تاريخ ابن خلدون
حصار عز الدين صاحب
الموصل جزيرة ابن عمر
كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية
أبيه وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه وصار
عينا على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة
بينهما ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين واستنفر لها أصحاب
الاطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل وأخيه عماد الدين
صاحب سنجار ونصيبين وسنجر شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم واجتمعوا
عنده على عكا وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف
واستأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر
فألح عليه في ذلك وغدا عليه يوم الفطر مسلما فوعده وانصرف وكان تقي
الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلا من حماة في عسكر فأرسل اليه
صلاح الدين باعتراضه ورده طوعا أو كرها فلقيه بقلعة فنك ورده كرها وكتب
صلاح الدين الى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة
فتلقاها بالمراجعة وطلب اقطاع الجزيرة فأسعفه وسار اليها وحاصرها أربعة
أشهر فامتنعت عليه ثم صالحه على نصف أعماله ورجع الموصل والله تعالى
أعلم.
مسير عز الدين صاحب الموصل الى بلاد العادل بالجزيرة ورجوعه عنها
كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين
وكانت بيد
(5/309)
ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاه ثم توفي
تقيّ الدين فاقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب ثم توفي صلاح الدين
سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها واستشار أصحابه
فأشار عليه بعضهم بمعاجلتها وأن تستنفر أصحاب الاطراف لها مثل صاحب
اربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب سنجار ونصيبين ومن امتنع يعاجله حربا
ويعاجل البلد قبل أن يستعدّ أهله للمدافعة وأشار مجاهد الدين قايمان
بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل بإشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم
فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين وأن البلد في طاعته وأنه القائم
بدولته وأنه بلغه أنّ صاحب ماردين تعرّض لبعض بلاده فجهز جيشا كثيفا
لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة ثم بلغهم أنه بظاهر حران في
خف من العسكر فتجهز للحركة عليه ولما وقع الاتفاق مع صاحب سنجار جاءت
عساكر الشام الى العادل من الأفضل فامتنع وسار عز الدين في عساكره من
الموصل الى نصيبين واجتمع بأخيه عماد الدين وساروا الى الرها وقد عسكر
العادل قريبا منهم بمرج الريحان وخافهم فأقاموا أياما كذلك ثم طرق عز
الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وسار الى الموصل والله
تعالى أعلم.
وفاة عز الدين صاحب الموصل وولاية ابنه نور
الدين
ولما رجع عز الدين الى الموصل أقام بها مدّة شهرين واشتدّ مرضه فتوفي
آخر شعبان سنة تسع وثمانين وولى ابنه نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين
مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايمان
مدبر دولة أبيه والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة عماد الدين صاحب سنجار وولاية ابنه
قطب الدين
ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار والخابور
ونصيبين والرقة وسروج وهي التي عوّضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه
توفي في محرّم سنة أربع وتسعين وملك بعده ابنه قطب الدين وتولى تدبير
دولته مجاهد الدين برتقش مولى أبيه وكان دينا خيرا عادلا متواضعا محبا
لأهل العلم والدين معظما لهم وكان متعصبا على الشافعية حتى انه بني
مدرسة للحنفية بسنجار وكان حسن السيرة والله تعالى أعلم
.
(5/310)
استيلاء نور الدين
صاحب الموصل على نصيبين
كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين قد امتدّت أيدي نوابه بنصيبين الى
قرى من أعمال الموصل تجاورهم وبعث اليه في ذلك مجاهد الدين قايمان صاحب
دولة الموصل يشكو اليه نوابه سرّا من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين
في ادعاء انها من أعماله وأساء الردّ فأعاد نور الدين الرسالة اليه مع
بعض مشايخ دولته وقد طرقه المرض فأجاب مثل الأوّل فنصح الرسول وكان من
بقية الاتابك زنكي وعاد الى [1] فأغلظ له في القول واعتزم نور الدين
على المسير الى نصيبين ووصل الخبر اثر ذلك بوفاة عماد الدين وولاية
ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين وتجهز لها في جمادى سنة
أربع وتسعين وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين الى
نصيبين فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين ودخل الى قلعة نصيبين مهزوما ثم
أسرى منها الى حران ومعه نائبة مجاهد الدين برتقش وكاتبوا العادل أبا
بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل
الى الجزيرة ففارقها الى الموصل في رمضان من السنة وعاد قطب الدين
اليها وكان الموتان قد وقع عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل
ومات مجاهد الدين قايمان القائم بالدولة ولما عاد نور الدين الى الموصل
وعاد قطب الدين الى نصيبين سار العادل الى ماردين فحاصرها أياما وضيق
عليها ثم انصرف والله تعالى أعلم.
هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام
نور الدين صاحب الموصل وبني عمه ملوك الجزيرة
لما رحل العادل عن ماردين كما قدّمناه جر العساكر عليها للحصار مع ابنه
الكامل وعظم ذلك على ملوك الجزيرة وديار بكر وخافوا أن ملكها يغلبهم
على أمرهم ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين
إلّا تقية لكثرة عساكره فلما رجع إلى دمشق وبقي الكامل على ماردين
استهانوا بأمره وطمعوا في مدافعة وأغراهم بذلك الظاهر والأفضل ابنا
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 133: فلما سمع الرسالة لم يلتفت
وقال: لا أعيد ملكي، فاشار الرسول من عنده حيث هو من مشايخ دولتهم بترك
اللجاج وتسليم ما اخذه، وحذّره عاقبة ذلك فأغلظ عليه عماد الدين القول
وعرض بذم نور الدين واحتقاره فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال،
فغضب نور الدين وعزم على المسير الى نصيبين.
(5/311)
صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل فتجهز
نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل وسار أوّل شعبان سنة خمس وتسعين
وانتهى إلى دبيس فأقام بها ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي
صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر حتى
إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدّموا الى مزاحمة الكامل على ماردين
وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام
المستولى على دولة صاحبها الى الكامل يراوده في الصلح وتسليم القلعة له
الى أجل سماه على أن يبيح لهم ما يقوّتهم من الميرة فأسعفهم بذلك
وبينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا وزحف الكامل مهزوما الى
معسكره بالربض فخرج أهل القلعة اليهم وقاتلوهم الى المساء ثم أجفل
الكامل من ليلته منتصف شوّال وعاد الى بلاده ونهبت أهل القلعة مخلفه
وخرج صاحب ماردين وهو بولو ارسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين وشكره
وعاد الى حصنه ورجع نور الدين وأصحابه الى تستر ثم سار منها الى رأس
عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه
السكة والخطبة فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم ثم طرقه المرض فبعث
اليهم بالعذر وعاد الى الموصل في ذي الحجة آخر السنة والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين صاحب الموصل الى بلاد العادل بالجزيرة
ثم انّ الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الأفضل ابن أخيه
فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في
الاتفاق وأن يسير الى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها والرقة وسنجار
فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع وتسعين وسار معه ابن عمه قطب
الدين صاحب سنجار وحسام الدين صاحب ماردين وانتهوا الى رأس عين وكان
بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل الى نور الدين في الصلح فبادر
الى الاجابة لما وقع في عسكره من الموتان واستحلفهم وحلف لهم وبعثوا
الى العادل فحلف وعاد نور الدين الى الموصل في ذي القعدة من السنة
والله تعالى أعلم.
هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام عسكر
العادل
لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار ويستميله الى أن خطب
له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل الى نصيبين من
أعمال قطب الدين فحاصرها
(5/312)
وملك المدينة وأقام يحاصر القلعة فبينما هو
قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبة بالموصل بأنّ مظفر الدين كوكبري
صاحب اربل [1] من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزما على قصد اربل فلم
يجد كل الخبر صحيحا فسار الى تل اعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها
وكان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران الى رأس عين نجدة لصاحب
سنجار وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب اربل وصاحب كيفا وآمد
وصاحب جزيرة ابن عمر وتراسلوا وتواعدوا للاجتماع فلما ارتحل نور الدين
عن نصيبين اجتمعوا عليها وجاءهم أخو الأشرف نجم الدين صاحب ميافارقين
وساروا الى البقعاء من تل اعفر الى كفررقان وقصده المطاولة حتى [2]
جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم وكان من مواليه فوثق بقوله
ورحل الى نوشرى قريبا منهم وتراءى الجمعان فالتقوا وانهزم نور الدين
ونجا في فل قليل ونزلت العساكر كفررقان ونهبوا مدينة فيد وما اليها
وأقاموا هنالك وتردّدت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل اعفر
لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها واصطلحوا سنة احدى وستمائة ورجع كل الى
بلده والله تعالى ولىّ التوفيق.
مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمرو ولاية
ابنه محمود بعده
كان سنجر شاه بن غازي بن مودود ابن الاتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر
وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مرّ وكان سيّئ السيرة غشوما
ظلوما مرهف الحدّ على رعيته وجنده وحرمه وولده كثير القهر لهم
والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محمودا ومودودا الى
قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما وأخرج ابنه غازي الى دار
بالمدينة ووكل به فساءت حاله وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله
وتناول حية وبعثها الى أبيه فلم يعطف عليه فتسلل من الدار واستخفى في
المدينة وبعث الى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله اليه فبعث
اليه بنفقة وردّه خوفا من أبيه وترك أبوه طلبه لما
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 193: «ان مظفر الدين كوكبري بن زين
الدين علي صاحب اربل قد قصد اعمال الموصل فنهب تينوي وأحرق غلالها.»
وترى ان اسم صاحب اربل هنا كوكبري وعند ابن الأثير بوكبري وكثيرا ما
تختلف هذه الأسماء الاعجمية بين كتاب وآخر.
[2] بياض بالأصل مع اختلاف في الأسماء وفي الكامل: وسار نور الدين من
تل اعفر الى كفر زمّار وعزم على المطاولة ليتفرقوا فأتاه كتاب من بعض
مماليكه يسمي جرديك وقد أرسله يتجسس اخبارهم فيقلّلهم في عينه ويطمعه
فيهم ويقول: ان أذنت لي لقيتهم بمفردي ج 12 ص 193.
(5/313)
شاع انه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة
حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض حظاياه وطرق عليه الخلاء في بعض
الليالي وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة ثم ذبحه وأقام مع الحرم وعلم
أستاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة وأغلق أبواب القصر
وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودودا من قلعة فرح ثم
دخلوا الى غازي وقتلوه ووصل محمود فملكوه ولقبوه معز الدين لقب أبيه
وعمد الى الجواري التي واطأت على قتل أبيه فغرّقهنّ في الدجلة والله
تعالى أعلم.
استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من
أعمال صاحب سنجار وحصاره إياه
كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود وبين ابن عمه نور الدين
ارسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مرّ كثير
من أخبارها ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر
والشام الى نور الدين في ابنته فزوّجها نور الدين من ابنه واستكثر به
وطمح الى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على
ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر وتكون ولاية قطب الدين وهي سنجار ونصيبين
والخابور للعادل وتكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل
فأجاب الى ذلك العادل وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا
ملكها لابنه الّذي هو صهره على ابنته وتحالفا على ذلك وسار العادل سنة
ست وستمائة من دمشق لملك الخابور وراجع نور الدين رأيه فإذا هو قد
تورّط وانه يملك البلاد كما يحب دونه ان وفي له وسار نور الدين الى
الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل وان انتقض نور الدين
عليه سار اليه فاضطرب في أمره وملك العادل الخابور ونصيبين واعتزم قطب
الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن
برتقش مولى أبيه وجهز نور الدين عسكرا مع ابنه القاهر مددا للعادل كما
اتفقا عليه وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه الى مظفر الدين صاحب
اربل يستنجده فأرسل الى العادل شافعا في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور
الدين إياه فغضب مظفر الدين وأرسل الى نور الدين في المساعدة على دفاع
العدوّ فأجاب نور الدين الى ذلك ورجع عن مظاهرة العادل وأرسل هو ومظفر
الدين الى الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب والى كسنجر بن قليج ارسلان
صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما وتداعوا الى قصد بلاد العادل ان لم
يرحل عن سنجار وبعث الخليفة
(5/314)
الناصر أستاذا لدار أبا نصر هبة الله بن
المبارك بن الضحاك والأمير اقناش من خواص مواليه في الإفراج عن سنجار
وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص
والرحبة فإنه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على أن تكون
نصيبين والخابور اللذان ملكهما له وتبقى سنجار لقطب الدين وتحالفوا على
ذلك ورجع العادل الى حرّان ومظفر الدين الى اربل والله تعالى أعلم.
وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية ابنه
القاهر
ثم توفي نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي منتصف
سنة سبع وستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته وكان شهما شجاعا مهيبا عند
أصحابه حسن السياسة لرعيته وجدّد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب
ولما احتضر عهد بالملك لابنه عز الدين مسعود وهو ابن عشرين سنة وأوصاه
أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة وكان
قائما بأمره منذ توفي مجاهد الدين قايمان وأوصى ولده الأصغر عماد الدين
بقلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتها ولفته الى العقر فلما توفي نور
الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعودا ولقبوه القاهر واستقرّ ملك
الموصل أعمالها له وقام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته والبقاء للَّه
وحده.
وفاة القاهر وولاية ابنه نور الدين ارسلان
شاه في كفالة بدر الدين لؤلؤ
لما توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن ارسلان شاه بن مسعود بن مودود
بن الاتابك زنكي صاحب الموصل آخر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وخمسمائة
[1] لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الأكبر نور الدين
ارسلان شاه وعمره عشرون سنة وجعل الوصيّ عليه والمدبر لدولته لؤلؤا كما
كان في دولة القاهر وابنه نور الدين فبايع له وقام بملكه وأرسل الى
الخليفة في التقليد والخلع على العادة فوصلت وبعث الى الملوك في
الأطراف في تجديد العهد كما كان بينهم وبين سلفه وضبط أموره وكان عمه
نور الدين زنكي ارسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان
له فدفعه عن ذلك واستقامت أموره وأحسن السيرة
__________
[1] تاريخ وفاته في (الكامل ج 12 ص 333) هو سنه خمس عشرة وستمائة.
(5/315)
وسمع شكوى المتظلمين وأنصفهم ووصل في تقليد
الخليفة لنور الدين اسناد التتر في أموره لبدر الدين لؤلؤ [1] والله
أعلم.
استيلاء عماد الدين صاحب عقر على قلاع
الهكارية والزوزان
كان عماد الدين زنكي قد ولاه أبوه قلعتي العقر والشوش قريبا من الموصل
وأوصى له بهما وعهد بالملك لابنه الأكبر القاهر فلما توفي القاهر كما
ذكرنا طمح زنكي الى الملك وكان يحدّث به نفسه فلم يحصل له وكان
بالعمادية نائب من موالي جدّه مسعود فداخله في الطاعة له وشعر بذلك بدر
الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب وبعث اليها أميرا أنزله بها وجعل فيها
نائبا من قبله واستبدّ بالنّواب في غيرها وكان نور الدين بن القاهر لا
يزال عليلا لضعف مزاجه وتوالي الأمراض عليه فبقي محتجبا طول المدّة
فأرسل زنكي الى نور الدين بالعمادية يشيع موته ويقول أنا أحق بملك سلفي
فتوهموا صدقة وقبضوا على نائب لؤلؤ ومن معه وسلموا البلد لعماد الدين
زنكي منتصف رمضان سنة خمس عشرة وجهز لؤلؤ العساكر وحاصروه بالعمادية في
فصل الشتاء وكلب البرد وتراكم الثلج ولم يتمكنوا من قتاله وظاهره مظفر
الدين صاحب اربل على شأنه وذكر لؤلؤا بالعهد الّذي بينهما أن لا يتعرّض
لاعمال الموصل والنص فيها على قلاع الهكارية والزوزان وانه مظاهر لهم
على من يتعرّض لها فلج في مظاهرته واعتمد نقض العهد وأقام العسكر
محاصرا لزنكي بالعمادية وتقدموا بعض الليالي وركبوا الاوعار اليه فبرز
اليهم أهل العماديّة وهزموهم في المضايق والشعاب فعادوا الى الموصل
وراسل عماد الدين قلاع الهكارية والزوزان في الطاعة له فأجابوه وملكها
وولىّ عليها والله أعلم.
مظاهرة الأشرف بن العادل للؤلؤ صاحب الموصل
ولما استولى عماد الدين زنكي على قلاع الهكارية والزوزان وظاهره مظفر
الدين صاحب اربل خاف لؤلؤ غائلته فبعث بطاعته الى الأشرف موسى بن
العادل وقد ملك أكثر بلاد الجزيرة وخلاط وأعمالها ويسأله المعاضدة
فأجابه وكان يومئذ بحلب في مدافعة كيكاوس صاحب
__________
[1] هنا عبارة ساقطة وفي الكامل: وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة
لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في امر دولته والتشريفات لهما
أيضا. وأتتهم رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود واستقرت
القواعد لهما.
(5/316)
بلاد الروم عن أعمالها فأرسل الى مظفر
الدين بالنكير عليه فيما فعل من نقضه العهد الّذي كان بينهم جميعا كما
مرّ ويعزم عليه في اعادة ما أخذ من بلاد الموصل ويتوعده ان أصرّ على
مظاهرة زنكي بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين الى ذلك واستألف على أمره
صاحب ماردين وناصر الدين محمودا صاحب كيفا وآمد فوافقوه وفارقوا طاعة
الأشرف في ذلك فبعث الأشرف عساكره الى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج
اليه والله تعالى أعلم.
واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين
ولما عاد عسكر الموصل عن حصار العماديّة خرج زنكي الى قلعة العقر
ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية
وأمده مظفر الدين صاحب اربل بالعساكر وعسكر جند الموصل على أربع فراسخ
من البلد من ناحية العقر ثم اتفقوا على المسير الى زنكي وصبحوه آخر
المحرّم سنة ست عشرة وستمائة وهزموه فلحق بإربل وعاد العسكر الى مكانهم
ووصل رسل الخليفة الناصر والأشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا
وتحالفوا والله تعالى أعلم.
وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية أخيه
ناصر الدين
لما توفي نور الدين ارسلان شاه ابن الملك القاهر كما قدّمناه من سوء
مزاجه واختلاف الأسقام عليه فتوفي قبل كمال الحول ونصب لؤلؤ مكانه أخاه
ناصر الدين محمد بن القاهر في سنّ الثلاث واستحلف له الجند وأركبه في
الموكب فرضي به الناس لما بلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه والله
تعالى ولىّ التوفيق.
هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب
اربل
ولما توفي نور الدين ونصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمدا على صغر سنه
تجدّد الطمع لعماد الدين عمه ولمظفر الدين صاحب اربل في الاستيلاء على
الموصل وتجهزوا لذلك وعاثت سراياه في نواحي الموصل وكذا لؤلؤ قد بعث
ابنه الأكبر في العساكر نجده للملك الأشرف وهو يقصد بلاد الافرنج
بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن امداد إخوانهم بدمياط عن أبيه
(5/317)
الكامل بمصر فبادر لؤلؤ الى عسكر الأشرف
الذين بنصيبين واستدعاهم فجاءوا الى الموصل منتصف سنة عشر وستمائة
وعليهم ايبك مولى الأشرف فاستقلهم لؤلؤ ورآهم مثل عسكره الذين بالشام
أو دونهم وألحّ ايبك على عبور دجلة الى اربل فمنعه أياما فلما أصرّ عبر
لؤلؤ معه ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة وجمع مظفر الدين زنكي
وعبروا [1] الزاب وتقدّم اليهم ايبك في عسكره وأصحاب لؤلؤ وسار منتصف
الليل من رجب وأشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل ولقيهم بالليل
وحمل ايبك على زنكي في المسيرة فهزمه وانهزمت ميسرة لؤلؤ فبقي في نفر
قليل فتقدّم اليه مظفر الدين فهزمه وعبر دجلة الى الموصل وظهر مظفر
الدين على تبريز ثلاثا ثم بلغه أنّ لؤلؤا يريد تبييته فأجفل راجعا
وتردّدت الرسل بينهما فاصطلحا على كل ما بيده والله أعلم.
وفاة صاحب سنجار وولاية ابنه ثم مقتله
وولاية أخيه
ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار
في ثامن صفر سنة ست عشرة وستمائة وكان حسن السيرة مسلما الى نوّابه
وملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه واشتمل الناس عليه فملك شهورا ثم
سار الى تل اعفر فاغتاله أخوه عمر ودخل اليه في جمعة فقتلوه وملك بعده
وبقي مدّة الى أن تسلم منها الأشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة
سبع عشرة وستمائة والله اعلم.
استيلاء عماد الدين على قلعة كواشي ولؤلؤ
على تل أعفر والأشرف على سنجار
كانت كواشي من أحسن قلاع الموصل وأمنعه وأعلاه ولما رأى الجند الذين
بها بعد أهل العماديّة واستبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك وأخرجوا
نواب لؤلؤ عنهم وتمسكوا بإظهار الطاعة على البعد خوفا على رهائنهم
بالموصل ثم استدعوا عماد الدين زنكي وسلموا له القلعة وأقام عندهم وبعث
لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكره العهود التي لم يجز ثلمها بعد فأعرض وأرسل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 345: فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع
عسكره وسار اليهم ومعه زنكي فعبر الزاب، وسبق خبره فسمع بدر الدين فعبى
أصحابه.
(5/318)
إلى الأشرف بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات
إلى حران وكان مظفر الدين صاحب أربل يراسل الملوك بالأطراف ويغريهم
بالأشرف ويخوّفهم غائلته ولما كان بين كيكاوس بن كنجسرو صاحب الروم من
الفتنة ما نذكره في أخباره وسار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك
بناحيته إلى وفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا وآمد وصاحب ماردين فأطاعوه
وخطبوا له في أعمالهم ومات كيكاوس وفي نفس الأشرف منه ومن مظفر الدين
ما في نفسه ولما سار الأشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ راسل مظفر الدين
جماعة من أمرائه مثل أحمد بن علي المشطوب وعز الدين محمد بن بدر
الحميدي وغيرهما واستمالهم ففارقوا الأشرف ونازلوا دبيس تحت ماردين
ليجتمعوا مع ملوك الأطراف لمدافعة الأشرف واستمال الأشرف صاحب آمد
وأعطاه مدينة حالي وجبل حودي ووعده بدارا إذا ملكها فأجاب وفارقهم إليه
واضطرّ آخرون منهم إلى طاعة الأشرف فانحلّ أمرهم وانفرد ابن المشطوب
بمشاقة الأشرف فقصد أربل ومرّ بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار
فأسره صاحبها وكان هواه مع الأشرف ولؤلؤ فصده ابن المشطوب عن رأيه فيهم
حتى أجمع خلافه وأطلقه فجمع المفسدين وقصد البقعاء من أعمال الموصل
فاكتسح نواحيها وعاد ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل وأرصد له لؤلؤ
عسكرا فاعترضوه فهزمه واجتاز بتل أعفر من أعمال صاحب سنجار فأقاموا
عليها وبعثوا إلى لؤلؤ فسار وحاصرها وملكها في ربيع سنة سبع عشرة
وستمائة وأسر ابن المشطوب وجاء به إلى الموصل ثم بعث به إلى الأشرف
فحبسه بحران سنين وهلك في محبسه ولما أطاع صاحب آمد الأشرف رحل من حران
إلى ماردين ونزل دبيس وحاصر ماردين ومعه صاحب آمد وتردّدت الرسل بينه
وبين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس عين وكان الأشرف قد أقطعها له
على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار وأن يعطي لصاحب آمد الورزني بلد [1]
وانعقد الصلح بينهما وارتحل الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل
فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوّضه الأشرف منها
بالرقة بما أدركه من الخوف عند استيلاء لؤلؤ على تل أعفر ونفرة أهل
دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه فأجابه الأشرف وأعطاه الرقة وملك
سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة ورحل عنها بأهله وعشيرته وانقرض
أمر بني زنكي منها بعد أربع وتسعين سنة والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] بياض بالأصل وأخطاء بالأسماء، وفي الكامل ج 12 ص 343: ويأخذ منه
صاحب آمد الموزر من بلد شبختان، فلم تم الصلح سار الأشرف من دنس إلى
نصيبين يريد الموصل.
