تاريخ ابن خلدون

الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة
وذلك أنّ الحضريّ إذا عظم تموّله وكثر للعقار والضّياع تأثّله وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك وانفسحت أحواله في التّرف والعوائد زاحم عليها الأمراء والملوك وغصّوا به. ولما في طباع البشر من العدوان تمتدّ أعينهم إلى تملّك ما بيده وينافسونه فيه ويتحيّلون على ذلك بكلّ ممكن حتّى يحصّلوه [3] في ربقة حكم سلطانيّ وسبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله وأكثر الأحكام
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الضعاف.
[2] وفي النسخة الباريسية: والتغالي. وفي نسخة أخرى المغالي.
[3] وفي النسخة الباريسية: حتى بحصوله وفي بعض النسخ: حتى يحصلونها- وحتى محصولة والربقة:
العروة في الحبل.

(1/460)


السّلطانيّة جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنّما هو في الخلافة الشّرعيّة وهي قليلة اللّبث قال صلّى الله عليه وسلّم: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تعود ملكا عضوضا» . فلا بدّ حينئذ لصاحب المال والثّروة الشّهيرة في العمران من حامية تذود عنه وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبيّة يتحاماها السّلطان فيستظلّ هو بظلّها ويرتع في أمنها من طوارق التّعدّي. وإن لم يكن له ذلك أصبح نهبا بوجوه التّخيّلات وأسباب الحكّام [1] . وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41.
الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها
والسّبب في ذلك أنّ الحضارة هي أحوال عاديّة زائدة على الضّروريّ من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرّفه وتفاوت الأمم [2] في القلّة والكثرة تفاوتا غير منحصر وتقع فيها عند كثرة التّفنّن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصّنائع ويحتاج كلّ صنف منها إلى القومة عليه والمهرة فيه وبقدر ما يتزيّد من أصنافها تتزيّد أهل صناعتها ويتلوّن ذلك الجيل بها ومتى اتّصلت الأيّام وتعاقبت تلك الصّناعات [3] حذق أولئك الصّنّاع في صناعتهم ومهروا في معرفتها والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاما ورسوخا وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجار العمران وكثرة الرّفه في أهلها. وذلك كلّه إنّما يجيء من قبل الدّولة لأنّ الدّولة تجمع أموال الرّعيّة وتنفقها في بطانتها ورجالها وتتّسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتّساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرّعايا وخرجها في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الحكم.
[2] وفي النسخة الباريسية: تفاوت الأمر.
[3] وفي النسخة الباريسية: الصبغات.

(1/461)


أهل الدّولة ثمّ في من تعلّق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيّد عوائد التّرف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصّنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة. ولهذا تجد الأمصار الّتي في القاصية ولو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسّطة في الأقطار الّتي هي مركز الدّولة ومقرّها وما ذاك إلّا لمجاورة السّلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضرّ ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد وقد قدّمنا أنّ السّلطان والدّولة سوق للعالم.
فالبضائع كلّها موجودة في السّوق وما قرب منه وإذا أبعدت عن السّوق افتقدت البضائع جملة ثمّ إنّه إذا اتّصلت تلك الدّولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واعتبر ذلك في اليهود لمّا طال ملكهم بالشّام نحوا من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتّفنّن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل حتّى إنّها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضا وعوائدها في الشّام منهم ومن دولة الرّوم بعدهم ستّمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السّنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والرّوم ثمّ ملك الإسلام النّاسخ للكلّ. فلم تزل عوائد الحضارة بها متّصلة وكذلك أيضا رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتّصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتّبابعة آلافا من السّنين وأعقبهم ملك مصر. وكذلك الحضارة بالعراق لاتّصال دولة النّبط والفرس بها من لدن الكلدانيّين والكيانيّة [1] والكسرويّة والعرب بعدهم آلافا من السّنين فلم يكن على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الكينية.

(1/462)


