تاريخ ابن خلدون

 [المجلد السادس]
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة أهل الجيل الناشئ لهذا العهد من بقية أهل الدولة الإسلامية من العرب
لما استقلّت مضر وفرسانها وأنصارها من اليمن بالدولة الإسلامية، فيمن تبع دينهم من إخوانهم ربيعة ومن وافقهم من الأحياء اليمنيّة، وغلبوا الملل والأمم على أمورهم، وانتزعوا الأمصار من أيديهم، وانقلبت أحوالهم من خشونة البداوة وسذاجة الخلافة إلى عزّ الملك وترف الحضارة، ففارقوا الحلل وافترقوا على الثغور البعيدة والأقطار البائنة عن ممالك الإسلام، فنزلوا بها حامية ومرابطين عصبا وفرادى. وتناقل الملك من عنصر إلى عنصر ومن بيت الى بيت، واستفحل ملكهم في دولة بني أميّة وبني العبّاس من بعدهم بالعراق، ثم دولة بني أمية الأخرى بالأندلس، وبلغوا من الترف والبذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم، فانقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم، واستأثروا مهاد الدعة واستطابوا خفض العيش، وطال نومهم في ظلّ الغرف والسلم، حتى ألفوا الحضارة ونسوا عهد البادية وانفلتت من أيديهم الملكة التي نالوا بها الملك، وغلبوا الأمم من خشونة الدين وبداوة الأخلاق، ومضاء المضرب.

(6/3)


فاستوت الحامية والرعية لولا الثقافة، وتشابه الجند والحضر إلّا في الشارة. وأنف السلطان من المساهمة في المجد والمشاركة في النسب، فجدعوا أنوف المتطاولين إليه من أعياصهم وعشائرهم ووجوه قبائلهم، وغضّوا من عنان طموحهم، واتخذوا البطانة مقرّهم من موالي الأعجام وصنائع الدولة، حتى كثروا بهم قبيلتهم من العرب الذين أقاموا الدولة، ونصروا الملّة ودعموا الخلافة، وأذاقوهم وبال الخلابة من القهر، وساموهم خطّة الخسف والذلّ، فأنسوهم ذكر المجد وحلاوة العزّ، وسلبوهم نصرة العصبيّة حتى صاروا أجراء على الحامية، وخولا لمن استعبدهم من الخاصّة وأوزاعا متفرّقين بين الأمّة، وصيّروا لغيرهم الحلّ والعقد والإبرام، والنقض من الموالي والصنائع، فداخلتهم أريحية العزّ وحدّثوا أنفسهم بالملك، فجحدوا الخلفاء وقعدوا بدست الأمر والنهي. واندرج العرب أهل الحماية في القهر واختلطوا بالهمج، ولم يراجعوا أحوال البداوة لبعدها، ولا تذكّروا عهد الأنساب لدروسها. فدثروا وتلاشوا شأن من قبلهم وبعدهم، سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ من قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا. 48: 23 (وكان المولدون) لتمهيد قواعد الأمر، وبناء أساسه من أوّل الإسلام والدين والخلافة من بعده، والملك، قبائل من العرب موفورة العدد عزيزة الأحياء. فنصروا الإيمان والملّة، ووطّدوا أكناف الخلافة، وفتحوا الأمصار والأقاليم، وغلبوا عليها الأمم والدول. أمّا من مضر: فقريش وكنانة وخزاعة وبنو أسد وهذيل وتميم وغطفان وسليم وهو زان، وبطونها من ثقيف وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة ومن إليهم من الشعوب والبطون والأفخاذ والعشائر والخلفاء والموالي. وأما من ربيعة: فبنو ثعلب بن وائل وبنو بكر بن وائل وكافة شعوبهم من بني شكر وبني حنيفة وبني عجل وبني ذهل وبني شيبان وتيم الله. ثم بنو النمر من قاسط، ثم عبد القيس ومن إليهم. وأمّا من اليمنية ثم من كهلان بن سبإ منهم: فأنصار الله الخزرج والأوس ابنا قيلة من شعوب غسّان وسائر قبال الأزد، ثم همذان وخثعم وبجيلة، ثم مذحج وكافة بطونها من عبس ومراد وزبيد والنّخع والأشعريّين وبني الحرث بن كعب، ثم لحي وبطونها ولخم وبطونها، ثم كندة وملوكها.

(6/4)


وأمّا من حمير بن سبإ فقضاعة وجميع بطونها ومن إلى هذه القبائل والأفخاذ والعشائر والأحلاف. هؤلاء كلّهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فنبا منهم الثغور والقصيّة، وأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع المذكورة، فلم يبق منهم حيّ يطرف، ولا حلّة تنجع ولا عشير يعرف، ولا قليل يذكر ولا عاقلة تحمل جناية، ولا عصابة بصريخ إلّا سمع من ذكر أسمائهم في أنساب أعقاب متفرّقين في الأمصار التي ألخموها بجملتهم، فتقطّعوا في البلاد ودخلوا بين الناس فامتهنوا واستهينوا وأصبحوا خولا للأمراء، وريبا للواسد وعالة على الحرب. وقام بالإسلام والملّة غيرهم، وصار الملك والأمر في أيدي سواهم، وجلبت بضائع العلوم والصنائع إلى غير سوقهم، فغلب أعاجم المشرق من الديلم وانسلخوا فيه والأكراد والعرب والترك على ملكه ودولته [1] فلم يزل مناقلة فيهم إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب من زناتة والبربر على أمره أيضا، فلم تزل الدول تتناقل فيهم على ما نذكره بعد إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب والبربر على أمره، وانقرض أكثر الشعوب الذين كان لهم الملك من هؤلاء فلم يبق لهم ذكر. وانتبذ بقية هذه الشعوب من هذه الطبقة بالقفار وأقاموا أحياء بادين لم يفارقوا الحلل ولا تركوا البداوة والخشونة، فلم يتورطوا في مهلكة الترف ولا غرقوا في بحر النعيم، ولا فقدوا في غيابات الأمصار والحضارة ولهذا أنشد شاعرهم:
فمن ترك الحضارة أعجبته ... بأيّ رجال بادية ترانا [2]
وقال المتنبي يمدح سيف الدولة ويعرّض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عيثهم وفسادهم:
وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق [3]
فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتا من أداحي النقانق [4] .
(وأقامت) هذه الأحياء في صحارى الجنوب من المغرب والمشرق بإفريقية ومصر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فغلب أعاجم المشرق من الديلم والسلجوقية والأكراد والغزّ والترك على ملكه ودولته.
[2] ورد هذا البيت في النسخة التونسية:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية توانى
[3] الغلفق كجعفر الطحلب أو نبت في الماء ورقه عراض. قاله المجد.
[4] وقال النقنق كزبرج الظلم انتهى. وقد ورد. هذا البيت في النسخة التونسية
فهاجوك أهدى في الغلاة من القطا ... وأبدى بيوتا من بيوت النقانق

(6/5)


والشام والحجاز والعراق وكرمان، كما كان سلفهم من ربيعة ومضر وكهلان في الجاهلية، وعتوا وكثروا وانقرض الملك العربيّ الإسلامي. وطرق الدول الهرم الّذي هو شأنها واعتزّ بعض أهل هذا الجيل غربا وشرقا فاستعملتهم الدول وولّوهم الإمارة على أحيائهم وأقطعوهم في الضاحية والأمصار والتلول وأصبحوا جيلا في العالم ناشئا، كثروا سائر أهله من العجم. ولهم في تلك الإمارة دول، فاستحقّوا أن تذكر أخبارهم، وتلحق بالأحياء من العرب سلفهم. ثم إن اللسان المضري الّذي وقع به الإعجاز ونزل به القرآن فثوى فيهم وتبدّل إعرابه فمالوا إلى العجمة. وإن كانت الأوضاع في أصلها صحيحة، واستحقوا أن يوصفوا بالعجمة من أجل الإعراب، فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة.
(فلنذكر الآن) بقية هؤلاء الشعوب من هذه الطبقة في المغرب والمشرق ونخصّ منهم الأحياء الناجعة والأقدار النابهة، ونلغي المندرجين في غيرهم. ثم نرجع إلى ذكر المنتقلين من هذه الطبقة إلى إفريقية والمغرب فنستوعب أخبارهم لأن العرب لم يكن المغرب لهم في الأيام السابقة بوطن، وإنما انتقل إليه في أواسط المائة الخامسة أفاريق من بني هلال وسليم اختلطوا في الدول هنالك، فكانت أخبارهم من أخبارها، فلذلك استوعبناها. وأمّا آخر مواطن العرب فكانت برقة، وكان فيها بنو قرّة بن هلال بن عامر. وكان لهم في دول العبيديّين أخبار، وحكايتهم في الثورة أيام الحاكم والبيعة لأبي ركوة من بني أميّة في الأندلس معروفة، وقد أشرنا إليها في دولة العبيديّين.
ولما أجاز بنو هلال وسليم إلى المغرب خالطوهم في تلك المواطن، ثم ارتحلوا معهم إلى المغرب كما نذكره في دخول العرب إلى إفريقية والمغرب. وبقي في مواطنهم ببرقة لهذا العهد أحياء بني جعفر، وكان شيخهم أوسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد ابن حميد [1] . وهم ينسبون في المغرب [2] تارة في العزّة ويزعمون أنهم من بني كعب ابن سليم، وتارة في الهيب كذلك، وتارة في فزارة، والصحيح في نسبهم أنهم من مسراته إحدى بطون هوارة سمعته من كثير من نسابتهم، وبعدهم فيما بين برقة والعقبة الكبيرة أولاد سلام، وما بين العقبة الكبيرة والإسكندرية أولاد مقدّم وهم بطنان:
__________
[1] قوله حميد وفي نسخة اخرى كميد وفي نسخة ثانية كميل بضم الكاف وفتح الميم.
[2] وفي نسخة ثانية: ينتسبون في العرب.

(6/6)


أولاد التركية وأولاد قائد. ومقدّم وسلام معا ينسبون إلى لبيد، فبعضهم يقول لبيد بن لعتة [1] بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وبعضهم يقول في مقدّم: مقدّم بن عزاز بن كعب بن سليم.
(وذكر لي سلام) شيخ أولاد التركية: أن أولاد مقدّم من ربيعة بن نزار، ومع هؤلاء الأحياء حتى محارب ينتمون بآل جعفر. ويقال إنهم من جعفر بن كلاب، وهي رواحة ينتمون بآل زبيد، ويقال من جعفر أيضا. والناجعة من هؤلاء الأحياء كلّهم ينتمون في شأنهم إلى الواحات من بلاد القبلة. (وقال ابن سعيد) ومن غطفان في برقة مهيب ورواحة وفزارة، فجعل هؤلاء من غطفان والله أعلم بصحة ذلك.
(وفيما بين الإسكندرية ومصر) قبائل رحّالة ينتقلون في نواحي البحيرة هنالك، ويعمّرون أرضها بالسكنى والفلح، ويخرجون في المشاتي إلى نواحي العقبة وبرقة من مراية وحوارة [2] وزنارة [3] إحدى بطون لواته، وعليهم مغارم الفلح. ويندرج فيهم أخلاط من العرب والبربر لا يحصون كثرة. وبنواحي الصغير قبائل من العرب من بني هلال وبني كلاب من ربيعة. وهؤلاء أحياء كثيرة ويركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويعمّرون الأرض بالفلاحة ويقومون بالخراج للسلطان. وبينهم مع ذلك من الحروب والفتن ما ليس يكون بين أحياء القفر.
(وبالصعيد) الأعلى من أسوان وما وراءها إلى أرض النوبة إلى بلاد الحبشة قبائل متعدّدة وأحياء متفرّقة، كلهم من جهينة إحدى بطون قضاعة، ملئوا تلك القفار وغلبوا النوبة على مواطنهم وملكهم، وزاحموا الحبشة في بلادهم وشاركوهم في أطرافها. والذين يلون أسوان هم يعرفون بأولاد الكنز، كان جدّهم كنز الدولة، وله مقامات مع الدول مذكورة، ونزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة، وأخرجوهم منها، فهم يعرفون بينهم بالشرفاء الجعافرة، ويحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هينة.
[2] وفي نسخة ثانية: مزانت وهوارة. ولعلها مزاتة كما في كتاب قبائل المغرب ص 304.
[3] لم نجد لها في ذكر في قبائل الغرب وبطون لواته: زائر وكطوط وماصل وفاضل وفأصل ونبطط (قبال المغرب ص 304) .

(6/7)


(وبنواحي مصر) من جهة القبلة إلى عقبة أيلة أحياء جذام جمهورهم من العائد [1] وعليهم درك السابلة بتلك الناحية. ولهم على ذلك الأقطاع والعوائد من السلطان.
ويليهم من جهة الشرق بالكرك ونواحيها أحياء بني عقبة من جذام أيضا، ورحالة ناجعة تنتهي رحلتهم الى المدينة النبويّة. وعليهم درك السابلة فيما يليهم. وفيما وراء عقبة أيلة إلى القلزم قبائل من قضاعة ومن القلزم إلى الينبع، مع قبائل من جهينة.
ومن الينبع إلى بدر ونواحيه من زبيد إحدى بطون مذحج، ولهم الأمراء بمكّة من بني حسن حلف ومواخاة. وفيما بين مكّة والمهجم مما يلي اليمن قبائل بني شعبة من كنانة، وفيما بين الكرك وغزّة شرقا قبائل جذام من قضاعة في جموع وافرة، ولهم أمراء أعزّة يقطعهم السلطان على العسكر وحفظ السابلة، وينجعون في المشاتي إلى معان وما يليها من أسافل نجد، مما يلي تيماء، وبعدهم في أرض الشام بنو حارثة بن سنبس وآل مراء من ربيعة إخوة آل فضل الملوك على العرب في برية الشام والعراق ونجد. وأخبرني بعض أمراء حارثة بن سنبس عن بطون. فلنذكر الآن خبر أولاد فضل أمراء الشام والعراق من طيِّئ فنبين [2] أعراب الشام جميعا.
(خبر آل فضل وبني مهنا منهم ودولتهم بالشام والعراق)
هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل، وهم رحّالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز، ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين [3] وينتهون في طيِّئ ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهزيم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم [4] في الغلب والعدد آل مراء. ويزعمون أنّ فضلا ومراء آل ربيعة، ويزعمون أيضا أن فضلا ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي، وأنّ آل فضل كلهم كانوا بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها، فنزلوا حمص ونواحيها، وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية من العابد.
[2] وفي نسخة ثانية: فيهم يتبين حال أعراب الشام جميعا.
[3] اي رحلة الشتاء والصيف.
[4] وفي النسخة التونسية ويناهضهم في الغلب.

(6/8)


بها حتى الآن لا يفارقونها. قالوا: ثم اتصل آل فضل باللد [1] من السلطنة وولّوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق، فاستظهروا برياستهم على آل مراء، وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى، لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل.
وكانت معهم أحياء من أفاريق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان لآل فضل. إلا أنّ أكثر من كان من آل مراء أولئك الأحياء وأوفرهم عددا بنو حارثة من إحدى سنى بطون طيِّئ [2] هكذا ذكر الثقة عنهم من رجالاتهم. وحارثة هؤلاء متغلّبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى القفار.
ومواطن طيِّئ بنجد قد اتسعت، وكانوا أول خروجهم من اليمن نزلوا جبلي أجا وسلمى، وغلبوا عليهما بني أسد وجاوروهم. وكان لهم من المواطن سميراء وميد [3] من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيِّئ بلادهم فيما وراء الكرخ من من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيِّئ بلادهم فيما وراء الكرخ من أرض غفرو [4] وكذلك ورثوا منازل تميم بأرض نجد فيما بين البصرة والكوفة واليمامة. وكذلك ورثوا غطفان ببطن مما يلي وادي القرى.
هكذا قال ابن سعيد. وقال: أشهر الحجازيين منهم الآن بنو لام وبنو نبهان والصولة بالحجاز لبني لام بين المدينة والعراق، ولهم حلف مع بني الحسين أمراء المدينة.
قال: وبنو صخر منهم في جهة تيماء بين الشام وخيبر. قال: وغربة من طيِّئ بنو غربة [5] بن أفلت بن معبد بن عمر بن عنبس بن سلامان، ومن بعد بلادهم حيّ الأنمر والأساور [6] ورثوها من عنزة. ومنازلهم لهذا العهد في مصايفهم بالكيبات [7] وفي مشاتيهم مع بني لام من طيِّئ. وهم أهل غارة وصولة بين الشام والعراق. ومن بطونهم الأجود والبطنين وإخوانهم زبيد نازلون بالموصل، فقد جعل ابن سعيد: زبيد هؤلاء من بطون طيِّئ، ولم يجعلهم من مذحج. رياسة آل فضل في هذا العهد في
__________
[1] بياض بالأصل وفي النسخة التونسية: «ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية» .
[2] وفي النسخة التونسية: بنو حارثة بن عنبس احدى شعوب طيِّئ.
[3] وفي نسخة ثانية قيد، والميد من الشعوب الشرقية الفارسية (قبائل الغرب ص 258) .
[4] وفي النسخة التونسية: من ارض نجد.
[5] وفي النسخة التونسية: وعزية من طيِّئ بنو عزية.
[6] وفي النسخة التونسية: سلامات بن بعل، بلادهم عين التمر والأنبار.
[7] وفي النسخة التونسية: بالكبيات.

(6/9)


بني مهنا، وينسبونه هكذا: كنا بن مايع بن مدسة بن عصية [1] بن فضل بن بدر بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن قصية بن بدر بن سميع. ويقفون عند سميع.
ويقول زعماؤهم أن سميعا هذا هو الّذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي. وحاشا للَّه من هذه المقالة في الرشيد وأخته، وفي بنات كبراء العرب من طيِّئ إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم.
ثم إنّ الموجود تميل رياسته مثل هؤلاء على هذا الحي إذا لم يكونوا من نسبهم. وقد تقدم مثل ذلك في مقدّمات الكتاب.
(وكان مبدأ رياستهم) من أول دولة بني يعقوب. قال العماد الأصبهاني: نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة. وكانت الرئاسة فيهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيِّئ. وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح. وكان من أقطاعه التي معه وهو الّذي قبض على اسكى [2] مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق. وجاء إلى الشام سنة أربع وستين وثلاثمائة وملك دمشق وزحف مع القرامطة لقتال العزيز بن المعز لدين الله صاحب مصر، فهزمهم العزيز وهرب أفتكين فلقيه مفرج بن دغفل، وجاء به إلى العزيز فأكرمه ورقاه في دولته.
ولم يزل شأن مفرج هذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة. وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجرار. وولي حسان بعده وعظم صيته، وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين معزة واستقامة، وهو الّذي هزم الرملة وهزم قائدهم باروق التركي وقتله وسبى نساءه، وهو الّذي مدحه التهامي. ويذكر المسمى وغيره أنّ موطئ دولة العبيديين [3] في قرابة حسان بن مفرج هذا فضل بن ربيعة بن حازم وأخوه بدر بن ربيعة وابنا بدر. ولعل فضلا هذا هو جدّ آل فضل.
(قال ابن الأثير) إن فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب السقاء والبيت المقدس. وكان الفضل تارة مع الفرنج وتارة مع خلفاء مصر. ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش فطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد بالحلة وحالفه. ووصله صدقة بتسعة آلاف دينار. فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان
__________
[1] وفي النسخة التونسية: مهنا بن مانع بن حديثه بن غضية.
[2] وفي النسخة التونسية: وكان من اقطاعه الرحلة، وهو الّذي قبض على افتكين مولى بني بويه.
[3] وفي النسخة التونسية: ويذكر المسبحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين.

(6/10)


محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها، ووقعت بينهما الفتنة اجتمع له فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة ومسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان، كانوا كلهم أولياء صدقة، فصار في الطلائع بين يدي الحرب، وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم، وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة، واستأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار، فلم يراجع السلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير.
ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلا هذا وبدرا من آل جراح بلا شك.
ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أنّ فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه: فضل بن ربيعة بن الجراح. فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الّذي هو كبير بني الجراح لبعد العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية القفر [1] .
وأما نسبة هذا الحي من آل فضل بن ربيعة بن فلاح من مفرج في طيِّئ، فبعضهم يقول: إن الرئاسة في طيِّئ كانت لأياس بن قبيصة من بني سبإ بن عمرو بن الغوث من طيِّئ، وإياس هو الّذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر لما قتل النعمان بن المنذر، وهو الّذي صالح خالد بن الوليد عن الحيرة على الجزية. ولم تزل الرئاسة على طيِّئ إلى بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام. فلعل بني الجراح وآل فضل هؤلاء من أعقابهم، وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليهم، لأن الرئاسة على الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب.
(وقال ابن حزم) عند ما ذكر أنساب طيِّئ وأنهم لما خرجوا من اليمن مع بني أسد نزلوا جبلي أجا وسلمى، وأوطنوهما وما بينهما، ونزل بنو أسد ما بينهم وبين العراق. وفضل كثير منهم وهم: بنو حارثة نسبة إلى أمهم [2] ، وتيم الله، وحبيش، والأسعد إخوتهم رحلوا على الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب، وحاضر طيِّئ وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد، فإنّهم أقاموا بالجبلين فكانوا جبليين [3] ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة السهيليون انتهى.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: من البادية الغفل.
[2] وفي النسخة التونسية: وهم بنو خارجة بن سعد بن قطرة، ويقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم.
[3] يبدو من سياق النص ان عبارة سقطت أثناء النسخ، وفي النسخة التونسية: فإنهم أقاموا بالجبلين، فكان يقال لأهل الجبلين: الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة: السهليون.

(6/11)


فلعل هذه الأحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيِّئ، لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبلي أجا وسلمى الّذي هو موضع الآخرين، فاللَّه أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم. وتحت خفارتهم بنواحي الفرات ابن كلاب [1] بن ربيعة بن عامر دخلوا مع قبائل عامر بن صعصعة من نجد إلى الجزيرة.
ولما افترق بنو عامر على الممالك الإسلامية اختص هؤلاء بنواحي حلب وملكها منهم بنو صالح بن مرداس من بني عمرو بن كلاب. ثم تلاشى ملكهم ورجعوا عنها الى الأحياء وأقاموا بالفرات تحت خفارة هؤلاء الأمراء من طيِّئ.
(وأما ترتيب رياستهم) على العرب بالشام والعراق منذ دولة بني أيوب العادل وإلى هذا العهد، وهو آخر ست وتسعين وسبعمائة، فقد ذكرنا ذلك في دولة الترك ملوك مصر والشام، وذكرناهم واحدا بعد واحد على ترتيبهم. وسنذكرهم هاهنا على ذلك الترتيب فنقول: كان الأمير لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما كان بعده حسام الدين مانع بن حارثة بمصر والشام.
وفي سنة ثلاثين وستمائة ولي عليهم بعده ابنه مهنا. ولما ارتجع قطز بن عصية بن فضل أحد ملوك الترك بمصر والشام من أيدي التتر، وهزمهم بعين جالوت، أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن مظفّر بن شاهنشاه صاحب حماة، ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا. ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل ملك الترك. وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم إلى بغداد عيسى بن مهنا بن مانع، وجرّ له الاقطاعات على حفظ السابلة، وحبس ابن عمّه زامل بن عليّ بن ربيعة من آل فضل على سعايته وإغرامه. ولم يزل يغير على أحياء العرب، وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدّة عليهم، وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وسبعين وستمائة وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام.
وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين وستمائة فولى المنصور قلاون من بعده ابنه مهنا.
ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص، ووفد عليه مهنا بن عيسى في
__________
[1] وفي النسخة التونسية: من كلاب بن ربيعة.

(6/12)


جماعة من قومه، فقبض عليه وعلى ابنه موسى وإخوته محمد وفضل ابني مهنا. وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عند ما جلس على التخت سنة أربع وتسعين وستمائة، ورجع إلى إمارته. وكان له في أيام الناصر نصرة واستقامة وميلة إلى ملوك التتر بالعراق، ولم يحضر شيئا من وقائع غازان. ولما فرّ أسفر وأقوش الأفرم [1] وأصحابهما سنة عشر وسبعمائة لحقوا به، وساروا من عنده إلى خرشد [2] واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة.
ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فرعا له حق وفادته، وولاه على العرب مكان أخيه مهنا، وبقي مهنا مشردا. ثم لحق سنة ست عشرة وسبعمائة بخرشد ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق. وهلك خرشد في تلك السنة فرجع مهنا إلى أحيائه، ووفد ابنه أحمد وموسى وأخوه محمد بن عيسى مستعتبين على الناصر ومتطارحين عليه، فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق، وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا وردّه إلى إمارته وأقطاعه، وذلك سنة سبع عشرة وسبعمائة وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل في اثني عشر ألف راحلة. ثم رجع مهنا إلى دينه في ممالأة التتر والاجلاب على الشام. واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه، وسخط عليه قومه أجمع. وتقدم إلى أبواب الشام سنة عشرين وسبعمائة بعد مرجعه من الحج، فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم مالكا على عدالته بينهم [3] وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر، وصرف أقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدّة.
ثم وفد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحا على السلطان، فأقبل عليه وردّ عليه أقطاعه وإمارته.
(وذكر لي) بعض أمراء الكبراء [4] بمصر فيمن أدرك وفادته أو حدث بها: أنه تجافى في هذه الوفادة من قبول شيء من السلطان، حتى أنه ساق عنده النياق الحلوبة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولما انتقض قر استقر وأقوش الأفرم.
[2] وفي نسخة ثانية: خربندا ولم نجد لها ذكر، ولعلها خرشيد وهي بليدة على سواحل فارس يدخل إليها في خليج من البحر نحو فرسخ في المراكب (معجم البلدان) .
[3] وفي النسخة التونسية: وأدال منهم بال علي عديلة نسبهم.
[4] وفي النسخة التونسية: بعض كبار الأمراء.

(6/13)


والعراب، وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئا من حاجاته، ثم رجع إلى أحيائه وتوفي سنة اربع وثلاثين وسبعمائة فولي ابنه مظفر الدين موسى، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة عقب مهلك الناصر، وولي مكانه أخوه سليمان.
ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى. ثم توفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة بالقريتين ودفن عند قبر خالد بن الوليد. وولي مكانه أخوه سيف بن فضل، ثم عزله السلطان بمصر، الكامل ابن الناصر سنة ست وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أحمد بن مهنا بن عيسى. ثم جمع سيف بن فضل ولقيه فياض بن مهنا بن عيسى وانهزم سيف. ثم ولي السلطان حسن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيبغاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم.
ثم توفي سنة سبع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض، وهلك سنة تسع وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أخوه خيار بن مهنا، وولاه حسن الناصر في دولته الثانية. ثم انتقض سنة خمس وستين وسبعمائة وأقام سنتين بالقصر عاصيا إلى أن تشفع فيه نائب حماة، فأعيد إلى إمارته. ثم انتقض سنة سبعين وسبعمائة فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى، وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم، وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري، فبرز إليهم وانتهى إلى خيمهم، واستاق نعمهم وتخطي إلى الخيام فاستجاشوا بها [1] وهزموا عساكره وقتل قشتمر ابنه في المعركة، تولى هو قتله بيده، وذهب إلى القفر منتقضا فولى الأشرف مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى [2] . ثم بعث ابن معيقل صاحبه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة يستأمن لخيار فآمنه. ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين وسبعمائة فرضي عنه السلطان وأعاده إلى إمارته. ثم توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة فولي أخوه مالك إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فولى مكانه معيقل بن موسى بن عيسى، وابن مهنا شريكين في إمارتهما. ثم عزلا لسنة وولي بعير بن جابر [3] بن مهنا واسمه محمد، وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيِّئ بالشام. والسلطان
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فاستماتوا دونها.
[2] وفي النسخة التونسية: فولي بعده معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى بن مهنا.
[3] وفي نسخة ثانية: نعير بن خيار بن مهنّا.

(6/14)


الظاهر لعهده يزاحمه بحجر بن محمد بن قارى حتى سخطه [1] . ثم وصل انتقاضه على السلطان وخلافه، وظاهر السلطان على موالاة محمد بن قاري فسخطه، وولّى مكانهما ابن عمهما محمد بن كوكتين ابن عمه موسى بن عساف بن مهنا فقام بأمر العرب وبقي بعير منتبذا بالقفر، وعجز عن الميرة لقلة ما بيده [2] واختلت أحواله، وهو على ذلك لهذا العهد، والله ولي الأمور لا رب سواه.
(ولنرجع) إلى ما بقي من شعوب هذه الطبقة فنقول: كان بنو عامر بن صعصعة كلّهم بنجد، وبنو كلاب في خناصرة [3] والرَّبَذَة من جهات المدينة وكعب بن ربيعة فيما بين تهامة والمدينة وأرض الشام. وبنو هلال بن عامر في بسائط الطائف ما بينه وبين جبل غزوان ونمير بن حامد [4] معهم. وجشم محسوبون منهم بنجد، وانتقلوا كلّهم في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية فملك نمير حران ونواحيها. وأقام بنو هلال بالشام إلى أن ظعنوا إلى المغرب كما نذكر في أخبارهم. وبقي منهم بقية بجبل بني هلال المشهور بهم الّذي فيه قلعة صرخد. وأكثرهم اليوم يتعاطون الفلح. وبنو كلاب بن ربيعة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والسلطان الظاهر لعهده يزاحمه بمحمد ابن عمه قاري.
[2] وفي النسخة التونسية: فقلّ تابعه.
[3] وفي النسخة التونسية: الخناصرية، والأصح خناصرة: وهي بليدة من أعمال حلب تحاذي قنسرين نحو البادية (معجم البلدان) .
[4] وفي النسخة التونسية: نمير بن عامر.

