تاريخ ابن خلدون
والحرون وخراج، وعلوي والجناح، والأحوى
ومجاح، والعصا والنّعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وخوصاء
والعرادة [1] ، فكم بين الشّاهد والغائب، والفروش والرّغائب [2] ، وفرق
ما بين الأثر والعيان، غنيّ عن البيان، وشتّان بين الصّريح والمشتبه،
وللَّه درّ القائل:
«خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به [3] »
والنّاسخ [4] يختلف به الحكم، وشرّ الدواب عند التفضيل بين هذه
الدّوابّ الصّمّ البكم [5] إلّا ما ركبه نبيّ، أو كان له يوم الافتخار
وبرهان خفي [6] ومفضّل ما سمع على ما رأى غبيّ، فلو أنصفت محاسنها التي
وصفت، لأقضمت [7] حبّ القلوب علفا، وأوردت ماء الشّبيبة نطفا [8] ،
واتخذت لها من عذر [9] الخدود الملاح عذر موشيّة [10] ، وعلّلت بصفير
الحان القيان كلّ عشيّة، وأنعلت بالأهلّة، وغطيت بالرياض بدل الأجلّة
[11] .
إلى الرقيق [12] ، الخليق بالحسن الحقيق، يسوقه إلى مثوى الرعاية روقة
[13] الفتيان رعاته، ويهدي عقيقها من سبحه [14] أشكالا تشهد للمخترع
سبحانه بإحكام مخترعاته، وقفت ناظر الاستحسان لا يريم [15] ، لما بهره
منظرها الوسيم، وتخامل
__________
[1] العرادة وما قبلها: أسماء أفراس لرجال مشهورين من رؤساء قبائل
العرب القدامى.
[2] الرغائب: جمع رغيبة، وهي الأمر المرغوب فيه. تاج (رغب) .
[3] صدر بيت للمتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وعجزة عن شرح
العكبريّ 2/ 68 طبع الشرفية:
«.......... ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل» .
[4] النسخ في مصطلح أهل أصول الفقه: إنهاء حكم شرعي ثبت بنص شرعي،
وإحلال حكم آخر بدله بنص شرعي جاء دليلا على انتهاء الحكم الأول
والناسخ: هو النص الأخير الّذي بمقتضاه يرتفع الحكم الأول، ويلغي النص
السابق.
[5] الإشارة الى الآية 22 من سورة الأنفال.
[6] خفي: خاف، مستور.
[7] القضم: أكل القضيم، وهو شعير الدابة، وأقضم الدابة: قدم لها
القضيم.
[8] النطفة: الماء الصافي، والجمع نطف.
[9] العذار: خط لحية الغلام، والجمع عذر.
[10] العذار من اللجام: السيران اللذان يجتمعان عند قفا الفرس، والجمع
عذر.
[11] جل الدابة: ما تغطى به، والجمع جلال، وجمع جلال: أجلة.
[12] الرقيق: الضعيف لا صبر له على شدة البرد، ونحوه.
[13] الروقة من الغلمان الملاح منهم، يقال غلمان روقة: أي حسان،
والمفرد رائق.
[14] السبج: خرز أسود.
[15] لا يريم: لا يبرح.
(7/604)
الظّليم [1] ، وتضاؤل الريّم [2] وأخرس
مفوّه [3] اللسان، وهو بملكات البيان، الحفيظ العليم، وناب لسان الحال،
عن لسان المقال، عند الاعتقال [4] ، فقال يخاطب المقام الّذي أطلعت
أزهارها غمائم جوده، واقتضت اختيارها بركات وجوده: لو علمنا أيّها
الملك الأصيل، الّذي كرم منه الاجمال والتفصيل، أنّ الثناء يوازيها،
لكلنا لك بكيلك، أو الشّكر يعادلها ويجازيها، لتعرّضنا بالوشل [5] إلى
نيل نيلك [6] ، أو قلنا هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر
بقوله:
«أدرك بخيلك» ، حين شرق بدمعه الشّرق [7] ، وانهزم الجمع واستولى
الفرق، واتسع فيه- والحكم للَّه- الخرق [8] ورأى أن مقام التّوحيد
بالمظاهرة على التّثليث، وحزبه الخبيث، الأولى والأحق.
والآن قد أغنى الله بتلك النيّة، عن اتخاذ الطوال الردينيّة [9] ،
وبالدّعاء من تلك المثابة الدينيّة إلى ربّ المنيّة [10] ، وعن الجرد
العربيّة، في مقاود اللّيوث الأبية، وجدّد برسم هذه الهديّة، مراسيم
العهود الوديّة، والذّمم الموحّديّة، لتكون علامة على الأصل، ومكذّبة
لدعوى الوقف والفصل، وإشعارا بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل،
ولأمها حراما على النّصل [11] .
وحضر بين يدينا رسولكم، فقرّر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علوّ
مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم، وأجبناه عنه بجهد
[12] ما كنّا
__________
[1] الظليم: ذكر النعام، وفرس فضالة بن شريك الأسدي.
[2] الريم: الظبي الخالص البياض.
[3] رجل مفوه: يجيد القول.
[4] اعتقل لسانه: حبس، ولم يقدر على الكلام.
[5] الوشل: الماء القليل.
[6] النيل: نهر مصر. والنيل (بالفتح) : العطاء.
[7] يريد شرق الأندلس.
[8] يشير الى المثل: «اتسع الخرق على الرافع» الّذي يقال عند استفحال
الأمر، والعجز عن إصلاحه. تاج (خرق) .
[9] الردينية: منسوبة إلى ردينة، وهي امرأة السمهري، وكانا يقومان
الرماح والقنا بخط هجر، فيقال:
الرماح الردينية، والحطية، نسبة الى الشخص تارة، وإلى الموضع أخرى.
[10] البنية: الكعبة، وكانت تسمى بنية إبراهيم، وكثر قسمهم بها
فيقولون: «لا ورب هذه البنية» .
[11] اللام: جمع لأمة، وهي الدرع. والنصل: حديدة السهم والرمح. اللسان
(نصل) .
[12] الجهد (بالفتح) المشقة.
(7/605)
لنقنع من جناه [1] المهتصر [2] ، بالمقتضب
المختصر، ولا لنقابل طول طوله [3] بالقصر، لولا طروّ الحصر [4] .
وقد كان بين الأسلاف- رحمة الله عليهم ورضوانه- ودّ أبرمت من أجل الله
معاقده [5] ، ووثرت للخلوص [6] ، الجليّ النّصوص، مضاجعه القارّة
ومراقده، وتعاهد بالجميل يوجع لفقده فاقده، أبى الله إلا أن يكون لكم
الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده، فنحن الآن لا ندري أيّ مكارمكم نذكر،
أو أيّ فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا فتح،
أم هديّتكم، وفي وصفها للأقلام سبح [7] ، ولعدوّ الإسلام بحكمة حكمتها
كبح [8] ، إنّما نكل الشّكر لمن يوفّي في جزاء الأعمال البرّة، ولا
يبخس مثقال الذّرّة ولا أدنى من مثقال الذّرّة، ذي الرّحمة الثّرّة [9]
، والألطاف المتّصلة المستمرّة، لا إله إلّا هو.
وإن تشوّفتم إلى الأحوال الرّاهنة، وأسباب الكفر الواهية بقدرة الله-
الواهنة [10] ، فنحن نطرفكم بطرفها [11] ، ونطلعكم على سبيل الإجمال
بطرفيها، وهو أننا لمّا أعادنا الله من التّمحيص، إلى مثابة التّخصيص،
من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على
سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرّر على من قبلنا
وعلينا- أن الدّنيا- وإن غرّ الغرور [12] وأنام على سرر الغفلة
السّرور، فلم ينفع الخطور [13] على أجداث [14] الأحباب والمرور،-
__________
[1] الجنى: ما يجتنى من الشجر وغيره.
[2] المهتصرة الممال، يقال هصرت الغصن: إذا أملته إليك.
[3] الطول (بالضم) : خلاف العرض. والطول (بالفتح) : المن، يقال طال
عليه: إذا امتن.
[4] الحصر: العي، وعدم القدرة على الابانة.
[5] المعاقد: العقد.
[6] وثر الفراش (بالضم) : وطؤ ولان.
[7] السبح: الجري.
[8] كبح الفرس: جذبه إليه باللجام يمنعه عن الجري.
[9] الرحمة الثرة: الغزيرة الكثيرة.
[10] وهي، وهن: ضعف.
[11] جمع طرفة (بالضم) : الشيطان،
[12] وفي القرآن: «ولا يغرنكم باللَّه الغرور» .
[13] الخطور: التبختر في المشي.
[14] جمع جدث: وهو القبر.
(7/606)
جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي ولا يحبر
[1] ، إنّما هو خبر يخبر، وأن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر، وأنّ
الأعمار أحلام، وأنّ النّاس نيام، وربما رحل الرّاحل عن الخان [2] ،
وقد جلّله بالأذى والدّخان، أو ترك به طيبا، وثناء يقوم بعد للآتي
خطيبا، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا [3] ، والتفقّد للثّغور مسواكا،
وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ» 61:
10 [4] من حجج الاستشهاد، وبادرنا رمق [5] الحصون المضاعة وجنح [6]
التّقيّة [7] دامس [8] ، وعواريها [9] لا تردّ يد لامس [10] ، وساكنها
بائس، والأعصم [11] في شعفاتها [12] من العصمة يائس، فزيّنّا ببيض
الشّرفات ثناياها، وأفعمنا بالعذب الفرات ركاياها [13] وغشّينا
بالصّفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفي الأجور ثوابها، وبيّضنا
بناصع الكلس أثوابها، فهي اليوم توهم حسّ العيان، أنها قطع من بيض
العنان [14] ، وتكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفّلة للمؤمنين من فزع
الدّنيا والآخرة بالأمان، وأقرضنا الله قرضا، وأوسعنا مدوّنة الجيش
[15] عرضا، وفرضنا إنصافه مع الاهلّة فرضا، واستندنا من التّوكل على
الله الغنيّ الحميد إلى ظلّ لواء، ونبذنا إلى الطّاغية
__________
[1] يخبر ينعم ويسر ويكرم.
[2] الخان المكان الّذي ينزله المسافرون، وهو الفندق.
[3] ملاك الأمر: ما يقوم به ذلك الأمر.
[4] يشير الى الآيات (10- 13) من سورة الصف.
[5] الرمق: بقية الحياة والروح. وفي الكلام تجوز.
[6] جنح الطريق: جانبه، وجنح القوم: ناحيتهم.
[7] التقية: التحفظ.
[8] ليل دامس: مظلم.
[9] جمع عارية، وهي المتجردة من الثياب. والعورات: الخلل في الثغر
وغيره، يتخوف منه في الحروب.
[10] يقال للمرأة التي تزني: لا ترديد لامس، أي لا ترد من يريدها عن
نفسها.
[11] الأعصم: الوعل، وعصمته: بياض في رجله.
[12] الشعفات، جمع شعفة، وهي رءوس الجبال.
[13] جمع ركية وهي البئر.
[14] العنان: السحاب.
[15] يريد الجيش الرسمي الّذي كان مدونا في سجلات الدولة. وفي مقدمة
الإحاطة 1/ 19، 36 وصف للجيش الأندلسي، وسلاحه، وأقسامه، وذكر لمقدار
ما كان يأخذه كل شهر.
(7/607)
عهده على سواء [1] وقلنا: ربّنا أنت
العزيز، وكلّ جبّار لعزّك ذليل، وحزبك هو الكثير، وما سواه قليل، أنت
الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض [2] علينا مدارع [3] الصّابرين،
واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظّافرين، وثبّت أقدامنا وانصرنا على
القوم الكافرين.
فتحرّكنا أول الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خفّ من الحشود، واقتصار
على ما بحضرتنا من العساكر المظفّرة والجنود، إلى حصن آشر [4] البازي
المطلّ، وركاب العدوّ الضالّ المضلّ، ومهدي نفثات [5] الصّلّ [6] ، على
امتناعه وارتفاعه، وسمو يفاعه [7] ، وما بذل العدوّ فيه من استعداده،
وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده، فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا
عليه الشهداء نصابر أواره [8] ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة،
وجلا مده الملمومة [9] وأحجاره، حتى فرعنا [10] بحول من لا حول ولا قوة
إلا به- أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن البلاد والعباد أضراره، بعد
أن استضفنا إليه حصن السّهلة جاره، ورحلنا عنه بعد أن شحنّاه رابطة
وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رمّ ما ثلم القتال، وبقر من
بطون مسابقة الرّجال، واقتدينا بنبيّنا- صلوات الله عليه وسلامه- في
الخندق [11] لمّا حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول حديثه
والارتجال [12] ، وما كان ليقرّ للإسلام مع تركه القرار، وقد كثب
الجوار،
__________
[1] نبذ العهد: نقضه، وألقاه الى من كان بينه وبينه. والتعبير مقتبس من
الآية 58 من سورة الأنفال.
[2] أفض: أفرغ.
[3] جمع مدرع: وهو ضرب من الثياب.
[4] حصن آشر: يقع الى الجنوب الشرقي لحصن ورطة، على ضفة رافد من روافد
نهر شنيل.
[5] نفثت الحية السم: إذا لسعت بأنفها، فإذا عضت بابها قيل: نشطت.
[6] الصل (بالكسر) : الحية التي لا تنفع فيها الرقية.
[7] اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
[8] الأوار (بالضم) : حرارة النار، والشمس، والعطش.
[9] جلامدة، جمع جلمد، وهو الصخر. والملمومة: المستديرة الصلبة.
[10] فرعنا: علونا.
[11] كانت غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة. الطبري 3/ 43.
[12] نقل السهيليّ في الروض الأنف عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل
الهدي: أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يرتجز يوم الخندق فيقول:
بسم الإله وبه بدنيا
(7/608)
وتداعى الدّعرة [1] وتعاوى الشّرار [2] .
وقد كنا أغرينا من بالجهة الغربية من المسلمين بمدينة برغه التي سدت
بين القاعدتين رندة ومالقة الطريق، وألبست ذلّ الفراق ذلك الفريق،
ومنعتهما أن يسيغا الريق، فلا سبيل الى الإلمام، لطيف المنام، إلا في
الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هدل [3] الحمام، فيسّر الله فتحها،
وعجّل منحها، بعد حرب انبتّت فيها النّحور، وتزيّنت الحور. وتبع هذه
الأمّ بنات شهيرة، وبقع للزّرع والضّرع خيرة [4] ، فشفي الثّغر من
بوسه، وتهلّل وجه الإسلام بتلك النّاحية النّاجية بعد عبوسة.
ثم أعملنا الحركة إلى مدينة إطريرة [5] ، على بعد المدى، وتغلغلها في
بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الرّدى، مدينة تبنّتها حمص [6]
فأوسعت الدّار، وأغلت الشّوار [7] ، وراعت الاستكثار، وبسطت الاعتمار
[8] ، رجّح لدينا قصدها على البعد، والطّريق الجعد، ما أسفت [9] به
المسلمين من استئصال طائفة من أسراهم، مرّوا بها آمنين، وبطائرها
المشئوم متيمنين، قد أنهكهم [10]
__________
[ () ] ولو عبدنا غيره شقينا فحبذا ربا وحب دينا سيرة ابن هشام 3/ 227،
228.
[1] رجل داعر (بالمهملة) : يسرق، يزني، ويؤذي الناس، والجمع دعرة.
[2] تعاوت الشرار: تجمعت للفتنة، وتعاووا عليه: تعاونوا وتساعدوا.
[3] الهديل: ذكر الحمام. والجمع هدل، كسرير وسرر.
[4] الخيرة: المختار من كل شيء، يريد: بقاع مختارة للزرع والضرع.
[5] اطريرة (Ultrera)
:تقع الجنوب الشرقي من إشبيلية على بعد 39 كلم، وقد ضبطت بكسر الهمزة
وسكون الطاء.
[6] يريد إشبيلية، سماها حمص جند بني أمية الّذي نزل بها حين جاء من
حمص الشام. وقد فعلوا ذلك في كثير من مدن الأندلس. ياقوت (معجم
البلدان) .
[7] الشوار: متاع البيت، ويريد به ما تعارف عليه الفقهاء، مما يشترى من
الصداق الّذي يدفعه الزوج، وتجهز به الزوجة من حلى، وغطاء، ووطاء إلخ،
ذلك لأنه جعل «حمص» أما لا طريرة قد زوجتها وجهزتها، فتغالت- لما في
الأم من حب لابنتها- في هذا الجهاز إلخ. فجاء بالألفاظ الفقهية
بمعانيها التي اصطلحوا عليها.
[8] يريد بالاعتمار: الاستعمار، والاستغلال.
[9] أسفاه: أطاشه حلمه، وحمله على الطيش.
[10] أنهكهم: أجهدهم، وأضناهم.
ابن خلدون م 39 ج 7
(7/609)
الاعتقال، والقيود الثقال، وأضرعهم الإسار
وجلّلهم الإنكسار، فجدّلوهم [1] في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرّائي
والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواجد [2] ، وترة الماجد
[3] ، فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضلّ ولا ينسى وصبّحتها
الخيل، ثم تلاحق الرّجل لمّا جنّ الليل، وحاق بها الويل، فأبيح منها
الذّمار [4] ، وأخذها الدّمار، ومحقت [5] من مصانعها البيض الأهلّة
وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضّلوع الحرار [6] ، وسلّطت على
هياكلها النّار، واستولى على الآلاف العديدة من سبيها، وانتهى إلى
إشبيلية الثّكلى المغار [7] فجلّل وجوه من بها من كبار النّصرانية
الصّغار [8] ، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقله [9]
الأوقار [10] .
وعدنا والأرض تموج سبيا، لم نترك بعفرين شبلا [11] ولا بوجرة ظبيا [12]
، والعقائل [13] حسرى، والعيون يبهرها الصّنع الأسرى [14] وصبح السّرى
قد حمد من بعد المسرى [15] ، فسبحان الّذي أسرى [16] ، ولسان الحميّة
ينادي، في تلك الكنائس المخرّبة والنّوادي: يا لثارات الأسرى!
__________
[1] فجدلوهم: صرعوهم.
[2] الثكل: فقد المرأة ولدها، وفقد الرجل ولده أيضا، والواجد: الغضبان.
[3] الترة: الذحل والثأر. والماجد: الكريم، ومن له آباء متقدمون في
الشرف.
[4] الذمار: ما وراء الرجل مما يحق له ان يحميه. والدمار (بالمهملة) :
الهلاك.
[5] المحق: النقصان وذهاب البركة. لسان العرب (محق) .
[6] الضلوع الحرار: العطشى.
[7] المغار: مصدر ميمي بمعنى الإغارة.
[8] جلل وجوههم: عم وجوههم. والصغار: الذل.
[9] أقل الشيء: أطاق حمله.
[10] الأوقار: جمع وقر، وهو الجمل. وأكثر ما يستعمل في حمل البغل
والحمار.
[11] عفرين بلد تكثر فيه الأسود. والشبل: ولد الأسود.
[12] وجرة: فلاة بوسط نجد، لا تخلو من شجر، ومياه، ومرعى. والوحش فيها
كثير. (تاج- وجر) .
[13] جمع عقيلة، وهي المرأة الكريمة، النفيسة.
[14] الصنع الأسرى: الأشراف، والأرفع.
[15] ينظر الى المثل: «عند الصباح يحمد القوم السري» ، الّذي يضرب
للرجل يحتمل الشقة رجاء الراحة.
انظر الميدان 2/ 304.
[16] اقتباس من الآية 1 من سورة الإسراء. وأسرى: سار ليلا.
(7/610)
ولم يكن إلا أن نفلت الأنفال [1] ، ووسمت
بالأوضاح الأغفال [2] ، وتميّزت الهوادي والأكفال [3] ، وكان إلى غزو
مدينة جيّان الاحتفال، قدنا إليها الجرد [4] تلاعب الظلال نشاطا،
والأبطال تقتحم الأخطار رضى بما عند الله واغتباطا، والمهنّدة الدّلق
[5] تسبق إلى الرقاب استلالا واختراطا، واستكثرنا من عدد القتال
احتياطا، وأزحنا العلل عمّن أراد جهادا منجيا غباره من دخان جهنّم
ورباطا، ونادينا الجهاد! الجهاد! يا أمّة الجهاد! راية النّبيّ الهادي!
الجنّة تحت ظلال السّيوف الحداد!، فهزّ النداء إلى الله تعالى كلّ عارم
وغامر [6] ، وائتمر الجمّ من دعوى الحق إلى أمر آمر، وأتى النّاس من
الفجوج [7] العميقة رجالا وعلى كل ضامر [8] ، وكاثرت الرّايات أزهار
البطاح لونا وعدا، وسدّت الحشود مسالك الطّريق العريضة سدّا، ومدّ
بحرها الزّاخر مدّا، فلا يجد لها النّاظر ولا المناظر حدّا.
وهذه المدينة هي الأمّ الولود، والجنّة التي في النّار لسكّانها من
الكفّار الخلود، وكرسيّ الملك، ومجنبة [9] الوسطى من السّلك، باءت
بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان بغيرها من أمّات [10] البلدان،
رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيّات السّود، ومنصّب [11] التّماثيل
الهائلة، ومعلّق النّواقيس المصلصلة.
__________
[1] الأنفال: جمع نفل، وهو الغنيمة: ونفلت: أعطيت.
[2] الأوضاح، جمع وضح، وهو البياض. والاغفال: الاراضي الموات، يقال ارض
عفل: لا علم بها، ولا سمه.
[3] هو ادى كل شيء: أوائله. يريد: تميز الشجعان الذين كانوا يتصدرون
المعركة، من الاكفال (جمع كفل) : وهم الذين يكونون في مؤخر الموقعة
همتهم التأخر، والفرار.
[4] جمع أجرد، وهو الفرس القصير الشعر، وذلك في علامات العتق والكرم.
[5] سيف دلق: سهل الخروج من غمده، والجمع: دلق.
[6] العامر من الأرض: المستغل. والغامر: الّذي يغمره الماء، ويراد به
الأرض التي لم تستثمر. يريد:
أقبل الناس من كل جانب.
[7] جمع فج، وهو الطريق البعيد، والواسع، والّذي بين جبلين.
[8] الجمل الضامر: الخفيف الجسم.
[9] المجنبة: التي تأخذ مكانها جانب الجوهرة الوسطى من العقد. يريد ان
مدينة جيان تحتل المرتبة الثانية بالقياس الى حضرة الملك.
[10] أمات، جمع أم، ويغلب أن تأتي جمعا لام ما لا يعقل. وانظر اللسان
«أم» ، «أمه» .
[11] منصب اسم مكان، بمعنى الموضع الّذي أقيمت فيه هذه التماثيل.
(7/611)
فأدنينا إليها المراحل، وعنينا ببحار
المحلّات المستقلّات منها السّاحل [1] ، ولما أكثبنا [2] جوارها، وكدنا
نلتمح [3] نارها، تحرّكنا إليها ووشاح [4] الأفق المرقوم، بزهر
النّجوم، قد دار دائره، واللّيل من خوف الصّباح، على سطحه المستباح، قد
شابت غدائره، والنّسر [5] يرفرف باليمن طائره، والسّماك الرّامح [6]
يثأر بعز الإسلام ثائره، والنّعائم راعدة [7] فرائص [8] الجسد، من خوف
الأسد [9] ، والقوس [10] يرسل سهم السّعادة [11] ، بوتر العادة، إلى
أهداف النعم المعادة، والجوزاء [12] عابرة نهر المجرّة [13] ، والزهرة
[14] تغار من الشّعري العبور [15]
__________
[1] أحل فلان أهله بمكان كذا: جعلهم يحلونه. واستقل القوم: ذهبوا
وارتحلوا.
[2] اكثب: قارب، ودنا من الشيء.
[3] التمحه: أبصره بنظر خفيف.
[4] الوشاح: شيء ينسج عريضا من أديم، ويرصع بالجواهر، وتشده المرأة بين
عاتقها وكشحها.
[5] النسران: كوكبان شآميان، أحدهما واقع، والأخر طائر. فالواقع كوكب
نير، خلفه كوكبان أصغر منه، يكونان معه صورة الاتافي، ويقولون: هما
جناحاه وقد ضمهما إليه حين وقع. أما الطائر، فهو إزاء النسر الواقع في
ناحية الشمال، وتفصل بينهما المجرة، وهو كوكب منير بين كوكبين تخيلوهما
جناحيه قد نشرهما. وانظر كتاب «الأنواء» لابن قتيبة ص 133 لسان (نسر) .
[6] السماء الرامح: نجم نير شمالي، خلفه كوكبان بمنزلة الرمح له. وهو
نجم لا نوء له ويقابله السماك الأعزل، وهو من منازل القمر.
[7] النعائم: منزلة من منازل القمر، وهي أربعة كواكب مربعة على طرف
المجرة. وهناك نعائم واردة، ونعائم صادرة، فالواردة منها هي التي ترد
في نهر المجرة، والصادرة قد وردت وصدرت، أي رجعت عنها. لسان العرب
(نعم) .
[8] راعدة الفرائص: فزعة، مرتجفة، والفرائص، جمع فريصة، وهي مرجع الكتف
الى الخاصرة في وسط الجنب.
[9] الأسد: أحد البروج الشمالية الاثني عشر. وكواكبه 34 كوكبا.
[10] القوس، ويسمى الرامي: أحد البروج الاثني عشر من البروج الجنوبية،
وهو كوكبة على صورة شخص نصفه الأعلى إنسان، بيده قوس يرمي به، والنصف
الأسفل منه على صورة فرس. وكواكبه 31 كوكبا، ويقع خلف كوكبة العقرب.
[11] السهم- في مصطلح المنجمين: عبارة عن موضع في دائرة فلك البروج،
يقع بين طولي كوكبين من الكواكب السيارة. ولهم في استخراجه طرق حسابية
معروفة، ولهذا الموضع المعين دلالة خاصة. وأقوى السهام: سهم السعادة،
وسهم الغيب.
[12] الجوزاء، وتسمى التوأمين: برج من بروج الشمس الشمالية، وهي صورة
إنسانين رأسهما، وسائر كواكبهما في الشمال والمشرق عن اجرة، وأرجلهما
الى الجنوب والمغرب في نفس المجرة، وهما كالمتعانقين.
كواكبها 25 كوكبا.
[13] المجرة: البياض الّذي يرى في السماء، وتسمى عند العوام بسبيل
التبانين، وهي كواكب صغار، متقاربة، متشابكة لا تتمايز حسا، بل هي لشدة
تكاثفها وصغرها صارت كأنها لطخات سحابية، والعرب تسميها أم النجوم
لاجتماع النجوم فيها. عجائب المخلوقات للقزويني 1/ 32 وما بعدها.
[14] الزهرة، كتؤدة: نجم أبيض مضيء من الكواكب السبعة السيارة، ويسميها
المنجمون السعد الأصغر، لأنها في السعادة دون المشتري. تاج العروس
(زهر) .
[15] الشعري العبور (بكسر الشين) : كوكب نير من كوكبة الجوزاء، في حجم
الزهرة ونورها تقريبا، يقال لها الشعرى العبور، ومرزم الشعرى، ذكرت في
القرآن: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى» 53: 49 (49 من سورة النجم) .
وقد عبدها قوم من العرب في الجاهلية. وسميت العبور لأنها- فيما يزعمون-
عبرت السماء عرضا، ولم يعبرها غيرها، فلذلك عبدوها. تاج العروس (شعر) .
(7/612)
بالضّرّة، وعطارد [4] يسدي في حبل الحروب،
على البلد المحروب [5] ويلحمه، ويناظر على أشكالها الهندسيّة فيفحمه،
والأحمر [6] يبهر، وبعلمه الأبيض يغري وينهر، والمشتري يبدئ في فضل
الجهاد ويعيد، ويزاحم في الحلقات، على ما للسّعادة من الصّفقات، ويزيد
[7] ، وزحل [8] عن الطّالع [9] منزحل [10] ، وعن العاشر [11] مرتحل،
وفي زلق السّعود وحل، والبدر يطالع حجر المنجنيق [12] ، كيف يهوي إلى
النّيق [13] ، ومطلع الشّمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب.
ولما فشا سرّ الصباح، واهتزت أعطاف الرّايات بتحيّات مبشّرات الرّياح
أطللنا [14] عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس،
فنظرنا منظرا يروع بأسا ومنعة [15] ، ويروق وضعا وصنعة، تلفّعت [16]
معاقلة الشّم للسّحاب ببرود،
__________
[4] عطارد، ويسمى- في عرف أهل المغرب- الكاتب: كوكب من السبعة السيارة.
واقترانه بزحل يدل على الخسف والزلزال، وبالمريخ يدل على الشدائد.
[5] المحروب: المسلوب المال، المنهوب.
[6] الأحمر وهو المريخ: دليل على الحروب وأصحابها، فإذا كان في البرج
الرابع من الطالع، دل ذلك على كثرة القتل في الحروب، وشدة الهول.
[7] زحل، والمشتري، والمريخ، إذا اقترنت بعضها ببعض، أو تناظرت، بأن
كانت ناظرة بعضها إلى بعض نظر عداوة، وذلك عند التربيع والمقابلة- إذا
حصل ذلك عند حلول الشمس برأس الحمل، فان ذلك يدل على وقوع حرب.
[8] رحل، وهو كيوان: إذا اتصل به القمر اتصال عداوة، فان ذلك يدل على
البلايا والرزايا.
[9] الطالع: هو البرج الّذي على الأفق الشرقي.
[10] زحل عن مكانه: زل، وحاد.
[11] العاشر: هو البرج الّذي يقع فوق سمت الرأس.
[12] المنجنيق (بفتح الميم وكسرها) : آلة لرمي الحجارة على العدو في
الحرب. شفاء الغليل ص 133.
[13] النيق: أرفع موضع في الجبل.
[14] أطللنا عليها: أشرفنا عليها.
[15] منعة: قوة تمنع من يريده بسوء.
[16] تلفع: تلحق.
(7/613)
ووردت من غدر المزن في برود [1] ، وأشرعت
لاقتطاف أزهار النجوم والذراع بين النطاق معاصم رود [2] ، وبلدا يحيي
الماسح والذارع [3] ، وينظم المحاني والأجارع [4] ، فقلنا: اللَّهمّ
نفّله أيدي عبادك، وأرنا فيه آية من آيات جهادك، ونزلنا بساحتها
العريضة المتون، نزول الغيث الهتون، وتيمّنّا من فحصها بسورة «التين
والزّيتون» ، متبرئة من أمان الرحمان للبلد المفتون، وأعجلنا الناس
بحميّة نفوسهم النفيسة، وسجيّة شجاعتهم البئيسة [5] ، عن أن تبوّأ [6]
للقتال المقاعد [7] ، وتدني بأسماع شهير النفير منهم الأباعد، وقبل أن
يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم، فدفعوا من أصحر
إليهم من الفرسان.
وسبق إلى حومة الميدان [8] ، حتى أحجروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد
[9] ، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صابت السّهام فيه غماما [10] ،
وطارت كأسراب الحمام تهدى حماما [11] ، وأضحت القنا قصدا [12] ، بعد أن
كانت شهابا رصدا، وماج بحر القتام [13] بأمواج النّصول، وأخذ الأرض
الرجفان لزلزال الصّياح الموصول، فلا ترى إلّا شهيدا تظلّل مصرعه الحور
[14] ، وصريعا تقذف به الى الساحل تلك البحور، ونواشب [15] تبأى [16]
بها الوجوه الوجيهة عند الله والنّحور،
__________
[1] البرود من الشراب: ما يبرد الغلة.
[2] رخصة ناعمة.
[3] مسح الأرض: قاس مساحتها. وذرعها: قاسها بالذراع.
[4] المحاني، جمع محنية، وهي منعرج الوادي، وما انحنى من الأرض.
والاجارع، جمع أجرع، وهي الأرض الطيبة المنبت، والأرض فيها حزونة.
[5] الشديدة البأس.
[6] تبوأ: تهيأ.
[7] المقاعد: مواقف للقتال تعين لكل واحد من المقاتلين، يعني عجلنا
بالهجوم قبل ان يتخذ كل مقاتل مكانا معينا، اشارة الى الآية «وَإِذْ
غَدَوْتَ من أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ»
3: 121 (121 من سورة آل عمران) .
[8] حومة الميدان: أسد موضع فيه وقت القتال.
[9] الجلد: القوة، والصبر.
[10] صابت السهام غماما: نزلت كالغمام لكثرتها.
[11] الحمام (بالكسر) : قضاء الموت وقدره.
[12] قصدا: قطعا، يقال: القنا قصد أي مكسورة.
[13] القتام: الغبار.
[14] جمع حوراء، وهي التي اشتد بياض عينها، وسواد سوادها.
[15] نواشب: سهام ناشبة في وجوه المحاربين، أو في أعناقهم.
[16] تبأى بها: تنشق.
(7/614)
فالمقضب [1] ، فوده [2] يخضب، والأسمر،
غصنه يستثمر، والمغفر [3] ، حماه يخفر، وظهور القسيّ تقصم [4] ، وعصم
الجند الكوافر تفصم [5] ، وورق اليلب [6] في المنقلب يسقط، والبيض تكتب
والسّمر تنقط [7] ، فاقتحم الربض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون
المبصرين والمستبصرين عزّة دينه، وتبرّأ الشيطان من خدينه [8] ، ونهب
الكفّار وخذلوا، وبكلّ مرصد جدّلوا، ثمّ دخل البلد بعده غلابا، وجلّل
[9] قتلا واستلابا، فلا تسل إلا الظّبا [10] والأسل [11] عن قيام
ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت [12] والمباني، وغنى الأيدي
من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأول الى الوجود الثّاني [13] ،
وتخارق السّيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الرّدينيّة من الدّماء،
حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسيّ وسحّت،
وأرنّت حتى بحّت، ونفدت موادّها فشحّت، مما ألحّت، وسدّت المسالك جثث
القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوه الشّأفة وقطع الدّابر [14]
، وأزلف الشّهيد وأحسب الصّابر [15] ، وسبقت رسل الفتح الّذي لم يسمع
بمثله في
__________
[1] سيف مقضب: قطاع.
[2] الفود: معظم شعر اللمة مما يلي الاذن. واسناد ذلك للسيف على جهة
التوسع.
[3] المغفر: ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد ونحوه.
[4] تقصم: تكسر.
[5] عصم الكوافر: جمع عصمة، وأصل العصمة الجبل، وكل ما أمسك شيئا فقد
عصمه. والكوافر جمع كافرة وهو يريد هنا أن الجند جماعات، فصح له جمع
فاعل على فواعل. تفصم: تقطع وتنفصل. مقتبس من الآية: «وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» . 60: 10
[6] اليلب: الدروع، والدرق.
[7] البيض: السيوف. والسمر: الرماح.
[8] الخدين: الصديق.
[9] جلل قتلا: عمه القتل.
[10] الظبا، جمع ظبة، وهي حد السيف، والسنان، والنصل، والحنجر، ونحوها.
[11] الأسل: عيدان طوال دقاق مستوية لا ورق لها، وتسمى الرماح والقنا
أسلا، على التشبيه بها في الطول، والاستواء، والدقة.
[12] المبائت، جمع مبيت، مكان البيتوتة.
[13] يعني بالوجود الأول: الوجود الخارجي، وهو المرئي بالعين الملموس.
أما الوجود الثاني فهو الوجود الذهني، والمعنى أن هذه المدينة قد أصبحت
موجودة في الأذهان صورتها بعد أن كانت موجودة العين.
وانظر معيار العلم للغزالي ص 37. وشرح المقاصد للسعد 1/ 57 (طبع
إستانبول سنة 1277 هـ) .
[14] الشأفة: الأصل، واستأصل شأفته أي أصله. وقطع الدابر: استأصل
آخرهم.
[15] أزلف الشهيد: قربه اليه. وأحسب الصابر: أعطاه ما يرضي، أو أعطاه
حتى قال حسبي.
(7/615)
الزّمن الغابر. تنقل البشرى من أفواه
المحابر، إلى آذان المنابر.
أقمنا بها أياما نعقر الأشجار [1] ، ونستأصل بالتّخريب الوجار [2] ،
ولسان الانتقام من عبدة الأصنام، ينادي: يا لثارات الإسكندريّة [3]
تشفيا من الفجار [4] ، ورعيا لحق الجار، وقفلنا وأجنحة الرّايات، برياح
العنايات، خافقة وأوفاق [5] ، التّوفيق، النّاشئة من خطوط الطّريق،
موافقة، وأسواق العزّ باللَّه نافقة، وحملاء الرّفق مصاحبة- والحمد
للَّه مرافقة، وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق الصّهب السّبال [6] ،
ورفعت على الأكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام
الجبال، بالهندام [7] والاحتيال، وهلك بمهلك هذه الأمّ هذه الأمّ بنات
كنّ يرتضعن ثديها الحوافل [8] ، ويستوثرن حجرها الكافل، شمل التّخريب
أسوارها، وعجّلت النّار بوارها.
__________
[1] نعقر الأشجار: نقطع رءوسها، فتيبس.
[2] الوجار (بالكسر ويفتح) : جحر الضبع، والأسد، والثعلب، والذئب
ونحوها.
[3] يشير ابن الخطيب الى «الواقعة» التي حدثت بالإسكندرية سنة 767 هـ،
ومجملها ان حاكم قبرص، انتهز غيبة حاكم الاسكندرية في الحجاز للحج،
فهاجم البلد في اسطول بلغت قطعه نحو 70 فيما قالوا، وقد خرج أهل
الاسكندرية للنزهة غير مقدرين للخطر، وكانت الحامية الموجودة قليلة،
والأسوار والحصون خالية من المدافعين، فهاجم العدو الأهالي العز
الآمنين، ففروا الى المدينة، وأغلقوا عليهم الأبواب، فأحرقها العدو
واقتحم البلد عليهم.. فكانت مذابح هتكت فيها حرمات. وانظر تفصيلها في
العبرم 5.
[4] شبّه مهاجمة الاسكندرية الآمنة بحرب «الفجّار» ، التي سميت بذلك
لما استحل فيها من حرمات، حيث كانت في الأشهر الحرم.
[5] أوفاق، جمع وفق، وهي مربعات تحتوي على بيوت مربعة صغيرة، وتوضع في
تلك البيوت أرقام، أو حروف، على نظام بحيث لا يتكرر عدد في بيتين،
وبحيث يكون مجموع أضلاع المربع، ومجموع أقطارها متساويا، ويسمى الوفق-
بعد ذلك- بما في أحد أضلاعه من بيوت، فيقال: المثلث، والمربع، والمخمس
إلخ، وقد يحتوي على مائة من البيوت فيقال: الوفق المئيني. ويقول أصحاب
الأفق: ان للاعداد- في هذا الوضع- خواص روحانية، وآثارا عجيبة، إذا
اختير للعمل بها وقت مناسب، وساعة شريفة. وكلام ابن الخطيب على التشبيه
والتجوز.
[6] الصهب: جمع أصهب، وهو الأبيض تخالطه حمرة. والسبال: جمع سبلة، وهي
اللحية، أو ما على الشارب من شعر، ويقال للاعداء عامة هم صهب السبال،
ذلك لأن الصهوبة في الروم، وقد كانوا أعداء العرب، ثم قالوا لكل
الأعداء: هم صهب السبال.
[7] الهندام آلة يحتال بها على رفع أو تحريك الأشياء الثقيلة التي لا
تستطيع قوى الإنسان المجردة ان ترفعها، أو تحركها. وقد وصف هذه الآلة
ابن خلدون في آخر فصل البناء من مقدمته.
[8] الحوافل: جمع حافلة، الضرع الممتلئ لبنا.
(7/616)
ثم تحرّكنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء
الأدلاء [1] قبل المتح [2] ، فبشّرت بالمنح، وقصدنا مدينة أبّدة، وهي
ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيّان في حين الحين [3] ،
مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق [4] ، وتمشّت فيه أرباضها تمشّي الكتابة
الجامحة في المهرق [5] ، المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع
المتناسب، والفلح المعيي ريعه [6] عمل الحاسب وكوارة [7] الدّبر [8]
اللّاسب [9] المتعدّدة اليعاسب [10] ، فأناخ العفاء [11] بربوعها
العامرة، ودارت كؤوس عقار [12] الحتوف [13] ، ببنان السّيوف، على
متديريها المعاقرة [14] ، وصبّحتها طلائع الفاقرة [15] ، وأغريت ببطون
أسوارها عوج المعاول [16] ، الباقرة [17] ، ودخلت مدينتها عنوة السّيف،
في أسرع من خطرة الطّيف، ولا تسأل عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من مدينة
حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة [18] ، ما بلغ من هذه البائسة [19]
التي سجدت لآلهة النّيران أبراجها،
__________
[1] جمع دلو، وهي ما يستقى به. والأدلاء: جمع دليل، وهو المرشد. ويريد:
قدمنا قبل بدء القتال- طلائع لنكشف ما عند العدو من استعداد.
[2] المتح: الاستقاء.
[3] الحين: الهلاك.
[4] الأخرق: البعيد الواسع.
[5] المهرق: الصحيفة البيضاء يكتب فيها.
[6] الريع: النماء، والزيادة، وارض مربعة: مخصبة، وهذا هو المراد هنا.
[7] الكوار، والكوارة: شيء يتخذ للنحل من القضبان.
[8] الدبر: النحل.
[9] لسبته النحلة، لسعته.
[10] اليعسوب: أمير النحل. والجمع الصحيح يعاسيب.
[11] أناخ الجمل: برك. والعفاء: المحو، والإزالة.
[12] العقار: الخمر.
[13] الحتوف: جمع حتف، وهو الموت.
[14] معاقر الخمر: مدمنها، والجمع: معاقرة: ولعله يريد بمتديريها،
دياريها.
[15] الفاقرة: الداهية الكاسرة.
[16] جمع معول، وهو الحديدة تنقر بها الجبال. أو هو الفأس.
[17] بقر الشيء بقرا: فتحه، ووسعه، وشقه.
[18] امرأة رافلة: تجر ذيلها جرا حسنا إذا مشت.
[19] البائسة: الفقيرة. والتي نزلت بها بلية ترحم من أجلها.
(7/617)
وتضاءل [1] بالرّغام [2] معراجها، وضفت [3]
على أعطافها [4] ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كناس [5] الغزلان.
ثم تأهّبنا لغزو أمّ القرى الكافرة، وخزائن المزاين [6] الوافرة، وربّة
الشّهرة السافرة [7] ، والأنباء المسافرة، قرطبة، وما أدراك ماهية! ذات
الأرجاء الحالية [8] الكاسية [9] ، والأطواد الرّاسخة الرّاسية،
والمباني الماهية، والزّهراء [10] الزّاهية، والمحاسن غير المتناهية،
حيث هالة بدر السّماء قد استدارت من السّور المشيد البناء دارا، ونهر
المجرّة من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض [11] ، قد لصق
بها جارا، وفلك الدّولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مدارا، ورجّع
الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأول وادّكارا [12] حيث الطّود كالتّاج،
يزدان بلجين العذب المجاج [13] ، فيزري بتاج كسرى ودارا، حيث قسيّ
الجسور [14] المديدة، كأنّها عوج [15] المطيّ العديدة، تعبر النّهر
قطارا،
__________
[1] تضاءل: تصاغر وذل.
[2] الرغام (بالفتح) : التراب.
[3] ثوب ضاف: سابغ طويل.
[4] عطفا كل شيء: جانباه، والجمع أعطاف.
[5] الكناس: موضع في الشجر يستكن فيه الظبي ويستقر، إذا اشتد الحر.
[6] المزاين: ما يتزين به.
[7] السافرة: الذاهبة كل مذهب.
[8] الحالية: التي لبست حليا.
[9] الكاسية: المكتسية.
[10] الزهراء: مدينة في شمال قرطبة على بعد ثلاثة أميال منها، تحت جبل
العروس، بنها الناصر المرواني أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد بن عبد
الله أول سنة 325 هـ، وسماها باسم جارية كان يحبها، اشتهت أن يبني لها
مدينة في جبل العروس، ويسميها باسمها. وقد وصفها المقري في نفح الطيب
1/ 344- 374 صنع ليدن.
[11] الغيضة: مغيض ماء يجتمع، فينبت فيه الشجر، وجمعها غياض.
[12] يريد ان قرطبة دائمة الحنين الى الحكم الإسلامي الّذي انتظمها منذ
الفتح حتى سنة 633 هـ، حيث سقطت في أيدي الاسبان.
[13] المجاج: العسل، ومجاج المزن: مطرها.
[14] الّذي نعرف ان على نهر قرطبة جسرين، بني الأعظم منهما- بأمر عمر
بن عبد العزيز- السمح بن مالك الخولانيّ. أو عبد الرحمن بن عبيد الله
الغامقي، وكانوا يسمونه قنطرة الوادي، وكانت اقواسه سبع عشرة قوسا، سعة
الواحدة منها خمسون شبرا. نفح الطيب 1/ 226، 246 بولاق.
[15] جمع عوجاء، وهي الضامرة من الإبل. والمطي: جمع مطية، وهي البعير
يمتطى ظهره.
(7/618)
حيث آثار [1] العامري [2] المجاهد [3] ،
تعبق [4] بين تلك المعاهد، شذّي معطارا، حيث كرائم السّحائب، تزور
عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدرّ نثارا، حيث شمول الشّمال [5]
تدار على الأدواح [6] ، بالغدوّ والرّواح، فترى الغصون سكارى، وما هي
بسكارى، حيث أيدي الافتتاح، تفتضّ من شقائق [7] البطاح، أبكارا، حيث
ثغور الأقاح [8] الباسم، تقبّلها بالسّحر زوار النّواسم، فتخفق قلوب
النّجوم الغيارى، حيث المصلّى [9] العتيق، قد رحب مجالا وطال منارا
[10] ، وأزرى ببلاط الوليد [11] احتقارا،
__________
[1] من آثاره: المنية المعروفة بالعامرية، والمدينة «الزاهرة» التي
اتخذها مقرا لحكمه، والزيادة التي أضافها لمسجد قرطبة في الناحية
الشرقية منه. نفح الطيب 2601- 274- 277 بولاق.
[2] هو محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر
المعافري، دخل جده الأندلس مع طارق بن زياد. واستوزره الحكم المستنصر
لابنه هشام، فلما مات حجبه ابن أبي عامر، واستولى على الدولة، وأمر بأن
يحيى بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور. توفي مبطونا بمدينة سالم،
بأقصى ثغور المسلمين سنة 393 أو 394. العبر لابن خلدون م 4.
[3] كان المنصور بن أبي عامر محبا للجهاد، غزا بنفسه- مدة ملكه- نيفا
وخمسين غزوة، لم تنتكس له فيها راية، ولا فل له فيها جيش. ومن شعره في
ذلك.
