تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر من ملك إقليم
بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ
قَالَ أبو جعفر: ونرجع الآن إلى الخبر عمن ملك إقليم بابل والمشرق من
ملوك الفرس بعد كيقباذ.
وملك بعد كيقباذ بن زاغ بن يوجياه كيقاوس بن كيبية بن كيقباذ الملك.
فذكر أنه قَالَ يوم ملك: إن الله تعالى إنما خولنا الأرض وما فيها
لنسعى فيها بطاعته، وأنه قتل جماعة من عظماء البلاد التي حوله، وحمى
بلاده ورعيته ممن حواليهم من الأعداء أن يتناولوا منها شيئا، وأنه كان
يسكن بلخ، وأنه ولد له ابن لم ير مثله في عصره في جماله وكماله وتمام
خلقه، فسماه سياوخش، وضمه إلى رستم الشديد بن دستان بن نريمان بن جودنك
ابن كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان.
وكان اصبهبذ سجستان وما يليه من قبله يربيه ويكفله، وأوصاه به فأخذه
منه رستم، فمضى به معه إلى موضع عمله سجستان، فرباه رستم ولم يزل في
حجره يجمع له وهو طفل الحواضن والمرضعات، ويتخيرهن له،
(1/504)
حتى إذا ترعرع جمع له المعلمين، فتخير له
منهم من اختاره لتعليمه، حتى إذا قدر على الركوب علمه الفروسية حتى إذا
تكاملت فيه فنون الآداب، وفاق في الفروسية قدم به على والده رجلا
كاملا، فامتحنه والده كيقاوس، فوجده نافذا في كل ما أراد بارعا، فسر
به، وكان كيقاوس تزوج- فيما ذكر- ابنه فراسياب ملك الترك، وقيل: بل
إنها بنت ملك اليمن، وكان يقال لها سوذابة، وكانت ساحرة، فهويت سياوخش،
ودعته إلى نفسها، وأنه امتنع عليها، وذكرت لها ولسياوخش قصة يطول
بذكرها الكتاب، غير أن آخر أمرهما صار في ذلك- فيما ذكر لي- أن سوذابة
لم تزل لما رأت من امتناع سياوخش عليها فيما أرادت منه من الفاحشة
بأبيه كيقاوس حتى أفسدته عليه، وتغير لابنه سياوخش، فسأل سياوخش رستم
أن يسأل أباه كيقاوس توجيهه لحرب فراسياب لسبب منعه بعض ما كان ضمن له
عند إنكاحه ابنته إياه، وصلح جرى بينه وبينه، مريدا بذلك سياوخش البعد
عن والده كيقاوس، والتنحى عما تكيد به عنده زوجته سوذابة، ففعل ذلك
رستم، واستأذن له أباه فيما سأله، وضم إليه جندا كثيفا، فشخص إلى بلاد
الترك للقاء فراسياب، فلما صار إليه سياوخش، جرى بينهما صلح، وكتب بذلك
سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب من الصلح، فكتب اليه
والده يأمره بمناهضه فراسياب ومناجزته الحرب، إن هو لم يذعن له بالوفاء
بما كان فارقه عليه فرأى سياوخش أن في فعله ما كتب به إليه أبوه من
محاربه فراسياب بعد الذي جرى بينه وبينه من الصلح والهدنة من غير نقض
فراسياب شيئا من أسباب ذلك عليه عارا ومنقصة ومأثما، فامتنع من إنفاذ
أمر أبيه في ذلك، ورأى في نفسه أنه يؤتى في كل ذلك من زوجة أبيه التي
دعته إلى نفسها فامتنع عليها، ومال إلى الهرب
(1/505)
من ابيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان
لنفسه منه، واللحاق به، وترك والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك- وكان
السفير بينهما في ذلك- فيما قيل- رجلا من الترك من عظمائهم يقال له:
فيران بن ويسغان- فلما فعل ذلك سياوخش انصرف عنه من كان معه من جند
أبيه كيقاوس.
