تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر خبر داود بن إيشى بن عويد بن باعز بن
سلمون بن نحشون بن عمي نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب
بن إسحاق بن ابراهيم
وكان داود ع- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن
إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه- قصيرا أزرق قليل الشعر، طاهر
القلب نقيه.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن
وهب، قال: حَدَّثَنِي ابن زيد في قول الله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ»
إلى قوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» قَالَ: أوحى الله إلى
نبيهم أن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن
يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أن في
ولدك رجلا يقتل الله به جالوت فقال: نعم يا نبي الله، قَالَ: فأخرج له
اثني عشر رجلا امثال السواري، وفيهم رجل بارع عليهم، فجعل يعرضهم على
القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله
إليه:
إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قَالَ:
يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك،
وقال: إن لك ولدا غيرهم قَالَ: قد صدق يا نبي الله، إن لي ولدا قصيرا
استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قَالَ: فأين هو؟ قَالَ: في شعب
كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين
البقعة التي كان يريح إليها قَالَ: ووجده يحمل شاتين شاتين، يجيز بهما
السيل ولا يخوض بهما السيل فلما رآه قَالَ: هذا هو، لا شك فيه، هذا
(1/476)
يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قَالَ:
فوضع القرن على رأسه ففاض.
حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق، قَالَ، حَدَّثَنَا
إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه
قَالَ:
لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن
قل لطالوت: فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره
عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل من كان فيها، إلا ملكهم فإنه
أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ
أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه فقل
له: لأنزعن الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما
أكرم من أطاعني، وأهين من هان عليه أمري.
فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقت مواشيهم؟
قَالَ: إنما سقت المواشي لأقربها، قَالَ له أشمويل: إن الله قد نزع من
بيتك الملك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل:
انطلق إلى إيشى فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا
على بني إسرائيل فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى
أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه،
فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك
تبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا،
اعرض علي غيره فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول:
ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال:
بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم قَالَ: أرسل إليه، فلما أن جاء
داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا،
(1/477)
فإن طالوت لو يطلع عليه قتله فسار جالوت في
قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا
للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت:
لم يقتل قومي وقومك؟ ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك
لي، وإن قتلتني كان الملك لك فأرسل طالوت في عسكره صائحا:
من يبرز جالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من
طالوت إلى داود.
قَالَ أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حول الملك له
قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله،
وأما سائر من روينا عنه قولا في ذلك، فإنهم قَالُوا: إنما ملك داود بعد
ما قتل طالوت وولده.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن
إِسْحَاقَ- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- عن وهب بن منبه قَالَ: لما قتل
داود جالوت، وانهزم جنده قَالَ الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت،
وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكر.
قَالَ: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلمه
صنعة الحديد، وألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح، ولم
يعط الله- فيما يذكرون- أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور-
فيما يذكرون- ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لمصيخة تسمع
لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف
صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه
الله عز وجل لنبيه محمد ع فقال: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ
(1/478)
ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ»
، يعني بذلك ذا القوة.
وقد حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال:
حدثنا سعيد، عن قتادة: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ: أعطي قوة في العبادة، وفقها في الاسلام وقد
ذكر لنا ان داود ع كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر وكان يحرسه- فيما
ذكر- في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قوله: «وَشَدَدْنا
مُلْكَهُ» ، قَالَ: كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذكر أنه تمنى يوما من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق
ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو
الذي كان أعطاهم.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بن المفضل، قَالَ:
حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: قَالَ السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة
أيام:
يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلو فيه لعبادة ربه، ويوما يخلو فيه
لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان
يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب،
قَالَ: يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني
مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم قَالَ: فأوحى الله إليه أن
آباءك ابتلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي
إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من
ذلك بشيء قَالَ: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما
اعطيتهم قال:
(1/479)
فأوحى إليه إنك مبتلى فاحترس قَالَ: فمكث
بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من
ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي، قَالَ: فمد يده ليأخذه فتنحى
فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر: أين
يقع فيبعث في أثره، قَالَ: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة
من أجمل النساء خلقا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت
به، قَالَ: فزاده ذلك فيها رغبة، قَالَ: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا،
وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا، قَالَ: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره
أن يبعث أهريا إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه ففتح له، قَالَ: وكتب
إليه بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأسا.