(6/15)


ملكوا أرض حلب ومدينتها كما ذكرناه. وبنو كعب بن ربيعة دخلت إلى الشام، منهم قبائل عقيل وقشير وجريش وجعدة، فانقرض الثلاثة في دولة الإسلام ولم يبق إلا بنو عقيل.
(وذكر) ابن حزم: أنّ عددهم يفي عدد جميع مضر. فملك منهم الموصل بنو مالك [1] بعد بني حمدان وتغلب. واستولوا عليها وعلى نواحيها وعلى حلب معها. ثم انقرض ملكهم ورجعوا للبادية، وورثوا مواطن العرب في كل جهة، فمنهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل، وكان بنو مالك بن عقيل في أرض تيماء من نجد، وهم الآن بجهات البصرة في الآجام التي بينها وبين الكوفة المعروفة بالبطائح، والإمارة منهم في بني معروف، وبالمغرب من بني المنتفق أحياء دخلوا مع هلال بن عامر يعرفون بالخلط، ومواطنهم بالمغرب الأقصى ما بين فاس ومراكش.
(وقال الجرجاني) : إن بني المنتفق كلهم يعرفون بالخلط، ويليهم في جنوب البصرة إخوتهم بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر، وعوف أخو المنتفق قد غلبوا على البحرين وغمارة [2] وملكوها من يدي أبي الحسن الأصغر بن ثعلب [3] . وكانت هذه المواطن للأزد وبني تميم وعبد القيس، فورث هؤلاء أرضهم فيها وديارهم.
(قال ابن سعيد) : وملكوا أيضا أرض اليمامة من بني كلاب وكان ملوكهم فيها لعهد الخمسين والستمائة بني عصفور. وكان من بني عقيل خفاجة بن عمرو بن عقيل، كان انتقالهم إلى العراق فأقاموا به وملكوا ضواحيه، وكانت لهم مقامات وذكر، وهم أصحاب صولة وكثرة، وهم الآن ما بين دجلة والفرات. ومن عقيل هؤلاء بنو عبادة بن عقيل، ومنهم الأجافل [4] لأن عبادة كان يعرف بالأجفل. وهم لهذا العهد بالعراق مع بني المنتفق. وفي البطائح التي بين البصرة والكوفة وواسط والإمارة فيهم على ما يبلغنا لرجل اسمه ميان بن صالح [5] وهو في عدد ومنعة. وما أدري أهو في بنى معروف أمراء البطائح بني المنتفق، أو من عبادة الأجافل؟ هذه أحوال بني
__________
[1] وفي النسخة التونسية: بنو المقلّد.
[2] وفي النسخة التونسية: البحرين وعمان.
[3] بن تغلب. وهذا ما أشرنا إليه في جزء سابق من هذا الكتاب ان ابن خلدون يذكر الثعالبة بدل التغالبة.
وثعلب بدل تغلب.
[4] وفي النسخة التونسية: الاخائل وهو الأصح، لأن عبادة كان يعرف بالأخيل.
[5] وفي نسخة ثانية: قبان بن صالح.

(6/16)


عامر بن صعصعة واستيلاؤهم على مواطن العرب من كهلان وربيعة ومضر.
(فأما بنو كهلان) فلم يبق لهم أحياء فيما يسمع. (وأما ربيعة) فأجازوا بلاد فارس وكرمان فهم ينتجعون هنالك ما بين كرمان وخراسان. وبقيت بالعراق منهم طائفة ينزلون البطائح وانتسب إلى الكوفة منهم بنو صباح [1] ومعهم لفائف من الأوس والخزرج. فأمير ربيعة اسمه الشيخ ولي، وعلى الأوس والخزرج طاهر بن خضر منهم هذه شعوب الطبقة الثالثة من العرب لهذا العهد في ديار المشرق بما أدّى إليه الإمكان.
(ونحن الآن نذكر شعوبهم الذين انتقلوا إلى المغرب) : فإنّ أمّة العرب لم يكن لهم إلمام قطّ بالمغرب، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، لأنّ أمّة البربر الذين كانوا به كانوا يمانعون عليه الأمم. وقد غزاه أفريقش بن ضبيع [2] الّذي سميت به إفريقية، من ملوك التبابعة وملكها. ثم رجع عنها وترك كتامة وصنهاجة من قبائل حمير، فاستحالت طبيعتهم [3] إلى البربر واندرجوا في عدادهم، وذهب ملك العرب منهم.
ثم جاءت الملة الإسلامية وظهر العرب على سائر الأمم بظهور الدين، فسارت في المغرب، وافتتحوا سائر أمصاره ومدنه وعانوا من حروب البربر شدّة. وقد تقدّم لنا ما ذكره ابن أبي زيد [4] من أنهم ارتدّوا اثنتي عشرة مرة. ثم رسخ فيهم الإسلام ولم يسكنوا بأجيالهم في الخيام ولا نزلوا أحياء لأنّ الملك الّذي حصل لهم يمنعهم من سكنى الضاحية، ويعدل بهم إلى المدن والأمصار. فلهذا قلنا إنّ العرب لم يوطنوا بلاد المغرب. ثم أنهم دخلوا إليه في منتصف المائة الخامسة، وأوطنوه وافترقوا بأحيائهم في جهاته كما نذكر الآن ونستوعب أسبابه.
(الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب من الطبقة الرابعة وأخبارهم هنالك)
__________
[1] وفي النسخة التونسية: بنو مباح.
[2] وفي النسخة التونسية: افريقس بن صيغي. وأفريقش بن صيفي (الموسوعة المغربية الملحق الأول)
[3] وفي النسخة التونسية: فاستمالت صيغتهم.
[4] وفي النسخة التونسية: ابن أبي يزيد.

(6/17)


كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية وكانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد [1] . فبنو سليم مما يلي المدينة، وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف وربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، ويقطعون على الرفاق، وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهّز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج عن مضرّات هجومهم. ثم تحيّز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جندا بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر والشام، وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم وغلبهم عليها وردّهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين، ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد وفي العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك، وكان لهم إضرار بالبلاد. ولما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان وأربعمائة قلّده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر إفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد. وكان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين، فلم يكن مجربا للأمور ولا بصيرا بالسياسة، ولا كانت فيه عزة وأنفة.
ثم هلك الظاهر سنة سبع وعشرين وأربعمائة وولي المنتصر باللَّه [2] معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام. يقال ولي خمسا وسبعين وقيل خمسا وتسعين، والصحيح ثلاث وسبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة، وكانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة، وربما كانت شواهدها تظهر عليه، وكبابه فرسه في أوّل ولايته لبعض مذاهبه فنادى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وعمر، وسمعته العامة فثاروا بالرافضة وقتلوهم وأعلنوا بالمعتقد الحق ونادوا بشعار الإيمان وقطعوا من الأذان حيّ على خير العمل. وأغضى عنه الظاهر من ذلك وابنه معدّ المنتصر من بعده. واعتذر بالعامّة فقبل واستمرّ على إقامة الدعوة والمهاداة، وهو في أثناء ذلك يكاتب وزيرهما وحاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وكانوا أحياء ناجعة بمجالاتهم من قفر الحجاز بنجد.
[2] الظاهر لإعزاز دين الله ابو الحسن عليّ بن أبي عليّ المنصور الحاكم، وعند ما توفي ولي بعده ابنه أبو تميم معدّ، ولقّب المستنصر باللَّه. (ابن الأثير ج 9 ص 447) .

(6/18)


علي الجرجاني [1] ويستميله يعرّض ببني عبيد وشيعتهم. وكان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال، وانتهضته السيدة بنت الملك [2] عمة المنتصر.
فلما ماتت استبدّ بالدولة سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ست وثلاثين وأربعمائة وولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن علي الياروزي [3] أصله من قرى فلسطين، وكان أبوه ملاحا بها. فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات، ولم يولوه فأنف من ذلك، فعظم عليه وحنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب والمعز بن باديس صاحب إفريقية، وانحرفوا عنه وحلف المعز لينقضن طاعتهم وليحوّلن الدعوة إلى بني عباس، ويمحون اسم بني عبيد من منابره، ولج في ذلك وقطع أسماءهم من الطراز والرايات، وبايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس، وخاطبه ودعا له على منابره سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وبعث بالبيعة إلى بغداد.
ووصله أبو الفضل البغدادي وحظي من الخليفة بالتقليد والخلع، وقرئ كتابه بجامع القيروان ونشرت الرايات السود وهدمت دار الإسماعيلية. وبلغ الخبر إلى المستنصر معز الخليفة بالقاهرة، وإلى الشيعة الرافضة من كتامة وصنائع الدولة فوجموا، وطلع عليهم المقيم المقعد من ذلك، وارتبكوا في أمرهم. وكان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم والأثير [4] وزغبة ورياح وربيعة وعدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه.
وقد عمّ ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي الياروزي باصطناعهم والتقدم لمشايخهم [5] وتوليتهم أعمال إفريقية وتقليدهم أمرها ودفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة. والسبب في الدفاع عن الدولة فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز وصنهاجة، كانوا أولياء للدعوة وعمالا بتلك القاصية. وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة، وإن كانت الأخرى فلها ما بعدها. وأمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك، فتغلبوا على هدية
__________
[1] وفي النسخة التونسية: الجرجرائي وكذلك عند ابن الأثير ج 9 ص 447) .
[2] وفي النسخة التونسية: وانهضته السيدة ست الملك.
[3] وفي نسخة ثانية: البازوري وهو الأصح كذا في قبائل المغرب 167) .
[4] وفي نسخة ثانية الأثبج وهو الصحيح.
[5] وفي النسخة التونسية: واستقدام مشايخهم.

(6/19)


وثورانه [1] . وقيل إن الّذي أشار بذلك وفعله وأدخل العرب إلى إفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني، وليس ذلك بصحيح، فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأرضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم بعيرا ودينارا لكل واحد منهم، وأباح لهم إجازة النيل. وقال لهم: قد أعطيتكم المغرب، وملك المعز بن بلكين [2] الصنهاجي العبد الآبق فلا تفتقرون وكتب الياروزي إلى المغرب: أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا [3] ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فطمعت العرب إذ ذاك، وأجازوا النيل إلى برقة، ونزلوا بها وافتتحوا أمصارها واستباحوها، وكتبوا لإخوانهم شرقيّ النيل يرغبونهم. في البلاد، فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين [4] فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه، وتقارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق، ولهلال الغرب، وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وأسمرا وسرت.
وأقامت لهب [5] من سليم وأحلافها رواحة وناصرة وغمرة بأرض برقة. وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وكان أول من وصل إليهم أمير رياح موسى [6] بن يحيى الصنبري فاستماله المعز واستدعاه واستخلصه لنفسه وأصهر إليه. وفاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه. فاستنفر القرى وأتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد وأظهروا الفساد في الأرض، ونادوا بشعار الخليفة المستنصر. وسرّح إليهم من صنهاجة الأولياء فاوقعوا بها فتمخط [7] ، المعز لكبره وأشاط بغضبه، وتقبض على أخي موسى وعسكر بظاهر القيروان. وبعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد [8] بن بلكين، فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرّحهم إليه،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فتقبلوا رأيه وشكوا هدايته.
[2] وفي النسخة التونسية: بن باديس.
[3] بمعنى كهولا بالحرب لهم خبرة في القتال.
[4] وفي النسخة التونسية: بعد أن أعطوا دينارا عن كل رأس.
[5] وفي نسخة ثانية: هيب.
[6] وفي نسخة ثانية: مؤنس بن يحيى الصنبري وكذلك في قبائل المغرب ص 421.
[7] وفي النسخة التونسية: فتخمّط.
[8] وفي النسخة التونسية: حماد.

(6/20)


واستفرزوا عن [1] زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه.
وكان بالبدو من إفريقية مع الناجعة من زناتة، وهو من أعظم ساداتهم. وارتحل المعزّ في أولئك النفر ومن لفّ لفّهم من الأتباع والحشم والأولياء ومن في إيالتهم من بقايا عرب الفتح، وحشد زناتة والبربر وصمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفا. وكانت رياح وزغبة وعدي حيدران من جهة فاس [2] . ولما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح وتحيّزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة، وخانته زناتة وصنهاجة، وكانت الهزيمة على المعز، وفرّ بنفسه وخاصته إلى القيروان.
وانتهبت العرب جميع مخلفه من المال والمتاع والذخيرة والفساطيط والرايات، وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى. يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة.
وفي ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته. ويقال إنها لابن شداد وأوّلها:
لقد زار وهنا من أميم خيال ... وأيدي المطايا بالزميل عجال
وأن ابن باديس لأفضل مالك ... لعمري، ولكن ما لديه رجال
ثلاثون ألفا منهم قد هزمتهم ... ثلاثة آلاف وذاك ضلال
ثم نازلوه بالقيروان وطال عليه أمر الحصار، وهلكت الضواحي والقرى بإفساد العرب وعيثهم، وانتقام السلطان منهم بانتمائهم في ولاية العرب. ولجأ الناس إلى القيروان وأكثروا النهب واشتدّ الحصار، وفرّ أهل القيروان إلى تونس وسوسه، وعمّ النهب في البلاد والعيث في البلاد [3] ودخلت تلك الأرض [4] سنة خمس وأربعين، وأحاطت زغبة ورياح بالقيروان. ونزل موسى قريبا من ساحة البلد. وفرّ القرابة والأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس وغيرها. ثم ملكوا بلاد قسطينة [5] كلها وغزا عامل بن أبي الغيث منهم زناتة ومغراوة فاستباحهم ورجع.
واقتسمت العرب بلاد إفريقية سنة ست وأربعين، وكان لزغبة طرابلس وما يليها،
__________
[1] وفي نسخة ثانية واستنفروا زناتة.
[2] وفي النسخة التونسية: وعدي بقبلي حيدران من جهة قابس.
[3] وعم النهب والعيث بلاد إفريقية. كذا في النسخة التونسية.
[4] وفي النسخة التونسية: ودخلت بلد الاربض وأبة.
[5] وفي النسخة التونسية: قسطيلية، وغزا عابد بن أبي الغيث.

(6/21)


ولمرداس بن رياح باجة وما يليها. ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس [1] إلى الغرب وهم: رياح وزغبة والمعقل وجشم وقرّة والأثبج والخلط وسفيان وتصرم الملك من يد المعز، وتغلب عائذ بن أبي الغيث [2] على مدينة تونس وسباها وملك أبو مسعود من شيوخهم مومه [3] صلحا. وعامل المعزّ على خلاص نفسه، وصاهره ببناته ثلاثة من أمراء العرب فارس بن أبي الغيث وأخاه عائذا، والفضل بن أبي علي المرادي [4] وقدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ولسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب وترحم بهم [5] ولحق بهم بالقيروان، واتبعوه فركب البحر والساحل، وأصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه، فساروا بالسودان والمنصور. وجاء العرب فدخلوا البلد واستباحوه واكتسحوا المكاسب وخربوا المباني وعاثوا في محاسنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها. واستصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها وشملوا بالعيث والنهب سائر حريمها، وتفرّق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية، وانتشر [6] الداء وأعضل الخطب. ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها، وضيقوا عليها بمنع المرافق وإفساد السابلة. ثم حاربوا زناتة من بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي، واتصلت الفتنة بينهم، وأغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر وجيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه وقتلوه بعد حروب طويلة، واضطرب أمر إفريقية، وخرب عمرانها، وفسدت سابلتها. وكانت رياسة الضواحي من زناتة والبربر لبني يفرن ومغراوة وبني ماند وبني تلومان [7] ولم يزل هذا دأب العرب وزناتة حتى غلبوا صنهاجة وزناتة على ضواحي إفريقية والزاب، وغلبوا عليها صنهاجة وقهروا من بها من البربر وأصاروهم عبيدا وخدما بباجة [8] . وكان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم إفريقية رجالات مذكورون.
وكان من أشرفهم حسن بن سرحان وأخوه بدر وفضل بن ناهض، وينسبون هؤلاء في
__________
[1] وفي النسخة التونسية: من قابس.
[2] وفي النسخة التونسية: عابد بن أبي الغيث، وفي قبائل المغرب ص 394 عائد بن أبي العيث
[3] وفي نسخة ثانية: بونه.
[4] وفي النسخة التونسية: المرواسي.
[5] وفي النسخة التونسية: وتذمم بهم.
[6] وفي النسخة التونسية: واستشرى.
[7] وفي نسخة ثانية: بني يمانوا وبني يلومان.
[8] وفي النسخة التونسية: عبيدا وخولا للجباية.

(6/22)


دريد بن الأثبج وماضي بن مقرب ونيونة بن قرّة [1] وسلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الأثبج، وشاقة [2] بن الأحيمر وأخوه صليصل ونسبوهم في بني عطية من كرفه، ودياب بن غانم وينسبونه في بني ثور، وموسى بن يحيى وينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم، فاحذر من الغلط في هذا. وهو من بني صفير [3] بطن من بطون مرداس رياح، وزيد بن زيدان وينسبونه في الضحاك، ومليحان بن عباس وينسبونه في حمير، وزيد العجاج بن فاضل ويزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى إفريقية، وفارس بن أبي الغيث وعامر أخوه، والفضل بن أبي علي ونسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى، كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم.
وكان زياد بن عامر رائدهم في دخول إفريقية [4] ويسمونه بذلك أبا مخيبر، وشعوبهم لذلك العهد كما نقلناهم زغبة ورياح والأثبج وقرة وكلهم من هلال بن عامر. وربما ذكر فيهم بنو عدي، ولم نقف على أخبارهم وليس لهم لهذا العهد حيّ معروف، فلعلهم دثروا وتلاشوا وافترقوا في القبائل. وكذلك ذكر فيهم ربيعة، ولم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم. وكان فيهم من غير هلال كثير من فزارة وأشجع من بطون غطفان وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن وسلول بن مرة ابن صعصعة بن معاوية، والمعقل من بطون اليمنية، وعمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وبني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة، وعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. وطرود بطن من فهم بن قيس، إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال وفي الأثبج منهم خصوصا، لأن الرئاسة كانت عند دخولهم للأثبج وهلال فأدخلوا فيهم وصاروا مندرجين في جملتهم. وفرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني. وإنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي، ولهم فيها أخبار مع الصنهاجيين ببرقة والشيعة بمصر خطوب، ونسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله:
طلبنا القرب منهم وجزيل منهم ... بلا عيب من عرب سحاح جمودها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وينسبونه في قرّة.
[2] وفي نسخة ثانية: وشبان.
[3] وفي نسخة ثانية: من بني صنبر.
[4] وفي النسخة التونسية: وكان ذياب بن غانم رائدهم في دخول إفريقية.

(6/23)


وبيت غرت أمره منا وبينها ... طرود أنكاد اللي يكودها
ماتت ثلاث آلاف مرّة وأربعة ... بحرمة منا تداوي كبودها
وقال الآخر منهم
أيا رب جير الخلق من نائج البلا ... إلا القليل انجار ما لا يجيرها
وخصّ بها قرّة مناف وعينها ... ديما لأرياد البوادي تشيرها [1]
فذكر نسبهم في مناف وليس في هلال مناف هكذا منفردا، إنما هو عبد مناف والله تعالى أعلم. وكان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم. ولمّا بعث الحاكم يحيى ابن عليّ الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق، أو عزلهم في السير معه، فوصلوا إلى طرابلس وجرّوا الهزيمة على يحيى بن عليّ ورجعوا إلى برقة. وبعث عنهم فامتنعوا، ثم بعث لهم بالأمان، ووصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. وكان عندهم معلّم للقرآن اسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية. وكان يزعم أن لديه إثارة من علم في اختيار [2] ملك آبائه، وقبل ذلك منه البرابرة من مرامة [3] وزناتة ولواتة وتحدّثوا بشأنه فنصبه بنو قرّة وما بعده بالخلافة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وتغلّبوا على مدينة برقة. وزحف إليهم جيوش الحاكم فهزموهم، وقتل الوليد بن هشام وقائدها من الترك.
ثم رجعوا به إلى مصر فانهزموا، ولحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان. ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر وقتل، وهدرت لبني قرّة جنايتهم هذه وعفا عنهم. ولمّا كانت سنة اثنتين وأربعمائة اعترضوا هدية باديس بن المنصور ملك صنهاجة من إفريقية إلى مصر فأخذوها، وزحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها، وفرّ في البحر
__________
[1] وفي النسخة التونسية:
طلبنا الغفر منهم وجدناه عندهم ... فلا عيب من عرب سجاح جهودها
وبت عن ذا قرّة مناف وشبهها ... طراد كدانا نحن من لا يكودها
ماتت ثلاثة آلاف مرّة ومن بقي ... مجرحة منا تداوي كبودها.
وقال آخر:
أيا رب جير الخلق من نابح البلا ... إلا القليل الخارسا لا تجيرها
وخص بها قرّة مناف ونسبها ... ديما لأباء البوادي تشيرها.
[2] وفي نسخة ثانية: احتياز.
[3] وفي نسخة ثانية: مزاتة وهو الأصح.

(6/24)


واستولوا على برقة. ولم يزل هذا شأنهم ببرقة. فلمّا زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة ورياح والأثبج واتباعهم إلى إفريقية، كانوا ممن زحف معهم. وكان من شيوخهم ماضي بن مقرّب المذكور في أخبار هلال.
ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق في الخبر غريبة: يزعمون أنّ الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها، وولدت منه ولدا اسمه محمد. وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية. وتحيّلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها. وكتموا رحلتها عنه وموّهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه.
ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس وكثير [1] ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالإعراب فقط، ولا مدخل له في البلاغة كما قرّرناه لك في الكتاب الأوّل من كتابنا هذا. إلا أنّ الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب، ويحسبون أنّ الإعراب هو أصل البلاغة وليس كذلك. وفي هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة وفقدت فيه صحّة الرواية فلذلك لا يوثق به، ولو صحّت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم، وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم.
لكنا لا نثق بروايتها. وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتّهمه، وهذا قصارى الأمر فيه. وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفا عن سلف، وجيلا عن جيل، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمي عندهم
__________
[1] بهامش نسخه ما نصه: قصة أبي زيد التي تحكي في قهاوي مصر أصلها هذه الواقعة، كما أشار لذلك المؤلف. وكثيرا ما كنت أتطلب لها أصلا في التواريخ فلم أجده إلا في هذا المحل، فرحم الله المؤلف فلقد بين أصولا كثيرة يحتاج إليها كل ناظر في فن التاريخ. كتبه حسن العطار أهـ.

(6/25)


بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم. وهذا الشريف الّذي يشيرون إليه هو من الهواشم، وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس، وأبوه الفتوح هو الّذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيديّ وبايع له بنو الجرّاح أمراء طيِّئ بالشام، وبعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم وبايع له كافة العرب. ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيديّ ورجع إلى مكة، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده ابنه شكر هذا، وهلك سنة ثلاث وخمسين وولي ابنه محمد الّذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه. وتقدّم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم.
(وقال ابن سعيد) : هو من السلمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الّذي بايع له أبو الزاب [1] الشيبانيّ بعد ابن طباطبا، ويسمّى الناهض. ولحق بالمدينة فاستولى على الحجاز واستقرت إمارة ملكه في بنيه إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم. جدّا قريبا من الحسن والحسين [2] . وأمّا هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء، فلا يكون مميزا لبعضهم عن بعض. وأخبرني من أثق به من الهلاليّين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر وأنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات، وأنّ ولده بها لهذا العهد والله أعلم.
ومن مزاعمهم أنّ الجازية لما صارت إلى إفريقية وفارقت الشريف، خلفه عليها منهم ماض بن مقرّب [3] من رجالات دريد، وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها وثغورها، وقلّدهم أعمالها، فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان وباجة، وعقد لزغبة على طرابلس وقابس، وعقد لحسن بن سرحان على قسنطينة [4] ، فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار، وملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم وعيثهم باختلاف الأيدي، إذ الوازع مفقود من أهل هذا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ابو السرايا.
[2] الظاهر من السياق سقوط عبارة أثناء النسخ، وفي النسخة التونسية: وما ذكره ابن حزم أصح، لأنهم جميعا يقولون فيه الشريف ابن هاشم يميزونه بذلك عن سائر الشرفاء. ولا يصح ذلك إلا أن يكون هاشم أو أبو هاشم جدا قريبا من الحسن والحسين.
[3] وفي نسخة أخرى: مغرب.
[4] وفي نسخة أخرى قسطنطينة وهذا تحريف وقسنطينية المقصودة هنا: وهي مدينة وقلعة يقال لها قلعة الهواء وهي قلعة كبيرة جدا حصينة عالية لا يصلها الطير إلا بجهد، وهي من حدود إفريقية مما يلي المغرب (معجم البلدان) .

(6/26)


الجيل العربيّ مذ كانوا فثاروا بهم وأخرجوهم من الأمصار، وصاروا إلى ملك الضواحي والتغلّب عليها، وسيّم الرعايا بالخسف في النهب والعيث وإفساد السابلة هكذا إلى هلمّ.
ولمّا غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس والنجدة بالبداوة، فحاربوهم ورجعوا إليهم من إفريقية والمغرب الأوسط، وجهّز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم وبينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب، وتغلبوا على الضواحي في كل وجه. وعجزت زناتة عن مدافعتهم بإفريقية والزاب. وصار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد، ومصاب من بلاد المغرب الأوسط. فلمّا استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها وصالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم، وصاروا إلى التفريق بينهم، وظاهروا الأثبج على رياح وزغبة، وحشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم وجمع زناتة.
وكان فيهم المعزّ بن زيري صاحب فاس من مغراوة ونزلوا الأربس جميعا. ولقيهم رياح وزغبة بسببه. ومكر المعز بن زيري المغراويّ بالناصر وصنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعزّ بن باديس صاحب القيروان، فجرّ عليهم الهزيمة واستباحت العرب وزناتة خزائن الناصر ومضاربه. وقتل أخوه القاسم ونجا إلى قسنطينة ورياح في اتباعه. ثم لحق بالقلعة فنازلوها وخرّبوا جنباتها واحبطوا عروشها، وعاجوا على ما هنالك من الأمصار، ثم طبنة والمسيلة فخرّبوها وأزعجوا ساكنيها، وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجنّ وأوحش من جوف العير، وغوّروا المياه واحتطبوا الشجر وأظهروا في الأرض الفساد، وهجروا ملوك إفريقية والمغرب من صنهاجة وولاة أعمالها في الأمصار، وملكوا عليهم الضواحي يتحيّفون جوانبهم ويقعدون لهم بالمرصاد، ويأخذون لهم الإتاوة على التصرّف في أوطانهم.
ولم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة، واختطّ بالساحل مدينة بجاية، ونقل إليها ذخيرته وأعدها لنزله. ونزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل وفسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال وتوعّر مسالكها على رواحلهم.
واستقروا بها بعد، وتركوا القلعة. وكانوا يختصّون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة

(6/27)


سائر أيامهم. ثم افترق جمع الأثبج وذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم. ولما غلب الموحّدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى وأربعين وخمسمائة، وزحف شيخ الموحّدين عبد المؤمن إلى إفريقية، وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج وحبّاس بن مشيفر من رجالات جشم، فتلقّاهما بالمبرّة وعقد لهما على قومهما ومضى لوجهه. وفتح بجاية سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
ثم انتقض العرب الهلاليون على دعوة صنهاجة، وكان أمير رياح فيهم محرز بن زناد ابن بادخ [1] إحدى بطون بني علي بن رياح، فلقيتهم جيوش الموحّدين بسطيف وعليهم عبد الله بن عبد المؤمن فتوافقوا ثلاثا علقوا فيهما رواحلهم، وأثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم، ثم انتقض في الرابعة جمعهم واستلحمهم الموحّدون وغلبوا عليهم، وغنموا أموالهم وأسروا رجالهم وسبوا نساءهم واتبعوا أدبارهم إلى محصن سبتة. ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم واستكانوا لعزّ الموحّدين وغلبهم، فدخلوا في دعوتهم وتمسّكوا بطاعتهم، وأطلق عبد المؤمن أسراهم ولم يزالوا على استقامتهم، ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس، وربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية، فأجازوا مع عبد المؤمن ويوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم. ولم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوّفيون أمراء ميورقة، أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكسبوها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة لأوّل دولة المنصور، وكشفوا القناع في نقض طاعة الموحّدين، ودعوا العرب بها، فعادت هيف إلى أديانها.
وكانت قبائل جشم ورياح وجمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها. ولما تحرّكت جيوش الموحّدين إلى إفريقية لكفّ عدوانهم، تحيّزت قبائل زغبة إليهم، وكانوا في جملتهم، ولحق بنو غانية بفاس ومعهم كافة جشم ورياح، ولحق بهم جلّ قومهم من مسوفة وإخوانهم لمتونة من أطراف البقاع، واستمسكوا بالدعوة العبّاسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسّكون بها، فأقاموها فيمن إليهم من القبائل والمسالك ونزلوا بفاس، وطلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك، وأوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان، فعقد لابن غانية وأذن له في حرب الموحّدين. واجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور، وكانوا جاءوا على أثر الهلاليين
__________
[1] وفي النسخة التونسية: محرز بن زناد بن فارغ وكذلك قبائل المغرب ص 397.