وجه الأرض لهذا العهد أحضر [1] من أهل الشّام والعراق ومصر. وكذا أيضا رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس لاتّصال الدّولة العظيمة فيها للقوط ثمّ ما أعقبها من ملك بني أميّة آلافا من السّنين وكلتا الدّولتين عظيمة فاتّصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت. وأمّا إفريقية والمغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنّما قطع الإفرنجة إلى إفريقية البحر وملكوا السّاحل وكانت طاعة البربر أهل الضّاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة وأوفاز [2] وأهل المغرب لم تجاورهم دولة وإنّما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر ولمّا جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب لم يلبث فيهم ملك العرب إلّا قليلا أوّل الإسلام وكانوا لذلك العهد في طور البداوة ومن استقرّ منهم بإفريقيّة والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلّد فيه من سلفه إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة ثمّ انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطغريّ أيّام هشام بن عبد الملك ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلّوا بأمر أنفسهم وإن بايعوا لإدريس فلا تعدّ دولته فيهم عربيّة لأنّ البرابر هم الّذين تولّوها ولم يكن من العرب فيها كثير عدد وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشّيء بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه وكثرة عمران القيروان وورث ذلك عنهم كتامة ثمّ صنهاجة من بعدهم وذلك كلّه قليل لم يبلغ أربعمائة سنة وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة وتغلّب بدو العرب الهلاليّين عليها وخرّبوها وبقي أثر خفيّ من حضارة العمران فيها وإلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهديّة سلف فتجد له من الحضارة في شئون منزله وعوائد أحواله آثارا ملتبسة بغيرها يميّزها الحضريّ البصير بها وكذا في أكثر أمصار إفريقية وليس كذلك في
__________
[1] الأصح أن يقول: أكثر حضارة.
[2] في النسخة الباريسية: وأوفاز. وفي نسخة أخرى: قلعة وافان وفي نسخة غيرها: قلعة واوفار. وفاز جمع فازة: بناء من خرق وغيرها تبنى في العساكر.

(1/463)


المغرب وأمصاره لرسوخ الدّولة بإفريقيّة أكثر أمدا منذ عهد الأغالبة والشّيعة وصنهاجة وأمّا المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحّدين من الأندلس حظّ كبير من الحضارة واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعا وكرها وكانت من اتّساع النّطاق ما علمت فكان فيها حظّ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس ثمّ انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النّصارى إلى إفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثارا ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظّ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء ورجع إلى أعقابه وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة وعلى كلّ حال فآثار الحضارة بإفريقيّة أكثر منها بالمغرب وأمصاره لما تداول فيها من الدّول السّالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المتردّدين بينهم. فتفطّن لهذا السّرّ فإنّه خفيّ عن النّاس. واعلم أنّها أمور متناسبة وهي حال الدّولة في القوّة والضّعف وكثرة الأمّة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النّعمة واليسار وذلك أنّ الدّولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادّة لها من الرّعايا والأمصار وسائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم وإذا أفاض السّلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثّت فيهم ورجعت إليه ثمّ إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدّولة يكون يسار الرّعايا وعلى يسار الرّعايا وكثرتهم يكون مال الدّولة وأصله كلّه العمران وكثرته فاعتبره وتأمّله في الدّول تجده والله يحكم ولا معقّب لحكمه
.

(1/464)


الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وانها مؤذنة بفساده
قد بيّنّا لك فيما سلف أنّ الملك والدّولة غاية للعصبيّة وأنّ الحضارة غاية للبداوة وأنّ العمران كلّه من بداوة وحضارة وملك وسوقة [1] له عمر محسوس كما أنّ للشّخص الواحد من أشخاص المكوّنات عمرا محسوسا وتبيّن في المعقول والمنقول أنّ الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموّها وأنّه إذا بلغ سنّ الأربعين وقفت الطّبيعة عن أثر النشوء والنّموّ برهة ثمّ تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أنّ الحضارة في العمران أيضا كذلك لأنّه غاية لا مزيد وراءها وذلك أنّ التّرف والنّعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتّخلّق بعوائدها والحضارة كما علمت هي التّفنّن في التّرف واستجادة أحواله والكلف بالصّنائع الّتي تؤنّق من أصنافه وسائر فنونه من الصّنائع المهيّئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتّأنّق في كلّ واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التّأنّق فيها.
وإذا بلغ التّأنّق في هذه الأحوال المنزليّة الغاية تبعه طاعة الشّهوات فتتلوّن النّفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أمّا دينها فلاستحكام صبغة العوائد الّتي يعسر نزعها وأمّا دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات الّتي تطالب بها العوائد ويعجز وينكّب [2] عن الوفاء بها. وبيانه أنّ المصر بالتّفنّن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنّا قدّمنا أنّ المصر الكثير العمران يختصّ بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته. ثمّ تزيدها المكوس غلاء لأنّ الحضارة إنّما تكون عند انتهاء الدّولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدّول لكثرة
__________
[1] الرعية.
[2] وفي نسخة اخرى: الكسب.