(5/319)
صلح الأشرف مع مظفر
الدين
ولما ملك الأشرف سنجار سار إلى الموصل ووافاه بها رسل الخليفة الناصر
ومظفر الدين صاحب أربل في الصلح وردّ القلاع المأخوذة من إيالة الموصل
على صاحبها لؤلؤ ما عدي العماديّة فتبقى بيد زنكي وتردّد الحديث في ذلك
شهرين ولم يتمّ فرحل الأشرف بقصد إربل حتى قارب نهر الزاب وكان العسكر
قد ضجروا سوء صاحب آمد مع مظفر الدين فأشار بإجابته إلى ما سأل ووافق
على ذلك أصحاب الأشرف فانعقد الصلح وساق زنكي إلى الأشرف رهينة على ذلك
وسلمت قلعة العقروشوش لنوّاب الأشرف وهما لزنكي رهنا أيضا وعاد الأشرف
إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة وبعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها
وامتنعوا بها واستجار عماد الدين زنكي بشهاب بن العادل فاستعطف له أخاه
الأشرف فأطلقه وردّ عليه قلعتي العقروشوش وصرف نوّابه عنهما وسمع لؤلؤ
الأشرف يميل إلى قلعة تل أعفر وأنها لم تزل لسنجار قديما فبعث إليه
بتسليمها والله تعالى أعلم.
رجوع قلاع الهكارية والزوزان إلى طاعة صاحب
الموصل
لما رأى زنكي أنه ملك قلاع الهكارية والزوزان وساوة فلم يروا عنده ما
ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ مع جنده ورعاياه اعتزموا على مراجعة
طاعة لؤلؤ وطلبوه في الإقطاع فأجابهم واستأذن الأشرف فلم يأذن له وجاء
زنكي من عند الأشرف فحاصر العماديّة ولم يبلغ منها غرضا فأعادوا مراسلة
لؤلؤ فاستأذن الأشرف وأعطاه قلعة جديدة ونصيبين وولاية بين النهرين
وأذن له في تملك القلاع وأرسل نوّابه إليها ووفى لهم بما عاهدهم عليه
وتبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ وانتظم
له ملكها والله تعالى أعلم.
استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس
كانت قلعة شوش وقلعة العقر متجاورتين على اثني عشر فرسخا من الموصل
وكانتا لعماد الدين زنكي بن نور الدين أرسلان شاه بوصية أبيه كما مرّ
وملك معها قلاع الهكارية والزوزان ورجعت إلى الموصل وسار هو سنة تسعة
عشر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه
وأقطع له الإقطاعات وأقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة
(5/320)
شوش فحاصرها وضيق عليها وامتنعت عليه فجمر
العساكر لحصارها وعاد إلى الموصل ثم اشتدّ الحصار بأهلها وانقطعت عنهم
الأسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ ونزلوا له عنها على شروط اشترطوها وقبلها
وبعث نوابه عليها والله تعالى أعلم.
حصار مظفر الدين الموصل
كان الأشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل ودخل لؤلؤ في طاعته
واستولى على خلاط وسائر أرمينية وأقطعها أخاه شهاب الدين غازي ثم جعله
وليّ عهده في سائر أعماله ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازي بأخيه
المعظم صاحب دمشق وبمظفّر الدين كوكبري وتداعوا لحصار الموصل فجمع
أخوهما الكامل عساكره وسار إلى خلاط فحاصرها بعد أن بعث إلى المعظم
صاحب دمشق وتهدّده فأقصر عن مظاهرة أخيه واستنجد غازي مظفر الدين
كوكبري صاحب أربل فسار إلى الموصل وحاصرها ليأخذ بحجزة الأشرف عن خلاط
ونهض المعظم صاحب دمشق لإنجاد أخيه غازي وكان لؤلؤ صاحب الموصل قد
استعدّ للحصار فأقام عليها مظفر الدين عشرا ثم رحل منتصف إحدى وعشرين
لامتناعها عليه ولقيه الخبر بأنّ الأشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم
على ما كان منه.
انتقاض أهل العماديّة على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها
قد تقدّم لنا انتقاض أهل قلعة العماديّة من أعمال الموصل سنة خمس عشرة
ورجوعه إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا على ذلك
مدّة ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة وتجنوا على لؤلؤ بعزل
نوابه فعزلهم مرّة بعد أخرى ثم استبدّ بها أولاد خواجا إبراهيم وأخوه
فيمن تبعهم وأخرجوا من خالفهم وأظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة
اثنتين وعشرين وحاصرهم وقطع الميرة عنهم وبعث عسكر الى قلعة هزوران وقد
كانوا تبعوا أهل العماديّة في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا وملكها ثم
جهز العساكر الى العماديّة مع نائبة أمين الدين وعاد إلى الموصل واستمر
الحصار إلى ذي القعدة من السنة ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال
وأقطاع وعوض عن القلعة وأجاب لؤلؤ إلى ذلك وكان أمين الدين قد وليها
قبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدّون على عهده ومكاتبته وسخط كثير من
أهل البلد فعل أولاد خواجا إبراهيم واستئثارهم بالصلح دونهم فوجد
(5/321)
أولئك البطانة سبيلا إلى التسلط عليهم
ودسوا لأمين الدين أن يبيت البلد ويصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا ونادوا
بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة وملكها أمين الدين وبعث بالخبر الى لؤلؤ
قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا والله سبحانه وتعالى وليّ
التوفيق.
مسير مظفر الدين صاحب أربل إلى أعمال
الموصل وعوده عنها
كان جلال الدين شكري بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أوّل خروجهم سنة سبع
عشرة وستمائة على خوارزم وخراسان وغزنة وفرّ أمامهم إلى الهند ثم رجع
عنها لسنة اثنتين وعشرين واستولى على العراق ثم على أذربيجان وجاور
الأشرف بن العادل في ولايته بخلاط والجزيرة وحدثت بينهما الفتنة وراسله
أعيان الأشرف في الإغراء به مثل مظفر الدين صاحب أربل ومسعود صاحب آمد
وأخيه المعظم صاحب دمشق واتفقوا على ذلك وسار جلال الدين إلى خلاط وسار
مظفر الدين إلى الموصل وانتهى إلى الزاب ينتظر الخبر عن جلال الدين
وسار المعظم صاحب دمشق إلى حمص وحماة وبعث لؤلؤ من الموصل يستنجد
الأشرف فسار إلى حران ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال ماردين وكان جلال الدين
قد بلغه انتقاض نائبة بكرمان فاغذ السير إليه وترك خلاط بعد أن عاث في
أعمالها وفت ذلك في أعضاد الآخرين وعظمت سطوة الأشرف بهم وبعث إليه
أخوه المعظم وقد نازل حمص وحماة يتوعده بمحاصرتهما ومحاصرة مظفر الدين
الموصل فرجع عن ماردين ورجع الآخران عن حمص وحماة والموصل ولحق كل
ببلده والله تعالى أعلم.
مسير التتر في بلاد الموصل وأربل
ولما أوقع التتر بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان وعشرين
وقتلوه ولم يبق لهم مدافع من الملوك ولا ممانع انساحوا في البلاد طولا
وعرضا ودخلوا ديار بكر واكتسحوا سواد آمد وارزن وميافارقين وحاصروا [1]
وملكوها بالأمان ثم استباحوها وساروا إلى
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على اسم المكان
الّذي حاصروه وملكوه.
(5/322)
ماردين فعاثوا في نواحيها ثم دخلوا الجزيرة
واكتسحوا أعمال نصيبين ثم مرّوا إلى سنجار فنهبوها ودخلوا الخابور
واستباحوه وسارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا أعمالها ثم أعمال
أربل وأفحشوا فيها وبرز مظفر الدين في عساكره واستمدّ عساكر الموصل
فبعث بها لؤلؤ إليه ثم عاد التتر عنهم إلى أذربيجان فعاد كل إلى بلاده
والله أعلم.
وفاة مظفر الدين صاحب أربل وعودها إلى
الخليفة
ثم توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك صاحب أربل سنة تسع وعشرين
لأربع وأربعين سنة من ولايته عليها أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف ولم
يكن له ولد فأوصى بأربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه واستولى
عليها وصارت من أعماله والله تعالى أعلم.
بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل
كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان وعشرين على آمد لحقوا بصاحب
الروم كيقباد فاستنجدهم وهلك سنة أربع وثلاثين وستمائة وولي ابنه
كنجسرو فقبض على أميرهم ومرّ الباقون وانتبذوا بأطراف البلاد وكان
الصالح نجم الدين أيوب في حران وكيفا وآمد نائبا عن أبيه الملك العادل
فرأى المصلحة في استضافتهم إليه فاستمالهم واستخدمهم بعد أن أذن أبوه
له في ذلك فلما مات أبوه سنة خمس انتقضوا ولحقوا بالموصل واشتمل عليهم
لؤلؤ وسار معهم فحاصر الصالح بسنجار ثم بعث الصالح إلى الخوارزمية
واستمالهم فرجعوا إلى طاعته على أن يعطيهم حران والرها ينزلون بها
فأعطاهما إياهم وملكوهما ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ وبنو أيوب
يومئذ متفرقون على كراسي الشام وبينهم من الأنفة والفرقة ما نتلو عليك
قصصه في دولتهم ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم وهو ابن مودود بن
العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضا عن دمشق واستولى لؤلؤ على
سنجار من يده سنة سبع وثلاثين ثم حدثت بين صاحب حلب وبين الخوارزمية
فتنة ولجئوا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع
المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره وأسروا ابن أخيه الأفضل
ودخلوا حلب واستباحوها فتحوا منبج وعاثوا فيها وقطعوا الفرات من الرقة
وهم يذهبون وتبعهم عسكر دمشق وحمص فهزموهم وأثخنوا فيهم ولحقوا ببلدهم
حران فسارت إليهم عساكر حلب واستولوا على حران ولحق الخوارزمية بغانة
وبادر لؤلؤ
(5/323)
صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم
ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب وكانت ولايتها بعد وفاة
أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فولي بعدها ابنه
الناصر يوسف ابن العزيز في كفالة مولاه إحيال الخاتوني فلما كانت سنة
ثمان وأربعين وستمائة وقع بين عسكره وبين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل
حرب انهزم فيها لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا ولحق لؤلؤ بحلب
ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى بغداد سنة [1] وملكها وقتل الخليفة
المستعصم واستلحم العلية من بغداد كما مرّ في أخبار الخلفاء ويأتي في
أخبار التتر وتخطي منها إلى أذربيجان فبادر لؤلؤ ووصل إليه بأذربيجان
وآتاه طاعته وعاد إلى الموصل والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
وفاة صاحب الموصل وولاية ابنه الصالح
ثم توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين وستمائة وكان يلقب
الملك الرحيم وملك بعده على الموصل ابنه الصالح إسماعيل وعلى سنجار
ابنه المظفر علاء الدين علي وعلى جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد إسحاق
وأبقاهم هلاكو عليها مدّة ثم أخذها منهم ولحقوا بمصر فنزلوا على الملك
الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره وسار هلاكو إلى الشام فملكها وانقرضت
دولة الأتابك زنكي وبينه ومواليه من الشام والجزيرة أجمع كان لم تكن
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء للَّه تعالى وحده
والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل وقد ذكر أبو الفداء في أخبار البشر هذا الحدث في
العشرين من محرم سنة ست وخمسين وستمائة.
(5/324)
دولة بني أيوب
الخبر عن دولة بني أيوب القائمين بالدولة العباسية وما كان لهم من
الملك بمصر والشام واليمن والمغرب وأولية ذلك ومصايره هذه الدولة من
فروع دولة بني زنكي كما تراه وجدهم هو أيوب بن شادي بن مروان بن علي
ابن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن
الحرث بن سنان بن عمر بن مرّة بن عوف الحميري الدوسيّ هكذا نسبه بعض
المؤرخين لدولتهم قال ابن الأثير أنهم من الأكراد الرواية وقال ابن
خلكان شادي أبوهم من أعيان درين وكان صاحبه بها بهروز فأصابه خصي من
بعض أمرائه وفرّ حياء من المثلة فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن
ملك شاه وتعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه
مقامه فظهرت كفايته وعلا في الدولة محله فبعث عن شادي بن مروان صاحبه
لما بينهما من الألفة وأكيد الصحبة فقدم عليه ثم ولى السلطان بهروز
شحنة بغداد فسار إليها واستصحب شادي معه ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت
فولى عليها شادي فهلك وهو وال عليها وولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين
أيوب وهو أكبر من أسد الدين شيركوه فلم يزل واليا عليها ولما زحف عماد
الدين زنكي صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين
وخمسمائة وانهزم الأتابك وانكفأ راجعا إلى الموصل ومرّ بتكريت قام نجم
الدين بعلوفته وازواده وعقد له الجسور على دجلة وسهل له عبورها ثم أن
شيركوه أصاب دما في تكريت ولم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز وأخرجهما
من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن إليهما وأقطعهما ثم ملك
بعلبكّ سنة اثنتين وثلاثين جعله نائبا ولم يزل بها أيوب ولما مات عماد
الدين زنكي سنة إحدى وأربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى
بعلبكّ وحاصرها واستنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الإقطاع وأقام
معه بدمشق وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكي وأقطعه حمص والرحبة
لاستطاعته وكفايته وجعله مقدّم عساكره ولما صرف نظره إلى الاستيلاء على
دمشق واعتزم على مداخلة أهلها كان ذلك على يد شيركوه وبمكاتبته لأخيه
أيوب وهو بدمشق فتم ذلك على أيديهما وبمحاولتهما وملكها سنة تسع
وأربعين وخمسمائة وكانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدّتها وذهب
استفحالها واستبدّ وزراؤها على خلفائها فلم يكن الخلفاء يملكون معهم
وطمع الإفرنج في سواحلهم وأمصارهم لما نالهم من الهرم والوهن فمالوا
عليهم وانتزعوا البلاد من
(5/326)
أيديهم وكانوا يردون عليهم كرسي خلافتهم
بالقاهرة ووضعوا عليهم الجزية وهم يتجرّعون المصاب من ذلك ويتحملونه مع
بقاء أمرهم كاد الأتابك زنكي وقومه السلجوقية من قبله أن يمحو دعوتهم
ويذهبوا بدولتهم وأقاموا من ذلك على مضض وقلق وجاء الله بدعوة العاضد
آخرهم وتغلب عليه بعد الصالح بن رزيك شاور السعدي وقتل رزيك بن صالح
سنة ثمان وخمسين واستبدّ على العاضد ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من
ولايته وغلبه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام ولحق بنور الدين صريخا سنة
تسع وخمسين وشرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر على أن يبعث معه
عسكرا يقيمون بها فأجابه إلى ذلك وبعث أسد الدين شيركوه في العساكر
فقتل الضرغام ورد شاور إلى رتبته وآل أمرهم إلى محو الدولة العلوية
وانتظام مصر وأعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكي
ويخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمود واستبدّ صلاح الدين
بأمره في مصر ثم غلب على بني نور الدين محمود وملك الشام من أيديهم
وكثر عيث ابن عمهم مودود واستفحل ملكه وعظمت دولة بنيه من بعده إلى أن
انقرضوا والبقاء للَّه وحده.
مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر وإعادة شاور
إلى وزارته
لما اعتزم نور الدين محمود صاحب الشام على صريخ شاور وإرسال العساكر
معه واختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي وكان من أكبر أمرائه
فاستدعاه من حمص وكان أميرا عليها وهي أقطاعه وجمع له العساكر وأزاح
عللهم وفصل بهم شيركوه من دمشق في جمادى سنة تسع وخمسين وسار نور الدين
بالعساكر إلى بلاد الإفرنج ليأخذ بحجزتهم عن اعتراضه أو صدّه لما كان
بينهم وبين صاحب مصر من الألفة والتظاهر ولما وصل أسد الدين بلبيس لقيه
هنالك ناصر الدين أخو الضرغام وقاتله فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوما
وخرج الضرغام منسلخ جمادى الأخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله
عنها وقتل أخوه وأعاد شاور إلى وزارته وتمكن فيها وصرف أسد الدين إلى
بلده وأعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء فلم يجب إليه
فتغلب أسد الدين على بلبيس والبلاد الشرقية وبعث شاور إلى الإفرنج
يستنجدهم ويعدهم فبادروا إلى إجابته وسار بهم ملكهم مري لخوفهم أن يملك
أسد الدين مصر واستعانوا بجمع من الإفرنج جاءوا الزيارة القدس وسار نور
الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك وطمعوا لعزمهم وزرأ أسد الدين إلى
بلبيس واجتمعت العساكر المصرية والإفرنج عليه وحاصروه ثلاثة أشهر وهو
يغاديهم القتال ويراوحهم وامتنع عليهم وقصاراهم
(5/327)
منع الأخبار عنه واستنفر نور الدين ملوك
الجزيرة وديار بكر وقصر حارم وسار الإفرنج لمدافعته فهزمهم وأثخن فيهم
وأسر صاحب أنطاكية وطرابلس وفتح حارم قريبا من حلب ثم سار إلى بانياس
قريبا من دمشق ففتحها كما مرّ في أخبار نور الدين وبلغ الخبر بذلك إلى
الإفرنج وهم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم وطووا الخبر
عنه وراسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشام فصالحهم وعاد إلى الشام في
ذي الحجة من السنة والله تعالى أعلم.
مسير أسد الدين ثانيا إلى مصر وملكه
لإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده
ولما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه مما كان من غدر شاور وبقي
يشحن لغزوهم إلى سنة اثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين
جماعة من الأمراء واكثف له العسكر خوفا على حامية الإسلام وسار أسد
الدين إلى مصر وانتهى إلى أطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية ونزل
الجيزة وأقام نحوا من خمسين يوما وبعث شاور إلى الإفرنج يستمدّهم على
العادة وعلى مالهم من التخوّف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه
فسارعوا إلى مصر وعبروا مع عساكرها إلى الجيزة وقد ارتحل عنها أسد
الدين إلى الصعيد وانتهى منها إلى [1] وأتبعوه وأدركوه بها منتصف
اثنتين وستين ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه
فاستشارهم فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى
الشام وأبى زعماؤهم إلا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين
وتقدّم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في
القلب وأوصاه أن يندفع أمامهم ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته
وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم أسد
الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلا وأسرا ورجعوا عن صلاح
الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم
واستباحة فانهزموا إلى مصر وسار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها
بالطاعة واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه
وفرّق العمال على جباية أمواله ووصلت عساكر مصر والإفرنج إلى القاهرة
وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية فحاصروا
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الكامل ج 11 ص 345: وكان أسد الدين وعساكره قد
ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين.
(5/328)
بها صلاح الدين وجهده الحصار وسار أسد
الدين من الصعيد لإمداده وقد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره
وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم
الاسكندرية ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد
فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم ولا يملكوا من البلاد
قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوّال وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشام
منتصف ذي القعدة ثم شرط الإفرنج على شاور أن ينزلوا بالقاهرة شحنة
وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة
ألف دينار في كلّ سنة جزية فقبل ذلك وعاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل
الشام وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور
الدين بطاعته وان يبث بمصر دعوته وقرر على نفسه ما لا يحمل كلّ سنة إلى
نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقي شيعة له بمصر والله تعالى أعلم.
استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور
ولما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة ومصر وأنزلوا بها الشحنة وملكوا
أبوابها تمكنوا من البلاد وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا
وأطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا
بذلك ملكهم بالشام واسمه مري ولم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله
فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم واستحثه أصحابه لملكها وما زالوا
يفتلون له في الذروة والغارب ويوهمونه القوّة بتملكها على نور الدين
ويريهم هو أن ذلك يؤل إلى خروج أصحابها عنها النور الدين فبقي بها إلى
أن غلبوا عليه فرجع إلى رأيهم وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره
واستنفر من في ثغوره وسار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا
بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا
مكاتبتهم وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة وأمر شاور بإحراق مدينة مصر
لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحصار فانتقلوا وأخذهم الحريق وامتدّت
الأيدي وانتهبت أموالهم واتصل الحريق فيها شهرين وبعث العاضد إلى نور
الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتدّ الحصار على
القاهرة وضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه وأنّ هواه
معه دون العاضد ونور الدين ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين
مما سوى ذلك فأجابه ملك الإفرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع
القاهرة وبعث إليهم شاور بمائة ألف منها وسألهم في الإفراج فارتحلوا
وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل
(5/329)
العاضد خلال ذلك تردّد إلى نور الدين في أن
يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه وثلث الجباية خالصة
لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار
وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والأسلحة وحكمه في العساكر
والخزائن ونقد العسكر عشرين دينارا لكل فارس وبعث معه من أمرائه مولاه
عز الدين خردك وعز الدين قليج وشرف الدين ترعش [1] وعز الدولة الباروقي
وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وأمدّ صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه
أسد الدين فتعلل عليه واعتزم عليه فأجاب وسار أسد الدين منتصف ربيع
فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسرّ بذلك نور الدين وأقام عليه
البشائر في الشام ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الأخيرة
ونزل بظاهرها ولقي العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات
والاتاوات وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم وشاور يماطله ويعلله بالمواعيد
ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه
الكامل من ذلك فأقصر ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور وتفاوض
أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين مع ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل
شاور وأسد الدين ينهاهم وغدا شاور يوما على أسد الدين في خيامه فألقاه
قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه فتلقاه صلاح
الدين وخردك وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم وطيروا
بالخبر إلى أسد الدين وبعث العاضد لوقته يحرّضهم على قتله فبعثوا إليه
برأسه وأمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامّة وجاء أسد الدين لقصر
العاضد فخلع عليه الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وخرج له من
القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني وعليه مكتوب بخط الخليفة
ما نصه:
«هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا
لحملة وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير
المؤمنين بقوّة وأسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة
واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد
جعلتم الله عليكم كفيلا» . ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان
فيها شاور وجلس مجلس الأمر والنهي وولى على الأعمال وأقطع البلاد
للعساكر وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمّها وعمارتها وكاتب نور
الدين بالواقع مفصلا وانتصب للأمور ثم دخل للعاضد وخطب الأستاذ جوهر
الخصي عنه وهو يومئذ أكبر الأساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك
عندنا من أوّل قدومك وأنت تعلم الواقع من ذلك وقد تيقنا أن الله عز وجل
أدّخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة وإظهار
الدولة فقال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مرعش.
(5/330)
الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا وأكثر ثم
جدّدت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوي وكان قاضي القضاة
وداعي الدعاة واستحسنه واختصه وأمّا الكامل بن شاور فدخل القصر مع
إخوته معتصمين به وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه
في ردّ أبيه وذهب كل بما كسب والله تعالى أعلم.
وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين
ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادى الأخيرة من سنة أربع وستين لشهرين
من وزارته ولما احتضر أوصى حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد
للَّه الّذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا وصار أهلها راضين عنا فلا
تفارقوا سور القاهرة ولا تفرّطوا في الأسطول ولما توفي تشوّف الأمراء
الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي وشرف الدين
المشطوب الهكاري وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وشهاب الدين الحارمي
وهو خال صلاح الدين وجمع كل لمغالبة صاحبه وكان أهل القصر وخواص الدولة
قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة واصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر
الغز يقودهم قراقوش ويعطي لهم الشرقية إقطاعا ينزلون بها حشدا دون
الإفرنج [1] من يستبدّ على الخليفة بل يقيم واسطة بينه وبين الناس على
العادة وأشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له ومال
القاضي لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحا إلى صغر سنه وأنه لا يتوهم فيه
من الاستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه وأنهم في سعة من رأيهم مع
ولايته فاستدعاه وخلع عليه ولقبه الملك الناصر واختلف عليه أصحابه فلم
يطيعوه وكان عيسى الهكاري شيعة له واستمالهم إليه إلا الباروقي فإنه
امتنع وعاد إلى نور الدين بالشام وثبتت قدم صلاح الدين في مصر وكان
نائبا عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسار ويجمعه في
الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية وما زال صلاح الدين يحسن
المباشرة ويستميل الناس ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس وضعف أمر
العاضد ثم أرسل يطلب إخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام
واستقامت أموره وأطردت سعادته والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه
العبارة.
(5/331)
واقعة السودان بمصر
كان بقصر العاضد خصىّ حاكم على أهل القصر يدعي مؤتمن الخلافة فلما غص
أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم وكاتب الإفرنج يستدعيهم
ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه ثم يتبعونه وقد ناشب
الإفرنج فيأتون عليه وبعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في [1] نعاله
فاعترضه بعض التركمان واستلبه ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاءوا
به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر
فطوي ذلك وانتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزها وبعث من
جاء برأسه ومنع الخصيين بالقصر عن ولاية أموره وقدّم عليهم بهاء الدين
قراقوش خصيا أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الأمور بالقصر وامتعض السودان
بمصر لمؤتمن الخلافة واجتمعوا لحرب صلاح الدين وبلغوا خمسة آلاف
وناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة وبعث إلى محلتهم
بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم فلما سمعوا بذلك انهزموا
وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس
الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله
أعلم.
منازلة الإفرنج دمياط وفتح ايلة
ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الإفرنج أسفوا على ما
فاتهم من صدّه وصدّ عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين
عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والأقسة إلى بلاد القرانية يدعونهم الى
المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الإفرنج بصقلية والأندلس يستنجدونهم
فنفروا واستعدّوا لإمدادهم واجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس
وستين وثلاثمائة وركبوا في ألف من الأساطيل وأرسلوا لدمياط ليملكوها
ويقربوا من مصر وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه
بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز في البرّ متتابعين
وواصل المراكب بالأسلحة والإتاوات وخاطب نور الدين يستمدّه لدمياط لأنه
لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين
إليها العساكر أرسالا ثم سار
__________
[1] بياض بالأصل: في الكامل ج 11 ص 345 وسيروا الكتب مع إنسان يثقون
إليه وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد الى البئر البيضاء فلقيه
إنسان تركمانيّ فرأى معه نعلين جديدين فأخذهما منه، وارتاب به وبهما
فأتى به صلاح الدين ففتقهما فرأى الكتاب فيهما فقرأه وسكت عليه.
(5/332)
بنفسه وخالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل
الشام فاستباحها وخربها وبلغهم الخبر بذلك على دمياط وقد امتنعت عليهم
ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوما من حصارها ورجع أهل سواحل
الشام لبلادهم فوجدوها خرابا وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد
لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب والأسلحة
وغيرها ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه
أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر واجتمع معهم من التجار جماعة
وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى
الكرك وحاصرهم بها وجمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار
في وسط بلادهم وسار إلى عشيرا ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر وركب العاضد
لتلقيه ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الإفرنج وأغار على
أعمال عسقلان والرملة ونهب ربط غزة ولقي ملك الإفرنج فهزمه وعاد إلى
مصر ثم أنشأ مراكب وحملها مفصلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في
البحر وحاصر أيلة برّا وبحرا وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة
واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا فيها
وولّى في جميع البلاد كذلك ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه الى
الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاثوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله
تعالى أعلم.
إقامة الخطبة العباسية بمصر
ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيء العباسي وترك الخطبة للعاضد
بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويّين وفي باطن الأمر خشي من نور
الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك ولم تسعه مخالفته وأحجم عن
القيام بذلك وورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني
ويلقب بالأمير العالم فلما رآهم محجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة
قبل الخطيب ودعي للمستضيء فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين
الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضيء فتراسلوا
بذلك ثاني جمعة من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة وكان المستضيء قد
ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها ولما خطب له
بمصر كان العاضد مريضا فلم يشعروه بذلك وتوفي يوم عاشوراء من السنة
ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره
ووكل به بهاء الدين قراقوش وكان فيه من الذخائر ما يعز وجوده مثل حبل
الياقوت الّذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالا ومصاف الزمرد الّذي
طوله أربعة أصابع طولا
(5/333)
في عرض ومثل طبل القولنج الّذي يضربه ضاربه
فيعافى بذلك من داء القولنج وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم
منفعته ندموا عليه ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعدّ ونقل أهل العاضد
إلى بعض حجر القصر ووكل بهم وإخراج الإماء والعبيد وقسمهم بين البيع
والهبة والعتق وكان العاضد لما اشتدّ مرضه استدعاه فلم يجب داعيه وظنها
خديعة فلما توفي ندم وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على
طبعه والانقياد ولما وصل الخبر إلى بغداد بالخطبة للمستضيء ضربت
البشائر وزينت بغداد أياما وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل
الخادم من خواص المقتفي فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع
الخطباء بمصر والأعلام السود والله تعالى أعلم.
الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين
قد كان تقدّم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة وأنّ صلاح
الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع وستين وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من
الكرك حتى استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد
الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين
وإظهار طاعته وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر واعتذر
لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتزله نور الدين وأخذ في
الاستعداد لعزله وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته
ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه
غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين
وعادت المخالطة بينهما كما كانت واتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار
صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين وخرج نور الدين من دمشق بعد أن تجهز
فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك وبلغ صلاح الدين خبره
ارتاب به ثانيا وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكرّ راجعا وأرسل
إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه وأنه
رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول وعاد إلى دمشق والله تعالى أعلم.
وفاة نجم الدين أيوب
كان نجم الدين أيوب بعد انصراف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند
نور الدين
(5/334)
ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عند ما استوثق
له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره وسار لحصار الكرك
ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مرّ ذكره ووصل إلى مصر وخرج العاضد
لتلقيه وأقام مكرما ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرّة
الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر وركب يوما في مركب
وسار ظاهر البلد والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه وحمل
وقيذا إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة وكان خيرا جواد
محسنا للعلماء والفقراء وقد تقدّم ذكر أوليته والله وليّ التوفيق.
استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب
كان قراقوش من موالي تقيّ الدين عمر بن شاه نجم الدين أيوب وهو ابن أخي
صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات وذهب مغاضبا إلى المغرب ولحق
بجبل نفوسه من ضواحي طرابلس الغرب وأقام هنالك دعوة مواليه وكان في
بسائط تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من
عرب هلال بن عامر كان منحرفا عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة
المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وإفريقية إلى تلك القاصية
فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه ونزل معه بأحيائه
على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها ثم
استولى على قابس من ورائها وعلى توزر ونفطة وبلاد نفراوة من إفريقية
وجمع أموالا جمة وجعل ذخيرته بمدينة قابس وخربت تلك البلاد أثناء ذلك
باستيلاء العرب عليها ولم يكن لهم قدرة على منعهم ثم طمع في الاستيلاء
على جميع إفريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتوني الثائر بتلك
الناحية بدعوة لمتونة من بقية الأمراء في دولتهم فكانت لهما بتلك
الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على
ما ملك من تلك البلاد وقتله كما هو مذكور في أخبارهم والله أعلم.
استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على
بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن
كان صلاح الدين وقومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين وظنهم به الظنون
يحاولون ملك
(5/335)
القاصية عن مصر ليمتنعوا بها أن طرقهم منه
حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد
النوبة أو بلاد اليمن وتجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب وهو أخو صلاح
الدين الأكبر إلى ملك النوبة وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين
وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجا ولا في البلاد
بأسرها جباية وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن فاقتصر
على ما فتحه من ثغورهم وعاد في غنيته بالعبدى والجواري فلما وصل إلى
مصر أقام بها قليلا وبعثه صلاح الدين إلى اليمن وقد كان غلب عليه علي
بن مهدي الخارجي سنة أربع وخمسين وصار أمره إلى ابنه عبد النبي وكرسي
ملكه زبيد منها وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع وكان عمارة
اليمنى شاعر العبيدي وصاحب بني رزيك من أمرائهم وكان أصله من اليمن
وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد أن تجهز
وأزاح العلل واستعدّ للمال والعيال وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين
ومرّ بمكة وانتهى إلى زبيد وبها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي
فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد وزحفت عساكر شمس الدولة فتسنموا
أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها وأسروا عبد النبي وزوجته وولّى شمس
الدولة على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزركان في جملته ودفع
إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قرابته دفائن كانت فيها
أموال جليلة ودلتهم زوجته الحرّة على ودائع استولوا منها على أموال جمة
وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد وسار شمس الدولة توران شاه الى عدن
وبها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبدّا بها على مواليه بني
الزريع وورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة وسارت
عساكره الى البلد فملكوها وجاءوا بياسر أسيرا إلى شمس الدولة فدخل عدن
وعبد النبي معه في الاعتقال واستولى على نواحيها وعاد الى زبيد ثم سار
إلى حصون الجبال فملك تعز وهي من أحصن القلاع وحصن التعكر والجند
وغيرها من المعاقل والحصون وولّى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي
واتخذ زبيد سببا لملكه ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير
مكانا صحيح الهواء للسكنى فوقع اختيارهم على تعز فاختط هنالك مدينة
واتخذها كرسيا لملكه وبقيت لبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكره في
أخبارهم والله تعالى وليّ التوفيق.
واقعة عمارة ومقتله
كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني
الشاعر وعبد الصمد
(5/336)
الكاتب والقاضي العويدس وابن كامل وداعي
الدعاة وجماعة من الجند وحاشية القصر اتفقوا على استدعاء الإفرنج من
صقلّيّة وسواحل الشام وبذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصرفان خرج
صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة وأعادوا الدولة
العبيدية وإلا فلا بدّ له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج
فينفردون به ويقبضون عليه وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين
وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن وثقوا بأنفسهم وصدقوا
توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها وتنازع في الوزارة بنو رزيك وبنو
شاور وكان على بن نجيّ الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو
في الباطن إليهم ونمى الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج
فوضع على الرسول عنده عيونا جاءوه بحلية خبره فقبض حينئذ عليهم وقيل
إنّ علي بن نجيّ أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين ولما قبض
عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم ومرّ عمارة ببيت القاضي وطلب لقاءه فلم
يسعفه وأنشد البيت المشهور
عبد الرحيم قد احتجب ... أنّ الخلاص هو العجب
ثم صلبوا جميعا ونودي في شيعة العلويين بالخروج من ديار مصر إلى الصعيد
واحتيط على سلالة العاضد بالقصر وجاء الافرنج على ذلك من صقلّيّة إلى
الإسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
وصول الإفرنج من صقلّيّة إلى الإسكندرية
لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا وبعثوا مراكبهم
مائتي أسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل وألفان وخمسمائة فارس وثلاثون
مركبا للخيول وستة مراكب لآلة الحرب وأربعون للازواد وتقدّم عليهم ابن
عمّ الملك صاحب صقلّيّة ووصلوا إلى ساحل الإسكندرية سنة سبعين وركب أهل
البلد الأسوار وقاتلهم الإفرنج ونصبوا الآلات عليها وطار الخبر إلى
صلاح الدين بمصر ووصلت الأمراء إلى الإسكندرية من كل جانب من نواحيها
وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم ثم جاءهم البشير
آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام
فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا
بين القتل والغرق ولم ينج إلا القليل واعتصم منهم نحو من ثلاثمائة برأس
رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون وأقلعوا بأساطيلهم
راجعين والله تعالى أعلم
.
(5/337)
واقعة كنز الدولة
بالصعيد
كان أمير العرب بنواحي أسوان يلقب كنز الدولة وكان شيعة للعلوية بمصر
وطالت أيامه واشتهر ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد اقطاعا بين أمرائه
وكان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز
الدولة سنة سبعين واجتمع اليه العرب والسودان وهجم على أخي أبي الهيجاء
السمين في اقطاعه فقتله وكان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح
الدين لقتال الكنز وبعث معه جماعة من الأمراء والتف له الجند فساروا
الى أسوان ومرّوا بصدد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم ثم
ساروا الى الكنز فقاتلوه وهزموه وقتل واستلحم جميع أصحابه وأمنت بلاد
أسوان والصعيد والله تعالى ولىّ التوفيق.
استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد
وفاة العادل نور الدين
كان صلاح الدين كما قدّمناه قائما في مصر بطاعة العادل نور الدين محمود
بن زنكي ولما توفي سنة تسع وستين ونصب ابنه الصالح إسماعيل في كفالة
شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدّم وبعث اليه صلاح الدين بطاعته ونقم
عليهم انهم لم يردوا الأمر اليه وسار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين
مودود بن زنكي الى بلاد نور الدين التي بالجزيرة وهي نصيبين والخابور
وحران والرها والرقة فملكها ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى
يدافعه عن بلادهم وكان الخادم سعد الدين كمستكين الّذي ولاه نور الدين
قلعة الموصل وأمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور
الدين بحلب وأقام بها عند شمس الدين علي ابن الداية المستبدّ بها بعد
نور الدين فبعثه ابن الداية الى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح الى
حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أوّلا وطردوه ثم رجعوا الى هذا
الرأي وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح الى حلب ولحين دخوله قبض على
ابن الداية وعلى مقدمي حلب واستبدّ بكفالة الصالح وخاف الأمراء بدمشق
وبعثوا الى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه وامتنع
عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق الى صلاح
الدين وتولى كبر ذلك ابن المقدّم فبادر الى الشام وملك بصرى ثم سار الى
دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة ونزل دار أبيه المعروفة
بالعفيفي وبعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوريّ الى ريحان الخادم
بالقلعة انه
(5/338)
على طاعة الملك الصالح وفي خدمته وما جاء
الا لنصرته فسلم اليه القلعة وملكها واستخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام
طغركين وسار الى حمص وبها وال من قبل الأمير مسعود الزعفرانيّ وكانت من
أعماله فقاتلها وملكها وجمر عسكرا لقتال قلعتها وسار الى حماة مظهرا
لطاعة الملك لصالح وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة وبعث بذلك الى
صاحب قلعتها خرديك واستخلفه وسار الى الملك الصالح ليجمع الكلمة ويطلق
أولاد الداية واستخلف على قلعة حماة أخاه ولما وصل الى حلب حبسه
كمستكين الخادم ووصل الخبر الى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين
وسار الى حلب فحاصرها ثالث جمادى الاخيرة واستمات أهلها في المدافعة عن
الصالح وكان بحلب سمند صاحب طرابلس من الافرنج محبوسا منذ أسره نور
الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده
وتوفي نور الدين أوّل السنة وخلف ابنا مجذوما فكفله سمند واستولى على
ملكهم فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين الى سمند يستنجده فسار الى
حمص ونزلها فسار اليه صلاح الدين وترك حلب وسمع الافرنج بمسيره فرحلوا
عن خمص ووصل هو اليها عاشر رجب فحاصر قلعتها وملكها آخر شعبان من السنة
ثم سار الى بعلبكّ وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى
استأمن اليه وملكها رابع رمضان من السنة وصار بيده من الشام دمشق وحماة
وبعلبكّ ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح
كتب الصالح الى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح
الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود وصاحب جيشه عز الدين
زلقندار وسارت معهم عساكر حلب وساروا جميعا لمحاربة صلاح الدين وبعث
صلاح الدين الى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص وحماة ويبقى بدمشق
نائبا عن الصالح فأبي الا رد جميعها فسار صلاح الدين الى العساكر
ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم واتبعهم الى حلب وحاصرها وقطع
خطبة الصالح ثم صالحوه على ما بيده من الشام فأجابهم ورحل عن حلب
لعشرين من شوّال وعاد الى حماة وكان فخر الدين مسعود بن الزعفرانيّ من
الأمراء النورية وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد
والرها فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه
فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب الى حماة سار الى بعلبكّ واستأمن اليه
واليها فملكها وعاد الى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود وأقطع حمص
ناصر الدولة بن شيركوه وأقطع بعلبكّ شمس الدين ابن المقدّم ودمشق الى
عماد والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وكرمه
.
(5/339)
واقعة صلاح الدين مع
الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشام بعد انهزامهما
ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة احدى وسبعين بعد انهزام أخيه
وعساكره واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى
الى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام
وسار الى حلب فخرجت اليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم وسار
صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم الى حلب
وعبر سيف الدين الفرات منهزما الى الموصل وترك أخاه عز الدين بحلب
واستولى صلاح الدين على مخلفهم وسار الى مراغة فملكها وولىّ عليها ثم
الى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنجبي وكان حنقا عليه لقبح
آثاره في عداوته فلحق بالموصل وولاه غازي مدينة الرقة ثم سار صلاح
الدين الى قلعة إعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوما
وشدّ حصارها فاستأمنوا اليه فملكها ثاني الأضحى من السنة وثب عليه في
بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه وكان مسلحا فأمسك يد الفداوي
حتى قتل وقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على
قلعة إعزاز الى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واعصوصب عليه أهل البلد
واستماتوا في المدافعة عنه ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب
الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد بينهم في محرم سنة اثنتين وتسعين
وعاد صلاح الدين الى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز الى الملك الصالح
بوسيلة أخته الصغيرة خرجت الى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز
فوهبها لها والله تعالى أعلم.
مسير صلاح الدين الى بلاد الإسماعيلية
ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما
وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصرها قلعة
باميان ونصب عليها المجانيق وبعث سنان مقدّم الإسماعيلية بالشام الى
شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده
بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم وقدم عليه أخوه توران شاه من
اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وامصاره فاستخلفه صلاح
الدين على دمشق وسار الى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان
بن محمد ولما وصل
(5/340)
اليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة
والقلعة التي بالجبل دوره تسعة وعشرون ألف ذراع ثلاثمائة ذراع
بالهاشميّ واتصل العمل فيه الى أن مات صلاح الدين وكان متولي النظر فيه
مولاه قراقوش والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه.
غزوات بين المسلمين والافرنج
كان شمس الدين محمد ابن المقدم صاحب بعلبكّ وأغار جمع من الافرنج على
البقاع من أعمال حلب فسار اليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك
فيهم وبعث الى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة
توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أنّ جمعا من الافرنج أغاروا على
أعمال دمشق فسار اليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين
أبو بكر بن السلار من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الافرنج على تلك
الولاية ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الافرنج فبعثوا في الهدنة
وأجابهم اليها وعقد لهم والله تعالى ولىّ التوفيق.
هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الافرنج
ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين الى ساحل
الشام لغزو بلاد الافرنج وانتهى الى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا
للافرنج خبرا فانساحوا في البلاد وانقلبوا الى الرملة فما راعهم الا
الافرنج مقبلين في جموعهم وإبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في
السرايا فثبت في موقفه واشتدّ القتال وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في
المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه
أحمد متكامل الخلال لم يطرّ شاربه فابلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة
على المسلمين وكان بعض الافرنج تخلصوا الى صلاح الدين فقتل بين يديه
وعاد منهزما واسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديدا
وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل ثم دخل البرية في فلّ قليل الى مصر
ولحقهم الجهد والعطش ودخل الى القاهرة منتصف جمادى الاخيرة قال ابن
الأثير ورأيت كتابه الى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة
ذكرتك والخطيّ يخطر بيننا ... وقد فتكت فينا المثقفة السمر
ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرّة وما نجانا الله سبحانه منه
الا لأمر يريده وما ثبتت الا وفي نفسها أمر انتهى وأما السرايا التي
دخلت بلاد الافرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما
(5/341)
الفقيه عيسى الهكاري فلما ولىّ منهزما ومعه
أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا وفداه صلاح
الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم.
حصار الافرنج مدينة حماة
ثم وصل في جمادى الاولى الى ساحل الشام زعيم من طواغيت الافرنج وقارن
وصوله هزيمة صلاح الدين وعاد الى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة
من العسكر وهو مع ذلك منهمك في لذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج
الشام وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين محمود الحارمي
خال صلاح الدين مريضا وشدّ حصارها وقتالها حتى أشرف على أخذها وهجموا
يوما على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا
حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا الى حارم فحاصروها ولما
رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي ولم يزل الافرنج على حارم
يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمشتكين
الخادم كافل دولته ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها ثم عاد الافرنج الى
مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا
أعمالها وخرج العسكر حامية البلد اليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من
السواد وبعثوا بالرءوس والأسرى الى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلبا من
الشام فأمر بقتل الأسرى والله تعالى ولي التوفيق.
انتقاض ابن المقدم ببعلبكّ وفتحها
كان صلاح الدين لما ملك بعلبكّ استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد
الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو
صلاح الدين ناشئا في ظل أخيه وكفالته فكان يميل اليه وطلب منه أقطاع
بعلبكّ فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى وذكره عهده في أمر دمشق فسار
ابن المقدم الى بعلبكّ وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى
بعث الى صلاح الدين يطلب العوض فعوّضه عنها وسار أخوه شمس الدين اليها
فملكها والله تعالى ولىّ التوفيق
.
(5/342)
وقائع مع الافرنج
وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الافرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال
دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلا وسبيا وأرسل صلاح الدين فرخ شاه ابن
أخيه في العسكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد
القتال ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الافرنج منهم هنغري
وكان يضرب به المثل ثم أغار البرنس صاحب انطاكية واللاذقية على صرح
المسلمين بشيرز وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الافرنج بمخاضة
الإضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد الى حمص
لحماية البلد من العدو كما نذكره ان شاء الله تعالى.
تخريب حصن الافرنج
كان الافرنج قد اتخذوا حصنا منيعا بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه
السلام ويسمي مكانه مخاضة الإضرار فسار صلاح الدين من دمشق الى بانياس
سنة خمس وسبعين وأقام بها وبعث فيها الغارات على بلادهم ثم سار الى
الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه الى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد
الافرنج للغارة وجاء ملك الافرنج للغارة على سريته ومعه جماعة من
عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الافرنج
وأثخن فيهم ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف
ملكهم وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاساتارية
وغيرهم من طواغيتهم وفادى صاحب الرملة نفسه وهو ارتيرزان بمائة وخمسين
ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين وأبلى في هذا اليوم عز الدين
فرخ شاه ابن أخي صلاح الدين بلاء حسنا ثم عاد صلاح الدين الى بانياس
وبث السرايا في بلاد الافرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالا شديدا
وتسنم المسلمون سوره حتى ملكوا برجا منه وكان مدد الافرنج بطبرية
والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه
النار فسقط وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا
كل من فيه وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فالحق بالأرض وبلغ الخبر الى
الإفرنج وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج والله
سبحانه وتعالى أعلم
.