ألم ترني بعت المقامة بالسرى ... ولين الحشايا بالخيول الضوامر
وبدلت بعد الزعفران وطيبه ... صدى الدرع من مستحكمات المسامر
فلا تحسبوا أني شغلت بلذة ... ولكن أطعت الله في كل كافر
وكان يأمر أن ينفض غبار ثيابه التي حضر فيها القتال، وان يجمع ويحتفظ
به، فلما حضرته الوفاة أمر أن ينشر على كفنه إذا وضع في قبره. رحمه
الله. العبرم 4.
[4] عبق الطيب: فاح وانتشر: (تاج) .
[5] الشمول: الخمر. والشمال: الريح تهب من القطب، ويقال، خمر مشمولة
إذا ضربتها ريح الشمال فأصبحت باردة الطعم.
[6] جمع دوحة: وهي الشجرة العظيمة المتسعة.
[7] يريد شقائق النعمان، وتسمى الشقر أيضا، وهي نور أحمر، والنعمان اسم
الدم، فشبهت حمرتها بحمرة الدم، وسميت شقائق النعمان، وغلب عليها
الشقائق.
[8] جمع اقحوان، وهو نبت طيب الريح، له نور أصفر، وحواليه ورق أبيض،
كأنه ثغر جارية حدثة السن، وانظر مفردات ابن البيطار 1/ 48. والصواب:
«الاقاح البواسم» .
[9] يريد جامع قرطبة، وقد وصفه الحميري في الروض المعطار وصفا مفصلا ص
153- 155، وانظر نفح الطيب 1/ 358- 360 طبع ليدن.
[10] وصف منارة جامع قرطبة وصفا دقيقا، وقاسها كذلك، الحميري في الروض
المعطار ص 155- 156.
[11] كان الوليد بن عبد الملك من أفضل خلفاء بني أمية، أعطى المجذمين،
وقال لهم لا تسألوا الناس،
(7/619)
حيث الظّهور [1] المثارة بسلاح [2] الفلاح،
تجبّ عن مثل أسنمة [3] المهارى [4] ، والبطون [5] كأنها لتدميث [6]
الغمائم، بطون العذارى، والأدواح العالية، تخترق أعلامها الهادية،
بالجداول الحيارى [7] . فما شئت من جو بقيل [8] ، ومعرّس للحسن ومقيل،
وما لك للعقل وعقيل [9] ، وخمائل، كم فيها للبلابل، من قال وقيل، وخفيف
يجاور بثقيل، وسنابل تكي من فوق سوقها، وقصب بسوقها، الهمزات على
الألفات، والعصافير البديعة الصّفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل لهبوب
الصّبا والجنوب، مالئة الجيوب، بدرّ الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل
[10] ، فتطلبه بالذّحل [11] ، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند
افتتاح السّوسن والبهار [12] ، غير العبدان من سودان النّحل، وبحر
الفلاحة
__________
[ () ] وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان صاحب بناء واتخذ
المصانع والضياع، وكان الناس في زمانه، يسأل بعضهم بعضا عن البناء
والمصانع، وبنى المساجد: مسجد المدينة، ومسجد دمشق، الّذي أنفق عليه
أموالا عظيمة، وأحضر له الصناع من بلاد الروم ومن سائر بلاد الإسلام،
وكانت العرب تسميه بلاط الوليد. وانظر تاريخ الطبري 8/ 58- 97 وتاريخ
أبي الفداء 1/ 210، مقدمة ابن خلدون ص 640 طبع دار الكتاب اللبناني-
بيروت.
[1] الظهر من الأرض: ما غلظ وارتفع.
[2] أثار الأرض بالسن- وهي الحديدة التي تحرث بها الأرض- إذا قلبها على
الحب بعد ما فتحت مرة، وفي القرآن: «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» 30: 9:
حرثوها وزرعوها، واستخرجوا منها بركاتها.
[3] جب السنام: قطعه. وسنام الناقة: أعلى ظهرها والجمع أسنمة.
[4] إبل مهرية: منسوبة الى مهرة بن حيدان أبي قبيلة، وهم جي عظيم
والجمع مهارى.
[5] جمع بطن والبطن من الأرض: ما لان وسهل واطمأن.
[6] دمث الشيء: مرسه حتى لان.
[7] الحيارى: جمع حيران وهو المتردد في الأمر، لا يدري وجهة يهتدي
إليها. ويريد ان الجداول لالتوائها، وكثرة منعطفاتها، تشبه في سيرها
شخصا حيران قد التبست عليه السبل.
[8] الجو: المنخفض من الأرض. والبقيل: المكان ذو البقل، وكل نبات أخضرت
به الأرض فهو بقل.
[9] يوري بمالك وعقيل ابني فارج بن مالك، نديمي جذيمة الأبرش، ولهما مع
عمرو بن عدي خبر تجد تفصيله في تاريخ الطبري 2/ 30- 31.
[10] المحل: الجدب، وهو انقطاع المطر.
[11] الذحل: الثأر.
[12] البهار- عند أهل المغرب-: نبات طيب الريح، له قضبان خضر، في
رءوسها أقماع يخرج منها نور ينبسط منه ورق أبيض، وفي وسط البياض دائرة
صفراء من ورق صغير. وهذه هي الصفة التي أثبتها أهل المشرق للنرجس، حيث
قالوا: هو ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر، فالبهار عند أهل
المغرب هو النرجس عند أهل المشرق.
(7/620)
الّذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ الطّية [1]
البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النّوادي [2] ، وقرار دموع الغوادي
[3] ، للتّجاسر على تخطّيه، عند تمطّيه [4] ، الجسر العادي، والوطن
الّذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الّذي في جوفه كلّ صيد [5] ، أقلّ
كرسيّه خلافة الإسلام، وأغار بالرّصافة [6] والجسر دار السّلام [7] ،
وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام أو تعبّر به عن ذلك الكمال فنون
الكلام.
فأعملنا إليها السّرى والسّير، وقدنا إليها الخيل قد عقد الله في
نواصيها الخير [8] . ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا
بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل، وتستنزل
مدد الملائكة من منجد منزل، والرّكائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في
معاهد الإسلام:
«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل [9]
برز من حاميتها المحامية، ووقود النّار الحامية، وبقية السّيف الوافرة
على الحصاد النّامية، قطع الغمائم الهامية، وأمواج البحور الطّامية،
واستجنّت [10] بظلال أبطال المجال، أعداد الرجال، الناشبة [11]
والرامية، وتصدّى للنّزال، من
__________
[1] الطية: الناحية.
[2] السمر: الحديث بالليل. والنادي: المجلس، والجمع الصحيح: أندية.
[3] الغاد: السحابة تنشأ فتمطر غدوة، والجمع غواد.
[4] تمطية: امتداده. كنى به عن امتلاء النهر بالمياه أيام الشتاء.
[5] الفرا: الحمار الوحشي، وهو من أعظم ما يصطاده الناس، وفي الكلام
إشارة إلى المثل: «كل الصيد في جوف الفرا» الّذي يضرب لما يفضل على
غيره. ميداني 2/ 55.
[6] الرصافة: قصر بناه عبد الرحمن الداخل، في الشمال الغربي لقرطبة،
واتخذه لسكناه، نقل إليه من الشام كثيرا من أشجار الفاكهة والأزهار،
وسماه باسم رصافة جده هشام بن عبد الملك. معجم البلدان 4/ 257.
[7] يريد بغداد، وسماها مدينة السلام أبو جعفر المنصور، وكان ذلك سنة
146 هـ. انظر تاريخ بغداد 1/ 66- 67.
[8] اشارة الى حديث البخاري: «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم
القيامة» . الجامع الصحيح 4/ 187 طبع الاستانة.
[9] مطلع المعلقة المشهورة لامرئ القيس.
[10] استجنت: استترت.
[11] الناشبة: قوم يرمون بالنشاب، وهي السهام.
(7/621)
صناديدها [1] الصّهب السّبال، أمثال الهضاب
الراسية، تجنّها [2] جنن [3] السوابغ الكاسية، وقواميسها [4] المفادية
للصّلبان يوم بؤسها بنفوسها المواسية [5] ، وخنازيرها التي عدتها [6]
عن قبول حجج الله ورسوله، ستور الظّلم الغاشية، وصخور القلوب القاسية،
فكان بين الفريقين أمام جسرها الّذي فرق البحر، وحلّى بلجينه، ولآلئ
زينه، منها النّحر، حرب لم تنسج الأزمان على منوالها [7] ، ولا أتت
الأيام الحبالي بمثل أجنّة [8] أهوالها، من قاسها بالفجار [9] أفك وفجر
[10] ، أو مثّلها بجفر الهباءة [11] خرف وهجر [12] ، ومن شبّهها بحرب
داحس والغبراء [13] ، فما عرف الخبر، فليسأل من جرّب وخبر، ومن نظّرها
بيوم شعب جبلة [14] فهو ذو بله [15] ، أو عادلها ببطن عاقل [16] ، فغير
عاقل، أو احتجّ بيوم ذي قار [17] ، فهو إلى
__________
[1] الصنديد: السيد الشجاع. والجمع صناديد.
[2] تجنها: تسترها.
[3] الجنن: جمع جنة، وهي السترة.
[4] القواميس، جمع قومس (بوزن جوهر) ، وهو مرافق الملك، ونديمه،
والأمير.
[5] المواسي: المعين.
[6] عديته فتعدى: أي تجاوز الحد الّذي حد له.
[7] المنوال: المنسج تنسج عليه الثياب. يريد لم تأت الأيام بمثل هذه
الحروب.
[8] حبالي: جمع حبلى. والاجنة جمع جنين.
[9] حروب الفجار عدة، واشهرها- وهي آخرها- تلك التي كانت بين قريش
وكنانة، وبين هوازن.
وقد شهدها النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: كنت أنبل على أعمامي يوم
الفجار، وسميت فجارا لما استحلوا فيها من حرمة الأشهر الحرم. العقد
الفريد 3/ 368- 371.
[10] أفك: كذب. وفجر: مال عن الحق.
[11] جفر الهباءة: يوم كان لعبس على ذبيان، سمي بالموضع الّذي كانت فيه
موقعتهم، وهو مستنقع في ارض غطفان. العقد الفريد 3/ 316- 317، ياقوت
(معجم البلدان) ، الميداني 2/ 269.
[12] خرف: فسد عقله. هجر: خلط في كلامه وهذي.
[13] داحس والغبراء: يوم من أشهر أيامهم، بلغ من بعد اثره ان اتخذوه
مبدأ من مبادئ تواريخهم في الجاهلية، ويقال انه دام أربعين سنة. وكان
بين عبس وذبيان.
وداحس والغبراء: فرسان، وسمي اليوم بهما لما انه كان يسببهما، انظر
العقد الفريد 3/ 313- 314.
[14] كان يوم شعب جبلة لعامر وعبس على دبيان، وكان- فيما يقول أبو
عبيدة- قبل الإسلام بأربعين سنة (وشعب جبلة: هضبة حمراء بنجد) . العقد
الفريد 3/ 307- 310، ياقوت (معجم البلدان) .
[15] البله: الغفلة.
[16] بطن عاقل: يوم كان لذبيان على بني عامر، (أو كان بين بني خثعم،
وبني حنظلة) ، ذكر سببه في العقد الفريد 3/ 305- 306، وانظر مجمع
الأمثال 2/ 264.
[17] يوم ذي طار: يوم مشهور كان أيام النبي صلّى الله عليه وسلم، وأثر
عنه انه قال: «انه أول يوم
(7/622)
المعرفة ذو افتقار، أو ناضل بيوم الكديد
[1] ، فسهمه غير السديد، انما كان مقاما غير معتاد، ومرعى نفوس لم يف
بوصفه لسان مرتاد [2] وزلزال جبال أوتاد [3] ، ومتلف [4] مذخور لسلطان
الشيطان وعتاد [5] ، أعلم [6] فيه البطل الباسل [7] ، وتورّد الأبيض
الباتر [8] ، وتأوّد الأسمر [9] العاسل [10] ، ودوّم الجلمد [11]
المتكاسل، وانبعث من حدب [12] الحنيّة [13] ، إلى هدف الرّميّة [14] ،
الناشر الناسل [15] ، ورويت لمرسلات السّهام المراسل، ثم أفضى أمر
الرّماح إلى التّشاجر والارتباك، ونشبت الأسنّة في الدّروع نشب السمك
في الشّباك، ثم اختلط المرعيّ بالهمل [16] ، وعزل الرّدينيّ عن العمل،
وعادت السّيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقّت غدر السّوابغ
خلجانا، واتّحدت جداول الدّروع، فصارت بحرا، وكان التّعانق، فلا ترى
إلّا نحرا يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة مناد
إلى فراق الأبد وداع، واستكشفت مآل الصّبر الأنفس الشّفافة [17] ،
وهبّت بريح النّصر الطّلائع المبشّرة الهفّافة [18] ، ثم أمدّ السّيل
ذلك
__________
[ () ] انتصفت فيه العرب من العجم» . وتفصيل اخباره، وأسبابه، مذكورة
في العقد 3/ 374- 378.
[1] كان يوم الكديد لسليم على كنانة، وفيه قتل ربيعة بن مكدم، فارس
كنانة. وانظر العقد الفريد 3/ 326.
[2] المرتاد والرائد: الّذي يتقدم القوم في التماس النجمة واختيار
المرعى الحسن.
[3] أوتاد الأرض: جبالها.
[4] المتلف: المفازة، والقفر، سمي بذلك لانه يتلف سالكه.
[5] العتاد: العدة تعدها لأمر ما.
[6] أعلم الفارس: جعل لنفسه علامة الشجعان، وأعلم نفسه: وسمها بسيما
الحرب.
[7] الباسل: الشجاع.
[8] تورد: احمر. الأبيض الباتر: السيف القاطع.
[9] تأود: أعوج وانثنى. الأسمر: الرمح.
[10] عسل الرمح: اضطرب واحتز، ورمح عاسل: مضطرب لدن.
[11] دوم: تحرك ودار. والجلد: الصخر.
[12] حدب الحنية: تقوسها وانعطافها.
[13] الحنية: القوس، فعيلة بمعنى مفعولة، وأكثر ما تكون حنية عند
توتيرها، والرمي بها.
[14] الرمية: الطريدة التي يرميها الصائد.
[15] الناشر: المهتز. والناسل: المسرع.
[16] هو مثل والمرعى: الإبل التي لها راع، والهمل: الضوال من النعم لا
راعي لها.
[17] أنفس شفافة: فاضلة.
[18] الهفافة: السريعة المرور في هبوبها.
(7/623)
العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص
العزم صفوة اللّباب، وقال لسان النّصر: «ادخلوا عليهم الباب» ، فأصبحت
طوائف الكفّار، حصائد مناجل الشّفار، فمغافرهم قد رضيت حرماتها
بالإخفار [1] ، ورءوسهم محطوطة في غير مقام الاستغفار، وعلت الرّايات
من فوق تلك الأبراج المستطرقة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح
البوار، لولا الانتهاء إلى الحدّ والمقدار، والوقوف عند اختفاء سرّ
الأقدار.
ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيّقنا حصرها، وأدرنا
بلآليء القباب البيض خصرها، وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على
فريستها حياما [2] ، وترمي الأدواح ببوارها، وتسلّط النّيران على
أقطارها، فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر، فرأينا
أن نروضها بالاجتثاث [3] والانتساف [4] ، ونوالي على زروعها وربوعها
كرّات رياح الاعتساف، حتّى يتهيأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنّا بفضل
الله إرث نعمتها، ثم كانت من موقفها الإفاضة من [5] بعد نحر النّحور،
وقذف جمار الدّمار على العدوّ المدحور، وتدافعت خلفنا السّيّقات [6]
المتّسقات تدافع أمواج البحور.
وبعد أن ألححنا على جنّاتها المصحرة [7] ، وكرومها المستبحرة إلحاح
الغريم [8] ، وعوّضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها
طائف من ربّنا فأصبحت كالصّريم [9] ، وأغرينا حلاق [10] النّار بجمم
الجميم [11] ، وراكمنا في أحواف
__________
[1] أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وذمامه، والهمزة فيه للازالة، أي أزلت
خفارته.
[2] حام الطائر حول الماء حياما: دوم ودار.
[3] الاجتثاث: انتزاع الشجر من أصوله.
[4] انتساف الزرع: اقتلاعه.
[5] الافاضة: الدفع في السير بكثرة، ولا يكون الا عن تفرق جمع. وفي
«الافاضة» و «البحر» ، و «رمي الجمار» ثورية واضحة بالمعاني الإسلامية
المتعارفة في باب «الحج» .
[6] السيقات: ما استاقه العدو من الدواب، ويقال لما سيق من النهب فطرد،
سيقة.
[7] المتسعة، يقال أصحر المكان: أي اتسع.
[8] الغريم: الّذي له الدين.
[9] الصريم: الليل، وأصبحت كالصريم: احترقت وصارت في مثل سواده،
والإشارة إلى الآية:
«فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ من رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ» 68: 19- 20.
[10] حلاق الشعر: إزالته بالموسى. والكلام على تشبيه إحراق النبات بحلق
شعر الرأس.
[11] الجمم: جمع جمة، وهي الشعر الكثير. والجميم نبت يطول حتى يصير مثل
جمة الشعر.
(7/624)
أجرافها [1] غمائم الدّخان، يذكّر طيبه
البان بيوم الغميم [2] ، وأرسلنا رياح الغارات «لا تذر من شيء أتت عليه
إلّا جعلته كالرّميم» [3] ، واستقبلنا الوادي يهول مدّا، ويروع سيفه
الصّقيل حدا، فيسّره الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرصة بتلك
الفرضة أيدي الانتهاز، وسألنا من سائله أسد بن الفرات [4] فأفتى برجحان
الجواز، فعمّ الاكتساح والاستباح جميع الأحواز [5] فأديل [6] المصون،
وانتهبت القرى، وهدّت الحصون، واجتثت الأصول، وحطّمت الغصون، ولم نرفع
عنها إلى اليوم غارة تصابحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضّاحكة
باليوم العبوس، فهي الآن مجرى السوابق ومجرّ العوالي [7] ، على
التوالي، والحسرات تتجدّد في أطلالها البوالي، وكأن بها قد ضرعت، وإلى
الدعوة المحمّدية أسرعت، بقدرة من لو انزل القرآن على الجبال لخشعت من
خشية الله وتصدعت [8] ، وعزة من أذعنت الجبابرة لعزّه وخضعت، وعدنا
والبنود لا يعرف اللفّ نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التّقطيب
بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى متعلّقة، والألسن بشكر نعم الله منطلقة،
والسّيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسرابيل الدّروع [9] خلقه [10] ،
والجياد من ردّها إلى المرابط والأواري [11] ، ردّ العواري، حنيقة،
وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقة، تنظر إلينا نظر العاتب، وتعود من ميادين
الاختيال والمراح،
__________
[1] الأحواف، جمع حوف وهو الناحية. والأجراف جمع جرف، وهو ما أكل السيل
من أسفل شق الوادي، وعرض الجبل. ويريد الأمكنة الغائرة، والمطمئنة.
[2] الغميم: موضع بين مكة والمدينة. ويوم الغميم: من الأيام التي كانت
بين كنانة وخزاعة سيرة ابن هشام 4/ 34- 35.
[3] الرميم: البالي.
[4] يوري بأسد بن الفرات بن سنان: أبي عبد الله الفقيه المالكي المشهور
(145- 213) على خلاف في المولد والوفاة. وانظر ترتيب المدارك. مخطوطة
دار الكتب 1/ 118، معالم الإيمان 2/ 2- 17، ديباج 98.
[5] الأحواز: ضواحي المدينة وأطرافها.
[6] أديل: أهين.
[7] أجره الرمح: طعنه به وتركه فيه يجره والعالية: أعلى القناة،
والجمع: العوالي. ومجر العوالي: المكان الّذي يقع فيه الإجرار والطعن.
[8] اقتباس من الآية 21 من سورة الحشر.
[9] السرابيل: الدروع، وكل ما لبس فهو سربال.
[10] الخلق: البالي، يقال ثوب خلق، وجبة خلق بالتذكير فيهما. لسان
العرب.
[11] الأواري: جمع آري، وهو مربط الدابة ومحبسها.
ابن خلدون م 40 ج 7
(7/625)
تحت حلل السّلاح، عود الصّبيان إلى
المكاتب، والطّبل بلسان العزّ هادر [1] والعزم إلى منادي العود الحميد
مبادر [2] ، ووجود نوع الرّماح، من بعد ذلك الكفاح نادر، والقاسم يرتّب
بين يديه من السّبي النّوادر، ووارد مناهل الأجور، غير المحلّاء [3] ،
ولا المهجور، غير صادر [4] ، ومناظر الفصل الآتي، عقب أخيه الشّاتي،
على المطلوب المواتي مصادر [5] والله على تيسير الصّعاب، وتخويل المنن
الرّغاب [6] ، قادر، لا إله إلّا هو. فما أجمل لنا صنعه الحفيّ [7] ،
وأكرم بنا لطفه الخفيّ، اللَّهمّ لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلّا
إليك، ولا نلتمس خير الدّنيا والاخرة إلّا لديك، فأعد علينا عوائد
نصرك، يا مبدئ يا معيد، وأعنّا من وسائل شكرك، على ما ينثال به المزيد،
يا حيّ يا قيّوم يا فعّال لما يريد [8] .
وقارنت رسالتكم الميمونة لدينا حذق فتح [9] بعيد صيته [10] مشرئبّ ليته
[11] ، وفخر من فوق النّجوم العواتم [12] مبيته، عجبنا من تأتي أمله
الشّارد، وقلنا: البركة في قدم الوارد، وهو أنّ ملك النّصارى لاطفنا
بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتّماثيل [13] فيها
ببيوت الله قد نصبت أدالها [14] الله- بمحاولتنا- الطيّب من الخبيث،
والتّوحيد من التّثليث، وعاد إليها الإسلام عود الأب الغائب، الى
البنات الحبائب، يسأل عن شئونها، ويمسح دموع الرّقّة من
__________
[1] هادر: يردد صوته.
[2] بادره الأمر: عاجله.
[3] حلأ الماشية عن الماء: صدها وحبسها عن الورود.
[4] الوارد الّذي يرد الماء. والصادر: الّذي رجع من الماء بعد الورود.
[5] مصادر: مراجع، صادرة على كذا: راجعة.
[6] الرغيبة: العطاء الكثير، والأمر مرغوب فيه، والجمع رغاب.
[7] الصنع الحفي: اللطيف.
[8] كذا في الأصل: «يا فعال لما يريد» . والمنادي هنا مما يجب فيه
النصب. فلذلك الأصح: يا فعالا.
[9] حذق الغلام القرآن حذقا: مهر فيه، ويقال لليوم الّذي يختم فيه
القرآن: هذا يوم حذاق، والعادة أن يحتفل بهذا اليوم.
[10] بعيد الصيت، مشتهر الذكر بين الناس.
[11] اشرأب: ارتفع وعلا. والليت بالكسر: صفحة العنق.
[12] النجوم العواتم: التي تظلم من الغبرة التي في السماء، ويكون ذلك
في زمن الجدب، لأن نجوم الشتاء أشد اضاءة لبقاء السماء.
[13] التماثيل: الأصنام.
[14] أدالها الله: أبدلها.
(7/626)
جفونها، وهي للرّوم خطّة خسف [1] قلّما
ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود. والى الله
علينا وعليكم عوارف [2] الجود، وجعلنا في محاريب الشّكر من الرّكّع
السّجود.
عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء
الجزئيات عسير لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوج بعز الملّة الحنيفية
جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر
الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسئولة من المنعم الوهّاب متقاض [3]
، أولى من ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ، وأين يذهب الفضل عن
بيتكم، وهو صفة حيّكم، وتراث ميتكم، ولكم مزيّة القدم، ورسوخ القدم،
والخلافة مقرّها إيوانكم، وأصحاب الامام مالك- رضي الله عنه- مستقرّها
قيروانكم، وهجّير المنابر [4] ذكر إمامكم، والتوحيد إعلامكم، والوقائع
الشّهيرة في الكفر منسوبة الى أيامكم، والصّحابة الكرام فتحة أوطانكم،
وسلالة الفاروق عليه السّلام وشائح سلطانكم [5] ، ونحن نستكثر من بركة
خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيّدات تعريف
أبوابكم.
والله- عزّ وجلّ- يتولّى عنا من شكركم المحتوم، ما قصّر المكتوب منه عن
المكتوم، ويبقيكم لإقامة الرّسوم، ويحلّ محبّتكم من القلوب محلّ
الأرواح من الجسوم، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نعمه
عندكم.
والسّلام الكريم، الطّيب الزكي المبارك البرّ العميم، يخصّكم كثيرا
أثيرا، ما أطلع الصّبح وجها منيرا، بعد أن أرسل النّسيم سفيرا، وكان
الوميض [6] الباسم لأكواس الغمائم [7] ، على أزهار الكمائم [8] ،
مديرا، ورحمة الله وبركاته.
__________
[1] الخطة: الطريقة. والخسف: الذل، وتحميل الإنسان ما يكره.
[2] العوارف: جمع عارفة، وهي العطية.
[3] تقاضاه الدين: قبضه منه.
[4] هجير المنابر: شأنها ودأبها.
[5] يريد أن الحفصيين من سلالة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وقد رأى بعض المؤرخين ذلك.
[6] الوميض: اللامع من البرق لمعا خفيا.
[7] شبه القطرات من الماء تنثرها الغمائم على الزهور، بكئوس الخمر تدار
على الشاربين.
[8] الكمائم: جمع كمامة، وهي غطاء النور وبرعومته.
(7/627)
وكتب إليّ يهنّئني بمولود، ويعاتب على
تأخير الخبر بولادة عنه [1] :
هنيئا أبا الفضل الرضا وأبا زيد ... وأمّنت من بغي يخاف ومن كيد
بطالع يمن طال في السعد شأوه [2] ... فما هو من عمره الرجال ولا زيد
وقيّد بشكر الله أنعمه التي ... أوابدها [3] تأبى سوى الشكر من قيد
أهلا بدري المكاتب [4] ، وصدري المراتب، وعتبى الزّمن [5] العاتب [6]
وبكر المشتري والكاتب [7] ، ومرحبا بالطالع، في أسعد المطالع، والثّاقب
[8] ، في أجلى المراقب، وسهلا بغنيّ البشير، وعزّة الأهل والعشير، وتاج
الفخر الّذي يقصر عنه كسرى وأردشير [9] ، الآن اعتضدت الحلّة الحضرمية
[10] بالفارس، وأمن السّارح [11] في حمى الحارس، وسعدت بالمنير الكبير،
أفلاك التّدوير [12] ، من حلقات المدارس، وقرّت بالجنى الكريم عين
الغارس، واحتقرت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدّارس،
__________
[1] قدم لها ابن الخطيب في ريحانة الكتاب بقوله: ومن ذلك في مخاطبة
صاحب قلم الإنشاء أبي زيد بن خلدون.
[2] الشأو: الشوط والغاية.
[3] جمع آبدة، وهي في الأصل البهيمة توحشت، ونفرت من الانس.
[4] كوكب دري: ثاقب شديد الإنارة، عظيم المقدار.
[5] أعتبه: أزال عتبة، والعتبى: اسم من الإعتاب. وفي المثل: «لك العتبى
ولا أعود» . أي لك مني أن أرضيك، بقوله التائب المعتذر مجمع الأمثال 2/
102.
[6] الزمن العاتب: الغاضب.
[7] كان ابن الخطيب شغوفا بأن يوري في كتابته بمصطلحات العلوم، وهو هنا
ناظر الى ما اصطلح عليه المنجمون من أن القمر إذا اتصل- وهو في البروج
الصاعدة- بالمشتري، وهو كوكب سعد، وبالكاتب- وهو عطارد في عرف أهل
المغرب- دل ذلك على أن المولود ذكر، وأن حظه من العلوم العقلية،
والنقلية كبير.
[8] الثاقب: المرتفع.
[9] هو أردشير بن بابك، أول ملوك الدولة السلسانية (226- 241 م) . وقد
ورد في بعض النسخ، وتاريخ أبي الفداء: «أزدشير» بالزاي. وهو تصحيف
قديم، فقد قال ابن حجر: «وسمعت من يذكره بالزاي» . تاج العروس 2/ 288،
الطبري 2/ 56.
[10] الحلة: البيت، والجمع الحلال. والحضرمية نسبة الى حضرموت، حيث
ينتهي نسب ابن خلدون.
[11] السارح: الّذي يغدو عليك ويروح.
[12] فلك التدوير- لكل كوكب- هو فلك صغير لا يحيط بالأرض، وفيه يكون
مسير الكوكب.
(7/628)
وقيل للمشكلات: طالما ألفت الخمرة [1] ،
وأمضيت على الأذهان الامرة [2] ، فتأهّبي للغارة المبيحة لحماك،
وتحيّزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لماك. وللَّه من نصبة [3] احتفى
فيها المشتري واحتفل، وكفى سنيّ تربيتها وكفل، واختال عطارد في حلل
الجذل لها ورفل، واتّضحت الحدود [4] ، وتهلّلت الوجوه [5] ، وتنافست
المثلّثات [6] تؤمّل الحظّ وترجوه، ونبّه البيت على [7] واجبه، وأشار
لحظ الشّرف [8] بحاجبه، وأسرع نيّر النّوبة [9] في الأوبة [10] ، قائما
في الاعتذار مقام التّوبة، واستأثر بالبروج المولّدة بيت البنين [11] ،
وتخطّت خطا القمر رأس الجوزهر [12] وذنب التّنّين، وساوق منها حكم
الأصل، حذوك النّعل بالنّعل،
__________
[1] الخمرة: الاستتار، والاختفاء.
[2] الإمرة: الإمارة.
[3] النصبة الفلكية: هي الهيئة التي يكون عليها الفلك حين طلب دلالته
على الحوادث.
[4] قسم المنجمون درجات كل برج من البروج الاثني عشر، بين الكواكب
الخمسة المتحيرة، قسمة غير متساوية، وجعلوا كل قسم منها يحص كوكبا من
الكواكب الخمسة، وسموه حد ذلك الكوكب.
[5] وقسموا كذلك كل برج الى ثلاثة أقسام متساوية، وسموا كل قسم منها
وجها، ثم فرقوها على الكواكب المتحيرة، وابتدءوا من برج الحمل، وجعلوا
لكل وجه منها كوكبا من السبعة السيارة، سموه صاحب ذلك الوجه.
[6] البروج الاثنا عشر تنقسم الى أربعة أقسام- بعدد الطبائع الأربع،
وكل ثلاثة بروج منها تتفق في طبعة واحدة من الطبائع الأربع تسمى مثلثة،
فيقال: مثلثة نارية، أو ترابية، أو هوائية، أو مائية، ويختص بكل مثلثة
ثلاثة كواكب من السيارة تسمى أربابها، يكون أحدها صاحب المثلث المقدم
بالنهار، والثاني المقنم بالليل، والثالث شريكهما في الليل والنهار.
ومعنى ذلك أن الكواكب إذا كان في واحد من هذه البروج التي تكون مثلثة،
قيل أنه في مثلثة، أي أنه في وضع له فيه حظ وقوة.
[7] بيت الكوكب: محل أمنه، وصحته، وسلامته، ولكل من النيرين: الشمس
والقمر، بيت واحد.
أما بقية الكواكب الخمسة المتحيرة، فكل واحد منها له بيتان.
[8] شرف الكوكب: محل عزه، وعلوه، وسعادته، ولكل من الكواكب السبعة برج
فيه شرفه، والبرج كله شرف لذلك الكوكب، محل عزه، وعلوه، وسعادته، ولكل
من الكواكب السبعة برج فيه شرفه، والبرج كله شرف لذلك الكوكب، الا أن
أقوى شرفه درجات معينة من ذلك البرج تنسب الى ذلك الكوكب وتختص به،
فيقال حين يحل بها: انه في شرفه.
[9] نير النوبة يكون في الغالب الهيلاج (دليل العمر) ، وهو بالنهار
الشمس، وبالليل القمر.
[10] الأوبة: الرجوع والعودة.
[11] البيت الّذي له دلالة على الأولاد: هو البرج الخامس من البيوت
الاثني عشر والابتداء في العد من البرج الطالع، وهو الواقع على الأفق
الشرقي، ويزعمون أنه كلما كان الخامس أحد البروج الشمالية، دل ذلك على
كثرة النسل.
[12] النقطتان اللتان يتقاطع عليهما فلك البروج مع فلك أي كوكب، تسميان
العقدتين، ونقطة التقاطع الشمالية منهما، يسمونها الجو زهر، ونقطة
الرأس، والتي نقابلها تسمى النوبهر، ونقطة الذنب. والجو زهر الّذي
يقصدونه، والّذي دونوا حركته في التقاويم والأزياج، هو جوزهر القمر
خاصة.
(7/629)
تحويل السّنين [1] ، وحقّق هذا المولود بين
المواليد نسبة عمر الوالد، فتجاوز درجة المئين، واقترن بعاشره [2]
السّعدان [3] اقتران الجسد، وثبت بدقيقة مركزه قلب الأسد، وسرق من بيت
أعدائه [4] خرثيّ [5] الغلّ والحسد، ونظّفت طرق التّسيير [6] ، كما
نفعل بين يدي السادة عند المسير، وسقط الشيخ الهرم من الدّرج في البير،
ودفع المقاتل إلى الوبال [7] الكبير.
لم لا ينال العلا أو يعقد التّاج ... والمشتري طالع والشّمس هيلاج [8]
والسّعد يركض في ميدانها مرحا ... جذلان والفلك الدّوّار هملاج [9]
كأن به- والله يهديه- قد انتقل من مهد التنويم، الى النّهج القويم، ومن
أريكة الذّراع، الى تصريف اليراع [10] ، ومن كتد [11] الدّاية [12] ،
الى مقام الهداية، والغاية المختطفة [13] البداية، جعل الله وقايته
عليه عوذة [14] ، وقسم حسدته قسمة محرّم اللّحم، بين منخنقة [15]
ونطيحة [16] ومتردّية [17]
__________
[1] هو تحصيل الحركة الوسطى للشمس عند حلولها برأس أحد الفصول الأربعة.
ولهم في ذلك طرق حسابية معروفة.
[2] العاشر: هو بين السلطان.
[3] السعدان: المشتري والزهرة، وأكبرهما المشتري.
[4] بيت الأعداء: هو البيت الثاني عشر.
[5] الخرثيّ (بالضم) : أثاث البيت، أو اردأ المتاع.
[6] التسيير: ان ينظركم بين الهلاج (دليل العمر) ، وبين السعد أو
النحس، فيؤخذ لكل درجة سنة، ويقال تصيبه السعادة أو النحس الى كذا وكذا
سنة.
[7] الوبال: هو البرج المقابل لبيت الكوكب، وهو البرج السابع من كل
بيت، ويسمى نظيره، ومقابله، وذلك أن يكون بينهما ستة بروج، وهي نصف
الفلك.
[8] الهيلاج: دليل العمر، والهياليج خمسة: الشمس، والقمر، والطالع،
وسهم السعادة، وجزء الاجتماع والاستقبال. وانما كانت ادلة العمر لأنها
تسير الى السعود والنحوس.
[9] الهملاج: المركب الحسن السير، والمسرع. يقول: لم لا ينال العلا،
وقد اتخذ الفلك مركبا له.
[10] يعني بأريكة الذراع عهد الطفولة. واليراع: القصب، ويريد الأقلام.
[11] الكتد: مجمع الكتفين من الإنسان، وكاهله.
[12] الداية: القابلة.
[13] يريد أنه سيبلغ الغاية في الفضل في الزمن القصير.
[14] العوذة: ما يعلق على الإنسان ليقيه من العين ونحوها.
[15] المنخنقة: الشاة، وغيرها، تخنق بجبل أو غيره.
[16] النطيحة: الشاة تنطحها الأخرى بقرونها، فعيلة بمعنى مفعولة.
[17] المتردية. الساقطة من جبل، أو في بئر.
(7/630)
وموقوذة [1] ، وحفظ هلاله في البدار [2]
الى تمّه وبعد تمّه، وأقرّ به عين أبيه وأمّه. غير أنّي- والله يغفر
لسيدي- بيد أنّي راكع في سبيل الشّكر وساجد، فأنا عاتب وواجد، إذ كان
ظنّي أنّ البريد بهذا الخبر إليّ يعمل، وأنّ إتحافي به لا يهمل،
فانعكست القضيّة، ورابت الحال المرضيّة، وفضلت الأمور الذّاتية الأمور
العرضيّة، والحكم جازم، وأحد الفرضين لازم، إما عدم السّوية [3] ،
ويعارضه اعتناء حبله مغار [4] ، وعهدة سلم لم يدخلها جزية ولا صغار، أو
جهل بمقدار الهبة، ويعارضه علم بمقدار الحقوق، ورضى مناف للعقوق، فوقع
الأشكال، وربّما لطف عذر كان عليه الاتّكال. وإذا لم يبشّر مثلي بمنحة
الله قبل تلك الذّات السرية، الخليقة بالنّعم الحرية، فمن الّذي يبشّر،
وعلى من يعرض بزّها [5] أو ينشر، وهي التي واصلت التّفقّد [6] ، وبهرجت
[7] المعاملة وأبت أن تنقد، وأنّست الغربة وجرحها غير مندمل [8] ،
ونفّست الكربة وجنحها [9] على الجوانح [10] مشتمل، فمتى فرض نسيان
الحقوق لم ينلني فرض، ولا شهد به عليّ سماء ولا أرض، وإن قصّر فيما يجب
لسيدي عمل، لم يقصّر رجاء ولا أمل، ولي في شرح حمده ناقة وجمل [11] .
ومنه جلّ وعلا نسأل أن يريه قرّة العين في نفسه وماله وبنيه، ويجعل
أكبر عطايا الهيالج أصغر سنيه، ويقلّد عواتق [12]
__________
[1] الموقوذة. المقتولة ضربا بالخشب أو بالحجر. وكل هذه الأصناف قد حرم
اكله القرآن على المسلم. وانظر الآية رقم 3 من سورة المائدة، واحكام
القرآن لابن العربيّ 1/ 222، 223.
[2] يدعو له بأن يصاحبه الحفظ في سائر أطوار نموه الى أن يكتمل.
[3] السوية. العدل، والنصفة.
[4] حبل مغار: محكم الفتل.
[5] البز: الثياب.
[6] التفقد: التعرف لاحوال الناس، وتعهدها.
[7] بهرج: عدل عن الطريق المسلوك.
[8] اندمل الجرح. بريء.
[9] الجنح: الظلمة.
[10] الجوانح: الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر.
[11] هو عكس لمعنى المثل: «لا ناقتي في هذا، ولا جملي» ، الّذي يضرب
للتبري من الشيء، الميداني 2/ 113، 114.
[12] العواتق: جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق.
(7/631)
الكواكب البابانية [1] حمائل أمانيه. وإن
تشوّف سيدي لحال وليّه، فخلوة طيبة، ورحمة من جانب الله صيّبة، وبرق
يشام [2] ، فيقال: حدّث ما وراءك يا هشام. وللَّه درّ شيخنا إذ يقول:
لا بارك للَّه في إن لم ... أصرّف النّفس في الأهمّ
وكثّر الله في همومي ... إن كان غير الخلاص همّي
وإن أنعم سيّدي بالإلماع بحاله، وحال الولد المبارك، فذلك من غرر
إحسانه، ومنزلته في لحظ لحظبي بمنزلة إنسانه، والسّلام.
(العودة الى المغرب الأقصى)
ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب [3] ،
كما ذكرت تفاصيله، وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن
مزنى، وهو صاحب زمام رياح، وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في
جباية الزّاب [4] ، وهم يرجعون اليه في الكثير من أمورهم، فلم أشعر
إلّا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب، ووغر صدره [5] ، وصدّق
في ظنونه وتوهّماته، وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التّقوّل
والاختلاق، وجاش صدره بذلك، فكتب إلى ونزمار بن عريف، وليّ السلطان،
وصاحب شواره، يتنفّس الصّعداء من ذلك، فأنهاه إلى السلطان، فاستدعاني
لوقته، وارتحلت من بسكرة
__________
[1] الكواكب الببانيات (أو البابانية) : هي التي لا تنزل الشمس بها،
ولا القمر.
[2] شام البرق: نظر الى سحابته اين تمطر.
[3] هو أبو فارس، عبد العزيز بن أبي الحسن بن أبي سعيد بن يعقوب بن عبد
الحق المريني، بويع سنة 767، وتوفي سنة 774. من ألمع ملوك بني مرين،
أعاد الدولة قوتها وشبابها، وأزال عنها حجر المستبدين، وإلى أبي فارس
هذا أهدى ابن خلدون مقدمته، ولا تزال صيغة الإهداء محفوظة بديباجة
النسخة المطبوعة ببولاق.
[4] بلاد الزاب: منطقة واسعة كانت تشغل المساحة الواقعة في جنوب جبال
أوراس، وتشمل بسكرة، وما حولها. ياقوت (معجم البلدان) .
[5] وغر صدره: امتلأ غيظا وحقدا.
(7/632)
بالأهل والولد، في يوم المولد الكريم سنة
أربع وسبعين وسبعمائة متوجها الى السلطان وكان قد طرقه المرض فما هو
إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط، لقيني هنالك خبر وفاته،
وأنّ ابنه أبا بكر السعيد نصّب بعده للأمر في كفالة الوزير أبي بكر بن
غازي وأنه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذّا السير إلى فاس، وكان على
مليانة يومئذ عليّ بن حسون بن أبي علي الهساطي [1] من قواد السلطان
وموالي بيته، فارتحلت معه إلى أحياء العطاف ونزلنا على أولاد يعقوب بن
موسى من أمرائهم، وبدرني بعضهم إلى حلّة أولاد عريف أمراء سويد، ثم لحق
بنا بعد أيام عليّ بن حسّون في عساكره وارتحلنا جميعا إلى المغرب على
طريق الصحراء، وكان أبو حمّو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه
بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان فاستولى عليها وعلى سائر أعماله، وأوعز
إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله في المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم
من رأس العين [2] مخرج وادي صا [3] ، فاعترضونا هنالك فنجا من نجامّنا
على خيولهم إلى جبل دبدو وانتهبوا جميع ما كان معنا وأرجلوا الكثير من
الفرسان، وكنت فيهم، وبقيت يومئذ في قفره ضاحيا عاريا إلى أن حصلت إلى
العمران ولحقت بأصحابي بجبل دبدو ووقع في خلال ذلك من الألطاف ما لا
يعبّر عنه، ولا يسع الوفاء بشكره. ثم سرنا إلى فاس ووفدت على الوزير
أبي بكر وابن عمّه محمد بن عثمان بفاس في جمادى من السنة، وكان لي معه
قديم صحبة واختصاص منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة، عند
إجازته من الأندلس لطلب ملكه كما مرّ في غير موضع من الكتاب، فلقيني من
برّ الوزير وكرامته وتوفير جرايته وإقطاعه، فوق ما احتسب وأقمت بمكاني
من دولتهم أثير المحل، ثابت [4] الرتبة عظيم الجاه، منوّة المجلس عند
السلطان. ثم انصرم فصل الشتاء وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي وبين
السلطان ابن الأحمر منافرة بسبب ابن الخطيب، وما دعا إليه ابن الأحمر
من إبعاده عنهم، وأنف الوزير من ذلك فأظلم الجو بينهما، وأخذ الوزير في
تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغله به ونزع ابن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اليناطي.
[2] رأس العين يعرف بعين بني مطهر، وهي منابع تقع في شرق مدينة دبدو.
[3] وادي صا، أو زا بقع في جنوب عين البرديل عن يمين وادي ملوية حوالي
51 كلم.
[4] وفي نسخة ثانية: نابه الرتبة.
(7/633)
الأحمر [1] إلى إطلاق عبد الرحمن بن أبي
يفلوسن من ولد السلطان أبي علي، والوزير مسعود بن رحّو [2] بن ماسي كان
حبسهما أيام السلطان عبد العزيز وأشار بذلك ابن الخطيب حين كان في
وزارتهما بالأندلس، فأطلقهما الآن وبعثهما لطلب الملك بالمغرب،
وأجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة [3] فنزلوا بها ولحقوا بقبائل
بطوية هنالك، فاشتملوا عليهم، وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن. ونهض
ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس فنزل على جبل الفتح فحاصره،
وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدعوة بني مرين،
فوجّه لحينه ابن عمه محمد بن عثمان بن الكاس إلى سبتة لإمداد الحامية
الذين لهم بالجبل، ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد
الرحمن، فوجده قد ملك ملك تازي، فأقام عليها يحاصره، وكان السلطان عبد
العزيز قد جمع شبابا من بني أبيه المرشّحين، فحبسهم بطنجة. صاحبه على
ما كان منه، واشتدّ عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسيّ من كفئه،
ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبيّا لم يثغر، فاستعتب له محمد، واستقال
من ذلك، فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة،
وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضا بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير
عبد الرحمن، يفرّج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء.
وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه،
فبادر من وقته إلى طنجة وأخرج السلطان أحمد ابن السلطان أبي سالم من
محبسه، وبايع له وسار به إلى سبتة، وكتب لابن الأحمر يعرّفه بذلك،
ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح، فأمدّه بما شاء من المال
والعسكر واستولى على جبل الفتح وشحنه بحاميته، وكان أحمد ابن السلطان
أبي سالم قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم، على أنّ من صار له الملك
إليه منهم، يجيز الباقين إلى الأندلس، فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم
بعهدهم، وأجازهم جميعا، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر، فأكرم نزلهم
ووفّر جراياتهم. وبلغ الخبر بذلك كلّه إلى الوزير أبي بكر بمكانه من
حصار الأمير عبد الرحمن بتازى، فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمّه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: للإجلاب على الأندلس، فبادر ابن الأحمر.
[2] رحو في اللغة البربرية تعني تصغير عبد الرحمن.
[3] غساسة تقع عند مصب وادي ملوية حيث تقطن قبائل بطوية.
(7/634)
وكرّ [1] راجعا إلى دار الملك، وعسكر بكدية
العرائس من فاس [2] وتوعّد ابن عمّه محمد بن عثمان فاعتذر بأنه امتثل
وصيّته، فاستشاط وتهدّده واتسع الخرق بينهما، وارتحل محمد بن عثمان
بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون [3] المطل على
مكناسة، فعسكر به، واشتملوا عليه، وزحف إليهم الوزير أبو بكر وصعد
الجبل فقاتلوه وهزموه، ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك، وكان السلطان
ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن
والاعتضاد به، ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبدّ به لنفسه،
فراسله محمد ابن عثمان في ذلك، واستدعاه واستمدّه وكان ونزمار بن عريف
وليّ سلفهم قد أظلم الجوّ بينه وبين الوزير أبي بكر، لأنّه سأله وهو
يحاصر تازى في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع، واتهمه بمداخلته
والميل له، فاعتزم على التقبّض عليه، ودسّ إليه بعض عيونه، فركب الليل
ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل، وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن، ومعهم
علي بن عمر الويغلاني كبير بني ورتاجن، كان انتقض على الوزير ابن غازي
ولحق بالسوس [4] . ثم خاض القفر إلى هؤلاء الأحلاف فنزل بينهم مقيما
لدعوة الأمير عبد الرحمن، فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي بكر
وحرّضهم على ما هم فيه، ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم ووزيره
محمد ابن عثمان، وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم. وخرج من تازي
فلقيهم، ونزل بين أحيائهم، ورحلوا جميعا إلى إمداد السلطان أبي العبّاس
حتى انتهوا إلى صفروي [5] . ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا، وتعاقدوا
على شأنهم، وأصبحوا غدا على التعبية، كل من ناحيته.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وفوّض راجعا ولا معنى لها هنا حسب مقتضى السياق.