(6/28)


عند إجازتهم إلى إفريقية. وظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني. ونذكر أخباره في أخبار الميروقي [1] فاجتمع لعلي بن غانية من الملثّمين والعرب والعجم عساكر جمّة، وغلب الضواحي وافتتح بلاد الجريد، وملك قفصة وتوزر ونفطة. ونهض اليه المنصور من مراكش يجرّ أمم المغرب من زناتة والمصامدة وزغبة من الهلاليين وجمهور الأثبج، فأوقعوا بمقدّمته بفحص غمرة من جهات قفصة. ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرّة عليهم، وفلّ جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شرّدهم إلى صحاري برقة، وانتزع بلاد قسنطينة وقابس وقفصة من أيديهم، وراجعت قبائل جشم ورياح من الهلاليّين طاعته ولاذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى. وأنزل جشم ببلاد تامسنا [2] ، ورياحا ببلاد الهبط، وأزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا.
وكانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على إفريقية وضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء إفريقية وصحراء المغرب الأوسط، وبها قصور جدّدها فسميت باسم من ولي خطّتها من شعوبهم. وكان بنو بادين وزناتة وهم بنو عبد الواد وتوجين ومصاب وبقوز ودال وبنو راش [3] شيعة الموحّدين منذ أول دولتهم، فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين وأنظارهم كما يأتي. وكانوا يتولّون من أرياف المغرب الأوسط وتلوله ما ليس يليه أحد من زناتة، ويجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحّدين وحاميتهم. وأمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة، ونزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليّين وتحيّزوا إلى فئتهم، وصاروا جميعا قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلى جبل راشد، بعد أن كان قسمتهم الأولى بقابس وطرابلس.
وكانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس. وقتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة ابن غانية، وانحرافهم عنه إلى الموحّدين وانعقد ما بينهم وبين بني بادين حلف على الجوار والذبّ عن الأوطان وحمايتها من معرة العدوّ في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الميورقي.
[2] إقليم مغربي قديم كان يمتد من نهرابي رقراق إلى وادي أم الربيع، وقد اندثر اليوم هذا الاسم وبقي ما يذكر به كباب تامسنا بالرباط. والنسبة اليه مسناوي (قبائل المغرب ص 117) .
[3] هكذا بالأصل وفي نسخة اخرى: وبنو زردال وبنو راشد.

(6/29)


احتيال غرّتها وانتهاز الفرصة فيها. فتعاقدوا على ذلك واجتوروا وأقامت زغبة في القفار وبنو بادين بالتلول والضواحي. ثم فرّ مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيّين من بلاد الهبط، ولحق ببلاد طرابلس ونزل على زغبة وذياب من قبائل بني سليم. ووصل إلى قراقش بن رياح وحصر معه طرابلس حين افتتحها، وهلك هنالك، وقام إلى الميروني ولحق ولقيه بالحملة فهزمه [1] وقتل الكثير من قومه.
وانهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم: ابنه عبد الله وابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان، وشيخ من شيوخ قرّة، فضرب أعناقهم. وفرّ يحيى بن غانية إلى مسقطه من الصحراء. واستمرّت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال وسليم واتباعها. ونحن الآن نذكر أخبارهم ومصائر أمورهم ونعدّدهم فرقة فرقة، ونخصّ منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحية وناجعته، ونطوي ذكر من انقرض منهم، ونبدأ بذكر الأثبج لتقدّم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه. ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم. ثم نذكر رياحا وزغبة، ثم المعقل لأنهم من أعداء هلال. ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم جاءوا من بعدهم وللَّه الخلاق القديم.
(الخبر عن الأثبج وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة)
كان هؤلاء الأثبج من الهلاليين أوفر عددا وأكثر بطونا وكان التقدّم لهم في جملتهم.
وكان منهم الضحاك وعياض ومقدم والعاصم والطيف ودريد وكرفة وغيرهم حسبما يظهر في نسبهم. وفي دريد بطنان توبة وعنز، ويقولون بزعمهم إن أثبج هو ابن ربيعة ابن نهيك بن هلال. فكرفة هو ابن الأثبج. وكان لهم جمع وقوّة، وكانوا أحياء غزيرة [2] من جملة الهلاليين الداخلين لإفريقية، وكانت مواطنهم حيال جبل أوراس
__________
[1] يستعجب القارئ من التحريف في الأسماء والتشويش في المعنى وفي النسخة التونسية: وهلك هنالك.
وقام بأمره في قومه ابنه محمد، ولما استبد ابو محمد عبد الواحد بن أبي حفص بولاية افريقية، زحف الى الميورقي ولقيه بالحمة فهزمه.
[2] وفي النسخة التونسية: عزيزة.

(6/30)


من شرقية. ولما استقر أمر الأثبج بإفريقية على غلب صنهاجة على الضواحي ووقعت الفتنة بينهم، وذلك أن حسن بن سرحان وهو من دريد قتل شبانة بن الأحيمر من كرفة غيلة، فطوت كرفة له على الهائم [1] .
ثم إن أخته الجازية غاضبت زوجها ماضي بن مقرب بن قرة، ولحقت بأخيها فمنعها منه، فاجتمعت قرة وكرفة على فتنة حسن وقومه، وظاهرتهم عياض، ولم تزل الفتنة إلى أن قتل حسن بن سرحان، قتله أولاد شبانة بن الأحيمر، وثأروا منه بأبيهم. ثم كان الغلب بعده لدريد على كرفة وعياض وقرة، واستمرت الفتنة بين هؤلاء الأمالح [2] وافترق أمرهم. وجاءت دولة الموحدين وهم على ذلك الشتات والفتنة، وكانت لبطونهم ولاية لصنهاجة. فلما ملك الموحدون إفريقية نقلوا منهم إلى المغرب العاصم ومقدما وقرة وتوابع لهم من جشم، وأنزلوا جميعهم بالمغرب كما نذكر.
واعتزت رياح بعدهم بإفريقية وملكوا ضواحي قسنطينة، ورجع إليهم شيخهم مسعود بن زمام من المغرب فاعتز الزواودة [3] على الأمراء والدول. وساء أثرهم فيها وغلبوا بقايا الأثابج، فنزلوا قرى الزاب، وقعدوا عن الطعن وأوطنوا بالقرى والآطام. ولما نبذ بنو أبي حفص العهد للزواودة كما يأتي في أخبارهم واستجاش عليهم بنو سليم وأنزلوهم القيروان، اصطنعوا كرفة من بطون الأثابج، فكانوا حربا لرياح وشيعة للسلطان. وأقطعتهم الدولة لذلك جباية الجانب الشرقي من جبل أوراس وكثيرا من بلاد الزاب الشرقية حيث كانت محلاتهم الشتوية، حتى إذا اختل ريح الدولة، وأخلقت جدتها واعتزت رياح عليها وملكوا المجالات على من يظعن فيها نزل كرفة هؤلاء بجبل أوراس حيث إقطاعاتهم وسكنوه حللا متفرّقة واتخذوه وطنا.
وربما يظعن بعضهم إلى تخوم الزاب كما نذكر عن بطونهم وهم بطون كثيرة، فأولهم:
بنو محمد بن كرفة ويعرفون بالكلبية وأولاد سهيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشبه، وأولاد صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة وأولاد سرحان بن فاضل أيضا ويعرفون بالسرحانية. وهؤلاء هم المودعات وهم موطنون
__________
[1] وفي النسخة التونسية: على النث.
[2] وفي نسخة ثانية: الأثابج.
[3] وفي نسخة ثانية الرواودة وفي قبائل المغرب ص 418: الزواودة.

(6/31)


بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا [1] . ثم أولاد نافت [2] بن فاضل، وهم أهل الرئاسة في كرفة ولهم أقطاعات السلطان التي ذكرناها، وهم ثلاثة أفخاذ: أولاد مساعد وأولاد ظافر وأولاد قطيقة. والرئاسة أخص بأولاد مساعد في أولاد علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن نابت. وأما بنو محمد والمروانية فهم ظواعن جائلة في القفار تلقاء مواطن أولاد نابت. ويكتالون الحبوب لأقواتهم من زروع أهل الجبل، وأولاد نابت. وربما يستعملهم صاحب الزاب في تصاريف أمره من عسكر وإخفار وغير ذلك من أغراضه. وأما دريد فكانوا أعز الأثبج وأعلاهم كعبا بما كانت الرئاسة على الأثبج كلهم عند دخولهم إلى إفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم، وكانت مواطنهم ما بين ولد العناب إلى قسنطينة إلى طارف مصقلة، وما يحاذيها من القفر. وكانت بينهم وبين كرفة الفتنة التي هلك فيها حسن بن سرحان كما ذكرناه، وقبره هنالك. وكانوا بطونا كثيرة منهم أولاد عطية بن دريد وأولاد سرور بن دريد وأولاد جار الله من ولد عبد الله بن دريد. وتوبة من ولد عبد الله أيضا وهو توبة بن جبر ابن عطاف بن عبد الله، وكانت لهم بين هلال رياسة كثيرة ومدحهم شعراؤهم بشعر كثير، فمن ذلك قول بعض شعرائهم:
دريد ذات سراة البدو للجود منقع ... كما كل أرض منقع الماء خيارها
تحنّ إلى أوطان مرة ناقتي لكن معها ... جملة دريد كان موارها
وهم عربوا الأعراب حتى تعرّبت ... بنوف المعالي ما ينفي قصارها
وتركوا طريق النار برهة وقد ... كان ما تقوى المطايا حجارها [3]
فأما أولاد عطية فكانت رياستهم في أولاد بني مبارك بن حباس، وكانت لهم تلة ابن
__________
[1] الأسماء محرّفة والعبارة ناقصة، وفي النسخة التونسية: وأولاد شبيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشببة.
وأولاد صبح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة، وأولاد سرحان بن فاضل أيضا ويعرفون بالسراحنة هؤلاء هم الحدلجة وهم موطنون بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا.
[2] وفي نسخة ثانية نابت.
[3] وقد وردت هذه الأبيات في النسخة التونسية:
تحن إلى أوطان صبرة ناقتي ... لكن بها جملة دريد حوارها
دريد سراة البدو للجود منقع ... كما كل أرض منقع الما خيارها
وهم عربوا الأعراب حتى تعرفت ... بطرق المعالي ما ينوفي قصارها
وتركوا طريق البارمين ثنية ... وقد كان ما يقوي المطايا حجارها

(6/32)


حلوف من أرض قسنطينة. ثم دثروا وتلاشوا، وغلبتهم توبة على تلة ابن حلوف زحفوا إليها من مواطنهم بطارق مصقلة فملكوها وما إليها. ثم عجزوا عن رحلة القفر وتركوا الإبل واتخذوا الشاء والبقر وصاروا في عداد القبائل الغارمة، وربما طالبهم السلطان بالعسكرة معه فيعينون له جندا منهم، ورياستهم في أولاد وشاح بن عطوة بن عطية ابن كمون بن فرج بن ثوبة، وفي أولاد مبارك بن عابر بن عطية بن عطوة وهم على ذلك لهذا العهد. ويجاورهم أولاد سرور وأولاد جار الله على سننهم في ذلك.
فأما أولاد وشاح فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين سجم بن كثير بن جماعة بن وشاح وبين أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح. وأما أولاد مبارك بن عابد فرياستهم أيضا منقسمة بين نجاح بن محمد بن منصور بن عبيد بن مبارك، وعبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور ورثها عن عمه راجح بن عثمان بن منصور وأما أولاد جار الله فرياستهم في ولد عنان بن سلام منهم. وأما العاصم ومقدم والضحاك وعياض فهم أولاد مشرف بن أثبج، ولطيف وهو ابن سرح بن مشرف، وكان لهم عدد وقوة بين الأثابج.
وكان العاصم ومقدم انحرفوا عن طاعة الموحدين إلى ابن غانية، فأشخصهم يعقوب المنصور إلى المغرب، وأنزلهم تامستا مع جشم، ويأتي خبرهم، وبقيت عياض والضحاك بمواطنهم بإفريقية، فعياض نزلوا بجبل القلعة، قلعة بني حماد وملكوا قبائله وغلبوهم على أمرهم، وصاروا يتولون جبايتهم، ولما غلبت عليهم الدولة بمظاهرة رياح صاروا إلى المدافعة عن تلك الرعايا وجبايتهم للسلطان. وسكنوا ذلك الجبل، فطوله من المشرق إلى المغرب ما بين ثنية غنية والقصاب إلى وطن بني يزيد بن زغبة.
فأولهم مما يلي غنية للمهاية، ورياستهم في أولاد ديفل، ومعهم بطن منهم يقال لهم الزير، وبعدهم المرتفع والخراج من بطونهم.
فأما المرتفع فثلاثة بطون: أولاد تبان ورياستهم في أولاد محمد بن موسى، وأولاد حناش، ورياستهم في بني عبد السلام. وأولاد عبدوس ورياستهم في بني صالح.
ويدعى أولاد حناش وأولاد تبار جميعا أولاد حناش. وأما الخراج فرياستهم لأولاد زائدة بني عباس بن خفير ويجاور الخراج من جانب الغرب أولاد صخر، وأولاد رحمة من بطون عياض، وهم مجاورون لبني يزيد بن زغبة في آخر وطن الأثابج من الهلاليين.
وأما الضحاك فكانوا بطونا كثيرة، وكانت رياستهم مفترقة بين أميرين منهم، وهما أبو عطية وكلب بن منيع، وغلب كلب أبا عطية على رياسة قبيلتهما الأول دولة

(6/33)


الموحدين، فارتحل فيما زعموا إلى المغرب، وسكن صخر سجلماسة، وكانت له فيها آثار حتى قتله الموحدون أو غربوه إلى الأندلس، هكذا ينقل أصحاب أخبارهم، وبقي تجمعهم بالزاب حتى غلب مسعود بن زمام والزواودة [1] عليهم وأصاروهم في جملتهم ثم عجزوا عن الطعن، ونزلوا بلاد الزاب واتخذوا بها المدن، فهم على ذلك لهذا العهد. وأما لطيف فهم بطون كثيرة منهم اليتامى وهم أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف بني ذوي مطرف وذوي أبي الخليل وذوي حلال بن معافى. ومنهم اللقامنة أولاد لقمان بن خليفة بن لطيف ومنهم: أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان، ونزار بن معن بن محيا وإليه يرجع نسب بني مزنى الولاة بالزاب لهذا العهد. وكانت لهؤلاء كثرة ونجعة. ثم عجزوا عن الطعن وغلبهم على الضواحي الزواودة من بعدهم لما قل جمعهم وافترق ملوكهم، وصار إلى المغرب من صار منهم من جمهور الأثبج فاهتضموا، وعليهم رياح والزواودة فنزلوا بلاد الزاب، واتخذوا بها الآطام والمدن مثل الدوسن وغريبوا وتهدوه ونقموه وبادس. وهم لهذا العهد من جملة الرعايا الغارمة لأمير الزاب. ولهم عجمة [2] منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها، وهم على ذلك لهذا العهد. وبينهم في قصورهم بالزاب فتن متصلة بين المتجاورين منهم، وحروب وقتل. وعامل الزاب يدرأ بعضا ببعض، ويستوفي جبايته منهم جميعا والله خير الوارثين.
ويلحق بهؤلاء الأثبج العمور، وغلب على الظنّ أنهم من ولد عمرو بن عبد مناف بن هلال اخوة قرة بن عبد مناف وليسوا من ولد عمر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال، لأن رياحا وزغبة والأثبج من أبي ربيعة، ولا نجد بينهم انتماء بالجملة. ونجد بينهم وبين قرة وغيرهم من بطون هلال الانتماء، فدل على أنهم لعمرو بن عبد مناف، أو يكونون من عمر بن روينة [3] بن عبد الله بن هلال، وكلهم معروف.
ذكره ابن الكلبي والله أعلم بذلك. وهم بطنان: قرة وعبد الله، وليس لهم رياسة على أحد من هلال ولا ناجعة تظعن لقلتهم وافتراق ملتهم إنما هم ساكنون بالضواحي والجبال، وفيهم الفرسان وأكثرهم رجالة وموطنهم ما بين جبل أوراس شرقا إلى جبل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الدواودة.
[2] وفي نسخة ثانية عنجهية.
[3] وفي نسخة ثانية رويبة.

(6/34)


راشد. وكان كل ذلك من ناحية المصنة [1] والصحراء. وأما التلول فهم مرفوعون عنها بقلتهم وخوفهم من حامية الدول، فتجدهم أقرب إلى موطن القفر والجدب.
(فأما بنو قرة) منهم فبطن متسع إلا أنهم مفترقون في القبائل والمدن وحدانا. وبنو عبد الله منهم على رياسة فيهم وهم: عبد الله بن علي وبنوه محمد وماضي بطنان، وولد محمد عنان وعزيز بطنان، وولد عنان شكر وفارس بطنان. من ولد شكر أولاد يحيى ابن سعيد بن بسيط بن شكر بطن أيضا. فأما أولاد فارس وأولاد عزيز وأولاد ماضي فموطنهم بسفح جبل أوراس المطل على بسكرة قاعدة الزاب، متصلين كذلك غربا إلى مواطن غمرة، وهم في جوار رياح وتحت أيديهم. وخول لأولاده وخصوصا من الزواودة المتولين موطنهم بالمجال. لصاحب الزاب عليهم طاعة لقرب جواره وحاجتهم إلى سلطانه، فيصرفهم لذلك في حاجته متى عنت من إخفار العير ومقارفة مدن الزاب مع رجله وغير ذلك.
(وأما أولاد شكر) وهم أكبر رياسة فيهم فنزلوا جبل راشد، وكانوا فريقين، فنزلوا واحتربوا وغلب أولاد محيا بن سعيد منهم أولاد زكرير ودفعوهم عن جبل راشد، فصاروا إلى جبل كسال محاذيه من ناحية الغرب وأوطنوه، واتصلت فتنتهم معهم على طول الأيام وافتتحهم رجال زغبة باقتسام المواطن، فصار أولاد يحيى أهل جبل راشد في إيالة سويد بن زغبة وأحلافا لهم، وأولاد ذكرى أهل جبل كسال في إيالة بني عامر وأحلافا لهم. وربما يقتحمون بادية زغبة مع أهل المصر [2] أحلافا لهم في فتنتهم كما نذكر في أخبار زغبة. وكان شيخهم من أولاد يحيى فيما قرب من عهدنا عامر بن أبي يحيى بن محيا. وكان له فيهم ذكر وشهرة. وكان ينتحل العبادة وحجّ ولقي بمصر شيخ الصوفية لعصره يوسف الكوراني، وأخذ عنه لقن طرق هدايته ورجع إلى قومه وعاهدهم على طريقته ونحلته فاتبعه الكثير منهم، وغزا المفسدون من بادية النضر في جواره، وجاهدهم إلى أن اغتالوه بعض الأيام في الصيد فقتلوه، وكان شيخ أولاد زكرير يغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير، وكان يسامي عامرا ويناهضه في شرفه إلا أن عامرا كان أسود منه بنحلة العبادة والله مصرف الأمور والخلق أهـ.
__________
[1] وفي نسخة ثانية الحصنة ولم نجد لها ذكر في تصنيف الحموي، وفي قبائل المغرب الحضنة ص 58.
[2] وفي نسخة ثانية مع النضر.

(6/35)


(الخبر عن جشم الموطنين بسائط المغرب وبطونهم من هذه الطبقة)
هؤلاء الأحياء بالمغرب لهذا العهد فيهم بطون من قرة والعاصم، ومقدم والأثبج وجشم والخلط. وغلب عليهم جميعا اسم جشم فعرفوا به. وهم: جشم بن معاوية ابن بكر بن هوازن. وكان أصل دخولهم إلى المغرب أنّ الموحدين لما غلبوا على إفريقية أذعنت لهم هؤلاء القبائل من العرب طوعا وكراهية. ثم كانت فتنة ابن غانية فأجلبوا فيها وانحرفوا عن الموحدين، وراجعوا الطاعة لعهد المنصور فنقل جمهور هؤلاء القبائل إلى المغرب ممن كثرة وشوكة وظواعن ناجعة. فنقل العاصم ومقدّم من بطون الأثبج، ومعهم بطون ونقل جشم هؤلاء الذين غلب اسمهم على من معهم من الأحياء وأنزلهم تامستا. ونقل رياح وأنزلهم الهبط فنزل جشم بتامستا البسيط الأفيح ما بين سلا ومراكش أوسط بلاد المغرب الأقصى، وأبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل درن بها وشموخه بأنفه حذاءها، ووشوج أعراقه حجرا عليها فلم ينتجعوا بعدها قفرا ولا ابعدوا رحلة، وأقاموا بها أحياء حلولا، وافترقت جيوشهم بالمغرب إلى الخلط وسفيان وبني جابر.
وكانت الرئاسة لسفيان من بينهم في أولاد جرمون سائر أيام الموحدين، ولما وهن أمر بني عبد المؤمن وفشلوا وذهبت ريحهم استكثروا بجموعهم، فكانت لهم سورة غلب واعتزاز على الدولة بكثرتهم وقرب عهدهم بالبداوة، وخرّبوا ما بين الأعياص، وظاهروا الخلافة وأكثروا الفساد وسائر آثارهم باقية [1] .
ولما اقتحم بنو مرين بلاد المغرب على الموحدين وملكوا فاس وقريتها لم تكن فيه حامية أشدّ منهم بأسا ومن رياح لقرب العهد بالبداوة، فكانت لهم معهم وقائع وحروب استلحمهم فيها بنو مرين إلى أن حق الغلب واستكانوا لعزّ بني مرين وصولتهم، وأعطوهم صفقة الطاعة وأصهر بنو مرين منهم إلى الخلط في بنت بني مهلهل فكان في جملة مرين، وكانت لهم الجولة للملك. واستقرّت رياسة جشم وكثرهم في الخلط منهم، في بنت مهلهل بعد أن كانت على عهد الموحدين في سفيان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وساءت أثارهم في البغي.

(6/37)


ثم ضربت الأيام ضرباتها وأخلقت جدّتهم وفشلوا وذهبت ريحهم، ونسوا عهد البداوة والناجعة، وصاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية والعسكرة مع السلطان.
(ولنذكر الآن) فرقهم الأربع وأحياء كل واحدة منها ونحق الكلام في أنسابهم، فليست راجعة إلى جشم على ما يتبين. ولكن الشهرة بهذا النسب متصلة والله أعلم بحقائق الأمور.
هذه قبائل معدودة في جشم، وجشم المعهود هو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن أو لعله جشم آخر من غيرها. وكان شيخهم المشهور لعهد المأمون وبنيه جرمون بن عيسى. ونسبه فيما يزعم بعض المؤرخين أيام الموحدين في بني قرة، وكانت بينهم وبين الخلط شيعة للمأمون وبنيه، فصار سفيان لذلك شيعة يحيى بن الناصر منازعة في الخلافة بمراكش. ثم قتل الرشيد مسعود بن حميدان شيخ الخلط كما نذكر بعد، فصاروا إلى يحيى بن الناصر. وصار سفيان إلى الرشيد. ثم ظهر بنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مع الموحدين ونزع جرمون سنة ثمان وثلاثين وستمائة عن الرشيد ولحق بمحمد بن عبد الحق أمير بني مرين حياء مما وقع له معه، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وذلك أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر وحمل عليه وهو سكران يرقص طربا. ثم أفاق فندم وفرّ إلى محمد بن عبد الحق، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهلك سنة تسع وثلاثين بعدها. وعلا كعب كانون ابنه من بعده عند السعيد، وخالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين سنة ثلاث وأربعين وستمائة ورجع إلى أزمور فملكها.
وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن حركته، وقصد كانون بن جرمون ففر أمامه، وحضر حركته إلى تامزردكت، وقتل قبل مهلكه بيوم قتله الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة السعيد، وهي التي جرت عليها تلك الواقعة. وأقام بأمر سفيان من بعده أخوه يعقوب بن جرمون، وقتل محمد ابن أخيه كانون. وقام بأمر سفيان، وحضر مع المرتضى حركة أمان ايملولين سنة تسع وأربعين وستمائة فرحل عن السلطان واختل عسكره فرجع فاتبعه بنو مرين وكانت الهزيمة. ثم رجع المرتضى وعفا له عنها، ثم قتله سنة تسع وخمسين وستمائة مسعود وعلي ابنا أخيه كانون بثأر أبيهما، ولحقا بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وقدم المرتضى ابنه عبد الرحمن فعجز عن القيام بأمره، فقدم عمه عبيد الله بن جرمون فعجز، فقدم مسعود بن كانون ولحق عبد

(6/38)


الرحمن ببني مرين. ثم تقبّض المرتضى على يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر وقدّم عوضا منه يعقوب بن كانون السفياني. ثم راجع عبد الرحمن بن يعقوب سنة أربع وخمسين وستمائة فتقبض عليه واعتقل. وأقام مسعود بن كانون شيخا على سفيان.
وكان لابني عمه معه ظهور وهما: حطوش وعيسى أبناء يعقوب بن جرمون. ونزع مسعود عن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة ست وستين [1] وستمائة ابن عبد الحق ولحق بمسكورة وشب نار الفتنة والحرب، وأقيم حطوش بن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة تسع وستين وستمائة فولي مكانه أخوه عيسى وهلك مسعود بمسكورة [2] سنة ثمانين وستمائة ولحق ابنه منصور بن مسعود بالسكسيوي إلى أن راجع الخدمة أيام يوسف بن يعقوب. ووفد عليه بعسكره من حصار تلمسان سنة ست وسبعمائة فتقبله.
واتصلت الرئاسة على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا. وأدركت شيخا لعهد السلطان أبي عنان يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى. وكان سفيان هؤلاء حيا حلولا بأطراف تامستا مما يلي أسفى، وملك بسائطها الفسيحة عليهم الخلط. وبقي من أحيائهم الحرث والكلابية ينتجعون أرض السوس وقفاره، ويطلبون ضواحي بلا دجاجة [3] من المصامدة فبقيت فيهم لذلك شدّة وبأس، ورياستهم في أولاد مطاوع من الحرث. وطال عيثهم في ضواحي مراكش وإفسادهم. فلما استبدّ سلطان مراكش الأمير عبد الرحمن بن أبي فلفوس [4] علي ابن السلطان أبي على سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكر استخلصهم ورفع منزلتهم. واستقدمهم بعض أيامه للعرض بفرسانهم ورجلهم على العادة، وشيخهم منصور بن يعيش من أولاد مطاع، وتقبض عليهم أجمعين، وقتل من قتل منهم وأودع الآخرين سجونه فذهبوا مثلا في الأيام، وحصدت شوكتهم والله قادر على ما يشاء.
__________
[1] وفي نسخة أخرى سبع وستين.
[2] وفي نسخة أخرى سكورة ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان.
[3] وفي النسخة التونسية خاصة. وفي معجم البلدان حاجة موضع في قول لبيد: فذكرها مناهل آحنات بحاجة، لا تنزح بالدوالي وفي كتاب قبائل المغرب حاجة قبائل ص 134 وارض خاصة بلاد من المصامدة، ص 420.
[4] وفي نسخة أخرى: يفلّوسن.