فلما صار سياوخش الى فراسياب بوأه وأكرمه وزوجه ابنة له يقال لها:
وسفافريد، وهي أم كيخسرونة، ثم لم يزل له مكرما حتى ظهر له أدب سياوخش
وعقله وكماله وفروسيته ونجدته ما أشفق على ملكه منه، فأفسده ذلك عنده،
وزاده فسادا عليه سعي ابنين له وأخ يقال له: كندر بن فشنجان عليه
بإفساد أمر سياوخش عنده، حسدا منهم له، وحذرا على ملكهم منه، حتى مكنهم
من قتله، فذكر في سبب وصولهم إلى قتله أمر يطول بشرحه الخطب، إلا أنهم
قتلوه ومثلوا به وامرأته ابنة فراسياب حامل منه بابنه كيخسرونة، فطلبوا
الحيلة لإسقاطها ما في بطنها فلم يسقط، وأن فيران الذى سعى في عقد
الصلح بين فراسياب وسياوخش لما صح عنده ما فعل فراسياب من قتله سياوخش،
أنكر ذلك من فعله، وخوفه عاقبة الغدر، وحذره الطلب بالثأر من والده
كيقاوس ومن رستم، وسأله دفع ابنته وسفافريد إليه لتكون عنده إلى أن تضع
ما في بطنها ثم يقتله.
ففعل ذلك فراسياب، فلما وضعت رق فيران لها وللمولود، فترك قتله وستر
أمره، حتى بلغ المولود، فوجه- فيما ذكر- كيقاوس إلى بلاد الترك بي بن
جوذرز، وأمره بالبحث عن المولود الذي ولدته زوجة ابنه سياوخش، والتأتي
لإخراجه إليه، إذا وقف على خبره مع أمه، وأن بيا شخص لذلك، فلم يزل
يفحص عن أمر ذلك المولود، متنكرا حينا من الزمان فلا يعرف له خبر، ولا
يدله عليه أحد.
ثم وقف بعد ذلك على خبره، فاحتال فيه وفي أمه حتى أخرجهما من أرض الترك
إلى كيقاوس، وقد كان كيقاوس- فيما ذكر- حين اتصل به
(1/506)
قتل ابنه أشخص جماعة من رؤساء قواده، منهم
رستم بن دستان الشديد، وطوس بن نوذران، وكانا ذوي بأس ونجدة، فأثخنا
الترك قتلا واسرا، وحاربا فراسياب حربا شديدة وأن رستم قتل بيده شهر
وشهره ابنى فراسياب وان طوسا قتل بيده كندر أخا فراسياب.
وذكر أن الشياطين كانت مسخرة لكيقاوس، فزعم بعض أهل العلم بأخبار
المتقدمين أن الشياطين الذين كانوا سخروا له إنما كانوا يطيعونه عن أمر
سليمان بن داود إياهم بطاعته، وأن كيقاوس أمر الشياطين فبنوا له مدينة
سماها كنكدر، ويقال: قيقذون، وكان طولها- فيما زعموا- ثمانمائه فرسخ،
وأمرهم فضربوا عليها سورا من صفر، وسورا من شبه، وسورا من نحاس، وسورا
من فخار، وسورا من فضة، وسورا من ذهب وكانت الشياطين تنقلها ما بين
السماء والأرض وما فيها من الدواب والخزائن والأموال والناس وذكروا أن
كيقاوس كان لا يحدث وهو يأكل ويشرب.
ثم إن الله تعالى بعث إلى المدينة التي بناها كذلك من يخربها فأمر
كيقاوس شياطينه بمنع من قصد لتخريبها، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأى
كيقاوس الشياطين لا تطيق الدفع عنها، عطف عليها، فقتل رؤساءها وكان
كيقاوس- فيما ذكر- مظفرا لا يناوئه أحد من الملوك إلا ظفر عليه وقهره،
ولم يزل ذلك أمره حتى حدثته نفسه- لما كان أتي من العز والملك، وأنه لا
يتناول شيئا إلا وصل إليه- بالصعود إلى السماء.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد أنه شخص من خراسان حتى نزل بابل، وقال: ما
بقي شيء من الأرض إلا وقد ملكته، ولا بد من أن أعرف أمر السماء
والكواكب وما فوقها، وأن الله أعطاه قوة ارتفع بها ومن معه في الهواء
حتى انتهوا إلى السحاب، ثم إن الله سلبهم تلك القوة فسقطوا فهلكوا،
وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ، وفسد عليه ملكه، وتمزقت الأرض، وكثرت الملوك
في النواحي، فصار يغزوهم ويغزونه، فيظفر مرة وينكب اخرى
(1/507)
قَالَ: فغزا بلاد اليمن- والملك بها يومئذ
ذو الاذعار بن أبرهة ذي المنار ابن الرائش- فلما ورد بلاد اليمن خرج
عليه ذو الأذعار بن أبرهة وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو قبل ذلك
بنفسه قال: فلما اظله كيقاوس ووطيء بلاده في جموعه خرج بنفسه في جموع
حمير وولد قحطان، فظفر بكيقاوس، فأسره، واستباح عسكره، وحبسه في بئر،
وأطبق عليه طبقا قَالَ: وخرج من سجستان رجل يقال له رستم، كان جبارا
قويا فيمن أطاعه من الناس قال: فزعمت الفرس انه دخل بلاد اليمن،
واستخرج قبوس من محبسه وهو كيقاوس قَالَ: وزعم أهل اليمن أنه لما بلغ
ذا الأذعار إقبال رستم خرج اليه في جنوده وعدده، وخندق كل واحد منهما