[2] وفي نسخة ثانية: بكدية العرائس من ظاهرها.
[3] جبل زرهون: بقرب فاس فيه أمّة لا يحصون ويقع على بعد 30 كلم من
مدينة مكناسة الزيتون، وبه مدفن المولى إدريس الأكبر مؤسس الدولة
الإدريسية بالمغرب، وبالجبل تقع مدينة وليلى التاريخية.
[4] السوس: إقليم واسع. يقع في جنوب مدينة مراكش وراء جبال أطلس،
ويتخلله واد عظيم يسمى وادي سوس، تتفرع منه عدة اودية، وحول الوادي
وفروعه مزارع واسعة، بها أشجار ونخيل، وباقليم السوس مدن كبيرة. منها:
تارودانت وتزنيت، وعلى ساحلي البحر المحيط حيث مصب وادي سوس تقع مدينة
اغادير.
[5] وفي نسخة ثانية: صفووى.
(7/635)
وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق،
وولّى منهزما فانحجر بالبلد الجديد [1] ، وخيّم القوم بكدية العرائس
محاصرين له، وذلك أيام عيد الفطر من سنة خمس وسبعين وسبعمائة فحاصروها
ثلاثة أشهر وأخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه، فأذعن
للصلح على خلع الصبيّ المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز، وخروجه
إلى السلطان أبي العباس ابن عمّه، والبيعة له، وكان السلطان أبو
العبّاس والأمير عبد الرحمن قد تعاهدوا عند الاجتماع بوادي النجا على
التعاون والتناصر، على أنّ الملك للسلطان أبي العبّاس بسائر أعمال
المغرب، وأنّ للأمير عبد الرحمن بلد سجلماسة ودرعة [2] والأعمال التي
كانت لجدّه السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن. ثم بدا للأمير عبد
الرحمن في ذلك أيام الحصار، واشتطّ بطلب مراكش وأعمالها فأغضوا له في
ذلك، وشارطوه على ذلك حتى يتمّ لهم الفتح، فلما انعقد ما بين السلطان
أبي العبّاس والوزير أبي بكر، وخرج إليه من البلد الجديد، وخلع سلطانه
الصبيّ المنصوب، ودخل السلطان أبو العبّاس إلى دار الملك فاتح ست
وسبعين وسبعمائة وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذّ السير إلى مراكش، وبدا
للسلطان أبي العبّاس ووزيره محمد بن عثمان في شأنه، فسرّحوا العساكر في
اتباعه، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت فواقفوه ساعة من نهار، ثم أحجموا
عنه، وولّوا على راياتهم، وسار هو إلى مراكش، ورجع عنه وزيره مسعود بن
ماسي بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودّع بها، فسرّحه لذلك،
وسار إلى مراكش فملكها.
وأمّا أنا فكنت مقيما بفاس في ظلّ الدولة وعنايتها، منذ قدمت على
الوزير سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما مرّ، عاكفا على قراءة العلم
وتدريسه، فلمّا جاء السلطان أبو العبّاس والأمير عبد الرحمن وعسكروا
بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم من الفقهاء والكتاب والجند، وأذن
للناس جميعا في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أبا
كرهما معا، وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مرّ
__________
[1] البلد الجديد: تسمّى أيضا المدينة البيضاء، وفاس الجديد، بناها
يعقوب بن عبد الحق المريني على وادي فاس سنة 764.
[2] درعة: وتنطق درا وكذلك تكتب على الخرائط، وهي مقاطعة كبيرة وراء
جبال أطلس شرقي إقليم السوس، تصل حدودها الى البحر المحيط من مدن هذا
الإقليم: ورزازت في السفح الجنوبي لجبال أطلس وسكانها مختلطين من العرب
وبربر صنهاجة. وهذا الإقليم هو الموطن الأصلي لدولة السعديين بالمغرب.
(7/636)
ذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك،
ويكثر من المواعيد، وكان الأمير عبد الرحمن يميل إليّ ويستدعيني أكثر
أوقاته، ويشاورني في أحواله، فغصّ بذلك الوزير محمد بن عثمان وأغرى
سلطانه فتقبّض عليّ. وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك، وعلم أنّي إنّما
أتيت من جرّاه، فحلف ليقوّضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماسي لذلك،
فأطلقني من الغد، ثم كان افتراقهما لثالثة. ودخل الأمير أبو العبّاس
دار الملك، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وكنت أنا يومئذ مستوحشا،
فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل آسفي،
معوّلا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماسي لهواي فيه، فلمّا رجع
مسعود ثني عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف،
لتقدّمه وسيلة إلى السلطان أبي العبّاس صاحب فاس في الجواز إلى
الأندلس، ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس، واستأذنه في
شأني، فأذن لي بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان بن داود بن
أعراب، ورجال الدولة.
وكان الأخ يحيى لمّا رحل السلطان أبو حمّو من تلمسان، رجع عنه من بلاد
زغبة إلى السلطان عبد العزيز، فاستقرّ في خدمته، وبعده في خدمة ابنه
السعيد المنصوب مكانه. ولمّا استولى السلطان أبو العبّاس على البلد
الجديد استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان، فأذن له وقدم على السلطان أبي
حمّو، فأعاده لكتابة سرّه كما كان أوّل أمره، وأذن لي أنا بعده فانطلقت
إلى الأندلس بقصد القرار والدّعة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله
تعالى.
الاجازة الثانية إلى الأندلس ثم إلى تلمسان
واللحاق بأحياء العرب والمقامة عند أولاد عريف
ولما كان ما قصصته من تنكّر السلطان أبي العبّاس صاحب فاس والذهاب مع
الأمير عبد الرحمن، ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف طلبا للوسيلة في
انصرافي إلى الأندلس بقصد الفرار والانقياض، والعكوف على قراءة العلم،
فتمّ ذلك ووقع الإسعاف به بعد الامتناع، وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة
ست وسبعين وسبعمائة ولقيني السلطان بالكرامة وأحسن النزل على عادته،
وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب
(7/637)
السلطان ابن الأحمر من بعد ابن الخطيب
الفقيه أبا عبد الله بن زمرك، ذاهبا إلى فاس في غرض التهنئة، وأجاز إلى
سبتة في أسطوله، وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناطة، فلمّا وصل إلى
فاس، وتحدّث مع أهلي في إجازتهم، تنكّروا لذلك، وساءهم استقراري
بالأندلس، واتّهموا أنّي ربّما أحمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى
الأمير عبد الرحمن الّذي اتّهموني بملابسته، ومنعوا أهلي من اللحاق بي.
وخاطبوا ابن الأحمر في أن يرجّعني إليهم، فأبى من ذلك، فطلبوا منه أن
يجيزني إلى عدوة تلمسان، وكان مسعود بن ماسي قد أذنوا له في اللحاق
بالأندلس، فحملوه مشافهة السلطان بذلك، وأبدوا له انّي كنت ساعيا في
خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأوّل استيلائهم على البلد الجديد
وظفرهم به. وبعث إليه [1] ابن الخطيب مستصرخا به، ومتوسّلا، فخاطبت في
شأنه أهل الدولة، وعوّلت فيه منهم على ونزمار وابن ماسي، فلم تنجح تلك
السعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه، فلمّا قدم ابن ماسي على السلطان ابن
الأحمر وقد أغروه بي فألقى إلى السلطان ما كان منّي في شأن ابن الخطيب،
فاستوحش من ذلك، وأسعفهم بإجازتي إلى العدوة، ونزلت بهنين والجوّ بيني
وبين السلطان أبي حمّو مظلم بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب
كما مرّ. فأوعز بمقامي بهنين، ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني
فبعث عني إلى تلمسان، واستقررت بها بالعبّاد، ولحق بي أهلي وولدي من
فاس، وأقاموا معي وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وسبعمائة وأخذت في
بثّ العلم، وعرض للسلطان أبي حمّو رأي في الزواودة، وحاجة إلى
استئلافهم، فاستدعاني وكلّفني السفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت
منه ونكرته على نفسي لما آثرته من التخلّي والانقطاع، وأجبته إلى ذلك
ظاهرا، وخرجت مسافرا من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات
اليمين إلى منداس ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول [2] فلقوني
بالتحف والكرامة، وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي وولدي بتلمسان،
وأحسنوا العذر إلى السلطان عنّي في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني
بأهلي في قلعة أولاد سلامة [3] من بلاد بني توجين التي صارت لهم بأقطاع
السلطان، فأقمت بها أربعة
__________
[1] الضمير يعود الى ابن خلدون.
[2] جبل كزول: يقع في الجنوب الغربي لمدينة تيارت على بعد 10 كلم.
[3] تسمى هذه القلعة قلعة تاوغزوت في مقاطعة وهران من بلاد الجزائر.
(7/638)
أعوام متخليا عن الشواغل كلّها، وشرعت في
تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدّمة على ذلك النحو
الغريب الّذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسألت فيها شآبيب الكلام
والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها، وتألّفت نتائجها، وكانت من بعد
ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الفيئة الى السلطان أبي العباس بتونس)
ولما نزلت بقلعة ابن سلامة من أحياء أولاد عريف، وسكنت بقصر أبي بكر بن
عريف الّذي اختطّه بها، وكان من أحفل المساكن وأوثقها. ثم طال مقامي
هنالك وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا
الكتاب، وقد فرغت من مقدّمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوّفت
إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت
النكير من حفظي، وأردت التنقيح والتصحيح، ثم طرقني مرض أربى على البنية
لولا ما تدارك من لطف الله، فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي
العبّاس والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي ومساكنهم، وآثارهم وقبورهم،
فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته، والمراجعة، فما كان غير
بعيد، وإذا بخطابه وعهوده بالإذن والاستحثاث للقدوم، فكان الخفوق
للرحلة فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الاجص [1] من بادية رياح، كانوا
هنالك ينتجعون الميرة بمنداس، وارتحلنا في رجب سنة ثمانين وسبعمائة
وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب. ثم صعدت إلى التل مع حاشية
يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار [2] الضيعة التي اختطّها بالزاب، فرحلت
معهم [3] إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة، ومعه صاحبها الأمير
إبراهيم ابن السلطان أبي العبّاس بمخيّمه ومعسكره، فحضرت عنده وقسم لي
من برّه وكرامته فوق الرضى وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة وإقامة أهلي
في كفالة إحسانه، ريثما أصل إلى حضرة أبيه، وبعث يعقوب بن علي معي ابن
أخيه أبي دينار في جماعة من قومه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عرب الأخضر.
[2] فرفار: واحة صغيرة تبعد 33 كلم عن مدينة بسكرة إلى الجنوب الغربي.
[3] وفي نسخة ثانية: فرحلتهم معي.
(7/639)
وسرت إلى السلطان أبي العبّاس وهو يومئذ قد
خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد لاستنزال شيوخها عن كراسي
الفتنة التي كانوا عليها، فوافيته بظاهر سوسة، فحيّا وفادتي برّ مقدمي
وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمّات أموره، ثم ردّني إلى تونس وأوعز
إلى نائبة بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية من الجراية
والعلوفة، وجزيل الإحسان، فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى
ظلّ ظليل من عناية السلطان وحرمته، وبعثت إلى الأهل والولد وجمعت شملهم
في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار، وطالت غيبة السلطان إلى أن
افتتح أمصار الجريد، وذهب فلّهم في النواحي، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول
ببسكرة، ونزل على صهره ابن مزني، وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده،
فأنزل ابنه محمدا المنتصر بتوزر [1] وجعل نفطة ونفزاوة من أعماله،
وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة، وعاد إلى تونس مظفّرا مزهرا، فأقبل عليّ
واستدناني لمجالسته، والنجاء في خلوته، فغصّ بطانته من ذلك، وأفاضوا في
السعايات عند السلطان فلم تنجح، وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ
الفتيا محمد بن عرفة، وكان في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في
المرسي بمجالسة الشيوخ، فكثيرا ما كان يظهر شفوفي [2] عليه، وإن كان
أسنّ مني فاسودّت تلك النكتة في قلبه، ولم تفارقه، ولما قدمت تونس
انثال عليّ طلبة العلم من أصحابه وسواهم يطلبون الإفادة والاشتغال،
وأسعفتهم بذلك، فعظم عليه، وكان يسرّ التنفير إلى الكثير منهم، فلم
يقبلوا، واشتدّت غيرته ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على
شأنهم في التأنيب والسعاية بي، والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك،
وقد كلّفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوّقه إلى المعارف
والأخبار، واقتناء الفضائل فأكملت منه أخبار البربر وزناتة، وكتبت من
أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل اليّ منها، وأكملت منها نسخة
رفعتها إلى خزانته. وكان مما يغرون به السلطان قعودي على امتداحه،
فإنّي كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرّغت للعلم فقط، فكانوا
يقولون له إنّما ترك ذلك استهانة بسلطانك لكثرة امتداحه للملوك قبلك،
وتنسّمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم، فلمّا رفعت له الكتاب
وتوّجته باسمه أنشدت في
__________
[1] نوزر: مدينة واقعة على الحافة الشمالية لشط الجريد بينها وبين نقطة
عشرة فراسخ (معجم البلدان) .
[2] شف عليه شفوفا إذا زاد أو نقص (لسان العرب) وهنا يعني الزيادة.
(7/640)
ذلك اليوم هذه القصيدة امتدحه، وأذكّر سيره
وفتوحاته، واعتذر عن انتحال الشعر واستعطفه بهدية الكتاب إليه فقلت:
هل غير بابك للغريب مؤمّل ... أو عن جنابك للاماني معدل
هي همّة بعثت إليك على النّوى ... عزما كما شحذا لحسام الصّيقل
متبوّأ الدنيا ومنتجع المنى ... والغيث حيث العارض المتهلل
حيث القصور الزاهرات منيفة ... تعنو لها زهر النجوم وتحفل [1]
حيث الخيام البيض ترفع للقرى ... قد فاح في أرجائهنّ المندل [2]
حيث الحمى للعزّ في ساحاته ... ظلّ أفاءته الوشيج الذبّل
حيث الرماح يكاد يورق عودها ... مما تعلّ من الدماء وتنهل
حيث الكرام ينوب عن نار القرى ... عرف الكباء بحيّهم والمندل
حيث الجياد أملن شجعان الوغى ... مما أطالوا في المنار وأوغلوا [3]
حيث الوجوه الغرّ قنعها الحيا ... والبشر في صفحاتها يتهلّل
حيث الملوك الصيد والنّفر الألى ... عزّ الجوار لديهم والمنزل
من شيعة المهديّ بل من شيعة ... التوحيد جاء به الكتاب مفصّل [4]
شادوا على التقوى مباني عزّهم ... للَّه ما شادوا بذاك وأثّلوا
بل شيعة الرحمن ألقى حبّهم ... في خلقه فسموا بذاك وفضّلوا
قوم أبو حفص أب لهم وما ... أدراك والفاروق جدّ أوّل [5]
نسب كما اضطردت أنابيب القنا ... وأتى على تقويمهنّ معدّل
سام على هام الزّمان كأنّه ... للفجر تاج بالبدور مكلّل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تعنى بها زهر النجوم وتحفل.
[2] وفي نسخة ثانية:
حيث الخيام البيض يرفع للعلى ... والمكرمات طرافها المتهدل
[3] وفي نسخة ثانية:
حيث الجياد أملهن بنو الوغى ... ممّا أطالوا في المغار وأوغلوا
[4] وفي نسخة ثانية: يفصّل.
[5] ابو حفص هو عمر بن عبد الله الصنهاجي ويعرف بأزناج وعمر ومزال،
ويذكر ابن خلدون ان نسب الحفصيين ينتهي إلى ثاني الخلفاء الراشدين عمر
بن الخطاب ونقل ذلك عن ابن نخيل وغيره من الموحدين (راجع المجلد السادس
من هذا الكتاب) . ابن خلدون م 41 ج 7
(7/641)
فضل الأنام حديثهم وقديمهم ... ولأنت إن
نصّبوا أعزّوا أفضل
وبنوا على قلل التخوم ووطّدوا ... وبناؤك العالي أشدّ وأطول
ولقد أقول لخائض بحر الغلا ... والليل مدّثر الجوانب أليل [1]
ماض على غول الدّجى لا يتّقي ... منها وذا بله ذبال مشعل
متقلّب فوق الرماح [2] كأنّه ... طيف بأطراف المهاد موكّل
يبغي منال الفوز من طرق الغنى ... ويرود مخصبها الّذي لا يمجل
أرح الرّكاب فقد ظفرت بواهب ... يعطي عطاء المنعمين فيجزل
للَّه من خلق كريم في النّدى ... كالروض حيّاه نديّ مخضوضل
هذا أمير المؤمنين إمامنا ... في الدين والدنيا إليه الموئل
هذا أبو العبّاس خير خليفة ... شهدت له الشّيم التي لا تجهل
مستنصر باللَّه في قهر العدا ... وعلى إعانة ربّه متوكّل
سبق الملوك إلى العلا متمهّلا ... للَّه منك السابق المتمهّل
فلأنت أعلى المالكين وإن غدوا ... يتسابقون إلى العلاء وأكمل
قائس قديما منهم بقديمكم [3] ... فالأمر فيه واضح لا يجهل
دانوا لقومكم بأقوم طاعة ... هي عروة الدين التي لا تفصل
سائل تلمسانا بها وزناتة ... ومرين قبلهم كما قد ينقل
وأسأل بأندلس مدائن ملكها ... تخبرك حين استأنسوا واستأهلوا
وأسأل بذا مرّاكشا وقصورها ... فلقد تجيب رسومها من يسأل
يا أيّها الملك الوفيّ يا ذا الّذي ... ملاء القلوب وفوق ما يتمثّل [4]
للَّه منك مؤيّد عزماته ... تمضي كما يمضي القضاء المرسل
حيث الزمان يحتّ أعظم حتّه [5] ... فافترّ عنه وهو أكلح أعضل
والشّمل من أنبائه متصدّع ... وعلا خلافتهم [6] مضاع مهمل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والليل مزيّد الجوانب أليل
[2] وفي نسخة ثانية: الرّحال.
[3] وفي نسخة ثانية: قائس قديما منكم بقديمهم.
[4] وفي نسخة ثانية: يا أيها الملك الّذي في نعته ملء القلوب وفوق ما
يتمثّل
[5] وفي نسخة ثانية: جئت الزمان بحيث أعضل خطبه، وأعصل مكان أعضل في
الشطر الثاني والأعصل: المعوج والشديد الالتواء. والأعضل: الأشد قبحا.
[6] وفي نسخة ثانية: وحمى خلافته.
(7/642)
والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم ... ورجوا
إصلاح الحال منك وأمّلوا
فعجلته لما انتدبت لأمره ... بالبأس والعزم الّذي لا يمهل
ذلّلت منه جامحا لا ينثني ... سهّلت وعرا كاد لا يتسهّل
وألنت من سوس العتاة وذدتهم ... عن ذلك الحرم الّذي قد حلّلوا
كانت لصولة صولة ولقومه ... يعدو ذؤيب بها وتسطو المعقل
ومهلهل تسدي وتلحم في التي ... ما أحكموها فهي بعد مهلهل
والمراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزة أولاد أبي الليل. وذؤيب هو ابن
عمّه أحمد بن حمزة. والمعقل فريق من العرب من أحلافهم، ومهلهل هم بنو
مهلهل بن قاسم أنظارهم وأقتالهم. ثم رجع إلى وصف العرب وأحيائهم:
عجب الأنام لشأنهم بادون قد ... قذفت بحيّهم المطيّ الذلّل
رفعوا القباب على العماد وعندها ... الجرد السّلاهب والرّماح العسل [1]
في كلّ طامي الرب منعقد الحصا [2] ... تهدي للجّته الظماء فتنهل
حيّ شرابهم السراب ورزقهم ... ريح يروح به الكميّ ومنصل [3]
حيّ حلول بالعراء ودونهم ... قذف النّوى إن يظعنوا أو يقبلوا
كانوا يروعون الملوك بما بدوا ... وغدت ترفّه بالنعيم وتخضل
فبدوت لا تلوي على دعة ولا ... تأوي إلى ظلّ القصور وتهزل [4]
طورا يصافحك الهجير وتارة ... فيه بخفّاق البنود تظلّل
وإذا تعاطى الضمر في يوم الوغى [5] ... كأس النجيع فبالصّهيل تعلّل
مخشوشنا في العزّ معتملا له ... في مثل هذا يحسن المستعمل
تفري حشى البيداء لا يسري بها ... ركب ولا يهوي إليه جحفل
وتجرّ أذيال الكتائب فوقها ... تختال في السّمر الطوال وترفل
__________
[1] السلاهب: ج سلهب. وسلاهبة: الطويل. والعسل: ذو العمل الصالح يستحلى
الثناء عليه وهي جمع عاسل.
[2] وفي نسخة ثانية: في كل ظامي الترب متّقد الحصى.
[3] وفي نسخة ثانية: جنّ شرابهم السراب ورزقهم رمح يروح به الكميّ
ومنصل
[4] وفي نسخة ثانية: تأوي الى ظلل القصور تهدّل.
[5] وفي نسخة ثانية: وإذا تعاطي خمرا يوم الوغى.
(7/643)
ترميهم منها بكلّ مدجّج ... شاكي السلاح
إذا استعار الأعزل
وبكل أسمر غصنه متأوّد ... وبكل أبيض شطّه متهدّل
حتى تفرّق ذلك الجمع الألى ... عصفت بهم ريح الجلاء فزلزلوا
ثم استملتهم بنعمتك [1] التي ... خضعوا لعزّك بعدها وتذلّلوا
ونزعت من أهل الجريد غواية ... وقطعت من أسبابها ما أوصلوا
خرّبت من بنيانها ما شيّدوا ... وقطعت من أسبابها ما أصّلوا
ونظمت من أمصاره وثغوره ... للملك عقدا بالفتوح يفصّل
فسددت مطّلع النفاق وأنت لا ... تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل
بشكيمة مرهوبة وسياسة ... تجري كما يجري فرات سلسل
عذب الزمان لها ولذّ مذاقه ... من بعد ما قد مرّ منه الحنظل
فضوى الأنام لعزّ أروع مالك ... سهل الخليقة ما جد متفضّل
وتطابقت فيه القلوب على الرضا ... سيّان منها الطفل والمتكهّل
يا مالكا وسع الزمان وأهله ... عدلا وأمنا فوق ما قد أمّلوا
فالأرض لا يخشى بها غول ولا ... يعدو بساحتها الهزبر المشبل
والسّرب يجتابون كل تنوفة ... سرب القطا ما راعهنّ الأجدل [2]
سبحان من بعلاك قد أحيا المنى ... وأعاد حليّ الجيد وهو معطّل
سبحان من بهداك أوضح للورى ... قصد السبيل فأبصر المتأمّل
فكأنّما الدنيا عروس تجتلى ... فتميس في حلل الجمال وترفل
وكأنّ مطبقة البلاد بعدله ... عادت فسيحا ليس فيها مجهل
وكأنّ أنوار الكواكب ضوعفت ... من نور غرّته التي هي أجمل
وكأنّما رفع الحجاب لناظر ... فرأى الحقيقة في الّذي يتخيّل
ومنها في العذر عن مدحه:
مولاي غاضت فكرتي وتبلّدت ... مني الطّباع فكلّ شيء مشكل
تسمو إلى درك الحقائق همّتي ... فأصد عن إدراكهنّ وأعزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بأنعمك التي.
[2] وفي نسخة ثانية: والسّفر، وتنوفة: القفر من الأرض دون ماء.
والأجدل: الأشقر.
(7/644)
وأجدّ ليلى في امتراء قريحتي [1] ... فتعود
غورا بعد ما تسترسل
فأبيت يختلج [2] الكلام بخاطري ... والنّظم يشرد والقوافي تجفل
وإذا امتريت العفو منه جاهدا ... عاب الجهابذ صنعه واسترذلوا
من بعد حول انتقيه ولم يكن ... في الشّعر لي قول يعاب ويمهل [3]
فأصونه عن أهله متواريا ... أن لا يضمّهم وشعري محفل
وهي البضاعة في القبول نفاقها ... سيّان فيه الفحل والمتطفّل
وبنات فكري إن أتتك كليلة ... زهراء [4] تخطر في القصور وتخطل
فلها الفخار إذا منحت قبولها ... وأنا على ذاك البليغ المقول
ومنها في ذكر الكتاب المؤلف بخزانته:
وإليك من سير الزّمان وأهله ... عبرا يدين بفضلها من يعدل
صحفا تترجم عن أحاديث الاولى ... درجوا [5] فتجمل عنهم وتفصّل
تبدي التبابع والعمالق سرّها ... وثمود قبلهم وعاد الأوّل
والقائمون بملّة الإسلام من ... مضر وبربرهم إذا ما حصّلوا
لخصت كتب الأوّلين بجمعها ... وأتيت أوّلها بما قد أغفلوا
وألنت حوشيّ الكلام كأنّما ... سرد للغات بها لنطقي ذلّل
وجعلته لسوار ملكك مفخرا ... يبهي النديّ به ويزهو المحفل [6]
والله ما أسرفت فيما قلته ... شيئا ولا الاسراف مني يجمل
ولأنت أرسخ في المعالي رتبة ... من أن يموّه عنده متطفّل
فملاك كلّ فضيلة وحقيقة ... الناس تعرف فضلها [7] ان بدّلوا
والحقّ عندك في الأمور مقدّم ... أبدا فماذا يدّعيه المبطل
__________
[1] امتراء القريحة: استدرارها.
[2] وفي نسخة ثانية: يعتلج.
[3] وفي نسخة ثانية: في الشعر حوليّ يعاب ويهمل.
[4] وفي نسخة ثانية: مرهاء، وامرأة مرهاء أي غير مكتحلة.
[5] وفي نسخة ثانية: غبروا.
[6] وفي نسخة ثانية: وجعلته لصوان ملك مفخرا يبأي النديّ به ويزهو
المحفل ويبأي: يفخر.
[7] وفي نسخة ثانية: تعرف وضعها.
(7/645)
والله أعطاك التي لا فوقها ... فاحكم بما
ترضى فأنت الأعدل
أبقاك ربّك للعباد تربّهم ... فاللَّه يخلقهم ورعيك يكفل
وكنت انصرفت من معسكره على سوسة إلى تونس، بلغني وأنا مقيم بها أنّه
أصابه في طريقه مرض، وعقبه برء فخاطبته بهذه القصيدة:
ضحكت وجوه الدهر بعد عبوس ... وتخلّلتنا رحمة من بوس
وتوضّحت غرر البشائر بعد ما ... انبهمت فأطلعها حداة العيس [1]
صدعوا بها ليل الهموم كأنّما ... صدعوا الظلام بجذوة المقبوس
فكأنّهم جنات عدن في الورى [2] ... نشرت لها الآمال من مرموس
قرّت عيون الخلق منها بالتي ... شربوا النّعيم لها بغير كؤوس
يتمايلون من المسرّة والرضا ... ويقابلون أهلّة بشموس
من راكب وافى يحيى راكبا ... وجليس أنس قاده لجليس
ومشفّع للَّه يؤنس عنده ... أثر الهدى في المعهد المأنوس
يعتدّ منها رحمة قدسيّة ... فيبوء للرحمن بالتقديس
طبّ بإخلاص الدّعاء وإنّه ... يشفي من الداء العيا والبوس [3]
والمعنيّ به إمام الجامع الأعظم، جامع الزيتونة بتونس.
يا ابن الخلافة [4] والذين بنورهم ... نهجت سبيل الحقّ بعد دروس
والناصر الدين القويم بعزمه ... طردت إمامتها بغير عكوس [5]
هجر المنى فيها ولذّات المنى ... في لذّة التهجير والتّغليس [6]
حاط الرياضة بالسياسة فانطوت [7] ... منه لا كرم مالك وسيوس
__________
[1] العيس: الواحد: اعيس، والواحدة: عيساء: الإبل البيض يخالط بياضها
سواد خفيف- كرام الإبل.
[2] وفي نسخة ثانية: فكأنهم بثوا حياة في الورى.
[3] البؤس: أي البؤس الشقاء وفي نسخة ثانية: يشفي من الداء العياء
ويوسي.
[4] وفي نسخة ثانية: يا ابن الخلائف.
[5] وفي نسخة ثانية: طرد استقامتها بغير عكوس.
[6] التهجير: التكبير الى الصلاة وفي الحديث: لو يعلم الناس ما في
التهجير لاستبقوا إليه، والتفليس: السير الى صلاة الصبح عند ظلمة آخر
الليل.
[7] وفي نسخة ثانية: حاط الرعية بالسياسة فانضوت.
(7/646)
أسد يحامي عن حمى أشباله ... حتى ضووا منه
لأمنع خيس [1]
قسما بموشيّ البطاح وقد غدت ... تختال زهوا في ثياب عروس
والماثلات من الحنايا. جثّما ... بالبيد من طسم وفل جديس
وخز البلى منها الغوارب والذّرى ... فلفتن حذرا بالعيون الشوس
لبقاك حرز للأنام وعصمة ... وحياة أرواح لنا ونفوس
ولأنت كافل ديننا بحماية ... لولاك ضيّع عهدها وتنوسي
الله أعطاك التي لا فوقها ... وحباك حظّا بالموكوس [2]
تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا ... سيّان من رأس ومن مرءوس
فإذا أقمت فإنّ رعبك راحل ... يحمي على الأعداء كلّ وطيس
وإذا رحلت فالسعادة آية ... تقتادها في موكب وخميس
وإذا الأدلّة في الكمال تطابقت ... جاءت بمسموع لها ومقيس
فأنعم بملكك دولة عاديّة ... تشقي الأعادي بالعذاب البئيس [3]
وإليكها منّي على خجل بها ... عذراء قد حليت بكلّ نفيس
عذراك قد طمس الشباب ونوره ... وأضاء صبح الشّيب عند طموس
لولا عنايتك التي أوليتني ... ما كنت أعني بعدها بطروس [4]
والله ما أبقت ممارسة النّوى ... منّي سوى رسم أمرّ دريس [5]
أنحى الزمان عليّ في الأدب الّذي ... دارسته بمجامع ودروس
فسطا على فرعي [6] وروّع مأمني ... واجتثّ من دوح النشاط غروسي
ورضاك رحمتي التي أعتدّها ... تحيي منى نفسي وتذهب بؤسي
ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وابن عرفة يزيد في
إغرائهم متى اجتمعوا إليه، إلى أن أغروا السلطان بسفري معه، ولقّنوا
النائب بتونس القائد
__________
[1] الخيس: ج الخيسة: موضع الأسد.
[2] الموكوس: (مص) مكس. المنقوص.
[3] أي بالعذاب القوي.
[4] الطروس: الصحيفة عموما. الصحيفة التي محيت ثم كتبت (وهنا يعني
الكتب) .
[5] وفي نسخة ثانية: سوى حرس أحمّ وريس. والمرس: الحبل والأحم: الأسود
والدريس: الخلق.
[6] وفي نسخة ثانية: فسطا على وفري.
(7/647)
فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامي
معه خشية على أمره مني بزعمه، وتواطئوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك
للسلطان حتى شهد به في غيلة مني ونكر السلطان عليهم ذلك، ثم بعث إليّ
وأمرني بالسفر معه، فسارعت إلى الامتثال، وقد شق ذلك عليّ، إلّا أني لم
أجد محيصا، فخرجت معه وانتهيت إلى تبسة، وسط وطن تلول إفريقية، وكان
منحدرا في عسكره وتوابعه من العرب إلى توزر لأنّ ابن يملول أجلب عليها
سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة واستنقذها من يد ابنه، فسار السلطان إليه،
وشرّده عنها، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسة رجّعني إلى
تونس فأقمت بضيعة الرياحين من نواحيها لضمّ زراعتي [1] بها الى أن قفل
السلطان ظافرا منصورا فصحبته إلى تونس.
ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة أجمع السلطان الحركة
إلى الزاب بما كان صاحبه ابن مزني قد آوى ابن يملول إليه ومهّد له في
جواره، فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السنة قبلها، وكان بالمرسى
سفينة لتجّار الإسكندرية قد شحنها التجّار بأمتعتهم وعروضهم، وهي مقلعة
إلى الإسكندرية فتطارحت على السلطان، وتوسّلت إليه في تخلية سبيلي
لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك، وخرجت إلى المرسي والناس متسايلون على
أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودّعتهم وركبت البحر منتصف
شعبان من السنة، وقوّضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرّعت
لتجديد ما كان عندي من آثار العلم، والله وليّ الأمور سبحانه.
(الرحلة الى المشرق وولاية القضاء بمصر)
ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة أقمنا في
البحر نحوا من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر،
ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسي الملك دون
أهله بني قلاوون، وكنا على ترقّب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من
سمّوه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج ولم
يقدّر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أوّل ذي
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لضم زروعي.
(7/648)
العقدة فرأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم،
ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح
القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه،
وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنّة ومدفع
مياه السماء، يسقيهم العلل والنّهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات
ثجّه [1] ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر
بالنعم. وما زلنا نتحدّث بهذا البلد وبعد مداه في العمران، واتساع
الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم
وتاجرهم في الحديث عنه، سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء
بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت
له: كيف هذه القاهرة؟
فقال: من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام.
وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال:
كأنما انطلق أهله من السحاب [2] يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب.
وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس
السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته
النبويّة [3] إلى الضريح الكريم سنة ست وخمسين وسبعمائة فسألته عن
القاهرة فقال.
أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إنّ الّذي يتخيّله الإنسان
فإنّما يراه دون الصورة التي تخيّلها الاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا
القاهرة، فإنّها أوسع من كل ما يتخيّل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون
لذلك.
ولما دخلتها أقمت أياما وانثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع
قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها.
ثم كان الاتصال بالسلطان فأبرّ مقامي وآنس الغربة، ووفّر الجراية من
صدقاته شأنه
__________
[1] الثج: الصب الكثير.
[2] وفي نسخة ثانية الحساب وهي الأصح وبذلك يقول المقريزي في خططته:
«قال شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل
مصر كأنما فرقوا من الحساب» الخطط 1/ 79 طبع مصر 1324 هـ.
[3] الرسالة النبويّة اعتادوا كتابتها في مناسبات عديدة، كان يبعثون
بها الى قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بواسطة رسول خاص الى الروضة
الشريفة حيث تقرأ قرب القبر النبوي الكريم وفي نفح الطيب أمثلة عديدة
لهذه الرسائل.
(7/649)
مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من
تونس، وقد صدّهم السلطان هنالك عن السفر اغتباطا بعودي إليه فطلبت من
السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه لتخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصّه
[1] .
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [2] . 1: 1 عبد الله ووليّه أخوه
برقوق [3] [......] [4] .
السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السّيد الأجلّ، العالم العادل،
المؤيّد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفّر، الشّاهنشاه، سيف الدّنيا
والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف
المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، إسكندر
الزّمان، مولى الإحسان، مملّك أصحاب التخوت والأسرّة والتّيجان، واهب
الأقاليم والأقطار، مبيد الطّغاة والبغاة والكفّار، ملك البحرين، مسلك
سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشّريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم
بسنّته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمّن الأرض المحيطة، سيّد الملوك
والسلاطين، قسيم [5] أمير المؤمنين [6] ، أبو سعيد برقوق ابن الشّهيد
شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس [7] . خلّد الله سلطانه، ونصر
__________
[1] سقط نص هذه الرسالة في أكثر النسخ. وقد أضفنا من نسخة بولاق
المصرية طبعة دار الكتاب اللبناني حتى لا يفوتنا شيء من هذا الكتاب.
[2] حافظت في هذه الرسالة على الطريقة الرسمية التي كانت متبعة في ذلك
العهد، والتي يقول عنها القلقشندي في صبح الأعشى (7/ 378) ، في رسم
المكاتبة الى صاحب فاس، وغيره من ملوك المغرب:
« ... وهو أن يكتب بعد البسملة، بحيث يكون تحتها سواء، في الجانب
الأيمن من غير أول السطر مسامتا للبسملة، وهي: السلطان الأعظم إلخ» .
[3] في خطط المقريزي 2/ 211 بولاق: «واما البريد، وخلاص الحقوق
والظلامات، فإنه (السلطان) يكتب أيضا اسمه، وربما كرم المكتوب اليه،
فكتب اليه: «أخوه فلان، أو والده فلان، وأخوه» .
[4] هذا البياض هو بيت العلامة، وكانت علامة الناصر محمد بن قلاوون:
«الله أملي» ، وعمل ذلك الملوك بعده. خطط المقريزي 2/ 211 بولاق،
والاستقصاء 2/ 72، صبح الأعشى 7/ 378.
[5] القسيم بمعنى القاسم، والمراد أنه قاسم أمير المؤمنين الملك،
وساهمه في الأمر، فصارا فيه مشتركين.
صبح الأعشى 7/ 65، 113.
[6] هو المتوكل على الله، ابو عبد الله محمد بن المعصد الخليفة
العباسي. ولي سنة 763 هـ وامتدت أيامه 45 سنة، حبس فيها وخلع، ومات سنة
808 هـ. «تاريخ الخلفاء» ص 202، 203.
[7] كذا، وهو سيف الدين انز الجركسي العثماني سنة 783 هـ.
(7/650)
جيوشه وأعوانه- يخص الحضرة السّنية
السّرية، المظفّرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم،
العادل المؤيّد، المجاهد الأوحد، أبي العبّاس، ذخر الإسلام والمسلمين،
عدّة الدنيا والدين، قدوة الموحّدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف
جماعة الشاكرين، صلاح الدّول. لا زالت مملكته بقوّته عامرة، ومهابته
لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوّئه غرفات العز في الدنيا والاخرة.
سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح ندّه، ولاح سعده، ووداد زاد وجده،
وجاد جدّه.
امّا بعد حمد الله الّذي جعل القلوب أجنادا مجنّدة، وأسباب الوداد على
البعاد مؤكّدة، ووسائل المحبّة بين الملوك في كلّ يوم مجدّدة، والصلاة
والسلام على سيّدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الّذي نصره الله بالرّعب
مسيرة شهر وأيّده [1] وأعلى به منار الدين وشيّده، وعلى آله وأصحابه
الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبّدة. فإننا نوضّح لعلمه
الكريم، أن الله- وله الحمد- جعل جبلّتنا الشريفة مجبولة على تعظيم
العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر إعلامه، ومحبّة أهله وخدّامه،
وتيسير مقاصدهم، وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرّب إلى الله بذلك
في السّر والعلانية، فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرّة
عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه، لا سيمّا من رزقه الله الدّراية
فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل من سطّرنا
هذه المكاتبة بسببه: المجلس [2] .
السامي، الشّيخي، الأجلّي، الكبيري، العالمي، الفاضلي، الأثيلي،
الأثيري، الإمامي، العلّامي القدوة، المقتدي، الفريدي، المحقّقي،
الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي [3] ، جمال الإسلام والمسلمين، جمال
العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمّة، إمام
الأئمّة، مفيد
__________
[1] يشير الى حديث الصحيحين: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» . (كنوز الحقائق)
للمناوي.
[2] هذا النوع من الحلي والألقاب الخاصة بأرباب الوظائف الدينية، يأتي
في المرتبة الثالثة، فالأولى: درجة «المقر» ، والثانية: درجة «الجناب»
، والثالثة: درجة «المجلس» ، ولكل من الدرجات فروع، و «المجلس السامي»
أحد فروع درجة «المجلس» . وانظر تفصيل القول عن هذه الاستعمالات في صبح
الأعشى 7/ 15، 154- 159.
[3] هذه النسبة الى «ولي الدين» .
(7/651)
الطالبين، خالصة الملوك والسلاطين [1] عبد
الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته، فإنه أولى بالإكرام، وأحرى،
وأحقّ بالرعاية وأجلّ قدرا، وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر
الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رغبة عن بلاده، بل تحبّبا إلينا،
وتقرّبا إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته
الجميلة، ووجدنا منه فوق ما في النفوس، مما يجلّ عن الوصف ويربي على
التعداد. يا له من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب، وما برح- من
حين ورد علينا- يبالغ في شكر الحضرة العليّة، ومدح صفاتها الجميلة، إلى
أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حبّها، وآثرنا المكاتبة إليها.
«والعين تعشق قبل الأذن أحيانا» [2]
وذكر لنا في أثناء ذلك، أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة
العليّة، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته
عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين
السببين الجميلين، وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك، ليكون على
خاطره الكريم، والقصد من محبته، يقدّم أمره العالي بطلب أهل الشيخ وليّ
الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصيّة بهم،
وتجهيزهم إليه مكرّمين، محترمين، على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ
الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكناسي، الواصل بهذه
المكاتبة أعزه الله، ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة للعلية،
مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ورعايتهم،
والتّأكيد عليهم في هذا المعنى، وإذا وصل من بها من البحرية، كان لهم
الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم، ويربي على أملهم، بحيث يهتمّ بذلك
على ما عهد من محبّته، وجميل اعتماده، مع ما يتحف به من مراسلاته،
ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يحرسه بملائكته وآياته، بمنّه ويمنه إن
شاء الله.
__________
[1] اصطلحوا على أن يلحقوا ياء النسب بآخر الألقاب المفردة للمبالغة في
التعظيم، ثم جعلوا النسبة الى نفس صاحب اللقب أرفع رتبة من النسبة الى
شيء خارج عنه. ومن هنا كان «الاجلي» و «القاضوي» ارفع رتبة من
«الجلالي» ، و «القضائي» . صبح الأعشى 6/ 78، 100. ثم ان لهذه الألقاب
دلالات متعارفة خاصة. تولى تحديدها القلقشندي في صبح الأعشى 7/ 20، 73.
[2] عجز بيت لبشار بن برد، وصدره- كما في الأغاني 3/ 19 بولاق:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والاذن......
»
(7/652)
كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ستّ
وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد للَّه وصلواته على سيّدنا
محمّد وآله وصحبه وسلّم.
ثم هلك بعض المدرّسين بمدرسة القمحية [1] بمصر، من وقف صلاح الدّين بن
أيّوب، فولّاني تدريسها مكانه [2] ، وبينا أنا في ذلك، إذ سخط السلطان
قاضي المالكية [3] في دولته، لبعض النّزعات فعزله، وهو رابع أربعة بعدد
المذاهب، يدعى كلّ منهم قاضي القضاة، تمييزا عن الحكّام بالنّيابة
عنهم، لاتّساع خطّة هذا المعمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفع من الخصومات
في جوانبه، وكبير جماعتهم قاضي الشّافعية، لعموم ولايته في الأعمال
شرقا وغربا، وبالصّعيد [4] والفيوم [5] ، واستقلاله بالنّظر في أموال
اليتامى والوصايا، ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديما بالولاية إنّما
كانت تكون له.
فلما عزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة اختصّني السلطان
بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري وشافهته بالتفادي من ذلك،
فأبى إلّا إمضاءه وخلع عليّ بإيوانه وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني
بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إليّ من ذلك
المقام المحمود ووفّيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني
في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة مسوّيا بين الخصمين، آخذا
بحقّ الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين جانحا
إلى التثبّت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل
__________
[1] كان موقع القمحية بجوار العتيق (جامع عمرو) بمصر، وكان موضعها يعرف
بدار الغزل، وهو قيسارية كان يباع فيها الغزل، فهدمها صلاح الدين،
وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية، ورتب فيها مدرسين، وجعل لها
أوقافا كانت ضيعة بالفيوم تغل قمحا كان مدرسوها يتقاسمونه، ولذلك صارت
لا تعرف الا بالمدرسة القمحية. خطط المقريزي 2/ 364 بولاق.
[2] في السلوك في حوادث سنة 786:
«وفي 25 محرم، درّس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، بالمدرسة
القمحية بمصر، عوضا عن علم الدين سلمان البساطي بعد موته، وحضر معه
الأمير الطنبغا الجوباني، والأمير يونس الدوادار، وقضاة القضاة
والأعيان» .
[3] هو جمال الدين عبد الرحمن بن سليمان بن خير المالكي (721- 791) .
[4] كان القدماء يعتبرون مبدأ الصعيد الشمالي من قرب القاهرة، ويمتد
على ضفتي الوادي جنوبا حتى يصل الى أسوان الّذي كان عندهم نهاية الصعيد
الجنوبية، وفيما بين أسوان، واخميم، كان الصعيد الأعلى، ومن اخميم الى
مدينة البهنسا الواقعة على الضفة الغربية لوادي النيل، كان يسمى الصعيد
الأوسط، أما الصعيد الأدنى فكانت بدايته البهنسا، ونهايته في الشمال،
قرب الفسطاط. ياقوت معجم البلدان.
[5] تقع الفيوم المدينة المعروفة، في الجنوب الشرقي لبحيرة قارون، في
الغرب من وادي النيل.
(7/653)
الشهادات، فقد كان البرّ منهم مختلطا
بالفاجر، والطّيب ملتبسا بالخبيث، والحكّام ممسكون عن انتقادهم،
متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل
الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات،
يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير ويقسمون الحظ من الجاه في
تزكيتهم عند القضاء، والتوسّل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير
والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بمرجع العقاب،
ومؤلم النكال وتأدّى لعلمي الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل
الشهادة، وكان منهم كتاب الدواوين للقضاة والتوقيع في مجالسهم،
وتدرّبوا على إملاء الدعاوي وتسجيل الحكومات [1] ، واستخدموا للأمراء
فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك
شفوف [2] على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاة بجاههم يدّرعون [3] به مما
يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم، وقد يسلّط بعض قلمه، على
العقود المحكمة فيوجد السبيل إلى حلّها بوجه فقهيّ أو كتابيّ، ويبادر
إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت
حدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه، فأصبحت خافية الشهرة مجهولة
الأعيان، عرضة للبطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن
اختار فيها بيعا أو تمليكا، شارطوه وأجابوه مفتاتين فيه على الحكّام
الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حماية عن التّلاعب، وفشا من ذلك
الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر [4] في العقود والأملاك.
فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم، ثم التفت إلى أهل
الفتيا بالمذهب، وكان الحكّام منهم على جانب الحيرة لكثرة معارضتهم،
وتلقينهم الخصوم وفتياهم بعد نفوذ الحكم، وإذا فيهم أصاغر، فبينما هم
يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة، ولا يكادون إذا بهم ظهروا إلى مراتب
الفتيا والتدريس، فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، وأجازوها من غير مرتّب
[5] ولا مستند للأهلية، ولا مرشح، إذ
__________
[1] اي الأحكام.
[2] الشفوف: الفضل.
[3] أي يحتمون به.
[4] هنا بمعني الخداع.
[5] وفي نسخة ثانية: فاحتازوها من غير مثرّب. والمثرّب: اللائم.
(7/654)
الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن
مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم
منها رسنا، ويتناول من حافته شقّا، يروم به الفتح [1] على خصمه،
ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاء أمنيته
متتبعا إيّاه في شغب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن
وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذّر وأهلية
المفتي وشهرة الإفتاء عندنا [2] ، فلا يكاد هذا المدى ينحسم [3] ولا
الشغب ينقطع.
فصدعت في ذلك بالحق وكبحت أعنّة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على
أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من
اصطلاحات العلوم هنا وهناك، ولا ينتمون إلى شيخ معروف مشهود، ولا يعرف
لهم كتاب في فنّ اتخذوا الناس هزوا وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض
ومثابة [4] للحرم، فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدا، وحقدوا عليّ، وخلوا
إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه،
ويجترءوا به على الله، وربّما اضطرّ أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون
بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن
التعرّض لأحكام الله بالجهل، فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت حكم الله
فيمن أجازوه، فلم يغنوا عن الله شيئا وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم
التي يمتاحون منها معطّلة، وانطلقوا يواطئون السفهاء من النيل في عرضي،
وسوء الاحدوثة عني بمختلق الافك وقول الزور، ويبثّونه في الناس ويدسّون
إلى السلطان التظلّم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب على الله،
ما منيت به في هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سويّ
من الصرامة وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن
خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والإعراض متى غمزني
لامسها ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه مني ودعوني إلى
متابعتهم فيما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفلج ومعناه الظفر والفوز.
[2] بياض بالأصل وفي طبعة بولاق: وشهرة الفتيا ليس تمييزها للعاميّ.
[3] وفي نسخة ثانية: فلا يكاد هذا المدد ينحسر.
[4] وفي نسخة ثانية: مأبنه: وهو مكان الاتهام بالشر.
(7/655)
يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ومراعاة
الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذّرت،
بناء على أن الحاكم لا يتعيّن عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن
قد تمالئوا عليه.
وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنّبيّ صلّى
الله عليه وسلم يقول: «من قضيت له من حقّ أخيه شيئا فإنّما أقضي له من
النار» .
فأبيت من ذلك كلّه إلا إعطاء العهدة حقّها، والوفاء لها، ولمن
قلّدنيها، فأصبح الجميع عليّ البا [1] ولمن ينادي بالتأفّف مني عونا،
وفي النكير عليّ أمّة، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير
وجه الحق، لاعتمادي على علمي في الجرح، وهي قضية إجماع. وانطلقت
الألسن، وارتفع الصخب وأرادني بعض على الحكم بغرضهم، فتوقفت وأغروا بي
الخصوم، فتنادوا بالتظلّم عند السلطان، فجمع القضاة وأهل الفتياء في
مجلس جعل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز،
وتبيّن أمرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله تعالى إرغاما لهم، فغدوا
على حرد قادرين، ودسّوا الأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم
إهمال جاههم وردّ شفاعاتهم، مموّهين بأنّ الحامل على ذلك جهل المصطلح،
وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليّ، تبعث الحليم وتغري الرشيد،
يستثيرون حفائظهم عليّ ويشربونهم البغضاء إليّ، والله يجازيهم وسائلهم.
فكثر الشغب عليّ من كل جانب، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدولة، ووافق
ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من
الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح
الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن
استشرته خشية من نكير السلطان وسخطه، فتوقّفت بين الورد والصدر على
صراط الرجاء واليأس، وعن قريب تداركني اللطف الربّاني وشملتني نعمة
السلطان أيّده الله في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة
التي لم أطق حملها، ولا عرفت كما زعموا مصطلحها، فردّها إلى صاحبها
الأوّل، وأنشطني من عقالها، فانطلقت حميد
__________
[1] اي يحيكون المكائد له دون علمه.
(7/656)
الأثر مشيّعا من الكافة بالأسد والدّعاء،
وحميد الثّناء، تلحظني العيون بالرحمة وتتناجى الآمال في بالعودة،
ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته وظلّ رضاه وعنايته
بالعافية التي سألها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ربّه، عاكفا على
تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلا من
الله قطع صبابة العمر [1] في العبادة، ومحو عائق السعادة، بفضل الله
ونعمته.
(السفر لقضاء الحج)
ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة، فودّعت
السلطان والأمراء وزودوا وأعانوا فوق الكفاية، وخرجت من القاهرة منتصف
رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة إلى مرسي الطور [2] بالجانب الغربي من
بحر السويس، وركبت البحر من هنالك عاشر الفطر، ووصلنا إلى الينبع [3]
لشهر فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي
الحجّة، فقضيت الفريضة في هذه السنة.
ثم عدت إلى الينبع فأقمت بها خمسين ليلة حتى تهيّأ لنا ركوب البحر، ثم
سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح فما وسعنا إلّا قطع
البحر إلى جانبه الشرقي، ونزلنا بساحل القصير [4] ثم بذرقنا، ثم سرنا
مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص [5] قاعدة الصعيد، فأرحنا بها
أياما، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا،
ودخلتها في جمادى سنة تسعين وسبعمائة وقضيت حقّ السلطان في لقائه،
وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبّل ذلك بقبول حسن، وأقمت
فيما عهدت من رعايته وظلّ إحسانه.
__________
[1] أي بغية العمر.
[2] الطور: مدينة على الساحل الغربي لشبه جزيرة سيناء (معجم البلدان) .
[3] الينبع: من مدن الجزيرة العربية. تقع على الساحل الشرقي من البحر
الأحمر (وما تزال تحتفظ باسمها إلى هذا اليوم) (معجم البلدان) .
[4] القصير: تصغير قصر. وهو مرفأ على الساحل الغربي للبحر الأحمر، تؤمه
السفن التجارية من الجزيرة العربية واليمن بينه وبين قصبة الصعيد خمسة
أيام (معجم البلدان) .
[5] قوص: مدينة واسعة: كانت قصبة صعيد مصر، وكان أهلها أرباب غنى وثروة
واسعة لأنها كانت محط التجار القادمين من عدن، وأكثر تجار عدن من مدينة
قوص (معجم البلدان) .
ابن خلدون م 42 ج 7
(7/657)
وكنت لما نزلت بالينبع لقيت بها الفقيه
الأديب المتفنّن أبا القاسم بن محمد بن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء،
ومنفّق سوق البلاغة، أبي إسحاق إبراهيم الساحليّ المعروف جدّه
بالطّويجن وقد قدم حاجا وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير
العالم كاتب سرّ السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظيّ لديه أبي عبد
الله بن زمرك، خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوّف ويذكّر بعهود الصحبة نصّه:
سلوا البارق النجديّ على عمل نجدي [1] ... تبسّم فاستبكى جفوني من
الوجد
أجاد ربوعي باللّوى، درك [2] اللّوى ... وسحّ به صوب الغمائم من بعدي
ويا زاجر الأظعان وهي ضوامر ... دعوها ترد هيما عطاشا على نجد
ولا تنشّقوا الأنفاس منها مع الصّبا ... فإنّ زفير الشوق من مثلها يعدي
براها الهوى بري القداح وخطّها ... حزون [3] على صفح من القفر ممتدّ
عجبت لها أني تجاذبني الهوى ... وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي
لئن شاقها بين العذيب وبارق ... مياه بفيء الظلّ للّبان والرّند [4]
فما شاقني إلّا بدور خدورها ... وقد لحن يوم النّفر في قضب ملد [5]
فكم في قباب الحيّ من شمس كلّة ... وفي فلك الأزرار من قمر سعد
وكم صارم قد سلّ من لحظ أحور ... وكم ذابل قد هزّ من ناعم القدّ
خذوا الحذر من سكّان رامة إنّها ... ضعيفات كرّ اللحظ تفتك بالأسد
سهام جفون من قسيّ حواجب ... يصاب بها قلب البريّ على عمد
وروض جمال ضاع عرف نسيمه ... وما ضاع غير الورد في صفحة الخدّ
ونرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤا ... فرشّ بماء الورد روضا من الورد
وكم غصن قد عانق الغصن مثله ... وكلّ على كلّ من الشوق يستعدي
قبيح وداع قد جلا لعيوننا ... محاسن من روض الجمال بلا عدّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سلوا البارق النجديّ من علمي نجد.
[2] وفي نسخة ثانية: بورك.
[3] وفي نسخة ثانية: حروفا.
[4] وفي نسخة ثانية: العذيب: ماء لبني تميم. وكذلك بارق. والبان: شجر
يسمو ويطول باستقام، ومنه يستخرج دهن البان. والرند: شجر الغار له
رائحة طيبة ويستخرج منه الدهن أيضا.
[5] الملد: اللين.
(7/658)
رعى الله ليلى لو علمت طريقها ... فرشت
لأخفاف المطيّ بها خدّي
وما شاقني والطيف يرهب أدمعي ... ويسبح في بحر من الليل مزبد
وقد سلّ خفّاق الذوائب بارق ... كما سلّ لمّاع الصّقال من الغمد
وهزّت محلاة يد الشّوق في الدّجى ... فحلّ الّذي أبرمت للصبر من عقدي
وأقلق خفّاق الجوانح نسمة ... تنمّ مع الأصباح خافقة البرد
وهبّ عليل لفّ طيّ بروده ... أحاديث أهداها إلى الغور من نجد [1]
سوى صادح في الأيّك لم يدر ما الهوى ... ولكن دعا مني الشجون على وعد
فهل عند ليلى نعّم الله ليلها ... بأنّ جفوني ما تملّ من السّهد
وليلة إذ وافى الحجيج إلى منى [2] ... وفت لي المنى منها بما شئت من
قصد
فقضيت منها فوق ما أحسب المنى ... وبرد عفاف صانه الله من برد
وليس سوى لحظ خفيّ نجيله ... وشكوى كما ارفضّ الجمان من العقد
غفرت لدهري بعدها كلّ ما جنى ... سوى ما جشى [3] وفد المشيب على فودي
عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي ... وما زال فضل الضّدّ يعرف بالضّد
ومن نام في ليل الشباب ضلالة ... سيوقظه صبح المشيب إلى الرّشد
أما والهوى ما حدت عن سنن الهدى [4] ... ولا جرت في طرق الصّبابة عن
قصد
تجاوزت حدّ العاشقين الأولى مضوا [5] ... وأصبحت في دين الهوى أمّة
وحدي
نسيت وما أنسى وفائي لخلّتي ... وأقفر ربع القلب إلّا من الوجد
إليك أبا زيد شكاة رفعتها ... وما أنت من عمر ولديّ ولا زيد
بعيشك خبّرني وما زلت مفضلا ... أعندك من شوق كمثل الّذي عندي
فكم ثار بي شوق إليك مبرّح ... فظلّت يد الأشواق تقدح من زندي
وصفّق حتى الريح في لمم الرّبى ... وأشفق حتى الطّفل في كبد المهد
يقابلني منك الصّباح بوجنة ... حكى شفقا فيه الحياء الّذي تبدي
__________
[1] هو غور تهامة ما بين ذات عرق في البحر، وكل ما انحدر سبه مغرّبا عن
تهامة فهو غور (معجم البلدان) .
[2] الحجيج: قاصدين بيت الله للحجّ، وهني: موضع في جبل عرفة بجانب مكة.
[3] وفي نسخة ثانية: ما حنى.
[4] وفي نسخة ثانية: أما والهوى ما حلت عن سنن الهوى.
[5] وفي نسخة ثانية:
تجاوزت حدّ العاشقين الألى قضوا ... والعمة في البصيرة كالعمى في البصر
(7/659)
وتوهمني الشمس المنيرة غرّة ... بوجهك صان
الله وجهك عن ردّ
محيّاك أجلى في العيون من الضّحى ... وذكرك أحلى في الشّفاه من الشّهد
وما أنت إلّا الشمس في علو أفقها ... نفدّيك من قرب وتلحظ من بعد
وفي ماغمّة [1] من لا ترى الشّمس عينه ... وما نفع نور الشمس في الأعين
الرّمد
من القوم صانوا المجد صون عيونهم ... كما قد أباحوا المال ينهب للرفد
إذا ازدحموا يوما على الماء أسرة ... فما ازدحموا إلّا على مورد المجد
ومهما أغاروا منجدين صريخهم ... يشبّون نار الحرب في الغور والنّجد
ولم يقتنوا بعد الثناء [2] ذخيرة ... سوى الصّارم المصقول والصافن
النّهد
وما اقتسم الأنفال إلّا ممدّح ... بلاها بأعراف المطهّمة الجرد [3]
أتنسى ولا تنسى ليالينا التي ... خلسنا بها العينين من جنّة الخلد [4]
ركبنا إلى اللّذات في طلق الصّبا ... مطايا الليالي وادعين إلى حدّ
فإن لم ندر فيها الكئوس فإنّنا ... وردنا بها للأنس مستعذب الورد
لقيتك [5] في غرب وأنت رئيسه ... وبابك للأعلام مجتمع الوفد
فآنست حتى ما شكوت بغربة ... وواليت حتى لم أجد مضض الفقد
وعدت لقطري شاكرا ما بلوته ... من الخلق المحمود والحسب العدّ [6]
إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا ... وزرت مزار الغيث في عقب الجهد
ألذّ من النّعمى على حال فاقة ... وأشهى من الوصل الهنيّ على صدّ
ولو ساء أن قوّضت رحلك بالنّوى ... وعوّضت منها بالزّميل وبالوخد [7]
لقد سرّني أن لحت في أفق العلا ... على الطائر الميمون والطالع السّعد
طلعت بأفق الشّرق نجم هداية ... فجئت مع الأنوار فيه على وعد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وفي عمه.
[2] وفي نسخة ثانية: بعد البناء.
[3] المطهمة: البارعة الجمال والجرد: القصيرة الشعر.
[4] وفي نسخة ثانية: خلسن بهنّ العيش في جنة الخلد.
[5] آتيتك.
[6] الحسب العدّ: القديم.
[7] وإن ساءني ان قوّضت رجلك النوى وعوّضت عنّا بالذّميل وبالوخد
والذميل: السير اللين، والوخد الإسراع في المشي أو سعة الخطو.
(7/660)
يمينا بمن تسري المطيّ سراهم [1] ... عليها
سهام قد رمت هدف القصد
إلى بيته كيما تزور معاهدا ... بأنّ بها جبريل عن كرم العهد
لأنت لنا مهما دجا ليل مشكل ... قدحت به للنور وارية الزّند
وحيث استقلّت في ركاب لطيّة ... فأنت تحيي النفس في القرب والبعد
وإني بباب الملك حيث عهدتني ... مذيل [2] ظلال الجاه مستحصف العقد
أجهّز بالإنشاء كلّ كتيبة ... من الكتب والكتّاب في عرضها جندي
نلوذ من المولى الإمام محمّد ... بظل على نهر المبرّة ممتدّ
إذا فاض من يميناه بحر سماحة ... وعمّ به الطوفان في النّجد والوهد
ركبنا إلى الإحسان في سفن الرّجا ... بحور عطاء ليس تزجر عن صدّ [3]
فمن مبلغ الأنصار عني ألوكة ... مغلغلة في الصّدق منجزة الوعد
بآية ما أعطى الخليفة ربّه ... مفاتيح فتح ساقها سائق السّعد
ودونك من روض المحامد نفحة ... تفوق إذا اصطفّ النديّ من الندّ
ثناء يقول المسك إن ذاع عرفه ... أيا لك من ندّ أيا لك من ندّ [4]
وما الماء في جوّ السّحاب مروّقا ... بأظهر ذات منك في كنف المهد
فكيف وقد حلّتك أسرابها الجلا [5] ... وباهت بك الأعلام بالعلم الفرد
وما الطلّ [6] في ثغر من الزّهر باسم ... بأصفى وأذكى من ثنائي ومن
ودّي
ولا البدر معصوما بتاج تمامه ... بأبهر من ودّي وأسير من حمدي
بقيت ابن خلدون إمام هداية ... ولا زلت من دنياك في جنّة الخلد
ووصلها بقوله: سيّدي شيخ الأعلام، كنز رؤساء الإسلام، مشرّف حملة
السّيوف والأقلام، جمال الخواصّ والظهراء، أثير الدول، خالصة الملوك،
مجتبى الخلفاء، سرّ العلاء [7] أوحد الفضلاء، قدوة العلماء، حجّة
البلغاء، أبقاكم الله
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سواهما: وهي ج ساهمة وهي الناقة الضامرة.
[2] وفي نسخة ثانية: مديد، والمستحصف: المستحكم.
[3] وفي نسخة ثانية: تجزر عن قدّ.
[4] الند الاولى: الطيب والند الثانية: القرين، المثل.
[5] وفي نسخة ثانية: الحلي.
[6] الطلّ: الندى.
[7] وفي نسخة ثانية: نيّر أفق العلاء.
(7/661)
بقاء جميلا، يعقد لواء الفخر، ويعلى منار
الفضل، ويرفع عماد المجد، ويوضح معالم السيادة [1] ، ويرسل أشعّة
السعادة، ويفيض أنوار الهداية، ويطلق ألسنة المحامد، وينير [2] أفق
المعارف، ويعذب مورد العناية، ويمتع بعمر النهاية ولا نهاية.
بآي التحيات أفاتحك وقدرك أعلى، ومطلع فضلك أوضح وأجلى، إن قلت تحية
كسرى في الثناء وتبّع، فأثرك لا يقتفي ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا
تبين ولا تبين، وزمزمة نافرها اللسان العربيّ المبين، وهذه جهالة
جهلاء، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الخفاء، وعلى
آثار دمنتها العفاء، وإن كانت التحيّتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع
البريد، ولكن أين يقعان مما أريد.
تحيّة الإسلام أصل في الفخر نسبا. وأوصل بالشرع سببا، فالأولى أن
نحيّيك بما حيّا الله في كتابه رسله وأنبياءه، وحيّت به ملائكته في
جواره أولياءه، فأقول:
السلام عليكم يرسل من رحمة الله غماما ويفتق من الطّروس عن أزهار
المحامد كماما، ويستصحب من البركات ما يكون على التي هي أحسن من ذلك
مقاما، وأجدّد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين المستمدّة من
أنوارها سرج المهتدين. زادها الله صلاحا وعرفها نجاحا يتبع فلاحا،
وأقرّر ما عندي من تعظيم ارتقي كل آونة شرفه، واعتقاد جميل يرفع عن وجه
البدر كلفه، وثناء، أنشر بيدك البيضاء صحفه، وعلى ذلك أيّها السيّد
المالك، فقد تشعبت عليّ في مخاطبتك المسالك، إن أخذت في تقرير فضلك
العميم، ونسبك الصّميم، فو الله ما أدري بأيّ بيعة لفخرك تدفع الظلم،
وفي أيّ بحر من ثنائك يسبح القلم، الأمر جلل، والشّمس تكبر على حلي
وحلل، وإن أخذت في شكاة الفراق، والاستعداء على الأشواق اتّسع المجال،
وحصرت الرويّة والارتجال، فالأولى أن أثرك عذبة اللسان تلعب بها رياح
الأشواق وأسلة اليراع، تخضب مفارق الطّروس بصبيغ الحبر المراق، وغيرك
من تركض في مخاطبته جياد اليراع، في مجال الرقاع، مستولية على أمد
الإبداع والاختراع، فإنما هو بثّ يبكي، وفراق يشكي، فيعلم الله مرضي
[3] عن أن أشافه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السؤدد.
[2] وفي نسخة ثانية: وينشر أفق المعارف.
[3] وفي نسخة ثانية: جرحي.
(7/662)
من أنبائك ثغور البروق البواسم، وأن أحملك
الرّسائل حتى مع سفراء النواسم، وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيّا
الشارق [1] ، ولمح البارق.
ولقد وجّهت إليك جملة من الكتب والقصائد، ولا كالقصيدة الفريدة في
تأبين الجواهر اللائي استأثر بهنّ البحر، قدّس الله أرواحهم، وأعظم
الله أجرك فيهمّ، فإنّها أنافت على مائة وخمسين بيتا، ولا أدري هل
بلغكم ذلك أم غاله الضياع، وغدر وصوله بعد المسافة، والّذي يطرق في سوء
الظنّ بذلك ما صدر في مقابلته منكم. فإنّي على علم من كرم قصدكم، ومن
حين استغربناكم بذلك الأفق الشرقي [2] لم يصلني منكم كتاب، مع علمي
بضياع اثنين منهما بهذا الأفق الغربي (أهـ.) .
وفي الكتاب إشارة إلى أنّه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر،
ويطلب مني رفعها إلى السلطان، وعرضها عليه بحسب الإمكان، وهي على روي
الهمزة ومطلعها:
أمدامع منهلّة أم لؤلؤ ... لمّا استهلّ العارض المتلألئ
وبعث في طيّ الكتاب، واعتذر بأنه استناب في نسخها، فكتبت همزة رويها
ألفا، قال وحقها أن تكتب بالواو لأنها تبدل بالواو وتسهل بين الهمزة
والواو، وحرب الإطلاق أيضا يسوقها، واوا، هذا مقتضى الصناعة، وإن قال
بعض الشيوخ تكتب ألفا على كل حال على لغة من لا يسهل لكنّه ليس بشيء.
وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقيّ لتسهل قراءتها عليهم
ففعلت ذلك، ورفعت النسخة والأصل للسلطان، وقرأها كاتب سرّه ولم يرجع
إليّ منها شيء، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان، فضاعت من
يدي.
وكان في الكتاب فصل عرّفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحّو المستبدّ
بأمر المغرب لذلك العهد، وما جاء به من الانتقاض عليهم، والكفران
لصنيعهم، يقول فيه:
كان مسعود بن رحّو الّذي أقام بالأندلس عشرين عاما يتبثّك النعيم [3]
ويقود الدنيا ويتحيّز العيش والجاه، قد أجيز صحبة ولد عثمان كما تعرفتم
من نسخة كتب إنشائه
__________
[1] الشارق: الشمس.
[2] وفي نسخة ثانية: من كرم قصدكم وحسن عهدكم، ومن حين استقل نيّركم
بذلك الأفق الشرقي.
[3] تبنك بالنعيم: أقام به.
(7/663)
بجبل الفتح لأهل الحضرة، فاستولى على
المملكة، وحصل على الدنيا، وانفرد برياسة دار المغرب لضعف السلطان رحمة
الله. ولم يكن إلّا أن كفرت الحقوق، وحنظلت نخلته السحوق، وشف على سواد
جلدته سواد العقوق، وداخل من سبتة، فانتقضت طاعة أهلها، وظنّوا أنّ
القصبة لا تثبت لهم، وكان قائدها الشيخ الأبهة [1] فلّ الحصار وجلّى
القتال، ومحشّ الحرب أبو زكريا بن شعيب، فثبت للصدمة ونوّر للأندلس،
فبادره المدد من الجبل ومن مالقة، وتوالت الأمداد وخاف أهل البلد، ورجع
شرفاؤه ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم، وجاءهم المدد
أيضا، ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام، ورفع القتال، وفي أثناء ذلك
غدروا ثانية، فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العبّاس لتبادر
القصبة به ويتوجّه منها إلى المغرب لرغبة بني مرين وغيرهم فيه، وهو ولد
السلطان المرحوم أبي سالم الّذي قلّدكم رياسة داره، وأوجب لكم المزية
على أوليائه وأنصاره.
وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه:
والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على
الفاتحة، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو به
النفع عند الله، وقد علمتم أنّ عندي التفسير الّذي أوصله عثمان النجاني
من تأليف الطيبي [2] والسفر الأوّل من تفسير أبي حيّان، وملخّص إعرابه
وكتاب المغني لابن هشام، وسمعت عن براءة تفسير للإمام بهاء الدين ابن
عقيل ووصلت إليّ براءة من كلام أكمل الدين الأشيري رضي الله عن جميعهم،
ولكني لم أصل إلّا للبسملة، وذكر أبو حيّان في صدر تفسيره أنّ شيخه
سليمان النقيب أو أبا سليمان لا أدري الآن صنّف كتابا في البيان في
سفرين جعله مقدّمة لكتاب تفسيره الكبير. فإن أمكن سيّدي توجيهه لا بأس
انتهى.
وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعدّدة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا. ثم
ختم الكتاب بالسلام، وكتب اسمه محمد بن يوسف بن زمرك الصّريحي، وتاريخه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الشيخ البهمة.
[2] هو الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي (توفي 743) له
حاشية قيمة على «الكشاف» في أربع مجلدات ضخمة. وشرع بعدها في جمع كتاب
في التفسير.
(7/664)
العشرون من محرّم سنة تسع وثمانين وسبعمائة
(وكتب إليّ) قاضي الجماعة بغرناطة أبو الحسن علي بن الحسن البنيّ [1] :
الحمد للَّه والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد رسول الله يا
سيّدي وواحدي ودّا وحبّا، ونجيّ الروح بعدا وقربا أبقاكم الله وثوب
سيادتكم سابغ، وقمر سعادتكم كلما أفلت الأقمار بازغ، أسلّم بأثّم
عليكم، وأقرّر بعض ما لديّ من الأشواق إليكم، من حضرة غرناطة مهّدها
الله عن ذلك لكم يتضوّع طيبه وشكر لا يذوى وإن طال الزمان طيبه قد كان
بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلّدتم أمرها، وتحملّتم مرّها،
فتمثّلت بما قاله شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب [2] عند انفصال صاحبه
الشريف أبي القاسم [3] عن خطّة القضاء.
لا مرحبا بالناس أنفارك [4] ... إذ جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها ... ما برحت تعشو إلى نارك
ثم تعرّفت كيفيّة انفصالكم وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيّد هنا
لكم فرددت وقد توهّمت مشاهدتكم هذه الأبيات.
لك الله يا بدر السماحة والبشر ... لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر
ولكنّك استعفيت عنها تورّعا ... وتلك سبيل الصالحين كما تدري
جريت على نهج السلامة في الّذي ... تخيّرته للنشر منك وللحشر [5]
وحق بأنّ العلم ولّاك خطّة ... من العزّ لا تنفك عنها مدى العمر
تزيد على مرّ الجديدين جدّة ... وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري
ومن لاحظ الأحوال وازن بينها ... وكم لذوي الدنيا الدنيّة من خطر [6]
__________
[1] نسبة إلى بنت (معجم البلدان) وقد ضبطها ابن خلدون بضم الباء
وبكسرها.
[2] الجيّاب: هو ابو الحسن علي بن محمد بن سليمان الغرناطي الشهير بابن
الجياب (673- 749) .
[3] هو ابو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الحسني السبتي
المعروف بالشريف الغرناطي (698- 760) .
[4] وفي نسخة ثانية: لا مرحبا بالناشز الفارك.
[5] وفي نسخة ثانية: تخيّرته أبشر بأمنك في الحشر.
[6] وفي نسخة ثانية: ولم ير للدنيا الدنية من خطر.
(7/665)
وأمسى لأنواع الولايات نابذا ... فغير نكير
أن يواجه بالنكر
فيهنيك يهنيك الّذي أنت أهله ... من الزّهد فيها والتوقّي من الوزر
ولا تكترث من حاسديك فإنّهم ... حصى والحصى لا يرتقي مرتقى الدرّ [1]
ومن عامل الأقوام باللَّه مخلصا ... له فيهم نال الجزيل من الأجر
بقيت لرفع المجد تحمي ذماره ... وخار لك الرحمن في كلّ ما يجري [2]
إيه سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم، أطنبتم في كتابكم في الثناء على
السّلطان الّذي أنعم بالاعفاء، والمساعدة على الانفصال عن خطّة القضاء،
واستوهبتم الدعاء له من الأولياء وللَّه درّكم في التنبيه على الإرشاد
إلى ذلكم، فالدعاء له من الواجب فيه استقامة الأمور وصلاح الخاصّة
والجمهور، وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم
بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله، وبلغ كل واحد منكم ما قصده
وأمّله. وأنتم أيضا من أهل العلم والجلالة، والفضل والأصالة، وقد بلغتم
بهذه البلاد الغاية من التنويه، والحظّ الشريف النبيه، لكن أراد الله
سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد العظيمة ظهور، وتحدث بعد الأمور
أمور، وبكل اعتبار، فالزمان بكم حيث كنتم مباه، والمحامد مجموعة لكم
جمع ثناه. ولما وقف على مكتوبكم إليّ مولانا السلطان أبو عبد الله،
أطال الله الثناء على مقاصدكم، وتحقّق جميل [3] ودادكم، وصحيح
اعتقادكم، وعمّر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم، والشكر لما لديكم.
ثم ختم الكتاب بالسّلام من كاتبه عليّ بن عبد الله بن الحسن مؤرّخا
بصفر سنة تسعين وسبعمائة وفي طيّه مدرجة بخطّه وقد قصّر فيها عن
الإجادة نصّها:
سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأظفركم يمناكم بذوائب مناكم أعتذر لكم
عن الكتاب المدرج به هذا غير خطّي فإنّي في ذلك الوقت بحال مرض في
عينيّ، ولكم العافية الوافية، فيسعني سمحكم وربّما كان لديكم تشوّف بما
نزل في هذه المدّة بالمغرب من الهرج أماطه الله، وأمّن بلاد المسلمين.
والموجب أنّ الحصّة الموجّهة في خدمة أميرهم الواثق ظهر له ولوزيره ومن
ساعده على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: البدر.
[2] وفي نسخة ثانية: ما تجزي.
[3] وفي نسخة ثانية: صحيح ودادكم وجميل اعتقادكم.
(7/666)
رأيه إمساكها رهينة، وجعله في القيود إلى
أن يقع الخروج لهم على مدينة سبتة، وكان القائد على هذه الحصّة العلج
المدعو المهنّد، وصاحبه الفتى المدعو نصر الله.
وكثر التردّد في القضية إلى أن أبرز القدر توجيه السلطان أبي العبّاس
تولاه الله، صحبة فرج بن رضوان بحصّة ثانية، وكان ما كان حسبما تلقيتم
من الركبان، هذا ما وسع الوقت من الكلام ثم دعا وختم الكتاب.
وإنما كتبت هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غرض هذا الكتاب المؤلّف لأنّ
فيها تحقيقا لهذه الواقعات، وهي مذكورة في أماكنها، فربّما يحتاج
الناظر إلى تحقيقها من هذا الموضع.
وبعد قضاء الفريضة رجعت إلى القاهرة محفوفا بستر الله ولطفه، ولقيت
السلطان، فتلقّاني أيّده الله بمعهود مبرّته وعنايته وكانت فتنة
الناصريّ بعدها سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. والله يعرّفنا عوارف لطفه،
ويمدّ علينا ظلّ ستره، ويختم لنا بصالح الأعمال، وهذا آخر ما انتهيت
إليه، وقد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب، والله الموفّق
برحمته للصواب، والهادي إلى حسن المآرب، والصلاة والسلام على سيّدنا
ومولانا محمد وعلى آله والأصحاب والحمد للَّه رب العالمين.
(ولاية الدروس والخوانق [1]
أهل هذه الدّولة التركية بمصر والشام معنيّون- على القدم منذ عهد
مواليهم ملوك بني أيّوب- بإنشاء المدارس لتدريس العلم، والخوانق لإقامة
رسوم الفقراء في التّخلّق بآداب الصّوفيّة السّنّية في مطارحة الأذكار،
ونوافل الصّلوات. أخذوا ذلك عمّن قبلهم من الدّول الخلافية، فيختطّون
مبانيها ويقفون الأراضي المغلّة للإنفاق منها على طلبة العلم، ومتدرّبي
الفقراء. وإن استفضل الرّيع شيئا عن ذلك، جعلوه في أعقابهم خوفا على
الذّرّية الضّعاف من العيلة [2] . واقتدى بسنّتهم في ذلك من تحت أيديهم
من أهل الرّئاسة والثّروة، فكثرت لذلك المدارس والخوانق بمدينة
__________
[1] هذا القسم وما يليه. أضفناه إلى طبعتنا هذه من نسخة طبعة بولاق
المصرية دار الكتاب اللبناني.
[2] العيلة (بفتح العين) : الفقر والفاقة.
(7/667)
القاهرة، وأصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء
والصوفية، وكان ذلك من محاسن هذه الدّولة التّركية، وآثارها الجميلة
الخالدة.
وكنت لأوّل قدومي على القاهرة، وحصولي في كفالة السلطان، شغرت مدرسة
بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيّوب، وقفها على المالكيّة يتدارسون بها
الفقه، ووقف عليها أراضي من الفيّوم تغلّ القمح، فسمّيت لذلك القمحيّة،
كما وقف أخرى على الشّافعية هنالك، وتوفي مدرّسها حينئذ، فولّاني
السلطان تدريسها، وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ست وثمانين
وسبعمائة، كما ذكرت ذلك من قبل، وحضرني يوم جلوسي للتّدريس فيها جماعة
من أكابر الأمراء تنويها بذكري، وعناية من السلطان ومنهم بجانبي، وخطبت
يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها بذكر القوم بما يناسبهم،
ويوفي حقّهم، ووصفت المقام، وكان نصّها:
الحمد للَّه الّذي بدأ بالنّعم قبل سؤالها، ووفّق من هداه للشّكر على
منالها، وجعل جزاء المحسنين في محبّته، ففازوا بعظيم نوالها. وعلّم
الإنسان الأسماء والبيان، وما لم يعلم من أمثالها، وميّزه بالعقل الّذي
فضّله على أصناف الموجودات وأجيالها، وهداه لقبول أمانة التّكليف، وحمل
أثقالها. وخلق الجنّ والإنس للعبادة، ففاز منهم بالسّعادة من جدّ في
امتثالها، ويسّر كلّا لما خلق له [1] ، من هداية نفسه أو إضلالها، وفرغ
ربّك من خلقها وخلقها وأرزاقها وآجالها. والصّلاة على سيّدنا ومولانا
محمد نكتة الأكوان وجمالها، والحجّة البالغة للَّه على كمالها، الّذي
رقّاه في أطوار الاصطفاء، وآدم بين الطّين والماء، فجاء خاتم أنبيائها
وأرسلها [2] ، ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميّز حرامها من حلالها،
ورضي لنا الإسلام دينا، فأتمّ علينا النّعمة بإكمالها [3] .
والرّضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها [4] ، وليوث
ملاحمه [5]
__________
[1] يشير الى الحديث: «كل ميسر لما خلق له» ، والّذي رواه الإمام أحمد
في مسندة.
[2] ورد في كلام كثير من علماء المغرب والأندلس، جمع رسول على أرسال.
ولم يرد في معاجم اللغة هذا الجمع. والأصح أن يقول ورسلها.
[3] يشير الى الآية 3 من سورة المائدة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً» 5: 3.
[4] الطلال جمع طلل، وهو أخف المطر.
[5] الملاحم جمع ملحمة، وهي الوقعة العظيمة القتل، وموضع القتال،
والحرب.
(7/668)
المشتهرة وأبطالها. وخير أمة أخرجت للنّاس،
في توسّطها واعتدالها، وظهور الهداية والاستقامة في أحوالها، صلّى الله
عليه وعليهم صلاة تتّصل الخيرات باتّصالها، وتنال البركات من خلالها.
أمّا بعد فإنّ الله سبحانه لما أقرّ هذه الملّة الإسلامية في نصابها،
وشفاها من أدوائها وأوصابها [1] ، وأورث الأرض عباده الصّالحين من أيدي
غصّابها، بعد أن باهلت فارس بتاجها، وعصابها [2] ، وخلت الرّوم إلى
تماثيلها وأنصابها وجعل لها من العلماء حفظة وقوّاما، ونجوما يهتدي بها
التّابع وأعلاما، يقربونها للدّراية تبيانا وإفهاما، ويوسعونها
بالتّدوين ترتيبا وإحكاما، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما.
ثمّ اختار لها الملوك يرفعون عمدها، ويقيمون صغاها [3] بإقامة السّياسة
وأودها، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها،
فكان لها بالعلماء الظّهور والانتشار، والذكر السّيّار، والبركات
المخلّدة والآثار، ولها بالملوك العزّ والفخار، والصّولة التي يلين لها
الجبّار، ويذلّ لعزّة المؤمنين بها الكفّار، وتجلّل وجوه الشّرك معها
الصّغار، ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار، والدّول تحتفل
والأمصار، واللّيل يختلف والنّهار، حتى أظلّت الإسلام دول هذه العصابة
المنصورة من التّرك، الماحين بأنوار أسنّتهم ظلم الضّلالة والشّكّ،
القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك [4] ، المصيبين بسهامهم
النّافذة ثغر الجهالة والشّرك، المظهرين سرّ قوله: «لا تزال طائفة من
أمّتي» [5] فيما يتناولونه من الأخذ والتّرك، ففسحوا خطّة الإسلام،
وقاموا بالدّعوة الخلافيّة أحسن القيام، وبثّوها في أقصى التّخوم من
الحجاز والشّام، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشّريفين ما فضلوا به ملوك
الأنام. واقتعدوا كرسيّ مصر الّذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام، على
قدم الأيّام، فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران، وتجاوبت فيها المدارس
بترجيع
__________
[1] الوصب: الوجع، والمرض، والجمع أوصاب.
[2] العصاب: العمامة.
[3] الصغا: من الإصغاء: اي مال إليه بسمعه.
[4] علائق المين والإفك: أي علائق الكذب.
[5] حديث رواه البخاري في آخر باب «علامة النبوة في الإسلام» ومسلم في
بابي «الامارة،» و «الايمان» .
شرح العيني على «صحيح» البخاري 7/ 579، وشرح النووي على «صحيح» ملم 1/
55، 2/ 206.
(7/669)
المثاني والقرآن وعمّرت المساجد بالصّلوات
والأذان، تكاثر عدد الحصى والشّهبان. وقامت المآذن على قدم الاستغفار
والسّبحان [1] معلنة بشعار الإيمان، وازدان جوّها بالقصر فالقصر
والإيوان فالإيوان. ونظّم دستها بالعزيز، والظّاهر، والأمير،
والسّلطان. فما شئت من ملك يخفق العزّ في إعلامه، وتتوقّد في ليل
المواكب نيران الكواكب من أسنّته وسهامه، ومن أسرة للعلماء تتناول
العلم بوعد الصّادق ولو تعلّق بأعنان السّماء [2] ، وتنير سراجه في
جوانب الشّبه المدلهمّة الظّلماء، ومن قضاة يباهون بالعلم والسّؤدد عند
الانتماء، ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصّماء [3] ، ويفصلون
الخصومات برأي يفرّق بين اللّبن والماء.
ولا كدولة السّلطان الظّاهر، والعزيز القاهر، يعسوب [4] العصائب
والجماهر، ومطلع أنواع العزّ الباهر، ومصرّف الكتائب تزري بالبحر
الزّاخر، وتقوم بالحجة للقسيّ على الأهلّة في المفاخر، سيف الله
المنتضى على العدوّ الكافر، ورحمته المتكفّلة للعباد باللّطف السّاتر،
ربّ التّيجان والأسرّة والمنابر، والأواوين العالية والقصور الأزاهر،
والملك المؤيّد بالبيض البواتر، والرّماح الشّواجر [5] ، والأقلام
المرتضعة أخلاف [6] العزّ في مهود المحابر، والفيض الرّباني الّذي فاق
قدرة القادر، وسبقت به العناية للأواخر. سيّد الملوك والسلاطين، كافل
أمير المؤمنين، أبو سعيد أمدّه الله بالنّصر المصاحب، والسّعد المؤازر،
وعرّفه آثار عنايته في الموارد والمصادر، وأراه حسن العاقبة في الأولى
وسرور المنقلب في الآخر، فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه، وآوى
الملك إلى كنفه العزيز وحزمه، أصاب شاكلة الرّأي عند ما سدّد من سهمه،
وأوقع الرّعايا في ظلّ من أمنه، وعدل من حكمه، وقسم البأس والجود بين
حربه وسلمه، ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله
لأركانها، وشدّ
__________
[1] السبحان: التسبيح.
[2] أعنان السماء: نواحيها، وما اعترض من أقطارها.
[3] اشتمال الصماء ان تجلل جسدك بثوبك نحو شملة الأعراب بأكسبتهم، وهي
ان يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر، ثم يرده
ثانية من خلفه على يده اليمنى، وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.
[4] اليعسوب أمير النحل.
[5] رماح شواجر: مختلفة الطعن.
[6] أخلاف الضرع: أطرافه. والكلام على التشبيه.
(7/670)
بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها، من
بين مصرّف لعنانها، متقدّم القدم على أعيانها، في بساط إيوانها، وربّ
مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها، ولا يذهب الصّواب عن مكانها، ومنفّذ
أحكام يشرق الحقّ في بيانها، ويضوع العدل من أردانها [1] ونجيّ [2]
خلوة في المهم الأعظم من شأنها، وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل [3]
الجرّار، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسّعادة
والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.
ولمّا سبحت في اللّجّ الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث
نهر النّهار ينصبّ من صفحه المشرق، وشجرة الملك التي اعزّ بها الإسلام
تهتزّ في دوحه المعرق، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق،
وينابيع العلوم والفضائل تمدّ وشلنا [4] من فراته المغدق، أو لوني
عناية وتشريفا، وغمروني إحسانا ومعروفا، وأوسعوا بهمتي [5] إيضاحا،
ونكرتي تعريفا، ثمّ أهّلوني للقيام بوظيفة السّادة المالكيّة بهذا
الوقف الشريف، من حسنات السلطان صلاح الدّين أيّوب ملك الجلاد والجهاد،
وماحي آثار التّثليث والرّفض الخبيث من البلاد، ومطهّر القدس الشّريف
من رجس الكفر بعد أن كانت النّواقيس والصّلبان فيه بمكان العقود من
الأجياد. وصاحب الأعمال المتقبّلة يسعى نورها بين يديه في يوم التّناد
[6] ، فأقامني السلطان- أيده الله- لتدريس العلم بهذا المكان، لا
تقدّما على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشّأن، وإني موقن
بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء، وأنا
أرغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتّسعة الفضاء، أن يلمحوا بعين
الارتضاء، ويتغمّدوا بالصّفح والإغضاء، والبضاعة بينهم مزجاة [7] ،
والاعتراف من اللّوم- إن شاء الله- منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة.
والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في
__________
[1] الأردان: الأكمام. وفي الكلام تجوز.
[2] النجي: الشخص الّذي تساره، وفلان نجى فلان، أي يناجيه دون سواه.
[3] الأسل: الرماح وكل حديد رهيف من سيف وسكين.
[4] الوشل: الماء القليل.
[5] البهمة: بهم: الخطة الشديدة.
[6] يوم التناد: يوم ينادي «أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا
عَلَيْنا من الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله» 7: 50. لسان العرب.
[7] بضاعة مزجاة: قليلة.
(7/671)
مدارج القبول أعماله، ويبلّغه في الدّارين
آماله، ويجعل للحسنى والمقرّ الأسنى، منقلبه ومآله، ويديم على السّادة
الأمراء نعمته، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشّمل دولتهم ودولته،
ويمدّ قضاة المسلمين وحكّامهم بالعون والتّسديد، ويمتّعنا بانفساح
آجالهم إلى الأمد البعيد، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم
السّعيد، بمنّه وكرمه.
وانفضّ ذلك المجلس، وقد شيّعتني العيون بالتّجلّة والوقار، وتناجت
النّفوس بالأهلية للمناصب، وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن
سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النّزعات الملوكية، فعزله،
واستدعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه، فتفاديت من ذلك، وأبى إلّا
إمضاءه. وخلع عليّ، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة
الصّالحية [1] في رجب ستّ وثمانين وسبعمائة، فقمت في ذلك المقام
المحمود، ووفّيت عهد الله في إقامة رسوم الحقّ، وتحرّي المعدلة، حتّى
سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدّم
ذكره.
وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس، فمنعهم سلطان تونس من
اللّحاق بي اغتباطا بمكاني، فرغبت من السّلطان أن يشفع عنده في شأنهم،
فأجاب، وكتب إليه بالشّفاعة، فركبوا البحر من تونس في السّفين، فما هو
إلّا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندريّة، فعصفت بهم الرّياح وغرق المركب
بمن فيه، وما فيه، وذهب الموجود والمولود، فعظم الأسف، واختلط الفكر،
وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني، وفرغت لشأني من الاشتغال
بالعلم تدريسا وتأليفا.
ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته [2] بين القصرين، وجعل فيها مدافن
أهله، وعيّن لي فيها تدريس المالكيّة، فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم
مفتتح التّدريس على عادتهم في ذلك ونصّها:
«الحمد للَّه الّذي من على عباده، بنعمة خلقه وإيجاده، وصرّفهم في
أطوار استعباده بين قدره ومراده، وعرّفهم أسرار توحيده، في مظاهر
وجوده، وآثار لطفه في وقائع
__________
[1] نسبة إلى بانيها الملك الصالح نجم الدين أيوب.
[2] هي المدرسة الظاهرية، وتسمى البرقوقية أيضا. عهد في بنائها الى
الأمير جهركس الخليلي، فشرع في بنائها سنة 886، وأنهاها سنة 888.
(7/672)
عباده، وعرضهم على أمانة التّكاليف ليبلوهم
بصادق وعده وإبعاده [1] ، ويسّر كلّا لما خلق له، من هدايته أو إضلاله،
وغيّه أو رشاده، واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النّجدين [2]
لصلاحه أو فساده، وعلّمه ما لم يكن يعلم، من مدارك سمعه وبصره والبيان
عمّا في فؤاده، وجعل منهم أنبياء وملوكا يجاهدون في الله حقّ جهاده،
ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده، ورفع البيوت المقدّسة
بسبحات [3] الذّكر وأوراده.
والصّلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد سيّد البشر من نسل آدم
وأولاده، لا. بل سيّد الثّقلين [4] في العالم من إنسه وجنّه وأرواحه
وأجساده، لا. بل سيّد الملائكة والنّبيّين، الّذي ختم [الله] كمالهم
بكماله وآمادهم بآماده، الّذي شرّف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم
لنور ولاده، وفصّل له الذّكر الحكيم تفصيلا، كذلك ليثبّت من فؤاده [5]
وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل ربّ العالمين، ليكون من المنذرين
لعباده [6] ، فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده [7] وأنزل
عليه النّصر العزيز، وكانت ملائكة السّماء من إمداده، حتّى ظهر نور
الله على رغم من رغم [8] . بإطفائه وإخماده، وكمل الدين الحنيف فلا
تخشى والحمد للَّه غائلة انقطاعه ولا نفاذه، ثمّ أعدّ له من الكرامات
ما أعدّ في معاده، وفضّله بالمقام المحمود في عرصات القيامة بين
أشهاده، وجعل له الشّفاعة فيمن انتظم في امّته، واعتصم بمقاده.