قَالَ: فبعثه ففتح له أيضا، قَالَ: فكتب إلى داود بذلك، قَالَ: فكتب
إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه، قَالَ: فقتل المرة
الثالثة، قَالَ: وتزوج داود امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا
يسيرا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه
في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا عليه المحراب،
قَالَ:
فما شعر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قَالَ: ففزع منهما،
فقالا: لا تخف، إنما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» يقول: لا تحف،
«وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» إلى عدل القضاء قَالَ: قصا علي
قصتكما، قَالَ: فقال أحدهما:
«إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ
واحِدَةٌ» .
فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمل بها نعاجه مائة، قَالَ: فقال للآخر:
(1/480)
ما تقول؟ فقال: إن لي تسعا وتسعين نعجة،
ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي مائة،
قَالَ: وهو كاره! قَالَ:
وهو كاره، قَالَ: إذا لا ندعك وذاك، قَالَ: ما أنت على ذلك بقادر!
قَالَ: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا- وفسر أسباط
طرف الأنف والجبهة- فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث
لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لاهريا إلا امرأة واحدة فلم تزل به تعرضه
للقتل حتى قتل، وتزوجت امرأته قَالَ: فنظر فلم ير شيئا، قَالَ: فعرف ما
قد وقع فيه، وما ابتلي به، قَالَ: فخر ساجدا فبكى، قَالَ: فمكث يبكي
ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدا
يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، قَالَ: فأوحى الله عز وجل
إليه بعد اربعين يوما: يا داود، ارفع راسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب،
كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء
اهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما في قبل
عرشك: يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني! قَالَ: فأوحى الله اليه: إذا كان
ذلك دعوت اهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة قَالَ: رب
الآن علمت أنك قد غفرت لي، قَالَ: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء
حياء من ربه حتى قبض حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْوَلِيد بن مسلم، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، قَالَ: حَدَّثَنِي
عطاء الخراساني، قَالَ: نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها، فكان إذا
رآها خفقت يده واضطربت.
وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتحن به، أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم
من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرض له فيه ما عرض، اليوم
الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء
(1/481)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن
مطر، عن الحسن، أن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما
لعبادته، ويوما لقضاء بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل، يذاكرهم
ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا:
هل يأتي على الإنسان يوم لا يصبب فيه ذنبا! فأضمر داود في نفسه أنه
سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد،
وأكب على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون
حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، قَالَ: فطارت فوقعت غير
بعيد، من غير أن تؤيسه من نفسها، قَالَ: فما زال يتبعها حتى أشرف على
امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها وحسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها
بشعرها، فزاده ذلك أيضا إعجابا بها، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه،
فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا مكان إذا سار إليه لم يرجع قَالَ:
ففعل فأصيب، فخطبها فتزوجها- قَالَ: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان-
قَالَ: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه، وكان الخصمان إذا
أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فَقَالُوا:
«لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» حتى بلغ «وَلا
تُشْطِطْ» أي ولا تمل «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» أي أعدله
وخيره، «إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» - وكان
لداود تسع وتسعون امرأة- «وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» قَالَ: وإنما كان
للرجل امرأة واحدة «فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» ،
أي ظلمني وقهرني «قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى
نِعاجِهِ» - الى «وَظَنَّ داوُدُ» ، فعلم أنما أضمر له، أي عني بذلك،
«ف خَرَّ راكِعاً وَأَنابَ»
(1/482)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدريس، قَالَ: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد،
قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة، خر لله ساجدا أربعين يوما، حتى نبت من
دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه، ثم نادى: يا رب قرح الجبين، وجمدت
العين! وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء فنودي:
أجائع فتطعم؟ أم مريض فتشفى؟ أم مظلوم فينتصر لك! قَالَ: فنحب نحبة هاج
كل شيء كان نبت، فعند ذلك غفر له وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها،
وكان يؤتى بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته
فينتحب النحبه تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ
الإناء من دموعه وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة آدم
تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق قَالَ: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته
مكتوبة بكفه فيقول: رب ذنبي قدمني! قَالَ:
فيقدم فلا يأمن، فيقول: رب أخرني، قَالَ: فيؤخر فلا يأمن.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن
وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ
يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك يقول:
[سمعت رسول الله ص يقول: ان داود النبي ع حين نظر الى المرأة
فَأُهِمَّ، قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْثًا، فَأَوْصَى
صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ فَقَرِّبْ
فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ مَنْ قَدِمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ
لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ،
فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ
يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا، حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ
دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ، وَهُوَ
يَقُولُ فِي سُجُودِهِ-
(1/483)
فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرَّقَاشِيِّ إِلا
هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ مِمَّا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ! رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ
دَاوُدَ، وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الخلوف
من بعده فجاءه جبرئيل مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ:
يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي
هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ
عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِيَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ
عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لا يَمِيلُ، فَكَيْفَ بِفُلانٍ إِذَا
جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ دَمِي الَّذِي عند
داود! فقال جبرئيل: مَا سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَئِنْ شِئْتَ
لافعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا
شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ يَا
دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي فِيهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: يَا
دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ:
هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا
رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا
اشْتَهَيْتَ عِوَضًا] .
وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا
بِالْمُلْكِ بَعْدَ طَالُوتَ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ
امْرَأَةِ أُورِيَا مَا كَانَ، فَلَمَّا وَاقَعَ مَا وَاقَعَ مِنَ
الْخَطِيئَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا- فِيمَا زَعَمُوا-
وَاسْتَخَفَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْنٌ لَهُ
يُقَالُ له ايشى، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ
الزَّيْغِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا: فَلَمَّا تَابَ اللَّهُ
عَلَى دَاوُدَ ثَابَتْ إِلَيْهِ ثَائِبَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَحَارَبَ
ابْنَهُ حَتَّى هَزَمَهُ، وَوَجَّهَ فِي طَلَبِهِ قَائِدًا مِنْ
قُوَّادِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى حَتْفَهُ،
وَيَتَلَطَّفَ لأَسْرِهِ، فَطَلَبَهُ الْقَائِدُ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ،
فَاضْطَرَّهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَرَكَضَ فِيهَا- وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ-
فَتَعَلَّقَ بَعْضُ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ بِشَعْرِهِ فَحَبَسَهُ،
وَلَحِقَهُ الْقَائِدُ فَقَتَلَهُ مُخَالِفًا لأَمْرِ دَاوُدَ،
فَحَزِنَ دَاوُدُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَنَكَّرَ لِلْقَائِدِ،
وَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ طَاعُونٌ جَارِفٌ،
فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَدْعُونَ اللَّهَ
وَيَسْأَلُونَهُ كَشْفَ ذَلِكَ الْبَلاءِ عَنْهُمْ، فَاسْتُجِيبَ
لَهُمْ، فَاتَّخَذُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا، وَكَانَ ذَلِكَ-
فِيمَا قِيلَ- لإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِهِ
وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَوْصَى
(1/484)
إِلَى سُلَيْمَانَ بِاسْتِتْمَامِهِ،
وَقَتْلِ الْقَائِدِ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، فَلَمَّا دَفَنَهُ
سُلَيْمَانُ نَفَّذَ لأَمْرِهِ فِي الْقَائِدِ وَقَتَلَهُ،
وَاسْتَتَمَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ فِي بِنَاءِ دَاوُدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ما حَدَّثَنَا
مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قَالَ: حَدَّثَنِي إسماعيل بن عبد الكريم،
قال: حدثني عبد الصمد بن معقل:
أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن داود أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم
هم؟
فبعث لذلك عرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب
الله عليه ذلك، وقال: قد علمت أني وعدت إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته
حتى أجعلهم كعدد نجوم السماء، وأجعلهم لا يحصى عددهم، فأردت أن تعلم
عدد ما قلت: إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث
سنين، أو أسلط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو الموت ثلاثة أيام! فاستشار
داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبر، ولا
بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإن كان لا بد فالموت بيده لا بيد
غيره فذكر وهب بن منبه أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كبيره، لا
يدرى ما عددهم، فلما رأى ذلك داود، شق عليه ما بلغه من كثرة الموت،
فتبتل إلى الله ودعاه فقال: يا رب، أنا آكل الحماض وبنو إسرائيل
يضرسون! أنا طلبت ذلك فأمرت به بني إسرائيل، فما كان من شيء فبي واعف
عن بني إسرائيل فاستجاب الله له ورفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة
سالين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء،
فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في
بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وإنك قد صبغت يديك في الدماء،
فلست ببانيه، ولكن ابن لك أملكه بعدك أسميه سليمان، أسلمه من الدماء.
فلما ملك سليمان بناءه وشرفه، وكان عمر داود- فيما وردت به الاخبار عن
رسول الله ص- مائة سنة.
وأما بعض أهل الكتب، فإنه زعم أن عمره كان سبعا وسبعين سنة، وأن مدة
ملكه كانت أربعين سنة
(1/485)
|