(5/343)
الفتنة بين صلاح
الدين وقليج ارسلان صاحب الروم
كان حصن رعبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج ارسلان
صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم فلما انقطع حصن رعبان عن
ايالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج ارسلان في استرجاعه فبعث اليه
عسكرا يحاصرونه وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم
فلقيهم وهزمهم وعاد الى عمه صلاح الدين ولم يحضر معه تخريب حصن الإضرار
وكان نور الدين محمود بن قليج ارسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد
وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم
بسبب اضراره ببنته وزواجه عليها واعتزم قليج ارسلان على حربه وأخذ
بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث الى قليج ارسلان يشفع في
شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة ولج في
ذلك صلاح الدين على قليج وسار الى رعبان ومرّ بحلب فتركها ذات الشمال
وسلك على تل باشر ولما انتهى الى رعبان جاءه نور الدين محمود وأقام
عنده وأرسل اليه قليج ارسلان يصف فعل نور الدين واضراره ببنته فلما
أدّى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير الى بلده فتركه
الرسول حتى سكن وغدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من
ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير وان بنت قليج ارسلان يجب
على مثلك من الملوك الامتعاض لها ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح
الدين الحق فيما قاله وقال للرسول إنّ نور الدين استند الى فعلك فأصلح
الأمر بينهما وأنا معين على ما تحبونه جميعا ففعل الرسول ذلك وأصلح
بينهما وعاد صلاح الدين الى الشام ونور الدين محمود الى ديار بكر وطلق
ضرة بنت قليج ارسلان للأجل الّذي أجله للرسول والله تعالى أعلم.
مسير صلاح الدين الى بلاد ابن اليون
كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور
الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام وكان يعسكر معه وكان جريئا
على صاحب القسطنطينية وملك وادقة والمصيصة وطرسوس من يد الروم وكانت
بينهما من أجل ذلك حروب ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن
اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون الى رعي مواشيهم.
بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها وكان يأذن لهم فيدخلونها وغدر بهم في
بعض السنين
(5/344)
واستباحهم واستاق مواشيهم وبلغ الخبر الى
صلاح الدين منصرفه من رعيان فقصد بلده ونزل النهر الأسود وبث الغارات
في بلادهم واكتسحها وكان لابن اليون حصن وفيه ذخيرته فخشي عليه فقصد
تخريبه وسابقه اليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث اليه ابن اليون بردّ
ما أخذ من التركمان واطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه فأجابه الى
ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء
من عباده.
غزوة صلاح الدين الى الكرك
كان البرنس ارناط صاحب الكرك من مردة الافرنج وشياطينهم وهو الّذي اختط
مدينة الكرك وقلعتها ولم تكن هنالك واعتزم على غزو المدينة النبويّة
على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وسمع عز الدين فرخ شاه بذلك وهو
بدمشق فجمع وسار الى الكرك سنة سبع وسبعين واكتسح نواحيه وأقام ليشغله
عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد الى الكرك فعاد فرخ شاه الى دمشق
والله تعالى أعلم بغيبه.
مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب الى اليمن واليا عليها
قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة
ثمان وستين وأنه ولىّ على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر
وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن
واتخذها كرسيا لملكه ثم عاد الى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفا
من حصار حلب فولاه على دمشق وسار الى مصر ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد
ذلك مدينة الاسكندرية وأقطعه إياها مضافة الى أعمال اليمن وكانت
الأموال تحمل اليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن ومع ذلك فكان عليه
دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه
صلاح الدين ولما بلغه خبر وفاته سار الى مصر واستخلف على دمشق عز الدين
فرخ شاه ابن شاهنشاه وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني
نائبة بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع الى وطنه واستأذن
شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء واستأذن أخاه عطاف بن زبيد
وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين وكان محشدا
فسعى فيه عنده أنه احتجر
(5/345)
أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه
وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في نعض الأيام صنيعا دعي اليه أعيان
الدولة واختلف مواليه وخدامه الى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح
الدين انه هارب الى اليمن فتمت حيلتهم فقبض عليه ثم ضاق عليه الحال
وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعطى لأهل الدولة فأطلقه
وأعاده الى منزلته فلما بلغ شمس الدين الى اليمن اختلف نوابه بها حطان
بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلي وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته
فجهز جماعة من أمرائه الى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من
أمرائه فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان
بن منقذ ثم مات قريبا فعاد حطان الى زبيد وأطاعه الناس وقوي على عثمان
الزنجبيلي فكتب عثمان الى صلاح الدين أن يبعث بعض قرابته فجهز صلاح
الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار الى اليمن وخرج حطان بن منقذ من
زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد وبعث الى حطان بالأمان
فنزل اليه وأولاه الإحسان ثم طلب اللحاق بالشام فمنعه ثم ألح عليه فأذن
له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودّعه قبض عليه واستولى على ما
معه ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به ويقال كان فيما أخذه
سبعون حملا من الذهب ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه
وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام
فاستولى عليها ولم يخلص الا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف
الإسلام والله تعالى أعلم.
دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين
وغزوة الافرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر وبيروت
كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن ارتق وهو ابن عمّ قطب
الدين أبي الغازي بن ارتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن
زنكي صاحب الشام ثم مات وملك البيرة بعده ابنه ومات نور الدين فصار الى
طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل
من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ
البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره الى قلعة شميشاط وأقام بها
وبعث العسكر الى البيرة وحاصروها وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون
له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين الى قطب الدين صاحب ماردين
ولم يشفعه
(5/346)
وشغل عنه بأمر الافرنج ورحلت عساكر قطب
الدين عنها فرجع صاحبها الى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في ايالته ثم
خرج صلاح الدين من مصر في محرّم سنة ثمان وسبعين قاصدا الشام ومرّ
بايلة وجمع الافرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك الى دمشق
ومال على بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشويك وعاد الى دمشق منتصف صفر
وكان الافرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام
فخالفهم عز الدين فرخ شاه نائب دمشق اليها واكتسح نواحيها وخرب قراها
وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في
المسلمين فبعث الى صلاح الدين بفتحه فسرّ بذلك ثم أراح صلاح الدين
بدمشق أياما وسار في ربيع الأوّل من السنة وقصد طبرية وخيم بالأردن
واجتمعت الافرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخ شاه ابن أخيه الى بيسان
فملكها عنوة واستباحها وأغار على الغور فأثخن فيها قتلا وسبيا وسار
الافرنج من طبرية الى جبل كوكب وتقدّم صلاح الدين اليهم بعساكره
فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقيّ الدين عمر وعز الدين فرخ شاه ابني
شاهنشاه فقاتلوا الافرنج قتالا شديدا ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين الى
دمشق ثم سار الى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الاسطول من مصر
لحصارها فوافاه بها وحاصرها أيام ثم بلغه أنّ البحر قد قذف بدمياط
مركبا للافرنج فيه جماعة منهم جاءوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط
وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت الى الجزيرة كما نذكره
أن شاء الله تعالى.
مسير صلاح الدين الى الجزيرة واستيلاؤه على حران والرها والرقة
والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل
كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الّذي كان أبوه نائب القلعة
بالموصل مستوليا في دولة مودود وبنيه وانتقل آخر الى اربل ومات بها
وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين
ويؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد
واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب وقصد الفرات ولقيه
مظفر الدين وساروا الى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين
صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين الى الشام ظنوا
أنه يريد حلب فساروا لمدافعته فلما عبر الفرات عادوا الى الموصل وبعثوا
حامية الى الرها وكاتب صلاح الدين
(5/347)
ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها بالوعد
والمغاربة ووعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد ووصل اليه
فساروا الى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود
الزعفرانيّ واشتدّ عليه القتال فاستأمن الى صلاح الدين وملكه المدينة
وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الّذي بها على مال شرطه فأضافها
صلاح الدين الى مظفر الدين مع حران وساروا الى الرقة وبها نائبها قطب
الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها الى الموصل وملكها صلاح الدين ثم
سار الى قرقيسيا وماسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها
وسار الى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياما ثم ملكها
وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا
معه معتزما على قصد الموصل وجاءه الخبر أنّ الافرنج أغاروا على نواحي
دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق
بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع
صاحبها العساكر واستعدّ للحصار وخلى نائبة في الاستعداد وبعث الى سنجار
واربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال والسلاح والأموال
وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدّم هو ومظفر الدين وابن شيركوه
فهالهم استعداد صاحب البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما
كانا أشارا بالبداءة بالموصل ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل
عليه أوّل رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج
الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر وخرج بعض الرجال فنالوا منه
ونصب منجنيقا فنصبوا عليه من البلد تسعة ثم خرجوا اليه من البلد فأخذوه
بعد قتال كثير وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لانه رآهم في بعض
الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون وكان صدر الدين شيخ
الشيوخ ومشير الخادم قد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح وتردّدت
الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين ردّ ما أخذه من بلادهم فأجاب
على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع الى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضا
ثم وصلت أيضا رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم
يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن
الموصل وسار اليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخو عز الدين صاحب
الموصل في عسكر وبعث اليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مددا وحاصرها
صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من
الزواوية فواعده من ناحيته وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الّذي في
ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج
(5/348)
وعسكره معه الى الموصل وملك صلاح الدين
سنجار وولّى عليها سعد الدين بن معين الدين الّذي كان أبوه كامل بن
طغركين بدمشق وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة وسار
صلاح الدين الى نصيبين فشكا اليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله
عنهم واستصحبه معه وسار الى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين وفرق
عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم.
مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل
كان عز الدين قد أرسل الى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث اليه
عدّة رسل شافعا في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث اليه مولاه آخرا سيف
الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه الى ذلك
وسوّفه رجاء أن يفتحها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضبا ولم
يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط الى
ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو
قطب الدين ابن نجم الدين وسار اليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل وكان
صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم
استدعى تقيّ الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل الى رأس عين فافترق
القوم وعاد كل الى بلده وقصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام
ورجع والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
واقعة الافرنج في بحر السويس
كان البرنس ارناط صاحب الكرك قد أنشأ اسطولا مفصلا وحمل أجزاءه الى
صاحب ايلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه
بالمقاتلة وأقلعوا في البحر ففرقة أقاموا على حصن ايلة يحاصرونه وفرقة
ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من
مراكب التجار وطرق الناس منهم بلية لم يعرفوها لانه لم يعهد ببحر
السويس افرنجيّ محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب
نائبا عن أخيه صلاح الدين فعمر اسطولا وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام
الدين لؤلؤ الحاجب قائد الاساطيل بديار مصر فبدأ بأسطول الافرنج الّذي
يحاصر ايلة فمزقهم كل ممزّق وبعد الظفر بهم اقلع في طلب الآخرين وانتهى
الى عيذاب فلم يجدهم فرجع الى رابغ وأدركهم بساحل
(5/349)
الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين
واليمن والاغارة على الحاج فلما أطلّ عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا
بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسنموا اليها واعتصموا بشعابها ونزل لؤلؤ
من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر
الباقين فأرسل بعضهم الى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين الى
مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.
وفاة فرخ شاه
ثم توفي عز الدين فرخ شاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق
وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه وخرج من دمشق غازيا
الافرنج وطرقه المرض وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين وبلغ خبره
صلاح الدين وقد عبر الفرات الى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد
ابن المقدم الى دمشق وجعله نائبا فيها واستمرّ لشأنه والله تعالى يورث
الملك لمن يشاء من عباده.
استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب
كيفا
قد تقدّم لنا مسير صلاح الدين الى ماردين وإقامته عليها أياما [1] من
نواحيها ثم ارتحل عنها الى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب
كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت
غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها
قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكابسهم وكتب اليهم صلاح
الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب
السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل اليه
صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرّحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في
عاشوراء سنة تسع وسبعين وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل اليها ذخيرته فلم
يلتفت الناس اليه وتعذر عليه أمره فبعث الى صلاح الدين يسأله الاعانة
فأمر له بالدواب والرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيرا من موجودة ومنع
بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور
الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها النفسه
فأبى وقال ما
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 493: قد ذكرنا نزول صلاح الدين
بجوزم تحت ماردين، فلم ير لطمعه وجها، وسار عنها الى آمد عن طريق
البارعية.
(5/350)
كنت لاعطي الأصل وأبخل بالفرع ودخل نور
الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه الى صنيع صنعه لهم وقدّم لهم من
التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب
ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار الى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه
المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرّم سنة تسع وسبعين ثم سار الى عنتاب
فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الّذي كان خازن نور
الدين العادل وصاحبه وهو الّذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن
يقرّها بيده ويكون في طاعته فأجابه الى ذلك وحلف له وسار في خدمته وغنم
المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار اسطول مصر فلقي في البحر
مركبا فيها نحو ستمائة من الافرنج بالسلاح والأموال قاصدون الافرنج
بالشام فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا الى مصر سالمين ومنها في
البرّ أغابر الدارون جماعة من الافرنج ولحقهم المسلمون بايلة واتبعوهم
الى العسيلة وعطش المسلمون فانزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا
وقاتلوا الافرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا
سالمين الى مصر والله أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم
كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من
الشام غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين
وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع
نائبة مجاهد الدين قايمان اليها فملكها ثم طلبها منه أخوه عماد الدين
صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار فأجابه الى ذلك وأخذ عز الدين سنجار
وعاد الى الموصل وسار عماد الدين الى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح
الدين وخشي أن يسير منها الى دمشق وكان بمصر فسار الى الشام وسار منها
الى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها ثم سار
الى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب ثم سار الى حلب وحاصرها
في محرّم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الأخضر أياما ثم انتقل الى جبل
جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال
(5/351)
ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء
وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين وأرسل اليه في ذلك الأمر طومان
الباروقي وكان يميل الى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة
والخابور وينزل له عن حلب وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن
عشر صفر من السنة الى هذه البلاد ودخل صلاح الدين حلب بعد ان شرط على
عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد ولما خرج عماد الدين الى صلاح الدين
صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك
نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح
وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد ولما ملك صلاح الدين حلب سار الى قلعة
حارم وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل وكان عليها ابنه
الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وتردّدت الرسل بينهم وهو يمتنع
وقد أرسل الى الافرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا
به وحبسوه واستأمنوا الى صلاح الدين فملك الحصن وولىّ عليه بعض خواصه
وقطع تل خالد [1] الباروقي صاحب تل باشر وأمّا قلعة إعزاز فإنّ عماد
الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار [2] وأقام
بحلب الى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار الى دمشق والله تعالى
أعلم.
غزوة بيسان
ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولىّ عليها ابنه الظاهر غازي ومعه
الأمير سيف الدين تاوكج كافلا له لصغره وهو أكبر الأمراء الاسدية وسار
الى دمشق فتجهز للغزو وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد
الافرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه
فقصد بيسان وخربها وحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الافرنج له فلما
رأوه خاموا عن لقائه واستندوا الى جبل وخندقوا عليهم وأقام يحاصرهم
خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على
تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا الى بلادهم والله تعالى
ينصر من يشاء من عباده.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 495: واقطع تل خالد لأمير يقال له
داروم الباروقي وهو صاحب تل باشر.
[2] واسمه في الكامل: سليمان بن جندر.
(5/352)
غزو الكرك وولاية
العادل على حلب
ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر
واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على
الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه الى ذلك وأمره أن يجيء
بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصروه أياما وملكوا أرباضه ونصبوا
عليها المجانيق ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أنّ الافرنج
يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقيّ الدين ابن أخيه شاه على
نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل منعه الى دمشق فولاه مدينة
حلب ومدينة منبج وما اليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة واستدعى
ولده الظاهر غازي من حلب الى دمشق ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين
لحصار الكرك بعد ان جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر
مصر واستعد لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقي الحصن
وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعا وراموا طمه فنضحوهم بالسهام
ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها الى الخندق
وأرسل أهل الحصن الى ملكهم يستمدّونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع
الافرنج وأوعبوا وساروا اليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى الى
حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم الى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم
فراسخ ومرّوا الى الكرك وعلم صلاح الدين أنّ الكرك قد امتنع بهؤلاء
فتركه وسار الى نابلس فخربها وحرقها وسار الى سنطية [1] وبها مشهد
زكريا عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل الى
جينين [2] فنهبها وخربها وسار الى دمشق بعد ان بث السرايا في كل ناحية
ونهب كل ما مرّ به وامتلأت الايدي من الغنائم وعاد الى دمشق مظفرا
والله تعالى أعلم.
حصار صلاح الدين الموصل
ثم سار صلاح الدين من دمشق الى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان وعبر
الفرات وكان مظفر الدين كوكبري على كجك يستحثه للمسير الى الموصل في كل
وقت وربما وعده
__________
[1] وهي سبسطية
[2] وهي جنين
(5/353)
بخمسين ألف دينار إذا وصل فلما وصل الى
حران لم يف له فقبض عليه ثم خشي معيرة [1] أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد
عليهم حران والرها وسار في ربيع الأوّل ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز
الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب
الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبة وساروا كلهم مع صلاح الدين الى
الموصل وانتهوا الى مدينة بلد فلقيه هنالك أمّ عز الدين وابنة عمه نور
الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظنا بأنه لا يردهنّ وسيما بنت
نور الدين واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد
المشطوب بردّهنّ وساروا الى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا
لردّ النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في اشارتهم وجاء زين
الدين يوسف صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فانزلهما بالجانب الشرقي
وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري الى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع
عليه الأكراد الهكارية الى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين
أنّ نائبة بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه الى
الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب
خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وانه يستعين بها على أموره ثم جاءته كتب
أهلها يستدعونه فسار عن الموصل اليها وكان أهل خلاط انما كاتبوه مكرا
لأنّ شمس الدين البهلوان ابن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم
بعد ان كان زوّج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة الى ملك خلاط
فلما سار اليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح
الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب اربل
وغيرهما وتقدّموا الى خلاط وتقدّم صاحب أذربيجان فنزل قريبا من خلاط
وتردّدت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله
تعالى ينصر من يشاء من عباده.
استيلاء صلاح الدين على ميافارقين
ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب
الدين صاحب ماردين فتوفي وملك ابنه طفلا صغيرا بعده وردّ أمرها الى
شاهرين صاحب خلاط وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة
شاهرين وحاصرها من أوّل جمادى سنة احدى
__________
[1] وهي تصحيف عن معرة: بمعنى الأذى، الغرم، الجنابة. ومعرة الجيش: ان
ينزلوا بقوم فيأكلوا من زرعهم شيئا بغير علم «قاموس»
(5/354)
وثمانين وعلى أجنادها الأمير أسد الدين
برنيقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها
منه وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأنّ برنيقش قد
مال اليها في تسليم البلد ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوّج بناتك من
أبنائي وتكون البلد لنا ووضع على برنيقش من أخبره بأنّ الخاتون مالت
الى صلاح الدين وأنّ أهل خلاط كاتبوه وكان خبر أهل خلاط صحيحا فسقط في
يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من اقطاع ومال وسلم البلد فملكها
صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون وأنزلها وبناتها
بقلعة هقناج وعاد الى الموصل ومرّ بنصيبين وانتهى الى كفر أرمان واعتزم
على أن يشتوا به ويقطع جميع ضياع الموصل ويحيى أعمالها ويكتسح غلاتها
وجنح مجاهد الدين الى مصالحته وتردّدت الرسل في ذلك على أن يسلم اليه
عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي وما وراء الزاب من الأعمال
ثم طرقه المرض فعاد الى حران وأدركه الرسل بالإجابة الى ما طلب فانعقد
هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل
وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين واشتدّ به المرض فقسم
البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع وعاد الى دمشق في
محرّم سنة اثنتين وثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد ابن عمه
شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله الى حمص ومرّ بحلب وصانع
جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته أن حدث بصلاح الدين أمر وبلغ
الى حمص فبعث الى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات
ناصر الدين ليلة الأضحى ويقال دسّ عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه
وهو ابن اثنتي عشرة سنة والله تعالى أعلم.
قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه
كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل
علي بمصر في كفالة تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه اليها عند ما
استدعى العادل منها كما مرّ فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا
من ولده استقلالا وسعى اليه بذلك بعض بطانته فبعث ابنه عثمان العزيز
الى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب ثم اقطع العادل حران والرها
وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر ثم بعث عن ابنه
الأفضل وتقيّ الدين ابن أخيه فامتنع تقيّ الدين من الحضور واعتزم على
المسير الى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له
بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه ولما وصل
(5/355)
اقطعه حماة ومنبج والمعرّة وكفر طاب وجبل
جوز وسائر أعمالها وقيل ان تقيّ الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته
تحرّك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى
الهكاري وكان مطاعا فيهم وأمره بإخراج تقيّ الدين من مصر والمقام بها
فسار ودخلها على حين غفلة وأمر تقيّ الدين بالخروج فأقام خارج البلد
وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين الى آخر الخبر والله تعالى أعلم.
اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين
ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره إياه والاغارة على عكا
كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوّج بالقومصة
صاحبة طبرية وانتقل اليها فأقام عندها ومات ملك الافرنج بالشام وكان
مجذوما كما مرّ وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص وقام
بتدبيره لملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة الى الملك ثم مات
الصغير فانتقل الملك الى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدّث به نفسه
ثم أنّ الملكة تزوّجت ابن غتم من الافرنج القادمين من المغرب وتوّجته
وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والدواوية واليارونة
وأشهدتهم خروجها له عن الملك ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته
الصبيّ فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم وراسل صلاح الدين وسار الى ولايته
وخلف له على مصره من أهل ملته وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء
النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته وكان ذلك ذريعة لفتح
بلادهم وارتجاع القدس منهم وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في
سائر بلاد الافرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين
وثمانين وكان البرنس ارناط صاحب الكرك من أعظم الافرنج مكرا وأشدّهم
ضررا وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح
فصالحه فصلحت السابلة بين الآمّين ثم مرّت في هذه السنة قافلة كثيرة
التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصرّ
على غدرته فنذر أنه يقتله ان ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر
الأعمال من الموصل والجزيرة واربل ومصر والشام وخرج من دمشق في محرّم
سنة ثلاث وثمانين وانتهى الى رأس الماء وبلغه أنّ البرنس ارناط صاحب
الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين
وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل عليّ وسار الى بصرى
(5/356)
وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل
الحاج سالمين وسار صلاح الدين الى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال
الشويك فاكتسحوهما والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الافرنج عن إمداده
لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين ثم بعث صلاح الدين الى ابنه
الأفضل فأمره بإرسال بعث الى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين
كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الباروقي وساروا في آخر
صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا اليهم
وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الافرنج
وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين ومرّوا
بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدّم بينه وبين صلاح الدين من
الولاية وعظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم.
هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا
ولما انهزم الفداوية والإستبارية بصفورية ومرّ المسلمون بالغنائم على
القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره
الّذي مع ابنه ومرّ بالكرك واعتزم على غزو بلاد الافرنج فاعترض عساكره
وبلغه ان القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه وأنّ البطرك
والقسس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى
النصارى وغنائمهم ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوية والإستبارية أعيان
الملة وتهدّدوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر إليهم
فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجدّدوا الحلف والاجتماع وساروا من
عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين وشاور أصحابه فمنهم من أشار
بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا ومنهم من أشار باللقاء لنزول
عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين
واستعجل لقاءهم ثم رحل من الأقحوانة أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية
وتقدّم إلى معسكر الإفرنج فلم يفارقوا خيامهم فلما كان الليل أقام
طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها
وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج
فضج القمص وعمد إلى الصلح وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين
فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين
واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين
إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من
الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم واشتدّت الحرب وصلاح الدين يجول
بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين ثم حمل القمص على
(5/357)
ناحية تقيّ الدين عمر بن شاه حملة استمات
فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته واختلّ
مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم نارا
فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل
ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا
من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى فني أكثرهم ولم يبق إلا
نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم والمسلمون يكرّون عليهم
مرّة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط
صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية
والإستبارية ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين
والأربعمائة بمثل هذه الوقعة ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء
الأسرى فقرّع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك
وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصا على الوفاء بنذره بعد أن عرّفه
بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين وأمّا القمص
صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفا ولما
فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة
بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك
وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها وجمع أسرى الفداوية والاستبارية بعد
أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين دينارا مصرية لكل واحد وقتلهم
أجمعين قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الوقعة بعد سنة فرأيت عظامهم
ماثلة على البعد أحجفتها السيول ومزقتها السباع ولما فرغ صلاح الدين من
طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار
وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته
رحالهم ودخلها صلاح الدين غرّة جمادى سنة ثلاث وثمانين وصلوا في جامعها
القديم الجمعة يوم دخولهم فكانت أوّل جمعة أقيمت بساحل الشام بعد
استيلاء الإفرنج عليه وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما
كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيرا مما
عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه ثم قسم الأفضل ما بقي في
أصحابه بعد مسير صلاح الدين ثم أقام صلاح الدين أياما حتى أصلح أحوالها
ورحل عنها والله تعالى أعلم.
فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا
لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره
بالمسير إلى جهات
(5/358)
الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه
وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح
الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيسارية وحيفا وسطورية وبعليا
وشقيف [1] وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من
غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية
مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام ثم سار إلى مدينة نابلس
فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرّهم على أموالهم وبعث
تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل
إليها وحاصرها وضيق عليها حتى استأمنوا فأمنهم وملكها ومرّ إلى صيدا
ومرّ في طريقه بصرخد فملكها بعد قتال وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار
وملكها آخر جمادى الأولى من السنة ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من
أحد جوانبها فتوهموا أنّ المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر
فاهتاجوا لذلك فلم يستقرّوا ولا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم
من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام
من حصارها وكان صاحب جبيل أسير بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح
الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان
من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم.
وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها
كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة [2] لحق بمدينة صور وأقام بها
يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا
وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس وبقيت صيدا وصور بدون حامية
وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوّة فأرسى بعكا ولم
يشعر بفتحها وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها
وأنّ صور وعسقلان باقية لإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح
فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسي ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور
__________
[1] وفي الكامل 11 ص 540: في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى
الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من
البلاد المجاورة لعكا.
[2] كذا بياض بالأصل. وفي الكامل ج 11 ص 543 ولما انهزم القمص صاحب
طرابلس من حطين إلى مدينة صور فأقام بها، وهي أعظم بلاد الشام حصانة،
وأشد امتناعا على من رامها.
(5/359)
وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم
يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطا كثيرة من فلّ الحصون المفتتحة
فجاءوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الإنفاق عليها على أن
تكون هي وأعمالها له دون غيره واستحلفهم على ذلك ثم قام بتدبير أحوالها
وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورمّ الأسوار واستبدّ بها والله سبحانه
وتعالى أعلم.
فتح عسقلان وما جاورها
ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف همته إلى عسقلان
والقدس لعظم شأن القدس ولأنّ عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت
إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر ونازلها أوائل جمادى
الأخيرة واستدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما
وأمرهما بالاذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك وأساءوا
الردّ عليهما فاشتدّ في قتالهم ونصب المجانيق عليهم يردّد الرسائل
إليهم في التسليم عساه ينطلق ويأخذ بالثار من المسلمين فلم يجيبوه ثم
جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط
اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة لما قتلوا أميرهم في
الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه وملك المدينة منتصف السنة لأربعة
عشر يوما من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث
السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت
لحم البطرون وكل ما كان للفداوية وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن
أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان
والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من
يشاء بنصره.
فتح القدس
لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها
البطرك الأعظم وبليان بن نيزران [1] صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك
ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا
كلهم بالقدس واستماتوا للدين وبعد لصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا
المجانيق من داخله وتقدّم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج
فأوقعوا
__________
[1] وفي الكامل ورد اسمه باليان بن بيرزان. (ج 11 ص 546) .
(5/360)
به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون
بقتله وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم
صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوّأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال
نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحوّل إليه ونصب المجانيق عليها واشتدّ
القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق وكان ممن استشهد عز الدين
عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب لمعة جعبر فأسف
المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم البلد
وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين
أبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أوّل الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
واستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان
واستعطفه فأصرّ على الامتناع فتهدّده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء
وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا
خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره
فحينئذ استشار صلاح الدين صحبه فجنحوا الى تأمينهم فشارطهم على عشرة
دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين
يوما فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل
ملته ثلاثين ألف دينار وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين
من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوما
مشهودا ورتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه
على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة
فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان
فإنّ الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم
ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أنّ بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين
ألف دينار على ثمانية عشر ألفا وعجز منهم ستة عشر ألفا وأخرج جميع
الأمراء خلقا لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة
واستوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم وأطلق بعض نساء
الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم وكذا
ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوسا
بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج وخرج
البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له وجاءته امرأة
البرنس صاحب الكرك الّذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيرا
فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه
قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب وتسلق جماعة من
(5/361)
المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض
بالتكبير والعويل ولما خلا القدس من العدوّ أمر صلاح الدين بردّ مشاعره
إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأوّل وأمر
بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى
في قبة الصخرة وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى
في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظة الإسلام اقشعرت لها
الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالا ثم أقام صلاح الدين
بالمسجد للصلوات الخمس إماما وخطيبا وأمر بعمل المنبر له فتحدّثوا عنده
بأنّ نور الدين محمودا اتخذ له منبرا منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب
فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى ثم أمر
بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الّذي فوق الصخرة لأن القسيسين كانوا
يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتا ويبيعونها بالذهب وزنا بوزن
فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي
ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه
[1] ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القرّاء ووفر لهم
الجرايات وتقدّم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكازمه رحمه الله تعالى
وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن
واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية
كما كانوا والله تعالى أعلم.
حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك
لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ
من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم
وقد نزل بها المركيش وضبطها ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها
أياما فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار وكان
البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت
كالجزيرة وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه
على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوبا بين ابنه الأفضل
وابنه الظاهر وأخيه
__________
[1] كذا بالأصل والعبارة مرتبكة، وفي الكامل ج 11 ص 552: وكان الفرنج
فرشوا الرخام فوق الصخرة فغيّبوها فأمر بكشفها وكان سبب تغطيتها بالفرش
أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر
للزيارة يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده
باليسير منها بنى له الكنيسة. ويجعل في مذبحها. فخاف بعض ملوكهم أن
تغني فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها.
(5/362)
العادل وابن أخيه تقيّ الدين ونصب عليها
المجانيق والعرادات وكان الإفرنج يركبون في الشواني والحراقات ويأتون
المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من
الدنوّ إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع
الإفرنج وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها برّا وبحرا ثم كبس
أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم وردّ صلاح الدين
الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب
ألقوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في
حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين
أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها
واستدعوا الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم ولما
رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فتردّدوا وتخاذلوا في
القتال فرحل آخر شوّال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى
فصل الربيع وعادت عساكر الشرق والشام ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه
وردّ أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين وكان صلاح الدين عند ما
اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكرا لحصار صور فشدّدوا حصارها وقطعوا عنها
الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها
فملكها وكان أيضا صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكرا لحصار قلعة
كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها وهي مطلة على
الأردن وهي للإستبارية وجهز عسكرا لحصار صفد وهي للفداوية مطلة على
طبرية ولجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما فلما
جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وارتفع منها الفساد فلما كان آخر ليلة
من شوّال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة
فكبسهم الإفرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم وبلغ
ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته ثم جهز
عسكرا على صور مع الأمير قايماز النجمي وارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل
الشتاء سار من عكا في محرّم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها
وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها
وغير صفد والكرك فلما امتنعت عليه جهز العسكر لحصارها مع قايماز النجمي
ورحل عنها في ربيع الأوّل إلى دمشق ووافته رسل أرسلان [1] وفرح الناس
بقدومه والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 6: وأتاه رسل الملك قليج
أرسلان ونزل ارسلان وغيرها يهنونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب الى
دمشق ففرح الناس بقدومه وكتب الى البلاد جميعا باجتماع العساكر بها.
وأقام بها الى أن سار الى الساحل بالبلاد الشامية.
(5/363)
غزو صلاح الدين إلى
سواحل الشام وما فتحه من حصونها وصلحه آخرا مع صاحب انطاكية
لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم
تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال انطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة
أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف
فاجتمعوا إليه وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجردا إلى
القلاع بنواحي انطاكية فنقص طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى
شفي نفسه من ارتيادها وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند
حصن الأكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة وكان من يوم
استيلاء الافرنج على جبلة عند صاحب انطاكية حاكما على جميع المسلمين
فيها ومتوليا أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل
إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار
أوّل جمادى ونزل بطرسوس وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا
المدينة فخربوها واستباحوها وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدّمهم
الّذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس واستأمن إليه
أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين وألقى حجارته في البحر
وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للإستبارية ولا يرام
لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين
الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمرّ به الواحد فالواحد.
فتح جبلة
وكان وصل أسطول من صاحب صقلّيّة مددا للإفرنج في تلك السواحل في ستين
قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب ووقفوا
قبالتها ينضحون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك
الطريق سورا من جهة البحر من المتارس ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر
المضيق إلى جبلة ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضي وملكها صلاح الدين
لحينه ورفع أعلام الإسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم
القاضي على الأمان واستمرّ منهم جماعة في رهن القاضي والمسلمين عند
صاحب أنطاكية حتى أطلقهم وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين وهو
بجبل ما
(5/364)
بين جبلة وحماة وكان الطريق عليه بينهما
صعبا ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت واستناب بجبلة سابق الدين عثمان
ابن الداية صاحب شيرز وسار عنها للاذقية والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.
فتح اللاذقية
ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقية فوصلها آخر جمادى
الاولى وامتنع حاميتها بحصنين لها في أعلى الجبل وملك المسلمون المدينة
وحصروا الإفرنج في القلعتين وحفروا تحت الأسوار وأيقن الإفرنج بالهلكة
ودخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه وأمنهم صلاح الدين
ورفعوا أعلام الإسلام في الحصنين وخرب المسلمون المدينة وكانت مبانيها
في غاية الوثاقة والضخامة وأقطعها لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى
أحسن ما كانت من العمارة والتحصين وكان عظيم الهمة في ذلك وكان أسطول
صقلّيّة في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها
وجاء مقدّمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية وعرّض في
كلامه بالتهديد بامداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين
باستهانة أمر الإفرنج وهدّده فانصرف إلى أصحابه ورحل صلاح الدين إلى
صهيون والله تعالى أعلم.
فتح صهيون
ولما فرغ صلاح الدين من فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهي على جبل
صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق ويتصل بالجبل من
جهة الشمال وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل
لضيقها وقدّم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي ونصب المنجنيقات
هنالك فرمى بها على الحصن ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسيّ وصابروا
قليلا ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا
أحد أسوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين وغنموا جميع ما كان
في البلد من الدواب والبقر والذخائر ولجأ الحامية إلى القلعة وقاتلهم
المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس وملك
المسلمون الحصن وولي عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه
وافترق المسلمون في تلك النواحي
(5/365)
فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها
جميعا وهيئوا اليها طريقا على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج
والإسماعيلية والله تعالى أعلم.
فتح بكاس والشغر
ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس وقد فارقها
الإفرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس وحاصر قلعة الشغر والطريق منها
مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم ونصب المنجنيقات عليها فقصرت
حجارتها عن الوصول وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب انطاكية
وكان الحصن من إيالته فاستمدّوه وإلا أعطوا الحصن بما قذف الله في
قلوبهم من الرعب فلما قعد عن نصرهم فاستأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه
إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم وأخذ رهنهم ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف
جمادى من السنة والله تعالى أعلم.
فتح سرمينية
كان صلاح الدين عند اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازيا
صاحب حلب إلى سرمينية وحاصرها واستنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة
أعطوها وهدم الحصن وكان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من
الأسارى كانوا بهذا الحصن وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر
وجميعها من أعمال انطاكية والله تعالى أعلم.
فتح برزية
ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية قبالة افامية
وتقاسمها في أعمالها وبينهما بحيرة من ماء العاصي والعيون التي تجري
وكانوا أشدّ شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من
جمادى الأخيرة وهي متعذرة المصعد من الشمال والجنوب وصعبته من الشرق
وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين ونصب المجانيق فلم تصل
حجارتها لبعد القلعة وعلوّها فرجع إلى المزاحفة وقسم عساكره على
أمرائها وجعل القتال بينهم نوبا فقاتلهم أوّلا عماد الدين زنكي بن
مودود صاحب سنجار وأصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين
وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن وكانوا
(5/366)
يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها
شيء فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالا
شديدا وصلاح الدين وتقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا
بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم
وجاء أهل نوبة عماد الدين على أثرهم وحمي الوطيس وردّوا الإفرنج على
أعقابهم إلى حصنهم فدخلوا ودخل المسلمون معهم وكان بقية المسلمين في
الخيام شرقي الحصن وقد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية
واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء
الإفرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود فلما
سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج وظنوا أن المسلمين
خالطوهم فألقوا باليد وأسرهم المسلمون واستباحوهم وأحرقوا البلد وأسروا
صاحبها وأهله وولده وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب
انطاكية بعثهم إليها لأن زوجة صاحب أنطاكية كانت تراسل صلاح الدين
بالأخبار وتهاديه فرعي لها ذلك والله تعالى ولي التوفيق.
فتح دربساك
ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على
نهر العاصي قرب انطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى
قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهي معاقل الفداوية التي
يلجئون إلى الاعتصام بها ونصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها ثم
هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجا من أسفله
فسقط ثم باكروا الزحف من الغد وصابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم
سمند صاحب انطاكية فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في
أنفسهم فقط وخرجوا إلى انطاكية وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة
والله تعالى أعلم.
فتح بغراس
ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعدّدها وقربها من
انطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين انطاكية فحاصرها
ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوّها وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى
الجبل وبينما هم في ذلك إذ جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط
كما أمن أهل دربساك وتسلم القلعة بما فيها وخربها فجددها ابن اليون
صاحب الأرمن وحصنها وصارت في إيالته والله أعلم.
(5/367)
صلح انطاكية
ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب انطاكية وأرسل إلى صلاح الدين في
الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده وتحامل عليه أصحابه في ذلك
ليريح الناس ويستعدّوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم
عقد الهدنة وبعث إليه من استخلفه وأطلق الأسرى وكان سمند في هذا الوقت
عظيم الإفرنج متسع المملكة وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص
واستخلف فيها ابنه الأكبر وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان
من السنة وانطلق ملوك الأطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم ثم رحل إلى
دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبويّة على
ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم قد عسكر معه وشهد فتوجه وكان يتيمن
بصحبته ويتبرك برؤيته ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته ودخل
دمشق أوّل رمضان من السنة وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال هذه
الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بدّ من البدار إلى
فتحها والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح الكرك
كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى
دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشدّ العادل حصارها حتى جهدوا
وفنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم وسلموا المعلقة فملكها وملك
الحصون التي حواليها وأعظمها الشويك وأمنت تلك الناحية واتصلت إيالة
المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم.
فتح صفد
لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد
فنزل عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأوّل
فخافوا من نفادها فاستأمنوا فأمنهم وملكها ولحقوا بمدينة صور والله
تعالى أعلم
.
(5/368)
فتح كوكب
لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه
نجدة وكان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم
مختفون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد وكان فيهم مقدّمان من
الإستبارية فحملهما إلى صلاح الدين على صفد فأحضرهما للقتل على عادته
في الفداوية والإستبارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما ولما
فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وأرسل إليهم بالأمان فاصرّوا على الامتناع
عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة ثم عافه المطر عن القتال وطال
مقامه فلما انقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجا
فسقط فارتاعوا واستأمنوا وملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة ولحق
الإفرنج بصور واجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في
حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد واتصل المسلمون في الساحل من أيلة
إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور ولما فرغ صلاح الدين من صفد
وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى ثم سار إلى عكا فأقام بها إلى
انسلاخ الشتاء والله تعالى أعلم.
فتح الشقيف
ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصره الشقيف وكان
لأرناط صاحب صيدا وهو من أعظم الناس مكرا ودهاء فلما نزل صلاح الدين
بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل وطلب المهلة إلى جمادى
الأخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور ويسلم له حصن الشقيف فأقام
صلاح الدين هنالك لوعده وانقضت مدّة الهدنة بينه وبين سمند صاحب
أنطاكية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب
انطاكية ثم بلغه اجتماع الإفرنج بصور عند المركيش وان الإمداد وأفتهم
من أهل ملتهم وراء البحر وان ملك الإفرنج بالشام الّذي أطلقه صلاح
الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش ووصل يده به واجتمعوا في أمم
لا تحصى وخشي أن يتقدّم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة
فأقام بمكانه فلما انقضى الأجل تقدّم إلى الشقيف واستدعى أرناط فجاء
واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الإمهال مرّة أخرى
فتبين صلاح الدين مكره فحبسه وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم
فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس
(5/369)
بها وتقدّم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام
مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور
لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فغلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم
وقتلوا آخرين وقتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس وردّوهم على أعقابهم
إلى معسكرهم بظاهر صور وجاء صلاح الدين بعد انقضاء الوقعة فأقام في
المسلحة رجاء أن يصادف أحدا من الإفرنج فينتقم منهم وركب في بعض الأيام
ليشارف معسكر الإفرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى
العدوّ وبعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا ورآهم
الإفرنج فظنوا أنّ وراءهم كمينا فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين
فحملوا عليهم وأناموهم جميعا وذلك تاسع جمادى الاولى من السنة ثم انحدر
إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في
البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل وعزم السلطان على حصارهم واجتمع
إليه الناس ثم عاد الإفرنج إلى صور وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا
ويرجع إلى مخيمه ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدّون
عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا ووعدهم ثامن جمادى
الأخيرة يوافونه من ناحيتهم للإغارة عليهم وأكمن لهم في الأودية
والشعاب من سائر النواحي واختار جماعة من فرسان عسكره وتقدّم إليهم بأن
يتعرّضوا للإفرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا
الإفرنج وأنفوا من الاستطراد وطال على الكمناء الانتظار فخرجوا خشية
على أصحابهم فوافوهم في شدّة الحرب فانهزم المسلمون ووقع التمحيص وكان
أربعة في الكمين من أمراء طيِّئ فعدلوا عن طريق أصحابهم وسلكوا الوادي
وتبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين ورآهم الإفرنج في الوادي فعلموا
أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم والله تعالى أعلم.
محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا والحروب عليها
كانت صور كما قدّمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر
وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصنا على الأمان لحق أهلها
بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج وأموال جمة ولما فتح القدس لبس
كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزنا على البيت المقدّس
وارتحل بطرك من القدس وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء
البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتي
يجدن القوّة على الحرب ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه وبذلوا
الأموال لهم وجاء الإفرنج من كل
(5/370)
مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والأقوات
والأسلحة متداركة لهم في كل وقت واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها
فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم
تحاذيهم في البحر ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى
عكا منتصف رجب وكان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم
فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقا آخر ووافاهم على
عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين
إليها طريق ونزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس
فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر بلاد الجزيرة وجاء تقي
الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوكبري من حران والرها وكان أمداد
المسلمين تصل في البرّ وإمداد الإفرنج في البحر وهم محصورون في صور
محاصرين وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة واقام السلطان بقية رجب
لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوما بكاملة وبات الناس على تعبية
ثم صبحهم بالقتال ونزل الصبر وحمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف
النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم واتصل بالبلد
فدخلها المسلمون وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء وبعث إليهم الأمير
حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر أمرائه من الأكراد الخطية من
أربل ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقا
يمتنعون به ومنعوهم القتال يومهم وأقاموا كذلك ومع السلطان أحياء من
العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم
وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاءوا برءوسهم إلى صلاح الدين فأحسن
إليهم والله تعالى أعلم.
الواقعة على عكا
كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر وبلغ الخبر الإفرنج فأرادوا معاجلته
قبل وصولهم وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل
انطاكية وسمند من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة
تقابل صور ومسلحة بدمياط والإسكندرية واعتزم الإفرنج على مهاجمتهم
بالقتال ولم يشعروا بهم وصحبوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبأ
عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء
وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده فحطوا على صلاح الدين في القلب
فتضعضع واستشهد جماعة منهم الأمير علي بن مردان والظهير أخو الفقيه
عيسى والي
(5/371)
القدس والحاجب خليل الهكاري وغيرهم وقصدوا
خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة
من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وانهزم الذين كانوا حوالي الخيمة
ولم تسقط وانقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم وحملت ميسرة
المسلمين عليهم فاحجمتهم وراء الخنادق وعادوا إلى خيمة صلاح الدين
فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج وصلاح الدين قد عاد من إتباع
أصحابه يردّهم للقتال وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا
مقدّم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى وبلغت عدّة القتلى عشرة
آلاف فألقوا في النهر واما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من
طبرية ومنهم من جاوز الأردنّ ورجع ومنهم من بلغ دمشق واتصل قتال
المسلمين للإفرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم ثم جاءهم الصريخ بنهب
أموالهم وكان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها أيدي الأوباش
ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج وأقاموا في ذلك
يوما وليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين ونفس بذلك عن الإفرنج بعض
الشيء والله تعالى أعلم.
رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا
ولما انقضت هذه الواقعة وامتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء
وأنتن وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالانتقال
عسى الإفرنج ينتقلون وان أقاموا عدنا إليهم وحمله الأطباء على ذلك فرحل
رابع رمضان من السنة وتقدّم إلى أهل عكا بحياطتها وأعلمهم سبب رحيله
فلما ارتحل اشتدّ الإفرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع اسطولهم في
البحر وحفروا خندقا على معسكرهم وأداروا عليهم سورا من ترابه حصنا من
صلاح الدين أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا
يقاتلونهم وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من
التحصين فامتنع من ذلك لمرضه فتمّ للإفرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون
إليهم في كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم.
معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا
ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوّال في عساكر مصر ومعه الجم
الغفير من
(5/372)
المقاتلة والأصناف الكثيرة من آلات الحصار
ووصل على أثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ وكبس مركبا فغنم ما فيه ودخل
به إلى عكا وبريء صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلى انسلاخ
الشتاء وسمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين
عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون وقتل بين
الفريقين خلق وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص
وحماة فتقدّم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الإفرنج يشغلهم
عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين وكان الإفرنج مدّة مقامهم على عكا
قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب ارتفاع كل برج ستون ذراعا وفيه خمس
طبقات وغشوها بالجلود وطلوها بالأدوية التي لا تعلق النار بها وشحنوها
بالمقاتلة ودنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأوّل
سنة ست وثمانين وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه المقاتلة وشرع
الإفرنج في طم الخندق وبعث أهل عكا سابحا في البحر يصف لهم حالهم فركب
في عساكره واشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه
وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الأبراج ورموها
بالنفط فلم يؤثر فيها وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط
فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال أرم
بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فحرد عليه ثم وافق ورمى
به في قدر ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوءة نارا فاضطرمت النار واحترق
البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني والثالث كذلك وفرح أهل البلد وتخلصوا من
تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالإحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل وقال إنما
فعلته للَّه ولا أريد الجزاء الا منه ثم بعث صلاح الدين الى ملوك
الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء
الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه
بالعساكر ثم زين الدين صاحب أربل وكان كلّ واحد منهم إذا وصل يتقدّم
بعسكر فيقاتلون الإفرنج ثم يضربون أبنيتهم وجاء الخبر بوصول الأسطول من
مصر فجهز الإفرنج أسطولا لقتاله وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن
الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين برا وبحرا ودخل
الأسطول إلى مرسى عكا سالما والله تعالى أعلم يغيبه.