والرّضى عن آله وأصحابه، غيوث رحمته، وليوث إنجاده، من ذوي رحمه
__________
[1] ينظر الى الآية 72 من سورة الأحزاب: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ
عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» . 33: 72
[2] النجدان: طريق الخير، وطريق الشر.
[3] السبحات جمع سبحة، وهي التطوع في الذكر، والصلاة.
[4] الثقلان: الجن والإنس.
[5] يشير الى الآية 32 من سورة الفرقان: «وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ
لِنُثَبِّتَ به فُؤادَكَ» 25: 32.
[6] يشير كذلك الى الآيتين 193، 194 من سورة الشعراء: «نَزَلَ به
الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ من الْمُنْذِرِينَ» 26:
193- 194.
[7] الجلاد: الجهاد.
[8] على رغم من رغم: من أساء، والإشارة الى الآية 32 من سورة التوبة:
«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى الله
إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» 9: 32.
ابن خلدون م 43 ج 7
(7/673)
الطّاهرة وأهل وداده المتزوّدين بالتّقوى
من خير أزواده، والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحقّ وعنادة،
وأراد في الدّين بظلمه وإلحاده، حتّى استقام الميسم [1] في دين الله
وبلاده، وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم، وشعوب الأنام، من عربه
وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده. صلّى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن
باتّصال الخير واعتياده، وتؤهّل لاقتناء الثّواب وزيادة، وسلّم كثيرا،
وعن الأئمّة الأربعة [2] ، علماء السّنة المتّبعة، والفئة المجتباة
المصطنعة، وعن إمامنا من بينهم الّذي حمل الشريعة وبيّنها، وحرّر
مقاصدها الشريفة وعيّنها، وتعرّض في الآفاق منها والمطالع، بين شهبها
اللّوامه، فزيّنها. نكتة الهداية إذا حقّق مناطها، وشرط التّحصيل
والدّراية إذا روعيت أشراطها، وقصد الرّكاب إذا ضربت في طلب العلم
آباطها [3] ، عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة، ومقبس أنوار
النّبوّة من مشكاتها المبينة، الإمام مالك بن أنس. ألحقه الله برضوانه،
وعرّفنا بركة الاقتداء بهداه وعرفانه، وعن سلف المؤمنين والمهتدين،
وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته، ويكفلهم بفضله
ونعمته، وييسّرهم لأسباب السّعادة بآداب دينه وشرعته، ويحملهم في
العناية بأمورهم، والرّعاية لجمهورهم، على مناهج سنّته ولطائف حكمته.
ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته، وهداهم إلى
التّمسّك بكلمته. ثم فضّلهم بما خوّلهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق
التّمكين في الأرض من قدرته، فتسابقوا بالخيرات إلى جزائه ومثوبته،
وذهبوا بالدّرجات العلى في وفور الأجر ومزيّته.
وإنّ مولانا السّلطان الملك الظّاهر، العزيز القاهر، العادل الطّاهر،
القائم بأمور الإسلام عند ما أعيا حملها الأكتاد [4] ، وقطب دائرة
الملك الّذي أطلع الله من
__________
[1] الميسم: الجمال.
[2] هم المجتهدون أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة: (مالك، والشافعيّ،
وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل) .
[3] يشير الى الحديث: «تضرب أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يوجد عالم
أعلم من عالم المدينة» ، وسيأتي له بعد.
[4] جمع كتد، وهو مجتمع الكتفين من الإنسان. ويقال: خرجوا علينا اكتادا
وأكدادا أي فرقا وأرسالا.
(7/674)
حاشيته الأبدال [1] وأنبت الأوتاد [2] ،
ومنفّق أسواق العزّ بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد، رحمة
الله الكافلة للخلق، ويداه المبسوطتان بالأجل والرّزق، وظلّه الواقي
للعباد بما اكتنفهم من العدل والحقّ، قاصم الجبابرة، والمعفّي على آثار
الأعاظم من القياصرة، وذوي التّيجان من التبابعة والأكاسرة، أولي
الأقيال [3] والأساورة [4] ، وحائز قصب السّبق في الملوك عند المناضلة
والمفاخرة، ومفوّض الأمور بإخلاصه إلى وليّ الدنيا والآخرة، مؤيّد كلمة
الموحّدين، ورافع دعائم الدّين، وظهير خلافة المؤمنين، سلطان المسلمين
أبو سعيد. صدّق الله فيما يقتفي من الله ظنونه، وجعل النّصر ظهيره، كما
جعل السّعد قرينه، والعزّ خدينه [5] ، وكان وليّه على القيام بأمور
المسلمين ومعينة، وبلّغ الأمّة في اتّصال أيامه، ودوام سلطانه، ما
يرجونه من الله ويؤمّلونه. لمّا قلّده الله هذا الأمر الّذي استوى له
على كرسيّ الملك، وانتظمت عقود الدّول في لبّات [6] الأيام، وكانت
دولته واسطة السّلك، وجمع له الدين بولاية الحرمين، والدنيا بسلطان
التّرك.
وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال، فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ
والتّرك.
وجمع عليه قلوب العباد. فشهد سرّها بمحبّه الله [له] شهادة خالصة من
الرّيب، بريئة من الشّكّ. حتى استولى من العزّ والملك على المقام الّذي
رضيه وحمده. ثم تاقت نفس إلى ما عند الله، فصرف قصده إليه وأعتمده،
وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة، لا يسأل عليها أجرا ولا يكدّرها
بالمنّة، وأحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الأنس والجنّة، لا، بل
النّسم [7] والأجنّة [8] . ثم آوى الخلق إلى عدله
__________
[1] يوري بالابدال في مصطلح الصوفية، وهم أشخاص سبعة: يسافرون بأرواحهم
من مكان الى اخر، ويتركون جسدهم في موضعهم الأول، بحيث لا يحسّ أحد
بسفرهم. عن «تعريفات» الجرجاني ص 27، و «تعريفات» ابن العربيّ ص 2.
[2] والأوتاد عند الصوفية أيضا: عبارة عن أربعة رجال، منازلهم على
منازل الأربعة الأركان من العالم:
الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، كل واحد منهم مقامه في تلك الجهة. عن
الجرجاني في «التعريفات» ص 27، وابن العربيّ ص 2. ويريد ان الدولة غنية
بالرجال.
[3] جمع قيل وهو، في مملكة حمير، بمنزلة الوزير بالنسبة للملك.
[4] جمع أسوار، وهو الرامي أو الفارس. وعند الفرس القائد وهنا تعني
القوّاد.
[5] الخدين: الحبيب والصاحب للمذكر والمؤنث.
[6] من لبث: لبثا يده: اي لواها. وهنا بمعنى اضطراب الأيام.
[7] النسم: نفس الروح.
[8] الأجنة: ج جنين: المستور من كل شيء. والولد ما دام في الرحم قبل أن
يرى النور.
(7/675)
تصديقا بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى
ظلاله المستجنّة، ونافس في اتخاذ المدارس والرّبط لتعليم الكتاب
والسنّة، وبناء المساجد المقدّسة يبني له بها الله البيوت في الجنّة،
والله لا يضيّع عمل عامل فيما أظهره أو أكنّه.
وإنّ ما أنتجته قرائح همّته وعنايته، وأطلعته آفاق عدله وهدايته، ووضحت
شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته، ونجح مقاصده في الدين وسعايته،
هذا المصنع الشّريف، والهيكل الهمم البشرية ترتيبه ورصفه، لا! بل الكلم
السّحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السّحب ومناولة الشهب مارنه [1]
العزيز وأنفه، وازدهى بلبوس السّعادة والقبول من الله عطفه، إن فاخر
بلاط الوليد، كان له الفخار، أو باهى القصر والإيوان، شهد له المحراب
والمنار، أو ناظر صنعاء وغمدان، قامت بحجّته الآثار. إنما هو بهو ملؤه
دين وإسلام، وقصر عليه تحية وسلام، وفضاء ربّاني ينشأ في جوّه للرّحمة
والسّكينة ظلّة وغمام، وكوكب شرق يضاحك وجه الشّمس منه ثغر بسّام، دفع
إلى تشييد أركانه، ورفع القواعد من بنيانه، سيف دولته الّذي استلّه من
قراب ملكه وانتضاه، وسهمه الّذي عجم عيدان كنانته فارتضاه، وحسام أمره
الّذي صقل فرنده [2] بالعز والعزم وأمضاه، وحاكمه المؤيّد الّذي طالب
غريم الأيام، بالأمل العزيز المرام، فاستوفى دينه واقتضاه، الأمير
الأعزّ الأعلى جهركس [3] الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع. حرسه
الله من خطوب الأيام، وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسّهام،
فقام بالخطو الوساع، لأمره المطاع، وأغرى بها أيدي الإتقان والإبداع.
واختصّها من أصناف الفعلة بالماهر الصّناع، يتناظرون في إجادة الأشكال
منها والأوضاع، ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم
بالامتناع، فكأنّ العبقريّ [4] ، يفري- الفريّ [5] ، أو
__________
[1] المارن: طرف الأنف أو ما لان من طرفه.
[2] فرنده: السيف، جوهر السيف ووشيه وهو ما يرى فيه شبه مدبّ النمل أو
شبه الغبار.
[3] هو الأمير سيف الدين جهركس (ويكتب: جهاركس، وجاركس) بن عبد الله
اليلبغاوي الحليلي، الّذي ينسب اليه «خان الخليلي» المعروف اليوم
بالقاهرة. قتل بظاهر دمشق سنة 891 هـ في الوقعة بين منطاش، والظاهر
برقوق. خطط المقريزي 3/ 152- 153، طبع مصر. وقد ضبط في «المنهل» :
«جاركس» وهو لفظ أعجمي معناه أربعة أنفس.
[4] العبقري نسبة الى «عبقر» ، وهي قرية تسكنها الجن فيما زعموا.
ويقولون إذا تعجبوا من جودة شيء أو غرابته، أو دقة صنعه: هو عبقري، ثم
توسعوا فسموا الرجل، والسيد، والكبير- عبقريا. (لسان العرب) .
[5] يقال هو يفري الفري: إذا عمل عملا فأجاده.
(7/676)
العفاريت، قدمت من أماريت [1] . وكأنما
حشرت الجنّ والشّياطين، أو نشرت القهارمة [2] من الحكماء الأول
والأساطين، جابوا لها الصّخر بالأذواد [3] لا بالواد، واستنزلوا صمّ
الأطواد على مطايا الأعواد، ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد، على بعيد
المهوى من العماد. وغشّوها من الوشي الأزهر، المضاعف الصّدف والمرمر،
ومائع اللّجين الأبيض والذّهب الأحمر، بكلّ مسهّم الحواشي حالي
الأبراد، وقدّروه مساجد للصّلوات والأذكار، ومقاعد للسّبحات [4] بالعشي
والإبكار، ومجالس للتّلاوة والاستغفار، في الآصال والأسحار، وزوايا
للتّخلّي عن ملاحظة الأسماع والأبصار، والتّعرّض للفتوح الرّبّانية
والأنوار، ومدارس لقدح زناد الأفكار، ونتاج المعارف الأبكار، وصوغ
اللّجين والنّضار، في محكّ القرائح والأبصار. تتفجّر ينابيع الحكمة في
رياضه وبستانه، وتتفتّح أبواب الجنّة من غرفه وإيوانه، وتقتاد غرّ
السّوابق من العلوم والحقائق، في طلق [5] ميدانه، ويصعد الكلم الطّيّب
والعمل الصّالح إلى الله من نواحي أركانه، وتوفّر الأجور لغاشيته
محتسبة عند الله في ديوانه، راجحة في ميزانه.
ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعيانا، ومن شيوخ الحقائق
الصّوفية فرسانا، تصفّح لهم أهل مملكته إنسانا إنسانا، وأشد بقدرهم
عناية وإحسانا، ودفعهم إلى وظائفه توسّعا في مذاهب الخير وافتنانا.
وعهد إليهم برياضة المريدين، وإفادة المستفيدين، احتسابا للَّه
وقربانا، وتقيّلا [6] لمذاهب الملوك من قومه واستنانا، ثمّ نظمني معهم
تطولا وامتنانا، ونعمة عظمت موقعا وجلّت شانا، وأنا وإن كنت لقصور
البضاعة، متأخرا عن الجماعة، ولقعود الهمّة، عيالا على هؤلاء الأئمّة،
فسمحهم يغطّي ويلحف، وبمواهب العفو والتّجاوز يمنح ويتحف. وإنما هي
رحمة من مولانا السلطان- أيّده الله- خصّت كما عمّت، ووسمت أغفال
النّكرة والإهمال وسمّت، وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمّت، وقد ينتظم
الدرّ
__________
[1] أماريت: جمع الجمع لمرت: وهي المفازة والقفر لا نبات فيه.
[2] القهارمة: جمع قهرمان، الوكيل أو أمين الدخل والخرج (قاموس) .
[3] الأذواد جمع ذود، وهو الجماعة من الإبل. لا يتجاوز عددها الثلاثين
ولا يقلّ عن الثلاث.
[4] جمع سبحة: وهي التطوع في الدعاء والصلاة.
[5] الطلق: الشوط الواحد في جري الخيل، والغاية التي يجري اليها الفرس
في السباق.
[6] بمعنى من تقيل أباه: أشبهه، وعمل عمله.
(7/677)
مع المرجان، وتلتبس العصائب بالتّيجان،
وتراض المسوّمة [1] العراب [2] على مسابقة الهجان [3] ، والكلّ في نظر
مولانا السلطان وتصريفه، والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه، وقوام
الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوفه، والله يوزعنا شكر معروفه،
ويوفّقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه، ويحمي حماه من غير الدّهر
وصروفه، ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه، ويريه
قرّة العين في نفسه وبنيه، وحاشيته وذويه، وخاصّته ولفيفه، عن الله
وفضله.
ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية [4] ، القائم للسلطان بأمور
مدرسته، وأغروه بصدّي عنها، وقطع أسبابي من ولايتها، ولم يمكن السلطان
إلّا إسعافه فأعرضت عن ذلك، وشغلت بما أنا عليه من التّدريس والتّأليف.
ثمّ خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة للحجّ، واقتضيت إذن السلطان في ذلك
فأسعف، وزوّد هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده، وركبت بحر السويس من
الطّور الى الينبع، ثم صعدت مع المحمل إلى مكّة، فقضيت الفرض عامئذ
وعدت في البحر، فنزلت بساحل القصير، ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر
الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان، وأخبرته بدعائي
له في أماكن الإجابة، وأعادني إلى ما عهدت من كرامته، وتفيّئ ظلّه.
ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش [5] فولّاني إياها بدلا من مدرسته
وجلست للتدريس فيها في محرّم أحد وتسعين وسبعمائة، وقمت ذلك اليوم- على
العادة- بخطبة نصّها:
«الحمد للَّه إجلالا وإعظاما، واعترافا بحقوق النّعم والتزاما،
واقتباسا للمزيد منها
__________
[1] المسومة من الخيل: المرعية، والمعلمة.
[2] العراب من الإبل، والخيل: التي ليس فيها عرق هجين.
[3] الهجان: جمع هجين، وهو الفرس الّذي ليس بعتيق.
[4] الماخورية: من الماخور: ج مواخر ومواخير: مجلس الفسّاق بيت الريبة
والدعارة. وقيل ان هذه الكلمة فارسية الأصل من (خور) وقيل هي عربية من
(مخرت السفينة) لتردّد الناس الى المكان المسمى بها.
[5] كذا في الأصل: «صلغتمش» ، ولعلها كانت تنطق باللام فسجلها ابن
خلدون كما سمعها. والمدرسة الصرغتمشية هذه التي تقع بجوار جامع أحمد بن
طولون، تنسب إلى بانيها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري أمير رأس
نوبة، المتوفى سجينا في الاسكندرية سنة 759، خطط المقريزي 4/ 256- 258
طبع مصر.
(7/678)
واغتناما، وشكرا على الّذي أحسن وتماما،
وسع كلّ شيء رحمة وإنعاما، وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات
واضحة وأعلاما، وصرّف الكائنات في قبضة قدرته ظهورا وخفاء وإيجادا
وإعداما، وأعطى كلّ شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاما، وأودع مقدور
قضائه في مسطور كتابه، فلا يجد محيصا عنه ولا مراما.
والصلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد نبيّ الرّحمة الهامية غماما
[1] والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعا وحطّمت أصناما، والعروة
الوثقى، فاز من اتخذها عصاما [2] ، أول النّبيّين رتبة وآخرهم ختاما،
وسيّدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرّسل إماما، وعلى آله
وأصحابه الذين كانوا ركنا لدعوته وسناما [3] وحربا على عدوّه وسماما
[4] ، وصلوا في مظاهرته جدا واعتزاما، وقطعوا في ذات الله وابتغاء
مرضاته أنسابا وأرحاما، حتى ملئوا الأرض إيمانا وإسلاما، وأوسعوا
الجاحد والمعاند تبكيتا وإرغاما [5] ، فأصبح ثغر الدين بسّاما ووجه
الكفر والباطل عبوسا جهاما. صلّى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء ظلاما،
صلاة ترجّح القبول ميزانا، وتبوّئ عند الله مقاما.
والرضى عن الأئمة الأربعة، الهداة المتّبعة، مصابيح الأمان ومفاتيح
السّنّة الذين أحسنوا بالعلم قياما وكانوا للمتّقين إماما.
أمّا بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والظّهور، والعز
الخالد على الظّهور، وانفساح خطّته في آفاق المعمور، فلم يزل دولة
عظيمة الآثار، غزيرة الأنصار، بعيدة لصّيت عالية المقدار، جامعة-
بمحاسن آدابه وعزّة جنابه- معاني الفخار، منفّقة بضائع علومه في
الأقطار، مفجرة ينابيعها كالبحار، مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق
أضوأ من النهار، ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره،
وفأخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان وأواصره، واعتملت في
إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره، وشاهدا بالكمال لأوّله وآخره.
وإن مولانا السلطان الملك الظّاهر، العزيز القاهر، شرف الأوائل
والأواخر، ورافع
__________
[1] همت السماء: امطرت، والغمام: القطر نفسه.
[2] العصام: رباط كل شيء. من حبل ونحوه.
[3] السنام: المرتفع من الرمل، والجبل، والمراد انه ملجأ.
[4] السمام: جمع سم، وفي حديث عن علي رضي الله عنه: (الدنيا غذاؤها
سمام) .
[5] الجهام: السحاب لا ماء فيه، ويريد: كريها لا خير فيه.
(7/679)
لواء المعالي والمفاخر، ربّ التّيجان
والأسرّة والمنابر، والمجلّي في ميدان السّابقين من الملوك الأكابر، في
الزمن الغابر، حامل الأمّة بنظره الرشيد ورأيه الظافر، وكافل الرعايا
في ظلّه المديد وعدله الوافر، ومطلع أنوار العزّ والسّعادة من أفقه
السّافر، واسطة السّلك من هذا النّظام، والتّاج المحلّى في مفارق الدول
والأيام، سيّد الملوك والسلاطين، بركة الإسلام والمسلمين، كافل أمير
المؤمنين، أبو سعيد. أعلى الله مقامه، وكافأ عن الأمّة إحسانه الجزيل
وأنعامه، وأطال في السّعادة والخيرات المبدأة المعادة لياليه وأيامه،
لما أوسع الدين والملك نظرا جميلا من عنايته، وأنام الخلق في حجر
كفالته، ومهاد كفايته، وأيقظ لتفقّد الأمور، وصلاح الخاصّة والجمهور،
عين كلاءته، كما قلّده الله رعايته [1] وأقام حكام الشريعة والسياسة
يوسعون نطاق الحق إلى غايته، ويطلعون وجه العدل سافرا عن آيته. ونصب في
دست النيابة من وثق بعدله وسياسته، ورضي الدين بحسن إيالته، وأمّنه على
سلطانه ودولته، وهو الوفيّ- والحمد للَّه- بأمانته، ثم صرف نظره إلى
بيوت الله يعنى بإنشائها وتأسيسها، ويعمل النّظر الجميل في إشادتها
وتقديسها، ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبثّ
العلم من يؤهّله لوظائفها ودروسها، فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر
لبوسها، حتى زهت الدولة بملكها ومصرها، وفأخرت الأنام بزمانها الزاهر
وعصرها. وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها، فابتهج العالم سرورا
بمكانها، واهتزّت الأكوان للمفاخرة بشأنها، وتكفّل الرّحمن، لمن اعتزّ
به الإيمان، وصلح على يده الزمان، بوفور المثوبة ورجحانها.
وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش
من سلف أمراء التّرك، خفّف الله حسابه وثقّل في الميزان- يوم يعرض على
الرحمن- كتابه، وأعظم جزاءه في هذه الصّدقة الجارية وثوابه، عناية جدّد
لي لباسها، وإيثارا بالنّعمة التي صحّحت قياسها، وعرفت منه أنواعها
وأجناسها، فامتثلت المرسوم، وانطلقت أقيم الرّسوم، وأشكر من الله
وسلطانه الحظّ المقسوم. وأنا مع هذا معترف بالقصور، بين أهل العصور،
مستعيذ باللَّه وبركة هؤلاء الحضور،
__________
[1] كذا في الأصل، ولعلها: «قلده الله حق رعايته» ، أو «واجب رعايته» ،
أو نحو هذا.
(7/680)
السّادة الصّدور، أن يجمح بي مركب الغرور،
أو يلج شيطان الدّعوى والزور، في شيء من الأمور. والله تعالى ينفع
مولانا السلطان بصالح أعماله، ويعرفه الحسنى وزيادة الحظّ الأسنى في
عاقبته ومآله، ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرّة عينه ورضى
آماله، ويديم على السّادة الأمراء ما خوّلهم من رضاه وإقباله، ويحفظ
المسلمين في هذا الأمر السّعيد بدوامه واتصاله، ويسدد قضاتهم وحكامهم
لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله.
وقد رأيت أن أقرّر للقراءة في هذا الدّرس، كتاب الموطأ للإمام مالك بن
أنس، رضي الله عنه، فإنه من أصول السّنن، وأمّهات الحديث، وهو مع ذلك
أصل مذهبنا الّذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع
الكثير من فقهه.
فلنفتتح الكلام بالتّعريف بمؤلفه- رضي الله عنه، ومكانه من الأمانة
والديانة، ومنزلة كتابه «الموطّأ» من كتب الحديث. ثم نذكر الروايات
والطّرق التي وقعت في هذا الكتاب، وكيف اقتصر الناس منها على رواية
يحيي بن يحيي، ونذكر أسانيدي فيها، ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب.
أما الإمام مالك- رضي الله عنه، فهو إمام دار الهجرة، وشيخ أهل الحجاز
في الحديث والفقه غير منازع، والمقلّد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصا أهل
المغرب.
قال البخاري: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي. كنيته أبو عبد الله،
حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التّيمي ابن أخي طلحة بن
عبيد الله.
كان إماما، روى عنه يحيى بن سعيد. انتهى كلام البخاري.
وجدّه أبو عامر بن عمرو بن الحرث بن عثمان ويقال: غيمان بغين معجمة
مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة، ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلّثة مفتوحة،
وياء تحتانية ساكنة، ويقال حثيل أو خثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة،
عوض الجيم، ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة، وسين مهملة ساكنة، ابن عمرو
بن الحرث، وهو ذو أصبح. وذو أصبح بطن من حمير، وهم إخوة يحصب، ونسبهم
معروف، فهو حميري صليبة، وقرشيّ حلفا. ولد سنة إحدى وتسعين [1]- فيما
__________
[1] في مولد مالك أقوال اخر غير ما ذكر ابن خلدون تجدها في «الأنساب»
للسمعاني، و «وفيات» ابن خلكان، و «الانتقاء» لابن عبد البرص 10.
(7/681)
قال ابن بكير [1] ، واربع وتسعين- فيما قال
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم [2] ، ونشأ بالمدينة، وتفقّه بها. أخذ
عن ربيعة الرأي [3] ، وابن شهاب [4] وعن عمّه أبي سهيل [5] ، وعن جماعة
ممّن عاصرهم من التّابعين وتابعين وتابعي التّابعين، وجلس للفتيا
والحديث في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شابا يناهز العشرين،
وأقام مفتيا بالمدينة ستين سنة. وأخذ عنه الجمّ الغفير من العلماء
الأعلام، وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة، وأعظم من أخذ عنه
الإمام محمّد بن إدريس الشّافعي [6] ، وابن وهب [7] ، والأوزاعي [8] ،
وسفيان الثّوري [9] ، وابن المبارك [10]- في أمثال لهم وأنظار. وتوفّي
سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته، وقال الواقدي [11] :
عاش مالك تسعين سنة، وقال سحنون [12] عن ابن
__________
[1] هو يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي بالولاء المصري [154-
231] أحد رواة «الموطأ» عن مالك.
[2] ابو عبد الله محمد بن عبد الحكيم الفقيه الشافعيّ المصري المشهور
[182- 268] . «وفيات» 1/ 578.
[3] هو ابو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ مولى آل المنكدر..
المعروف بربيعة الرأي. فقيه مدني جليل. أدرك جماعة من الصحابة. توفي
بالأنبار بمدينة «الهاشمية» سنة 136 على خلاف. «المعارف» لابن قتيبة ص
217 (وفيات) 1/ 228.
[4] أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي. من أجل
فقهاء التابعين بالمدينة. أدرك جماعة من الصحابة [51- 142] على خلاف في
المولد والوفاة. (وفيات) ابن خلكان 1/ 571- 572.
[5] نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو سهيل التيمي. مات في إمارة
أبي العباس. تهذيب التهذيب 10/ 409.
[6] الإمام المجتهد أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن
شافع ينتهي نسبه إلى عبد مناف بن قصيّ، حيث يجتمع مع رسول الله صلّى
الله عليه وسلم [150- 204] «الانتقاء» لابن عبد البرص 66- 122.
[7] أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي المصري (125- 197) ، لازم
مالكا مدة طويلة.
[8] ابو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، ونسبته اما إلى
«الأوزاع» بطن من همدان، أو من ذي كلاع من اليمن، أو الى «الأوزاع»
قرية بدمشق نزل بها فنسب إليها أدخلته أمه «بيروت» فسكنها، وبها مات
سنة 157، ومولده ببعلبكّ سنة 88، أو 93. «المعارف» لابن قتيبة ص 217،
«وفيات» 1/ 345.
[9] أبو عبد الله سفيان بن سعيد المعروف بالثوري، أحد الأئمة
المجتهدين، ولاه المهدي قضاء الكوفة فامتنع، ورمى بصك الولاية في دجلة.
«وفيات الأعيان» 1/ 263.
[10] أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي مولى بني
حنظلة، أحد رواة «الموطأ» عن مالك.
«وفيات» 1/ 311.
[11] أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني صاحب «المغازي» ، تولى
القضاء ببغداد في أيام المأمون. ضعفوه في الحديث [130- 207] . «وفيات»
1/ 640.
[12] أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الفقيه المالكي
المشهور. [160- 340] .
(7/682)
نافع [1] : توفي مالك ابن سبع وثمانين سنة،
ولم يختلف أهل زمانه في أمانته، وإتقانه، وحفظه وتثبّته وورعه، حتى لقد
قال سفيان بن عيينة [2] : كنّا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: «تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم
من عالم المدينة» إنّه مالك بن أنس.
وقال الشافّعي: إذا جاء الأثر فمالك النّجم، وقال: إذا جاءك الحديث عن
مالك، فشدّ به يديك، وقال أحمد بن حنبل [3] : إذا ذكر الحديث فمالك
أمير المؤمنين.
وقد ألّف الناس في فضائله كتبا، وشأنه مشهور.
وأما الّذي بعثه على تصنيف «الموطّأ» - فيما نقل أبو عمر بن عبد البرّ-
فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون [4] ، عمل كتابا
على مثال «الموطأ» ، ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، ولم يذكر فيه
شيئا من الحديث، فأتي به مالك، ووقف عليه وأعجبه، وقال: ما أحسن ما عمل
هذا! ولو كنت أنا الّذي عملت لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام. وقال
غيره: حجّ أبو جعفر المنصور [5] ، ولقيه مالك بالمدينة، فأكرمه وفاوضه.
وكان فيما فاوضه: يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك،
وقد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنّب فيه رخص
ابن عبّاس [6] وشدائد ابن عمر [7] ووطّئه للناس
__________
[1] أبو محمد عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المخزومي، يروي عن
مالك كثيرا، ولهم في الثقة به كلام.
[2] سفيان بن عيينة بن أبي عمران أبو محمد المحدث المشهور (107- 198)
«وفيات» 1/ 264.
[3] أبو عبد الله أحمد بن حنبل الإمام المجتهد المعروف، ينتهي نسبه إلى
بني شيبان (164- 241) .
«وفيات» 1/ 20.
[4] عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المتوفى سنة 164
ببغداد في خلافة المهدي. «المعارف» ص 203، «تهذيب التهذيب» 6/ 343.
[5] أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
الخليفة العباسي الثاني تولى الخلافة سنة 136، وتوفي سنة 158. له ترجمة
واسعة في «تاريخ الطبري» 9/ 254- 323.
[6] أبو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم، وصاحبه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي
سنة 68 على خلاف في سنة الوفاة. تاريخ الإسلام للذهبي 3/ 30- 37.
[7] أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي صاحب رسول
الله، وابن صاحبه. وفي سنة 73، وكان عمره يوم الخندق 25 سنة. تاريخ
الإسلام للذهبي 3/ 277- 284.
(7/683)
توطئة. قال مالك: فلقد علّمني التأليف،
فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب، فصنّفه
وسمّاه «الموطأ» أي المسهّل [1] . قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطأة، أي صار
وطيئا، ووطّأته توطئة، ولا يقال وطّيته [2] .
ولما شغل بتصنيفه أخذ النّاس بالمدينة يومئذ في تصنيف موطّآت، فقال
لمالك أصحابه: نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه النّاس، وأتي ببعضها
فنظر فيه، ثم طرحه من يده وقال: ليعلمنّ أن هذا لا يرتفع منه إلا ما
أريد به وجه الله، فكأنّما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمع لشيء
منها بعد ذلك ذكر، وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته، فيقال إنه
أكمله في أربعين سنة. وتلقّت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض
ومغاربها، ومن لدن صنّف إلى هلم [3] .
وطال ثناء العلماء في كلّ عصر عليه، ولم يختلف في ذلك اثنان. قال
الشّافعيّ، وعبد الرحمن بن مهدي [4] : ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله
أنفع، وفي رواية أصحّ، وفي رواية أكثر صوابا، من «موّطأ» مالك [5] .
وقال يونس بن عبد الأعلى [6] : ما رأيت كتابا الّف في العلم أكثر صوابا
من «موطّأ» مالك.
وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب، فإنه كتبه عن مالك
جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية، وقيل موطأ فلان لراويه عنه [7]
فمنها موطأ الإمام محمد بن
__________
[1] ذكر الزرقاني في شرحه للموطأ 1/ 8، نقلا عن ابن فهد، وجها آخر
لتسميته بالموطأ، قال: «....
قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم
واطأني عليه، فسميته بالموطأ» .
[2] انظر لسان العرب (وطأ) .
[3] كذا في الأصلين، وهو استعمال غريب. وقد استعمله في «مقدمته» في فصل
الكيمياء ص. وانظر شرح الشريشي على مقامات الحريري 1/ 84، تاج العروس
(جر) .
[4] ابو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري البصري
المتوفى سنة 198. «تهذيب التهذيب» 6/ 281، «المعارف» ص 224.
[5] بعد أن ألف البخاري، ومسلم صحيحيهما، لم تبق للموطأ هذه المكانة،
ومن هنا أولوا قول الشافعيّ هذا بأنه كان قبل وجود الصحيحين. وانظر
مقدمة ابن الصلاح ص 14، تدريب الراويّ ص 25، مقدمة شرح الزرقاني على
الموطأ 1/ 9، مقدمة موطأ محمد بن الحسن اللكنوي ص 26 طبع الهند سنة
1306.
[6] أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة المحدث المقرئ
المصري (170- 264) . تهذيب التهذيب 11/ 440، طبقات القراء 2/ 406.
[7] في «ترتيب المدارك» 1/ 34 ظ (نسخة خاصة) ، وشرح الزرقاني على
الموطأ 1/ 6- كلمة جامعة عن الذين رووا الموطأ عن مالك، وفي مقدمة عبد
الحي اللكنوي لموطأ محمد بن الحسن: ان أحد علماء
(7/684)
إدريس الشافعيّ [1] ، ومنها موطأ عبد الله
بن وهب، ومنها موطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي [2] ، ومنها موطأ مطرّف
بن عبد الله اليساري [3] نسبة إلى سليمان بن يسار، ومنها موطّأ عبد
الرّحمن بن القاسم [4] رواه عنه سحنون بن سعيد، ومنها موطأ يحيى بن
يحيى الأندلسي [5] . رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه
والحديث، ورجع بعلم كثير وحديث جمّ، وكان فيما أخذ عنه «الموطأ» ،
وأدخله الأندلس والمغرب، فأكبّ الناس عليه، واقتصروا على روايته دون ما
سواها [6] وعوّلوا على نسقها وترتيبها في شرحهم لكتاب «الموطأ»
وتفاسيرهم، ويشيرون إلى الروايات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها، فهجرت
الرّوايات الأخرى، وسائر تلك الطّرق، ودرست تلك الموطّآت إلّا موطأ
يحيى بن يحيى، فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقا
وغربا.
وأما سندي في هذا الكتاب المتّصل بيحيى بن يحيى فعلى ما أصفه:
حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم. منهم إمام المالكية، قاضي
__________
[ () ] «دهلي» ، أورد في كتاب له بالفارسية سماه «بستان المحدثين»
القول المستفيض عن الموطأ، ومؤلفه، ونسخه، ويتبين من الخلاصة التي
عربها عن الفارسية عبد الحي اللكنوي ان صاحب «البستان» كاد ان يستقصي
الموضوع.
[1] قال أحمد بن حنبل: كنت سمعت الموطأ من بضعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب
مالك، فأعدته على الشافعيّ لأنه أقومهم. زرقاني 1/ 7.
[2] أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي المدني
المتوفى سنة 221 أو 220. سمع من الإمام مالك نصف الموطأ بقراءة الإمام،
وقرأ هو الصف الباقي على الإمام.
[3] مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان اليساري الهلالي أبو مصعب
المدني ابن أخت الإمام مالك (137- 214) ، على خلاف في وفاته. تهذيب
التهذيب 10/ 175 الانتقاء ص 58.
[4] أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن جنادة العتقيّ المصري
المالكي (128- 191) ، أول من نقل الموطأ إلى مصر. وكان ابو الحسن
القابسي يقدم روايته للموطأ على غيره: ويقول في ذلك انه- مع ما يتصف به
من الفهم والورع- قد اختص بمالك، ولم يكثر من النقل عن غيره، فخلص بذلك
من ان تختلط عليه ألفاظ الرواة، أو تتبدل الأسانيد، وانما نقل كتابا
مصنفا، فهو وافر الحظ من السلامة في النقل.
[5] هو ابو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس المصمودي البربري
الليثي بالولاء. (152- 234) وفيات 2/ 285- 287.
[6] كان بقي بن مخلد المحدث الأندلسي يقدم على رواية يحيى هذه، رواية
أبي المصعب الزهري، ورواية يحيى بن بكير، وعاتبه في ذلك عبيد الله بن
يحيى، وأخوه إسحاق بن يحيى، فاحتج لفعله بأن أبا المصعب قرشي فاستحق
التقديم، وبأن يحيى بن بكير أكبر من أبيهما في السن، وبأنه سمع الموطأ
من مالك سبع عشرة مرة، ويحيى أبو هما لم يسمعه إلا مرة واحدة.
(7/685)
الجماعة بتونس وشيخ الفتيا بها، أبو عبد
الله محمد بن عبد السّلام بن يوسف الهوّاري، سمعته عليه بمنزله بتونس،
من أوله إلى آخره. ومنهم شيخ المسندين بتونس، الرّحالة أبو عبد الله
محمد بن جابر بن سلطان القيسي الوادي آشي، سمعت عليه بعضه، وأجازني
بسائره. ومنهم شيخ المحدثين بالأندلس، وكبير القضاة بها، أبو البركات
محمد بن محمد بن محمد- ثلاثة من المحدّثين- ابن إبراهيم بن الحاجّ
البلّفيقي، لقيته بفاس سنة ست وخمسين وسبعمائة من هذه المائة السابعة،
مقدمه من السّفارة بين ملك الأندلس وملك المغرب. وحضرت مجلسه بجامع
القرويّين من فاس، فسمعت عليه بعضا من هذا الكتاب، وأجازني بسائره. ثم
لقيته لقاءة أخرى سنة اثنتين وستّين وسبعمائة، استقدمه ملك المغرب،
السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه، وكنت أنا القارئ
فيما يأخذه عنه، فقرأت عليه صدرا من كتاب «الموطّأ» ، وأجازني بسائره
إجازة أخرى.
ومنهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم، أبو عبد
الله محمد ابن إبراهيم الآبلي، قرأت عليه بعضه، وأجازني بسائره، قالوا
كلّهم: حدثنا الشيخ المعمّر، أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون
الطّائي [1] ، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقيّ [2] ، عن
الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحقّ الخزرجي [3] .
وحدّثني به أيضا شيخنا أبو البركات، عن إمام المالكيّة ببجاية، ناصر
الدين أبي علي، منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدّالي [4] ، عن الإمام
شرف الدين
__________
[1] أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد العزيز الطائي
القرطبي ثم التونسي الإمام المسند.
أخذ عنه الوادي آشي وغيره من مشايخ العلم والحديث (603- 702) . ديباج ص
143 الدرر الكامنة 2/ 303.
[2] أبو القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن ... بن بقي بن مخلد (533-
625) . «التكملة لكتاب الصلة» ص 141 طبع الجزائر سنة 1337 هـ، «تكميل
الديباج» ص 73.
[3] أبو عبد الله محمد بن عبد الحق بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن
عبد الحق الخزرجي القرطبي.
سمع من ابن الطلاع. ذكره ابن الأبار في «التكملة» 1/ 214 طبع مدريد سنة
1889 م، وقال انه لم يقف على وفاته.
[4] منصور بن محمد بن أحمد بن عبد الحق الزوّاوي المشدّالي ناصر الدين.
وهو لقب لزمه من المشرق، حيث انه رحل اليه، وأخذ عن علمائه، ويقول
العبدري في «رحلته» : انه لم تكن له عناية والرواية، ومشدّالة قبيلة من
زواوة.
(7/686)
محمد بن أبي الفضل المرسي، عن أبي الحسن
علي بن موسى بن النّقرات [1] عن أبي الحسن علي بن أحمد الكناني [2] .
قال الخزرجي والكناني: حدثنا أبو عبد الله محمّد بن فرج [3] مولى ابن
الطّلاع، عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصّفّار
قاضي الجماعة بقرطبة.
وحدّثني به أيضا شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد
بن محمد ابن الغمّاز، عن شيخه أبي الرّبيع سليمان بن موسى بن سالم [4]
الكلاعيّ، عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش، وأبي عبد الله
محمد بن سعيد بن زرقون [5] ، شارح كتاب «الموطأ» ، قال ابن زرقون:
حدثنا به أبو عبد الله الخولانيّ [6] ، عن أبي عمرو عثمان بن أحمد
القيجاطي [7] ، وقال ابن حبيش:
حدّثنا به القاضي أبو عبد الله بن أصبغ [8] ويونس بن محمد بن مغيث،
قالا: قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطّلّاع [9] . وقال ابن حبيش
أيضا: حدّثنا به أبو
__________
[1] علي بن موسى بن علي (ويقال ابن القاسم) بن علي الأنصاري الجياني
يعرف بابن النقرات يكنى أبا الحسن، ويعرف أيضا بابن أرفع رأسه (515-
593) ، ويقول ابن القاضي في جذوة الاقتباس انه كان حيا في سنة 593.
طبقات القراء 1/ 581، الجذوة ص 305، فوات الوفيات 2/ 92، تكملة الصلة
2/ 674.
[2] علي بن أحمد بن أبي بكر الكناني، يعرف بابن حنين، ويكنى أبا الحسن
(476- 569) سمع من ابن الطلاع موطأ مالك. جذوة الاقتباس ص 304.
[3] هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن فرج بن الطلاء بالهمزة، وكان أبو
مروان بن سراج يقول: كان فرج يطلي مع سيده اللجم في الربض الشرقي عند
الباب الجديد من قرطبة، قال: ومن قال الطلاع بالعين فقد اخطأ، وكذلك
قال أبو الوليد بن خيرة، وقالا أيضا: ان الطلاع بالعين هو والد مولاه
محمد بن يحيى البكري المعروف بابن الطلاع. اما ابو بكر ابن برنجال
الداني فيقول: هو بالعين لأن أباه كان يطلع النخل في قرطبة لاجتنائها
فعرف بذلك. وقد رحل الناس الى ابن فرج من كل قطر لسماع الموطأ
والمدونة، وكان يحفظ الموطأ، وله فيه سند عال. ديباج ص 257.
[4] ابو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان بن سليمان يعرف بابن
سالم الكلاعي (565- 634) .
[5] محمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد بن عبد العزيز زرقون (502- 586) ،
آخر من حدث بالإجازة عن الخولانيّ، وكان عالي الرواية. ديباج ص 285.
[6] ابو عبد الله احمد بن محمد بن عبد الرحمن بن غلبون الخولانيّ (418-
508) روى عن جماعة، منهم ابو عمرو عثمان بن احمد القيشطالي (القيجاطي)
. صلة 1/ 76.
[7] عثمان بن احمد بن محمد بن يوسف المعافري القرطبي يكنى ابا عمرو،
ويعرف بالقيشيطيالي (القيشطالي، القيجاطي، توفي سنة 431 عن 80 سنة) .
صلة 1/ 397.
[8] محمد بن أصبغ بن محمد بن أصبغ الأزدي ابو عبد الله، سمع من أبي عبد
الله محمد بن فرج، توفي سنة 536، وهو من أبناء الستين. صلة 2/ 528.
[9] محمد بن يحيى البكري المتوفى سنة 497. الاستقصاء 1/ 129.
(7/687)
القاسم أحمد بن محمد ورد [1] ، عن القاضي
أبي عبد الله محمد بن خلف ابن المرابط [2] ، عن المقرئ أبي عمر أحمد بن
محمد بن عبد الله المعافري الطّلمنكيّ [3] ، قال القاضي أبو الوليد بن
مغيث، والقيجاطي، والطّلمنكيّ:
حدّثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد
الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى. وقال الطّلمنكيّ: حدّثنا أبو جعفر
أحمد بن محمد بن حدير البزّاز، قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ [4] ،
قال حدثنا أبو عبد الله محمد ابن وضّاح [5] ، قال حدثنا يحيى بن يحيى
عن مالك، إلّا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف، أولها خروج المعتكف
إلى العيد فإنّ يحيى شكّ في سماعها عن مالك، فسمعها من زياد بن عبد
الرحمن الملقّب شبطون [6] عن مالك.
ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتّصال سندي فيها.
فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرميّ كاتب السلطان
أبي الحسن، لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها، وهو في جملته سنة
ثمان وأربعين وسبعمائة، وحضرت مجلسه، وأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه بعض
«الموطأ» ، وأجازني بالإجازة العامّة، وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر
بن الزّبير، وعن شيخه الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، وعن أبي القاسم
القبتوري، وجماعة من مشيخة أهل سبتة، ويتّصل سنده فيه بالقاضي عياض،
وأبي العبّاس العز في صاحب كتاب (الدرّ المنظّم في المولد المعظّم) .
__________
[1] احمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن إدريس بن عبد الله بن ورد التميمي
أبو القاسم (465- 540) ، سمع الموطأ من أبي علي الغساني. احاطة 1/ 57.
[2] القاضي ابو عبد الله محمد بن خلف بن سعيد المعروف بابن المرابط.
اجازة ابو عمر الطلمنكي، توفي بالمدينة بعد سنة 480. ديباج 273، 274.
[3] احمد بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي عيسى المعافري ابو عمر
الطلمنكي، المتوفى سنة 429 ديباج ص 39.
[4] قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح أبو محمد البياني القرطبي
(244- 340) ، سمع من ابن وضاح. تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضيّ 1/
297.
[5] محمد بن وضاح بن بديع القرطبي ابو عبد الله (199- 286) ، على خلاف
في مولده، ووفاته، سمع من يحيى بن يحيى. ديباج ص 239- 240.
[6] زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون [بشين معجمة
مفتوحة فباء موحدة ساكنة، وبعدها طاء تليها واو ساكنة فنون] ، أول من
أدخل مذهب مالك الى الأندلس، وكان أهلها قبله على مذهب الأوزاعي. توفي
سنة 204 على خلاف. نفح الطيب 1/ 349.
(7/688)
ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب
الجامع الأعظم بغرناطة، سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن
الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكّار، وجماعة
من مشيخة أهل الأندلس، ويتّصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي [1]
، والحافظ أبي عمر بن عبد البرّ بسندهما.
ومنها عن شيخنا المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برّال الأنصاري
شيخ القراءة بتونس، ومعلّمي كتاب الله، قرأت عليه القرآن العظيم
بالقراءات السّبع وعرضت عليه قصيدتي الشّاطبي [2] في القراءة، وفي
الرّسم، وعرضت عليه كتاب التّقصّي لابن عبد البرّ، وغير ذلك، وأجازني
بالإجازة العامّة، وفي هذه بالإجازة الخاصة، وهو يروي هذا الكتاب عن
القاضي أبي العبّاس أحمد بن محمد بن الغمّاز، وعن شيخه أبي العبّاس
أحمد بن موسى البطرني بسندهما.
ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصّفّار المرّاكشي، شيخ
القراءات بالمغرب، سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان
ملك المغرب، وهو يسمعه إياه، وأجازني بسائره، وهو يرويه عن شيخه محدّث
المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهريّ السّبتيّ [3] عن مشيخة أهل
سبتة، وأهل الأندلس، حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم،
إلا أنّها لم تحضرني الآن، وفيما ذكرناه كفاية والله يوفقنا أجمعين
لطاعته وهذا حين أبتدئ، وباللَّه أهتدي.