(6/39)


(الخلط من جشم)
هذا القبيل يعرف بالخلط وهم في عداد جشم هؤلاء، لكن المعروف أنّ الخلط بنو المنتفق من بني عامر بن عقيل بن كعب، كلهم شيعة للقرامطة بالبحرين. ولما ضعف أمر القرامطة استولى بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة. ثم غلبهم عليها بنو أبي الحسين من بطون تغلب بالدعوة العباسية، فارتحل بنو سليم وبنو المنتفق من هؤلاء المسمون بالخلط إلى إفريقية، وبقي سائر بني عقيل بنواحي البحرين إلى أن غلب منهم على التغلبيين بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر بن عقيل إخوة الخلط هؤلاء، لأنهم في المغرب منسوبون إلى جشم تخليطا في النسب ممن يحققه من العوام.
ولما أدخلهم المنصور إلى المغرب كما قلنا استقرّوا ببسائط تامستا، فكانوا أولي عدد وقوّة، وكان شيخهم هلال بن حميدان بن مقدم بن محمد بن هبيرة بن عواج لا نعرف من نسبه أكثر من هذا. فلما ولي العادل بن منصور خالفوا عليه، وهزموا عساكره وبعث هلال ببيعته إلى المأمون سنة خمس وعشرين وستمائة واتبعه الموحدون في ذلك وجاء المأمون وظاهروه على أمره، وتحيز أعداؤهم سفيان إلى يحيى بن القاص [1] منازعة. ولم يزل هلال مع المأمون إلى أن هلك في حركة سبتة وبايع بعده لابنه الرشيد وجاء به إلى مراكش وهزم سفيان واستباحهم.
ثم هلك هلال وولي أخوه مسعود، وخالف على الرشيد عمر بن أوقاريط شيخ الهساكرة من الموحدين، وكان صديقا لمسعود بن حميدان، فأغراه بالخلاف على اكسز السلطان فخالف، وحاول عليه الرشيد حتى قدم عليه بمراكش وقتله في جماعة من قومه سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وولي أمر الخلط بعده يحيى ابن أخيه هلال، ومرّ بقومه إلى يحيى بن القاص وحصروا مراكش ومعهم ابن أوقاريط. وخرج الرشيد إلى سجلماسة واستولوا على مراكش وعاثوا فيها. ثم جاء الرشيد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وغلبهم عليها ولحق ابن أوقاريط بالأندلس.
وأبدى عليّ بن هود بيعة الخلط، وعلموا أنها حيلة من ابن أوقاريط وأنه تخلّص من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يحيى بن الناصر.

(6/40)


الورطة، فطردوا عنهم يحيى بن القاص إلى معقل. وراجعوا الرشيد فقبض على علي ووشاح ابني هلال وسجنهم بأزمور سنة خمس وثلاثين وستمائة. ثم أطلقهم ثم غدر بعد ذلك بمشيختهم بعد الاستدعاء والتأنيس وقتلهم جميعا مع عمر بن أوقاريط، كان أهل اشبيلية بعثوا به إليه، ثم حضروا مع السعيد في حركته إلى بني عبد الواد وجرّوا عليه الواقعة حتى قتل فيها بفتنتهم مع سفيان يومئذ، فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة اثنتين وخمسين وستمائة وقتلهم. ولحق عواج بن هلال ببني مرين، وقدم المرتضى عليهم علي بن أبي علي من بيت الرئاسة فيهم. ثم رجع عواج سنة أربع وخمسين وستمائة وأغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته.
ثم كانت واقعة أم الرجلين على المرتضى سنة ستين وستمائة، فرجع علي بن أبي علي إلى بني مرين. ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين وكانت الرئاسة فيهم بأول السلطان لبني مرين لمهلهل بن يحيى من مقدم. وأصهر إليه يعقوب بن عبد الحق فأنكحه ابنته التي كان منها ابنه السلطان أبو سعيد. ولم يزل مهلهل عليهم إلى أن هل سنة خمس وتسعين وستمائة، ثم ابنه عطية. وكان لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبو الحسن، وبعثه سفيرا إلى سلطان مصر الملك الناصر.
ولما هلك قام بأمره أخوه عيسى بن عطية، ثم ابن أخيهما زمام بن إبراهيم بن عطية.
وبلغ إلى المبالغ من العز والترف والدالة على السلطان والقرب من مجلسه إلى ان هلك، فولي أمره ابنه أحمد بن إبراهيم، ثم أخوه سليمان بن إبراهيم، ثم أخوهما مبارك على مثل حالهم أيام السلطان أبي عنان. ومن بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان أبي سالم، واستولى على المغرب أخوه عبد العزيز وأقطع ابنه أبا الفضل ناحية مراكش، فكان مبارك هذا معه.
ولما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك وأودع السجن إلى أن غلب السلطان عبد العزيز على عامر بن محمد وقتله، فقتل معه مبارك هذا لما كان يعرف به من صحابته ومداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين، وولي ابنه محمد على قبيل الخلط، إلا أن الخلط اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب والترف منذ مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة للعز والدعة، فأكلتهم السنون وذهب بهم الترف والله غالب على أمره
.

(6/41)


(بنو جابر بن جشم)
بنو جابر هؤلاء من عداد جشم بالمغرب، وربما يقال إنهم من سدراتة إحدى فرق زناتة أو لواتة والله أعلم بذلك. وكان لهم أثر في فتنة يحيى بن الناصر بما كانوا معه من أحزابه، ولما هلك يحيى بن الناصر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بعث الرشيد بقتل شيخهم قائد بن عامر وأخيه فائد، وولي بعده يعقوب بن محمد بن قيطون. ثم اعتقله يغلو قائد الموحدين، بعثه المرتضى لذلك. وقدم يعقوب بن جرموق، وولي مشيخة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون. ثم تحيز بنو جابر هؤلاء من أحياء جشم إلى سفح الجبل بتادلا وما إليها يجاورون هناك صناكة الساكنين بقشتة وهضابه من البربر، فيسهلون إلى البسيط تارة ويأوون إلى الجبل في حلف البربر وجوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من السلطان أو ذي غلبة.
والرئاسة فيهم لهذه العصور في ورديقة [1] من بطونهم، أدركت شيخا عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديقي. ثم هلك وأقيم مقامه الناصر ابنه ولحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن السلطان إلى سالم سنة ستين وسبعمائة، ونهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا منه. ثم لحق بهم أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم عند فراره عن مراكش سنة ثمان وستين. ونازلة السلطان عبد العزيز وأحيط به فلحق برابرة صناكة من قومه. ثم أمكنوا منه على مال حمل إليهم، ولحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن يغلوسن [2] على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب.
وطلبه عمر فأخرجوه عنهم وطال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة، فنكرته الدولة، وتقبض عليه وأودع السجن، فمكث فيه سنين وتجافت الدول عنه من بعد ذلك، وأطلق عقالهم. ثم رجع من المشرق فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ابن السلطان عبد العزيز وأودعه السجن، ونقلوا الرئاسة عن بني علي هؤلاء والله يقلب الليل والنهار. وقد يزعم كثير من الناس أنّ ورديقة من بني جابر
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ورديغة وكذلك في قبائل المغرب ص 420.
[2] وفي النسخة التونسية: ابو يفلوسن وقد مرّ معنا من قبل ولكن ورد اسمه محرّفا.

(6/42)


ليسوا من جشم، وأنهم بطن من بطون سدراتة إحدى شعوب لواتة من البربر، ويستدلون على ذلك بمواطنهم وجوارهم للبربر، والله أعلم بحقيقة ذلك.
(العاصم ومقدم من الأثبج)
هؤلاء الأحياء من الأثبج كما ذكرنا في أنسابهم، ونزلوا تامستا معهم، وكانت لهم عزة وعلياء، إلا أن جشم أعز منهم لمكان الكثرة. وكان موطنهم بسيط تامستا، وكانت للسلطان عليهم عسكرة وجباية كان إخوانهم من جشم. وكان شيخ العاصم لعهد الموحدين، ثم عهد المأمون منهم حسن بن زيد، وكان له أثر في فتنة يحيى بن الناصر. ولما هلك سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أمر الرشيد بقتل حسن بن زيد مع قائد وفائد ابني عامر شيوخ بني جابر فقتلوا جميعا. ثم صارت الرئاسة لأبي عياد وبنيه، وكان بينهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد، وكان له تغلب في النفرة والاستقامة.
فرّ إلى تلمسان ورجع منها أعوام تسعين وستمائة. وفرّ إلى السوس ورجع منه سنة سبع وسبعمائة، ولم يزل دأبه هذا. وكانت له ولاية مع يعقوب بن عبد الحق من قبل ذلك، ومقاماته في الجهاد مذكورة. وبقيت رياسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم وأمر مقدم ودثروا وتلاشوا. والله خير الوارثين.
(الخبر عن رياح وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة)
كان هذا القبيل من أعز قبائل هلال وأكثرهم جمعا عند دخولهم إفريقية وهم فيما ذكره ابن الكلبي: رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر، وكانت رياستهم حينئذ لموسى بن يحيى الصنبري من بطون مرداس بن رياح. وكان من رجالاتهم لذلك العهد الفضل بن علي مذكور في حروبهم مع صنهاجة، وكانت بطونهم عمر ومرداس، وعلى كلهم بنو رياح وسعيد بن رياح وخضر بن عامر بن رياح وهم الأخضر. ولمرداس بطون كثيرة: داود بن مرداس وصنبر بن حواز بن عقيل

(6/43)


بن مرداس، وإخوتهم مسلم بن عقيل. ومن أولاده عامر بن يزيد بن مرداس بطون أخرى منهم: بنو موسى بن عامر وجابر بن عامر. وقد يقال: إنهم من لطيف كما قدمناه، وسودان ومشهور ومعاوية بنو محمد بن عامر بطون ثلاثة واسم سودان علي بن محمد. وقد يقال أيضا إنّ المشاهرة وهم بنو مشهور بن هلال بن عامر من نمير رياح والله أعلم.
والرئاسة على رياح في هذه البطون كلها لمرداس، وكانت عند دخولهم إفريقية في صنبر منهم. ثم صارت للزواودة [1] أبناء داود بن مرداس بن رياح. ويزعم بنو عمر بن رياح أن أباهم كفله ورباه. وكان رئيسهم لعهد الموحدين مسعود بن سلطان بن زمام بن ورديقي بن داود، وكان يلقب البلط لشدته وصلابته. ولما نقل المنصور رياحا إلى المغرب تخلف عساكر أخو مسعود في جماعات منهم لما بلاه السلطان من طاعته وانحياشه، وأنزل مسعودا وقومه لبلاد الهبط ما بين قصور كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى أزغار البسيط الفيح هناك إلى ساحل البحر الأخضر، واستقروا هنالك.
وفرّ مسعود بن زمام من بينهم في لمة من قومه سني تسعين وخمسمائة، ولحق بإفريقية واجتمع إليه بنو عساكر أخيه ولحقوا بطرابلس، ونزلوا على زغب وذياب يتقلبون بينهم. ثم نزع إلى خدمة قراقش، وحضر معه بقومه فتح طرابلس كما نذكره في أخبار قراقش. ثم رجع إلى ابن غانية الميروقي [2] ولم يزل في خلافة ذلك إلى أن هلك، وقام بأمره من بعده ابنه محمد. وكانت له رياسة وغناء في فتنة الميروقي مع الموحّدين. [3] ولما غلب أبو محمد بن أبي حفص يحيى الميروقي مع الموحدين سنة ثماني عشرة وستمائة على الحمة من بلاد الجريد، وقتل من العرب من قتل، كان فيمن قتله ذلك اليوم عبد الله بن محمد هذا وابن عمه أبو الشيخ بن حركات بن عساكر.
ولما هلك الشيخ أبو محمد رجع محمد بن مسعود إلى إفريقية وغلب عليها، واجتمع إليه حلف الأثبج ظواعن من الضحاك ولطيف فكاثروه واعتزوا به على قتالهم من دريد وكرفة، إلى أن عجزت ظواعن الضحاك ولطيف عن الرحلة، وافترقوا في قرى الزاب وصدرة. وبقي محمد بن مسعود يتغلب في رحلته وصارت رياسة البدو في
__________
[1] وفي النسخة التونسية: دؤاد.
[2] وفي نسخة ثانية: الدواودة.
[3] وفي نسخة ثانية: الميورقي.

(6/44)


ضواحي إفريقية ما بين قسطيلة والزاب والقيروان والمسيلة له ولقومه. ولما هلك يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح سنة إحدى وثلاثين وستمائة كما نذكره انقطع ملكهم، واستغلظ سلطان أبي حفص.
واستقل منهم الأمير يحيى بن عبد الواحد بخطبة الخلافة عند ما فسد كرسيها بمراكش، وافترق أتباع يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح، فنكره آل أبي حفص هؤلاء الزواودة، ومكانهم من الوطن مما سلف من عنادهم ومشايعتهم لابن غانية عدوّهم فجاجا الأمير ابو زكريا في بني سليم من مواطنهم لذلك العهد بقابس وطرابلس وما إليها. والتقدم فيهم يومئذ لمرداش والكعوب كما نذكره في أخبارهم، واصطنعوهم لمشايعة الدولة. وضربوا بينهم وبين قبائل رياح وأنزلوهم بالقيروان وبلاد قسطيلة، وكانت آية لمحمد بن مسعود ووفد عليه في بعض السنين وفد مرداس يطلبون المكيل وينزلون عليهم فشرهوا إلى نعمتهم وقاتلوهم عليها، وقتلوا رزق ابن سلطان عم محمد بن مسعود، فكانت بينهم وبين رياح أيام وحروب حتى رحلوهم جانب المشرق من إفريقية وأصاروهم إلى جانبها الغربي.
وملك الكعوب ومرداس من بني سليم ضواحي الجانب الشرقي كلها، من قابس إلى بونة نفطة وامتاز الزواودة بملك ضواحي قسنطينة وبجاية من التلول ومجالات الزاب وريغ وواركلا وما وراءها من القفار في بلاد القبلة. وهلك محمد بن مسعود فولي رياسته موسى بن محمد، وكان له صيت وغناء في قومه واعتزاز على الدولة.
(ولما هلك يحيى) بن عبد الواحد بويع ابنه محمد المستنصر الطائر الذكر المشهود له في الشهرة. وخرج عليه أخوه إبراهيم فلحق بالزواودة هؤلاء فبايعوه بجهات قسنطينة واتفقوا على تقديمه، ونهض إليه المستنصر سنة ست وستين وستمائة ففرّوا أمامه وافترق جمعهم وتحيّز إليه بنو عساكر بن سلطان منهم، ورياستهم يومئذ لولد مهدي بن عساكر. ونبذوا العهد إلى إبراهيم بن يحيى ولحقوا بتلمسان. وأجاز البحر إلى الأندلس، وأقام بها في جوار الشيخ ابن الأحمر.
ثم هلك موسى بن محمد وولي رياسته ابنه شبل بن موسى، واستطال على الدولة وكثر عيثهم، فنبذ المستنصر عهدهم، ونهض إليه بعساكره وجموعه من الموحدين والعرب من بني سليم وأولاد عساكر إخوانهم، وعلى مقدمته الشيخ أبو هلال عياد بن محمد الهنتاني وكان يومئذ أميرا ببجاية. وحاول عليهم فاستقدم رؤساؤهم شبل بن موسى بن

(6/45)


محمد بن مسعود وأخاه يحيى، وسباع بن يحيى بن دريد بن مسعود. وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وفضل بن ميمون بن دريد بن مسعود ومعهم دريد بن تاز يرشيخ أولاد نابت من كرفة، فقبض عليهم لحين قدومهم وضرب أعناقهم في سريح، وأخذ ابن راية [1] حيث بايعوا أبا إسحاق أخاه والقاسم بن أبي زيد بن أبي حفص الفازع إليهم لطلب الخروج على الدولة.
وافترقت ظواعنهم وفرّوا أمامه، واتبعهم إلى آخر الزاب. وترك شبل بن موسى سباعا ابنه طفلا صغيرا، فكفله عمه مولاهم بن موسى، ولم تزل الرئاسة بهم، وترك سباع ابنه يحيى أيضا طفلا فكفله عمه طلحة بن يحيى، ولحق جلهم بملوك زناتة المغرب، وأولاد محمد لحقوا بيعقوب بن عبد الحق بفاس، وأولاد سباع بن يحيى لحقوا بيغمراسن بن زيان بتلمسان فكسوهم وحملوهم، فارتاشوا وقاتلوا واحتالوا وزحفوا إلى مواطنهم فتغلبوا على أطراف الزاب من واركلان وقصور ريغ وصيروها سهاما بينهم، وانتزعوها للموحدين فكان آخر عهدهم بملكها.
ثم تقدموا إلى بلاد الزاب وجمع لهم عاملها أبو سعيد عثمان بن محمد بن عثمان ويعرف بابن عتوا من رؤساء الموحدين. وكان منزله بمقرة فزحف إليهم بمكانهم من الزاب، وأوقعوا به وقتلوه به بقلطاوة، وغلبوا على الزاب وضواحيه لهذا العهد. ثم تقدّموا إلى جبل أوراس فغلبوا على من به من القبائل. ثم تقدّموا إلى التل وجمع لهم من كان به من أولاد عساكر، وغلبهم موسى بن ماضي بن مهدي بن عساكر، فجمع قومه ومن في حلفهم من عياض وغيرهم.
وتزاحفوا فغلبهم أولاد مسعود وقتلوا شيخهم موسى بن ماضي، وتولوا الوطن بما فيه.
ثم تلافت الدولة أمرهم بالاصطناع والاستمالة وأقطعوهم ما غلبوا عليه من البلاد بجبل أوراس والزاب، ثم الأمصار التي بالبسيط الغربي من جبل أوراس المسمى عندهم بالحصنة وهي نقاوس ومقرة والمسيلة. واختص أقطاع المسيلة بسباع بن شبل بن يحيى حتى صارت لعلي بن سباع بن يحيى من بعد ذلك، فهي في قسم بنيه وسهامهم.
واختص أقطاع مقرة بأحمد بن عمر بن محمد، وهو ابن عم شبل بن موسى بن سباع، ونقاوس بأولاد عساكر. ثم هلك سباع بن شبل وقام بأمرهم ابنه عثمان،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وضرب أعناقهم في مصرع أحد ابن راية.

(6/46)


ويعرف بالعاكر، فنازعه الرئاسة بنو عمه علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى. ولم يزالوا كذلك لهذا العهد، ولهم تغلب على ضواحي بجاية وقسنطينة ومن بها من سرديكش [1] وعياض وأمثالهم. ورياسة أولاد محمد الآن ليعقوب بن علي بن أحمد، وهو كبير الزواودة بمكانه وسنه وله شهرة وذكر ومحل من السلطان متوارث.
ورياسة أولاد سباع في أولاد علي بن سباع، وأولاد علي أشرف منهم وأعز بالكثرة.
والعدد ورياستهم في ولد يوسف بن سليمان بن علي بن سباع ويرادفهم أولاد يحيى بن علي بن سباع. واختص أولاد محمد بنواحي قسنطينة وأقطعتهم الدول كثيرا من أريافها. واختص أولاد سباع بنواحي بجاية وأقطاعهم فيها قليل لمنعة بجاية وضواحيها عن ضيم العرب، ولغلبهم بالجبال المطيفة بها وتوعر مسالكها على رواحل الناجعة.
وأما ريغ وواركلا فقسمة بينهم منذ عهد سلفهم كما قلناه.
وأما الزاب فالجانب الغربي منه وقاعدته طواقة [2] لأولاد محمد وأولاد سباع بن يحيى، وكانت لأبي بكر بن مسعود، فلما ضعف بنوه ودثروا اشتراها منهم علي بن أحمد شيخ أولاد عمر وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع. واتصلت بينهم بسببها الفتنة وصارت في مجالات أولاد سباع بن يحيى فسار غلب سليمان وبنيه عليها أكثر.
والجانب الوسط وقاعدته بسكرة لأولاد محمد، وفي مجالاتهم وليعقوب بن علي على عامله بسبب ذلك سلطان وعزة، وله به تمسك وإليه انحياش في منعته من الدولة واستبداده بوطنه، وحماية ضواحيه من عيث الأعراب وفسادهم غالب الأوقات.
وأما الجانب الشرقي من الزاب وقاعدته بادس وتنومة فهو لأولاد نابت رؤساء كرفة بما هو من مجالاتهم، وليس هو من مجالات رياح. إلا أن عمال الزاب تأخذ منه في الأكثر جباية غير مستوفاة بعسكر لها إلا في بعض الأحايين ببادية رياح بإذن من كبيرهم ويعقوب وإشراكه في الأمر. وبطون رياح كلها تبع لهؤلاء الزواودة ومقتسمون عليهم وملتمسون مما في أيديهم، وليس لهم في البلاد ملك يستولون عليه. وأشدّهم قوّة وأكثرهم جمعا بطون سعيد ومسلم والأخضر، يبعدون النجعة في القفار والرمال، ويسخرون الزواودة في فتنة بعضهم مع بعض ويختصون بالحلف فريقا دون آخر.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سدويكش وكذلك في قبائل الغرب ص 321.
[2] وفي نسخة ثانية: طولقة.

(6/47)


فسعيد أحلاف لأولاد محمد سائر أيامهم إلا قليلا من الأحيان ينابذونهم، ثم يراجعونهم ومسلم والأخضر أحلاف لأولاد سباع كذلك إلا في بعض الأحايين.
(فأما سعيد) فرياستهم لأولاد يوسف بن زيد منهم في ولد ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف، وأردافهم أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف، وهم ينتسبون بزعمهم إلى بني سليم في أولاد القوس من سليم. والصحيح من نسبهم أنهم من رياح بالحلف والموطن ومع أولاد يوسف هؤلاء لفائف من العرب يعرفون بالمخادمة والغيوث والفجور، فأما المخادمة والغيوث من أبناء مخدم فمن ولد مشرف بن أثبج، وأما الفجور فمنهم من البرابر لواتة وزناتة إحدى بطونهم، وفيهم من نفاث فأما نفاث فمن بطون جذام وسيأتي ذكرهم. (وأما زناتة) فهم من بطون لواتة كما ذكرناه في بني جابر وبتادلا كثير منهم وأجاز منهم إلى العدوة لعهد بني الأحمر سلطان الزنادي [1] ، وكانت له في الجهاد آثار. وذكروا أن منهم بأرض مصر والصعيد كثيرا. وأما أحلاف أولاد محمد من الزواودة فبطن من رقاب [2] بن سودات بن عامر بن صعصعة، اندرجوا في أعداد رياح، ولهم معهم ظعن ونجعة، ولهم مكان من حلفهم ومظاهرتهم. وأما أحلاف أولاد سباع من مسلم والأخضر فقد قدّمنا أن مسلما من أولاد عقيل بن مرداس بن رياح أخو جواز بن رياح بعضهم ينتسب الى الزبير بن العوام وهو خلط ويقول بعض من ينكر عليهم إنما هو نسب إلى الزبير بن المهاية الذين هم من بطون عياض كما ذكرناه. ورياسته في أولاد جماعة بن مسلم بن حماد بن مسلم بين أولاد تساكر [3] بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة. وبين أولاد [4] بن موسى بن قطران بن جماعة.
وأما الأخضر فيقولون إنهم من ولد خضر بن عامر وليس عامر بن صعصعة فإن أبناء عامر بن صعصعة معروفون كلهم عند النسابين. وإنما هو والله أعلم عامر آخر من أولاد رياح. ولعله عامر بن زيد بن مرداس المذكور في بطونهم، أولهم من الخضر الذين هم ولد مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن قيس عيلان. ذكرهم صاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الزناري.
[2] وفي نسخة ثانية: رياب.
[3] وفي النسخة التونسية: جماعة من سالم بن حمّاد بن سالم بين أولاد شكر.
[4] وفي نسخة ثانية: زرارة، هذا أصح راجع قبائل المغرب ص 422

(6/48)


الأغاني وقال: إنما سموا الخضر لسوادهم، والعرب تسمي الأسود أخضر. قال:
وكان مالك شديد السمرة فأشبهه ولده. ورياستهم في أولاد تامر بن علي بن تمام بن عمار بن خضر بن عامر بن رياح، واختصت مرين بأولاد تامر ولد عامر بن صالح بن عامر بن عطية بن تامر. وفيهم بطن آخر لزيادة بن تمام بن عمار. وفي رياح أيضا بطن من عنزة بن أسد بن ربيعة من نزار، ويظعنون مع باديتهم.
(وأما من نزل من رياح) ببلاد الهبط حيث أنزلهم المنصور، فأقاموا هنالك بعد رحلة رئيسهم مسعود بن زمام [1] بتلك المواطن إلى أن انقرضت دولة الموحدين. وكان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون وقتله سنة ثلاثين وستمائة. ولما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع عساكرهم، فقاموا بحماية ضواحيهم وتحيز لهم بنو عسكر بن محمد بن محمد من بني مرين حين كانوا حربا لإخوانهم بني حمامة بن محمد، سلف الملوك منهم لهذا العهد، فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد الحق بن مجيد [2] بن أبي بكر بن جماعة أبو الملك وابنه إدريس، فأوجدوا السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الترة والدماء، فأثخنوا فيهم واستلحموهم قتلا وسبيا مرة بعد أخرى.
وكان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت عامر بن يوسف بن يعقوب سنة سبع وسبعمائة تتبعهم بالقتل إلى أن لحقوا برءوس الهضاب وأسنمة الربى المتوسطة في المرج المستبحر باز غار فصاروا إلى عدد قليل، ولحقوا بالقبائل الغارمة. ثم دثروا وتلاشوا شأن كل أمة والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين لا رب غيره ولا معبود سواه، وهو نعم المولى ونعم النصير، عليه توكلنا واليه أنبنا وإليه المصير، نسأله سبحانه وتعالى من فيض فضله العميم، ونتوسل إليه بجاه نبيه الكريم، أن يرزقنا إيمانا دائما، وقلبا خاشعا، وعلما نافعا، ويقينا صادقا، ودينا قيما والعافية من كل بلية، وتمام العافية، ودوام العافية، والشكر على العافية، والغنى عن الناس، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، وأن يرزقنا من فضله وكرمه، إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد بمنه وكرمه، إنه على ما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زنان.
[2] وفي نسخة ثانية: محيو.

(6/49)


يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد للَّه رب العالمين [1] .
(الخبر عن سعادة العالم بالسنة في رياح ومآل أمره وتصاريف أحواله)
كان هذا الرجل من مسلم إحدى شعوب رياح، ثم من رحمان منهم. وكانت أمه تدعى خضيبة وكانت في أعلى مقامات العبادة والورع. ونشأ هو منتحلا للعبادة والزهد، وارتحل إلى المغرب ولقي شيخ الصالحين والفقهاء لذلك العهد بنواحي تازة أبا إسحاق التسولي، وأخذ عنه ولزمه، وتفقه عليه، ورجع إلى وطن رياح بفقه صحيح وورع وافر، ونزل طولقة من بلاد الزاب، وأخذ بنفسه في تغيير المنكر على أقاربه وعشيرته ومن عرفه أو صحبه، فاشتهر بذلك وكثرت غاشيته لذلك من قومه وغيرهم.
ولزم صحابته منهم أعلام عاهدوه على التزام طريقته كان من أشهرهم: أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ بني محمد بن مسعود من الزواودة، وعطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيى منهم، وعيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد إدريس، وأولاد عساكر منهم، وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة بن يحيى بن دريد بن مسعود منهم، وهجرس بن علي من أولاد يزيد بن زغبة، ورجالات من العطاف من زغبة في كثير من أتباعهم والمستضعفين من قومهم.
فكثر بذلك تابعه واستظهر بهم على شأنه في إقامة السنة وتغيير المنكر على من جاء به.
واشتد على قاطع الطريق من شرار البوادي. ثم تخطي ذلك إلى العمار فطلب عامل الزاب يومئذ منصور بن فضل بن مزني بإعفاء الرعايا من المكوس والظلامات فامتنع من ذلك، واعتزم على الإيقاع به، فحال دونه عشائر أصحابه، وبايعوه على إقامة السنة والموت دونه في ذلك.
وآذنهم ابن مزني في الحرب ودعا لذلك أمثالهم ونظراءهم من قومهم. وكان لذلك
__________
[1] لم يرد هذا الدعاء في النسخة التونسية. والظاهر أنه حذف إما من قبل النسّاخ وإما من قبل الناشرين، إما عمدا وإما سهوا. وقد تعمدنا إثبات محتويات هذا الكتاب عملا بالأمانة العلمية في النقل.