على عسكره، وأنهما أشفقا على جنديهما من البوار، وتخوفا ان تزاحفا ألا
تكون لهما بقية، فاصطلحا على دفع كيقاوس إلى رستم، ووضع الحرب، فانصرف
رستم بكيقوس إلى بابل، وكتب كيقاوس لرستم عتقا من عبودة الملك، وأقطعه
سجستان وزابلستان، وأعطاه قلنسوة منسوجة بالذهب وتوجه، وأمره أن يجلس
على سرير من فضة، قوائمه من ذهب، فلم تزل تلك البلاد بيد رستم حتى هلك
كيقاوس وبعده دهرا طويلا.
قَالَ: وكان ملكه مائة وخمسين سنة.
وزعم علماء الفرس أن أول من سود لباسه على وجه الحداد شادوس بن جودرز
على سياوخش، وأنه فعل ذلك يوم ورد على كيقاوس نعي ابنه سياوخش وقتل
فراسياب إياه، وغدره به، وأنه دخل على كيقاوس، وقد لبس السواد، فاعلمه
أنه فعل ذلك لأن يومه يوم إظلام وسواد.
وقد حقق ما ذكر ابن الكلبي من أسر صاحب اليمن قابوس الحسن بن هانئ في
شعر له فقال:
(1/508)
وقاظ قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت
لحاسبها
ثم ملك من بعد كيقاوس ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ابن كيبية
بن كيقباذ.
وكان كيقاوس حين صار به وبامه وسفافريد ابنه فراسياب- وربما قيل
وسففره- بي بن جوذرز إليه من بلاد الترك ملكه، فلما قام بالملك بعد جده
كيقاوس، وعقد التاج على رأسه خطب رعيته خطبة بليغه، أعلمهم فيها أنه
على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب التركي، ثم كتب إلى جوذرز
الأصبهبذ- كان- بأصبهان ونواحي خراسان- يأمره بالمصير إليه، فلما صار
إليه أعلمه ما عزم عليه من الطلب بثأره من قتل والده، وأمره بعرض جنده،
وانتخاب ثلاثين الف جل منهم، وضمهم إلى طوس بن نوذران، ليتوجه بهم إلى
بلاد الترك، ففعل ذلك جوذرز، وضمهم إلى طوس، وكان فيمن أشخص معه
برزافره بن كيقاوس، عم كيخسرو وبي بن جوذرز،
(1/509)
وجماعه كثيره من اخوته، وتقدم كيخسرو الى
طوس، ان يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وألا يمر بناحية من بلاد الترك،
وكان فيها أخ له يقال له فروذ بن سياوخش، من امرأة يقال لها برزا فريد،
كان سياوخش تزوجها في بعض مدائن الترك ايام سار الى فراسياب، ثم شخص
عنها وهي حبلى، فولدت فروذ فأقام بموضعه، إلى أن شب فغلط طوس في أمر
فروذ- فيما قيل- وذلك أنه لما صار بحذاء المدينة التي كان فيها فروذ
هاج بينه وبينه حرب ببعض الأسباب، فهلك فروذ فيها، فلما اتصل خبره
بكيخسرو كتب إلى برزافره عمه كتابا غليظا، يعلمه فيه ما ورد عليه من
خبر طوس ابن نوذران ومحاربته فروذ أخاه، وأمره بتوجيه طوس إليه مقيدا
مغلولا، وتقدم إليه في القيام بأمر العسكر والنفوذ به لوجهه، فلما وصل
الكتاب إلى برزافره، جمع رؤساء الأجناد والمقاتلة فقرأه عليهم، وأمر
بغل طوس وتقييده، ووجهه مع ثقات من رسله إلى كيخسرو، وتولى امر العسكر،
وعبر النهر المعروف بكاسبروذ، وانتهى الخبر الى فراسياب، فوجه إلى
برزافره جماعة من إخوته وطراخنته محاربته، فالتقوا بموضع من بلاد الترك
يقال له واشن، وفيهم فيران بن ويسغان واخوته طراسيف بن جوذرز صهر
فراسياب، وهماسف ابن فشنجان، وقاتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في
ذلك اليوم فشل لما رأى من شدة الأمر وكثرة القتلى، حتى انحاز بالعلم
إلى رءوس الجبال واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة
في وقعة واحدة سبعون رجلا، وقتل من الفريقين بشر كثير، وانصرف برزافره
ومن كان معه إلى كيخسرو، وبهم من الغم والمصيبة ما تمنوا معه الموت،
فكان خوفهم من سطوة كيخسرو أشد، فلما دخلوا على كيخسرو أقبل على
برزافره بلائمة شديدة، وقال: أتيتم في وجهكم لترككم وصيتي ومخالفة وصية
الملوك، تورد مورد السوء، وتورث الندامة، وبلغ ما أصيبوا به من كيخسرو
حتى رئيت الكآبة في وجهه، ولم يلتذ طعاما ولا نوما فلما مضت لموافاتهم
أيام أرسل إلى جوذرز فلما دخل عليه أظهر التوجع له، فشكا إليه جوذرز
برزافره، وأعلمه أنه كان
(1/510)
السبب للهزيمة بالعلم وخذلانه ولده، فقال
له كيخسرو: إن حقك بخدمتك لآبائنا لازم لنا، وهذه جنودنا وخزائننا
مبذولة لك في مطالبة ترتك، وامره بالتهيؤ والاستعداد والتوجه الى