وصول ملك الألمان إلى الشام ومهلكه
هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدّة
وهم موطنون
(5/373)
بجزيرة إنكلطيرة [1] في الجهة الشمالية
الغربية من البحر المحيط وهم حديثو عهد بالنصرانية ولما سار القسس
والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد
وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق وقصد
القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه وكتب بها
إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الأقوات وعبروا خليج
القسطنطينية ومرّوا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم
ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد
والجوع ومرّوا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان قد غلب
عليه أولاده وافترقوا في النواحي فخرج ليصدّهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا
في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن
لهم واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك
الأمراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الأرمن وصاحبها كاقولي بن حطفاي بن
اليون [2] فأمدهم بالأزواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى أنطاكية
ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق وملك بعده ابنه ولما بلغوا
انطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه وبعضهم مال إلى العود
فعادوا كلهم وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفا
وأصابهم الموتان وحسن إليهم صاحب انطاكية المسير إلى الإفرنج على عكا
فساروا على جبلة واللاذقية ومرّوا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقا وبلغوا
طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر
إلى عكا ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم
وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد وكان الملك قليج ارسلان يكاتب صلاح
الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز
عنهم وافتراق أولاده واستبدادهم عليه وأمّا صلاح الدين فإنه استشار
أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم
وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا ومال صلاح الدين إلى هذا
الرأي وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من
عاديتهم والله تعالى وليّ التوفيق.
واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا
ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست وثمانين
وخرجوا من
__________
[1] هي انكلترا.
[2] وفي الكامل ج 12 ص 490: وصاحبها لافون بن إصطفانة بن ليون.
(5/374)
خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل
أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كشفهم الإفرنج
عن الخيام وملكوها ثم كرّ عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم
بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف
وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفا وكانت عساكر الموصل قريبا من عسكر
مصر ومقدّمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل
فعدمت ميرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال وبلغه الخبر
بموت الألمان وما أصاب قومه من الشتاب فسر المسلمون بذلك وظنوا وهن
الإفرنج به ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج إمداد في البحر مع كند من
الكنود يقال له الكندهري ابن أخي الاقرسيس [1] لأبيه وابن أخي ملك
انكلطيرة لأمّه ففرّق في الإفرنج أموالا وجند لهم أجنادا ووعدهم بوصول
الإمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين فانتقل صلاح
الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال
ونتن المكان من جيف القتلى ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق وذبابات
فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعا من الإفرنج فلم يتمكن من ذلك ولا من
الستائر عليها لأنّ أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلا عاليا من
التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الأحوال وقلت الميرة وأرسل صلاح
الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا وبعث إلى بيروت
بمثل ذلك فبعثوا مركبا ونصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى
دخلوا إلى المرسي وجاءت بعد الميرة من الإسكندرية ثم جاءت ملكة من
الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر
الإسكندرية هي وجميع ما معها ثم كتب البابا كبير الملّة النصرانية من
كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد ويخبرهم بوصول الإمداد وأنه راسل
ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فأزدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة
المسلمين وجمروا عسكرا لحصار عكا وارتحلوا حادي عشر شوّال من السنة
فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى [2] على ثلاثة فراسخ من عكا ولقي
الإفرنج على التعبية وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر خضر
في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر ومن انضمّ إليهم
وعماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 52: أتت الفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود
البحرية يقال له الكندهري ابن أخي ملك افرنسيس لأبيه وابن أخي ملك
انكلتار لأمه.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 52: فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل
أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ من عكا.
(5/375)
صاحب جزيرة ابن عمر في المسيرة وصلاح الدين
في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه فلما وصل الإفرنج
وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم وباتوا ليلتهم وعادوا
من الغد إلى معسكرهم فاتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كلّ ناحية
وأحجروهم وراء خنادقهم ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوّال
بعد أن أكمنوا لهم عسكرا فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس
واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم
أحد واشتدّ الغلاء على الإفرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما
كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة ومن صيدا على
يد نائبها سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها ثم اشتدّ
الحال عليهم عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء ثم هجم
الشتاء وأرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفا عليها على عادتهم في صور في
فصل الشتاء ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين
يشكون ما نزل بهم وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فشكى
من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها
بدلا منهم وأمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل
حيفا وجمع المراكب والشواني وبعث العساكر إليها شيئا فشيئا كلما دخلت
طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميرا بدلا من ستين كانوا وأهملوا أهل
الرجل وتعينت دواوين صاحب صلاح الدين وكانوا نصارى على الجند في
إثباتهم وإطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الإفرنج
بعد انحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها وكان من الأمراء الذين
دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسلان مقدّم
الأسدية وابن جاولي وغيرهم وكان دخولهم عكا أوّل سنة سبع وثمانين والله
سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة زين الدين صاحب إربل وولاية أخيه
كوكبري
كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له
إربل كما مرّ لأبيه وحران والرها لأخيه مظفر الدين كوكبري وكان يعسكر
مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض وتوفي في ثامن
عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير
من أمرائه وبعث إلى صلاح الدين يطلب إربل وينزل عن حران والرها فأجابه
وأقطعه إياهما وأضاف إليهما شهرزور وأعمالها ودار بند العرابلي
(5/376)
وهي قفجاق وكاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب
الموصل خوفا من صلاح الدين مع أنّ مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه
كما مرّ ثم أطلقه وولاه نائبة وجعل بعض غلمانه عينا عليه فكان يناقضه
في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل
فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها ولما نزل مظفر الدين
عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه
مضافة إلى ميافارقين بديار بكر وحماة وأعمالها بالشام وتقدّم له أن
يقطع أعمالها للجند فيتقوّى بهم على الإفرنج فسار تقيّ الدين إليها
وقرّر أمورها ثم انتهى إلى ميافارقين وتجدّد له طمع فيما يحاورها من
البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر وسار إليه سيف الدين بكتمر صاحب
خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقيّ الدين ووطئ بلاده وكان بكتمر قد قبض
على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك فلما
انهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقيّ الدين محاصر له
فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه
فعاد عنها إلى ملازكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له وضرب لهم أجلا في
تسليم البلد ثم مرض ومات قبل ذلك الأجل بيومين وحمله ابنه إلى
ميافارقين فدفنه بها واستفحلت دولة بكتمر في خلاط والله تعالى أعلم.
وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا
ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا وأوّل
من وصل منهم الملك ملك إفرنسة وهو ذو نصب فيهم وملكه ليس بالقوى هكذا
قال ابن الأثير وعنى أنه كان مستفحلا في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك
الإفرنج وهو في ذلك العصر أشدّ من كانوا قوّة واستفحالا فوصل ثاني عشر
ربيع الأوّل سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة
والسلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه وولي حرب المسلمين فيها وكان صلاح
الدين على معمر عمر قريبا من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن
مزاحفة البلد وتقدّم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب
والشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضا فبعثها ولقيت خمسة مراكب في
البحر وكان ملك الإنكلطيرة أقدمها وأقام على جزيرة قبرص طامعا في ملكها
فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها ونفذت كلمة صلاح الدين إلى
سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني وملئوا بها مرسى عكا
وواصل الإفرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى وتحوّل
صلاح
(5/377)
الدين لمعسكره قريبا منهم ليشغلهم عن البلد
فخف قتالهم عن أهل البلد ثم فرغ ملك إنكلطيرة من جزيرة قبرص وملكها
وعزل صاحبها وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركبا مشحونة بالرجال والأموال
ووصل منتصف رجب ولقي في طريقه مركبا جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة
مقاتل فقاتله فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدّمهم وهو
يعقوب الحلي غلام ابن شفنين [1] فحرق المركب خوفا من أن يظفر الإفرنج
برجاله وذخائره فغرق ثم عمل الإفرنج ذبابات وكباشا وزحفوا بها فأحرق
المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب
يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة فيها وضاق حال أهل عكا.
استيلاء الإفرنج على عكا
ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد
الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم
يجبه وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا ثم هرب من الأمراء عز الدين
أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الأرجاني في جماعة منهم ولحقوا
بالعساكر فازداد أهل عكا وهنا وبعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها
فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد
ويعطيهم الصليب الّذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل إلى المسلمين
بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد ويسيروا مع البحر ويحملوا على
العدوّ حملة مستميتين ويجيء المسلمون من وراء العدوّ فعساهم يخلصون
بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد ورفع المسلمون أعلامهم وأرسل
المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي
ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب ويعطي للمركيش صاحب
صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدّة للمال والأسرى
شهرين وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهنا بزعمهم في
المال والأسرى والصليب ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة
إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار وبعث
نائبا يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفا من غدر
أصحابه وقال ملوكهم إذا سلمتم المال والأسرى والصليب تعطونا رهنا في
بقية المال ونطلق أصحابكم وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن
ويحلفوا فامتنعوا أيضا وقالوا
__________
[1] هو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شفتين.
(5/378)
ترسلون المائة ألف دينار والأسرى والصليب
فنطلق من نراه ونبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم
وأنهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الأمراء والأعيان حتى يفادوهم فلم
يجبهم صلاح الدين إلى شيء ولما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد
في احتفال وركب المسلمون فشدّوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا
المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم
وتمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين وتمسك بالمال الّذي
جمعه لغيرها من المصالح والله تعالى أعلم.
تخريب صلاح الدين عسقلان
ولما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك إنكلطيرة
وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور ثم سار الإفرنج مستهل شعبان لقصد
عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه ونادى صلاح الدين باتباعهم مع
ابنه الأفضل وسيف الدين أبي زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم
ويتخطفونهم من كلّ ناحية ففتكوا فيهم بالقتل والأسر وبعث الأفضل إلى
أبيه يستمدّه فلم يحد العساكر مستعدّة وسار ملك إنكلطيرة في ساقة
الإفرنج فحملهم وانتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون
ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون
يتبعونهم ويقتلون من ظفروا به منهم وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم
وباتوا بها مثاورين وأختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا وساروا
من الغد إلى أرسوف وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم
عندها حتى اضطروهم إلى البحر فحينئذ استمات الإفرنج وحملوا على
المسلمين فهزموهم وأثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين
وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم وانفرج ما
كانوا فيه من الضيق المذكور وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها
وكان صلاح الدين قد سار من مكان الهزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله
واعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا نخشى أن
تزاحمنا الافرنج عليها ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا
ويملكوها آخرا ويقووا بما فيها من الذخائر والأسلحة فندبهم إلى المسير
إليها وحمايتها من الإفرنج فلجوا في الامتناع من ذلك فسار وترك العساكر
مع أخيه العادل قبالة الإفرنج ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان
وألقيت حجارتها في البحر وبقي أثرها وهلك فيها من الأموال والذخائر ما
لا يحصى فلما بلغ الإفرنج ذلك أقاموا بيافا وبعث المركيش إلى ملك
إنكلطيرة يعذله حيث لم يناجز
(5/379)
صلاح الدين على عسقلان ويمنعه من تخريبها
فما خربها حتى عجز عن حمايتها ثم رحل صلاح الدين من عسقلان ثاني شهر
رمضان إلى الرملة فخرب حصنها ثم سار إلى القدس من شدّة البرد والمطر
لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الاستعداد للحصار وأذن للعساكر في
العود إلى بلادهم للإراحة وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان وأقام الإفرنج
بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون وخيم به منتصف
رمضان وتردّد الرسل بين ملك إنكلطيرة وبين العادل على أن يزوّجه ملك
إنكلطيرة أخته ويكون القدس وبلاد المسلمين بالساحل للعادل وعكا وبلاد
الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية وأجاب
صلاح الدين إلى ذلك ومنع الأقسة والرهبان أخت ملك إنكلطيرة من ذلك
ونكروا عليها فلم يتم وإنما كان ملك إنكلطيرة يخادع بذلك ثم اعتزم
الإفرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة وسار صلاح
الدين إلى القدس وقدّم عليه عسكر مصر مع أبي الهيجاء السمين فقويت به
نفوس المسلمين وسار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة
والمسلمون يحاذونهم وكانت بينهم وقعات أسروا في واحد منها نيفا وخمسين
من مقاتلة الإفرنج واهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس ورمّ ما ثلم
منها وضبط المكان الّذي ملك القدس منه وسدّ فروجه وأمر بحفر الخندق
خارج الفصيل وقسم ولاية هذه الأعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة
للبنيان وكان صلاح الدين يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على مركوبة
فيقتدي به العسكر ثم إنّ الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون
عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهده بالرملة وسأل ملك انكلطيرة عن
صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له ورأى الوادي محيطا بها
إلا قليلا من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها
لأنا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى وأن افترقنا على
جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين ولم تصل الأخرى
لإنجادهم خوفا من المسلمين على معسكرهم وإن تركوا من أصحابه حامية
المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة هذا إلى ما
يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه وارتحلوا عائدين إلى
الرملة ثم ارتحلوا في محرّم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في
عمارتها وسار ملك إنكلطيرة إلى مسلح المسلمين فواقعوهم وجرت بينهم حروب
شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة وقطع
الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم.
(5/380)
مقتل المركيش وملك
الكندهري مكانه
ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدّم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك
إنكلطيرة والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك
إنكلطيرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرّغ لهم صلاح الدين وبعث رجلين
لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وابن بازران صاحب [1]
وأقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى أنس بهما
المركيش ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجأ أحدهما إلى
كنيسة واختفى فيها وحمل إليها المركيش لشدّة جراحة فأجهز عليه ذلك
الباطني وقتله ونسب ذلك إلى ملك إنكلطيرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج
بالشام ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء
البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك إفرنسة وابن أخي ملك إنكلطيرة من
أبيه وتزوّج بالملكة في ليلته وبنى بها وملك عكا وسائر البلاد بعد عود
ملك إنكلطيرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح ولما رحل ملك
إنكلطيرة إلى بلاده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين واستماله للصلح
والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم.
مسير الإفرنج إلى القدس
ولما قدم صلاح الدين القدس وكان قد بلغه مهلك تقيّ الدين عمر ابن أخيه
شاهنشاه وأن ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهي حران
والرها وسميساط وميافارقين وجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في
يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين
لصغره وطلب منه ابنه الأفضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فأجابه الى ذلك
وأمره أن يسير إليها وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار
والجزيرة واربل وسار لإنجاده بالعساكر وعلم ناصر الدين أنه لا قبل له
بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده ما
كان لأبيه بالشام فقط وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه
الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد ابنه الأفضل فلحق
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 79: وأتصل بصاحب صيدا وابن بارزان
صاحب رملة وكانا مع المركيس بصور.
(5/381)
بالأفضل بحلب وأعاده وعبر الفرات وتسلم
البلاد من ناصر الدين بن تقيّ الدين وأنزل بها عماله واستصحبه وساير
العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس ولما بلغ الإفرنج أنّ صلاح
الدين بعث ابنه الأفضل وأخاه العادل وفرّق العساكر عليهما ولم يبق معه
بالقدس إلا بعض الخاصة فطمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إليه
ومقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذوه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا
ونجا فلهم الى جبل الخليل وساروا الى الداروم فخربوه ثم ساروا إلى
القدس وانتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادى الاولى من
سنة ثمان وثمانين واستعدّ صلاح الدين للحصار وفرّق أبراج السور على
أمرائه وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن
منازلتهم بيافا وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين وبلغهم أنّ
العساكر الشرقية التي مع العادل والأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا
وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل أن يسير في
العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون فلم يبرح الافرنج من
عكا واجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى
يافا فحاصرها وملكها عنوة في عشري رجب من السنة ثم حاصر القلعة بقية
يومه وأشرفوا على فتحها وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين
بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه وجاءهم ملك انكلطيرة ليلا وتبعه
مدد عكا وبرز من الغد فلم يتقدّم إليه أحد من المسلمين ثم نزل بين
السماطين وجلس للأكل وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدّم أخ المشطوب
وكان يلقب بالجناح وقال لصلاح الدين نحن نتقدّم للقتال ومماليكك
للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه
الأفضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر مآل أمره مع الإفرنج
وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم.
الصلح بين صلاح الدين والإفرنج ومسير ملك
إنكلطيرة إلى بلاده
كان ملك انكلطيرة إلى هذه المدّة قد طال مغيبه عن بلاده ويئس من بلاد
الساحل لأنّ المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في
الصلح وظن صلاح الدين أنّ ذلك مكر فلم يجبه وطلب الحرب فألح ملك
إنكلطيرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان
وغزة والداروم والرملة وبعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في
(5/382)
ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو
وسائر الأمراء لما حدث عند العسكر من الضجر ونفاد النفقات وهلاك الدواب
والأسلحة وما بلغهم أنّ ملك إنكلطيرة عائد إلى بلاده وان لم تقع
الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل فلما وعي ذلك
صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الإفرنج في
عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدّة أربعة وأربعين شهرا فتحالفوا
على ذلك وأذن صلاح الدين للإفرنج في زيارة القدس وارتحل ملك انكلطيرة
في البحر عائدا إلى بلده وأقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكا على
الإفرنج بسواحل الشام وتزوّج الملكة التي كانت تملكهم قبله وقبل صلاح
الدين كما مرّ وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره وأدخل كنيسة
صهيون في البلد وكانت خارج السور واختط المدارس والربط والمارستان ووقف
عليها الأوقاف واعتزم على الإحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك
فسار إلى دمشق خامس شوّال واستخلف عليه الأمير جرديك من موالي نور
الدين ومرّ بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت ولما انتهى إلى
بيروت أتاه بها سمند صاحب انطاكية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح
الدين وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوّال وسرّ
الناس بقدومه ووهن العدوّ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده
ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق وقد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم وما عقد
من الهدنة فأراح قليلا ثم اعتزم على احداث الغزو فاستشار ابنه الأفضل
وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه
إياها إذا ملكها وأشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان
لسهولة أمرها واعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم فقال
لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي وبعض العسكر وأذهب أنا إلى بلاد
الروم فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان ثم إلى بلاد العجم
وأمره بالمسير إلى الكرك وهي من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه فسار
إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة
لخمس وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى وكان معه بدمشق ابنه
الأفضل نور الدين والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبكّ وصرخد وبصرى
وبانياس وشوش وجميع الأعمال إلى الداروم وكان بمصر ابنه العزيز عثمان
فاستولى عليها وكان بحلب ابنه الظاهر غازي فاستولى عليها وعلى أعمالها
مثل حارم وتل باشر وإعزاز
(5/383)
وبرزية ودربساك وغيرها وأطاعه صاحب حماة
ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شيركوه وله مع حماة سلمية والمعرة
ومنبج وابن محمد بن شيركوه وله مع الرحبة حمص وتدمر وببعلبكّ بهرام شاه
بن فرخ شاه بن شاهنشاه ولقبه الأمجد وببصرى الظافر بن صلاح الدين ولقبه
الأمجد مع أخيه الأفضل وشيرز سابق الدين عثمان ابن الداية وبالكرك
والشويك الملك العادل وبلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك واستدعاه
الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوّفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين
صاحب الموصل وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده
بالنصر منه وأوهمه الرسول إن لم يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى
العزيز بمصر ليحالفه عليه فحينئذ ارتاب العادل وسار إلى الأفضل بدمشق
فتلقاه بالميرة وجهز له العساكر لمدافعة عز الدين صاحب الموصل عن بلاد
الجزيرة وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه
وعبر بها الفرات وأقام بنواحي الرها وكان عز الدين مسعود بن مودود صاحب
الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل
بالجزيرة حران والرها وسائرها ليرتجعها من يده ومجاهد الدين قايماز
أتابك دولته يثنيه عن ذلك ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه
وبينما هو في ذلك إذ جاءت الأخبار بأنّ العادل بحران ثم وافاهم كتابه
بأنّ الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين وأطاعه الناس فكاتب عز الدين
جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم وجاء إليه أخوه
على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل
فمات أوّل رجب من السنة واستقرّت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم
يهجه منها أحد والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق وما استقرّ بينهم في
الولايات
كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقرّ بمصر كما ذكرناه وكان موالي
أبيه منحرفين عن الأفضل ورؤساؤهم يومئذ جهاركس وقراجا وقد استقرّ بهم
عدوّ الأفضل والأكراد وموالي شيركوه شيعة له فكان العدوّ يعدون العزيز
بهؤلاء الشيع ويخوّفونه من أخيه الأفضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده
فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الأفضل وهو
بأعماله بالجزيرة وسار لعمه العادل بنفسه وسار معه الظاهر غازي بن صلاح
الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه صاحب
حماة وشيركوه
(5/384)
ابن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعساكر الموصل
من قبل عز الدين مسعود بن مودود وساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده
فامتنع على العزيز مرامه وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال
فلسطين للعزيز وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وتبقى دمشق وطبرية
والغور للأفضل وأن يستقر العادل بمصر مدبرا دولة العزيز على إقطاعه
الأوّل وانعقد الصلح على ذلك ورجع العزيز إلى مصر وعاد كل إلى بلده
والله تعالى أعلم.
حصار العزيز ثانيا دمشق وهزيمته
ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى أغرائه بأخيه الأفضل
فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى وتسعين وسار الأفضل من دمشق إلى عمه
العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجدا لهما وعاد إلى
دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها واتفقا على أن تكون مصر للأفضل ودمشق
للعادل ووصل العزيز إلى قرب دمشق وكان الأكراد وموالي شيركوه منحرفين
عنه كما قدّمناه وشيعة للأفضل ومقدّمها سيف الدين أبو ركوش من الموالي
وأبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز
وواعداه الهزيمة عنه فخرجا في العساكر وانحاز إليهما الموالي والأكراد
وانهزم العزيز إلى مصر وبعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب
العزيز وساروا في إتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الأفضل فارتاب
العادل وخشي أن لا يفي له الأفضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق
فراسل العزيز بالثبات وأن ينزل حامية ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه
وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في
عسكر من موالي أبيه وأراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل
إلى مصر فمنعه أيضا وقال له إن أخذت مصر عنوة انخرقت الهيبة وطمع فيها
الأعداء والمطاولة أولى ودس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل وكان
مطاعا فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما وعقد الصلح بينهم على
أن يكون للأفضل القدس وفلسطين وطبرية والأردن مضافة إلى دمشق ويكون
للعادل كما كان القديم ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره وتحالفوا على
ذلك وعاد الأفضل إلى دمشق وأقام العادل عند العزيز بمصر انتهى والله
أعلم.
استيلاء العادل على دمشق
ثم أنّ العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها
إليه وكان الظاهر
(5/385)
صاحب حلب يعذل الأفضل في موالاة عمه العادل
ويحرضه على أبعاده فيلج في ذلك ثم أنّ العادل والعزيز ساروا من مصر
وحاصروا دمشق واستمالوا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق
الأفضل به وإحسانه إليه ففتح لهم الباب الشرقي عشيّ السابع والعشرين من
رجب سنة اثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق ووقف العزيز بالميدان
الأخضر وخرج إليه أخوه الأفضل ثم دخل الأفضل دار شيركوه وأظهروا مصالحة
الأفضل خشية من جموعه وأعادوه إلى القلعة وأقاموا بظاهر البلد والأفضل
يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق
وتسليم أعمالها وأعطوه قلعة صرخد وملك العزيز القلعة ونقل للعادل أنّ
العزيز يريد أن يتردّد إلى دمشق فجاء إليه وحمله على تسليم القلعة
فسلمها وخرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به وسار منه إلى
صرخد وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم
بغيبه وأحكم.