وانفضّ ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتّجلّة والوقار العيون، واستشعرت
أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النّجيّ في ذلك الخاصّة والجمهور، وأنا
أنتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان، لتأدية الواجب من التّحية
والمشافهة بالدّعاء، الى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة
من النّزعات الملوكية، فأبعده، وأخّره عن خطّة القضاء في رجب ستّ
وثمانين وسبعمائة، ودعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه فتفاديت من
ذلك، وأبي إلّا إمضاءه، وخلع عليّ، وبعث الأمراء
__________
[1] سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب ابو الوليد القاضي. رحل الى المشرق،
وعاد الى الأندلس بعلم كثير (403- 494) . ديباج ص 120.
[2] اللامية المسماة بحرز الأماني، والمشهورة بالشاطبية، والرائية،
وتسمى «عقيلة أتراب القصائد» .
[3] هو ابو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر..... بن رشيد الفهري
السبتيّ (657- 721) .
ابن خلدون م 44 ج 7
(7/689)
معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء، فقمت في
ذلك المقام المحمود، ووفّيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحقّ،
وتحريّ المعدلة، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع في ذلك ما
تقدّم ذكره، وكثر شغب أهل الباطل والمراء، فأعفاني السلطان منها لحول
من يوم الولاية، وكان تقدّمها وصول الخبر بغرق السّفين الواصل من تونس
إلى الإسكندريّة، وتلف الموجود والمولود، وعظم الأسف، وحسن العزاء،
والله قادر على ما يشاء.
ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة لقضاء الفرض، وركبت بحر السويس من
الطّور إلى الينبع، ورافقت المحمل إلى مكّة، فقضيت الحجّ عامئذ، وعدت
إلى مصر في البحر كما سافرت أولا. وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش،
فولّاني السّلطان إياها بدلا من مدرسته في محرّم أحد وتسعين وسبعمائة،
ومضيت على حالي من الانقباض، والتّدريس، والتّأليف، حتى ولّاني خانقاه
بيبرس، ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد، بسبب أنا أذكره الآن.
(ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها)
لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من
التّدريس والتأليف، وتعاهد السلطان باللّقاء والتّحيّة والدعاء، وهو
ينظر إليّ بعين الشّفقة، ويحسن المواعيد. وكانت بالقاهرة خانقاه شيّدها
السلطان بيبرس، ثامن ملوك الترك الّذي استبدّ على النّاصر محمد بن
قلاون [1] هو ورفيقه سلار [2] وأنف النّاصر من استبدادهما، وخرج للصيد،
فلمّا حاذى الكرك امتنع به، وتركهم وشأنهم، فجلس بيبرس على التّخت
مكانه، وكاتب الناصر أمراء الشّام من مماليك أبيه، واستدعوه للقيام
معه، وزحف بهم إلى مصر، وعاد إلى سلطانه، وقتل بيبرس
__________
[1] هو الملك الناصر محمد بن الملك المنصور ابن قلاوون. تولى الملك
ثلاث مرات كانت الأخيرة منها في سنة 709، وبقي ملكا حتى مات سنة 741،
وعمره 58 سنة. الخطط طبع مصر 4/ 98- 102.
[2] الأمير سيف الدين سلار المنصوري، كان من أسرى التتار، فخلص وصار
مولى لعلاء الدين علي بن المنصور بن قلاوون، واليه ينتسب، ساءت علاقته
بالناصر، فاعتقله، واستصفى أمواله وقتله. راجع المجلد الخامس من هذا
الكتاب.
(7/690)
وسلار سنة ثمان وسبعمائة [1] . وشيّد بيبرس
هذا أيام سلطانه داخل باب النصر [2] من أعظم المصانع وأحفلها، وأوفرها
ريعا، وأكثرها أوقافا، وعين مشيختها، ونظرها لمن يستعدّ له بشرطه في
وقفه، فكان رزق النّظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولّاه، وكان ناظرها
يومئذ شرف الدّين الأشقر إمام السلطان الظاهر. فتوفي عند منصرفي من
قضاء الفرض، فولّاني السلطان مكانه توسعة عليّ، وإحسانا إليّ، وأقمت
على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري.
فتنة الناصري (وسياقه الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق
بهذا الموضع، ويطلعك على أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج الى
الضخامة والاستيلاء، ثم الى الضعف والاضمحلال، والله بالغ أمره)
وذلك أن الدّول الكلّية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحدا بعد واحد،
في مدة طويلة، قائمين على ذلك بعصبيّة النّسب أو الولاء، وهذا كان
الأصل في استيلائهم وتغلّبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب
مستحقّين آخرين ينزعونه من أيديهم بالعصبيّة التي يقتدرون بها على ذلك،
ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى، يفضون جبايتها بينهم
على تفاضل البأس والرّجولة والكثرة في العصابة أو القلّة، وهم على
حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والإقلال من العيش لاستصحاب حال
البداوة، وعدم الثّروة من قبل. ثم تنمو الثّروة فيهم بنموّ الجباية
التي ملكوها، ويزيّن حبّ الشّهوات للاقتدار عليها، فيعظم التّرف في
الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد
شيئا فشيئا
__________
[1] في المجلد الخامس من هذا الكتاب: ان ذلك كان في سنة. 71 وهو الأشبه
بالصواب، لأن الناصر عاد الى الملك في سنة 709.
[2] كذا بالأصل. ويظهر ان هنا كلمة سقطت أثناء النسخ. ومقتضى السياق:
«وشيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر خانقاه، وهي من أعظم
المصانع واحفلها ... إلخ» .
(7/691)
بتزايد النّعم وتتّسع الأحوال أوسع ما
تكون، ويقصر الدّخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم،
ويحصل ذلك لكلّ أحد ممن تحت أيديهم، لأن النّاس تبع لملوكهم ودولتهم،
ويراجع كلّ أحد نظره فيما هو فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه
بدخله.
ثم إن البأس يقلّ من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا
إليه من رقّة الحاشية والتنعّم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدّولة إلى
الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعدّ لذلك بما بقي
عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن التّرف، ويستأنف لذلك العصابة
بعشيرة أو بمن يدعوه لذلك، فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من
الخلل الواقع، وهو أحقّ الناس به، وأقربهم إليه، فيصير الملك له، وفي
عشيرة، وتصير كأنها دولة أخرى، تمرّ عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع
في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج
عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في
النّسب، أو الولاء. سنّة الله في عباده.
وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أنّ بني أيّوب لمّا ملكوا مصر والشام،
كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقلّ بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل
بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها
بالسّواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيرة من الكرد يعرفون ببني
هذان [1] ، وهم قليلون، وإنما كثّر منهم جماعة المسلمين، بهمّة الجهاد
الّذي كان صلاح الدين يدعو إليه، فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه،
ونصر الله الدّين على يده. وانتزع السّواحل كلّها من أيدي نصارى
الفرنج، حتى مسجد بيت المقدّس، فإنّهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل
والسّبي،، فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني
أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم، واقتسموا مدن الشّام،
ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن
العادل أبي بكر أخي صلاح الدّين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية
الدّولة، وإقامة رسوم الملك، وأن ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والإكثار
منهم، كما كان
__________
[1] بفتح الهاء، والذال المعجمة، وبعدها ألف، ثم نون، وهي قبيلة كبيرة
من قبائل الأكراد وفيات 2/ 495.
(7/692)
آخرا في الدولة العباسيّة ببغداد، وأخذ
التّجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعدادا، وأقام لتربيتهم أساتيذ [1]
معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرّمي، بعد تعليم الآداب الدينية
والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف، وكان مقيما بأحواز
دمياط [2] في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلّبين على حصنها
دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمّاها المنصورة [3] ، وبها
توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلا في مدافعة ساكني دمياط من
الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان ابنه المعظّم توران شاه نائبا في
حصن كيفا [4] من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا
عنه، وانتظروا. وتقطّن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر
الله المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس، فبعثوا به إلى مصر. وحبس
بدار لقمان، إلى أن فادوه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب.
ونصّبوا- للملك، ولهذا اللقاء- زوجة الصالح أيّوب واسمها شجر الدرّ [5]
، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب على المراسيم [6] ، وركبت يوم لقاء
الفرنج، تحت الصّناجق [7] ، والجند محدقون بها، حتى أعزّ الله دينه،
وأتمّ نصره. ثم وصل توران شاه المعظّم، فأقاموه في خطّة الملك مكان
أبيه الصالح
__________
[1] اساتيذ وأساتذة ج استاذ: معلم.
[2] وقد ضبطها ابن خلدون بخطه بالحركات، بكسر الذال المعجمة، وقد حكى
الإعجام الزبيدي في «تاج العروس» ، والسمعاني في «الأنساب» عن أبي محمد
بن أبي حبيب الاندلسي قال السمعاني معقبا: «وما عرفناه الا بالدال
المهملة» . (معجم البلدان) ، تاج العروس (دمط، ذمط) .
[3] بلدة أنشأها الملك الكامل بن العادل بن أيوب بين دمياط والقاهرة،
ورابط فيها في وجه الافرنج لما ملكوا دمياط وذلك في سنة 616، ولم يزل
بها حتى استنفذ دمياط في رجب سنة 618. (معجم البلدان) .
[4] حصن كيفا: قلعة عظيمة مشرفة على دجلة، بين آمد وجيزة ابن عمر من
ديار بكر. (معجم البلدان) .
[5] بعضهم يكتبها: «شجرة الدر» ، وكان يخطب باسمها على المنابر، ونقشت
على «السكة» ، وكان نقشها: «السكة المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين،
والدة المنصور خليل» ، وخليل هذا ابنها من الملك الصالح توفي في حياة
أبيه، وكانت تكنى به. العبر 5، الخطط 2/ 237 بولاق.
[6] يعني اتخذت لها «علامة» تختم بها على المراسيم، وكانت علامتها-
فيما يرى ابن خلدون: «أم خليل» ، أما ابن الوردي فيقول: «والدة خليل» .
العبرم 5، ابن الوردي 2/ 183.
[7] جمع سنجق وهو الأصل الرمح، وكانت تجعل في رأسه الراية، ومن ثم أصبح
معناه: الراية مباشرة.
صح الأعشى 5/ 458.
(7/693)
أيوب، ووصل معه مماليك يدلّون بمكانهم منه،
ولهم به اختصاص، ومنه مكان، وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة
من عهد أبيه وجدّه. أقطاي الجمدار [1] وأيبك التّركماني، وقلاون
الصالحي، فأنفوا من تصرفات مماليك توران شاه، واستعلائهم بالحظّ من
السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه
في طريقه بفارسكور، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم،
واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها، وهلك بعد أيبك
ابنه عليّ المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري [2] . ثم
ظهر أمر الطّطر [3] ، واستفحل ملكهم. وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان
من خراسان إلى بغداد، فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس.
ثم زحف إلى الشام، فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن
استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف
إلى خراسان، فامتعض لذلك، وكرّ راجعا، وشغل بالفتنة معه إلى إن هلك.
وخرج قطز من مصر عند ما شغل هولاكو بفتنة بركة، فملك الشام كله، أمصاره
ومدنه، وأصاره للترك موالي بني أيوب. واستفحلت دولة هؤلاء المماليك،
واتّصلت أيامها واحدا بعد واحد، كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاون
عند ما ملك بيبرس الظاهر منهم، فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم
يأخذ منهم، والشّدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس والرجولة شعار لهم،
وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون
بالأمر، فاتّسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الطّطر عن
الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم ملك قلاون، وحسنت
آثار سياسته، وأصبح حجة على من بعده، ثم ملك بعده ابناه:
خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه،
__________
[1] أخبار أقطاي مفصلة في العبر 5 م. والجمدار: هو الّذي يتولى الباس
السلطان، أو الأمير ثيابه، وأصله جاما دار فحذف المد منه فقيل: جمدار،
وهو مركب من كلمتين فارسيتين: «جاما» . ومعناها ثوب، و «دار» ،
ومعناها: ممسك. صبح الأعشى 5/ 459.
[2] انظر ترجمته في الخطط 2/ 300، 238 بولاق. وخير توليه السلطنة في
العبر 5. والبندقداري: هو الّذي يحمل غرارة البندق خلف السلطان.
والبندق: الّذي يرمي به وأصله البندق الّذي يؤكل، وهو في العربية
الجلوز، صبح الأعشى 5/ 457.
[3] كذا بالأصل، وهي: التتر.
(7/694)
حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره. ورتّب
للدّولة المراتب، وقدّم منهم في كل رتبة الأمراء، وأوسع لهم الأقطاع
والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالتّرف أحوالهم. ورحل أرباب
البضائع من العلماء والتّجّار إلى مصر، فأوسعهم حباء وبرّا.
وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والرّبط والخوانق، وأصبحت دولتهم
غرّة في الزمان، وواسطة في الدّول. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة،
فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك، واحدا بعد آخر، مستبدّين عليهم،
متنافسين في الملك، حتى يغلب واحد منهم الآخر، فيقتله، ويقتل سلطانه من
أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمر لولده حسن
النّصر، فقتل مستبدّه شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه
يلبغا، فقام بها، ونافسه أقرانه، وأغروا به سلطانه، فأجمع قتله. ونمي
إليه الخبر وهو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك، فاعتزم على
الامتناع، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانه، فتثاقل عن القدوم. واستشاط
السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصادمته. وهاجم السلطان ففلّه،
ورجع إلى القلعة، وهو في اتّباعه، فلم يلفه بقصره، وأغرى به البحث
فتقبّض عليه، واستصفاه، وقتله، ونصب للملك محمد المنصور بن المظفّر
حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من
المماليك، وتهذيبهم بالتّربية، وتوفير النّعم عندهم بالإقطاع،
والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن
المظفّر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن النّاصر،
فأقام على التّخت وهو في كفالته، وهو على أوّله في إعزاز الدولة،
وإظهار التّرف والثروة، حتى ظهرت مخايل العزّ والنّعم، في المساكن
والجياد والمماليك والزينة، ثم بطروا النّعمة، وكفروا الحقوق، فحنقوا
عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا
لذلك في متصيّدهم الشّتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم.
ولما أحسّ بذلك ركب ناجيا بنفسه إلى القاهرة، فدخلوا على السلطان
الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر، فقبضوا عليه عشيّ يومهم،
ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرّات لم
يعهدوها من أول دولتهم، من النّهب والتّخطّف وطروق المنازل والحمّامات
للعبث بالحرم، وإطلاق أعنّة الشّهوات والبغي في كل ناحية، فمرج أمر
النّاس، ورفع الأمر إلى السّلطان،
(7/695)
وكثر الدعاء واللّجأ إلى الله. واجتمع
أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كفّ عاديتهم، فأمرهم بالركوب،
ونادى في جنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قبضة
القهر، فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عمّرت بهم
السّجون، وصفّدوا وطيف بهم على الجمال ينادي بهم، إبلاغا في الشهرة، ثم
وسّط [1] أكثرهم، وتتبّع البقيّة بالنّفي والحبس بالثغور القصيّة، ثم
أطلقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق
الّذي ملك أمرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني [2] ، وألطنبغا الجوباني [3]
وجهركس الخليلي.
وكان طشتمر [4] ، دوادار يلبغا [5] ، قد لطف محلّه عند السلطان الأشرف،
وولي الدّوادارية له، وكان يؤمّل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان
يحتال في ذلك يجمع هؤلاء المماليك اليلبغاويّة من حيث سقطوا، يريد بذلك
اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاها ورسالة، إلى أن
اجتمع أكثرهم بباب السّلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه عليّ وليّ
عهده. فلما كثروا، وأخذتهم أريحيّة العزّ بعصبيّتهم، صاروا يشتطّون على
السّلطان في المطالب، ويعتزّون بعصبية اليلبغاوية.
واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين وسبعمائة على قضاء الفرض، فخرج
لذلك خروجا فخما، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي
[6] من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة، فلما بلغ العقبة
[7] اشتطّ المماليك في
__________
[1] وسطه توسيطا: قطعه نصفين، ويقال قتل فلان موسّطا.
[2] هو بركة بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير زين الدين. كان
أميرا شجاعا يحب العلماء، له مآثر خيرية بمكة، والحرم، وبطريق المدينة.
قتل سنة 872.
[3] علاء الدين الطنبغا بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير، كان من
خيار الأمراء دينا، وعقلا وشجاعة.
مات في الواقعة بين منطاش والناصري خارج دمشق سنة 792 هـ، وكان صديقا
لابن خلدون، وقد عرف به وأثنى عليه في العبر م 5.
[4] طشتمر بن عبد الله العلائي الدوادار الأمير سيف الدين، توفي في
دمياط منفيا سنة 786. أثنى عليه ابن تغري بردي كثيرا بمقدار ما قدح في
بركة، والظاهر برقوق.
[5] لقب للذي يمسك دواة السلطان أو الأمير، ويتولى من الأمور ما يلزم
هذا المعنى، من حكم، أو تنفيذ أمور، أو غير ذلك. صبح الأعشى 5/ 462.
[6] قرطاي (أو قراطاي) بن عبد الله المعزي الأشرفي سيف الدين، رفيق
أينبك، وصهره، وكان من أصاغر الأمراء في دولة الأشرف شعبان بن حسين،
ولكنه أصبح في أيام ولده عليّ أمير مائة، ثم مقدم ألف.
واختلف مع صديقه أينبك، فحبسه إلى أن مات سنة 779.
[7] موقعها في النهاية الشرقية الشمالية لخليج العقبة.
(7/696)
طلب جرايتهم من العلوفة والزّاد، واشتطّ
الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع
السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدّوادار يغضي
عنهم يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السّلطان بالزّجر،
فركبوا عليه هنالك، وركب من خيامه مع لفيف من خاصّته، فنضحوه بالنّبل،
ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبّح القاهرة، وعرّس هو
ولفيفه بقبّة النّصر.
وكان قرطاي كافل ابنه عليّ المنصور، حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي
مكالمة عند مغيب السّلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه، فأغرى عليّا
المنصور بن السلطان بالتّوثّب على الملك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح
يوم ثورة المماليك بالعقبة، وقد أجلس عليّا مكفوله بباب الإسطبل، وعقد
له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت، وبينما هم في ذلك، صبّحهم الخبر
بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات
ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياما هنالك، وقد تسلّل من بينهم هو وبلبغا
الناصري [1] من أكابر اليلبغاويّة، فقطوا رءوسهم جميعا، ورجعوا بها
تسيل دما. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النّداء عليه، وإذا بامرأة قد
دلّتهم عليه في مكان عرفته، فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته
بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدّوادار من الغد
بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلّف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعا في
الاستبداد الّذي في نفسه، فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه
بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميرا آخر
من اليلبغاوية [2] قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض
حرمه، فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا
صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك، فركب في بعض أيامه، وأركب معه السلطان
عليا، واحتاز الأمر من يد قرطاي،
__________
[1] يلبغا بن عبد الله الناصري الاتابكي الأمير سيف الدين، وهو صاحب
الوقعة مع الملك الظاهر بظاهر دمشق. الدرر الكامنة 4/ 440- 442.
[2] أينبك بن عبد الله البدري الأمير سيف الدين، كان هو وقرطاي صاحبي
الحل والعقد في الدولة. استبد بالمنصور بن الأشرف، ثم تغلب عليه يلبغا
الناصري وأودعه سجن الاسكندرية.
(7/697)
وصيّره إلى صفد [1] ، واستقلّ بالدولة، ثم
انتقض طشتمر بالشّام مع سائر أمرائه، فخرج أينبك في العساكر، وسرّح
المقدّمة مع جماعة من الأمراء، وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب
ذلك، وخرج هو والسلطان في السّاقة [2] ، فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار
الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزما، فرجع إلى
القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبّة النّصر، فسرّح
العساكر لذلك، فلمّا فصلوا فرّ هو هاربا، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية.
واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا النّاصري
ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق، فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى
الاستقلال بالأمر وتغلّبوا على سائر الأمراء، واعتقلوهم بالإسكندرية.
وفوّضوا الأمر إلى يلبغا النّاصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا
باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنّها
منية نفسه، وسار إلى مصر، فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل
وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير
الاقطاع، إكثافا لعصبيتهما، فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر
بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثّب، ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين
وسبعمائة استعجل أصحابه على غير رويّة، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم،
وقاتلوا فانهزموا. وتقبّض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا
الناصري، وخلت الدّولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا
المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التّركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا
يلبغا النّاصري إلى النّيابة بحلب ليستكفوا به في تلك النّاحية.
ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، وأضمر كلّ واحد منهما لصاحبه، وخشي
منه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليخصّ بذلك جناحه، فارتاع
لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبّة النّصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب
هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الاسطبل، وسرّب
أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياما يغادونهم
ويراوحونهم ثلاثا، إلى أن عضّت بركة وأصحابه الحرب، فانفضّوا عنه، وجيء
ببركة، وبعث به إلى
__________
[1] صفد: مدينة في شمالي فلسطين، واقعة في الشمال الغربي لبحيرة طبرية،
قريبة من حدود سوريا في الجنوب الغربي، ومن حدود لبنان في الجنوب.
[2] ساقة الجيش: مؤخره.
(7/698)
الإسكندرية، فحبس هنالك إلى أن قتله ابن
عرّام نائب الإسكندرية. وارتفع أصحابه إلى برقوق شاكين، فثأرهم منه
بإطلاق أيديهم في النّصفة، فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد أن
سمّر، وحمل على جمل عقابا له، ولم يقنعهم ذلك، فأطلق أيديهم فيما شاءوا
منه، ففعلوا ما فعلوا. وانفرد برقوق- بعد ذلك- بحمل الدّولة ينظر في
أعطافها [1] بالتّهديد، والتّسديد، والمقاربة [2] ، والحرص على مكافأة
الدّخل بالخرج. ونقّص ما أفاض فيه بنو قلاون من الإمعان في التّرف،
والسّرف في العوائد والنّفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال
الرّاجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها، وراقب ذلك كلّه برقوق، ونظر
في سدّ خلل الدّولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتدّ ذلك ذريعة للجلوس
على التّخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاون، بما أفسد الترف منهم،
وأحال الدولة بسببهم، إلى أن حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه
وعصابته، فجلس على التّخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين
وسبعمائة، وتلقّب بالظاهر. ورتّب أهل عصابته في مراتب الدولة، فقام
وقاموا بها أحسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاون إلى برقوق الظاهر
وبنيه. واستمرّ الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية- رفقاؤه في ولاء
يلبغا- فيما صار إليه من الأمر، وخصوصا يلبغا نائب حلب، فاعتزم على
الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه، فجاء وحبسه مدّة، ثم رجّعه
إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر، فبعث
سنة تسعين وسبعمائة دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب.
وانتقض، واستدعى نائب ملطية [3] ، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان
قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر،
فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه، وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق،
فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس
[4] ،
__________
[1] الأعطاف: الجوانب.
[2] المقاربة: ترك الغلو في الأمور، وقصد السداد فيها.
[3] بفتح الميم واللام، وسكون الطاء، ثم ياء مفتوحة، والعامة تكسر
الطاء، وتشدد الياء. تقع في الشمال الغربي لديار بكر من الجمهورية
التركية. (معجم البلدان) ، تاج العروس (ملط) .
[4] يونس بن عبد الله الأمير سيف الدين الدوادار الأكبر لفك الظاهر،
ويعرف بالنوروري (نسبة الى معتقله الأمير جرجي النوروري) . كان من
أعاظم دولة الظاهر برقوق، حارب منطاش، والناصري، وعاد في
(7/699)
وجهركس الخليلي أمير الاسطبل، والأتابكي
أيتمش، وأيدكار حاجب الحجاب [1] وأحمد بن يلبغا أستاذهم [2] . وخرج
النّاصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام، ولما
تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا
الحملة على من بقي فانفضّوا. ونجا ايتمش إلى قلعة دمشق، فدخلها، وقتل
جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق، ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت
أنباؤهم حتى أطلّوا على مصر.
وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه،
أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط [3] في قتل السلطان يوم
ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صحّ الخبر أمر بقتله، وحبس
الخليفة سبعا إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع، ولما وصل إلى قيطا
اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل
إلى بيته وخرج متنكرا، وتسرّب في غيابات المدينة، وباكر الناصري
وأصحابه القلعة، وأمير حاج ابن الأشرف، فأعادوه إلى التخت ولقّبوه
المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم ألطنبغا
الجوباني الّذي كان أمير مجلس [4] ، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه
أياما، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه
يروم الانتقاض، وداخل الناصريّ نائب حلب في ذلك، وأكّد ذلك عند السلطان
ما كان بينه وبين النّاصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه.
ولما جاء حبسه بالإسكندرية، فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن
__________
[ () ] جيش منهزم الى القاهرة، وفي طريقه قتل سنة 791 عن نيف وستين
سنة. خطط المقريزي 2/ 426 بولاق.
[1] أيدكار بن عبد الله العمري سيف الدين، كان أحد أعيان الملك الظاهر،
وولاه حجابة الحجاب. ثم انحاز إلى حزب منطاش، ولما عاد برقوق إلى الملك
قبض عليه في سنة 794، وقتله.
[2] الأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي، كان برقوق مملوكا
لوالده، ولذلك عفا عنه حين انحاز إلى الناصري ومنطاش. ولما مات الظاهر،
ثار ايتمش وآخرون بالشام، فانضم اليهم أحمد بن يلبغا هذا، وحاربهم فرج
بن الظاهر، فانتصر عليهم، وقبض على أحمد بن يلبغا، فقتله في سنة 802.
[3] قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة، وكان له أقدام
وشجاعة وصل بهما إلى مرادفة الأمراء في مذاهبهم. قتل سنة 785.
[4] معناه صاحب الشورى في الدولة، وهو ثاني الأتابك، وتلو رتبته. العبر
م 5 صبح الأعشى 5/ 455.
(7/700)
الأشرف [1] على التخت، بعث عنه ليستعين به
على أمره، وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى
الجوبانيّ واستنام له، واستحلفه على الأمان، فحلف له، وجاء به إلى
القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصريّ في المضيّ إليه وتأمينه. وحبسوه في
بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره، فأشار أمراء اليلبغاوية كلّهم
بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنّا [2] بالشام
للصحابة بينه وبين الناصري، فحضّهم على قتله، ومنع الجوبانيّ من ذلك
وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك [3] ،
ودافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما
شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى
الكرك، وولّوا عليها نائبا وأوصوه به، فأخفق مسعى منطاش، ودبّر في
اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه، وحبسه
بالإسكندرية، وركب منتقضا، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري
بالقلعة. واستجاش هو بأمراء اليلبغاوية، فداهنوا في إجابته، ووقفوا
بالرّميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفضّ جمع
النّاصري، وخرج هاربا، فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكور، وردّوه، فحبسه
منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقلّ بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل
الظاهر، فامتنع النّائب، واعتذر بوقوفه على خطّ السلطان والخليفة
والقضاة. وبثّ الظاهر عطاءه في عامّة أهل الكرك، فانتدبت طائفة منهم
لقتل البريدي الّذي جاء في ذلك، فقتلوه، وأخرجوا الظاهر من محبسه
فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض مماليكه، وسار إلى
الشام. واعترضه ابن باكيش [4] نائب
__________
[1] الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون،
يلقب بالمنصور (غير لقبه الصالح الى المنصور) ، وخلع نفسه يوم أن عاد
برقوق الى الملك.
[2] نعير بن محمد بن حيار بن مهنا بن مانع، لبثه القدم الراسخة في
الإمارة.
وفي ظفر برقوق به، وبمنطاش، يقول الشيخ زين الدين بن ظاهر:
الملك الظاهر في عزه ... أذل من ضل ومن طاشا
ورد في قبضته طائعا ... نعيرا العاصي ومنطاشا
[3] مدينة في الأردن على بعد 145 كلم من القدس عرفت قديما باسم (كير
مؤاب) كانت حصنا للمؤابيين، احتلها الصليبيون واستردها صلاح الدين سنة
1188، كانت مقر مطرانية منذ أوائل العهد المسيحي كما كانت قاعدة لدولة
المماليك سنة 1309
[4] الحسن بن باكيش الأمير بدر الدين التركماني، نائب غزة من قبل
منطاش. قتله الظاهر بالقاهرة سنة 793، وكان مشهورا بالشجاعة.
(7/701)
غزّة [1] ، فأوقع به الظاهر، وسار إلى
دمشق، وأخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة
ليمانع الظّاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق [2] ،
فواقعه، وأقام محاصرا له. ووصل إليه كمشبغا [3] الحموي نائب حلب، وكان
قد أظهر دعوته في عمله، وتجهّز للقائه بعسكره، فلقيه وأزال علله، فأقام
له أبّهة الملك. وبيناهم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه
وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب [4] ، فلمّا تراءى الجمعان، حمل
الظاهر على السّلطان أمير حاج وعساكره ففضّهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب.
وسار منطاش في إتباعه، فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج، ففضّها، واحتاز
السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في
عمياء من أمرهم، وفرّ منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبيته [5] ، ونزل
على دمشق محاصرا لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة
والخليفة، فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظّاهر
إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلّب مماليكه
عليها، وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان
مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعدّ لهم، فتناجوا في التّسوّر
منه إلى ظاهره، والتوثّب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش
الّذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة،
ورأسهم مملوكه بطا [6] وساس أمرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر
بذلك الى الظاهر، أغذّ السّير إلى مصر. وتلقّاه الناس فرحين مسرورين
بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وولّى بطا
دوادارا، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى
__________
[1] مدينة بفلسطين قرب الساحل، بها ولد الإمام الشافعيّ، ويروى له فيها
شعر. (معجم البلدان) .
[2] الأمير جنتمر التركماني.
[3] كمشبغا بن عبد الله الحموي اليلبغاوي الأمير سيف الدين. توفي سنة
801.
[4] شقحب (كجعفر) : موضع قرب دمشق، نسب إليه جماعة من المحدثين. (تاج
العروس) .
[5] كذا في الأصول، وهي مكررة في أماكن متعددة من تاريخ العبر. وأظنها
محرفة أثناء النسخ عن كلمة (ضرب) . فتصبح العبارة: «وضرب الظاهر
أخبيته» .
[6] الأمير بطا الطولوتمري، خلع عليه الظاهر برقوق سنة 792 دوادارا، ثم
نائب دمشق، وليها من قبل استاذه في ذي القعدة سنة 793 الى ان توفي بها
سنة 794. وانظر تفصيل ثورة بطا ومن كان معه من المسجونين، في «العبر»
المجلد الخامس.
(7/702)
مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري
إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولّى سودون على
نيابته، وكان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم عليّ أحوالا من
معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء أزمان كنت عليه، ومن تصرّفات
دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها، فوغر صدره من ذلك، وكان الظاهر
ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى [1] استدعاها منّا منطاش، وأكرهنا على
كتابها، فكتبناها، وورّينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك،
وعتب عليه، وخصوصا عليّ، فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه
عنّي، فولّى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات اعتذر
عن ذلك ليطالعه بها، فتغافل عنها، وأعرض عني مدّة، ثم عاد إلى ما أعرف
من رضاه وإحسانه، ونصّ الأبيات:
سيّدي والظنون فيك جميلة ... وأياديك بالأماني كفيلة
لا تحل عن جميل رأيك إنّي ... ما لي اليوم غير رأيك حيلة
واصطنعني كما اصطنعت بإسداء ... يد من شفاعة أو وسيلة
لا تضعني فلست منك مضيعا ... ذمّة الحبّ، والأيادي الجميلة
وأجرني فالخطب عضّ بنابيه ... وأجرى الى حماي خيوله
__________
[1] في السلوك: «في 25 قعدة، أحضرت نسخ الفتوى في الملك الظاهر، وزيد
فيها: «واستعان على قتل المسلمين بالكفار، وحضر الخليفة المتوكل، وقضاة
القضاة: بدر الدين محمد بن أبي البقاء الشافعيّ.
وابن خلدون، وسراج الدين عمر بن الملقن الشافعيّ، وعدة دون هؤلاء، في
القصر الأبلق، بحضرة الملك المنصور، ومنطاش، وقدمت اليهم الفتوى،
فكتبوا عليها بأجمعهم، وانصرفوا» .
وفي تاريخ ابن الفرات:
«وفي يوم الاثنين اجتمعت الأمراء بالقصر الأبلق بقلعة الجبل، بحضرة
السلطان الملك المنصور وحاجي، والأمير منطاش، والخليفة محمد، والقضاة
الأربعة، والشيخ سراج الدين البلقيني، وولى القاضي جلال الدين عبد
الرحمن قاضي العسكر، وقاضي القضاة بدر الدين بن أبي البقاء الشافعيّ،
وقضاة العسكر، ومفتون (كذا) دار العدل، وكتبت فتاوى تتضمن: هل يجوز
قتال الملك الظاهر برقوق أم لا؟ وذكروا في الفتاوى أشياء تخالف الشرع
الشريف، ومما تضمنته الفتاوى: انه يستعين على قتال المسلمين بالنصارى،
فسألوهم (كذا) الجماعة عن ذلك، فقيل لهم ان الملك الظاهر معه جماعة من
نصارى الشوبك نحو 600 نفس يقاتل بهم في عسكره: ولم يكن الأمر كذلك،
وانما أرادوا التلبيس على العلماء المفتين، فعند ذلك وضعوا (كذا)
المذكورون خطوطهم على الفتاوى المذكورة بجواز قتاله، وانفصل المجلس على
ذلك ونودي في بكرة هذا النهار في القاهرة لأجناد الحلقة: أن لا يتأخر
أحد منهم عن العرض، ومن لم يحضر قطع خبزه» .
(7/703)
ولو أنّي دعا بنصري داع ... كنت لي خير
معشر وفصيلة
أنه أمري الى الّذي جعل الله ... أمور الدّنيا له مكفولة
وأراه في ملكه الآية ... الكبرى فولّاه ثم كان مديله
أشهدته عناية الله في التمحيص ... أن كان عونه ومنيله
العزيز السلطان والملك الظّاهر ... فخر الدنيا وعزّ القبيلة
ومجير الإسلام من كل خطب ... كاد زلزال بأسه أن يزيله
ومديل العدو بالطّعنة النّجلا ... وتفرّي ماذيّه ونصوله [1]
وشكور لأنعم الله يفني ... في رضاه غدوّه وأصيله
وتلطّف في وصف حالي وشكوى ... خلّتي [2] يا صفيّة وخليله
قل له والمقال يكرم من مثلك ... في محفل العلا أن يقوله
يا خوند الملوك يا معد الدّهر ... إذا عدّل [3] الزمان فصوله
لا تقصّر في جبر كسرى فما ... زلت أرجيك للأياد الطّويلة
أنا جار لكم منعتم حماه ... ونهجتم الى المعالي سبيله
وغريب أنّستموه على الوحشة ... والحزن بالرضى والسّهولة
وجمعتم من شمله فقضى الله ... فراقا وما قضى مأموله
غاله الدّهر في البنين وفي الأهل ... وما كان ظنّه أن يغوله [4]
ورمته النّوى [5] فقيدا قد ... اجتاحت عليه فروعه وأصوله
فجذبتم بضبعه [6] وأنلتم ... كل ما شاءت العلا أن تنيله
ورفعتم من قدره قبل أن ... إليكم عياءه وخموله
وفرضتم له حقيقة ودّ ... حاش للَّه أن ترى مستحيلة
همة ما عرفتها لسواكم ... وأنا من خبرت دهري وجيله
__________
[1] الطعنة النجلاء: الواسعة العريضة. وتفري: تشق. والماذي (بالمعجمة)
: كل سلاح من الحديد.
والنصول جمع نصل، وهو حديدة السهم.
[2] الحلة (بالفتح) : الحاجة، والفقر.
[3] عدل الحكم: اقامه، والميزان سواه.
[4] يشير الى غرق اهله في المركب الّذي أقلهم من المغرب، وقد تقدم له
ذكر هذا.
[5] النوى: الوجه الّذي ينويه المسافر من قرب أو بعد. وهي مؤنثة لا
غير.
[6] الضبع: العضد.
(7/704)
والعدا نمّقوا أحاديث إفك ... كلها في
طرائق معلولة
روّجوا في شأني غرائب زور ... نصبوها لأمرهم أحبولة
ورموا بالذي أرادوا من ... البهتان ظنا بأنها مقبولة
زعموا انني أتيت من الأقوال ... ما لا يظنّ بي أن أقوله
كيف لي أغمط الحقوق وأنّي ... شكر نعماكم عليّ الجزيلة؟
كيف لي أنكر الأيادي التي ... تعرفها الشّمس والظّلال الظليلة؟
إن يكن ذا فقد برئت من ... الله تعالى وخنت جهرا رسوله
طوقونا أمر الكتاب فكانت ... لقداح الظنون فينا مجيلة [1]
لا وربّ الكتاب أنزله الله ... على قلب من وعى تنزيله
ما رضينا بذاك فعلا ولا جئناه ... طوعا ولا اقتفينا دليله
إنما سامنا الكتاب ظلوم ... لا يرجّى دفاعه بالحيلة
سخط ناجز وحلم بطيء ... وسلاح [2] للوخز فينا صقلّيّة
ودعوني ولست من منصب الحكم ... ولا ساحبا لديهم ذيوله
غير أنّي وشى بذكري واش ... يتقصّى أوتاره وذحوله [3]
فكتبنا معوّلين على حلمك ... تمحو الإصار عنّا الثّقيلة
ما أشرنا به لزيد ولا عمرو ... ولا عيّنوا لنا تفصيله
إنما يذكرون عمّن وفيمن ... مبهمات أحكامها منقولة
ويظنّن أنّ ذاك على ما ... أضمروا من شناعة أو رذيلة
وهو ظنّ عن الصّواب بعيد ... وظلام لم يحسنوا تأويله
وجناب السّلطان نزّهه الله ... عن العاب [4] بالهدى والفضيلة
وأجلّ الملوك قدرا صفوح ... يرتجي ذنب دهره ليقيله
فاقبلوا العذر إنّنا اليوم نرجو ... بحياة السّلطان منكم قبوله
وأعينوا على الزّمان غريبا ... يشتكي جدب عيشه ومحوله
__________
[1] يشير الى الفتوى السالفة الذكر عن المقريزي وابن الفرات.
[2] السلاح: آلة الحرب، أو حديدته، ويؤنث.
[3] أوتار جمع وتر، بمعنى الذحل. والذحل: العداوة. والجمع ذحول.
[4] العاب: العيب.
ابن خلدون م 45 ج 7
(7/705)
جاركم ضيفكم نزيل حماكم ... لا يضيع الكريم
يوما نزيله
جدّدوا عنده رسوم رضاكم ... فرسوم الكرام غير محيلة
داركوه برحمة فلقد أمست ... عقود اصطباره محلولة
وانحلوه جبرا فليس يرجّي ... غير إحسانكم لهذي النّحيلة
يا حميد الآثار في الدهر يا ... ألطنبغا يا روض العلا ومقيله
كيف بالخانقاه ينقل عنّي ... لا لذنب أو جنحة منقولة
بل تقلّدتها شغورا بمرسوم ... شريف وخلعة مسدولة
ولقد كنت آملا لسواها ... وسواها بوعده ان ينيله
وتوثّقت للزّمان علييها ... بعقود ما خلتها محلولة
أبلغن قصّتي فمثلك من يقصد ... فعل الحسنى بمن ينتمي له
واغنموا من مثوبتي ودعائي ... قربة عند ربكم مقبولة
وفي التّعريض بسفره إلى الشام:
واصحب العزّ ظافرا بالأماني ... واترك العصبة العدا مفلولة
واعتمل في سعادة الملك الظّاهر ... أن تمحو الأذى وتزيله
وتعيد الدّنيا لأحسن شمل ... حين تضحي بسعده مشمولة
واطلب النّصر من سعادته يصحبك ... دأبا في الظعن والحيلولة
وارتقب ما يحلّه بالأعادي ... في جمادى أو زد عليه قليله
وخذوه فألا بحسن قبول ... صدّق الله في الزمان مقولة
فلقد كان يحسن الفال عند ... المصطفى دائما ويرضى جميلة
(السعاية في المهاداة والإتحاف بين ملوك
المغرب والملك الظاهر)
كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالاتحاف بطرف أوطانهم،
(7/706)
للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع. وكان
صلاح الدين بن أيوب هادي يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن،
واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشّام حين كان معنيّا
بإرجاعهم عنها، وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ [1] من أمراء
شيزر [2] ، فأكرم المنصور رسوله، وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في
الكتاب إليه [3] من العدول عن تخطيطه [4] بأمير المؤمنين، فوجدها غصّة
في صدره منعته من إجابته إلى سؤاله، وكان المانع لصلاح الدّين من ذلك
كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني [5] بما كان يشاوره في أموره، وكان
مقيما لدعوة الخليفة العبّاسي بمصر، فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد
لاثنين في الملّة كما هو المشهور، وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك، لما
يرون أن، الخلافة ليست لقبا فقط، وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها
بالشدّة والحماية، والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحقّ. فلما انقرضت
دولة الموحّدين، وجاءت دولة بني مرين من بعدهم، وصار كبراؤهم ورؤساؤهم
يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقيّة، فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان
إليهم، وتسهيل طريقهم، فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البرّ والمواصلة،
بالاتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية، فسنّت لذلك
طرائق وأخبار مشهورة، من حقّها أن تذكر، وكان يوسف ابن يعقوب بن عبد
الحقّ ثالث ملوك بني مرين، أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة [6] ، وهو يومئذ
النّاصر بن محمد بن قلاون، هدية ضخمة، أصحبها كريمة
__________
[1] هكذا سماه ابن خلدون هنا، وفي «المقدمة» ، وفي «وفيات ابن خلكان»
(2/ 433) ، والروضتين لأبي شامة 1/ 173، والاستقصاء 1/ 174، ان اسمه
عبد الرحمن.
وهو شمس الدين ابو الحرث (وكناه في الروضتين أبا الحزم) ، عبد الرحمن
بن نجم الدولة أبي عبد الله محمد بن مرشد، المتوفى سنة 600 بالقاهرة،
والمولود بشيزر سنة 523.
[2] قرية قرب المعرة بينها وبين حماة، فتحت سنة 17 هجرية، ومنها
الأمراء من بني منقذ، وأول من ملكها منهم من يد الروم علي بن مقلد بن
نصر بن منقذ الكناني، وذلك في سنة 474 (معجم البلدان) ، وفيات 1/ 464،
تاريخ أبي الفداء 2/ 352 (سنة 502) . وانظر أخبار بني منقذ في تاريخ
أبي الفداء أيضا 3/ 32 وما بعدها.
[3] جاء في الروضتين (2/ 170- 175) نص الرسالة التي كتبها القاضي
الفاضل إلى المنصور الموحدي، ونص رسالة أخرى مضمونها تكليف الأمير ابن
منقذ هذا بالسفارة الى الموحدين.
[4] تحليته.
[5] عبد الرحيم بن الأشرف بهاء الدين ... العسقلاني، ثم المصري المعروف
بالقاضي الفاضل مجير الدين (529- 596) . وفيات 1/ 357 وما بعدها.
[6] انظر العبر المجلد الخامس، والاستقصاء 2/ 40- 41، حيث تجد تفصيل
الحديث عن هذه الهدية.
(7/707)
من كرائم داره، احتفل فيها ما شاء من أنواع
الطّرف، وأصناف الذّخائر، وخصوصا الخيل والبغال.
أخبرني الفقيه ابو إسحاق الحسناوي، كاتب الموحّدين بتونس، أنه عاين تلك
الهدية عند مرورها بتونس، قال: وعددت من صنف البغال الفارهة فيها
أربعمائة، وسكت عما سوى ذلك. وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب، أبو
الحسن التّنسيّ كبير أهل الفتيا بتلمسان. ثم كافأ النّاصر عن هذه
الهدية بأعلى منها وأحفل [1] مع أميرين من أمراء دولته، أدركا يوسف بن
يعقوب وهو يحاصر تلمسان، فبعثهما إلى مرّاكش للنّزاهة [2] في محاسنها،
وأدركه الموت في مغيبهما، ورجعا من مرّاكش، فجهّزهما حافده أبو ثابت
المالك بعده، وشيّعهما الى مصر، فاعترضتهما قبائل حصين ونهبوهما [3] ،
ودخلا بجاية، ثم مضيا إلى تونس، ووصلا من هنالك إلى مصر.
ولمّا ملك السلطان أبو الحسن تلمسان، اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد،
وكانت لها عليه تربية، فأرادت الحجّ في أيامه وبعنايته، فأذن لها في
ذلك، وبعث في خدمتها وليّه عريف بن يحيى من أمراء سويد، وجماعة من
أمرائه وبطانته، واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء.
وانتقى من الخيل العتاق، والمطايا الفرة وقماش الحرير والكتّان، والصوف
ومدبوغ الجلود الناعمة، والأواني المتخذة من النحاس والفخّار المخصوص
كلّ مصر من المغرب بأصناف من صنائعها، متشابهة الأشكال والأنواع، حتى
لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلئ والفصوص، وكان ذلك وقر خمس
مائة بعير، وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس، بالسروج الذّهبية
المرصّعة بالجواهر، واللجم المذهبة، والسّيوف المحلّاة بالذهب واللآلئ،
كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار،
__________
[1] جاء في الاستقصاء: 2/ 41: « ... وأما الملك الناصر، فإنه كافأ
السلطان يوسف على هديته، بأن جمع من طرف بلاد المشرق ما يستغرب جنسه
وشكله، من الثياب والحيوانات، ونحو ذلك، مثل الفيل والزرافة ونحوهما،
وأوفد به مع عظماء دولته سنة 705» .
[2] استعمال النزاهة، والنزهة بهذا المعنى مختلف فيه بين اللغويين.
وانظر تاج العروس «نزه» ، حيث تجد أقوالهم.
[3] في الاستقصاء: 2/ 42: «.... ولما انتهوا الى بلاد بني حسن في سنة
708، اعترضتهم الأعراب بالقفر، فانتهبوهم، وخلصوا الى مصر بجريعة
الذقن، فلم يعاودوا بعدها سفرا، ولا لفتوا اليه وجها، وطالما اوفد
عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له، ويهادونهم
ويكافئون، ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا» .