(6/51)


العهد علي بن أحمد بن عمر بن محمد قد قام برياسة أولاد محمد، وسليمان بن علي بن سباع قد قام برياسة أولاد يحيى، واقتسموا رياسة الزواودة فظاهروا ابن مزني على مدافعة سعادة وأصحابه المرابطين من إخوانهم، وكان أمر ابن مزني والزاب يومئذ راجعا إلى صاحب بجاية من بني أبي حفص، وهو الأمير خالد ابن الأمير أبي زكريا، والقائم بدولته أبو عبد الرحمن بن عمر، وبعث إليه ابن مزني في المدد فأمده بالعساكر والجيوش، وأوعز إلى أهل طولقة بالقبض على سعادة فخرج منها، وابتنى بأنحائها زاوية، ونزل بها هو وأصحابه. ثم جمع أصحابه المرابطين وكان يسميهم السنية وزحفوا إلى بسكرة وحاصروا ابن مزني سنة ثلاث وسبعمائة وقطعوا نخيلها، وامتنعت عليهم فرحلوا عنها. ثم أعادوا حصارها سنة أربع وسبعمائة، وامتنعت. ثم انحدر أصحاب سعادة من الزواودة إلى مشاتيهم سنة خمس وسبعمائة، وأقام المرابط سعادة بزاويته من زاب طولقة، وجمع من كان إليه من المرابطين المتخلفين عن الناجعة، وغزا مليلي وحاصرها أياما، وبعثوا بالصريخ إلى ابن مزني والعسكر السلطاني مقيم عندهم ببسكرة، فأركبهم ليلا مع أولاد حرب من الزواودة. وأصبحوا سعادة وأصحابه على مليلي فكانت بينهم جولة قتل فيها سعادة واستلحم الكثير من أصحابه وحمل رأسه إلى ابن مزني.
وبلغ الخبر إلى أصحابه بمشاتيهم فظهروا إلى الزاب، ورؤساؤهم أبو يحيى بن أحمد ابن عمر شيخ أولاد محرز، وعطية بن سليمان شيخ أولاد سبّاع وعيسى بن يحيى شيخ أولاد عساكر، ومحمد بن حسن شيخ أولاد عطية، ورياستهم جميعا راجعة لأبي يحيى بن أحمد. ونازلوا بسكرة وقطعوا نخيلها وتقبضوا على عمال ابن مزني فأحرقوهم في النار، واتسع الخرق بينهم وبينه. ونادى ابن مزني في أوليائه من الزواودة، واجتمع إليه علي بن أحمد شيخ أولاد محمد، وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع وهما يومئذ أجلاء الزواودة. وخرج ابنه علي بينهم بعساكر السلطان، وتزاحفوا بالصحراء سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فغلبهم المرابطون، وقتل علي بن مزني. وتقبض على عليّ بن أحمد فقادوه أسيرا، ثم أطلقه عيسى بن أحمد رعيا لأخيه أبي يحيى بن أحمد.
واستفحل أمر هؤلاء السنية ما شاء الله أن يستفحل. ثم هلك أبو يحيى بن أحمد وعيسى بن يحيى، وخلت أحياء أولاد محرز من هؤلاء السنية، وتفاوض السنية فيمن

(6/52)


يقيمونه بينهم في الفتيا في الأحكام والعبادات، فوقع نظرهم على الفقيه أبي عبد الله محمد بن الأزرق من فقهاء مقرة. وكان أخذ العلم ببجاية على أبي محمد الزواوي من كبار مشيختها، فقصدوه بذلك وأجابهم وارتحل معهم. ونزل على حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة، واجتمع إليه السنية واستفحل بهم جانب أولاد سباع، واجتمعوا على الزاب وحاربوا علي بن أحمد طويلا.
وكان السلطان أبو تاشفين حين كان يجلب على أوطان الموحدين ويخيب عليهم أولياءهم من العرب، يبعث إلى هؤلاء السنية بالجوائز يستدعي بذلك ولايتهم.
ويبعث معهم للفقيه أبي الأزرق بجائزة معلومة في كل سنة. ولم يزل ابن الأزرق مقيما لرسمهم إلى أن غلبهم على أمرهم ذلك علي بن أحمد شيخ أولاد محمد. وهلك حسن بن سلامة وانقرض أمر السنية من رياح. ونزل ابن الأزرق بسكرة فاستدعاه يوسف بن مزني لقضائها تفريقا لأمر السنية، فأجابه ونزل عنده، فولاه القضاء ببسكرة إلى أن هلك سنة [1] .
ثم قام علي بن أحمد بهذه السنية بعد حين ودعا إليها، وجمع لابن مزني سنة أربعين وسبعمائة، ونزل بسكرة وجاءه مدد أهل ريغ، وأقام محاصرا لها أشهرا. وامتنعت عليه فأقلع عنها وراجع يوسف بن مزني وصاروا إلى الولاية إلى أن هلك علي بن أحمد وبقي من عقب سعادة في زاويته بنون وحفدة يوجب لهم ابن مزني الرعاية، وتعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقا في إجازة من يجيزونه من أهل السابلة. وبقي هؤلاء الزواودة ينزع بعضهم أحيانا إلى إقامة هذه الدعوة، فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين والتعمق في الورع بما يناسبها ويقضي حقها، بل يجعلونها ذريعة لأخذ الزكوات من الرعايا، ويتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسدا في ارتقاء، فينحل أمرهم بذلك، وتخفق مساعيهم، ويتنازعون على ما تحصل بأيديهم ويعترفون على غير شيء. والله متولي الأمور لا إله إلا هو سبحانه يحيى ويميت.
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولم نهتد إلى سنة وفاته في المراجع التي بين أيدينا.

(6/53)


(الخبر عن زغبة وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة)
هذه القبيلة إخوة رياح، ذكر ابن الكلبي أن زغبة ورياحا أبناء أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر هكذا نسبهم، وهم لهذا العهد مما يزعمون أنّ عبد الله يجمعهم، بكسر دال عبد، ولم يذكر ابن الكلبي ذلك، وذكر عبد الله في ولد هلال، فلعل انتسابهم إليه بما كلفهم واشتهر دونهم، وكثيرا ما يقع مثل هذا في أنساب العرب أعني انتساب الأبناء لعمهم أو كافلهم والله أعلم.
وكانت لهم عزة وكثرة عند دخولهم إفريقية وتغلبوا على نواحي طرابلس وقابس، وقتلوا سعيد بن خزرون من ملوك مغراوة بطرابلس. ولم يزالوا بتلك الحال إلى أن غلب الموحدون على إفريقية، وثار بها ابن غانية، وتحيزت إليه أفاريق هلال بن رياح وجشم، فنزعت زغبة إلى الموحدين، وانحرفوا عن غانية فرعوا له حق نزوعهم، وصاروا يدا واحدة مع بني يادين من زناتة في حماية المغرب الأوسط من ابن غانية واتباعه، واتصلت مجالاتهم ما بين المسيلة وقبلة تلمسان في القفار، وملك بنو يادين وزناتة عليهم التلول.
(ولما ملكت زناتة) بلاد المغرب الأوسط ونزلوا بأمصاره، دخل زغبة هؤلاء التلول وتغلبوا فيها، ووضعوا الإتاوة على الكثير من أهلها بما جمعهم وزناتة من البداوة وعصبية الحلف، وخلا قفرهم من ظعونهم وحمايتهم فطرقته عرب المعقل المجاورون لهم من جانب المغرب، وغلبوا على من وجدوا من مخلف زغبة هؤلاء بتلك القفار، وجعلوا عليهم خفارة يأخذونها من إبلهم، ويختارون عليهم البكرات منها. وأنفوا بذلك وتآمروا وتعاقدوا على دفع هذه الهضمة، وتولى كبرها من بطونهم ثوابة بن جوثة من سديد كما نذكره بعد، فدفعوهم عن أوطانهم من ذلك القفر. ثم استفحلت دولة زنانة وكفحوا العرب عن وطن تلولهم لما انتشأ عنهم من العيث والفساد فرجعوا إلى صحرائهم، وملكت الدولة عليهم التلول والحبوب، واستصعب الميرة وهزل الكراع، وتلاشت أحوالهم وضربت عليهم البعوث، وأعطوا الإتاوة والصدقة حتى إذا فشل ريح زناتة وداخل الهرم دولتهم، وانتزى الخوارج من قرابة الملك بالقاصية

(6/54)


وجدوا السبيل بالفتن إلى طروق التلول، ثم إلى الغلب فيها، ثم غالبوا زناتة عليها فغلبوهم في أكثر الأحايين، وأقطعتهم الدولة الكثير من نواحي المغرب الأوسط وأمصاره في سبيل الاستظهار بهم، فتمشت ظعونهم فيه وملكوه من كل جانب كما نذكره وبطون زغبة هؤلاء يتعدّدون من يزيد وحصين ومالك وعامر وعروة، وقد اقتسموا بلاد المغرب الأوسط كما نذكر في أخبارهم.
(بنو يزيد بن زغبة)
كان لبني يزيد هؤلاء محل من زغبة بالكثرة والشرف، وكان للدول به عناية، فكانوا لذلك أول من أقطعته الدول من العرب التلول والضواحي. أقطعهم الموحدون في أرض حمزة من أوطان بجاية مما يلي بلاد رياح والأثابج فنزلوا هنالك، ولجوا الثنايا المفضية إلى تلول حمزة والدهوس وأرض بني حسن ونزلوها ريفا وصحراء، وصار للدولة استظهار بهم على جباية تلك الرعايا من صنهاجة وزواوة. فلما عجزت عساكر بجاية من جبايتهم دفعوهم لها فأحسنوا في اقتضائها وزادت الدول بهم تكرمة وعناية بذلك. وأقطعتهم الكثير من تلك الأوطان. ثم غلب زناتة الموحدون على تلك الأوطان فاقتطعوها عن أوطان بجاية وأصاروها عن ممالكهم.
فلما فشل ريح زناتة وجاش بحر فتنتهم مع العرب استبد بنو يزيد هؤلاء بملكة تلك الأوطان، وغلبوا عليها من جميع جوانبها، فرغوا لجبايتها واقتضاء مغارمها، وهم على ذلك لهذا العهد. وهم بطون كثيرة فمنهم حميان بن عقبة بن يزيد، وجواب وبنو كرز وبنو موسى والمرابعة والخشنة. وهم جميعا بنو يزيد بن عيسى بن زغبة وإخوانهم عكرمة بن عيسى من ظعونهم، وكانت الرئاسة في بني يزيد لأولاد لاحق، ثم لأولاد معافى. ثم صارت في بيت سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد بن عيسى بن زغبة، وهم يزعمون أنه مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب تأباه رياستهم على غير عصبتهم، وقد مر ذلك قبل.
وربما نسبهم آخرون إلى سلول، وهم بنو مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة وليس بصحيح لما قلناه. وقد يقال: إن سلولا وبني يزيد إخوة. ويقال لهم جميعا

(6/55)


أولاد فاطمة. وبنو سعد هؤلاء ثلاثة بطون: بنو ماضي بن رزق بن سعد، وبنو منصور بن سعد، وبنو زغلي بن رزق بن سعد. واختصت الرئاسة على الظعون والحلول ببني زغلي. وكانت لريان بن زغلي فيما علمناه. ثم من بعده لأخيه ديفل، ثم لأخيهما أبي بكر، ثم لابنه ساسي بن أبي بكر، ثم لابنه معتوق بن أبي بكر، ثم لموسى ابن عمهم أبي الفضل بن زغلي ثم لأخيه أحمد بن أبي الفضل، ثم لأخيهما علي بن أبي الفضل. ثم لأبي الليل بن أبي موسى بن أبي الفضل، وهو رئيسهم لهذا العهد. وتوفي سنة إحدى وتسعين وخلفه في قومه ابنه.
وكان من أحلافهم فيما تقدم بنو عامر بن زغبة يظعنون معهم في مجالاتهم ويظاهرونهم في حروبهم. وكانت بين رياح وزغبة فتنة طويلة لعهد موسى بن محمد بن مسعود، وابنه شبل أيام المستنصر بن أبي حفص. فكان بنو يزيد هؤلاء يتولون كبرها لمكان الجوار. وكان بنو عامر أحلافهم فيها وظهراءهم. وكان لهم على مظاهرتهم وضيعة من الزرع تسمى الغرارة وهي ألف غرارة من الزرع، وكان سببها فيما يزعمون: انّ أبا بكر بن زغلي غلبته رياح على الدهوس من وطن حمزة أزمان فتنته معهم، فاستنصر بني عامر، فجاءه أولاد شافع وعليهم صالح بن بالغ، وبنو يعقوب، وعليهم داود بن عطاف وحميد وعليهم يعقوب بن معروف. واسترجع وطنه وفرض لهم على وطنه ألف غرارة من الزرع، واستمرت لبني عامر.
فلما ملك يغمراسن بن زيان تلمسان ونواحيها، ودخلت زناتة إلى التلول والأرياف.
كثر عيث المعقل وفسادهم في وطنها فجاء يغمراسن ببني عامر هؤلاء من محلاتهم بصحراء بني يزيد، وأنزلهم في جواره بصحراء تلمسان كيادا للمعقل، ومزاحمة لهم بأقيالهم فنزلوا هنالك. وتبعتهم حميان من بطون بني يزيد بما كانوا بطونا وناجعة، ولم يكونوا حلولا، فصاروا في عداد بني عامر لهذا العهد. وتولت بنو يزيد بلاد الريف وخصبة، فأوطن فيه أكثرهم وقال أهل الناجعة منهم الأفاريق من عكرمة وبعض بطون عيسى يظعنون مع أولاد زغلي في قفرهم.
وأقصروا عن الظعن في القفر إلا في القليل ومع أحلافهم من ظعون رياح أو زغبة، وهم على ذلك لهذا العهد. ومن بطون بني يزيد بن عيسى زغبة هؤلاء بنو خشين وبنو موسى وبنو معافى وبنو لاحق. وكانت الرئاسة لهم ولبني معافى قبل بني سعد بن مالك، وبنو جواب وبنو كرز وبنو مربع وهم المرابعة، وهؤلاء كلهم بطن حمزة لهذا

(6/56)


العهد. ومن المرابعة حي ينجعون بضواحي تونس لهذا العهد، وغلب عليهم بسبب زغبة والله الخلاق العليم.
أبو الفضل بن موسى بن زغلي بن رزق بن سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله.

(6/57)


(حصين بن زغبة)
وأما أولاد حصين بن زغبة فكانت مواطنهم بجوار بني يزيد إلى المغرب عنهم. كانوا حيا حلوا هنالك، وكان الريف للحاذي من تيطري ونواحي المدينة مواطن للثعالبة من بطون البعوث، ويأخذون منهم الأتاوات والصدقات. حتى إذا ذهب سلطان بني توجين من أرض المدينة [1] وغلبهم عليهم بنو عبد الواد ساموا حصينا هؤلاء خطة الخسف والذل، وألزموهم الوضائع والمغارم، واستلحموهم بالقتل وهضموهم بالتكاليف، وصيّروهم في عداد القبائل الغارمة ومآثر ذلك، كان تغلب بني مرين على جميع زناتة كما نذكره، فكانوا لهم أطوع، ولدولتهم أذل. فلما عاد بنو عبد الواد إلى ملكهم لعهد أبي حمو موسى بن يوسف بن يوسف بعد مهلك السلطان أبي عنان هبت ريح العز للعرب، وفشل ريح زناتة، ولحق دولتهم ما يلحق الدول من الهرم، ونزل حصين هؤلاء بتيطري وهو جبل أشير وملكوه وتحصنوا به.
وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو لما ملك من قبله لحق بتونس مقتطعا [2] حبالة بني مرين، وخرج طالبا أبيه، ومنازلا لابن عمه هذا، ونزل في خبر طويل نذكره بقبائل حصين هؤلاء أحوج ما كانوا لمثلها لما راموه من خلع ما كان بأعناقهم من الدول وطرق الاهتضام والعسف فتلقوه بما يجب له. ونزل منهم بأكرم نزل وأحسن مثوى. وبايعوه وراسلوا إخوانهم وكبراءهم من رؤساء زغبة بني سويد وبني عامر فأصفقوا عليه. وترددت عساكر السلطان أبي حمو وبني عبد الواد إليهم فتحصنوا بجبل تيطري وأوقعوا بهم.
ونهض إليهم السلطان أبو حمود بعساكره فقتلوه ونالوا منه، ونالت زغبة بذلك ما أرادوه من الاعتزاز على الدولة آخر الأيام، وتملكوا البلاد أقطاعات وسهمانا، ورجع أبو زيان إلى رياح فنزل بهم على سلم عقده مع ابن عمه وبقي لحصين أثر الاعتزاز من جرّائه. واقطعتهم الدولة ما ولوه من نواحي المدينة وبلاد صنهاجة. لحصين ولهؤلاء
__________
[1] وفي نسخة: المرية. ولعلها المدية في أواخر افريقية من اعمال بني حمّاد. وليس المرية من اعمال الأندلس لأنها بعيدة عن بحثنا هنا. راجع قبائل المغرب ص 145.
[2] وفي نسخة أخرى: مفلتا من

(6/58)


بطنان عظيمان جندل وخراش، فمن جندل أولاد سعد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن على بن جندل، ورياستهم في بني خليفة بن سعد لعلى [1] ، وسيدهم أولاد خشعة بن جندل.
وكانت رياستهم على جندل قبل أولاد خليفة، ورئيسهم الآن علي بن صالح بن دياب بن مبارك بن يحيى بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة. ومن خراش أولاد مسعود بن مظفر بن محمد الكامل بن خراش ورياستهم لهذا العهد في ولد رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام بن مسعود وأولاد فرج بن مظفر، ورياستهم في بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج. وأولاد طريف بن معبد بن خراش، ويعرفون بالمعابدة، ورياستهم في أولاد عريف وربما انتسب أولاد مظفر من خراش إلى بني سليم ويزعمون أن مظفر بن محمد الكامل جاء من بني سليم ونزل بهم والله أعلم بحقيقة ذلك.
(بنو مالك بن زغبة)
وأما بنو مالك بن زغبة فهم بطون ثلاثة: سويد بن عامر بن مالك وهم بطنان، العطاف بن ولد عطاف بن رومي بن حارث. والديالم من ولد ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي فأما سويد فكانوا أحلافا لبني يادين قبل الدولة. وكان لهم اختصاص ببني عبد الواد، وكانت لهم لهذا العهد أتاوات على بلد سيراة والبطحاء وهوارة. ولما ملك بنو يادين تلول المغرب الأوسط وأمصاره كان قسم بني توجين منه شياخ [2] التلول القبلية ما بين قلعة سعيدة في الغرب إلى المريّة في الشرق. فكان لهم قلعة ابن سلامة ومنداس وأنشريس وورنية [3] وما بينهما، فاتصل جوارهم لبني مالك هؤلاء في القفر والتل.
ولما ملك بنو عبد الواد تلمسان ونزلوا بساحتها وضواحيها، كان سويد هؤلاء أخص
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليلي.
[2] وفي نسخة ثانية: سياج.
[3] وفي النسخة التونسية: ووزينة، وفي النسخة الباريسية وورثته. وفي بعض النسخ الأخرى: ووزلنة.

(6/59)


بحلفهم وولايتهم من سائر زغبة. وكانت لسويد هؤلاء بطون مذكورون من فلمة [1] وشبانة ومجاهر وجوثة، كلهم من بني سويد. والحساسة بطن من شبانة إلى حسان بن شبانة وغفير وشافع ومالف. كلهم بنو سليمة [2] بن مجاهر وبو رحمة وبو كامل، وحمدان بنو مقدر بن مجاهر. ويزعم بعض نسابتهم أن مقدرا ليس بجدّ لهم، وإنما وضع ذلك أولا بو كامل.
وكانت رياستهم لعهدهم في يغمراسن وما قبله في أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان، وكانوا ثلاثة: مهدي وعطية وطراد. واختص مهدي بالرياسة عليهم، ثم ابنه يوسف بن مهدي، ثم أخوه عمر بن مهدي واقطع يغمراس يوسف بن مهدي ببلاد البطحاء وسيرات وأقطع عنتر بن طراد بن عيسى مراري [3] البطحاء وكان يقتضون أتاوتهم على الرعايا ولا يناكرهم فيها. وربما خرج في بعض خروجه واستخلف عمر بن مهدي على تلمسان وما إليها من ناحية المشرق.
وفي خلال ذلك خلت مجالاتهم بالقفر من ظعونهم وناجعتهم، إلا أحياء من بطونهم قليلي العدد من الجوثة وفليتة ومالف وغفير وشاقع وأمثالهم فغلب عليهم هنالك المعقل، وفرضوا عليهم أتاوة من الإبل يعطونها ويختارونها عليهم من البكرات. وكان المتولي لأخذها منهم من شيوخ المعقل ابن الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله، وقيل علي بن عثمان أخو نهار. وقيل إن البكرات إنما فرضها للمعقل على قومه عامر بن جميل لأجل مظاهرة له على عدوه، وبقيت للمعقل عادة إلى أن تمشت رجالات من زغبة في نقض ذلك، وغدروا برجال المعقل ومنعوا تلك البكرات.
(أخبرني يوسف) بن علي، ثم غانم عن شيوخ قومه من المعقل أنّ سبب البكرات وفرضها على زعمه كما ذكرناه. وأما سبب رفعها فهو أنّ المعقل كانوا يقولون غرامتها ادالة بينهم، فلما دالت لعبيد الله الدولة في غرامتها جمع ثوابه في جوثة قومه وحرّضهم على منعها، فاختلفوا واختبروا مع عبيد الله ودفعوهم إلى جانب الشرق، وحالوا بينهم وبين أحيائهم وبلادهم. وطالت الحرب ومات فيها بنو جوثة وابن مريح [4] من
__________
[1] وفي نسخة أخرى فليتة، وكذلك في قبائل المغرب ص 433.
[2] وفي نسخة أخرى: بنو سليمان.
[3] وفي نسخة أخرى: طراد بن عبسي قرارة.
[4] وفي نسخة أخرى: مرمح.

(6/61)


رجالاتهم، وكتب بنو عبد الله إلى قومهم من قصيدة بني معقل
بني معقل إن لم تصرخونا على العدو ... فلا يذلكم تذكر ما طرأ لنا [1]
قتلنا ابن جوثه والهمام بن مريح ... على الوجه مكبوب وذا من فعالنا.
فاجتمعوا وجاءوا إلى قومهم، وفرت أحياء زغبة، واجتمع بنو عبيد الله وإخوانهم من ذوي منصور وذوي حسان، وارتفع أمر البكرات من زغبة لهذا العهد. ثم حدث بين يغمراسن وبينهم فتنة هلك فيها عمر بن مهدي وابن حلوا وانزلوهم عن التلول [2] والأرياف من بلاد عبد الواد إلى القفر المحاذي لأوطان بني توجين على المهادنة والمصاهرة، فصاروا لهم حلفاء على بني عبد الواد ومن عجز منهم عن الظعن نزل ببسائط البطحاء. وسارت بطونهم كلها من شبابة ومجاهر وغفير وشافع ومالف وبو رحمة وبو كامل. ونزل محيسن بن عمارة وأخوه سويد بضواحي وهران، فوضعت عليهم الأتاوات والمغارم وصاروا من عداد الرعايا أهل الجباية، وولي عثمان بن عمر أمر الظعون من سويد ثم هلك وقام بأمره ابنه ميمون وغلب عليه أخوه سعيد واستبدّ.
وكان بين سويد وبين بني عامر بن زغبة فتنة اتصلت على الأيام وثقلت وطأة الدولة الزيانية عليهم. وزحف يوسف بن يعقوب إلى منازلة تلمسان، وطال مقامه عليها، فوفد عليه سعيد بن عثمان بن عمر بن مهدي شيخهم لعهده، فأتى مجلسه وأكرم وفادته. ثم أجمع قتله ففرّ ولحق بقومه، وأجلب على أطراف التلول وملك السرسو قبلة بلاد توجين، ونزعت إليه طائفة من عكرمة بني يزيد وعجزوا عن الظعن، وأنزلهم بجبل كريكرة قبلة السرسو ووضع عليهم الإتاوة. ولم يزل كذلك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب واتصل سلطان آل يغمراسن.
ولما ولي أبو تاشفين بن موسى بن عثمان بن يغمراسن استخلص عريف بن يحيى لديه صحابة كانت له معه قبل الملك. ثم آسفه ببعض النزعات الملوكية. وكان هلال مولاه المستولي عليه يغص بما كان عريف منه، فنزع عريف بن يحيى الى بني مرين ملوك المغرب الأقصى، ونزل على السلطان أبي سعيد منهم سنة عشرين وسبعمائة، واعتقل أبو تاشفين عمه سعيد بن عثمان إلى أن هلك في محبسه قبيل فتح تلمسان،
__________
[1] وقد ورد هذا البيت في نسخ أخرى:
بني معقل ان لم تصرخونا على العدو ... فلا بدّ لكم تذكر ما طرأ لنا
[2] وفي نسخة أخرى: وارتحلوا عن التلول.

(6/62)


ولحق أخوه ميمون بن عثمان وولده بملك المغرب وأنزل عريف بن يحيى من سلطان بني مرين أكرم نزل وأدنى مجلسه وأكرم مثواه. ثم اتخذه ابنه السلطان أبو الحسن من بعده بطانة لشوراه ونجيا لخلواته. ولم يزل يحرضهم على آل زيان بتلمسان. ونفس ميمون بن عثمان وولده عريف رتبته عند السلطان أبي الحسن، فنزعوا إلى أخيه أبي علي بتافيلات [1] فلم يزالوا بها إلى أن هلك ميمون تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه أبي علي وصار أولاد ميمون في جملته. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان يجر أمم المغرب، وأحجر على زيان بتلمسان، ثم اقتحمها عليهم عنوة وابتزهم ملكهم.
وقتل السلطان أبا تاشفين عند شدونة، وبعث كلمته في أقطار المغرب الأقصى والأدنى إلى تخوم الموحدين من أندلس. وجمع كلمة زنانة واستتبعهم تحت لواتة.
وفرّ بنو عامر من زغبة أولياء بني عبد الواد إلى القفر كما نذكره. ورفع السلطان أبو الحسن قوم عريف بن يحيى بمحلته على كل عربي في إيالته من زغبة والمعقل. وكان عقد سمعون بن سعيد على الناجعة من سويد، وهلك أيام نزول السلطان بتاسالة سنة اثنتين وثلاثين [وسبعمائة] قبل فتح تلمسان.
وولي من بعده أخوه عطية وهلك لأشهر من ولايته بعد فتح تلمسان فعقد السلطان لوزمار [2] بن عريف على سويد وسائر بني مالك، وجعل رياسة البدو حيث كان من أعماله، وأخذ الصدقات منهم والأتاوات، فعكفت على هيئة أمم البدو واقتدى بشوراه رؤساؤهم. وفرّ ابن عمه المسعود بن سعيد ولحق ببني عامر، وأجلبوا على السلطان بدعاء جزار شبة ابنه أبي عبد الرحمن، فجمع لهم وزمار وهزمهم كما نذكره. وسفر عريف بين السلطان أبي الحسن وبين الملوك لعهده من الموحدين بإفريقية وبني الأحمر بالأندلس والترك بالقاهرة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك السلطان أبو الحسن.
(ولما تغلب) السلطان أبو عنان على تلمسان كما سنذكره، رعى لسويد ذمة الانقطاع إليه، فرفع وزمار بن عريف على سائر رؤساء البدو من زغبة وأقطعه السرسو وقلعة ابن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تافيلالت. كانت منطقة الواحات (حيث توجد سجلماسة المؤسسة عام 140 هـ- 758 م تسمى بالبربرية تافيلالت وقد سمّاها المؤرخون العرب تافلاله أو فلا له وهي التي استقر بها جد العلويين أو الشرفاء العلويين الشريف الماجد حسن بن قاسم (الموسوعة الغربية ومعلمة الصحراء الملحق الأول ص 62.) كتاب المغرب (ص 142) .
[2] وفي نسخة ثانية لونزمار.

(6/63)


سلامة وكثيرا من بلاد توجين. وهلك أبو عريف بن يحيى، فاستقدمه من البدو، وأجلسه بمكان أبيه من مجلسه جوار أريكته، ولم يزل على ذلك. وعقد لأخيه عيسى على البدو من قومه، ثم بني عبد الواد بعد ملك السلطان أبي عنان عادت لهم الدولة بأبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي يغمراسن من أعياص ملوكهم.
وتولى كبر ذلك صغير بن عامر وقومه لما لهم مع آل زيان من الولاية، وما كان لبني مرين فيهم من النعمات فملكوا تلمسان ونواحيها، وعقدوا على سويد لميمون بن سعيد ابن عثمان. وتاب وزمار بن عريف ورأى الترهب والخروج عن الرئاسة، فبنى حصنا بوادي ملوية من تخوم بني مرين ونزل به، وأقام هنالك لهذا العهد. وملوك بني مرين يرعون له ذمة اختصاصه سلفهم فيؤثرونه بالشورى والمداخلة في الأحوال الخاصة مع الملوك والرؤساء من سائر النواحي، فتوجهت إليه بسبب ذلك وجوه أهل الجهات من الملوك وشيوخ العرب ورؤساء الأقطار.
ولحق أخواه أبو بكر ومحمد بقومهم فمكروا بالميمون ودسوا عليه من قتله غيلة من ذويهم وحاشيتهم، واستبدوا برياسة البدو. ثم لما نصب بنو حصين بن زيان ابن عم السلطان أبي حمو للملك كما نذكره ورشحوه للمنازعة سنة سبع وستين وسبعمائة هبت من يومئذ ريح العرب وجاش مرجلهم على زناتة ووطئوا من تلول بلادهم بالمغرب الأوسط فأعجزوا عن حمايته، وولجوا من فروجها ما قصروا عن سده. ودبوا فيها دبيب الظلال في الفيوء، فتملكت زغبة سائر البلاد بالأقطاع من السلطان طوعا وكرها رعيا لخدمته، وترغيبا فيها وعدة وتمكينا لقوته حتى أفرجت لهم زناتة عن كثيرها، ولجئوا إلى سيف البحر.
وحصل كل منهم في الفلول على ما يلي موطنه من بلاد القفر. فاستولى بنو يزيد على بلاد حمزة وبني حسن كما كانوا من قبل، ومنعوا المغارم، واستولى بنو حسين على ضواحي المدينة أقطاعا والعطاف على نواحي مليمانة، والديالم على وزينة، وسويد على بلاد بني توجين كلها ما عدا جبل ونشريس لتوعره بقيت فيه لمة من توجين رياستهم لأولاد عمر بن عثمان من الجشم بني تيغرين كما نذكره، وبني عامر على تاسالة وميلانة إلى صيرور [1] إلى كيدزة الجبل المشرف على وهران.
__________
[1] وفي نسخة أخرى هيدور، وفي ثانية ميرور.

