79)
بمماليكه وبمن معه من التركمان والعربان وقاتلهم آخر النهار، وباتوا
ليلتهم.
وأصبحوا يوم الثلاثاء خامس عشرين ذى الحجة تقدم حسن حاجب الحجاب بمن
معه من التركمان والعربان أمام خجاسودون، فتقدم إليهم جانبك الصّوفى
بمن معه، وهم نحو الألفى فارس، فقاتلته العساكر المذكورة وقد تفرقوا
[فرقتين] «1» : فرقة عليها خجاسودون وحسن حاجب الحجاب المقدم ذكره،
وفرقة عليها الأمير تمرباى اليوسفى المؤيدى دوادار السلطان بحلب،
وتركمان الطاعة فى كل فرقة منهما.
وتصادم الفريقان فكانت بينهم وقعة هائلة انكسر فيها جانبك الصّوفى،
وأمسك الأمير قرمش الأعور، والأمير كمشبغا أمير عشرة، وهما كانا جناحى
مملكته، وثمانية عشر فارسا من أصحاب جانبك الصوفى، وانهزم جانبك فى
أناس وتبعهم العساكر فلم يقدروا عليهم فعادوا؛ فأخذ خجا سودون قرمش
وكمشبغا بمن معهما، وقيّد الجميع وسيّرهم إلى حلب؛ وكتب بذلك إلى
السلطان. فقدم الخبر على السلطان فى صفر من سنة أربعين وثمانمائة، ومع
المخبر رأس الأمير قرمش الأعور ورأس الأمير كمشبغا أمير عشرة، وأنه
وسّط من قبض معهما بحلب، فشهر الرأسان بالقاهرة، ثم ألقيا فى سراب
الأقذار بأمر السلطان، ولم يدفنا. ودقت البشائر لذلك أياما، وفرح
السلطان بذلك أياما «2» ، وأرسل إلى نائب حلب وإلى خجا سودون بالشكر
والثناء.
ومن يوم ذاك، أخذ أمر جانبك الصّوفى فى إدبار، بعد ما كان اجتمع عليه
ملوك وخلائق، لقلة سعده.
قلت: كان جانبك الصّوفى خاملا لا يتحرك بحركة إلا وانعكست عليه طول
عمره؛ وقد استوعبنا أحواله فى تاريخنا «المنهل الصافى» «3» ، ويأتى من
ذكره هنا أيضا نبذة فى الوفيات وغيرها إن شاء الله تعالى. |