فتح العادل يافا من الإفرنج واستيلاء
الإفرنج على بيروت وحصارهم تبنين
ولما توفي صلاح الدين وملك أولاده بعده جدّد العزيز الهدنة مع الكندهري
ملك الإفرنج كما عقد أبوه معه وكان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث
الشواني للإغارة على الإفرنج وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق والعزيز بمصر
فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأمدّوهم
بالعساكر وأكثرهم من الألمان ونزلوا بعكا واستنجد العادل بالعزيز فبعث
إليه بالعساكر وجاءته عساكر الجزيرة والموصل واجتمعوا بعين جالوت
وأقاموا رمضان وبعض شوّال من سنة اثنتين وتسعين ثم ساروا إلى يافا
فملكوا المدينة أوّلا وخربوها وامتنع الحامية بالقلعة فحاصروها وفتحوها
عنوة واستباحوها وجاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم وانتهوا إلى
قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم وخبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم
اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذرا عليها من الإفرنج
فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها وعاد ووصل إليها الإفرنج يوم عرفة من
السنة وهرب منها أسامة وملكوها وفرّق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي
من صيدا بعد تخريب صلاح الدين وعاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى
صور ونزل المسلمون على قلعة هونين ثم نازل الإفرنج حصن تبنين في صفر
سنة أربع وتسعين وبعث العادل عسكرا لحمايته فلم يغنوا عنه ونقب الإفرنج
أسواره
(5/386)
فبعث العادل بالصريخ إلى العزيز صاحب مصر
فأغذ السير بعساكره وانتهى إلى عسقلان في ربيع من السنة وكان المسلمون
في تبنين قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم ويسلمون لهم فأنذرهم بعض
الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم وأصرّوا على الامتناع حتى
وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله ولم يكن لهم ملك وإنما
كان معهم الجنصكير القسيس [1] من أصحاب ملك الألمان والمرأة زوجة
الكندهري فاستدعوا ملك قبرص واسمه هبري وهو أخ الملك الّذي أسر بحطين
فجاءهم وزوّجوه بملكتهم فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل
وأطلّ على الإفرنج وناوشهم القتال رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا
ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز واجتمع جماعة منهم
وهم ميمون القصري وقراسنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز
ومدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذا السير إلى مصر وتراسل العادل
والإفرنج في الصلح وانعقد بينهم في شعبان من السنة ورجع العادل إلى
دمشق وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره والله تعالى أعلم.
وفاة طغتكين بن أيوب باليمن وملك ابنه إسماعيل ثم سليمان بن تقيّ الدين
شاهنشاه
قد كان تقدّم لنا أنّ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار الى المدينة سنة
ثمان وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه واختلاف نوّابه باليمن
واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفي في شوّال سنة ثلاث
وتسعين وكان سيّئ السيرة كثير الظلم للرعية جماعا للأموال ولما استفحل
بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين
يمنعه من ذلك فمنعه ولما توفي ملك مكانه ابنه إسماعيل وبلغ المعز وكان
أهوج فانتسب في بني أمية وادّعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة
وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل وأساء السيرة في
رعيته وأهل دولته فوثبوا وقتلوه وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه
ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره ثم هلك سنقر لأربع سنين
من دولته وقام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم وتزوّج أمّ الناصر ثم
قتل الناصر مسموما وثأر العرب منه بغازي المذكور وبقي أهل اليمن فوضى
واستولى على طغان وبلاد حضر موت محمد بن محمد الحميري واستبدّت أمّ
الناصر وملكت زبيد وبعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على
__________
[1] وفي الكامل: وكان المرجع إلى القسيس الخنصكير من أصحاب ملك
الألمان.
(5/387)
اليمن وكان للمظفر تقيّ الدين عمر بن
شاهنشاه وقيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب ولبس
المسوح ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوّجته وملكته اليمن والله
سبحانه وتعالى أعلم.
مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين
كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب
الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي صاحب نصيبين والخابور والرقة وبين
أبيه عماد الدين قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم فسار نور الدين
إليه في عساكره وملك منه نصيبين ولحق قطب الدين بحران والرها إيالة
العادل بن أيوب وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق وبذل له الأموال في إنجاده
فسار العادل إلى حران وارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل وسار قطب
الدين إليها فملكها وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها
وكان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبا بن تمرتاش
أبي الغازي بن أرتق وهو صبيّ وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه
والحكم له ودام حصاره عليها وملك الربض وقطع الميرة عنها ثم رحل عنها
في العام القابل كما تقدّم في أخبار دولة زنكي والله تعالى ينصر من
يشاء من عباده.
وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الأفضل
ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرّم سنة خمس وتسعين وكان فخر
الدين إياس جهاركس مولى أبيه مستبدا عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار
ماردين يستدعيه للملك وكان جهاركس هذا مقدّم موالي صلاح الدين وكانوا
منحرفين عن الأفضل وكان موالي صلاح الدين شيركوه والأكراد شيعة وجمعهم
جهاركس لينظر في الولاية وأشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين
أيازكوش مقدّم موالي شيركوه لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من
ولد صلاح الدين لأن رياسة العساكر صنعه واتفقوا على الأفضل ثم مضوا إلى
القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضا وأرسل أياز كوش يستدعيه من صرخد فسار
آخر صفر من السنة ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له وخرج أمراء مصر
فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود وفخر الدين جهاركس ودولة العزيز
فقدّم أخاه وارتاب جهاركس واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من
العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى
(5/388)
القدس وتملكه ولحقه جماعة من موالي صلاح
الدين منهم قراجا الدكرمس وقراسنقر وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم
به واتفقوا على عصيان الأفضل وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم
يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين وارتاب الأفضل بموالي صلاح الدين
وهم شقيرة وأنبك مطيش وألبكي ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس وأرسل
الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا وأقام هو بالقاهرة
وقرّر دولته وقدّم فيها سيف الدين أياز كوش والملك لابن أخيه العزيز
عثمان وهو كافل له لصغره وانتظمت أمورهم على ذلك انتهى والله سبحانه
وتعالى أعلم.
حصار الأفضل دمشق وعوده عنها
ولما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب وابن عمه
شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل
عنها في حصار ماردين ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة ووصل إلى
دمشق منتصف شعبان وسبقه العادل إليها وترك العساكر مع ابنه الكامل على
ماردين ولما نزل الأفضل على دمشق وكان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى
الهكاري فداخل قوما من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة
ودخل منه هو والأفضل سرّا وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل
لقلتهم وانقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم ونزل الأفضل بميدان الحصار
وضعف أمره واعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون وانحازوا عنهم
في المعسكر ووصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان وأوّل
رمضان لمظاهرة الأفضل وأرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا
إليه وقوي بهم ويئس الأفضل وأصحابه وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم
حذرين فرجعوا وجاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران
فاستدعاه ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين فعند ذلك رحلت العساكر عن دمشق
وعاد كلّ منهم إلى بلاده انتهى والله أعلم.
إفراج الكامل عن ماردين
قد كان تقدّم لنا مسير العادل إلى ماردين وسار معه صاحب الموصل وغيره
من ملوك الجزيرة وديار بكر وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين
وغلبهم فلما عاد العادل إلى
(5/389)
دمشق لمدافعة الأفضل وترك ابنه الكامل على
حصار ماردين واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها وسار نور
الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب
سنجار وابن عمه قطب الدين سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر
واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر وارتحلوا سادس شوّال وقاربوا
جبل ماردين وكان أهل ماردين قد اشتدّ عليهم الحصار وبعث النظام برتقش
صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه وأذن
لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدّة ثم جاءه الخبر بوصول صاحب
الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم وترك عسكرا بالربض وبعث قطب الدين
صاحب سنجار إلى الكامل ووعده بالانهزام فلم يغن ولما التقى الفريقان
حمل صاحب الموصل عليهم مستميتا فانهزم الكامل وصعد إلى الربض فوجد أهل
ماردين قد غلبوا عسكره الّذي هنالك ونهبوا مخلفهم فارتحل الكامل منتصف
شوّال مجفلا ولحق بميافارقين وانتهب أهل ماردين مخلفه ونزل صاحبها فلقي
صاحب الموصل وعاد إلى قلعته وارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان
والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب
يطلبه في السكة والخطبة فارتاب لذلك وكان عازما على نصرتهم فقعد عنهم
وعاد إلى الموصل وأرسل إلى الأفضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهم يومئذ
على دمشق ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق
وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل والظاهر والله سبحانه وتعالى
أعلم.
استيلاء العادل على مصر
ولما رحل الأفضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر وأغراه موالي
صلاح الدين بذلك واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكا وهو كافله
وبلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل وهو في بلبيس فسار منها ولقيهم فانهزم
لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وتسعين ودخل القاهرة ليلا وحضر الصلاة
على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني توفي تلك الليلة وسار العادل
لحصار القاهرة وتخاذل أصحاب الأفضل عنه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم
الديار المصرية على أن يعوّضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهي حران والرها
وسروج فلم يجبه وعوّضه ميافارقين وجبال نور وتحالفوا على ذلك وخرج
الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل وسار إلى بلده صرخد
ودخل العادل القاهرة من يومه ولما
(5/390)
وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي
عوّضه العادل وكان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين
وسلم ما عداها وردّد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أنّ ابنه عصاه
فعلم الأفضل أنه أمره واستفحل العادل في مصر وقطع خطبة المنصور بن
العزيز وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والإثبات فاستوحشوا لذلك
وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدّم موالي صلاح الدين في عسكر إلى
بانياس ليحاصرها ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي
الصلاحية وكان بها الأمير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته
فبعث العساكر إليه مع جهاركس والله تعالى أعلم.
مسير الظاهر والأفضل إلى حصار دمشق
ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك ولما
كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والأفضل بصرخد أن يحاصرا
دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر ويقومون بدعوتهما
ونمي الخبر إلى العادل وكتب به إليه الأمير عز الدين اسامة جاء من الحج
ومرّ بصرخد فلقيه الأفضل ودعاه الى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به
إلى العادل وأرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار
الأفضل بصرخد وكتب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس وإلى ميمون القصري
صاحب نابلس بالمسير معه إلى صرخد ففرّ منها الأفضل إلى أخيه الظاهر
بحلب فوجده يتجهز لأنه بعث أميرا من أمرائه إلى العادل فردّه من طريقه
فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك وذلك سلخ رجب من سنة سبع وتسعين
وسار المعظم بقصد صرخد وانتهى إلى بصرى وبعث عن جهاركس والذين معه على
بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق وبعث إليهم الأمير أسامة
يستحثهم فأغلظوا له في القول وتناوله البكاء منهم وثاروا به جميعا
فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه وعاد إلى دمشق ثم ساروا إلى الظاهر حضر
به صلاح الدين وأنزله من صرخد واستحثوا الظاهر والأفضل للوصول فتباطأ
الظاهر عنهم وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر
الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص
ومعه أخوه الأفضل ومنها إلى بعلبكّ إلى دمشق ووافاه هنالك الموالي
الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن
تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها وبقيت للظاهر وأقطع الأفضل
صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا وأخرج أهله منها إلى حمص عند شيركوه
بن محمد بن شيركوه وكان العادل قد
(5/391)
سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس
وبعث عسكرا إلى دمشق ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها
يوما وثانيه منتصف ذي القعدة وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل
بأنّ دمشق تكون له فاعتذر بأنّ أهله في غير مستقرّ ولعلهم يأوون إلى
دمشق في خلال ما يملك مصر فلجّ الظاهر في ذلك وكان الموالي الصلاحية
مشتملين على الأفضل وشيعة له فخيرهم بين المقام والانصراف ولحق فخر
الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم وعادوا إلى تجديد الصلح مع
العادل على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وبعض قرى المعرّة
والأفضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتمّ ذلك بينهم ورحلوا عن
دمشق في محرّم سنة ثمان وتسعين وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى حمص
فأقام بها عند أهله ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء وجاء الأفضل فلقيه
بظاهر دمشق وعاد إلى بلاده فتسلمها وكان الظاهر والأفضل لما فعلا من
منبج الى دمشق بعثا الى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل
بالجزيرة وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين واتفاق على العادل
منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان
ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين ونزلوا رأس عين وكان
بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور
الدين في الصلح ووصل الخبر بصلح العادل مع الظاهر والأفضل فأجابهم نور
الدين إلى الصلح واستحلفوا وبعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه
أيضا وصحت الحال والله تعالى وليّ التوفيق.
حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والأشرف
ثم بعث الملك العادل ابنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار
إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار ونزلوا بالحريم تحت ماردين وسار عسكر
من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف فلقيهم
جماعة من عسكر الأشرف وهزموهم وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحي
وامتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم على أن
يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار والدينار أحد عشر
قيراطا من الأميري ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه وتعسكر طائفة من
جنده معه متى دعاهم لذلك فأجاب العادل وتمّ الصلح بينهما ورحل الأشرف
عن ماردين والله أعلم
.
(5/392)
أخذ البلاد من يد
الأفضل
قد كان تقدّم أنّ الظاهر والأفضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ
الأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين وكانت بيده معها قلعة نجم التي
ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استردّ العادل البلاد من يد
الأفضل سنة تسع وتسعين وأبقى له سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم
على أن يشفع له عند العادل في ردّ ما أخذ منه فلم يجب فتهدّده ولم تزل
الرسل تتردّد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة وبعث الأفضل
أمّه إلى العادل في ردّ سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل
إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب
له فبعث إليه بالخلعة وخطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة وسار من
جملة نوابه في أعماله وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن
العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة
ست وتسعين خاف على مصر من شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق
ثم نقله في هذه السنة إلى الرها ومعه أخواته وأمه وأهله فأقاموا بها
والله أعلم.
واقعة الأشرف مع صاحب الموصل
كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وبين ابن عمه
قطب الدين صاحب سنجار واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له
بأعماله وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة
ستمائة وبعث قطب الدين يستمدّ الأشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار
إلى رأس عين لإمداده ومدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع
مظفر الدين صاحب أربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد ففارق نور
الدين نصيبين وسار إليها الأشرف وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين
وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة وساروا جميعا إلى بلد البقعاء ونور الدين
صاحب الموصل قد انصرف من تل أعفر وقد ملكها إلى كفر زمان معتزما على
مطاولتهم إلى أن يفترقوا ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عينا عليهم
فقللهم في عينه وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريبا
منهم ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل
الأشرف وأصحابه كفر زمان وعاثوا في البلاد واكتسحوها وتردّدت الرسل
بينهم في الصلح على أن
(5/393)
يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر
التي أخذها له فتمّ ذلك سنة إحدى وستمائة وعاد إلى بلده والله تعالى
أعلم.
وصول الإفرنج إلى الشام والصلح معهم
ولما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى وستمائة تكالبوا
على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسوا بعكا عازمين على ارتجاع
القدس من المسلمين ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها وكان العادل
بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر وسار فنزل بالطور قريبا من عكا
لمدافعتهم وهم قبالته بمرج عكا وساروا إلى كفركنا فاستباحوه ثم انقضت
سنة إحدى وستمائة وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير
من مناصف الرملة وغيرها ويعطيهم [1] وغيرها وتمّ ذلك بينهم وسار العادل
إلى مصر فقصد الإفرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه
وأقاموا أياما عليها ثم رجعوا والله تعالى أعلم.
غارة ابن ليون على أعمال حلب
قد تقدّم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن وصاحب الدروب فأغار سنة اثنتين
وستمائة على أعمال حلب واكتسحها واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب
حلب ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه
منسوبا إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه وكان الطريق إلى بلاد
الأرمن متعذرا من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق وكان ابن ليون قد
نزل في طرف بلاده لما يلي حلب ومن ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر
عليها منه وبعث اليها مددا وأمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره
ففعل وبقي في خف الجند ووصل خبره الى ابن ليون فكبس القصري ونال منه
ومن المسلمين وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم ورجع فلقي في طريقه المدد
الّذي بعث الى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم وعاد الأرمن الى بلادهم
فاعتصموا بحصونهم والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 321: وكان الملك العادل أبو بكر بن
أيوب بمصر فسار منها إلى الشام فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد، وبرز
الفرنج من عكا ليقصدوه. (ويذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 614) .
(5/394)
استيلاء نجم الدين
بن العادل على خلاط
كان العادل قد استولى على ميافارقين وأنزل بها ابنه الأوحد نجم الدين
ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط وزحف إليها سنة ثلاث
وستمائة وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتله وهزمه وعاد إلى
ميافارقين فهزمهم ثم دخلت سنة أربع وستمائة وملك مدينة سوس وغيرها
وأمدّه أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم
الدين وحاصره بخلاط وبعث بليان إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان
صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره واجتمع مع بليان وانهزم نجم
الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصرها ثم غدر طغرل شاه ببليان وقتله
وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد
إلى بلاده وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها وخافه
الملوك المجاورون له وملك الكرك وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج
إليهم خشية على خلاط واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وان
من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير
وملكوا مدينة أرجيش واستمدّ نجم الدين على خلاط وأعمالها وعاد أخوه
الأشرف إلى أعماله بحران والرها ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد
ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة
ونادوا بشعار بني شاهرين وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من
الجزيرة فقوي بهم وحاصر خلاط واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها وحبس
كثيرا من أعيانها كانوا فارّين وذلّ أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة
إلى آخر الدولة والله تعالى أعلم.
غارات الإفرنج بالشام
كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحشد [1] ثان
ما ملكوا القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس وحصن
الأكراد منهم على حمص وأعمالها وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه
عن دفاعهم واستنجد عليهم فأنجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده
للمدافعة عنه وأغار أهل قبرص في البحر على أسطول مصر فظفروا
__________
[1] وفي الكامل ج 12 ص 273: في هذه السنة (6044) كثر الفرنج الذين
بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها ونازلوا
مدينة حمص. وكان جمعهم كثيرا.
(5/395)
منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها وبعث
العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأنّ أهل قبرص في طاعة
الإفرنج الذين بالقسطنطينية وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في
العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين ثم سار
إلى حمص ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه [1] وأطلق صاحبه وغنم ما
فيه وخربه وتقدّم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثني عشر يوما وعاد إلى
بحيرة قدس وراسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر
الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكرا أنجده بهم وعاد
إلى دمشق فشتى بها والله أعلم.
غارات الكرج على خلاط وأعمالها وملكهم
أرجيش
ولما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مرّ ردّد الكرج الغارات على
أعمالها وعاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة أرجيش
فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخرّبوها وخام نجم الدين عن لقائهم
ومدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ووقع بينه وبينهم ما
مرّ ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها وحاربهم الأوحد وهزمهم
وأسر ملكهم ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير وعلى الهدنة مع
المسلمين وأن يزوّج بنته من الأوحد فانعقد ذلك والله تعالى أعلم بغيبة.
استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل
سنجار وحصارها
قد تقدّم لنا أنّ قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار
والخابور ونصيبين وما إليها كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان
شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة وزوّج
نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة
واتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على
جزيرة ابن عمر وأعمالها التي لابن عمه سنجر شاه بن غازي بن مودود فتكون
الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل وملك العادل سنجار وما إليها وهي
ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك ورآه ذريعة إلى ملك
الموصل وأطمع نور الدين في إيالة
__________
[1] القلعتين: اسم حصن ولذلك تصبح العبارة: ونازل حصن القلعتين ففتحه.
(5/396)
قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الّذي هو
صهره على ابنته وتكون عنده بالموصل وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة
وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع
منه وندم على ما فرط في رأيه من وفادته ورجع إلى الاستعداد للحصار
وخوّفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به وسار العادل من
الخابور إلى نصيبين فملكها وقام بمدافعته عن قطب الدين وحماية البلد من
الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه وشرع نور الدين في تجهيز العساكر مع
ابنه القاهر مددا للعادل وبعث قطب الدين صاحب سنجار ابنه مظفر الدين
يستشفع به إلى العادل لمكانه منه وأثره في موالاته فشفع ولم يشفعه
العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه وسار
بعساكره من الموصل واجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب
الظاهر وصاحب بلاد الروم كنجسرو [1] وتداعوا على الحركة إلى بلاد
العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار وبعثوا إلى الخليفة
الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن
المبارك بن الضحاك والأمير اقباش من خواص مواليه فأجاب إلى ذلك ثم
غالطهم وذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا
على ذلك وعاد كل إلى بلده ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على
الأمير أسامة بأمر أبيه العادل وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من
أعماله فخر بهما وحصن أردن بالكوكب وبني مكانه حصنا قرب عكا على جبل
الطور وشحنه بالرجال والأقوات والله تعالى أعلم.
وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية ابنه العزيز
لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج
وغيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة وكان مرهف الحدّ
ضابطا جماعة للأموال شديد الانتقام محسنا للقضاة وعهد بالملك لابنه
الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين وعدل عن الكبير لأنّ أمّه بنت
عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين وجعل أتابكه وكافله وخادمه طغرلبك
ولقبه شهاب الدين وكان خيرا صاحب إحسان ومعروف فأحسن كفالة الولد وعدل
في سيرته وضبط الإيالة بجميل نظره والله أعلم.
ولاية مسعود بن الكامل على اليمن
ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى
زوجته أمّ الناصر
__________
[1] وفي نسخة اخرى: كنخسرو.
(5/397)
التي ملكته وضارّها وأعرض عنها واستبدّ
بملكه وملأ الدنيا ظلما وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة ثم انتقض على
العادل وأساء معاملته وكتب إليه بعض الأحيان أنه من سليمان وأنه بسم
الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى
اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف واسمه بالتركي أقسنس في
العساكر سنة اثنتي عشرة وستمائة فملك اليمن وقبض على سليمان شاه وبعث
به معتقلا إلى مصر فلم يزل بها إلى أن استشهد في حروب دمياط مع الإفرنج
أعوام تسع وأربعين وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة وقدم
أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب
إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك فقد نبذت
وراء ظهرك دنياك ودينك ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه فاستعتب إلى أبيه
وأعتبه ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني
إدريس بن مطاعن من بني حسن وولّى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة
وغلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره ونصب للملك ابنه
الأشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبدّ ابن رسول باليمن وأورثه بنيه
فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها أن شاء الله
تعالى.
وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل
الشام ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها
كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي
وكانوا كلهم يدينون بطاعته وبلغه اختلاف أموال الإفرنج بساحل الشام
وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا
أمره من إيالته وتقدّم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا
العساكر فامتثلوا أمره وتوافت الإمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع
عشرة وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الإفرنج من عكا ليصدّوه فسار
إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد ويدافعهم عنها فسبقوه ونزل هو على
بيسان من الأردن وزحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة وكان في خف من
العساكر فخام عن لقائهم ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفر واستدعى العساكر
ليجمعها وانتهب الفرنج مخلفه في بيسان واكتسحوا ما بينها وبين بانياس
ونازلوا بانياس ثلاثا ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال
وامتلأت أيديهم من نهبها وسباياها ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا
والشقيف على فرسخين من بانياس وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر ثم حاصروا
حصن الطور على جبل
(5/398)
قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها
سبعة عشر يوما وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها وبعث العادل ابنه
المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج ثم سار الإفرنج
من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها في صفر والنيل بينهم وبينها
وكان على النيل برج حصين تمرّ منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة
تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر فلما نزل الإفرنج
بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سورا بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار
دمياط واستكثروا من آلات الحصار وبعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن
يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل
قريبا من دمياط بالعادلية وألحّ الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر
حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط
فبنى الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا
عليه قتالا شديدا حتى قطعوه فأمر الكامل بمراكب مملوءة بالحجارة
وخرقوها وغرّقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل
الإفرنج إلى خليج الأزرق وكان النيل يجري فيه قديما فحفروه فوق الجسر
وأجروا فيه الماء إلى البحر وأصعدوا مراكبهم إلى [1] قبالة معسكر
المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لأنّ دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا
معهم وهم في مراكبهم فلم يظفروا والميرة والإمداد متصلة إلى دمياط
والنيل حاجز بينهم وبين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق ثم بلغ
الخبر بموت العادل فاختلف العسكر وسعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن
سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل وولاية أخيه الأصغر
الفائز ونمى الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح وتفقده
المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل وخلفوا سوادهم بما فيه
فاستولى عليه الإفرنج وعبروا النيل إلى البرّ المتصل بدمياط وجالوا
بينها وبين أرض مصر وفسدت السابلة بالأعراب وانقطعت الميرة عن دمياط
واشتدّ الإفرنج في قتالها وهي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها
بغتة ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج
فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروه
ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها وأقام الكامل قريبا منهم لحماية
البلاد وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط والله
تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 324: واصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع
يقال له بورة على أرض الجيزة أيضا مقابل المنزلة التي فيها الملك
الكامل ليقاتلوه من هناك.
(5/399)
وفاة العادل واقتسام
الملك بين بنيه
قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاءوا من وراء البحر إلى سواحل
الشام سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وأنه عاد إلى مرج
الصفر قريبا من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو إلى
خانقين فأقام بها ثم مرض وتوفي سابع جمادى الأخيرة سنة خمس عشرة
وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره وكان ابنه
المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق وقام بملكها واستأثر بمخلفه من
المال والسلاح وكان لا يعبر عنه يقال كان المال العين في سترته سبعمائة
ألف دينار وكان ملكا حليما صبورا مسدّدا صاحب إفادة وخديعة منجمة في
أحواله وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس
وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة
غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب
الدين غازي وقلعة جعبر للخضر أرسلان شاه فلما توفي استقل كل منهم بعمله
وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب
عسكره وسعى المشطوب كما تقدّم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك
إلى أخيه المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر وأخرج المشطوب إلى
الشام فلحق بأخيهما الأشرف وصار في جملته واستقام للكامل ملكه بمصر
ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة وخرب أسواره حذرا
عليه من الإفرنج وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه وأقام الكامل قبالتهم
والله تعالى ينصر من يشا من عباده.
وفاة المنصوب صاحب حماة وولاية ابنه الناصر
قد تقدّم لنا أنّ صلاح الدين كان قد أقطع تقيّ الدين عمر ابن أخيه
شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك
حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها
صلاح الدين ثم سار إلى بلاد أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها ثم
انتقل إلى حصار ملازكرد وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين
محمد ويلقب المنصور على أعماله ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة
وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور
فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من
ولايته عليها بعد مهلك عمّ أبيه صلاح الدين والعادل
(5/400)
وكان ابنه وليّ عهده المظفر عند العادل
بمصر وابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره
لملازكرد فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه ما لا يحمله
وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر وجاءه أخوه وليّ العهد من مصر
فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم
يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم.
مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه
ودخولها في طاعة الأشرف
قد كنا قدّمنا وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث
عشرة وولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم
مولى أبيه الظاهر وأنّ شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل
وعف عن أموال الرعية وردّ السعاية فيهم بعضهم على بعض وكان بحلب رجلان
من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقي الناس
منهما شدّة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشرّ وردّ عليهما
السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد
الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها ثم رأى أنّ ذلك لا
يتمّ إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه وكان الأفضل
بن صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضبا من أخيه الظاهر
وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على
أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس ثم
يقصدون بلاد الأشرف بالجزيرة حران والرها وما إليهما على هذا الحكم
وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة
رعبان فتسلمها الأفضل ثم قلعة تل باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم
الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه
فاستوحش الأفضل وأهل البلدان بفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل
العزيز بن الظاهر مقيما بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر
إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة
باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس
عشرة ومعه [1] وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب ونزل بظاهر حلب
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 12 ص 349: وسار إليهم في عساكره التي
عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم،
وأحضر إليه العرب من طيِّئ وغيرهم ونزل بظاهر حلب.
(5/401)
وتوّجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج
وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها فلما
عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده وسار الأشرف فملك رعبان وتل
باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم
في دار وأحرقهم عليهم فهلكوا وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب
الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على إتباع كيكاوس إلى بلاده
فأدركه الخبر بوقاة أبيه العادل فرجع انتهى والله تعالى أعلم.
دخول الموصل في طاعة الأشرف وملكه سنجار
قد ذكرنا في دولة بني زنكي أنّ القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي
في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولي ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة
مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته وكان أخوه عماد الدين زنكي
في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وأنه بعد
وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العماديّة وظاهره مظفر الدين
كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن
العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته فأرسل إليه بالطاعة وكان
على حلب مدافعا لكيكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف
بالقبول ووعده النصر على أعدائه وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع
من نكث العهد في اليمين التي كانت بينهم جميعا ويأمره بإعادة عماد
الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل والا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن
أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج
فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى
الأشرف عسكرا إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى
عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر وجاءت الرسل من الخليفة
الناصر والملك الأشرف فأصلحوا بينهما وتحالفا ثم وثب عماد الدين زنكي
إلى قلعة كواشى فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف وهو على حلب يستنجده فعبر
الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف وحملهم على طاعة
كيكاوس والخطبة له وكان عدوّ الأشرف ومنازعا له في منبج كما نذكره وبعث
أيضا إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي
المشطوب صاحب الفعلة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين
الحميدي وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف
من العبور إلى الموصل ثم استمال الأشرف
(5/402)
صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين [1]
وجبل الجودي ووعده بدارا إذا ملكها ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه
الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع
وسار كل ملك إلى عمله وسار ابن المشطوب إلى إربل ومرّ بنصيبين فقاتله
عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزما واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه
عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكرا فجاءوا به أسيرا وكان في طاعة
الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين
إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار ثم سار ثانيا
للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكرا بتل أعفر من أعمال سنجار
فلما مرّ بهم قاتلوه وصعد إلى تل أعفر منهزما وجاء لؤلؤ من الموصل
فحاصره بها شهرا أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة وحبس
ابن المشطوب بالموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في
ربيع الآخر من سنة سبعة عشر ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران
محاصرا لماردين ثم صالحه على أن يردّ عليه رأس عين وكان الأشرف أقطعه
له وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد
قلعة المور من بلده ورجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان
عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت
ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد
للأشرف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك
فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة
وسلم سنجار في مستهلّ جمادى الاولى سنة سبعة عشر وفارقها عمر فروخ شاه
وإخوته بأهليهم وأموالهم وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع
عشر جمادى الأولى من السنة وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح
وردّ ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العماديّة
وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره
من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم
القلاع إلى مدّة ضربوها وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتمّ تسليم
الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع
فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الأجل واستمال عماد الدين زنكي
شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه وردّ عليه قلعة
العقروسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى
أعلم.
__________
[1] هي جنين.
(5/403)
ارتجاع دمياط من يد
الإفرنج
ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر
بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم وبنى المنصورة بعد المنزلة
وأقام كذلك سنين وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها واستيلاء إخوانهم عليها
فلهجوا بذلك وتوالت امدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه
وتواترت الأخبار بظهور التتر ووصولهم إلى أذربيجان وأران وأصبح
المسلمون بمصر والشام على تخوّف من سائر جهاتهم واستنجد الكامل بأخيه
المعظم صاحب دمشق وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية وسار المعظم إلى
الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى
أن انقضت تلك الفتنة ثم تقدّم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر
وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما وسار المعظم إلى
الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب
والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبكّ فوجدوا الكامل
على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة
النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الإفرنج على
الديار المصرية فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر وجاء المعظم بعد
الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني
المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها ثم تردّدت الرسل
بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة
واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة
الكرك والشويك وزيادة ثلاثمائة ألف دينار لرمّ أسوار القدس التي خرّبها
المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم
لم يحملوها من دمياط ظنا بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا
لهم ما لم يحتسبوا ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها
فركبها الماء ولم يبق لهم الا مسلك ضيق ونصب الكامل الجسور عند اشمون
فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط
ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت
عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها واشتدّ الحال
عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال
يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا
الاستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى
الكامل والأشرف
(5/404)
على تسليم دمياط من غير عوض وبينما هم في
ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مرّ فازدادوا وهنا وخذلانا
وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكا منهم رهنا عليها
وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوما
مشهودا ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها
المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام والله تعالى
أعلم.
وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط
وولاية أخيه الظاهر غازي عليها
قد تقدّم لنا أنّ الأوحد نجم الدين بن العادل ملك ميافارقين وبعدها
خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان
بيده من الأعمال لأخيه الأشرف ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة
عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل واستقلّ ولده الأشرف
بالبلاد الشرقية عقد لأخيه غازي على خلاط وميافارقين مضافا إلى ولايته
من أبيه العادل وهو سروج والرها وجعله وليّ عهده لأنه كان عاقرا لا
يولد له وأقام على ذلك إلى أن انتقض على الأشرف عند ما حدثت الفتنة بين
بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
فتنة المعظم مع أخويه الكامل والأشرف وما
دعت إليه من الأحوال
كان بنو العادل الكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل
واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى
الكامل وفي طاعته ثم تغلب المعظم عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور
بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى
سلمية والمعرّة من أعمالها فملكها وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير
والإفراج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلميّة لنزيله
المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة وكشف المعظم قناعة في فتنة أخويه
الكامل والأشرف وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما وكان
جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما
غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة
(5/405)
وعراق العجم وجاز إلى الهند ثم رجع سنة
إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان
ونزل توريز وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه
واستنجده على أخويه فأجابه ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على
خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر
غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية وأظهر عصيانه في ولايته التي
بيده فسار إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولّى
عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل واستخدم للأشرف
وترقى في خدمته الى أن ولاه خلاط وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي
وأقرّه على ميافارقين وسار المظفر صاحب إربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة
الأشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى
حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت
عليه ورجع إلى دمشق ثم سار الأشرف إلى المعظم طالبا للصلح فأمسكه عنده
على أن ينحرف عن طاعة الكامل وانطلق إلى بلده فاستمرّ على شأنه ثم زحف
جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحاصرها مرّة بعد
مرّة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين وملك
حصونها واضطرب الحال بينهم وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بمالأته
لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج وكات بالامبراطور ملكهم
من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس
وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه
والله تعالى أعلم.
وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر
ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك
ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولي مكانه ابنه
داود ولقب بالناصر وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه وجرى على
سنن المعظم أوّلا في طاعة الكامل والخطبة له ثم انتقض سنة خمس وعشرين
عند ما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشويك فامتنع وانتقض وسار
الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم
وولّى عليها من قبله واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق وخرج
منها إلى نابلس ثم تقدّم منها إلى الكامل ليصلح أمر الناصر معه فدعاه
الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه إياها فلم يجب الناصر الى
ذلك وعاد الى دمشق فحاصره
(5/406)
الأشرف ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ
لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا
عليها كذلك وزحف الكامل الى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف وخاف
الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقلّ بالكرك والشويك والبلقاء
[1] فسلموا له في ذلك وسار إليها واستولى الأشرف على دمشق ونزل للكامل
عن أعماله وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل
الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مرّ خبره والله
تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد
أخيه الناصر
ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب
حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه
بالعساكر وسار إليها فحاصرها ودسّ لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه
ليلا فطرقها وتسوّرها وملكها وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة
ماردين فأقطعه إياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه
بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى
حسام الدين علي بن أبي عليّ الهدباني فقام بها ثم استوحش منه فلحق
بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنة
ثلاثين فهمّ الناصر بأن يملكها للإفرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره
بانتزاعها منه ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين انتهى
والله أعلم.
استيلاء الأشرف على بعلبكّ من يد الأمجد وإقطاعها لأخيه إسماعيل بن
العادل
كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخ شاه أخي تقيّ
الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبكّ وكانت بصرى لخضر ثم صارت بعد
وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست
وعشرين إلى بعلبكّ وحاصرها بها
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الكامل 12 ص 483: وبذل له تسليم دمشق على أن يبقى
عليه الكرك وقلعة الشويك والغور ونابلس وملك الأعمال.
(5/407)
الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه
إياه إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتلته مواليه والله سبحانه وتعالى
أعلم.
فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف
واستيلاؤه على خلاط
قد كنا قدّمنا أنّ جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان وجاور أعمال بني
أيوب وكان الأشرف قد ولّى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة
اثنتين وعشرين حسام الدين أبا علي الموصلي ثم صالح المعظم جلال الدين
خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدّمناه فزحف جلال الدين
خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرّتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى
بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التي كانت زوجة أزبك بن البهلوان
وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من
التحكم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط
واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد فسار وملك خوي وما فيها من الحصون
ومدينة قرند وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه
زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك ثم ارتاب
الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أبيك فقبض
على حسام الدين وكان عدوّا له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين
ثم زحف جلال الدين في شوّال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها
المجانيق وقطع عنها الميرة مدّة ثمانية أشهر ثم ألحّ عليها بالقتال
وملكها عنوة آخر جمادى الاولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها
بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم
يسمع بمثله ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى
حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم.
مسير الكامل في إنجاد الأشرف وهزيمة جلال
الدين أمام الأشرف
ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل
بمصر يستنجده فسار معه وولّى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب
الكرك الناصر بن
(5/408)
المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر
بني أيوب وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته ثم سار إلى آمد فملكها من يد
مسعود بن محمد بن الصالح بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق وكان
صلاح الدين أقطعه إياها عند ما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه
اعتقله وملك آمد ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر ثم
استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضا عن
دمشق وهي حران والرها وما إليهما ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح
نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم
فاغتمّ لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب أرزن
من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران
يستنجدهما ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى
علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط وسار جلال الدين للقائهما
والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدّم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر
بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين وانهزم
إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان ووقف الأشرف على خلاط وهي
خاوية وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيرا إلى ابن عمه
علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من
القلاع ثم تردّدت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل
على ما بيده وتحالفوا وعاد الأشرف إلى سنجار وسار أخوه غازي صاحب
ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر وكان حاضرا مع الأشرف في هذه
الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار
إليه شهاب الدين غازي وحاصره وملك منه أرزن صلحا وأعطاه عنها مدينة
جاني من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك
يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم.
استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته
وولاية ابنه الناصر بعده
كان سابق الدين عثمان ابن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين
محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك
وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه
إلى أن استقرّت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه
صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين
(5/409)
وستمائة وملكها من يده ثم هلك سنة أربع
وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدّته لأبيه صفية
خاتون بنت العادل واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين
المجلي وإقبال الخاتوني وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من
عباده.
فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على
خلاط
كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومدّيده إلى
ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين
شاه كما قدّمناه ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار
بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى
إلى النهر الأزرق من تخوم الروم وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من
أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب ثم
استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت وكان لبني أرتق
ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وكيقباد في أتباعهم
ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولّى عليها من قبله
وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم.
وفاة الأشرف بن العادل واستيلاء الكامل على
ممالكه
كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته
ومالأه على ذلك أهل حلب وكنجسرو صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من
قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل
وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرّة والتكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة
خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها
وملكها وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا
المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق
فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحا من الصالح وعوّضه عنها بعلبكّ
واستولى على سائر أعمال الأشرف ودخل سائر بني أيوب في طاعته والله أعلم
.
(5/410)
وفاة الكامل وولاية
ابنه العادل بمصر واستيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق
ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين
بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده
المظفر إلى حماة والناصر إلى الكرك وبويع بمصر ابنه العادل أبو بكر
فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائبا عنه
وسار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه وتمكن
في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل وراسل الصالح أيوب في أن يملكه
دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار
الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق وسار يونس إلى البلاد الشرقية
فاستولى عليها ولم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه
عليها واستقرّت دمشق في يد الصالح ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد
سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل إلى الإفرنج
بعكا وباعوه من الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله انتهى والله
أعلم.
أخبار الخوارزمية
ثم زحف التتر إلى أذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان
وعشرين وإنفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم
فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات وملك ابنه كنجسرو
ارتاب بهم وقبض على أمرائهم وانفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات
فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في
استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الأرزاق
ولما توفي الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا
النواحي وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية
فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقي بهم لؤلؤا فهزمه وغنم معسكره والله
تعالى أعلم.
مسير الصالح إلى مصر واعتقال الناصر له
بالكرك
لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء
أخيه الصالح على
(5/411)
دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح
إسماعيل من بعلبكّ ليسير معه فاعتذر عن الوصول وسار الصالح أيوب وولى
على دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه
الصالح إسماعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص وقبض على المغيث فتح الدين
بن الصالح أيوب وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانقضت عنه العساكر ودخل
نابلس وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله وبعث فيه أخوه
العادل فامتنع من تسليمه إليه ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج
وخرّب القلعة والله تعالى وليّ التوفيق.
وفاة شيركوه صاحب مصر وولاية ابنه إبراهيم
المنصور
ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين
وكانت ولايته أوّل المائة السابعة وولي من بعده ابنه إبراهيم ويلقب
بالمنصور والله أعلم.
خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح
أيوب على مصر
ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من
الاعتقال فاجتمعت إليه مواليه واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه
العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود وانتهى
إلى غزة وبرز العادل إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على
أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور ثم وثب بالعادل في معسكره
مواليه ومقدّمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء
ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في
ملكه وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك واستوحش من الأمراء الذين
وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم أيبك الأسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس
أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين ثم اختط قلعة بين سعي
النيل إزاء المقياس واتخذها مسكنا وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا
يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى والله أعلم.
فتنة الخوارزمية
ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية وعبروا الفرات وقصدوا حلب
فبرزت إليهم
(5/412)
عساكرها مع المعظم توران شاه بن صلاح الدين
فهزموه وأسروه وقتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط وكان في جملته
وملكوا منبج عنوة ورجعوا ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة
وعاثوا في البلاد وجمع أهل حلب العساكر وأمدّهم الصالح إسماعيل من دمشق
بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى
حران ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا واستولى عسكر حلب على حران والرها
وسروج والرقة ورأس عين وما إليها وخلص المعظم توران شاه فبعث به لؤلؤ
صاحب الموصل إلى عسكر حلب ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم
توران شاه وغلبوه على آمد وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر
واستدعى هو لملكها فسار لذلك وولي ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن
غلب التتر على بلاد الشام ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازي
صاحب ميافارقين من أقتال صاحب حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص
فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
أخبار حلب
قد كان تقدّم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه ثم توفي سنة
أربع وثلاثين ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدّته أم
العزيز صفية خاتون بنت العادل ولؤلؤ الأرمني وإقبال الخاتوني وعز الدين
بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها وما زالت تجهز العساكر لدفاع
الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين واستقل الناصر بتدبير
ملكه وصرف النظر في أموره لجمال الدين إقبال الخاتوني والله أعلم.
فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح إسماعيل
على دمشق واستيلاء أيوب آخرا عليها
قد كان تقدّم لنا أنّ الصالح إسماعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على
دمشق عند مسيره إلى مصر فملك دمشق سنة ست وثلاثين وكان بعد ذلك اعتقال
الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين وبقيت الفتنة متصلة
بينهما وطلب الصالح إسماعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب
صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء
بعصره وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام
(5/413)
الشافعيّ ولحق بمصر فولاه الصالح خطة
القضاء بها ثم خرج بعده جمال الدين ابن الحاجب المالكي إلى الكرك ولحق
بالإسكندرية فمات بها ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب واتفق
عليها إسماعيل الصالح صاحب دمشق والناصر يوسف صاحب حلب وجدّته صفية
خاتون وإبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص وخالفهم المظفر صاحب حماة
وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب وأقام حالهم في الفتنة على ذلك ثم جنحوا
إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب
الّذي اعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك واستجدّت الفتنة وسار الناصر داود
صاحب الكرك مع إسماعيل الصالح صاحب دمشق واستظهروا بالإفرنج وأعطاهم
إسماعيل القدس على ذلك واستنجد بالخوارزمية أيضا فأجابوه واجتمعوا بغزة
وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمّة باعتقاله معه
فتلاقوا مع الخوارزمية وجاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه
ولاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى
دمشق وحاصروا بها الصالح إسماعيل إلى أن جهده الحصار وسأل في الصلح على
أن يعوّض عن دمشق ببعلبكّ وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك وخرج
إسماعيل من دمشق إلى بعلبكّ سنة ثمان وأربعين وبعث نجم الدين إلى حسام
الدين علي بن أبي علي الهدباني وكان معتقلا عند إسماعيل بدمشق فشرط نجم
الدين إطلاقه في الصلح الأوّل فأطلقه وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق
فقام بها وانصرف إبراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة منه سلمية
فملكها واشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات والإقطاعات
وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسماعيل إلى دمشق موصلا الكرة ومعه
الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام وبعث نجم الدين
من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في
عساكره ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق
سنة أربع وأربعين وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان وذهب بقيتهم مع
مقدّمهم الآخر كشلوخان فلحقوا بالتتر واندرجوا في جملتهم وذهب أثرهم من
الشام واستجار إسماعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من
نجم الدين أيوب وسار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق الى بعلبكّ
وتسلمها بالأمان وبعث بأولاد إسماعيل ووزيره ناصر الدين يغمور الى نجم
الدين أيوب فاعتقلهم بمصر وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب الى
الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ وملك الناصر نصيبين
ودارا وقرقيسيا وعاد عسكره إلى حلب والله تعالى أعلم.
(5/414)
مسير الصالح أيوب إلى دمشق أوّلا وثانيا
وحصار حمص وما كان مع ذلك من الأحداث
ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدباني من دمشق وولى مكانه عليها جمال
الدين بن مطروح ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدباني على
مصر ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان
وطبرية فحاصرهما مدّة وفتحها من يد الإفرنج ووفد على الصالح بدمشق
المنصور صاحب حماة وكان أبوه المظفر توفي سنة ثلاث وأربعين وولّى
المنصور ابنه هذا واسمه محمد ووفد أيضا الأشرف موسى صاحب حمص وقد كان
أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى
مصر وافدا على الصالح أيوب وأقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب
الأشرف وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الأرمني وحصروا مصر
شهرين وملكوها من يد موسى الأشرف وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب
مضافة إلى الرحبة وتدمر وكانتا بيده مع حمص وغضب لذلك الصالح فسار من
مصر إلى دمشق وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدباني وفخر
الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدّة وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى
الصالح أيوب شافعا فأفرج العساكر عنها وولّى على دمشق جمال الدين يغمور
وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم.
|