(6/64)


وتماسك السلطان بالأمصار وأقطع منها كلميتو لأبي بكر بن عريف، ومازونة لمحمد بن عريف، ونزلوا لهم عن سائر الضواحي فاستولوا عليها كافة. وأوشك بهم أن يستولوا على الأمصار. وكل أول فإلى آخر، ولكل أجل كتاب، وهم على ذلك لهذا العهد.
ومن بطون سويد هؤلاء بطن بنواحي البطحاء يعرفون بهبرة، ينسبهم الناس إلى مجاهد ابن سويد، وهم يزعمون أنهم من قوم المقداد بن الأسود، وهم بهذا من قضاعة، ومنهم من يزعم أنهم من تجيب إحدى بطون كندة والله أعلم. ومن ظواعن سويد هؤلاء ناجعة يعرفون بصبيح، ونسبهم إلى صبيح بن علاج بن مالك ولهم عدد وقوة وهم يظعنون بظعن سويد ويقيمون بمقامهم.
(وأما الحرث بن مالك) وهم العطاف والديالم فموطن العطاف قبلة مليانة، ورياسة ظعونهم لولد يعقوب بن نصر بن عروة من منصور بن أبي الذئب بن حسن بن عياض بن عطاف بن زيان بن يعقوب، وابن أخيه علي بن أحمد وبنيهم، ومعهم طائفة من براز إحدى بطون الأثبج. وأقطعهم السلطان مغارم جبل دراك وما إليه من وادي شلب. وحال بينهم وبين موطن سويد ونشريس ولهم بلاد وزينة في قبلة الجبل رياستهم في ولد إبراهيم بن زروق بن رعاية من مزروع بن صالح بن ديلم، والسعد بن العباس بن إبراهيم منهم لهذا العهد. وكانت من قبل لعمه أبي يحيى بن إبراهيم وتقبض عليه السلطان أبو عثمان بإشارة عريف بن يحيى وأغرى به وهلك به وهلك في محبسه.
(وفيهم بطون كثيرة) منهم بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي والدهاقنة أولاد هلال بن حسن وبنو نوال بن حسن أيضا، وكلهم إخوة ديلم بن حسن وابن عكرمة من مزروع بن صالح، ويعرفون بالعكارمة. وهؤلاء العطاف والديالم أقل عددا من سويد وأولياؤهم في فتنتهم مع بني عامر لمكان العصبية من نسب مالك، ولسويد عليهم اعتزاز بالكثرة. والديالم أبعد مجالا منهم في القفر ويحاذيهم في مواطنهم من جانب التلول بطن من بطون الحرث يعرفون بغريب نسبهم الى غريب بن حارث، حي حلول بتلك المواطن يطلبهم السلطان في العسكرة، ويأخذ منهم المغارم وهم أهل شاء وبقر، ورياستهم في أبناء مزروع بن خليفة بن خلوف بن يوسف بن بكرة بن منهاب بن مكتوب بن منيع بن مغيث بن محمد الغريب، وهو جدّهم ابن حارث. وترادفهم في

(6/65)


رياستهم على غريب أولاد يوسف، وهم جميعا أولاد بني منيع وسائر غريب من الأحلاف شيوخهم أولاد كامل، والله مالك الخلق والأمر
.

(6/66)


(بنو عامر بن زغبة)
وأما بنو عامر بن زغبة فمواطنهم في آخر مواطن زغبة من المغرب الأوسط قبلة تلمسان مما يلي المعقل، وكانت مواطنهم من قبل ذلك في آخرها مما يلي المشرق، وكانوا مع بني يزيد حيا جميعا، وكانوا يغلبون غيرهم في مواطن حمزة والدهوس، وبني حسن لميرة أقواتهم في المصيف. ولهم على وطن بني يزيد ضريبة من الزرع متعارفة بين أهله لهذا العهد. يقال: إنها كانت لهم أزمان تغلبهم في ذلك الوطن، وقيل إن أبا بكر بن زغبي في فتنته مع رياح غلبوه على الدهوس من وطنه، فاستصرخ بني عامر فجاءوا لصريخه، وعلى بني يعقوب داود بن عطاف، وعلى بني حميد يعقوب بن معروف، وعلى شافع بن صالح بن بالغ وغلبوا رياحا بعزلان وفرض لهم على وطن بني يزيد ألف غرارة، واستمرت لهم عادة عليهم.
ولما نقلهم يغمراسن إلى مواطنهم هذه لمحاذاة تلمسان ليكونوا حجزا بين المعقل وبين وطنها، استقرّوا هنالك يتقلبون في قفارها في المشاتي، ويظهرون إلى التلول في المرابع والمصايف. وكان فيهم ثلاثة بطون: بنو يعقوب بن عامر وبنو حميد بن عامر وبنو شافع بن عامر، وهم بنو شقارة وبنو مطرف، ولكل واحد من البطنين الآخرين أفخاذ وعمائر، ولبني حميد فصائل أخرى فمنهم: بنو حميد، ومن عبيد الحجز وهم بنو حجاز بن عبيد، وكان له من الولد حجوش وهجيش ابني حجاز. وحجوش حامد ومحمد ورباب.
ومن محمد الولادة بنو ولاد بن محمد. ومن رباب بنو رباب وهم معروفون لهذا العهد. ومن عبيد أيضا العقلة بنو عقيل بن عبيد والمحارزة بنو محرز بن حمزة بن عبيد. وكانت الرئاسة على حميد لعلاق من هؤلاء المحارزة، وهم الذين قبل حجوش جد بني رباب، وكانت الرئاسة على بني عامر كافة لبني يعقوب على عهد يغمراسن وابنه لداود بن هلال بن عطاف بن رداد بن ركيش بن عياد بن منيع بن يعقوب منهم وكان بنو حميد أيضا برئيسهم وشيخهم إلا أنه رديف لشيخ بني يعقوب منهم. وكانت رياسة حميد لأولاد رباب بن حامد بن حجوش بن حجاز بن عبيد ابن حميد ويسمون الحجز. وعلى عهد يغمراسن لمعرف بن سعيد بن رباب منهم،

(6/68)


وهو رديف لداود كما قلناه. ووقعت بين عثمان وبين داود بن عطاف مغاضبة، وسخطه عثمان لما أجاز الأمير أبا زكريا ابن السلطان أبي إسحاق من آل أبي حفص حين فرّ من تلمسان طالب الخروج على الخليفة بتونس، وكان عثمان بن يغمراسن في بيعته، فاعتزم على رجعه فأبى داود من إخفار ذمّته في ذلك. ورحل معه حتى لحق بعطية بن سليمان من شيوخ الزواودة، وتغلب على بجاية وقسنطينة كما يذكر في أخباره.
وأقطع داود بن هلال رعيا لفعلته وطنا من بلاد حمزة يسمى كدارة، وأقام داود هنالك في مجالاتهم الأولى إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، وطال حصاره لها، فوفد عليه داود مؤمّلا صلاح حاله لديه، وحمله صاحب بجاية رسالة إلى يوسف بن يعقوب فاستراب به من أجلها، فلما قفل من وفادته بعث في أثره خيالة من زناتة بيتوه ببني يبقى [1] في سدّ وقتلوه. وقام بأمره في قومه ابنه سعيد، ونفس مخنق الحصار عن تلمسان. وكان قبل بني مرين وسيلة رعاها لهم بنو عثمان بن يغمراسن فرجعوهم إلى مواطنهم ومع قومهم. وقد اغتر أولاد معرف بن سعيد في غيبتهم تلك يساجلونهم في رياسة بني عامر، وغص كل واحد بمكان صاحبه، واختص بنو معرف بإقبال الدولة عليهم لسلامتهم من الحزازة والخلاف. ونزع سعيد بن داود لأجل هذه الغيرة إلى بني مرين.
ووفد على السلطان أبي ثابت من ملوكهم يؤمل به الكرة، فلم يصادف لها محلا ورجع إلى قومه. وكانوا مع ذلك حيا جميعا ولم تزل السعاية بينهم تدب حتى عدا إبراهيم بن يعقوب بن معرف على سعيد بن داود فقتله، وتناول قتله ماضي بن ردان من أولاد معرف بن عامر بمجالاته، وتعصب عليه أولاد رباب كافة، فافترق أمر بني عامر وصاروا حيين. بنو يعقوب وبنو حميد، وذلك لعهد أبي حمو موسى بن عثمان من آل زيان، وقام بأمر بني يعقوب بعد سعيد ابنه عثمان. ثم هلك بعد حين إبراهيم بن يعقوب شيخ بني حميد وقام مقامه من قومه ابنه عامر بن إبراهيم، وكان شهما حازما وله ذكر، ونزل المغرب قبل عريف بن يحيى ونزل على السلطان أبي سعيد، وأصهر إليه ابنته فأنكحه عامر إياها وزفها إليه ووصله بمال له خطر، فلم يزل عثمان يحاول أن يثأر منه بأبيه بالفتنة تارة والصلح والاجتماع أخرى حتى غدره في بيته
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليقي.

(6/69)


وقتله، وارتكب فيه الشنعاء التي تنكرها العرب، فتقاطع الفريقان لذلك آخر الدهر. وصارت بنو يعقوب أحلافا لسويد في فتنتهم مع بني حميد هؤلاء. ثم تلاحقت ظواعن سويد بعريف بن يحيى في مكانه عند بني مرين واستطال ولد عامر ابن إبراهيم بقومهم على بني يعقوب فلحقوا بالمغرب، ولم يزالوا به إلى أن جاءوا في عساكر السلطان أبي الحسن، وهلك شيخهم عثمان، قتله أولاد عريف بن سعيد بثأر عامر بن إبراهيم. وولي بعده ابن عمه هجرس بن غانم بن هلال، فكان رديفا له في حياته. ثم هلك وقام بأمرهم بعده عمه سليمان بن داود.
ولما تغلب السلطان أبو الحسن على تلمسان فرّ بنو عامر بن إبراهيم إلى الصحراء، وكان شيخهم لذلك العهد صغير ابنه، واستأنف السلطان على يد عريف بن يحيى سائر بطون حميد وأولاد رباب فخالف صغيرا إخوانه إلى السلطان. وولى عليهم شيخا من بني عمهم عريف بن سعيد، وهو يعقوب بن العباس بن ميمون بن عريف. ووفد بعد ذلك عمر بن إبراهيم عم صغير، فولاه عليهم، واستخدمهم ولحق بنو عامر بن إبراهيم بالزواودة ونزلوا على يعقوب بن علي، ولم يزالوا هناك حتى شبوا نار الفتنة بالدعي بن هيدور الملبس بشبه [1] أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن.
وأعانه على ذلك أهل الحقود على الدولة والأضغان من الديالم، وأولاد ميمون بن غنم ابن سويد نقموا على الدولة مكان عريف وابنه ونزمار منها، فاجتمعوا وبايعوا لهذا الداعي.
وأو عز السلطان إلى ونزمار بحربهم فنهض إليهم بالعرب كافة، وأوقع بهم وفضهم ومزق جموعهم. وطال مفرّ مقير [2] بن عامر وإخوته في القفار، وأبعدوا في الهرب، قطعوا لعرق الرمل الّذي هو سياج على مجالات العرب، ونزل قليعة والد [3] وأوطنها.
ووفد من بعد ذلك على السلطان أبي الحسن منذ نمي به [4] فقبل وفادته واسترهن أخاه أبا بكر، وصحب السلطان إلى إفريقية وحضر معه واقعة القيروان. ثم رجع إلى قومه وعادوا جميعا إلى لواتة بني يغمراسن، واستخدموا قبائلهم لأبي سعيد عثمان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المهيمن بشعبه.
[2] وفي نسخة ثانية: صغير.
[3] وفي النسخة الباريسية: والن. وفي النسخة التونسية والر.
[4] وفي نسخة أخرى: متذمما.

(6/70)


ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الدائل بتلمسان بعد واقعة القيروان أعوام خمسين وسبعمائة، فكان له ولقومه فيها مكان. ولحق سويد وبنو يعقوب بالمغرب حتى جاءوا في مقدمة السلطان أبي عنان.
ولما هلك بنو عبد الواد وافترق جمعهم فرّ صغير إلى الصحراء على عادته، وأقام بالقفر يترقب الخوارج، ولحق به أكثر قومه من بني معرف بن سعيد فأجلب بهم على كل ناحية وخالف أولاد حسين بالمعقل على السلطان أبي عنان أعوام خمسة وخمسين وسبعمائة وما بعدها ونازلوا سجلماسة فكاثرهم وكان معهم، وأوقعت بهم عساكر بني مرين في بعض سني خلائهم وهم بنكور يمتارون فاكتسحوا عامة أموالهم وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا. ولم يزالوا كذلك شريدا في الصحراء، وسويد وبنو يعقوب بمكانهم من المجالات، وفي خطهم عند السلطان حتى هلك السلطان أبو عنان وجاء أبو حمو موسى بن يوسف أخو السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن لطلب ملك قومه بتلمسان، وكان مستقرّا بتونس منذ غلبهم أبو علي على أمرهم، فرحل مقير إلى وطن الزواودة، ونزل على يعقوب بن علي أزمان خلافه على السلطان أبي عنان، وداخله في استخلاص أبي حمو هذا من إيالة الموحدين للإجلاب على وطن تلمسان وبني مرين الذين به، فأرسلوا معه الآلة. ومضى به مقير وصولة بن يعقوب بن علي وزيان ابن عثمان بن سباع وشبل ابن أخيه ملوك بني عثمان. ومن بادية رياح دعار بن عيسى ابن رحاب بقومه من سعيد، وبلغوا معهم إلى تخوم بلادهم فرجع عنهم رياح إلا دعار بن عيسى وشبل بن ملّوك، ومضوا لوجههم. ولقيتهم جموع سويد، وكان الغلب لبني عامر. وقتل يومئذ شيخ سويد بن عيسى بن عريف وأسر أخوه أبو بكر.
ثم من عليه علي بن عمر بن إبراهيم وأطلقه. ولم يتصل الخبر بفاس إلا والناس منصرفون من جنازة السلطان أبي عنان. ثم أجلب أبو حمو بالمغرب على تلمسان فأخذها وغلب عساكر بني مرين عليها، واستوسق ملكه بها. ثم هلك مقير لسنتين أو نحوهما حمل نفسه في جولة فتنة في الحي يروم تسكينها على بعض الفرسان، فاعترضه سنان رمح على غير قصد فأنفذه وهلك لوقته. وولي رياستهم من بعده أخوه خالد بن عامر يرادفه عبد الله ابن أخيه مقير. وخلصت زغبة كلها للسلطان أبي حمو فأساء بني مرين لما كان بينهم من الفتنة واستخدمهم جميعا على مضاربهم وعوائدهم من سويد وبني يعقوب والد يالم والعطاف، حتى إذا كانت فتنة أبي زيان ابن السلطان أبي

(6/71)


سعيد عم أبي حمو كما نذكره في خبرهم جاش مرجل الفتنة من زغبة، واختلفوا على أبي حمو وتقبض على محمد بن عريف أمير سويد لاتهامه إياه بالادهان في أمره، فنزع أخوه أبو بكر وقومه إلى صاحب المغرب عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن سنة سبعين وسبعمائة وجاءوا في قومته واستولى على مواطنهم.
ولحق بنو عامر وأبو حمو بالصحراء، وطال ترددهم فيها وسعى عند أبي حمو في خالد من عمومته وأقاربه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، ومعرف هو أخو إبراهيم بن يعقوب، وكان عبد الله هذا بطانة للسلطان وعينا، فاستفسد بذلك قلب خالد وتغير ونبذ إليه عهده، ونزع عنه إلى السلطان عبد العزيز. وجاءت به عساكر بني مرين فأوقع بالسلطان أبي حمو ومن معه من العرب.
وهلك عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة فارتحل إلى المغرب هو وعبد الله ابن أخيه مقير، ولحقهم ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب. كان قومه بني يعقوب قتلوا أبناء محمد بن عريف فحدثت بينهم فتنة، ولحق ساسي هذا وقومه بالمغرب، وصحب خالدا يؤمل به الكرة، ويئسوا من صريخ بني مرين لما بينهم من الفتنة، فرجعوا إلى أوطانهم سنة سبع وسبعين وسبعمائة وأضرموا نار الفتنة، وخرجت إليهم عساكر السلطان أبي حمو مع ابنه أبي تاشفين، وزحف معه سويد والديالم والعطاف فأوقعوا بهم على وادي مينا قبلة القلعة.
وقتل عبد الله بن مقير وأخوه ملوك في قرابة لهم آخرين، وسار فلهم شريدا إلى الصحراء ولحقوا بالديالم والعطاف، واجتمعوا جميعا إلى سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة، وصاحب وطن تيجه [1] . وكان يتوجس لأبي حمو الخيفة فاتفقوا على الخلاف وبعثوا إلى الأمير أبي زيان بمكانه من وطن رياح فجاءهم وتابعوه، وأمكنه سالم من الجزائر. ثم هلك خالد في بعض تلك الأيام فافترق أمرهم، وولي علي بني عامر المسعود بن مقير، وزحف إليهم أبو حمو في سويد وأوليائه من بني عامر.
واستخدم سالم بن إبراهيم، وخرج أبو زيان إلى مكانه من وطن رياح، ولحق المسعود
__________
[1] هي متيجة: بفتح أوله، وكسر ثانية وتشديده ثم ياء مثناة من تحت ثم جيم: بلد في أواخر إفريقية من أعمال بني حماد، قال البكري: الطريق من أشير الى جزائر بني مزغناي ومن أشير الى المدية، وهي بلد جليل قديم، ومنها الى اقزرنة، وهي مدينة على نهر كبير عليه الأرحاء والبساتين ويقال إنها متيجة. (معجم البلدان) قبائل المغرب ص 9.

(6/72)


ابن عامر وقومه بالقفر. ولحق ساسي بن سليم بيعقوب بن علي وقومه من الزواودة.
ثم راجعوا جميعا خدمة السلطان وأوفدوا عليه فأمنهم، وقدموا عليه وأظهروا البر والرحب بالمسعود وساسي، وطوى لهم على السوء. ثم داخل بطانة من بني عامر وسويد في نكبتهم، فأجابوه ومكر بهم، وبعث ابنه أبا تاشفين لقبض الصدقات من قومهم حتى اجتمع له ما أراد من الجموع، فتقبض على المسعود وعشرة من إخوانه بني عامر بن إبراهيم. ونهض أبو تاشفين والعرب جميعا إلى أحياء بني يعقوب وكانوا بسيرات، وقد أرصد لهم سويد بوادي مينا فصبحهم بنو عامر بمكانهم واكتسحوهم. وصار فلهم إلى الصحراء، فاعترضهم أبو تاشفين ببني راشد فلم يبق لهم باقية، ونجا ساسي بن سليم إلى الصحراء في فل قليل من قومه، ونزل على النضر ابن عروة، واستبد برياسة بني عامر سليمان بن إبراهيم بن يعقوب عم مقير ورديفه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، وهو أقرب مكانا من السلطان وخلعه.
ثم بعث صاحب المغرب السلطان أبو العباس أحمد بن الولي أبا سالم بالشفاعة في المسعود وإخوانه بوسيلة من ونزمار بن عريف بعد أن كان مداخلا لأبي حمو ولإخوانه في نكبتهم، فأطلقهم أبو حمو بتلك الشفاعة، فعادوا إلى الخلاف، وخرجوا إلى الصحراء، واجتمع إليهم الكثير من أولاد إبراهيم بن يعقوب. واجتمع أيضا فل بني يعقوب من مطارحهم إلى شيخهم ساسي بن سليم ونزلوا جميعا مع عروة. وأوفد إخوانه على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية لهذا العهد منتدبا به وصريخا على عدوه فتلقاه من البر والإحسان ما يناسبه، وأفاض في وفده العطاء وصرفه بالوعد الجميل.
وشعر بذلك أبو حمو فبعث من عيونه من اغتاله ووفد بعدها على السلطان أبي العباس صاحب إفريقية علي بن عمر بن إبراهيم، وهو ابن عم خالد بن محمد وكبير النفر المخالفين من بني عامر على أبي حمو. ووفد معه سليمان بن شعيب بن عامر فوفدوا عليه بتونس يطلبون صريخه، فأجابهم ووعدهم وأحسب الإحسان والمبرة أمامهم، ورجعوا إلى قومهم. ثم راجع علي بن عمر خدمة أبي حمو وقدمه على بني عامر، وأدال به من سليمان بن إبراهيم بن عامر، فخرج سليمان إلى أهل بيته من ولد عامر بن إبراهيم الذين بالصحراء ونزلوا مع بني يعقوب بأحياء أبي بكر بن عريف، وهو على ذلك لهذا العهد. والله مقدر الليل والنهار أهـ
.

(6/73)


(عروة بن زغبة)
وأما عروة بن زغبة فهم بطنان: النضر بن عروة وخميس بن عروة. وبطون خميس ثلاثة: عبيد الله وفرغ ويقظان. من بطون فرغ بنو قائل أحلاف أولاد يحيى من المعمور القاطنين بجبل راشد. وبنو يقظان وعبيد الله أحلاف لسويد يظعنون لظعنهم ويقيمون لإقامتهم، ورياستهم لأولاد عابد من بطن راشد. وأمّا النضر بن عروة فمنتبذون بالقفر ينتجعون في رماله ويصعدون إلى أطراف التلول في إيالة الديالم والعطاف وحصين وتخوم أوطانهم، وليس لهم ملك ولا أقطاع لعجزهم عن دخول التلول بلغتهم وممانعة بطون زغبة الآخرين عنها إلّا ما تغلّبوا عليه في أذناب الوطن بجبل المستند مما يلي وطن رياح، يسكنه قوم من غمرة وزناتة استمرّ عليهم غلب العرب منذ سنين. فوضع النضر هؤلاء عليهم الإتاوة وأصاروهم خولا ورعية.
وربما نزل منهم مع هؤلاء البرابر من عجز عن الظعن في بيوتهم ولهم بطون مذكورة أولاد خليفة والخماننة وشريعة السحاوى [1] وذوي زيّان وأولاد سليمان، ورياستهم جميعا في أولاد خليفة بن النضر بن عروة، وهي لهذا العهد لمحمد بن زيّان بن عسكر ابن خليفة، ورديفه سمعون بن أبي يحيى بن خليفة بن عسكر، وأكثر السحارى موطنون بجبل المستند الّذي ذكرناه، ورياستهم في أولاد [2] وناجعة هؤلاء النضر أحلاف لزغبة دائما، فتارة للحرب وحصين جيرانهم في المواطن، وتارة لبني عامر في فتنتهم مع سويد، وندبتهم مع بني عامر فيما يزعمون بأبي قحافة وسمعت من مشايخهم أنه ليس بأب لهم، وإنما هو اسم واد كان به حلفهم قديما، وربّما يظاهرون سويدا على بني عامر، إلّا أنه في الأقل والندرة. وهم إلى حلف بني عامر أقرب وأسرع لما ذكرناه، وربّما ظاهروا رياحا بعض المرّات في فتنتهم لجوار الوطن، إلا أنه قليل أيضا وفي النادر. ويتناولون في الأكثر مع البادية من رياح مثل مسلم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: أولاد خليفة والحماقنة وشريفة والسحارى.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع إملاء الفراغ من المراجع التي بين أيدينا، ولكن في العبارة السابقة يذكر ابن خلدون ان رئاسة أولاد خليفة والخماننة وشريعة والسحارى في أولاد خليفة بن النضر بن عروة. (راجع قبائل المغرب ص 423) .

(6/75)


وسعيد، وربما وقعت بينهم حروب في القفر يصيب فيها بعض من دماء بعض، هذه بطون زغبة وما تأدّى إلينا من أخبارهم. وللَّه الخلق والأمر وهو رب العالمين
.

(6/76)


(الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة وأنسابهم وتصاريف أحوالهم)
هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان، وينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب، وهم ثلاثة بطون: ذوي عبيد الله وذوي منصور وذوي حسان. فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل وما يواجهها من القبلة. ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها الى سجلماسة [1] وعلى درعة وعلى ما يحاذيها من التل مثل تازي وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمقدر. ومواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط، وينزل شيوخهم بلاد نول [2] قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه، وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة [3] مستوفة ولمتونة.
وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال إنهم لم يبلغوا المائتين.
واعترضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيّزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت، وجاوروا زناتة في القفار والغربية فعفوا وكثروا وأنبتوا في صحارى المغرب الأقصى، فعمروا رماله وتغلبوا في فيافيه. وكانوا هناك أحلافا لزناتة سائر أيامهم. وبقي منهم بإفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سليم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان، واستئلاف العرب.
فلما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن. قام هؤلاء المعقل في القفار وتفردوا في البيداء فنموا نموا لا كفاء له، وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة
__________
[1] سجلماسة: مدينة تاريخية اندثرت الآن أسسها بنو مدرار في القرن الهجريّ الثاني وأصبحت عاصمة للخوارج الى ان فتحها قائد الفاطميين جوهر الصيقلي وتأسست بها الدولة الفاطمية في أواسط القرن الرابع الهجريّ واستمرت عمارة المدينة الى القرن العاشر (كتاب المغرب/ 126) - المعجم التاريخي/ 32 معجم البلدان، راجع القلقشندي «صبح الأعشى ج 2 ص 180) .
[2] نوال: مدينة في جنوبي بلاد المغرب. هي حاصرة لمطة فيها قبائل من البربر وهي في غربي تينزرمت.
[3] كدالة: ناحية في جبال إفريقية.

(6/77)


بالقفر مثل قصور السوس غربا، ثم توات ثم جودة [1] ثم تامنطيت. ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقا، وكل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار وأكثر سكانها من زناتة، وبينهم فتن وحروب على رياستها، فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم ووضعوا عليها الأتاوات والضرائب، وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكا. وكانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها حمل الرحيل. وكان لهم الخيار في تعيينها.
ولم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب وحلوله [2] حمى، ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد السودان بأذية ولا مكروه لما كان بالمغرب من اعتزاز الدين وسد الثغور وكثرة الحامية أيام الموحدين وزناتة بعدهم. وكان لهم بإزاء ذلك اقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى، وفيهم من مسلم سعيد بن رياح والعمور من الأثبج، وعددهم كما قلنا قليل. وإنما كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم فإن فيهم من فزارة من أشجع أحياء كبيرة، وفيهم الشظة من كرفة والمهاية من عياض، والشعراء من حصين والصباح من الأخضر ومن بني سليم وغيرهم.
(وأما أنسابهم عند الجمهور) فخفية ومجهولة، وسلافة العرب من هلال يعدونهم من بطون هلال وهو غير صحيح، وهم يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي طالب وليس ذلك أيضا بصحيح، لأن الطالبيين والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة. والصحيح والله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن، فإن فيهم بطنين يسمى كل واحد منهما بالمعقل، ذكرهما ابن الكلبي وغيره، فأحدهما من قضاعة بن مالك بن حمير وهو معقل بن كعب بن غليم بن خباب بن هبل بن عبد الله بن كنانة ابن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد بن اللات بن رفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. والآخر من بني الحرث بن كعب ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن
__________
[1] جوده: وادي في اليمن وليس هو المقصود وفي نسخة أخرى بودة ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان ولعلها بورة مدينة على ساحل بحر مصر قرب دمياط.
[2] وفي نسخة أخرى: تلولة.

(6/78)


غريب بن زير بن كهلان، وهو معقل واسمه ربيعة بن كعب بن كعب بن الحرث.
والأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر الّذي من مذحج، كان اسمه ربيعة، وقد عده الأخباريون في بطون هلال الداخلين إلى إفريقية، لأن مواطن بني الحرث بن كعب قريب من البحرين حيث كان هؤلاء العرب مع القرامطة قبل دخولهم إلى إفريقية. ويؤيده أن ابن سعيد لما ذكر مذحج وأنهم بجهات الجبال من اليمن، وذكر من بطونهم زبيد ومراد. ثم قال: وبإفريقية منهم فرقة وبرية ترتحل وتنزل، وهؤلاء الذين ذكر إنما هم المعقل الذين هم بإفريقية، وهم فرقة من هؤلاء الذين بالمغرب الأقصى.
(ومن إملاء نسابتهم) أن معقل جدهم له من الولد سحير ومحمد، فولد سحير [1] عبيد الله وثعلب، فمن عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم. ومن ثعلب الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر، وولد محمد: مختار ومنصور وجلال وسالم وعثمان. فولد مختار بن محمد: حسان وشبانه، فمن حسان ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الأقصى. ومن شبانة الشبانات جيرانهم هنالك. ومنهم بطنان: بنو ثابت وموطنهم تحت جبل السكسيوي من جبال أدرن وشيخهم لهذا العهد أو ما قبله يعيش بن طلحة.
والبطن الآخر آل علي، وموطنهم في برية هنكيسة تحت جبل كزولة، وشيخهم لهذا العهد أو ما قرب منه حريز بن علي. ومن جلال سالم وعثمان الرقيطات بادية لذوي حسان ينتجعون معهم. وولد منصور بن محمد حسن وأبو الحسين وعمران وشب [2] يقال لهم جميعا ذوي منصور، وهو أحد بطونهم الثلاثة المذكورة. والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.
__________
[1] وفي النسخة التونسية صقيل.
[2] وفي نسخة اخرى ونسبا.