(1/465)


خرجها حينئذ كما تقدّم. والمكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأنّ السّوقة والتّجّار كلّهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتّى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلا في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلّها في النّفقات ويتتابعون [1] في الإملاق والخاصّة [2] ويغلب عليهم الفقر ويقلّ المستامون للمبايع [3] فتكسد الأسواق ويفسد حال المدينة وداعية ذلك كلّه إفراط الحضارة والتّرف. وهذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق والعمران. وأمّا فساد أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص فمن الكدّ والتّعب في حاجات العوائد والتّلوّن بألوان الشّرّ في تحصيلها وما يعود على النّفس من الضّرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشّرّ والسّفسفة والتّحيّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النّفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغشّ والخلابة والسّرقة والفجور في الأيمان والرّبا في البياعات ثمّ تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ النّاشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبداوعيه واطّراح الحشمة في الخوض فيه حتّى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الّذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضا أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر وما يتوقّعونه من العقاب على تلك القبائح حتّى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم إلّا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسّفلة من أهل الأخلاق الذّميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدّولة وولدانهم ممّن أهمل عن التّأديب وأهملته الدولة من عدادها وغلب عليه خلق
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ويتبالغون.
[2] وفي نسخة أخرى: الخصاصة.
[3] وفي نسخة أخرى: البضائع.

(1/466)


الجوار وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات [1] وذلك أنّ النّاس بشر متماثلون وإنّما تفاضلوا وتميّزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرّذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرّذيلة بأيّ وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدّول منطرحين في الغمار [2] منتحلين للحرف الدّنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلوّنوا به من صبغة الشّرّ والسّفسفة وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمّة تأذّن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16» [3] . ووجهه حينئذ إنّ مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النّفس بها فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحدا واحدا اختلّ نظام المدينة وخربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص [4] أنّ المدينة إذا كثر فيها غرس النّارنج تأذّنت بالخراب حتّى أنّ كثيرا من العامّة يتحامى غرس النّارنج بالدّور تطيرا به. وليس المراد ذلك ولا أنّه خاصّيّة [5] في النّارنج وإنّما معناه أنّ البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثمّ إنّ النّارنج واللّيّة [6] والسّرو وأمثال ذلك ممّا لا طعم فيه ولا منفعة هو من غاية [7] الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلّا أشكالها فقط ولا تغرس إلّا بعد التّفنّن في مذاهب التّرف. وهذا هو الطّور الّذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدّفلى وهو من هذا الباب إذ الدّفلى لا يقصد بها إلّا تلوّن البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب التّرف. ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشّهوات والاسترسال
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأبواب.
[2] جماعة من الناس.
[3] سورة الإسراء الآية 16.
[4] وفي نسخة أخرى: أهل الحواضر.
[5] وفي نسخة أخرى: خاصة. وفي النسخة الباريسية: طيرة.
[6] وفي نسخة أخرى: اللّيم.
[7] وفي نسخة أخرى: غايات.

(1/467)


فيها لكثرة التّرف فيقع التّفنّن في شهوات البطن من المآكل والملاذّ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التّفنّن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزّنا واللّواط، فيفضي ذلك إلى فساد النّوع. إمّا بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزّنا، فيجهل كلّ واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأنّ المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشّفقة الطّبيعيّة على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدّي ذلك إلى انقطاع النّوع، أو يكون فساد النّوع بغير واسطة، كما في اللّواط المؤدّي إلى عدم النسل رأسا وهو أشدّ في فساد النّوع. والزّنا يؤدّي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللّواط أظهر من مذهب غيره، ودلّ على أنّه أبصر بمقاصد الشّريعة واعتبارها للمصالح.
فافهم ذلك واعتبر به أنّ غاية العمران هي الحضارة والتّرف وأنّه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطّبيعيّة للحيوانات. بل نقول إنّ الأخلاق الحاصلة من الحضارة والتّرف هي عين الفساد لأنّ الإنسان إنّما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضارّه واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ لا يقدر على مباشرته حاجاته إمّا عجزا لما حصل له من الدّعة أو ترفّعا لما حصل من المربى في النّعيم والتّرف وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضارّ واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ بما قد فقد من خلق الإنسان بالتّرف والنّعيم [1] في قهر التّأديب والتعلم فهو بذلك عيال على الحامية الّتي تدافع عنه. ثمّ هو فاسد أيضا غالبا بما فسدت [2] منه العوائد وطاعتها وما تلوّنت به النّفس من مكانتها [3] كما قرّرناه إلّا في الأقلّ النّادر. وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخا على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الّذين يتقرّبون من جند السّلطان إلى البداوة والخشونة أنفع من الّذين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى.
[2] وفي نسخة أخرى: أفسدت.
[3] وفي نسخة أخرى: وملكاتها.

(1/468)


يتربّون على الحضارة وخلقها. موجودون [1] في كلّ دولة. فقد تبيّن أنّ الحضارة هي سنّ الوقوف لعمر العالم في العمران والدّولة [2] والله سبحانه وتعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ 55: 29 لا يشغله شأن عن شأن.