فراسياب، والعمل في قتله وتخريب بلاده، فلما سمع جوذرز مقالة كيخسرو
نهض مبادرا فقبل يده، وقال: أيها الملك المظفر، نحن رعيتك وعبيدك، فإن
كانت آفة أو نازلة، فلتكن بالعبيد دون ملوكها، وأولادي المقتولون
فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من مملكة الترك،
فلا يغمن الملك ما كان، ولا يدعن لهوه، فإن الحرب دول، وأعلمه أنه على
النفوذ لأمره وخرج من عنده مسرورا.
فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل
مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب
إلى عماله في الآفاق يعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تعرف بشاه
أسطون، من كورة بلخ، في وقت وقته لهم فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك
الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمه وأهل
بيته، وجوذرز وبقية ولده فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرازبة، تولى
كيخسرو بنفسه عرض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز
بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان- وأغص ابن وصيفة كانت
لسياوخش، يقال لها: شوماهان- فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على
الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برا وبحرا، وأنه قد قود على تلك
العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصير مدخله من ناحية خراسان، وجعل
فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بن جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة،
ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه درفش كابيان، وزعموا
أن ذلك العلم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القواد قبل ذلك،
وإنما كانوا يسيرونه مع أولاد الملوك إذا وجهوهم في
(1/511)
الأمور العظام وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي
الصين، وضم إليه جماعة كثيرة دون من ضم إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من
ناحية الخزر في مثل من ضم إلى ميلاذ، وضم إلى شومهان إخوتها وبني عمها
وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز
وميلاذ.
ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت نذرت أن
تطالب بدمه فمضى جميع هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلاد الترك من ناحية
خراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حرب شديدة مذكورة، وهي
الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي خمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز
فيران أيضا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحت عليه العساكر الثلاثة، كل
عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل
قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصير مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد
أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس اصبهبذى فراسياب، والمرشح للملك من
بعده، وجماعة كثيرة من أخوته، مثل خمان، واوستهن، وجلباد، وسيامق،
وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاد.
ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعه من اخوه
فراسياب، مثل: رتدراى، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست.
وأسر بروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى،
وما غنم من الكراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين
ألفا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألف رجل، ومن الكراع والورق
والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن
يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند
موافاته.
فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفت له الرجال، وتلقاه جوذرز
وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمر بعلم علم، فكان أول قتيل
رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال:
(1/512)
أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان!
ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصب نفسك لنا دون فراسياب في هذه
المطالبة! ألم أبذل لك نفسي، وأعرض عليك ملكي فلم تحسن الاختيار! ألست
الصدوق اللسان، الحافظ للإخوان، الكاتم للأسرار! ألم اعلمك مكر فراسياب
وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من
مقاتلتنا وأبناء مملكتنا! ما اغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا
وأفنيت آل ويسغان! فويل لحلمك وفهمك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم
لموجعون! ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علم بي بن جوذرز، فلما
وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيا أسيرا في يدي بي، فسأل عنه فأخبر أنه
بروا قاتل سياوخش الماثل به عند قتله إياه فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ
رأسه بالسجود شكرا لربه، ثم قَالَ: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا!
أنت الذي قتلت سياوخش، ومثلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلفت من بين
الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيجت بيننا
هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين نارا موقدة! أنت الذي جرى على
يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيبت أيها التركي جماله! ألا
أبقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتك وقوتك اليوم! وأين أخوك
الساحر عن نصرتك! لست أقتلك لقتلك إياه، بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحا
لك ألا تتولاه، وسأقتل من قتله ببغيه وجرمه.
ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر
بعلم علم، وأصبهبذ أصبهبذ، فإذا صار إلى الواحد منهم قَالَ له نحو ما
ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرزافره عمه، فلما دخل
عليه أجلسه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة،
ثم أجزل جائزته وملكه على كرمان ومكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما
(1/513)
دخل عليه قَالَ له: أيها الأصبهبذ الرشيد،
والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن
غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك
مذخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها بزرجفرمذار، وهي
الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجرجان وجبالهما، فأحسن رعاية أهلها فشكر
جوذرز ذلك، وخرج من عنده بهجا مسرورا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته
الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد
فشنجان وويسغان، مثل جرجين بن ميلاذان، وبي، وشادوس ولخام، وجدمير بن
جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن
شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان فدخلوا عليه رجلا رجلا،
فمنهم من ملكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصه بأعمال من أعمال
حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص وشومهان بإثخانهم
في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكرا بعد عسكر، فكتب إليهم أن
يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سماه لهم من بلاد الترك.
فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه من قتل من قتل،
وأسر من أسر، وخراب ما خرب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من
ولده إلا شيده- وكان ساحرا- فوجهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما
وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته
وتقدم إليهم في الاحتراس من غيلته.
وقيل: ان كيخسرو واشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن
القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلا من خاصة كيخسرو يقال له جرد
بن جرهمان عبى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم
واستماتت رجال خنيارث وجدت، وايقن شيده الا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه
كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربة خر منها ميتا،
ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنعة، وغنم كيخسرو ما كان من
عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فاقبل بجميع
(1/514)
طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما
حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال
خنيارث برجال الترك، وامتد الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على
الدماء، والاسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد وبسطام، ونظر فراسياب وهم
يحمون كيخسرو كأنهم اسود ضاربه، فانهزم موليا على وجهه هاربا، فأحصيت
القتلى فيما ذكر يومئذ، فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو واصحابه في
طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى
أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظفر به، فلما أتى
كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضعه ثلاثة أيام، ثم
دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حجة، فأمر
بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو
بدمه، فغمس فيه يده، وقال هذا بترة سياوخش، وظلمكم اياه واعتدائكم عليه
ثم انصرف من أذربيجان ظافرا غانما بهجا.
وذكر أن عدة من أولاد كيبيه جد كيخسرو الأكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو
في حرب الترك، وأن ممن كان معه كي أرش بن كيبيه، وكان مملكا على
خوزستان وما يليها من بابل وكي به أرش، وكان مملكا على كرمان ونواحيها،
وكي أوجي بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملكا على فارس، وكي
أوجي هذا هو ابو كي لهراسف الملك، ويقال ان أخا لفراسياب كان يقال له:
كي شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها،
وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارا عاتيا،
وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن
جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن
أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاه بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر.
فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقر في مملكته زهد في الملك،
وتنسك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر،
فاشتد
(1/515)
لذلك جزعهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا
إليه، وطلبوا وتضرعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا
عنده في ذلك شيئا، فلما يئسوا قَالُوا بأجمعهم: فإذا قمت على ما أنت
عليه فسم للملك رجلا نقلده إياه، وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه،
وأعلمهم أنه خاصته ووصيه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قبوله
الوصية وفقد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرى أين مات، ولا
كيف كانت ميتته، وبعض يقول غير ذلك.
وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو:
جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين.
وكان ملك كيخسرو ستين سنه
(1/516)
|