(6/79)


(ذوى عبيد الله)
فأما ذوي عبيد الله فهم المجاورون لبني عامر بن زغبة من سلطان بني عبد الواد من زناتة، فمواطنهم من بين تلمسان إلى وحدة إلى مصب وادي ملوية في البحر ومنبعث وادي صا من القبلة. وتنتهي رحلتهم في القفار إلى قصور توات وتمنطيت، وربما عاجوا إلى ذات الشمال إلى تاسابيت وتوكرارين، وهذه كلها رقاب القفر إلى بلد السودان. وبينهم وبين بني عامر فتن وحروب موصولة. وكان لهم مع بني عبد الواد مثلها قبل السلطان والدولة، فما كانوا أحلافا لبني مرين. وكان المنبات من ذوي منصور أحلافا لبني عبد الواد فكان يغمراسن يوقع بهم أكثر أوقاته وينال منهم إلى أن

(6/80)


صحبوا بسبب الجوار، واعتزت عليهم الدولة فأعطوا الصدقة والطوائل وعسكروا مع.
السلطان في حروبه.
ولم يزل ذلك إلى أن لحق الدولة الهرم الّذي يلحق مثلها فوطنوا التلول، وتملكوا وجدة.
وندرومة وبني يزناسن ومديونة وبني سنوس إقطاعا من السلطان إلى ما كان لهم عليها قبل من الأتاوات والوضائع فصار معظم جبايتها لهم، وضربوا على بلد هنين بالساحل ضريبة الإجازة منها إلى تلمسان، فلا يسير ما بينهما مسافر أيام حلولهم بساحتها إلا بإجازتهم، وعلى ضريبة يؤديها إليهم. وهم بطنان الهراج والخراج، فالخراج من ولد فراج بن مطرف بن عبيد الله، ورياستهم في أولاد عبد الملك وفرج بن علي بن أبي الريش بن نهار بن عثمان بن خراج، لأولاد عيسى بن عبد الملك ويعقوب بن عبد الملك ويغمور بن عبد الملك.
وكان يعقوب بن يغمور شيخهم لعهد السلطان أبي الحسن، ولما تغلب على تلمسان استخدم له عبيد الله هؤلاء وكان يحيى بن العز من رجالة بني يزناسن أهل الجبل المطل على وجدة. وكان له قدم في خدمة الدول فاتصل بالسلطان أبي الحسن ورغبه في ملك قصور هذه الصحراء، فبعثه مع هؤلاء العرب في عسكر، ودخل معهم إلى الصحراء وملك تلك القصور واستولى عليها. وأسف عبيد الله بانتزاع أملاكهم وسوء المعاملة لهم، فوثبوا به وقتلوه في خبائه وانتهبوا عسكر السلطان الذين معه ونقضوا الطاعة. وفر يعقوب بن يغمور فلم يزل شريدا بالصحراء سائر أيامه، ورجع بعد ذلك.
ثم عادت دولة بني عبد الواد فصدوا في ولايتها، فلم يزل على ذلك، وخلفه ابنه طلحة، وكان أيام خلاف يعقوب وانتقاضه رأس على الخراج من أهل بيته منصور ابن يعقوب بن عبد الملك وابنه رحّو من بعده. وجاء أبو حمو فكان له في خدمته ومخالطته قدم، فقدمه شيخا عليهم. فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين رحو بن منصور ابن يعقوب بن عبد الملك وبين طلحة بن يعقوب المذكور آنفا، وربما نازعه. ولهم بطون كثيرة فمنهم الجعاونة من جعوان بن خراج، والغسل من غاسل بن خراج، والمطارفة من مطرف بن خراج، والمهايا من عثمان بن خراج، وفيهم رياستهم كما قلناه، ومعه الناجعة يسمون بالمهايا ينسبون تارة إلى المهايا بن عياض، وقدمنا ذكرهم. وتارة إلى مهايا بن مطرف، وأما الهراج فمن ولد الهراج بن مهدي بن محمد

(6/81)


ابن عبيد الله، ومواطنهم في ناحية المغرب عن الخراج فيجاورون بني منصور ولهم تاوربرت وما إليها. وخدمتهم في الغالب لبني مرين وأقطاعاتهم من أيديهم، ومواطنهم تحتهم، ورجوعهم إلى عبد الواد في الأقل، وفي بعض الأحايين ورياستهم في ولد يعقوب بن هبا بن هراج لأولاد مرين بن يعقوب، وأولاد مناد بن رزق الله ابن يعقوب، وأولاد فكرون بن محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب من ولد حريز بن يحيى الصغير بن موسى بن يوسف بن حريز، كان شيخا عليهم أيام السلطان عبد العزيز، وهلك عقبه، ورأس عليهم ابنه. ومن ولد مناد أبو يحيى الكبير بن مناد كان شيخا قبل أبي يحيى الصغير، وبالإضافة إليه وصف بالصغير. ومنهم أبو حميدة محمد بن عيسى بن مناد وهو لهذا العصر رديف لشيخهم من ولد أبي يحيى الصغير، وهو كثير التقلب في القفار والغزو للقاصية ولأهل الرمال والملثمين. والله مالك الملوك لا رب غيره ولا معبود سواه وهو نعم المولى ونعم النصير
.

(6/82)


(الثعالبة)
وأما الثعالبة إخوتهم من ولد ثعلب بن عليّ بن بكر بن صغير [1] أخي عبيد الله بن صغير، فموطنهم لهذا العهد بمتيجة من بسيط الجزائر، وكانوا قبلها بقطيري مواطن حصين لهذا العهد، نزلوها منذ عصور قديمة، وأقاموا بها حيا حلولا. ويظهر أن نزولهم لها حين كان ذوي عبيد الله في مواطن بني عامر لهذا العهد، وكان بنو عامر في مواطن بني سويد فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية فدخلوا من ناحية كزول وتدرّجوا في المواطن إلى ضواحي المدينة، ونزلوا جبل تيطري وهو جبل أشير الّذي كانت فيه المدينة الكبيرة. فلما تغلب بنو توجين على التلول وملكوا وانشريش زحف محمد بن عبد القوى إلى المدينة فملكها، وكانت بينهم وبينه حروب ومسلم إلى أن وفدت عليه مشيختهم، فتقبض عليهم وأغزى من وراءهم من بقية الثعالبة واستلحمهم واكتسح أموالهم.
وغلبهم بعدها على تيطري وأزاحهم عنها إلى متيجة، وأنزل قبائل حصين بتيطري وكانوا معه في عداد الرعايا يؤدون إليه المغارم والوظائف، ويأخذهم بالعسكرة معه ودخل الثعالبة هؤلاء في إيالة ملكيش [2] من صنهاجة ببسيط متيجة، وأوطنوا تحت ملكتهم. وكان لهم عليهم سلطان كما نذكره. حتى إذا غلب بنو مرين على المغرب الأوسط وأذهبوا ملك ملكيش منها، استبد الثعالبة هؤلاء بذلك البسيط وملكوه.
وكانت رياستهم في ولد سباع بن ثعلب بن علي بن مكر بن صغير. ويزعمون أن سباعا هذا كان إذا وفد على الموحدين يجعلون من فوق عمامته دينارا يزن عددا من الدنانير سابقة في تكرمته وترفيعه.
(وسمعت) من بعض مشيختنا أن ذلك لما كان من كرامته للإمام المهدي حين أجاز بهم فإنه مرّ بهم ساعيا فحملوه واستقرت الرئاسة في ولد سباع هذا في بني يعقوب بن سباع أولا، فكانت لهم مددا. ثم في عقب حنيش منهم. ثم غلب السلطان أبو
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ثعلب بن علي بن مكن صقيل أخي عبيد الله بن صقيل.
[2] وفي النسخة التونسية: مليكش.

(6/84)


الحسن على ممالك بني عبد الواد ونقلهم إلى المغرب، وصارت الولاية لهم لأبي الحملات بن عائد بن ثابت، وهو ابن عم حنيش وهلك في الطاعون الجارف أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولى عليهم أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولى عليهم إبراهيم بن نصر.
ولم تزل رياستهم إليه إلى أن هلك بعد استيلاء السلطان أبي عنان عن المغربين كما نذكره في أخباره وقام برياستهم ابنه سالم، وكانوا أهل مغارم ووضيعه لملكيش ومن بعدهم من ولاة الجزائر، حتى إذا هبت ريح العرب أيام خروج أبي زيان وحصين على أبي حمو أعوام ستين وسبعمائة كما ذكرناه. وكان شيخهم لذلك العهد سالم بن إبراهيم بن نصر بن حنيش بن أبي حميد بن ثابت بن محمد بن سباع، فأخب في تلك الفتنة وأوضع، وعاقد أبو حمو وانتقض عليه مرارا، وغلب بنو مرين على تلمسان فتحيز إليهم. وكانت رسله ووفده تقدموا إليهم بالمغرب.
ثم هلك السلطان عبد العزيز ورجع أبو حمو إلى ملكه، ونزلت الغوائل فخشيه سالم.
واستدعى أبا زيان ونصبه بالجزائر، وزحف إليه أبو حمو سنة تسع وسبعين [وسبعمائة] ففض جمعه وراجع سالم خدمته. وفارق أبا زيان كما نذكره في أخباره. ثم زحف إليه أبو حمو وحاصره بجبال متيجة أياما قلائل، واستنزله على عهده. ثم أخفره وتقبض عليه وقاده إلى تلمسان أسيرا وقتله قعصا بالرماح وذهب أثره وما كان له من الرئاسة التي لم تكن الثعالبة لها بأهل. ثم تتبع إخوانه وعشيرة وقبيله بالقتل والسبي والنهب إلى أن دثروا، والله يخلق ما يشاء
.

(6/85)


(ذوي منصور)
وأما أولاد منصور بن محمد فهم معظم هؤلاء المعقل، وجمهورهم ومواطنهم تخوم المغرب الأقصى من قبلته ما بين ملوية ودرعة. وبطونهم أربعة: أولاد حسين وأولاد أبي الحسين وهما شقيقان، والعمارنة أولاد عمران، والمنبات أولاد منبا وهما شقيقان أيضا. ويقال لهذين البطنين جميعا الأحلاف. فأما أولاد أبي الحسن فعجزوا عن الظعن ونزلوا قصورا اتخذوها بالقفر ما بين تافييلات وتيكورارين. وأما أولاد حسين فهم جمهور ذوي منصور، ولهم العزّة عليهم ورياستهم أيام بني مرين في أولاد خالد ابن جرمون بن جرار بن عرفة بن فارس بن علي بن فارس بن حسين بن منصور، كانت أيام السلطان أبي الحسن لعلي بن غانم. وهلك إثر كائنة طريف. وصارت لأخيه يحي، ثم لابنه عبد الواحد بن يحيى، ثم لأخيه زكريا، ثم لابن عمه أحمد ابن رحو بن غانم، ثم لأخيه يعيش، ثم لابن عمه يوسف بن علي بن غانم لهذا العهد.
وكانت لبني مرين فيهم وقائع أيام يعقوب بن عبد الحق وابنه يوسف، وسيأتي في أخبار بني مرين غزوة يوسف بن يعقوب من مراكش إليهم، وكيف أوقع بهم بصحراء درعة. ولما أقام بالشرق على تلمسان محاصرا لها أحلف هؤلاء العرب من المعقل على أطراف المغرب ما بين درعة وملوية إلى تاوريرت. وكان العامل يومئذ بدرعة عبد الوهاب بن صاعد من صنائع الدولة وكبار ولاتها، فكانت بينه وبينهم حروب قتل في بعضها. ثم هلك يوسف بن يعقوب ورجع بنو مرين إلى المغرب، فأخذوا منهم بالثأر حتى استقاموا على الطاعة. وكانوا يعطون الصدقة أطوع ما يكون إلى أن فشل ريح الدولة، واعتزّت العرب فصاروا يمنعون الصدقة إلا في الأقل يغلبهم السلطان على إعطائها.
ولما استولى السلطان أبو عنان على تلمسان أعوام خمسين وسبعمائة وفرّ صغير بن عامر إلى الصحراء ونزل عليهم واستجار بهم فأجاروه. ونزل السلطان عليهم ذلك فأجمعوا نقض طاعته وأقاموا معه بالصحراء وصغير متولي كبر ذلك الخلاف، حتى إذا هلك أبو عنان وكان من سلطان أبي حمو بتلمسان ما نحن ذاكروه، وزحف بنو مرين إلى

(6/87)


تلمسان ففرّ منها أبو حمو وصغير، ونزلوا عليهم فأوقعوا بعسكر بني مرين بنواحي تلمسان، واتسع الخرق بينهم وبين بني مرين فانحازوا إلى أبي حمو وسلطانه، وأقطعهم بضواحيه. ثم رجعوا إلى أوطانهم بعد مهلك السلطان أبي سالم أعوام ثلاث وستين [وسبعمائة] على حين اضطراب المغرب بفتنة أولاد السلطان أبي عليّ ونزولهم بسجلماسة، فكان لهم في ذلك الفتنة آثار إلى أن انقشعت.
ثم كان لأحمر بن رحو مع أبي حمو جولة وأجلب عليه بأبي زيان حافد أبي تاشفين فقتل في تلك الفتنة كما نذكره. ثم اعتدوا على الدولة من بعد ذلك وأكثر مغارم درعة لهذا العهد. وأقطع لهم ببلاد تادلا والمعرر [1] من تلك الثنايا التي منها دخولهم إلى المغرب للمربع والمصيف ولميرات الأقوات. وسجلماسة من مواطن إخوانهم الأحلاف كما نذكره، وليست من مواطنهم، فأما درعة فهي من بلاد القبلة موضوعة حفا في الوادي الأعظم المنحدر من جبل درن من فوهة يخرج منها وادي أم ربيع، ويتساهل إلى البسائط والتلول ووادي دريعة ينحدر إلى القبلة مغربا إلى أن يصب في الرمل ببلاد السوس، وعليه قصور درعة، وواد آخر كبير أيضا ينحدر إلى القبلة مشرقا بعض الشيء إلى أن يصب في الرمل دون تيكورارين وفي قبلتها.
وعليه من جهة المغرب قصور توات، ثم بعدها تمنطيت، ثم بعدها وركلان.
وعندها يصب في الرمل، وفي الشمال عن ركان قصور تسابيت. وفي الشمال عنها إلى الشرق قصور تيكورارين، والكل وراء عرب الرمل. وجبال درن هي الجبال العظيمة الجاثمة سياجا على المغرب الأقصى من آسفي إلى تازي، وفي قبلتها جبل نكيسة لصنهاجة، وآخره جبل ابن حميدي من طرف هسكورة. ثم ينعطف من هنالك جبال أخرى متوازية حتى تنتهي إلى ساحل بادس من البحر الرومي. وصار المغرب لذلك كالجزيرة أحاطت الجبال به من القبلة والشرق والبحر ومن المغرب والجوف. واعتمر هذه الجبال والبسائط التي بينها أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم، والمسالك بين هذه الجبال إلى المغرب منحصرة، ثم معدودة، وبإزاء القبائل المعتمرين لها كاظة. ومصب وادي درعة هذا إلى الصحراء والرمال ما بين سجلماسة وبلاد السوس، ويمتدّ إلى أن يصب في البحر ما بين نون ووادان، وحفافيه
__________
[1] وفي نسخة أخرى المعدن.

(6/88)


قصور لا تحصى، شجرتها النخل وقاعدتها بلد تادنست [1] بلد كبير يقصده التجر للسلم في النيلج، وانتظار خروجه بالصناعة. ولأولاد حسين هؤلاء استيلاء على هذا الوطن ومن بإزائه في فسيح جبلة من قبائل البربر صناكة وغيرهم. ولهم عليهم ضرائب وخفرات ووضائع. ولهم في مجابي السلطان أقطاعات ويجاورهم الشبانات من أولاد حسان من ناحية الغرب، فلهم بسبب ذلك على درعة بعض الأتاوات.
(وأما الأحلاف) من ذوي منصور وهم العمارنة والمنبات فمواطنهم مجاورة لأولاد حسين من ناحية الشرق. وفي مجالاتهم بالقفر تافيلات، وصحراؤها. وبالتل ملويّة وقصور وطاط وتازي وبطوية وغساسة، لهم على ذلك كله الأتاوات والوضائع، وفيها الأقطاعات السلطانية. وبينهم وبين أولاد حسين فتنة، ويجمعهم العصبية في فتنة من سواهم. ورياسة العمارنة في أولاد مظفر بن ثابت بن مخلف بن عمران، وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان طلحة بن مظفر وابنه الزبير. ولهذا العهد محمد بن الزبير وأخوه موسى، ويرادفهم في رياستهم أولاد عمارة بن قلان بن مخلف، فكان منهم محمد العائد. ومنهم لهذا العهد سليمان بن ناجي بن عمارة ينتجع في القفر ويكثر الغزو إلى اعتراض العير وقصور الصحراء.
ورياسة المنبات لهذا العهد لمحمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا، وكانت أيام السلطان أبي عنان لأخيه عليّ من قبله وترادفهم في رياستهم ابن عمهم عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا. والمنبات والعمارنة اليوم إذا اجتمعوا جميعا يكثر أولاد حسين. وكان للمنبات كثرة لأول دولة بني مرين. وكان خلفهم مع بني عبد الواد. وكان مقدمه يغمراسن بن زيان في افتتاح سجلماسة، وتملكها من أيدي الموحدين. ثم تغلب بنو مرين عليها وقتلوا من حاربها من مشيختهم مع بني عبد الواد، ثم أوقعوا بالمنبات من بعد ذلك في مجالاتهم بالقفر واستلحموهم، فنقص عددهم لذلك آخر الأيام، والله مالك الأمور لا رب سواه [2] .
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تيديسي.
[2] وفي بعض نسخ هذا الكتاب ورد هذا المقطع فرأينا اضافتها الى نسختنا هذه متوخين من ذلك كله افادة القارئ الكريم.
مواطن العثامنة تلي مواطن بني منصور من جانب الغرب، ويليهم أولاد سالم. وفي حيز مواطنهم درعة، ولهم عليها القفر. ويليهم أولاد جلال عند منتهى عمارة درعة مما يلي المغرب والقبلة. ويليهم غربا الى البحر الشبانات وهم أولاد عليّ وأولاد بو ثابت وأولاد حسّان وراءهم من ناحية القبلة والغرب، وينزلون مواطنهم بالغلب الّذي لهم عليهم.

(6/89)


(ذوي حسان عرب السوس)
وأمّا بنو مختار بن محمد فهم كما قدّمناه: ذوي حسان والشبانات والرقيطات. ومنهم أيضا الجياهنة وأولاد أبو رية [1] ، وكانت مواطنهم بنواحي ملوية إلى مصبه في البحر مع إخوانهم ذوي منصور وعبيد الله إلى أن استصرخهم علي بن يدر الزكندري صاحب السوس من بعد الموحدين. ونسبه ابن عمه في عرب الفتح. وكانت بينه وبين كزولة الظواعن ببسائط السوس. وجباله فتنة طويلة استصرخ لها بني مختار هؤلاء فصارخوه وارتحلوا إليه بظعونهم، وحمدوا مواطن السوس لعدم المزاحم من الظواعن فيها فأوطنوها. وصارت مجالاتهم بقفرها وغلبوا كزولة وأصاروهم في جملتهم ومن ظعونهم وغلبوا على القصور التي بتلك المواطن في سوس ونول. ووضعوا عليها الأتاوات مثل تارودانت من سوس، وهي ضفّة وادي سوس حيث يهبط من الجبل، وبين مصبه ومصب وادي ماسة حيث الرباط المشهور مرحلة إلى القبلة.
ومن هناك إلى زوايا أولاد بني نعمان مرحلة أخرى في القبلة على سائر البحر، وتواصت على وادي نول حيث يدفع من جبل نكيسة غربا، وبينها وبين إيفري مرحلة، والعرب لا يغلبونها وإنما يغلبون على البسائط في نواحيها. وكانت هذه المواطن لعهد الموحّدين من جملة ممالكهم وأوسع عمالاتهم. فلما انقرض أمر الموحدين حجبت عن ظل الدولة وخرجت عن إيالة السلطان إلا ما كان بها لبني يدر هؤلاء الذين قدّمنا ذكرهم. وكان علي بن يدر مالكا لقصورها، وكان له من الجند نحو ألف فارس، وولي من بعده عبد الرحمن بن الحسن بن يدر، وبعده أخوه علي بن الحسن.
وكان لعبد الرحمن معهم حروب وفتن بعد استظهاره بهم، وهزموه مرّات متتابعة أعوام خمس وسبعمائة وما بعده، وغدر هو بمشيختهم وقتلهم بتارودانت سنة ثمان وسبعمائة من بعد ذلك. وكان لبني مرين على هؤلاء المعقل السوس وقائع وأيام، وظهر يعقوب بن عبد الحق ببني مرين في بعضها الشبانات على بني حسان واستلحم منهم عددا، وحاصرهم يوسف بن يعقوب بعدها فأمسكوها وأغرمهم ثمانية عشر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أولاد برية

(6/91)


ألفا، وأثخن فيهم يوسف بن يعقوب ثانية سنة ست وثمانين وسبعمائة وحاربتهم جيوشه أيضا أياما لحق بهم بنو كمي من بني عبد الواد، وخالفوا على السلطان، فتردّدت إليهم العساكر واتصلت الحروب كما نذكر في أخباره.
(ولما استفحل) أمر زناتة بالمغرب وملك أبو علي ابن السلطان أبي سعيد سجلماسة واقتطعها عن ملك أبيه بصلح وقع على ذلك، انضوى إليه هؤلاء الأعراب أهل السوس من الشبانات وبني حسان، ورغبوه في ملك هذه القصور فأغزاها من تخوم وطنه بدرعة ودخل القرى عنوة. وفرّ عليّ بن الحسن وأمّه إلى جبال نكيسة عند صنهاجة ثم رجع. ثم غلب السلطان أبو الحسن واستولى على المغرب كلّه. ورغبه العرب في مثلها من قصور السوس، فبعث معهم عساكره، وقائده حسون بن إبراهيم بن عيسى من بني يرنيان فملكها، وجبى بلاد السوس وأقطع فيه للحرب، وساسهم في الجباية فاستقامت حاله مدّة.
ثم انقرض أمر السلطان أبي الحسن فانقرض ذلك، ورجع السوس إلى حاله وهو اليوم ضاح من ظل الدولة، والعرب يقتسمون جبايته، ورعاياه من قبائل المصامدة وصنهاجه قبائل الجباية. والظواعن منهم يقتسمونهم خولا للعسكرة مثل كزولة مع بني حسّان وزكرز ولخس من لمطة مع الشبانات، هذه حالهم لهذا العهد. ورياسة ذوي حسان في أولاد أبي الخليل بن عمر بن عفير بن حسن بن موسى بن حامد بن سعيد ابن حسان بن مختار لمخلوف بن أبي بكر بن سليمان بن الحسن بن زيان بن الخليل ولإخوانه. ولا أدري رياسة الشبانات لمن هي منهم، إلا أنهم حرب لبني حسان آخر الأيام والرقيطات في غالب أحوالهم أحلاف للشبانات، وهم أقرب إلى بلاد المصامدة وجبال درن وذوي حسان أبعد في القفر، والله تعالى يخلق ما يشاء لا إله إلا هو.

(6/92)


(الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة وتعديد بطونهم وذكر أنسابهم وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم
ونبدأ أولا بذكر بني كعب وأخبارهم. وأمّا بني سليم [1] هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعا، وكانت منازلهم بنجد. وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة ورياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم، وعمرو بن الشريد عظيم مضر، وأبناؤه: صخر ومعاوية، فصخر أبو الخنساء وزوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية. (ومن بطون سليم) عطية [2] ورعل وذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم. وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة، حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوّج فيهم. وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم وهم منتبذون بالقفر، ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر وبنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب.
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم. ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه، وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر. وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى إفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا، فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى إفريقية كما يذكر في الخبر عنهم.
وبإفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون. زغب وذياب وهبيب
__________
[1] كان بنو عقيل وبنو تغلب وبنو سليم يسكنون بالبحرين وكان أظهرهم في الكثرة والعز بنو تغلب، ثم اجتمع بنو تغلب وبنو عقيل على سليم حتى أخرجوهم من البحرين ودخلوا الى مصر فأقام بها بعض وسار البعض الآخر الى افريقيا من بلاد المغرب. (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) .
[2] وفي نسخة ثانية عصيّة.

(6/94)


وعوف [1] فاما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته: زغب بن نصر بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم. وقال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة: أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف. وزعم أنه أبو ذياب، وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بإفريقية. وقال أبو الحسن بن سعيد: هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم، كانوا بين الحرمين وهم الآن بإفريقية مع إخوانهم، ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فاللَّه أعلم بالصحيح من ذلك.
ونسب ابن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد، وسقط لابن سعيد جدّ وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي إفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية، أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى إفريقية. وأوّل ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها، وهم عديد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ لها عدد ولهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الّذي منه المرج. وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد، وهم بطون عديدة. وبين شماخ ولبيد فتن وحروب. وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة. شمال محارب والرئاسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة، وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خرّبوا مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم، وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر، ومعهم من رواحة وفزارة أمم، واشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب. ولا أدري نسبه فيمن هو وهم يقولون من العزة وقوم يقولون من بني أحمد، وقوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم والغلب لهيب، فكيف تكون الرئاسة لغيرهم؟
وأما عوف فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة، ولهم
__________
[1] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: زغب: بطن من بهته من سليم وكانت ديارهم بين الحرمين ثم انتقلوا الى المغرب، فسكنوا بإفريقية، جوار قومهم من بني ذباب. وذباب بطن من بهثة من سليم أرضهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب واما هيب من بهتة من سليم ومساكنهم من السدرة من برقه الى العقبة الكبيرة. ثم الصغيرة من حدود الاسكندرية. وبنو عوف من بهتة من سليم. قال الحمداني:
ومنهم في الصعيد والغيوم والبحيرة أناس كثيرة وفي برقه الى المغرب منهم ما لا يحصى، قال في العبر وديارهم في المغرب فيما بين قابس وبلد العناب من إفريقية وينقسمون الى مرداس وعلاف. واما بالنسبة لزغب فهو زغب بن مالك بن عوف بن امرئ القيس.

(6/95)


حرمان عظيمان بمرداس ولعلاق [1] بطنان بنو يحيى وحصن، وفي أشعار هؤلاء المتأخّرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره، أن يحيى وعلاقا أخوان ولبني يحيى ثلاثة بطون: حمير ودلاج، ولحمير بطنان: ترجم وكردم، ومن ترجم الكعوب [2] بنو كعب بن أحمد بن ترجم، ولحصن بطنان بنو علي وحكيم. ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا. وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه. وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربيّ وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحل، فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته.
ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزّي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم. كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم، وكان لهم معهم حروب، وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة، واستصرخوا برياح من بطون سليم، ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلّت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده. وكان رسوخ الدولة الحفصية بإفريقية. ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص، ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب إفريقية. وكان ابن غانية الزواودة من رياح، وشيخهم مسعود البلط، فر من المغرب ولحق به، فكان معه هو وبنوه، وبنو عرف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد. فلما استبدّ ابنه الأمير أبو زكريا بملك إفريقية رجعوا جميعا إليه والشفوف للزواودة. فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد، فجاء بمرداس وعلاق وهما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل وقابس واصطنعهم.
__________
[1] ذكرنا سابقا ان مرداس وعلاف من بني عوف. وعلاف بطن من سليم في الأصل ومساكنهم إفريقية من بلاد المغرب منهم أولاد أبي الليل أمراء العرب بإفريقية، قال في مسالك الابصار ولهم أعداء يعرفون بأولاد أبي طالب (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) .
[2] الكعوب: بطن من عوف بن بهتة من سليم ذكرهم في العبر ولم يرفع نسبهم وقال: مساكنهم ما بين قابس وبلد العناب من إفريقية مع قومهم بني عوف، قال: ورئيسهم عند دخولهم إفريقية رافع بن حماد ومن أعقابه بنو كعب أمراء العرب الآن بإفريقية (المرجع السابق) .

