تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر خبر غزو بختنصر للعرب
حدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان بدء نزول العرب ارض العراق وثبوتهم فيها، واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلا- فيما ذكر لنا والله أعلم- أن الله عز وجل أوحى الى برخيا بن احنيا بن زر بابل بن شلتيل من ولد يهوذا- قَالَ هشام: قَالَ الشرقي: وشلتيل أول من اتخذ الطفشيل- أن ائت بختنصر وأمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي، واتخاذهم الآلهة دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي.
قال: فاقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل- وهو نبوخذ نصر، فعربته العرب- وأخبره بما أوحى الله إليه وقص عليه ما أمره به، وذلك في زمان معد بن عدنان قَالَ: فوثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات.
ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها.
فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه فاقبل منهم، فأحسن إليهم قَالَ: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد فسموه الأنبار قال: وحلى عن اهل الحير، فاتخذوها منزلا حياة

(1/558)


بختنصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابا.
وأما غير هشام من أهل العلم بأخبار الماضين فإنه ذكر أن معد بن عدنان لما ولد، ابتدأت بنو إسرائيل بأنبيائهم فقتلوهم، فكان آخر من قتلوا يحيى بن زكرياء، وعدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما اجترءوا على أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن الذين معد بن عدنان من أنبيائهم، فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفا، فأوردهم أرض بابل أري فيما يرى النائم- أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره- أن يدخل بلاد العرب فلا يستجبى فيها إنسيا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفا، حتى لا يبقي لهم أثرا فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلا، ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه وأن الله تعالى أوحى إلى إرميا وبرخيا أن الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا، فعادوا بعد الملك عبيدا، وبعد نعيم العيش عالة يسألون الناس، وقد تقدمت إلى أهل عربة بمثل ذلك فأبوا إلا لحاجة، وقد سلطت بختنصر عليهم لأنتقم منهم فعليكما بمعد بن عدنان، الذى من ولده محمد الذي أخرجه في آخر الزمان، أختم به النبوة، وأرفع به من الضعة.
فخرجا تطوى لهما الأرض حتى سبقا بختنصر، فلقيا عدنان قد تلقاهما، فطوياه إلى معد، ولمعد يومئذ اثنتا عشرة سنة، فحمله برخيا على البراق، وردف خلفه، فانتهيا إلى حران من ساعتهما، وطويت الأرض لإرميا فأصبح بحران، فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر إليها،

(1/559)


وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كمينا- وذلك أول كمين كان فيما زعم- ثم نادى مناد من جو السماء: يا لثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوف من خلفهم ومن بين أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بختنصر ونهي بختنصر عن عدنان، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى ريسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قَالَ: وإياهم عنى الله بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» ، كافرة الأهل، فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب، «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» انتقامنا منهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم «لا تَرْكُضُوا» لا تهربوا «وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» الى العيشه على النعم المكفورة «وَمَساكِنِكُمْ» مصيركم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .
فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: «يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» ، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط فلما رجع بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابا حياة بختنصر، فلما مات بختنصر خرج معد بن عدنان معه الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام أعلامها، فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج معد حتى أتى ريسوب فاستخرج أهلها، وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثرهم جرهم على يديه، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معد

(1/560)