(7/708)
وتدرّجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة،
فكانت قيمته مائة دينار. تحدّث الناس بهذه الهديّة دهرا، وعرضت بين يدي
الملك النّاصر، فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه، وبولغ في
كرامة أولئك الضّيوف، في إنزالهم وقراهم وإزوادهم إلى الحجاز وإلى
بلادهم، وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم،
وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. ولمّا فصل أرسال [1] ملك
المغرب، وقد قضوا فرضهم، بعث الملك النّاصر معهم هديّة كفاء هديتهم،
وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة
بالإسكندرية، تحمل كلّ عام إلى دار السلطان، قيمة ذلك الحمل خمسون ألف
دينار، وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور، تشتمل
على بيوت للمراقد، وأواوين للجلوس والطّبخ، وأبراج للإشراف على
الطرقات، وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض، وفيها تمثال مسجد بمحرابه،
وعمده، ومئذنته، حوائطها كلّها من خرق الكتّان الموصولة بحبك الخياطة
مفصّلة على الأشكال التي يقترحها المتّخذون لها.
وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل، عالية السمك، مخروطة الرأس، رحبة
الفناء، تظلّ خمس مائة فارس أو أكثر، وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب
الذهبية الصّقيلة، ولجمها كذلك، ومرّت هذه الهدية بتونس، ومعها الخدّام
القائمون بنصب الأبنية، فعرضوها على السلطان بتونس. وعاينت يومئذ أصناف
تلك الهدية، وتوجّهوا بها إلى سلطانهم، وبقي التعجّب منها دهرا على
الألسنة. وكان ملوك تونس من الموحدين، يتعاهدون ملوك مصر بالهديّة في
الأوقات.
ولما وصلت إلى مصر، واتّصلت بالملك الظاهر، وغمرني بنعمه وكرامته،
كاتبت السلطان بتونس يومئذ، وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التّشوّف
إلى جياد الخيل، وخصوصا من المغرب، لما فيها [من تحمّل] الشّدّة
والصّبر على المتاعب، وكان يقول لي مثل ذلك، وأنّ خيل مصر قصّرت بها
الرّاحة والتّنعّم، عن الصّبر على التّعب، فحضضت السلطان بتونس على
إتحاف الملك الظاهر بما ينتقيه من الجياد الرّائعة، فبعث له خمسة
انتقاها من مراكبه، وحملها في البحر في السّفين الواصل بأهلي وولدي،
فغرقت بمرسى الإسكندرية، ونفقت تلك الجياد، مع ما ضاع في
__________
[1] فصل من البلد: خرج عنه. وقد استعمل ابن خلدون «إرسال» جمع رسول في
أماكن متفرقة من كتاب العبر، وهذا غير جائز في مختلف كتب اللغة.
(7/709)
ذلك السّفين، وكلّ شيء بقدر.
ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة شيخ الأعراب: المعقل بالمغرب،
يوسف ابن عليّ بن غانم، كبير أولاد حسين ناجيا من سخط السلطان أبي
العبّاس أحمد ابن أبي سالم، من ملوك بني مرين بفاس، يروم قضاء فرضه،
ويتوسّل بذلك لرضى سلطانه، فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش،
فعرضته لصاحب المحمل. فلمّا عاد من قضاء فرضه، وكان السلطان قد عاد من
الشام، فوصلته به، وحضر بين يديه، وشكا بثّه، فكتب الظاهر فيه شفاعة
لسلطان وطنه بالمغرب، وحمّله مع ذلك هديّة إليه من قماش وطيب وقسيّ،
وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب، وانصرف، فقبل سلطانه فيه شفاعة
الظّاهر، وأعاده إلى منزلته. وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك
الظاهر، وأحسن في انتقاء أصناف الهدية، فعاجلته المنيّة دون ذلك، وولي
ابنه أبو فارس، وبقي أياما ثمّ هلك، وولي أخوه أبو عامر، فاستكمل
الهديّة، وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول.
وكان السلطان الملك الظاهر، لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب، أراد
أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشّراء، فعيّن لذلك مملوكا من
مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي، اسمه قطلوبغا [1] ، وبعث عنّي،
فحضرت بين يديه، وشاورني في ذلك فوافقته، وسألني كيف يكون طريقه، فأشرت
بالكتاب في ذلك الى سلطان تونس من الموحّدين [2] ، وسلطان تلمسان من
بني عبد الواد، وسلطان فاس والمغرب من بني مرين، وحمّله لكل واحد منهم
هدية خفيفة من القماش والطيب والقسيّ، وانصرف عام تسعة وتسعين وسبعمائة
إلى المغرب، وشيّعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه، وبالغ في إكرامه بما
يتعيّن. ووصل إلى فاس، فوجد الهدية قد استكملت، ويوسف بن عليّ على
المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب
أوّلا. وأظلّهم عيد الأضحى بفاس، وخرجوا متوجّهين إلى مصر، وقد أفاض
السّلطان من إحسانه وعطائه، على الرّسول قطلوبغا ومن في جملته بما أقرّ
عيونهم، وأطلق بالشكر ألسنتهم، وملأ بالثناء ضمائرهم، ومرّوا بتلمسان،
وبها
__________
[1] هو قطلوبغا بن عبد الله المتوفى سنة 821. تولى نيابة الاسكندرية
والحجابة أيام الظاهر، ونيابة الإسكندرية أيام المؤيد. قال في المنهل:
وأظنه من مماليك جاركش الخليلي أمير أخور، والله اعلم.
[2] هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي.
(7/710)
يومئذ أبو زيّان، ابن السلطان أبي حمّو من
آل يغمراسن بن زيّان، فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراكبها، وكان
يحوك الشّعر، فامتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته، ونصّها من
أولها الى آخرها:
لمن الرّكائب سيرهن دميل [1] ... والصّبر- إلّا بعدهن- جميل
يا أيها الحادي رويدك [2] إنّها ... ظعن [3] يميل القلب حيث تميل
رفقا بمن حملته فوق ظهورها ... فالحسن فوق ظهورها محمول
للَّه آية أنجم: شفّافة ... تنجاب عنها للظلام سدول
شهب بآفاق الصدور طلوعها ... ولها بأستار الجدول أفول
في الهودج المزرور منها غادة ... تزع الدجى بجبينها فيحول
فكأنها قمر على غصن على ... متني كثيب والكثيب مهيل
ثارت مطايا فثار بي الهوى ... واعتاد قلبي زفرة وغليل
أومت لتوديعي فغالب عبرتي ... نظر تخالسه العيون كليل
دمع أغيّض منه خوف رقيبها ... طورا ويغلبني الأسى فيسيل
ويح المحبّ وشت به عبراته ... فكأنّها قال عليه وقيل
صان الهوى وجفونه يوم النّوى ... لمصون جوهر دمعهنّ تذيل
وتهابه أسد السّرى في خيسها [4] ... ويروعه ظبي الحمى المكحول
تأبى النفوس الضّيم إلّا في الهوى ... فالحرّ عبد والعزيز ذليل
يا بانة الوادي ويا أهل الحمى ... هل ساعة تصغين لي فأقول
ما لي إذا هبّ النسيم من الحمى ... أرتاح شوقا للحمى وأميل
خلّوا الصّبا يخلص إليّ نسيمها ... إن الصّبا لصبابتي تعليل
ما لي أحلّا عن ورود محلّه ... وأذاد عنه وورده منهول [5]
__________
[1] الذميل: ضرب من سير الإبل فوق التزيد.
[2] رويدك: اسم فعل بمعنى أمهل.
[3] جمع ظعينة، وهي المرأة تكون في الهودج، والهودج نفسه.
[4] الخيس: موضع الأسد.
[5] حلأ الإبل عن ورود الماء: منعها، وذادها.
(7/711)
والباب ليس بمرتج [1] عن مرتج [2] ...
والظنّ في المولى الجميل جميل
من لي بزورة روضة الهادي الّذي ... ما مثله في المرسلين رسول
هو أحمد ومحمد والمصطفى ... والمجتبى وله انتهى التفضيل
يا خير من أهدى الهدى وأجلّ من ... أثنى عليه الوحي والتّنزيل
وحي من الرّحمن يلقيه على ... قلب النّبي محمد جبريل
مدحتك آيات الكتاب وبشّرت ... بقدومك التّوراة والإنجيل
صلة الصّلاة عليك تحلو في فمي ... مهما تكرّر ذكرك المعسول
فور بعك المأهول إن بأضلعي ... قلبا بحبّك ربعه مأهول
هل من سبيل للسّرى حتى أرى ... خير الورى فهو المنى والسّول
حتّام تمطلني اللّيالي وعدها ... إنّ الزّمان بوعده لبخيل
ما عاقني إلّا عظيم جرائمي ... إن الجرائم حملهنّ ثقيل
أنا مغرم فتعطّفوا انا مذنب ... فتحاوزوا أنا عاثر فأقيلوا
وأنا البعيد فقرّبوا والمستجير ... فأمّنوا والمرتجى فأنيلوا
يا سائقا نحو الحجاز حمولة [3] ... والقلب بين حمولة [4] محمول
لمحمّد بلّغ سلام سميّه ... فذمامه بمحمد موصول
وسل الإله له اغتفار ذنوبه ... يسمع هناك دعاؤك المقبول
وعن المليك أبي سعيد فلتنب ... فلكم له نحو الرّسول رسول
متحمّل للَّه كسوة بيته ... يا حبّذاك المحمل المحمول
سعد المليك أبي سعيد إنّه ... سيف على أعدائه مسلول
ملك يحجّ المغرب الأقصى به ... فلهم به نحو الرّسول وصول [5]
__________
[1] باب مرتج: مغلق.
[2] من الرجاء.
[3] الحمولة (بالفتح) : ما يحمل عليه الناس من الدواب.
[4] الحمول جمع حمل، وهو ما حمل على ظهر الدابة.
[5] كانت العناية التي يلقاها الحجاج المغاربة من ملوك مصر، مما يقدره
ملوك المغرب التقدير الجميل، وكان مما يقلقهم ان يتعرض وفد الحجاج
المغاربة للمتاعب في سفره. صبح الأعشى 9/ 250.
(7/712)
ملك به نام الأنام وأمّنت ... سبل المخاف
[1] فلا يخاف سبيل
فالملك ضخم والجناب مؤمّل ... والفضل جمّ والعطاء جزيل
والصّنع أجمل والفخار مؤثّل ... والمجد أكمل والوفاء أصيل
يا مالك البحرين بلّغت المنى ... قد عاد مصر على العراق يصول
يا خادم الحرمين حقّ لك الهنا ... فعليك من روح [2] الإله قبول
يا متحفي ومفاتحي برسالة ... سلسالة يزهى بها التّرسيل
أهديتها حسناء بكرا ما لها ... غيري، وإن كثر الرّجال، كفيل
ضاء المداد من الوداد بصحفها ... حتى اضمحلّ عبوسه المجبول [3]
جمعت وحاملها بحضرتنا كما ... جمعت بثينة في الهوى وجميل [4]
وتأكّدت بهديّة ودّية ... هي للإخاء المرتضى تكميل
أطلعت فيها للقسيّ أهلّة ... يرتدّ عنها الطّرف وهو كليل
وحسام نصر زاهيا بنضاره ... راق العيون فرنده المعسول
ماضي الشّبا [5] لمصابه تعنو الظّبا ... فيه تصول على العدا وتطول
وبدائع الحلل اليمانية التي ... روّى معاطفها بمصر النّيل
فأجلت فيها ناظري فرأيتها ... حفا يجول الحسن حيث تجول
جلّت محاسنها فأهوى نحوها ... بفم القبول اللّثم والتّقبيل
يا مسعدي وأخي العزيز ومنجدي ... ومن القلوب إلى هواه تميل
إن كان رسم الودّ منك مذيّلا ... بالبرّ وهو بذيله موصول
فنظيره عندي وليس يضيره ... بمعارض وهم ولا تخييل
ودّ «يزيد» و «ثابت» شهدا به ... و «لخالد» بخلوده تذييل
وإليكها تنبيك صدق مودّتي ... صحّ الدليل ووافق المدلول
فإذا بذاك المجلس السّامي سمت ... فلديك إقبال لها وقبول
__________
[1] المخاف: موضع الخوف.
[2] روح الإله: رحمته.
[3] يعني: اضمحلّ العبوس الطبيعي.
[4] جميل بن عبد الله بن معمر العذري، وبثينة صاحبته التي عشقها منذ
أيام صباه.
[5] الشباة: حد السيف وطرفه، والجمع شبا.
(7/713)
دام الوداد على البعاد موصّلا ... بين
القلوب وحبله موصول
وبقيت في نعم لديك مزيدها ... وعليك يضفو ظلّها المسدول
ثم مرّوا بعدها بتونس، فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن
السلطان أبي العبّاس من ملوك الموحّدين، هدية ثالثة انتقى لها جياد
الخيل، وعزّز بها هدية السلطانين وراءه، مع رسوله من كبار الموحّدين
أبي عبد الله بن تافراكين، ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظّاهر
في آخر السّنة، وعرضت بين يدي السلطان، وانتهب الخاسكية ما كان فيها من
الأقمشة والسّيوف والبسط ومراكب الخيل، وحمل كثيرا منهم على كثير من
تلك الجياد وارتبط الباقيات.
وكانت هديّة صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج
واللّجم الذهبية، والسيوف المحلّاة، وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة
الحرير والكتّان والصوف والجلد، منتقاة من أحسن هذه الأصناف.
وهديّة صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموّهة،
وأحمالا من الأقمشة.
وهديّة صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشّاة ببراقع الثياب من
غير مراكب، وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه، وجلس السّلطان يوم
عرضها جلوسا فخما في إيوانه، وحضر الرّسل، وأدّوا ما يجب عن ملوكهم.
وعاملهم السلطان بالبرّ والقبول، وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات
الواسعة، والأحوال الضّخمة. ثم حضر وقت خروج الحاجّ، فأستأذنوا في
الحجّ مع محمل السلطان، فأذن لهم، وأرغد أزودتهم. وقضوا حجّهم، ورجعوا
إلى حضرة السلطان ومعهود مبرّته. ثم انصرفوا إلى مواطنهم، وشيّعهم من
برّ السلطان وإحسانه، ما ملأ حقائبهم، وأسنى ذخيرتهم، وحصل لي أنا من
بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السّعي في
الوصلة الباقية على الأبد، فحمدت الله على ذلك.
(ولاية القضاء الثانية بمصر)
ما زلت، منذ العزل عن القضاء الأوّل سنة سبع وثمانين وسبعمائة، مكبا
على
(7/714)
الاشتغال بالعلم، تأليفا وتدريسا، والسلطان
يولّي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع، من موت القائم
بالوظيفة، أو عزله، وكان يراني الأولى بذلك، لولا وجود الذين شغّبوا من
قبل في شأني، من أمراء دولته، وكبار حاشيته، حتى انقرضوا. واتفقت وفاة
قاضي المالكيّة إذ ذاك ناصر الدين بن التّنسي [1] ، وكنت مقيما
بالفيّوم لضمّ زرعي هنالك، فبعث عنّي، وقلّدني وظيفة القضاء في منتصف
رمضان من سنة إحدى وثمانمائة، فجريت على السّنن المعروف مني، من القيام
بما يجب للوظيفة شرعا وعادة، وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عنّي في
ذلك. ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها، وأحضر الخليفة والقضاة
والأمراء، وعهد إلى كبير أبنائه فرج، ولإخوته من بعده واحدا واحدا،
وأشهدهم على وصيّته بما أراد. وجعل القائم [2] بأمر ابنه في سلطانه إلى
أتابكه ايتمش [3] ، وقضى رحمة الله عليه، وترتّبت الأمور من بعده كما
عهد لهم، وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم
[4] ، وسمع بالواقعات بعد السلطان فغصّ أن لم يكن هو كافل ابن الظّاهر
بعده، ويكون زمام الدّولة بيده. وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك، وبينما
هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك [5] أيتمش، وذلك أنّه كان للأتابك
دوادار غرّ يتطاول إلى الرئاسة، ويترفّع على أكابر الدّولة بحظّه من
أستاذه، وما له من الكفالة على السلطان، فنقموا حالهم مع هذا
الدّوادار، وما يسومهم به من التّرفّع عليهم، والتّعرض لإهمال نصائحهم،
فأغروا السلطان
__________
[1] هو أحمد بن محمد بن عطاء الله بن عوض الزبيري الاسكندري المالكي
المشهور بابن التنسي (بفتح التاء والنون وكسر السين المهملة) ، ولد سنة
740، وتوفي سنة 801.
[2] كذا بالأصل، ولعلها «القيام بأمر» .
[3] هو أيتمش بن عبد الله الأسندمري البجاسي الجرجاني الأمير سيف
الدين، أتابك العساكر بالديار المصرية، أصله من مماليك اسندمر البجاسي
الجرجاني (نسبة إلى جرجي نائب حلب) وكان ملك ايتمش قبل أن يحرره الظاهر
برقوق.
[4] الأمير سيف الدين تنم بن عبد الله الحسني الظاهري، اسمه الأصلي
تنبك، وغلب عليه «تنم» ، كان نائب دمشق، وهو من مماليك الظاهر برقوق،
قتل سنة 802 بقلعة دمشق.
[5] يطلق «أتابك» في أيام المماليك، على مقدم العساكر أو القائد العام،
على انه أبو العساكر والأمراء جميعا. وهو مركب من كلمتين: «أتا» بمعنى
«أب» ، و «بك» ومعناها أمير. صبح الأعشى 4/ 18، 6/ 1.
(7/715)
بالخروج من ربقة الحجر، وأطاعهم في ذلك،
وأحضر القضاة بمجلسه للدّعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل، بما علم
من قيامه بأمره وحسن تصرفاته. وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافّة،
وأهل المراتب والوظائف منهم، شهادة قبلها القضاة. وأعذروا إلى الأتابك
فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم، ونفذ الحكم يومئذ برفع الحجر عن
السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه، وانفضّ الجمع، ونزل الأتابك من
الإسطبل إلى بيت سكناه. ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من
ذلك، فلم يروه صوابا، وحملوا الأتابك على نقضه، والقيام بما جعل له
السلطان من كفالة ابنه في سلطانه. وركب، وركبوا معه في آخر شهر المولد
النّبوي، وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشيّ يومهم وليلتها، فهزموهم،
وساروا إلى الشّام مستصرخين بالنائب تنم، وقد وقر في نفسه ما وقر من
قبل، فبرّ وفادتهم، وأجاب صريخهم. واعتزموا على المضيّ إلى مصر. وكان
السّلطان لما انفضّت جموع الأتابك، وسار إلى الشام، اعتمله في الحركة
والسّفر لخضد شوكتهم، وتفريق جماعتهم، وخرج في جمادى حتى انتهى إلى
غزّة، فجاءه الخبر بأنّ نائب الشام تنم، والأتابك، والأمراء الذين معه،
خرجوا من الشّام زاحفين للقاء السلطان، وقد احتشدوا وأوعبوا، وانتهوا
قريبا من الرّملة [1] ، فراسلهم السّلطان مع قاضي القضاة الشافعيّ صدر
الدين المناوي [2] ، وناصر الدين الرّمّاح، أحد المعلّمين لثقافة
الرماح، يعذر إليهم، ويحملهم على اجتماع الكلمة، وترك الفتنة، وإجابتهم
إلى ما يطلبون من مصالحهم، فاشتطّوا في المطالب، وصمّموا على ما هم
فيه. ووصل الرّسولان بخبرهم، فركب السلطان من الغد، وعبّى عساكره،
وصمّم لمعاجلتهم، فلقيهم أثناء طريقه، وهاجمهم فهاجموه، ثم ولّوا
الأدبار منهزمين.
وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه، فما غشيهم الليل إلّا
وهم مصفّدون في الحديد، يقدمهم الأمير تنم نائب الشام وأكابرهم كلّهم.
ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق، فآوى إليها، واعتقله نائب
القلعة. وسار السلطان إلى دمشق، فدخلها على التعبئة في يوم أغرّ، وأقام
بها أياما، وقتل هؤلاء
__________
[1] الرملة: مدينة بفلسطين بينها وبين القدس نحو 18 ميلا، كانت ذا شأن
عظيم في الحروب الصليبية (معجم البلدان) .
[2] صدر الدين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الشافعيّ.
(7/716)
الأمراء المعتقلين، وكبيرهم الأتابك ذبحا،
وقتل تنم من بينهم خنقا، ثم ارتحل راجعا إلى مصر.
وكنت استأذنت في التقدّم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس،
فأذن لي في ذلك. ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد، وتبرّكت بزيارته
والصّلاة فيه، وتعفّفت عن الدخول إلى القمامة [1] لما فيها من الإشادة
بتكذيب القرآن، إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصّليب بزعمهم،
فنكرته نفسي، ونكرت الدّخول إليه.
وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب، وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه
السلام. ومررت في طريقي إليه ببيت لحم، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد
المسيح، شيّدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصّخور، منجدة
مصطفّة، مرقوما على رءوسها صور ملوك القياصرة، وتواريخ دولهم، ميسّرة
لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتّراجمة العارفين لأوضاعها، ولقد يشهد هذا
المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم. ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى
غزّة، وارتحلت منها، فوافيت السلطان بظاهر مصر، ودخلت في ركابه أواخر
شهر رمضان سنة اثنين وثمانمائة. وكان بمصر فقيه من المالكيّة يعرف بنور
الدّين بن الخلال [2] ، ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكيّة،
فحرّضه بعض أصحابه على السّعي في المنصب، وبذل ما تيسّر من موجودة لبعض
بطانة السلطان الساعين له في ذلك، فتمّت سعايته في ذلك، ولبس منتصف
المحرّم سنة ثلاث وثمانمائة، ورجعت أنا للاشتغال بما كنت مشتغلا به من
تدريس العلم وتأليفه، إلى أن كان السّفر لمدافعة تمر عن الشام.
(سفر السلطان الى الشام لمدافعة الططر عن بلاده)
هؤلاء الططر من شعوب الترك، وقد اتفق النسّابة والمؤرخون على أن أكثر
أمم العالم فرقتان، وهما: العرب والترك، وليس في العالم أمة أوفر منهما
عددا، هؤلاء في
__________
[1] القمامة (بالضم) : كنيسة كبرى ببيت المقدس. تاج العروس (قمم) (معجم
البلدان) .
[2] علي بن يوسف بن عبد الله (أو ابن مكي) الدميري (أو الزبيري) ،
المعروف بابن الخلال المالكي.
(7/717)
جنوب الأرض، وهؤلاء في شمالها، وما زالوا
يتناوبون الملك في العالم، فتارة يملك العرب ويزحلون [1] الأعاجم إلى
آخر الشمال، وأخرى يزحلهم الأعاجم والترك إلى طرف الجنوب، سنّة الله في
عباده.
فلنذكر كيف انساق الملك لهؤلاء الططر [2] ، واستقرت الدّول الإسلامية
فيهم لهذا العهد فنقول: إن الله سبحانه خلق هذا العالم واعتمره بأصناف
البشر على وجه الأرض، في وسط البقعة التي انكشفت من الماء فيه، وهي عند
أهل الجغرافيا مقدار الرّبع منه، وقسّموا هذا المعمور بسبعة أجزاء
يسمّونها الأقاليم، مبتدأة من خط الاستواء بين المشرق والمغرب، وهو
الخطّ الّذي تسامت الشمس فيه رءوس السكان، إلى تمام السّبعة أقاليم.
وهذا الخط في جنوب المعمور، وتنتهي السبعة الأقاليم في شماله. وليس في
جنوب خط الاستواء عمارة إلى آخر الرّبع المنكشف، لإفراط الحرّ فيه، وهو
يمنع من التّكوين، وكذلك ليس بعد الأقاليم السّبعة في جهة الشّمال
عمارة، لإفراط البرد فيها، وهو مانع من التكوين أيضا. ودخل الماء
المحيط بالأرض من جهة الشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة، في مدخل
فسيح، وانساح مع خطّ الاستواء مغرّبا، فمرّ بالصّين، والهند والسّند
واليمن، في جنوبها كلّها. وانتهى إلى وسط الأرض، عند باب المندب [3] ،
وهو البحر الهندي والصيني، ثم انحرف من طرفه الغربي في خليج عند باب
المندب، ومرّ في جهة الشمال مغرّبا باليمن وتهامة والحجاز ومدين [4]
وأيلة [5] وفاران [6] ، وانتهى إلى
__________
[1] زحل عن مكانه: زل، وبعد.
[2] كذا بالأصل، وهي: التتر.
[3] باب المندب: هو المضيق الواقع في النهاية الجنوبية للبحر الأحمر.
:Midian [4] مقاطعة في
شمال الحجاز تمتد على الساحل الشرقي للبحر الأحمر الى مبدإ خليج
العقبة، وفي الجهة الشرقية منها يقع جبل الصفاة.
[5] أيلة Aila) أو: (Ailat
ميناه واقع في الزاوية الشمالية الشرقية لخليج العقبة، وكان في القديم
مدينة تجارية ذات أهمية كبرى، وقد ورد ذكرها في التوراة، في سفر الملوك
9: 26، 27. خطط المقريزي 1/ 298 (طبع مصر) .
[6] فاران: مدينة كانت على ساحل بحر القلزم بناحية الطور، ويقول
المقريزي في الخطط (1/ 304 طبع مصر) : « ... وكانت مدينة فاران من جملة
مدائن مدين الى اليوم، وبها نخل كثير مثمر، أكلت من ثمره، وبها نهر
عظيم، وهي خراب يمر بها العربان» .
(7/718)
مدينة القلزم [1] ، ويسمّى بحر السويس، وفي
شرقيه بلاد الصّعيد إلى عيذاب [2] ، وبلاد البجاة [3] ، وخرج من هذا
البحر الهندي من وسطه خليج آخر يسمّى الخليج الأخضر [4] ، ومرّ شمالا
إلى الأبلة [5] ، ويسمّى بحر فارس [6] ، وعليه في شرقيه بلاد فارس [7]
، وكرمان [8] ، والسّند [9] ، ودخل الماء أيضا، من جهة الغرب في خليج
متضايق في الإقليم الرابع، ويسمّى بحر الزّقاق [10] ، تكون سعته هنالك
ثمانية عشر ميلا. ويمر مشرقا ببلاد البربر، من المغرب الأقصى والأوسط
وأرض إفريقية والإسكندرية وأرض التّيه [11] وفلسطين والشام، وعليه في
الغرب بلاد الإفرنج كلّها، وخرج منه في الشمال خليجان: الشرقي منهما
خليج القسطنطينية [12] والغربي خليج البنادقة [13] ، ويسمّى هذا البحر
البحر الرّوسيّ، والشاميّ.
ثم إن هذه السّبعة الأقاليم المعمورة، تنقسم من شرقيّها وغربيّها
بنصفين: فنصفها
__________
[1] القلزم بالضم ثم السكون ثم زاي مضمومة: بلد ساحلية بجوار السويس
والطور، واليها ينسب البحر، فيقال بحر القلزم، ويقول ياقوت في معجم
البلدان: « ... وأما اليوم فهي خراب يباب، وصار الميناء الى مدينة
قربها يقال لها السويس» .
[2] عيذاب: مدينة مصرية على الساحل الافريقي للبحر الأحمر، وكانت في
العصور الوسطى ميناء مهما للحجاج الذين يقصدون مكة من الغرب، ومحطة
للسفن الهندية التي كانت تأتي من عدن، ولتجار افريقية الوسطى، (معجم
البلدان) .
[3] البجاة، ويقال البجة: مجموعة من القبائل الحامية تسكن فيما بين
النيل والبحر الأحمر، واسمها «البجة» قديم يرجع إلى ما قبل الإسلام،
الخطط (طبع مصر 1/ 313- 319) . صبح الأعشى 5/ 273.
[4] يريد بالخليج الأخضر خليج عمان.
[5] ضبطها ابن خلدون بضم الهمزة والباء الموحدة، وتشديد اللام
المفتوحة، وهي مدينة على شاطئ دجلة في زاوية الخليج الّذي يدخل الى
مدينة البصرة. معجم البلدان، صبح الأعشى 4/ 336.
[6] يسمى بحر فارس اليوم، الخليج الفارسيّ.
[7] فارس، أو بلاد العجم: هي التي تعرف اليوم باسم إيران اشتقاقا من
كلمة «آرية» وتدل الآن على المملكة الفارسية. (معجم البلدان) .
[8] كرمان: احدى المدن الجبلية من مدن إيران: وكانت في القديم ولاية
تفصل بين فارس في الغرب، وصحارى لوط في الشرق. (معجم البلدان) .
[9] السند: بلاد كانت تفصل بين الهند وكرمان، وبعضهم كان يعد من إقليم
السند بلاد مكران الواقعة في جنوب فارس. (معجم البلدان) .
[10] هو مضيق جبل طارق الآن.
[11] ارض التيه: هي شبه جزيرة سيناء اليوم.
[12] يتحدث الآن عن بحرايجة الّذي يصل البحر الأبيض عن طريق الدردنيل،
والبوسفور بالبحر الأسود.
[13] خليج البنادقة، هو البحر الادرياتي الّذي يقع في نهايته الشمالية
خليج البندقية. صبح الأعشى 5/ 404 وما بعدها.
(7/719)
الغربي في وسطه البحر الرّوميّ، وفي النصف
الشرقي من جانبه الجنوبي البحر الهندي، وكان هذا النصف الغربيّ أقل
عمارة من النصف الشرقي، لأن البحر الرّوميّ المتوسط فيه، انفسح في
انسياحه، فغمر الكثير من أرضه. والجانب الجنوبيّ منه قليل العمارة
لشدّة الحرّ، فالعمران فيه من جانب الشّمال فقط، والنصف الشّرقي عمرانه
أكثر بكثير، لأنه لا بحر في وسطه يزاحم. وجانبه الجنوبي فيه البحر
الهنديّ، وهو متّسع جدّا، فلطف الهواء فيه بمجاورة الماء، وعدّل مزاجه
للتّكوين، فصارت أقاليمه كلّها قابلة للعمارة، فكثر عمرانه. وكان مبدأ
هذا العمران في العالم، من لدن آدم صلوات الله عليه، وتناسل ولده أولا
في ذلك النصف الشرقيّ، وبادت تلك الأمم ما بينه وبين نوح، ولم نعلم
شيئا من أخبارها، لأن الكتب الإلهية لم يرد علينا فيها إلا أخبار نوح
وبنيه، وأما ما قبل نوح فلم نعرف شيئا من أخباره، وأقدم الكتب المنزلة
المتداولة بين أيدينا التوراة، وليس فيها من أخبار تلك الأجيال شيء،
ولا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي، وأما الأخبار فهي تدرس
بدروس أهلها.
واتفق النّسّابون على أن النسل كلّه منحصر في بني نوح، وفي ثلاثة من
ولده، وهم سام، وحام، ويافث، فمن سام: العرب، والعبرانيّون،
والسّبائيون [1] ، ومن حام: القبط، والكنعانيّون، والبربر، والسّودان،
ومن يافث: التّرك، والروم، والخزر [2] ، والفرس، والدّيلم، والجيل.
ولا أدري كيف صحّ انحصار النّسب في هؤلاء الثلاثة عند النّسّابين، أمن
النقل؟ وهو بعيد كما قدّمناه، أو هو رأي تفرّع لهم من انقسام جماعة
المعمور، فجعلوا شعوب كلّ جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه، فجعلوا
الجنوب لبني سام، والمغرب لبني حام، والشمال لبني يافث. إلّا أنّه
المتناقل بين النّسّابة في العالم، كما قلناه، فلنعتمده ونقول: أول من
ملك الأرض من نسل نوح عليه السّلام، النّمرود بن كنعان بن كوش بن حام
ووقع ذكره في التوراة. وملك بعده عابر بن شالخ الّذي ينسب إليه
__________
[1] كذا في الأصل. ولعلها: «السريانيون» .
[2] ضبطه ابن خلدون بفتح الخاء والزاي، وفي «تثقيف اللسان» لأبي جعفر
عمر بن مكي الصقلي « ...
ويقولون لقبيلة من الترك الخزر بفتح الخاء والزاي والصواب الخزر بضم
الخاء وإسكان الزاي، ويقال انهم سموا بذلك لخزر أعينهم» أي ضيقها.
(7/720)
العبرانيون، والسريانيّون، وهم النّبط،
وكانت لهم الدّولة العظيمة، وهم ملوك بابل، من نبيط بن أشّور بن سام،
وقيل نبيط بن ماش بن إرم، وهم ملوك الأرض بعد الطوفان على ما قاله
المسعودي. وغلبهم الفرس على بابل، وما كان في أيديهم من الأرض، وكانت
يومئذ في العالم دولتان عظيمتان، لملوك بابل هؤلاء، وللقبط بمصر: هذه
في المغرب، والأخرى في المشرق، وكانوا ينتحلون الأعمال السحريّة،
ويعوّلون عليها في كثير من أعمالهم، وبرابي مصر [1] ، وفلاحة ابن
وحشية، يشهدان بذلك. فلما غلب الفرس على بابل، استقلّ لهم ملك المشرق،
وجاء موسى- صلوات الله عليه- بالشريعة الأوليّة، وحرّم السّحر وطرقه،
وغلب الله له القبط بإغراق فرعون وقومه، ثم ملك بنو إسرائيل الشّام،
واختطوا بيت المقدس، وظهر الروم في ناحية الشمال والمغرب، فغلبوا الفرس
الأولى على ملكهم. وملك ذو القرنين الإسكندر ما كان بأيديهم، ثم صار
ملك الفرس بالمشرق إلى ملوكهم السّاسانية، وملك بني يونان بالشام
والمغرب إلى القياصرة، كما ذكرنا ذلك كلّه من قبل. وأصبحت الدولتان
عظيمتين، وانتظمتا العالم بما فيه. ونازع الترك ملوك فارس في خراسان
[2] ، وما وراء النّهر [3] ، وكانت بينهم حروب مشهورة، واستقرّ ملكهم
في بني أفراسياب، ثم ظهر خاتم الأنبياء محمّد صلوات الله عليه، وجمع
العرب على كلمة الإسلام، فاجتمعوا له، «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما
ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم» [4] ، وقبضه الله اليه، وقد
أمر بالجهاد، ووعد عن الله بأن الأرض لأمته، فزحفوا إلى كسرى، وقيصر
بعد سنتين من وفاته، فانتزعوا الملك من أيديهما، وتجاوزوا الفرس إلى
التّرك، والرّوم إلى البربر والمغرب، وأصبح العالم كلّه منتظما في دعوة
الإسلام. ثم اختلف أهل الدّين من بعده في رجوعهم إلى من ينظم أمرهم،
وتشيّع قوم من العرب فزعموا أنه
__________
[1] كان القدماء يعتقدون ان الرسوم التي توجد على البرابي، والمعابد
المصرية القديمة، ليست الا طلاسم، وأوفاقا، نقشت على جدرانها ليكون لها
مفعول سحري معين: خطط المقريزي 1/ 48 طبع مصر، معجم البلدان «برابي» .
[2] تطلق خراسان اليوم على القسم الشرقي لايران، الّذي يتصل
بافغانستان. وقد فتحت خراسان سنة 31 هجرية في أيام عثمان رضي الله عنه.
(معجم البلدان) .
[3] ما وراء النهر: إقليم مشهور يقع فيما وراء نهر جيحون «وهو المراد
بالنهر» . (معجم البلدان) .
[4] الآية 63 من سورة الأنفال.
ابن خلدون م 46 ج 7
(7/721)
أوصى بذلك لابن عمّه عليّ، وامتنع الجماعة
من قبول ذلك، وأبوا إلّا الاجتهاد في تعيينه، فمضى على ذلك السّلف في
دولة بني أميّة التي استفحل الملك والإسلام فيها، وتناقل التشيّع
بتشعّب المذاهب، في استحقاق بني عليّ، وأيّهم يتعيّن له ذلك، حتى انساق
مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس [1] ، فظهرت
شيعته بخراسان، وملكوا تلك الأرض كلّها، والعراق بأسره.
ثم غلبوا على بني أميّة، وانتزعوا الملك من أيديهم، واستفحل ملكهم،
والإسلام باستفحاله، وتعدّد خلفاؤهم. ثم خامر الدّولة ما يخامر الدّول
من التّرف والراحة، ففشلوا. وكثر المنازعون لهم من بني عليّ وغيرهم،
فظهرت دولة لبني جعفر الصّادق بالمغرب، وهم العبيديّون [2] بنو عبيد
الله المهدي بن محمد، قام بها كتامة وقبائل البربر، واستولوا على
المغرب ومصر، ودولة بني العلويّ بطبرستان، قام بها الدّيلم وإخوانهم
الجيل، ودولة بني أمية النائية بالأندلس، لأن بني العبّاس لمّا غلبوهم
بالمشرق، وأكثروا القتل فيهم، هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد
الملك، ونجا إلى المغرب. ثم ركب البحر إلى الأندلس، فاجتمع عليه من كان
هنالك من العرب وموالي بني أميّة، فاستحدث هنالك ملكا آخر لهم، وانقسمت
الملّة الإسلامية بين هذه الدّول الأربع إلى المائة الرابعة. ثم انقرض
ملك العلويّة من طبرستان [3] ، وانتقل إلى الدّيلم، فاقتسموا خراسان
وفارس والعراق، وغلبوا على بغداد، وحجر الخليفة بها بنو بويه منهم [4]
. وكان بنو سامان- من أتباع بني طاهر- قد تقلّدوا عمالات ما وراء
النّهر، فلمّا فشل أمر الخلافة استبدّوا بتلك النّواحي، وأصاروا لهم
فيها ملكا ضخما [5] ، وكان آخرهم محمود بن سبكتكين من مواليهم، فاستبدّ
عليهم، وملك خراسان، وما وراء النّهر إلى الشّاش، ثم
__________
[1] كان ذلك في سنة 1290 هـ، وانظر تفصيل القول في تاريخ الطبري 9/ 82
وما بعدها، تاريخ أبي الفداء 1/ 220 وما بعدها.
[2] كان مبدأ دولة الفاطميين بالمغرب في سنة 296، ونهايتها سنة 361 هـ.
[3] طبرستان: إقليم متسع في غربي خراسان، ويقول ياقوت انه الّذي يسمى
أيضا بمازندران. وهو إقليم واقع في شمالي مرتفعات البرز، ويشرف على بحر
قزوين. (معجم البلدان) .
[4] بنو بويه دولة أسسها أتراك من الديلم في خلافة الراضي باللَّه
(322- 447 هـ) . تاريخ أبي الفداء 2/ 83، 152، في المجلد الرابع وما
بعدها.
[5] ملكت دولة بني سامان هذه ما وراء النهر، وأقامت هناك دعوة بني
العباس، ثم استقلت. وقد تحدث عنها ابن خلدون في المجلد الرابع، أبو
فداء 2/ 123، 141، صبح الأعشى 4/ 446.
(7/722)
غزنة [1] ، وما وراءها جنوبا إلى الهند.
وأجاز إلى بلاد الهند، فافتتح منها كثيرا، واستخرج من كنوزها ذخائر لم
يعثر عليها أحد قبله. وأقامت الملّة على هذا النّمط إلى انقضاء المائة
الرّابعة، وكان التّرك منذ تعبّدوا للعرب، وأسلموا على ما بأيديهم وراء
النّهر، من كاشغر [2] ، والصّاغون إلى فرغانة [3] ، وولّاهم الخلفاء
عليها، فاستحدثوا بها ملكا، وكانت بوادي التّرك في تلك النواحي منتجعة
أمطار السماء، وعشب الأرض، وكان الظهور فيهم لقبيلة الغزّ من شعوبهم،
وهم الخوز، إلا أن استعمال العرب لها عرّب خاءها المعجمة غينا، وأدغمت
واوها في الزّاي الثانية، فصارت زايا واحدة مشدّدة. وكانت رياسة الغزّ
هؤلاء في بني سلجوق بن ميكائيل، وكانوا يستخدمون لملوك التّرك بتركستان
تارة، ولملوك بني سامان في بخارى أخرى.
وتحدث بينهما الفتنة، فيتألّفون من شاءوا منهما [4] ، ولما تغلّب محمود
بن سبكتكين [5] على بني سامان، وأجاز من خراسان فنزل بخارى [6] ،
واقتعد كرسيّهم، وتقبّض على كبار بني سلجوق هؤلاء، وحبسهم بخراسان. ثم
مات وقام بالأمر أخوه مسعود [7] ، فملك مكانه، وانتقض عليه بنو سلجوق
[8] هؤلاء، وأجاز الغزّ إلى خراسان فملكوها، وملكوا طبرستان من يد
الدّيلم، ثم أصبهان [9]
__________
[1] غزنة: مدينة من مدن افغانستان، وكانت عاصمة الدولة التي أسسها نصر
الدين محمود بن سبكتكين سنة 366، والتي استمرت الى سنة 578 هجرية.
العبر م 4.
[2] كانت كاشغر قاعدة «التركستان» وكانت تسمى أيضا «أزدوكند» وهي اليوم
في الصين «معجم البلدان) صبح الأعشى 4/ 440.
[3] فرغانة كورة واسعة فيما وراء النهر، متاخمة لبلاد تركستان. (معجم
البلدان) .
[4] انظر كلمة موجزة عن الغز في تاريخ أبي الفداء 3/ 27 وما بعدها.
[5] هو محمود بن ناصر الدولة بن سبكتكين (361- 421) ، يلقب سيف الدولة،
ويمين الدولة. وليمين الدولة هذا ينسب التاريخ «اليميني» الّذي ألفه له
ابو نصر العتبي. ترجمة يمين الدولة في «الوفيات» 2/ 110- 114، وانظر
تاريخ أبي الفداء 2/ 165.
[6] تقع بخارى اليوم في جمهورية الاتحاد السوفياتي، وكانت قاعدة الدولة
السامانية، فتحت فيما بين سنتي 53، 55 هـ، في أيام معاوية. ياقوت (معجم
البلدان) .
[7] هكذا في الأصل: «أخوه مسعود» . وهو سبق قلم، والصواب: «ابنه مسعود»
العبر م 4، «تاريخ دول آل سلجوق» ص 8.
[8] ابتدأت الدولة السلجوقية في خلافة القائم بأمر الله العباسي سنة
432، وانتهت في سنة 572، تاريخ أبي الفداء 2/ 171 وما بعدها، العبر 5/
1 وما بعدها. وقد خص هذه الدولة بالتأليف العماد الأصفهاني، وطبع مختصر
لكتاب العماد بالقاهرة سنة 1900 م.
[9] كذا بالأصل، أصبهان، وكذا في أكثر الكتب القديمة. وهي: أصفهان بفتح
الهمزة وكسرها: مدينة
(7/723)
وفارس، من أيدي بني بويه، وملكهم يومئذ
طغرلبك [1] بن ميكائيل من بني سلجوق، وغلب على بغداد [2] من يد بني
معزّ الدولة بن بويه المستبدّين على الخليفة يومئذ المطيع [3] ، وحجره
عن التصرّف في أمور الخلافة والملك، ثم تجاوز إلى عراق العرب، فغلب على
ملوكه، وأبادهم، ثم بلاد البحرين وعمان، ثم على الشّام، وبلاد الرّوم،
واستوعب ممالك الإسلام كلّها، فأصارها في ملكه، وانقبضت العرب راجعة
إلى الحجاز، مسلوبة من الملك، كأن لهم فيه نصيب، وذلك أعوام الأربعين
والأربعمائة، وخرج الإفرنج على بقايا بني أميّة بالأندلس، فانتزعوا
الملك من أيديهم، واستولوا على حواضر الأندلس وأمصارها، وضاق النّطاق
على العبيديّين بالقاهرة بملوك الغزّ يزاحمونهم فيها من الشام، بمحمود
بن زنكي وغيره [4] من أبنائهم ومماليكهم، وبملوك المغرب قد اقتطعوا ما
وراء الإسكندرية، بملوك صنهاجة في إفريقية، والملثّمين المرابطين بعدهم
بالمغرب الأقصى والأوسط، والمصامدة الموحّدين بعدهم كذلك، وأمام الغزّ
والسّلجوقية في ملك المشرق، وبنوهم ومواليهم من بعدهم إلى انقضاء القرن
السادس، وقد فشل ريح الغزّ، واختلّت دولتهم، فظهر فيهم جنكيزخان أمير
المغل من شعوب الططر [5] ، وكان كاهنا، وجدّه النجر كاهنا مثله.
ويزعمون أنه ولد من غير أب [6] ، فغلب الغزّ في المفازة، واستولى على
ملك الططر، وزحف إلى كرسيّ
__________
[ () ] جبلية عظيمة في جنوب عراق العجم من بلاد فارس، وتطلق أصفهان على
الإقليم أيضا، فتحت في سنة 23 هـ في أيام عمر بن الخطاب (معجم البلدان)
.
[1] أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، ركن الدين طغرلبك (385- 455) .
وفيات الأعيان 2/ 59- 60.
[2] كان دخول بغداد والعراق سنة 447. وفيات الأعيان 2/ 60، تاريخ دولة
آل سلجوق ص 9.
[3] كذا بالأصل: «المطيع» والصواب: «القائم» لأنه الّذي عاصر طغرلبك.
وهو أبو جعفر عبد الله بن القادر، القائم بأمر الله. ولد سنة 391، وولي
الخلافة سنة 422، وتوفي سنة 467. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 167- 169.
[4] رسمه، على قاعدته التي قررها في أول «المقدمة» بصاد وسطها زاي
اشارة الى أن الصاد تشم- عند النطق بها- زايا. وانظر أخبار تملك محمود
بن زنكي، في تاريخ أبي الفداء 3/ 30- 58.
[5] ولد جنكيزخان ويقال جنكس قان) في سنة 549، وهو من قبيلة تركية تسمى
ثيات من أشهر قبائل المغل، وأكثرهم عددا، وكان اسمه- حين بلغ من العمر
13 سنة- تموجين ثم أصاروه: «جنكيز» ، و «خان» تمام الاسم، وهو بمعنى
الملك عندهم. العبر م 5.
[6] ينتهي نسبه إلى: «بوذ نسبه إلى: «بوذنجر بن الان قوى» ، وألان قوى
اسم امرأة هي جدتهم، كانت
(7/724)
الملك بخوارزم. وهو علاء الدّين خوارزم
شاه، سلفه من موالي طغرلبك، فغالبه على ملكه، وفرّ أمامه، واتّبعه إلى
بحيرة طبرستان، فنجا إلى جزيرة فيها، ومرض هنالك ومات [1] ، ورجع
جنكيزخان إلى مازندران، من أمصار طبرستان فنزلها، وأقام بها، وبعث
عساكره من المغل حتى استولوا على جميع ما كان للغزّ، وأنزل ابنه طولى
[2] بكرسيّ خراسان، وابنه دوشي خان [3] بصراي وبلاد التّرك، وابنه
جفطاي [4] بكرسي التّرك فيما وراء النّهر، وهي كاشغر وتركستان، وأقام
بمازندران إلى أن مات جنكيزخان ودفن بها [5] ، ومات ابنه طولي وله
ولدان، قبلاي [6] وهولاكو [7] ، ثم هلك قبلاي، واستقلّ هولاكو بملك
خراسان، وحدث بينه وبين بركة بن دوشي خان [8] فتنة بالمنازعة في
القانية، تحاربوا فيها طويلا، ثم أقصروا،
__________
[ () ] متزوجة ثم مات زوجها، وتأيمت وحملت وهي أيم، فنكر عليها
اقرباؤها، فذكرت انها رأيت بعض الأيام أن نورا دخل فرجها ثلاث مرات،
وطرأ عليها الحمل بعد ذلك، وقال ان في حملي ثلاث ذكور، فان صدقت عند
الوضع فذلك، والا فافعلوا ما بدا لكم، فوضعت ثلاث توائم في ذلك الحمل،
فظهرت براءتها، بزعمهم، وكان ثالث التوائم «بوذنجر» جد جنكيزخان،
وكانوا يسمون التوائم الثلاث: النورانيين نسبة إلى النور المذكور،
ولذلك كانوا يقولون لجنكيزخان: ابن الشمس.