(6/96)


ورياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع، وبعده لابنه يوسف، وبعده هنان [1] بن جابر بن جامع، ورياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب.
وكانت رياسة علاق عند دخولهم إفريقية لعهد هذا المعز وبنيه لرافع بن حماد، وعنده راية جدّه التي حضر بها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جدّ بني كعب فيما يزعمون. فاستظهر بهم السلطان على شأنه، وأنزلهم بساح القيروان، وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد إفريقية. وكانت أبّة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزلوا به، فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك، فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم، وقتلوا رزق بن سلطان. واتصلت الفتنة. فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة وتأهبوا لها.
وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن إفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه. ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه. وملك بنو عوف سائر ضواحي إفريقية وتغلبوا عليه، واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء. ولم يقطع شيئا من البلاد. واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة، وتم تدبيره في غلب الزواودة ورياح في ضواحي إفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسنطينة، وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة، وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة، فذهب مغاضبا عنها. وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها، وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب إفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله وهي طويلة:
قدّوا المهامة بالمهرية القود ... واطووا فلاة بتصويب وتصعيد
ومنها قوله:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عنان وهو الصحيح. وهذا ربما تحريف من الناسخ

(6/97)


سلوا دمنة بين الغضا والسواجر ... هل استن فيها واكفات المواطر
فأجاب عن هذه عنان بقوله:
خليلي عوجا بين سلع وحاجر ... بهوج عنا جيج نواج ضوامر
يقيم عروة في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية. ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على إفريقية وآل أبي حفص، وهلك في سبيله وقبر بسلّا. ولم يزل حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك ابنه المستنصر من بعده، وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان. وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة، فسعى عند السلطان في مرداس، وكان أبو جامع مبلغا سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق، فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحظ من السلطان، وأخرجوهم عن إفريقية وصاروا إلى القفر، وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح. ويختصون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب وصائفهم بالتلول. فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد، ويخالطونهم على حلف، ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم، ولأنها في الكثير من أعراضهم.
وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها، فاصطفوا منه كثيرا وأصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا [1] واستقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح ودلاج، ومن بطون رياح حبيب وعلا شأنهم عند الدولة. واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور، واستقرّت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب، وهم بنو شيخة وبنو طاهر [2] وبنو علي. وكان التقدم لبني شيخة بن يعقوب، لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه، ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي. وكان بنو علي يرادفونهم في الرئاسة، وكان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي. وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه، وكانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها وثروة، وأقطع له السلطان
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وأصبح عمران قسطيلية لهم مرتافا.
[2] وفي نسخة ثانية: بنو شيحة وبنو طاعن. وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب رباح وليس رباح.

(6/98)


أربعا من القرى أصارها لولده. كان منها بناحية صفاقس وبإفريقية وبناحية الجريد.
وكان له من الولد سبعة، أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد، وثلاثة لأم وهم: بريد وبركات وعبد الغني. فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب، واتصل بالسلطان أبي إسحاق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره، وكان من شأنه ما قدّمنا.
وهلك أحمد واستقرت الرئاسة في ولده، وكان له من الولد جماعة، فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة: قاسم ومرا أبو الليل وأبو الفضل، ومن الحكمية قائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم، ومن السرية كليب وعساكر وجهد الملك [1] وعبد العزيز، ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده ابنه أبو الفضل. ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد، وغلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم، وتألفوا ولد إخوتهم جميعا.
وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد. ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة، ويئس الفضل بن يحيى المخلوع وأوقع بالسلطان أبي إسحاق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه. لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون إفريقية.
وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رياسته على قومه عند ما أدال الله به من الدعي، فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم.
وزاحم أولاد شيخة بمنكب قوي ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عند ما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على ملك عمه السلطان أبي حفص، فوفد عليه مستجيشا به ومرغبا له في ملك تونس، يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه، وقبر بجباية وانقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه واستبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب، ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة، فقدّم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة، فقدم على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة، وزاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة.
ولما هلك قام بأمرهم ابنه أحمد، واتصل أمر رياسته ونكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه، وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل وزاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره. ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه
__________
[1] وفي نسخة ثانية عبد الملك.

(6/99)


محمد بن أبي الليل، وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر. وكان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم: محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم، فترشحوا للاستبداد على قومهم ومجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرئاسة فيهم. ولم يزالوا على ذلك سائر أيامهم.
ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من أحيائه السابلة، وساء أثره في ذلك، وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله. وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة، فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه، ونكر الناس عليه وطأه بين الله بخف لم ينزعه. وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه، فقال: إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع؟ فاستعظم الناس كلمته وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم. وكان أمره مذكورا.
وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد. وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر، واستبد برياسة البدو من سليم بإفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأمثالهم وفحول سواهم. وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة، واستدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب، فجاءه وأجلب له على تونس. ونزل كدية الصعتر بظاهرها. وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن [1] فهزمهم، واستخدم أحمد بن أبي الليل.
ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك. ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان وسبعمائة فاعتقل معه، ولحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من إفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة، ومعه أبو علي بن كثير ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء. ورغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة. وجاءوا في صحبته، وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره.
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم. ونزع إلى السلطان أبي يحيى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: يرزيكن.

(6/100)


الطويل أمر الخلافة. ولي سبعا ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد إفريقية، فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره، وداهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه، وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى ابنه منصور وعلي ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل. وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد، وأحمد بن عبد الواحد أبو عبيد، وأبو هلال بن محمود بن فائد، وناجي بن أبي علي بن كثير ومحمد بن مسكين وأبو زيد بن عمر بن يعقوب، ومن هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وبعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتدّ حنقه، ولحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن، ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك. وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة، وزحفوا إلى إفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش. ولم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي، وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدّهم بعساكره. وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالا كما نذكره في مواضعه، حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده، ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به، فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأحله محل الأصفاء والخلوص. فشمر عن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ إفريقية، وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتؤثر مهادها. وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب، طعنه في بعض الحروب فأشواه، وكان فيها مهلكه. وقام بأمرهم من بعده ابنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة. ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة، واستبد برياسة بني كعب وسائر بني يحيى، وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدالة منه. وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه. وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس، وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم. ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد

(6/101)


وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان. ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان، ووفدت مشيختهم على ابنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على ابنه. وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون.
وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن.
(ولما هلك) السلطان أبو يحيى وقام بالأمر ابنه عمر، انحرفوا عنه وظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد وولي العهد، وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها، وقتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه، وقتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك.
ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من إفريقية، وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الإتاوة، وانتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة، فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له وساء ظنه بهم، وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم، ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم، فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته، كما نذكره في موضعه، فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش واستيلاؤه على المغرب، وهو أحمد بن عثمان بن إدريس، فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه.
وناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك، وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعا على حرب زناتة. ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان. ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملئوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم، وخضدوا من شوكة السلطان، وألانوا من حدّ الملك، وخفضوا من أمر زناتة، وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام. وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته، واستبد بالرياسة عليه أخوه خالد، ثم من بعده أخوهما منصور،

(6/102)


واعتز على السلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له.
وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية، وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا وصحراء وتلولا وجريدا. ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة. ويرميهم السلطان باقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها. ويحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمّة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف، وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة، بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة. فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربيّ، ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا، وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحاق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة.
وقام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى إفريقية ودخل تونس عنوة، واستولى على الحضرة سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بعدها، وأرهف حدّه للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم، فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة، ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدّهم الأكبر، كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في اخبار الدولة، وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين، فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء وراجع منصور حاله عند السلطان، وكشف عن وجه المناصحة. وكان عشيرته قد ملوا منه حسدا ومنافسة بسوء ملكته عليهم، فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه، وهلك ليومه سنة خمس وسبعين، وافترق جمعهم.
وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة، ويرادفه أولاد مولاهم بن عمر، فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته. ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف، واتصل حاله على ذلك ثلاثا، وأدال السلطان منه ومن قومه باقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم لمحمد بن طالب، فرجع إليهم رياسة البدو، وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب، وتحيز إليه معهم أولاد

(6/103)


مولاهم بن عمر بن أبي الليل، ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف، ونهض السلطان سنة ثمانين وسبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة، وحملهم على جادّة الطاعة، فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك، وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان [1] العرب الأعراب وذياب البدو، فغلبهم عليها جميعا، وأزاحهم عن ضواحيها، وظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء، وأصبحوا بين معتقل ومشرد. واستولى على قصورهم وذخائرهم، وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر، وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب، واعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له، فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم أيدي الاعتمار والمعاش وصلحت السابلة بعد الفساد، وانفتحت أبواب الرحمة على العباد.
وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز، ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر الّذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل، ولا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول. أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض، يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم مع أمثالهم، مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة، فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة. وأما أيام بني العباس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما. وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العباس. وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وإفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك. ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان [2] من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان، فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب، فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة، واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها. والله مالك الأمور.
__________
[1] وفي نسخة ثانية ذؤبان العرب.
[2] وفي نسخة التونسية: بمنجاة.

(6/104)


(الخبر عن قاسم بن مرا من الكعوب القائم بالسنة في سليم ومآل أمره وتصاريف أحواله)
كان هذا الرجل من الكعوب من أولاد أحمد بن كعب منهم، وهو قاسم بن مرا بن أحمد. نشأ بينهم ناسكا منتحلا للعبادة. ولقي بالقيروان شيخ الصلحاء بعصره أبا يوسف الدهماني وأخذ عنه ولزمه. ثم خرج إلى قومه مقتفيا طريقة شيخه في التزام الورع والأخذ بالسنة ما استطاع. ورأى ما العرب عليه من إفساد السابلة والخروج عن الجادة، فأخذ نفسه بتغيير المنكر فيهم وإقامة السنة لهم، ودعا إلى ذلك عشيرة من أولاد أحمد، وأن يقاتلوا معه على ذلك. فأشار عليه أولاد أبي الليل منهم وكانوا عيبة له تنصح له أن ينكف عن طلب ذلك من قومه، مخافة أن يلحوا في عداوته فيفسد أمره. ودفعوه إلى مطالبة غيرهم من سليم وسائر الناس بذلك، وأنهم منعة له ممن يرومه خاصة، فجمع إليه أوباشا من البادية تبعوه على شأنه والتزموا طريقته والمرابطة معه، وكأنه يسمون بالجنادة.
وبدا بالدعاء إلى إصلاح السابلة بالقيروان وما إليها من بلاد الساحل، وتتبع المحاربين بقتل من يعثر عليه منهم بالطرق، وغزو المشاهر منهم في بيوتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم حتى شردهم كل مشرد. وعلت بذلك كلمته على آل حصن وصلحت السابلة بإفريقية ما بين تونس والقيروان وبلاد الجريد وطار له ذكر نفسه عليه قومه، وأجمع عداوته واغتياله بنو مهلهل قاسم بن أحمد، وتنصحوا ببعض ذلك للسلطان بتونس الأمير أبي حفص وأن دعوة هذا الرجل قادحة في أمر الجماعة والدولة، فأغضى لهم عن ذلك، وتركهم وشأنهم، فخرجوا من عنده مجمعين قتله، ودعوه في بعض أيامهم إلى المشاورة في شئونهم معه على عادة العرب، ووقفوا معه بساحة حيهم، ثم خلصوا معه نجيا، وطعنه من خلفه محمد بن مهلهل الملقب بأبي عذبتين فخر صريعا لليدين والفم. وامتعض له أولاد أبي الليل وطلبوا بدمه فافترقت أحياء بني كعب من يومئذ بعد أن كانت جميعا. وقام بأمره من بعده ابنه رافع على مثل طريقته إلى أن هلك في طلب الأمر على يد بعض رجالات آل حصن سنة ست وسبعمائة.

(6/106)


ولم يزل بنو أبي الليل على الطلب بثأر قاسم بن مرا إلى أن ظهر فيهم حمزة ومولاهم ابنا عمر بن أبي الليل، وصارت إليهم الرئاسة على أحيائهم. واتفق في بعض الأيام اجتماع أولاد مهلهل بن قاسم في سيدي حمزة، ومولاهم في مشاتيهم بالقفر، فأجمع اغتيالهم وقتلهم عن آخرهم بثأر ابن عمهم قاسم بن مرا، ولم يفلت منهم إلا طالب بن مهلهل لم يحضر معهم. وعظمت الفتنة من يومئذ بين هذين الحيين وانقسمت عليهم أحياء بني سليم وصاروا يتعاقبون في الخلاف والطاعة على الدولة، وهم على ذلك لهذا العهد، والرئاسة في بني مهلهل اليوم لمحمد بن طالب بن مهلهل وأخيه يحيى، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(بنو حصن بن علاق)
بنو حصن هؤلاء من بطون علاق [1] وحصن أخو يحيى بن علاق كما مر، فهم بطنان أيضا: بنو عليّ وحكيم. وقد يقال إن حكيما ليس لحصن، وإنما ربي في حجره فانتمى إليه. وأما حكيم فلهم بطون منهم بنو ظريف بن حكيم وهم أولاد عائر [2] ، والشراعبة ونعير وجرين لقدام بن ظريف وزياد بن ظريف. ومنهم بنو وائل بن حكيم ومنهم بنو طرود بن حكيم. وقد يقال إن طرودا ليس لسليم. وأنهم من منبس إحدى بطون هلال بن عامر، ويقال إن منهم زيد العجاج بن فاضل المذكور في رجالات هلال، والصحيح في طرود أنهم من بني فهم بن عمر بن قيس بن عيلان ابن عمدوان وفي تعدادهم، وكانت طرود أحلاف الدلاج، ثم قاطعوهم وحالفوا آل ملاعب.
ومن بطون حكيم آل حسين ونوال ومقعد والجمعيات، ولا أدري كيف يتصل نسبهم. ومنهم بنو نمير بن حكيم، ولنمير بطنان: ملاعب وأحمد، فمن أحمد بنو محمد والبطين ومن ملاعب بنو هيكل بن ملاعب. وهم أولاد زمام والفزيات [3] وأولاد مياس وأولاد فائد. ومن أولاد فائد الصرح والمدافعة. وأولاد يعقوب بن
__________
[1] علاف: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب وقد مرّ معنا من قبل في مكان سابق.
[2] وفي نسخة ثانية: أولاد جابر.
[3] وفي النسخة الباريسية الغرنات.

(6/107)


عبد الله بن كثير بن حرقوص بن فائد، وإليهم رياسة حكيم وسائر بطونهم ومواطن حكيم هؤلاء لهذا العهد ما بين سوسة والأجم. والناجعة منهم أحلاف لبني كعب، تارة لأولاد أبي الليل وتارة لإقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم في بني يعقوب بن عبد السلام بن يعقوب شيخا عليهم، وانتقض أيام اللحياني.
ووفد على السلطان أبي يحيى بالثغر الغربي من إفريقية في بجاية وقسنطينة وجاء في حملته، فلما ملك ملك تونس، عقد له على قومه ورفعه على أنظاره. وغص به بنو كعب فحرّض عليه حمزة من الأعشاش محمد بن حامد بن يزيد فقتله في موقف شوارهم، وولي الرئاسة فيهم من بعده ابن عمه محمد بن مسكين بن عامر بن يعقوب ابن القوس وانتهت إليه رياستهم. وكان يرادفه أو ينازعه جماعة من بني عمه، فمنهم سحيم بن سليمان بن يعقوب، وحضر واقعة طريف مع السلطان أبي الحسن، وكان له فيها ذكر، ومنهم أبو الهول وأبو القاسم ابنا يعقوب بن عبد السلام، وكان لأبي الهول مناصحة للسلطان أبي الحسن حين أحلف عليه بنو سليم بالقيروان وأدخله مع أولاد مهلهل في الخروج على القيروان، فخرج معهم جميعا إلى سوسة.
ومنهم بنو يزيد بن عمر بن يعقوب وابنه خليفة. ولم يزل محمد بن مسكين على رياسته أيام السلطان أبي يحيى كلها وكان مخالطا له، ومتهالكا في نصيحته والانحياش إليه.
ولما هلك خلفه في رياسته ابن أخيه خليفة بن عبد الله بن مسكين وهو أحد الأشياخ الذين تقبض عليهم السلطان أبو الحسن بتونس بدعاء [1] واقعة القيروان. ثم أطلقه وهو محصور بالقيروان فكان له به اختصاص من بعد ذلك. ولما تغلب العرب على النواحي بعد واقعة القيروان تغلب بنو مسكين هؤلاء على سوسة، فأقطعها السلطان خليفة هذا وبقيت في ملكته. وهلك خليفة فقام برياستهم في حكيم ابن عمه عامر ابن محمد بن مسكين. ثم قتله محمد بن بثينة بن حامد من بني كعب قتله يعقوب بن عبد السلام، ثم قتله محمد هذا غدرا بجهاد الجريد سنة خمس وخمسين وسبعمائة.
ثم افترق أمرهم واستقرّت رياستهم لهذا العهد بين أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين، وتلقب أبا معنونة وهو ابن أخي خليفة المذكور. وعبد الله بن محمد بن يعقوب وهو ابن أخي أبي الهول المذكور، ولما تغلّب السلطان أبو العبّاس على تونس
__________
[1] وفي نسخة ثانية بين يدي.

(6/108)


وملكها، انتزع سوس من أيديهم، فامتعض أحمد لذلك، وصار إلى ولاية صولة ابن خالد بن حمزة من أولاد أبي الليل وسلكوا سبيل الخلاف والفتنة، وأبعدوا في شأوها. وهم لهذا العهد مشردون عن الضواحي والأرياف منزاحون إلى القفر.
وأما عبد الله بن محمد ويلقب الراوي فتحيز إلى السلطان، وأكد حلفه مع أولاد مهلهل على ولايته ومظاهرته، فعظمت رياسته في قومه وهو على ذلك لهذا العهد. ثم راجع أبو معنونة خدمة السلطان وانقسمت رياسة حكيم بينهما، وهم على ذلك لهذا العهد. واما بنو علي إخوة حكيم فلهم بطون أولاد صورة ويجمعهما معا عوف بن محمد ابن علي بن حصن. ثم أولاد نمي والبدرانة، وأولاد أم أحمد والحضرة أو الرجلان، وهو مقعد والجمعيات والحمر والمسابهة آل حسين وحجري، وقد يقال أن حجري ليسوا لسليم وأنهم من بطون كندة صاروا معهم بالحلف، فانتسبوا بنسبهم ورياسة بني علي في أولاد صورة. وشيخهم لهذا العهد أبو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة بن شبل بن صورة بن مرعي بن حسن بن عوف. ويرادفهم المراعية من أهل نسبهم أولاد مرعي بن حسن بن عوف، ومواطنهم ما بين الأجم والمباركة من نواحي قابس، وناجعتهم أحلاف الكعوب. أما لأولاد أبي الليل أولا ولاد مهلهل، وغالب أحوالهم أولاد مهلهل، والله مقدّر الأمور لا ربّ سواه
.

(6/109)


(ذباب بن سليم)
قد ذكرنا الخلاف في نسبهم من أنهم من ذباب بن ربيعة بن زعب الأكبر وأن ربيعة أخو زعب الأصغر. وضبط هذه اللفظة لهذا العهد بضم الزاي وقد ضبطها الأجل أبي والرشاطي بكسر الزاي. كذا نقل أبو محمد التجاني في رحلته، ومواطنهم ما بين قابس وطرابلس إلى برقة ولهم بطون فمنهم أولاد أحمد بن ذباب ومواطنهم غربي قابس وطرابلس إلى برقة. عيون رجال مجاورون لحصن، ومن عيون رجال بلاد زغب من بطون ذباب بنو يزيد مشاركون لأولاد أحمد في هذه المواطن، وليس هذا أبا لهم، ولا اسم رجل، وإنما هو اسم حلفهم انتسبوا به إلى مدلول الزيادة. كذا قال التجاني وهم بطون أربعة: الصهب بسكون الهاء بنو صهب بن جابر بن فائد بن رافع ابن ذباب، وإخوتهم الحمادية بنو حمدان بن جابر، والخرجة بسكون الراء بطن من آل سليمان منهم. أخرجهم آل سليمان من مواطنهم بمسلالة فحالفوا هؤلاء ونزلوا معهم. والأصابعة نسبة إلى رجل ذي إصبع زائدة. ولم يذكر التجاني في أي بطن من ذباب ينتسبون. ومنهم النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر وإخوتهم أولاد سنان بن عامر، وإخوتهم أولاد وشاح بن عامر، وفيهم رياسة هذا القبيل من ذباب كلهم، وهم بطنان عظيمان: المحاميد [1] بنو محمود بن طوب بن بقية بن وشاح ومواطنهم ما بين قابس ونفوسة وما إلى ذلك من الضواحي والجبال. ورياستهم لهذا العهد في بني رحاب بن محمود لأولاد سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب. والبطن الآخر الجواري [2] بنو حميد بن جارية بن وشاح، ومواطنهم طرابلس وما إليها مثل تاجورا وهزاعة وزنزور وما إليها من ذلك لهذا العهد. ورياستهم لهذا العهد في بني مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم. ومن أولاد وشاح بطنان آخران صغيران مندرجان مع الجواري والمحاميد وهما الجواربة بنو جراب بن وشاح، والعمور بنو عمر بن وشاح
__________
[1] المحاميد: بطن من ذباب من بهته من سليم منازلهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب.
[2] الجواري: بطن من ذباب من بهته من سليم قال في العبر وهم رؤساء ذباب الآن ومنازلهم فيما بين طرابلس الغرب وقابس (المرجع السابق) .

(6/111)


هكذا زعم التجاني في العمور هؤلاء. وفي هلال بن عامر بطن العمور كما ذكرناه.
وهم يزعمون أن عمور ذباب هؤلاء منهم، وأنهم إنما جمعهم مع ذباب الموطن خاصة وليسوا من سليم والله أعلم بحقيقة ذلك.
وكان من أولاد وشاح بنو حريز بن تميم بن عمر بن وشاح كان منهم فائد بن حريز من فرسان العرب المشاهير وله شعر متداول بينهم لهذا العهد سمر الحيّ وفكاهة المجالس، ويقال إنه من المحاميد، فائد بن حريز بن حربي بن محمود بن طوب. وكان بنو ذباب هؤلاء شيعة لقراقش الغزي وابن غانية، ولهما فيه أثر. وقتل قراقش مشيخة الجواري في بعض أيامه. ثم صاروا بعد مهلك ابن غانية إلى خدمة الأمير أبي زكريا وأهل بيته من بعده، وهم الذين أقاموا أمر الداعي بن أبي عمارة وعليهم كان تلبسه لأن يصير أميرا بدل المخلوع، وكان فرّ إليهم بعد مهلك مولاه وبنيه، ونزل عليهم حتى إذا مرّ بهم ابن أبي عمارة فعرّفه الخبر، فاتفقوا على التلبيس وزينوا ذلك لهؤلاء العرب فقبلوه. وتولى كبر ذلك مرغم بن صابر وتبعه قومه، وداخلهم في الأمر أبو مروان عبد الملك بن مكي رئيس قابس، فكان من قدر الله ما كان من تمام أمره وتلويث كرسي الخلافة بدمه حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية.
وكان السلطان أبو حفص يعتمد عليهم فغلبهم في دعوة عمارة، فخالفوا عليه، وسرّح لحربهم قائده أبا عبد الله الفزاري، واستصرخوا بالأمير أبي زكريا ابن أخيه، وهو يومئذ صاحب بجاية والثغر الغربي من إفريقية. ووفد عليه منهم عبد الملك بن رحاب ابن محمود فنهض لصريخه سنة سبع وثمانين وستمائة، وحاربوا أهل قابس وهزموهم وأثخنوا فيهم. ثم غلبهم الفزاري ومانعهم عن وطن إفريقية. ورجع الأمير أبو زكريا إلى ثغره. وكان مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري قد أسره أهل صقلّيّة من سواحل طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة وباعوه لأهل برشلونة، فاشتراه ملكهم وبقي أسيرا عندهم إلى أن زعم إليه عثمان بن إدريس الملقب بأبي دبوس بقية الخلفاء من بني عبد المؤمن، وأراد الإجازة إلى إفريقية لطلب حقه في الدعوة الموحدية، فعقد ملك برشلونة بينه وبين مرغم حلفا وبعثهما، ونزل بساحل طرابلس.
وأقام مرغم الدعوة لأبي دبوس وحمل عليها قومه، وحاصر طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة أياما ثم تركوا عسكرا لحصارها، وارتحلوا لجباية الوطن فاستفرغوه، وكان ذلك غاية أمرهم، وبقي أبو دبوس يتقلب في أوطانهم مدة، واستدعاه الكعوب

(6/112)


لأول المائة الثامنة وأجلبوا به على تونس أيام السلطان أبي عصيدة من الحفصيين وحاصروها أياما فلم يظفروا. ورجع إلى نواحي طرابلس وقام بها مدة. ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها إلى أن هلك كما يأتي ذكره في خبر ابنه مع السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولم يزل هذا شأن الجواري والمحاميد إلى أن تقلص ظل الدولة عن أوطان قابس وطرابلس فاستبد برياسة ضواحيها. واستعبدوا سائر الرعاية المعتمرة في جبالها وبسائطها، واستبد أهل الأمصار برياسة أمصارهم بنو مكي بقابس وبنو ثابت بطرابلس على ما يذكر في أخبارهم.
وانقسمت رياسة أولاد وشاح بانقسام المصرين، فتولى الجواري طرابلس وضواحيها، وزنزور وغريان ومغر، وتولى المحاميد بلد قابس وبلاد نفوسة وحرب.
وفي ذباب هؤلاء بطون أخرى ناجعة في القفر، ومواطنهم منزاحة إلى جانب الشرق عن مواطن هؤلاء الوشاحين. فمنهم آل سليمان بن هبيب بن رابع بن ذباب، ومواطنهم قبلة مغر، وغريان ورياستهم في ولد نصر بن زائد بن سليمان، وهي لهذا العهد لهائل بن حماد بن نصر، وبينه وبين البطن الآخر إلى سالم بن وهب أخي سليمان. ومواطنهم بلد مسراتة إلى لبدة ومسلاتة. وشعوب آل سالم هؤلاء الأحامد والعمائم والعلاونة وأولاد مرزوق، ورياستهم في أولاد ولد مرزوق، وهو ابن معلّى بن معراق بن قلينة بن قماص بن سالم [1] وكانت في أوّل هذه المائة الثامنة لغلبون بن مرزوق، واستقرّت في بنيه، وهي اليوم لحميد بن سنان بن عثمان بن غلبون.
والعلاونة منهم مجاورون للعنة من عرب برقة والمشابنة من هوارة المقيمين.
وتجاذب ذباب هؤلاء في مواطنهم من جهة القبلة ناصرة، وهم من بطون ناصرة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهتة بن سليم، فإن كان زعب أبو ذباب لملك بن خفاف كما زعم التجاني فهم إخوة ناصرة، ويبعد أن يسمى قوم باسم إخوانهم، وإن كانوا الناصرة كما زعم ابن الكلبي وهو أقرب، فيكون هؤلاء اختصوا باسم ناصرة دون ذباب وغيرهم من بنيه. وهذا كثير من بطون القبائل والله أعلم. ومواطنهم بلاد فزان وودان. هذه أخبار ذباب هؤلاء.
وأما العزة جيرانهم في الشرق الذين قدّمنا ذكرهم فيهم موطنون من أرض برقة خلاء
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابن معلّى بن معراني بن قلينه بن قاص بن سالم.

(6/113)


لاستيلاء الخراب على أمصارها وقرارها من دولة صنهاجة، تمرنت بمرانها [1] بادية العرب وناجعتهم، فتحيّفوها غارة ونهبا إلى أن فسدت فيها مذاهب المعاش، وانتقض العمران، فخربت وصار معاش الأكثر من هؤلاء العرب الموطنين بها لهذا العهد من الفلح يثيرون له الأرض بالعوامل من الجمال والحمير، وبالنساء إذا ضاق كسبهم عن العوامل وارتكبوا ضرورة المعاش.
وينجعون إلى بلاد النخل في جهة القبلة منهم من أوجلة وشنترية والواحات وما وراء ذلك من الرمال والقفر إلى بلد السودان المجاورين لهم، وتسمّى بلادهم برنق، وشيخ هؤلاء العرب ببرقة يعرف لهذا العهد بأبي ذئب من بني جعفر. وركاب الحج من المغرب يحمدون مساطتهم في مرّهم وحسن نيتهم في التجافي عن جامع بيت الله، وارفادهم بجلب الأقوات لسربهم وحسن الظن بهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، وأما نسبهم فما أدري فيمن هو من العرب؟ وحدّثني الثقة من ذباب عن خريص ابن شيخهم أبي ذباب أنهم من بقايا الكعوب ببرقة. وتزعم نسابة الهلاليين أنهم لربيعة ابن عامر إخوة هلال بن عامر. وقد مرّ الكلام في ذلك في أول ذكر بني سليم، ويزعم بعض النسابة أنهم والكعوب من العزة، وأن العزة من هيث، وأن رياسة العزة لأولاد أحمد وشيخهم أبو ذئب وان المسانية [2] جيرانهم من هوارة. وذكر لي سلام بن التركية شيخ أولاد مقدم جيرتهم بالعقبة أنهم من بطون مسراتة من بقية هوارة، وهو الّذي رأيت النسابة المحققين عليه بعد أن دخلت مصر ولقيت كثيرا من المترددين إليها من أهل برقة. وهذه آخر الطبقة الرابعة من العرب، وبانقضائه انقضى الكتاب الثاني في العرب وأجيالهم منذ بدء الخليقة، فلنرجع إلى أحوال البربر في الكتاب الثالث والله ولي العون أهـ.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تمرست بعمرانها.
[2] وفي نسخة ثانية: المثانية، وفي النسخة التونسية المثاينة.

(6/114)