العبر م 5.
[1] هو السلطان علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش بن أرسلان: كان من
علماء الملوك وعظمائهم، وكانت مدة ملكه 21 سنة، وتوفي عام 617، وانظر
اخبار حروبه مع جنكيزخان في تاريخ أبي الفداء 3/ 133- 134، 154- 158.
[2] هو الابن الأصغر لجنيكزخان، وكان عاقلا كيسا، ولذلك أمره أبوه أن
يرأس أخويه: جوجي، وجفتاي في حرب قلعة الطالقان التي استعصى عليهما
الاستيلاء عليها. وطاؤه تنطق بين التاء والطاء، ويقال في اسمه أيضا:
«تولوي» . وانظر العبر م 5.
[3] ويقال طوشي خان (بين التاء والطاء) ، ويقال جوجي خان.
[4] جقطاي، ويقال «جغتاي» ، ويسمي أيضا كداي، وجداي.
[5] كانت وفاته في سنة 625، وهناك رأي غير ما ذكره ابن خلدون في مكان
وفاة جنكيزخان، تجده في السلوك ص 227- 228.
[6] قبلاي بن تلوي خان المتوفى سنة 695. وقد ضبطه ابن خلدون بالحركات-
بضم القاف، وسكون الباء الموحدة، ولام مفتوحة مخففة، ثم ياء ساكنة.
[7] يكتبه ابن خلدون: «هولاوو» بواوين أحيانا، وأحيانا أخرى يكتبه:
«هولاكو» بنقطة تحت الكاف إشارة الى أن الكاف تنطق كافا فارسية. وقد
ابتدأ أمر هولاكو في الظهور في سنة 654، وتوفي سنة 603. وانظر السلوك ص
541.
[8] ويقال أيضا: بركة بن توشي بن جنكيز خان. وقد توفي سنة 665. كان
مسلما يعظم أهل العلم، وكان يميل الى الملك الظاهر بيبرس.
(7/725)
وصرف هولاكو وجهه إلى بلاد أصبهان، وفارس،
ثم إلى الخلفاء المستبدّين ببغداد، وعراق العرب، فاستولى على تلك
النّواحي، واقتحم بغداد [1] على الخليفة المستعصم، آخر بني العباس [2]
وقتله، وأعظم فيها العيث والفساد، وهو يومئذ على دينه من المجوسيّة، ثم
تخطّاه إلى الشام، فملك أمصاره وحواضره إلى القدس، وملوك مصر يومئذ من
موالي بني أيّوب قد استحاشوا ببركة صاحب صراي، فزحف إلى خراسان ليأخذ
بحجزة هولاكو عن الشام ومصر. وبلغ خبره إلى هولاكو فحرد [3] لذلك، لما
بينهما من المنافسة والعداوة، وكرّ راجعا إلى العراق، ثم إلى خراسان،
لمدافعة بركة. وطالت الفتنة بينهما إلى أن هلك هولاكو سنة ثلاث وستين
من المائة السّابعة، وزحف أمراء مصر من موالي بني أيّوب، وكبيرهم يومئذ
قطز، وهو سلطانهم فاستولى على أمصار الشام التي كان هولاكو انتزعها من
أيدي بني أيوب، واحدة واحدة، واستضاف الشام إلى مصر في ملكه. ثم هدى
الله أبغا بن هولاكو إلى الإسلام، فأسلم بعد أن كان أسلم بركة ابن عمّه
صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان على يد مريد من أصحاب شمس الدين كبرى
[4] ، فتواطأ هو وأبغا بن هولاكو على الإسلام. ثم أسلم بعد ذلك بنو
جقطاي وراء النّهر، فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي ولد جنكيزخان من
المغل، ثم من الطّطر، ولم يخرج عن ملكهم منها إلّا المغرب والأندلس
ومصر والحجاز، وأصبحوا، وكأنهم في تلك الممالك خلف من السلجوقيّة
والغزّ. واستمرّ الأمر على ذلك لهذا العهد، وانقرض ملك بني هولاكو بموت
أبي سعيد آخرهم سنة أربعين من المائة الثامنة [5] . وافترقت دولتهم بين
عمّال الدولة وقرابتها من المغل، فملك عراق العرب، وأذربيجان [6]
__________
[1] دخل هولاكو بغداد في سنة 656 هـ.
[2] هو ابو احمد عبد الله بن المنتصر، ولد سنة 609، وقتل سنة 656.
[3] حرد: اغتاظ وغضب.
[4] هو ابو الجناب أحمد بن عمر بن نجم الخيوفي شيخ خوارزم. عرف به
السبكي في طبقاته 5/ 11، 12، ولم يذكر مولده ولا وفاته، ووصفه في تاريخ
جنكيزخان بأنه: «شيخ المشايخ، وقطب الأوتاد، نجم الدين الكبري» ، وذكر
انه مات في حصار مدينة خوارزم. وقد ضبطه ابن خلدون. بضم الكاف وسكون
الباء، وفي طبقات الشافعية: «الكبرى على صيغة فعلى كعظمى» .
[5] هو ابو سعيد بن خربند بن ارغو بن ابغا بن هولاكو. وانصر اخباره في
العبر م 5.
[6] آذربيجان، واسمها القديم أثروباتان: إقليم يقع في الجنوب الغربي
لبحر قزوين (بحر الخزر) ويحده في الشمال إقليم داغستان، وإقليم جورجيا،
ومن المغرب، والجنوب الغربي مقاطعة ارمينية. (معجم البلدان) .
(7/726)
وتوريز [1] ، الشيخ حسن سبط هولاكو [2] ،
واتصل ملكها في بنيه لهذا العهد، وملك خراسان وطبرستان شاه وليّ من
تابعة بني هولاكو، وملك أصبهان، وفارس، بنو مظفّر البردي [3] من
عمّالهم أيضا، وأقاموا بنو دوشي خان في مملكة صراي وآخرهم بها طقطمش بن
بردي بك [4] ، ثم سما لبني جقطاي وراء النّهر، وملوكهم أمل في التغلّب
على أعمال بني هولاكو، وبني دوشي خان، بما استفحل ملكهم هنالك، لعدم
التّرف والتّنعم، فبقوا على البداوة، وكان لهم ملك اسمه ساطلمش [5] هلك
لهذا العهد، وأجلسوا ابنه على التّخت مكانه، وأمراء بني جقطاي جميعا في
خدمته، وكبيرهم تيمور المعروف بتمر بن طرغاي [6] فقام بأمر هذا الصبي
وكفله، وتزوّج أمّه، ومدّ يده إلى ممالك بني دوشي خان التي كانت على
دعوتهم وراء النّهر، مثل سمرقند [7] ، وبخارى، وخوارزم، وأجاز إلى
طبرستان وخراسان فملكهما. ثم ملك أصبهان، وزحف إلى بغداد، فملكها من يد
أحمد بن أويس. وفرّ أحمد مستجيرا بملك مصر، وهو الملك الظاهر برقوق،
وقد تقدّم ذكره، فأجاره، ووعده النّصر من عدوّه. وبعث الأمير تمر رسلا
إلى صاحب مصر، يقررون معه الولاية والاتّحاد، وحسن الجوار، فوصلوا إلى
الرّحبة، فلقيهم عاملها، ودار بينهم الكلام فأوحشوه في الخطاب،
وأنزلهم، فبيّت جميعهم، وقتلهم. وخرج الظاهر برقوق من مصر، وجمع العرب
والتّركمان، وأناخ على الفرات، وصرخ بطقطمش من كرسيّه بصراي، فحشد ووصل
إلى الأبواب [8] . ثم زحف تمر إلى الشام سنة ست وتسعين وسبعمائة وبلغ
الرّها [9] ، والظاهر يومئذ على
__________
[1] توريز (تبريز) : احدى مدن إيران الشمالية، وكانت في القديم تشملها
مقاطعة آذربيجان (معجم البلدان) .
[2] يسمى أيضا الشيخ حسن الصغير.
[3] ورد في العبر 5: «اليزدي» .
[4] ضبطه ابن خلدون بالحركات بفتح الباء وضمها، وسكون الراء بعدها دال
ثم ياء مثناة تحتية ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة.
[5] كذا في الأصل، وفي هامش أصل أياصوفيا بخطه: «سيورغتمش» وكتب فوقها
كلمة: «أصح» .
[6] في نسخة: «طرغان» ، وفي هامش أصل أياصوفيا بخطه: «ترغاي» وكتب
فوقها كلمة «أصح» .
[7] مدينة مشهورة، تقع اليوم في جمهورية الاتحاد السوفييتي، وكانت في
القديم عاصمة بلاد الصغد.
(معجم البلدان) .
[8] يريد بالأبواب المضايق والممرات التي في الجبال الفاصلة بين إقليم
مازندران والعراق العجمي.
[9] بلدة مشهورة في شمال حران، وتقع اليوم في الجمهورية التركية، وتسمى
أورفة.
(7/727)
الفرات، فخام [1] تمر عن لقائه. وسار إلى
محاربة طقطمش، فاستولى على أعماله كلّها، ورجعت قبائل المغل إلى تمر،
وساروا تحت رايته. وذهب طقطمش في ناحية الشمال، وراء بلغار، متذمما
بقبائل اروس من شعوب التّرك في الجبال.
وسارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر، ثم اضطرب ملوك الهند، واستصرخ
خارج منهم بالأمير تمر، فسار إليهم في عساكر المغل، وملك دلّي [2] ،
وفرّ صاحبها الى كنباية [3] مرسى بحر الهند، وعاثوا في نواحي بلاد
الهند. ثمّ بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر، فرجع إلى البلاد، ومرّ
على العراق، ثم على أرمينية [4] وأرزنكان [5] ، حتى وصل سيواس [6]
فخرّبها، وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التّاسعة.
ونازل قلعة الروم [7] ، فامتنعت، وتجاوزها الى حلب، فقابله نائب الشام
وعساكره في ساحتها، ففضّهم، واقتحم المغل المدينة من كل ناحية. ووقع
فيها من العيث والنّهب والمصادرة واستباحة الحرم، ما لم يعهد الناس
مثله، ووصل الخبر الى مصر، فتجهز السّلطان فرج ابن الملك الظّاهر [8]
الى المدافعة عن الشّام، وخرج في عساكره من التّرك مسابقا المغل وملكهم
تمر أن يصدّهم عنها.
(لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر)
لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر [9] ملك بلاد الروم، وخرّب
سيواس، ورجع
__________
[1] خام عنه: نكص، وجبن.
[2] هي دلهي اليوم. صبح الأعشى 5/ 68- 69.
[3] كباية، أو كبايت، ضبطها ابن خلدون بالحركات بفتح الكاف وسكون
النون، وباء مفتوحة بعدها ألف ثم ياء مفتوحة بعدها هاء للتأنيث. وفي
صبح الأعشى 5/ 71: أنه ينسب إليها فيقال أنباتي وعلى ذلك فاسمها
«أنبايت» بابدال الكاف همزة. وهي مدينة على ساحل بحر الهند.
[4] أرمينية: إقليم واقع في غرب آذربيجان، وفي شماله الغربي يقع إقليم
جورجيا. صبح الأعشى 4/ 353، (معجم البلدان) .
[5] أرزنكان، ويقال أرزنجان: بلدة كانت تعد قديما من بلاد ارمينية، وهي
الآن من بلاد الجمهورية التركية. صبح الأعشى 4/ 354.
[6] سيواس: مدينة في تركية، تبعد ستين ميلا نحو الشرق من «قيسارية»
السلوك ص 313.
[7] هي قلعة حصينة واقعة في غربي الفرات مقابل «البيرة» . (معجم
البلدان) .
[8] هو الملك الناصر زين الدين أبو السادات فرج بن الملك الظاهر.
المقريزي 3/ 392- 393 طبع مصر.
[9] في عجائب المقدور ص 5، 6: « ... اسمه تيمور بتاء مثناة مكسورة
ساكنة، فمثناة تحت، وواو ساكنة
(7/728)
إلى الشّام، جمع السلطان عساكره، وفتح
ديوان العطاء، ونادى في الجند بالرحيل الى الشام، وكنت أنا يومئذ
معزولا عن الوظيفة [1] ، فاستدعاني دواداره يشبك [2] وأرادني على
السّفر معه في ركاب السلطان، فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم عليّ بليّن
القول، وجزيل الانعام فأصخيت، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من
سنة ثلاث وثمانمائة، فوصلنا إلى غزّة، فأرحنا بها أياما نترقّب
الأخبار، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر إلى أن نزلنا شقحب [3] ،
وأسرينا فصبّحنا دمشق، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبكّ [4]
قاصدا دمشق، فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبّة يلبغا. ويئس الأمير
تمر من مهاجمة البلد، فأقام بمرقب على قبّة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر
من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا، فكانت
حربهم سجالا، ثم نمي الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه، أن بعض الأمراء
المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم
للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم، واختلال الدّولة
__________
[ () ] بين ميم مضمومة وراء مهملة، هذه طريقة إملائه ... لكن كرة
الألفاظ الأعجمية إذا تداولها صولجان اللغة العربية خرطها في الدوران
على بناء أوزانها ... فقالوا تارة تمور، وأخرى تمرلنك» . وضبطه البدر
العيني في «عقد الجمان» بخطه بالحركات بفتح التاء وضم الميم بعد راء
ساكنة، ثم لام مفتوحة، فنون ساكنة، فكاف.
[1] في عقد الجمان، في حوادث سنة 803، وتاريخ ابن قاضي شهبة كذلك: «
... خرج السلطان الملك الناصر فرج، ومعه الخليفة المتوكل على الله،
والقضاة الثلاثة، وهم صدر الدين المناوي الشافعيّ، والقاضي نور الدين
علي بن الحلال المالكي، والقاضي موفق الدين بن الحنبلي، وأما القاضي
جمال الدين الملطي الحنفي فإنه سار لكونه ضعيفا، وشار معهم القاضي ولي
الدين ابن خلدون المالكي، وهو معزول» .
[2] هو الأمير يشبك الشعبانيّ كان من أمراء الملك الظاهر، تقلب في
مناصب مختلفة، وجعل له الملك الظاهر الوصية على أولاده، وفي أيام الملك
فرج، تولى وظيفة دوادار كبير، ومشير المملكة تاريخ ابن اياس 2/ 308،
314، 337. وقد ضبطه البدر العيني بخطه في «عقد الجمان» بكسر الياء،
وسكون الشين، وفتح الباء.
[3] بفتح الشين والحاء المهملة، وسكون القاف بينهما (كجعفر) ، ويقول
المقريزي في الخطط 3/ 399 (طبع مصر) : « ... انها بظاهر دمشق» ، وزاد
في السلوك ص 932: «تحت جبل غباغب» ، فهي- باء على هذا- في جنوب دمشق.
وانظر تاج العروس (شقب) .
[4] بعلبكّ: احدى مدن لبنان المشهورة، وهي واقعة في الشمال الشرقي
لمدينة زحلة. (معجم البلدان) .
(7/729)
بذلك، فأسروا ليلة الجمعة من شهر [....]
[1] وركبوا جبل الصّالحية، ثم انحطّوا في شعابه، وساروا على شافة البحر
إلى غزّة، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم
إلى مصر، فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح
أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء.
وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادليّة، واتّفق رأيهم على
طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا في ذلك نائب
القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره، فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدّين
بن مفلح الحنبلي [2] ومعه شيخ الفقراء بزاوية [....] [3] فأجابهم إلى
التأمين، وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلّين من السور
بما صبّحهم من التقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان، وردّهم
على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرّف الناس
في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها، ويملك أمرهم بعزّ
ولايته.
وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عنّي، وهل سافرت مع عساكر مصر أو
أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على
أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر
البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر من جوف اللّيل،
فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت
الخروج أو التدلّي من السّور، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر،
فأبوا عليّ أولا، ثم أصخوا لي، ودلّوني من السور، فوجدت بطانته عند
الباب، ونائبة الّذي عيّنه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك، من بني
جقطاي أهل عصابته، فحيّيتهم وحيّوني، وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه
ملك، مركوبا، وبعث معي من بطانة السّلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت
بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في
التعريف باسمي أنّي القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني،
__________
[1] بياض بالأصل، ولعله يريد (شهر جمادى الآخرة) . وانظر تاريخ ابن
اياس 1/ 329.
[2] هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (749- 803) ، وكان يحسن
اللغتين: التركية، والفارسية، ولعلهم. لذلك- اختاروه للسفارة. وانظر
ابن اياس 1/ 336.
[3] بياض في الأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه
الزاوية.
(7/730)
ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئا على مرفقه،
وصحاف الطّعام تمرّ بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام
خيمته، حلقا حلقا. فلما دخلت عليه فاتحت بالسّلام، وأوميت إيماءة
الخضوع، فرفع رأسه، ومدّ يده إليّ فقبّلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث
انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النّعمان من فقهاء
الحنفيّة بخوارزم [1] ، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من أين جئت من
المغرب؟ ولما [2] جئت؟ فقلت: جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها [3]
البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع وثمانين من هذه
المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظّاهر على تخت الملك لتلك
العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كل خير، برّ مقدمي،
وأرغد قراي، وزوّدني للحجّ، ولما رجعت وفّر جرايتي، وأقمت في ظلّه
ونعمته، رحمه الله وجزاه.
فقال: وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت: مات قاضي المالكيّة قبل
موته بشهر، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة، وتحرّي
المعدلة والحق، والإعراض عن الجاه، فولّاني مكانه، ومات لشهر بعدها،
فلم يرض أهل الدّولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي:
وأين ولدك؟ فقلت: بالمغرب الجوّاني كاتب [4] للملك الأعظم هنالك. فقال
وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟ فقلت هو عرف خطابهم معناه الدّاخلي،
أي الأبعد، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب
الى هنا برقة، وإفريقية [5] ، والمغرب الأوسط [6] : تلمسان وبلاد
زناتة، والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى
__________
[1] هو: (عبد الجبار بن النعمان المعتزلي، أحد خواص تيمور الذين طافوا
معه البلاد، وأهلكوا العباد، وأظهروا الظلم والفساد) . ذكره علاء الدين
في (تاريخ حلب) وقال: اجتمعت به، فوجدته ذكيا فاضلا، وسألته عن مولده،
فقال: يكون لي نحو الأربعين. ورأيت شرح الهداية لأكمل الدين، وقد طالعة
عبد الجبار المذكور، وعلّم على مواضع منه، ذكر أنها غلط. وذكره ابن
المبرد في (الرياض) وقال: (كان له معرفة بالفقه، والعلوم العقلية، وكان
يمتحن العلماء ويناظرهم بين يدي اللنك. وهو من قلة الدين على جانب
كبير. توفي سنة 808 هـ) .
[2] كذا في الأصل بإثبات ألف (ما) المجرورة عند الاستفهام، ومن لغة
حكوها عن الأخفش.
[3] كذا بالأصل.
[4] كذا في الأصل.
[5] هي المملكة التونسية اليوم.
[6] مكانه اليوم بلاد (الجزائر) .
(7/731)
الجوّاني. فقال لي: وأين مكان طنجة من ذلك
المغرب؟ فقلت: في الزّاوية التي بين البحر المحيط، والخليج المسمّى
بالزّقاق، وهو خليج البحر الشّامي؟ فقال:
وسبتة؟ فقلت: على مسافة من طنجة على ساحل الزّقاق، ومنها التّعدية إلى
الأندلس، لقرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلا. فقال: وفاس؟ فقلت:
ليست على البحر، وهي في وسط التّلول، وكرسيّ ملوك المغرب من بني مرين.
فقال: وسجلماسة؟ قلت: في الحدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب.
فقال: لا يقنعني هذا، وأحبّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها
وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده. فقلت: يحصل
ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت
الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنضّفة
القطع. ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة، ويحكمونه
على أبلغ ما يمكن، فأحضرت الأواني منه، وأشار بعرضها عليّ، فمثلت قائما
وتناولتها وشربت واستطبت، ووقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا،
وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعيّة، صدر الدين
المناوي، أسره التّابعون لعسكر مصر. بشقحب، وردّوه، فحبس عندهم في طلب
الفدية منه، فأصابنا من ذلك وجل، فزوّرت في نفسي كلاما أخاطبه به،
وأتلطّفه بتعظيم أحواله، وملكه. وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من
الحدثان في ظهوره، وكان المنجّمون المتكلّمون في قرانات العلويّين [1]
يترقّبون القران العاشر في المثلّثة الهوائية [2] ، وكان يترقّب عام
ستة وستين من المائة السّابعة. فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين
وسبعمائة بجامع القرويين من فاس، الخطيب أبا عليّ بن باديس خطيب
قسنطينة، وكان ماهرا في ذلك الفن، فسألته عن هذا القران المتوقّع، وما
هي آثاره؟ فقال لي: يدلّ على ثائر عظيم في الجانب الشّمالي الشرقي، من
أمة بادية
__________
[1] الكوكبان العلويان: زحل، والمشتري، والمراد بالقران- عند الإطلاق-
اجتماع المشتري، وزحل خاصة (مفاتيح العلوم ص 232) .
[2] المثلثة: كل ثلاثة بروج تكون متفقة في طبيعة واحدة من الطبائع
الأربع. (مفاتيح العلوم ص 226) .
ولعل ابن خلدون كان يعرف أن تيمور لنك (كان يعتمد على أقوال الأطباء
والمنجمين، ويقربهم ويدنيهم، حتى انه كان لا يتحرك الا باختيار فلكي) ،
فحدثه بهذا الحديث.
(7/732)
أهل خيام، تتغلّب على الممالك، وتقلب
الدّول، وتستولي على أكثر المعمور.
فقلت: ومتى زمنه؟ فقال: عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره. وكتب لي بمثل
ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي، طبيب ملك الأفرنج ابن أذفونش ومنجّمه.
وكان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته
في ذلك، أو سايلته عنه يقول: أمره قريب، ولا بدّ لك إن عشت أن تراه.
وأما المتصوّفة فكنّا نسمع عنهم بالمغرب ترقّبهم لهذا الكائن، ويرون أن
القائم به هو الفاطميّ المشار إليه في الأحاديث النّبوية [1] من الشيعة
وغيرهم، فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير
الأولياء بالمغرب، أن الشيخ قال لهم ذات يوم، وقد انفتل من صلاة
الغداة: إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي، وكان ذلك في عشر
الأربعين من المائة الثامنة، فكان في نفسي من ذلك كله ترقّب له.
فوقع في نفسي لأجل الوجل الّذي كنت فيه أن أفاوضه في في شيء من ذلك
يستريح إليه، ويأنس به مني، ففاتحته وقلت: أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون
أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبد الجبّار: وما سبب
ذلك؟ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدّنيا، وما أعتقد
أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في
الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم، وأبيّن ذلك فأقول:
إن الملك إنما يكون بالعصبيّة، وعلى كثرتها يكون قدر الملك، واتفق أهل
العلم من قبل ومن بعد، أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم
تعلمون ملك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم، وأما
الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من
أيديهم شاهد بنصابهم من الملك.
ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى، أو قيصر، أو
الإسكندر، أو بخت نصّر، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم، وأين الفرس من
الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؟ وأما
بخت نصّر فكبير أهل بابل، والنّبط. وأين هؤلاء من التّرك؟ وهذا برهان
ظاهر على ما ادّعيته في هذا
__________
[1] ذكر هذه الأحاديث في المقدمة.
(7/733)
الملك.
وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه، فهو ما كنت أسمعه من
أهل الحدثان بالمغرب، والأولياء، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي:
وأراك قد ذكرت بخت نصّر مع كسرى، وقيصر، والإسكندر، ولم يكن في عدادهم،
لأنهم ملوك أكابر. وبخت نصّر قائد من قوّاد الفرس، كما أنا نائب من
نواب صاحب التّخت، وهو هذا، وأشار إلى الصفّ القائمين وراءه، وكان
واقفا معهم، وهو ربيبه الّذي تقدّم لنا أنّه تزوج أمّه بعد أبيه
ساطلمش، فلم يلفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصفّ أنه خرج عنهم.
فرجع إليّ فقال: ومن أي الطوائف هو بخت نصّر؟ فقلت: بين الناس فيه
خلاف، فقيل من النّبط بقية ملوك بابل، وقيل من الفرس الأولى، فقال:
يعني من ولد منوشهر [1] . قلت نعم هكذا ذكروا، فقال: ومنوشهر له علينا
ولادة من قبل الأمهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه،
وقلت له: وهذا ممّا يجعلني على بني لقائه.
فقال الملك: وأيّ القولين أرجح عندك فيه؟ فقلت إنّه من عقبة ملوك بابل،
فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت: يعكّر تملينا رأي الطبري، فإنه
مؤرّخ الأمة ومحدّثهم، ولا يرجحه غيره، فقال: وما علينا من الطبري؟
نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونناظرك. فقلت: وأنا أيضا أناظر على
رأي الطبري، وانتهى بنا القول، فسكتّ، وجاءه الخبر بفتح باب المدينة،
وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرفع
من بين أيدينا، لما في ركبته من الداء، وحمل على فرسه فقبض شكائمه،
واستوى في مركبه. وضربت الآلات حفافيه حتى ارتجّ لها الجوّ. وسار نحو
دمشق، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية، فجلس هناك، ودخل إليه القضاة
وأعيان البلد، ودخلت في جملتهم، فأشار إليهم بالانصراف، وإلى شاه ملك
نائبة أن يخلع عليهم في وظائفهم، وأشار إليّ بالجلوس، فجلست بين يديه.
ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء،
__________
[1] كذا بالأصل وهو: منوجهر بالجيم المتوسطة بينها وبين الشين اسم ملك
من الفرس، الأول ومعناه فضيّ الطلعة، وذلك لبهائه، فان مينو بالفارسية:
الضضة، فاقتصروا على حذف الياء وقالوا منو. وجهر.
الطلعة.
(7/734)
فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين، وتناظروا
في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة، لعلّهم يعثرون بالصّناعة على
منفذه، فتناظروا في مجلسه طويلا، ثم انصرفوا، وانصرفت الى بيتي داخل
المدينة بعد أن استأذنته في ذلك، فأذن فيه. وأقمت في كسر البيت،
واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب، فكتبته في أيام قليلة، ورفعته
إليه فأخذه من يدي، وأمر موقّعه بترجمته إلى اللسان المغلي. ثم اشتدّ
في حصار القلعة، ونصب عليها الآلات من المجانيق، والنّفوط، والعرّادات،
والنقب، فنصبوا لأيام قليلة ستّين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات
الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهدّم بناؤها من كل جهة، فطلبوا
الأمان.
وكان بها جماعة من خدّام السلطان ومخلّفه، فأمّنهم السلطان تمر، وحضروا
عنده.
وخرّب القلعة وطمس معالمها، وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال
استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلّفه صاحب مصر هنالك، من الأموال
والظّهر والخيام. ثم أطلق أيدي النّهّابة على بيوت أهل المدينة،
فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، وأضرموا النّار فيما بقي من سقط الأقمشة
والخرثيّ، فاتصلت النار بحيطان الدّور المدعمة بالخشب، فلم تزل تتوقّد
إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه، فسال رصاصه، وتهدّمت
سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشّناعة والقبح. وتصاريف
الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء.
وكان أيام مقامي عند السلطان تمر، خرج إليه من القلعة يوم أمّن أهلها
رجل من أعقاب الخلفاء بمصر، من ذرّية الحاكم العبّاسي [1] الّذي نصبه
الظاهر بيبرس، فوقف إلى السلطان تمر يسأله النّصفة في أمره، ويطلب منه
منصب الخلافة كما كان لسلفه، فقال له السلطان تمر: أنا أحضر لك الفقهاء
والقضاة، فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه. واستدعى الفقهاء والقضاة،
واستدعاني فيهم، فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الّذي يسأل منصب الخلافة،
فقال له عبد الجبّار: هذا مجلس النصفة فتكلّم. فقال: إن هذه الخلافة
لنا ولسلفنا، وإن الحديث [2] صحّ بأن
__________
[1] هو أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن القطبي المتوفى سنة 701.
[2] في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100، 101 بعض الآثار التي تمسك بها
العباسيون في خلافتهم.
(7/735)
الأمر لبني العبّاس ما بقيت الدّنيا، يعني
أمر الخلافة. وإني أحقّ من صاحب المنصب الآن بمصر، لأن آبائي الذين
ورثتهم كانوا قد استحقّوه، وصار إلى هذا بغير مستند، فاستدعى عبد
الجبّار كلّا منّا في أمره، فسكتنا برهة، ثم قال: ما تقولون في هذا
الحديث؟ فقال برهان الدّين بن مفلح: الحديث ليس بصحيح.
واستدعى ما عندي في ذلك فقلت: الأمر كما قلتم من أنّه غير صحيح، فقال
السلطان تمر: فما الّذي أصار الخلافة لبني العبّاس إلى هذا العهد في
الإسلام؟
وشافهني بالقول، فقلت: أيّدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم
في دينهم ودنياهم، أم لا يجب ذلك؟ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب، ومنهم
الخوارج، وذهب الجماعة إلى وجوبه، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب، فذهب
الشيعة كلّهم إلى حديث الوصية، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى
بذلك لعلّي، واختلفوا في تنقّلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذّ عن
الحصر. وأجمع أهل السّنّة على إنكار هذه الوصيّة، وأن مستند الوجوب في
ذلك إنما هو الاجتهاد، يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل
الحقّ والفقه والعدل، بفوّضون إليه النظر في أمورهم.
ولما تعدّدت فرق العلويّة وانتقلت الوصيّة بزعمهم من بني الحنفيّة إلى
بني العبّاس، أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن علي
بن عبد الله بن عبّاس، وبثّ دعاته بخراسان. وقام أبو مسلم [1] بهذه
الدعوة، فملك خراسان والعراق، ونزل شيعتهم الكوفة، واختاروا للأمر أبا
العبّاس السفّاح [2] ابن صاحب هذه الدّعوة، ثم أرادوا أن تكون بيعته
على إجماع من أهل السنّة والشيعة، فكاتبوا كبار الأمة يومئذ، وأهل
الحلّ والعقد، بالحجاز والعراق، يشاورونهم في أمره، فوقع اختيارهم
كلّهم على الرضى به، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق. ثم عهد
بها إلى أخيه المنصور [3] ، وعهد بها المنصور إلى بنيه، فلم تزل
متناقلة فيهم، إما
__________
[1] أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني. له ترجمة واسعة في وفيات
ابن خلكان 1/ 352- 356.
[2] أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (104-
136) وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 99 وما بعدها.
[3] أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (95- 158) .
تاريخ الخلفاء 101- 106.
(7/736)
بعهد أو باختيار أهل العصر، إلى أن كان
المستعصم آخرهم ببغداد. فلمّا استولى عليها هولاكو وقتله، افترق
قرابته، ولحق بعضهم بمصر، وهو أحمد الحاكم من عقب الرّاشد، فنصبه
الظّاهر بيبرس بمصر، بممالأة أهل الحلّ والعقد من الجند والفقهاء.
وانتقل الأمر في بيته إلى هذا الّذي بمصر، لا يعلم خلاف ذلك. فقال لهذا
الرّافع: قد سمعت مقال القضاة، وأهل الفتيا، وظهر أنه ليس لك حقّ تطلبه
عندي. فانصرف راشدا.
(الرجوع عن هذا الأمير تمر الى مصر)
كنت لما لقيته، وتدليت إليه من السور كما مرّ أشار عليّ بعض الصّحاب
ممن يخبر أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم، فأشار بأن أطرفه ببعض
هديّة، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق
الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو، وسجّادة أنيقة، ونسخة من قصيدة
البردة المشهورة للأبوصيري [1] في مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلم،
وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. وجئت بذلك فدخلت عليه، وهو بالقصر
الأبلق جالس في إيوانه، فلمّا رآني مقبلا مثل قائما وأشار إلي عن
يمينه، فجلست وأكابر من الجقطيّة حفافية، فجلست قليلا، ثم استدرت بين
يديه، وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها، وهي بيد خدّامي، فوضعتها،
واستقبلني، ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه، قام مبادرا فوضعه على رأسه.
ثم ناولته البردة، فسألني عنها وعن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من
أمرها. ثم ناولته السجّادة، فتناولها وقبّلها. ثم وضعت علب الحلوى بين
يديه، وتناولت منها حرفا على العادة في التأنيس بذلك. ثم قسم هو ما
فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبّل ذلك كلّه، وأشعر بالرّضى
به. ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي، وشأن أصحاب لي هنالك.
فقلت أيدك الله! لي كلام أذكره بين يديك، فقال: قل. فقلت أنا غريب بهذه
البلاد غربتين، واحدة من
__________
[1] هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الدلاصي البوصيري الصنهاجي
(608- 694) على خلاف في تاريخ الوفاة. له ترجمة في فوات الوفيات 2/
205- 209، حسن المحاضرة 1/ 360.
ابن خلدون م 47 ج 7
(7/737)
المغرب الّذي هو وطني ومنشأي وأخرى من مصر
وأهل جيلي بها، وقد حصلت في ظلك، وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في
غربتي، فقال: قل الّذي تريد أفعله لك، فقلت: حال الغربة أنستني ما
أريد، وعساك- أيّدك الله- أن تعرف لي ما أريد. فقال: انتقل من المدينة
إلى الأردو [1] عندي، وأنا إن شاء الله أو في كنه قصدك. فقلت يأمر لي
بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك، فشكرت ودعوت وقلت: وبقيت
لي أخرى. فقال: وما هي؟ فقلت هؤلاء المخلّفون عن سلطان مصر. من
القرّاء، والموقّعين، والدواوين [2] ، والعمّال، صاروا إلى إيالتك
والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير، وعمالاتكم متّسعة، وحاجة
ملككم إلى المتصرّفين في صنوف الخدم أشدّ من حاجة غيركم، فقال وما تريد
لهم؟ قلت:
مكتوب أمان يستنيمون إليه، ويعوّلون في أحوالهم عليه. فقال لكاتبه:
اكتب لهم بذلك [3] ، فشكرت ودعوت. وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب
الأمان، وختمه شاه ملك بخاتم السلطان، وانصرفت إلى منزلي. ولما قرب
سفره واعتزم على الرحيل عن الشام، دخلت عليه ذات يوم، فلمّا قضينا
المعتاد، التفت إليّ وقال: عندك بغلة هنا؟ قلت نعم، قال حسنة؟ قلت نعم،
قال وتبيعها؟ فأنا أشتريها منك، فقلت أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك،
إنّما أنا أخدمك بها، وبأمثالها لو كانت لي، فقال: أنا أردت أن أكافئك
عنها بالإحسان، فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به، اصطنعتني،
وأحللتني من مجلسك محلّ خواصّك، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو
الله أيقابلك بمثله، وسكت وسكتّ وحملت البغلة- وأنا معه في المجلس-
إليه، ولم أرها بعد.
ثم دخلت عليه يوما آخر فقال لي: أتسافر إلى مصر؟ فقلت أيّدك الله،
رغبتي إنما هي أنت، وأنت قد آويت وكفلت، فإن كان السّفر إلى مصر في
خدمتك فنعم، وإلا فلا بغية لي فيه، فقال لا، بل تسافر إلى عيالك وأهلك،
فالتفت إلى ابنه، وكان مسافرا إلى شقحب لمرباع دوابّه، واشتغل يحادثه،
فقال لي الفقيه عبد الجبّار الّذي كان يترجم بيننا: إن السلطان يوصي
ابنه بك، فدعوت له، ثم رأيت أن
__________
[1] الأردو: المعسكر (تركية) .
[2] كذا في الأصل. ولعلها: (بالدواوين) أو (وأصحاب الدواوين) .
[3] ذكر هذه الشفاعة المقريزي في السلوك في حوادث سنة 803.
(7/738)
السفر مع ابنه غير مستبين الوجهة، والسفر
إلى صفد أقرب السواحل إلينا أملك لأمري، فقلت له ذلك، فأجاب إليه،
وأوصي بي قاصدا كان عنده من حاجب صفد ابن الدّاويداري [1] ، فودعته
وانصرفت، واختلفت الطريق مع ذلك القاصد، فذهب عنّي، وذهبت عنه، وسافرت
في جمع أصحابي، فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطّريق، ونهبوا
ما معنا، ونجونا إلى قرية هنالك عرايا.
واتّصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصّبيبة فخلفنا بعض الملبوس، وأجزنا إلى
صفد، فأقمنا بها أياما. ثم مر بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد
الرّوم، وصل فيه رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر، ورجع بجوار رسالته،
فركبت معهم البحر إلى غزّة، ونزلت بها، وسافرت منها إلى مصر، فوصلتها
في شعبان من هذه السّنة، وهي سنة ثلاث وثمانمائة، وكان السلطان صاحب
مصر، قد بعث من بابه سفيرا إلى الأمير تمر إجابة إلى الصلح الّذي طلب
منه، فأعقبني إليه. فلما قضى رسالته رجع، وكان وصوله بعد وصولي، فبعث
إليّ مع بعض أصحابه يقول لي: إنّ الأمير تمر قد بعث معي إليك ثمن
البغلة التي ابتاع منك، وهي هذه فخذها، فإنّه عزم علينا من خلاص ذمّته
من مالك هذا. فقلت لا أقبله إلا بعد إذن من السّلطان الّذي بعثك إليه،
وأما دون ذلك فلا. ومضيت إلى صاحب الدّولة فأخبرته الخبر فقال وما
عليك؟ فقلت: إنّ ذلك لا يجمل بي أن أفعله دون إطلاعكم عليه، فأغضى عن
ذلك، وبعثوا إليّ بذلك المبلغ بعد مدّة، واعتذر الحامل عن نقصه بأنه
أعطيه كذلك، وحمدت الله على الخلاص.
وكتبت حينئذ كتابا إلى صاحب المغرب، عرّفته بما دار بيني وبين السلطان
الطّطر تمر، وكيف كانت واقعته معنا بالشّام، وضمّنت ذلك في فصل من
الكتاب نصّه:
«وإن تفضّلتم بالسؤال عن حال المملوك، فهي بخير والحمد للَّه، وكنت في
العام الفارط توجّهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عند ما زحف الطّطر
إليه من بلاد الروم والعراق، مع ملكهم تمر، واستولى على حلب وحماة وحمص
وبعلبكّ،
__________
[1] كذا بالأصل وفي عجائب المقدور ص 113: « ... وكان في صفد تاجر من
أهل البلاد أحد الرؤساء والتجار، يدعى علاء الدين، وينسب الى دوادار،
كان تقدمت له خدمة على السلطان فولاه حجابة ذلك المكان» .
(7/739)
وخرّبها جميعا، وعاثت عساكره فيها بما لم
يسمع أشنع منه. ونهض السلطان في عساكره لاستنقاذها، وسبق إلى دمشق،
وأقام في مقابلته نحوا من شهر، ثم قفل راجعا إلى مصر، وتخلّف الكثير من
أمرائه وقضاته، وكنت في المخلّفين. وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عنّي، فلم
يسع إلا لقاؤه فخرجت إليه من دمشق، وحضرت مجلسه، وقابلني بخير، واقتضيت
منه الأمان لأهل دمشق، وأقمت عنده خمسا وثلاثين يوما، أباكره وأراوجه.
ثمّ صرفني، وودّعني على أحسن حال، ورجعت إلى مصر. وكان طلب منّي بغلة
كنت أركبها فأعطيته إياها، وسألني البيع فتأفّفت منه، لما كان يعامل به
من الجميل، فبعد انصرافي إلى مصر بعث إليّ بثمنها مع رسول كان من جهة
السلطان هنالك، وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا.
وهؤلاء الطّطر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النّهر، بينه وبين
الصين، أعوام [1] عشرين وستّمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان وملك المشرق
كلّه من أيدي السّلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب، وقسم الملك بين
ثلاثة من بنيه وهم جفطاي، وطولي، ودوشي خان:
فجفّطاي كبيرهم، وكان في قسمته تركستان وكاشغر، والصّاغون، والشّاش
وفرغانة، وسائر ما وراء النّهر من البلاد.
وطولي كان في قسمته أعمال خراسان، وعراق العرب وبلاد فارس وسجستان
والسند. وكان أبناؤه: قبلاي، وهولاكو.
ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق، ومنها صراي، وبلاد الترك إلى
خوارزم.
وكان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم، ويسمّونه الخان، ومعناه صاحب
التّخت، وهو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام. وانقرض عقبه، وانتقلت
الخانيّة إلى قبلاي، ثم إلى بني دوشي خان، أصحاب صراي. واستمرّ ملك
الططر في هذه الدّول الثلاث، وملك هولاكو بغداد، وعراق العرب، إلى ديار
بكر ونهر الفرات.
ثم زحف إلى الشام وملكها، ورجع عنها، وزحف إليها بنوه مرارا، وملوك مصر
من الترك يدافعونهم عنها، إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين
وسبعمائة،
__________
[1] كذا بالأصل، وهو تعبير مألوف في أسلوب ابن خلدون. ورد كثيرا في
أماكن متفرقة من كتابه.
(7/740)
وملك بعدهم الشيخ حسن النّوين وبنوه.
وافترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام
ومصر. ثم في أعوام السبعين أو الثمانين وسبعمائة، ظهر في بني جفطاي
وراء النهر أمير اسمه تيمور، وشهرته عند الناس تمر، وهو كافل لصبيّ
متّصل النّسب معه إلى جفطاي في آباء كلّهم ملوك، وهذا تمر بن طرغاي هو
ابن عمهم، كفل صاحب التّخت منهم اسمه محمود، وتزوج أمّ صرغتمش، ومدّ
يده إلى ممالك التتر كلّها، فاستولى عليها إلى ديار بكر، ثم جال في
بلاد الروم والهند، وعاثت عساكره في نواحيها، وخرّب حصونها ومدنها، في
أخبار يطول شرحها. ثم زحف بعد ذلك إلى الشام، ففعل به ما فعل، والله
غالب على أمره. ثم رجع آخرا إلى بلاده، والأخبار تتّصل بأنه قصد
سمرقند، وهي كرسيّه.
والقوم في عدد لا يسعه الإحصاء، إن قدرت ألف ألف فغير كثير، ولا تقول
أنقص، وإن خيّموا في الأرض ملئوا السّاح، وإن سارت كتائبهم في الأرض
العريضة ضاق بهم الفضاء، وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران،
وابتلائهم بأنواع العذاب، على ما يحصّلونه من فئاتهم آية عجب، وعلى
عادة بوادي الأعراب.
وهذا الملك تمر من زعماء الملوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم،
وآخرون إلى اعتقاد الرّفض، لما يرون من تفضيله لأهل البيت، وآخرون إلى
انتحال السّحر، وليس من ذلك كلّه في شيء، إنّما هو شديد الفطنة
والذّكاء، كثير البحث واللّجاج بما يعلم وبما لا يعلم، عمره بين
السّتّين والسّبعين، وركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام
صباه على ما أخبرني، فيجرّها في قريب المشي، ويتناوله الرّجال على
الأيدي عند طول المسافة، وهو مصنوع له، والملك للَّه يؤتيه من يشاء من
عباده.
(ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة
بمصر)
كنت- لما أقمت عند السلطان نمر تلك الأيام التي أقمت- طال مغيبي عن
(7/741)
مصر، وشيّعت الأخبار عني بالهلاك، فقدّم
للوظيفة من يقوم بها من فضلاء المالكيّة، وهو جمال الدّين الأقفهسي [1]
، غزير الحفظ والذكاء، عفيف النّفس عن التصدّي لحاجات النّاس، ورع في
دينه، فقلّدوه منتصف جمادى الآخرة من السنّة.
فلما رجعت إلى مصر، عدلوا عن ذلك الرأي، وبدا لهم في أمري، فولّوني في
أواخر شعبان من السنة. واستمررت على الحال التي كنت عليها من القيام
بالحقّ، والإعراض عن الأغراض، والإنصاف من المطالب، ووقع الإنكار عليّ
ممّن لا يدين للحق، ولا يعطي النّصفة من نفسه، فسعوا عند السلطان في
ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي [2] ، بذل في ذلك
لسعاة داخلوه، قطعة من ماله، ووجوها من الأغراض في قضائه. قاتل الله
جميعهم، فخلعوا عليه أواخر رجب، سنة أربع وثمانمائة. ثم راجع السلطان
بصيرته، وانتقد رأيه، ورجّع إليّ الوظيفة خاتم سنة أربع وثمانمائة،
فأجريت الحال على ما كان. وبقي الأمر كذلك سنة وبعض الأخرى. وأعادوا
البساطي الى ما كان، وبما كان، وعلى ما كان، وخلعوا عليه سادس ربيع
الأوّل سنة ست وثمانمائة [3] ، ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع
وثمانمائة [4] ، ثم أدالوا به منّي أواخر ذي القعدة [5] من السنة وبيد
الله تصاريف الأمور.
تم الجزء السابع من تاريخ ابن خلدون وبتمامه اكتمل للمؤرخ ديوان
المبتدإ والخبر من عرب وعجم وبربر ويليه الجزء الثامن وهو فهارس عامة
للتاريخ المذكور وضع باشراف دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع في
بيروت.
وكان الفراغ من طبعة في الرابع والعشرين من شعبان عام 1401 هـ الموافق
26 حزيران 1981 م والحمد للَّه رب العالمين.
__________
[1] هو عبد الله بن مقداد بن إسماعيل بن عبد الله الأقفهسي، جمال الدين
المالكي المتوفى سنة 723 هـ.
[2] يوسف بن خالد بن نعيم بن نعيم بن محمد بن حسن بن علي بن محمد بن
علي، جمال الدين.
[3] انظر «عقد الجمان» للعيني، في حوادث سنة 806.
[4] في صبح الأعشى 11/ 189 نص «التقليد» الّذي تولى به البساطي القضاء
بعد ابن خلدون.
[5] الّذي في «عقد الجمان» للعيني في حوادث سنة 807، أن الّذي خلف ابن
خلدون هو جمال الدين الأقفهسي. ولعل ابن خلدون أعرف بمن ولي بدله.
(7/742)
|